النظريات العلمية الحديثة مسيرتها الفكرية وأسلوب الفكر التغريبي العربي في التعامل معها دراسة نقدية

حسن الأسمري

مقدمة وزارة الأوقاف القطرية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة كتاب تأثير النظريات العلمية الحديثة الحمد لله حمدًا يوافي نعمه، والصلاة والسلام على أشرف خلقه وخاتم رسله، وبعد، فإن علماء الإِسلام قد خلفوا لنا تراثًا علميًا ضخمًا، متعدد المناحي، وما يزال معظم هذا التراث مخطوطًا لم ير النور، ولم يتعرف عليه الباحثون، رغم ما فيه من المعاني الدقيقة والأفكار العميقة التي تخدم واقعنا المعاصر وتنير السبل لأمتنا في مجالات الفكر والتشريع والثقافة، ويقدر بعض الخبراء أن ما بقي مخطوطًا من تراث علماء الإِسلام يربو على ثلاثة ملايين عنوان، تقبع في زوايا المكتبات، وظلام الصناديق والأقبية، حتى إن بعضها لم يفهرس فهرسة دقيقة فضلًا عن النشر. فكان من المهم في هذه المرحلة أن تتجه الجهود لتقويم هذا التراث واستجلاء ما ينفع الناس منه في عصرنا، ثم العمل على تحقيقه ونشره. وإن وزارة الأوقاف والشؤون الإِسلامية بدولة قطر -وقد وفقها الله لأن تضرب بسهم في إحياء هذا التراث- لتحمد الله -سبحانه وتعالى- على أن ما أصدرته من نفائس التراث قد نال الرضا والقبول من أهل العلم في مشارق الأرض ومغاربها. والمتابع لحركة النشر العلمي لا يخفى عليه جهود دولة قطر في خدمة تراث الأمة منذ ما يزيد على ستة عقود، وقد جاء مشروع إحياء التراث الإِسلامي الذي بدأته الوزارة منذ ست سنوات امتدادًا لتلك الجهود وسيرًا على تلك المحجة التي عُرفت بها دولة قطر. ومنذ انطلاقة هذا المشروع المبارك يسر الله جل وعلا للوزارة إخراج مجموعة من أمهات كتب العلم في فنون مختلفة تُطبع لأول مرة.

ففي تفسير القرآن الكريم أصدرت الوزارة تفسير الإمام العُليمي (فتح الرحمن في تفسير القرآن) وفي علم الرسم أصدرت كتاب (مرسوم المصحف للإمام العُقيلي) ونحن بصدد إصدار جديد متميز لـ (المحرر الوجيز لابن عطية) مقابلًا على نسخ خطية عدة. وفي السُّنَّة أصدرت الوزارة كتاب (التوضيح شرح الجامع الصحيح لابن الملقن)، و (حاشية مسند الإمام أحمد للإمام السندي)، و (شرحين لموطأ مالك لكل من القنازعي والبوني)، و (شرح مسند الشافعي للإمام الرافعي)، و (نخب الأفكار شرح معاني الآثار للبدر العيني) إضافة إلى (صحيح ابن خزيمة) بتحقيقه الجديد المُتقن. وأخيرًا صدر عن الوزارة كتاب (التقاسيم والأنواع للإمام ابن حبان) وكذا (مطالع الأنوار لابن قرقول)، وهما ينشران لأول مرة، وهناك مشاريع أخرى يُعلن عنها في حينها. وفي الفقه أصدرت الوزارة: (نهاية المطلب في دراية المذهب للإمام الجويني) الذي حققه وأتقن تحقيقه عضو لجنة إحياء التراث الإِسلامي أ. د. عبد العظيم الديب -رحمه الله تعالى- وكتاب (الأوسط لابن المنذر) بمراجعة دقيقة للدكتور عبد الله الفقيه عضو اللجنة، وكتاب (التبصرة للخمي)، و (حاشية الخلوتي في الفقه الحنبلي)، وكتاب (الإقناع في مسائل الإجماع لابن القطان الفاسي)، وفي الطريق إصدارات أخرى مهمة تمثل الفقه الإِسلامي في عهوده الأولى. وفي السيرة النبوية أصدرت الوزارة الموسوعة الإسنادية (جامع الآثار لابن ناصر الدين الدمشقي). وفي معتقد أهل السنة والجماعة أصدرت الوزارة كتابًا نفيسًا لطيفًا هو كتاب (الاعتقاد الخالص من الشك والانتقاد لابن العطار)، صاحب الإمام النووي -رحمهما الله-. ولم نغفل عن إصدار دراسات معاصرة متميزة من الرسائل العلمية وغيرها فأخرجنا (القيمة الاقتصادية للزمن) و (نوازل الإنجاب) وفي الطريق -بإذن الله تعالى- ما تقر به العيون من دراسات معاصرة في القرآن والسنة، ونوازل الأمة. واليوم يسر الوزارة أن تقدم لشداة العلم والمعرفة هذا الكتاب القيم (تأثير النظريات العلمية الحديثة في الفكر التغريبي المعاصر -دراسة نقدية في ضوء

العقيدة الإِسلامية للدكتور حسن بن محمَّد حسن الأسمري)، وهو دراسة علمية رصينة تعالج أثر النظريات العلمية الحديثة على المتغربين الذين يحيون مع الأمة بأبدانهم ومع أعدائها بقلوبهم وأفكارهم، ويسعون جاهدين في مصادمة حقائق الإِسلام وثوابته وعقائده وشرائعه بتلك النظريات التي أنتجتها عقول غربية في حالة من الخصومة الشديدة مع الدين وتسلط الكهنوت الكنسي. فهذه النظريات عند نشأتها اختلطت بانحرافات كثيرة كان من أخطرها موقفها من الدين فدعت إلى الدفاع عن الإلحاد باسم العلم، وإقامة العلوم الحديثة مستقلة بنظرياتها ومناهجها عن الوحي، ردًا على محاربة الكنيسة للعلوم وتنكيلها بأهلها ورميهم بالكفر. وذكر المؤلف أن تلك الانحرافات المرتبطة بحركة العلم الحديث بدأت تدخل إلى بلاد المسلمين في صور مختلفة، وأنها أحدثت صراعًا فكريًّا كبيرًا انقسم أصحابه إلى ثلاثة اتجاهات أساسية، مؤكدًا أنه لم يكن ثَمّ خصومة في يوم من الأيام بين الإِسلام وصحيح العلم والمعرفة. وتأتي هذه الدراسة تصحيحًا للرؤية في مساقاتها المتعددة الفكرية والعلمية والدينية. ولا يفوتنا التنويه بالجهود المتميزة لمركز التأصيل للدراسات والبحوث الذي يشرفنا التواصل والتعاون العلمي معه. ونشكر القائمين عليه ونسأل الله -جل وعلا- أن يجعلنا وإياهم من المتعاونين في سبيل نهضة الأمة وتقوية بنيانها العلمي والفكري.

المقدمة

المقدمة الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد: فإنه في العصر الحديث ما احتاجت الأمة ألزم ولا أوجب بعد تجديد أمر الدين مثل أهمية إصلاح أمر الدنيا، وذلك بالاستفادة من العلوم الحديثة، ومن فقه علماء الشريعة بذلك فقد جعلوها في درجة الواجبات ومن فروض الكفايات. وإنه في العصر الحديث ما ابتُليت الأمة بشيء بعد ضعفها الديني والدنيوي بأسوأ من تيارات التغريب المختلفة، فقد أعاقت هذه التيارات نهضة الأمة الحقيقية، ولوثت الجو الفكري في العصر الأخير. وقد التصق المتغربون بالغرب وثقافته، وشاركوا في نقل الثقافة الغربية إلى العالم الإِسلامي مع غيرهم ممن تبنى عملية النقل، ولكن التغريبي ركّز على الأمراض أكثر من تركيزه على النافع. فقد عانت الأمة الإِسلامية في القرون الأخيرة من أمور كثيرة، وكان من

أشهرها مشكلتا الضعف والتخلف وآثارهما في أغلب مجالات الحياة ونشاطاتها، وصاحب ذلك اتساع دائرة الجهل بالدين، وانتشار الابتداع فيه، وتسلط أعداء الأمة عليها من الداخل والخارج. وفي فترة ذلك الضعف العام للعالم الإِسلامي ظهر تقدمٌ كبير في الجانب الدنيوي في بلاد الغرب، وارتبط هذا التقدم بتطورات علمية مختلفة كان أبرزها علوم الطبيعة والرياضيات وما لحقها من تقدم تقني وصناعي، ولحق ذلك تقدم في مجالات العلوم المختلفة، ومنها العلوم الاجتماعية الحديثة مثل علم الاجتماع، وعلم النفس. . وغيرهما من العلوم. بدأت الرغبة عند المسلمين في الإفادة من تلك العلوم لمسايرة المتقدم الموجود في العالم والاستفادة منها في حياتهم، ولكن هذه العلوم قد اختلطت بها أثناء نشأتها الحديثة انحرافات كبيرة كان من أخطرها موقفها من الدين الذي قد يصل بصور منها إلى الدفاع عن الإلحاد باسم العلم، والدعوة إلى إقامة العلوم الحديثة مستقلة بمناهجها ونظرياتها وتوجهاتها حتى لو خالفت الدين، وزاد من اتساع خطورة الأمر ارتباط بعض العلوم الحديثة المشهورة -غالبًا- بنوعين من العلماء: النوع الأول فئة من الملاحدة المنكرين للأديان حاولوا توجيه تلك العلوم إلى مسارهم الإلحادي، والنوع الثاني فئة اللا أدرية؛ فلا هم ينفون قضايا الدين ولا هم يثبتونها، وإنما يقفون موقف "اللا أدري"، مع أنهم في نشاطهم العلمي يتحركون دون مراعاة لأي أصل ديني، ثم زاد ضرر تلك الانحرافات -المرتبطة بحركة العلم الحديث- وخطرها عندما خرجت عن مجالها الحسي والتجريبي لتُطبَّق في مجالات أخرى ولاسيّما مجال الغيبيات. ومما يؤسف له أن تلك الانحرافات المرتبطة بحركة العلم الحديث بدأت تدخل إلى بلاد المسلمين في صور وأشكال مختلفة، وأحدثت صراعًا فكريًا كبيرًا انقسم أصحابه إلى ثلاثة اتجاهات أساسية هي: الاتجاه الأول: الاتجاه السلفي الذي يدعو إلى التأصيل الإِسلامي للنافع من هذه العلوم، وإلى نقد الضار منها وفق منهجية إسلامية شاملة، وكان من آثاره النشاط الكبير في أسلمة العلوم الحديثة الذي تتبناه جامعات هذا البلد المبارك في الأقسام العلمية المتخصصة، وتنشط فيه أيضًا جهات علمية وفكرية منتشرة في العالم الإِسلامي.

الاتجاه الثاني: الاتجاه العصراني الذي تأثر ببعض الانحرافات المرتبطة بحركة العلم الحديث وسلّم بعدد منها، ووقع في مشكلة ما يتوهمه من تعارض بين الدين والعلم الحديث، فاضطر أصحابه إلى تحريف النصوص الشرعية والقضايا الدينية من أجل موافقة العلم، ودعوا إلى مواصلة طريقة المتقدمين من أهل الكلام وغيرهم، فكما قدّم أهل الكلام العقل على النقل عند توهم التعارض، فقد تساهل هؤلاء في تقديم العلم الحديث على النقل وتأويل النقل عند توهم التعارض أيضًا. الاتجاه الثالث: الاتجاه التغريبي وهو الاتجاه الذي تحمس لكل ما في الغرب أو أغلبه، بما في ذلك العلوم الحديثة ومناهجها ونظرياتها بما فيها من خير وشر، حتى تلك التي تتعارض بوضوح مع ديننا وعقيدتنا، ولم يفرقوا بين الصحيح منها والفاسد، ثم إن منهم من يرى أهمية إعادة النظر في الدين حتى يتوافق مع العلم الحديث، على أن المقدم عندهم هو العلم بلا منازع، وإنما جاء الاعتبار للدين عندهم من أجل تلبية احتياج الجماهير للدين أو أنّ الدين يخص الجانب الروحي والأخلاقي، وفيهم الغالي الذي يرى أهمية تجاوز الدين والاكتفاء بالعلم؛ لأنّ الدين -بزعمه- كان يمثل مرحلة الخرافة التي تمّ تجاوزها إلى عصر العلم. وهذا الانقسام المشهور حول الموقف من العلم الحديث ومناهجه يكشف أهمية هذه المسألة في واقع المسلمين اليوم، وأهمية دراستها وبحثها. العلاقة بين الانحرافات المرتبطة بحركة العلم الحديث والفكر التغريبي العربي المعاصر: من يتأمل في واقع المسلمين اليوم يجد أنَّ من أبرز الانحرافات شهرة هو ظهور الانحراف الفكري المعاصر متمثلًا في دعوات ومذاهب فكرية تغريبية منتشرة هنا وهناك، ومن أهم أسباب ظهور الانحراف الفكري التأثر بالوافد الغربي بأشكاله المختلفة؛ ذلك أن الفكر العربي المعاصر تكون في ظل ظروف استثنائية مما مكّن لكثير من المؤثرات أن تسهم في تشكيله، ومن أهم تلك المؤثرات ما جاءنا من الغرب، ولا يخفى على أي باحث حجم ذلك التأثير الذي مارسه الوافد الغربي على الأمة الإِسلامية.

ومن يبحث في صور تأثير الوافد الغربي في الفكر العربي المعاصر يجد أن أهمها ما يلي: 1 - الفكر الغربي الحديث بمذاهبه المشهورة واتجاهاته الفلسفية الكثيرة. 2 - الاستشراق. 3 - الآداب والفنون الغربية ومدارسها المشهورة. 4 - النظريات والمناهج والمفاهيم العلمية الحديثة. فقد كان العلم في الغرب -أي: العلم المعتمد على المحسوسات والمعقولات- مصاحبًا للفكر والفلسفة منذ عصر الفلسفة اليونانية والرومانية إلى العصور الوسطى ثم عصر النهضة، وبدأت محاولات الانفصال في القرن الحادي عشر/ السابع عشر، ثم تحقق الانفصال في القرون الثلاثة الأخيرة، ولم يكن الانفصال عن الفلسفة فقط بل وقع انفصال عن الدين أيضًا بعد ظهور مشكلة الصراع بين الإيمان والعلم في الغرب، وفي ذلك يقول هاشم صالح: "ثم جاءت العصور الحديثة مع ديكارت، وانفرط عقد التحالف بين العلم والإيمان. . . . واشتد الطلاق بينهما في القرن الثامن عشر عندما صرح بعض فلاسفة التنوير بماديتهم الإلحادية. . . . وبلغ الطلاق ذروته في القرن التاسع عشر عندما حقق العلم انتصارات كبيرة. . . ." (¬1)، وقد جعل الغلاة منهم العلم إلهًا معبودًا جديدًا، وقد كانت هذه المرحلة فترة نشاط بعثات أبناء المسلمين إلى الغرب التي عرفت في القرن الماضي في عصر محمَّد علي والي مصر، وما زالت تلك البعثات مستمرة من أغلب بلاد المسلمين إلى اليوم، ولم يخلُ الأمر من تأثر بعض المبتعثين بتلك الروح المادية اللادينية التي ارتبطت بالانحرافات المنهجية العلمية المصاحبة لحركة العلم الحديث في الغرب، وأسهم بعض أولئك المبتعثين في نقلها إلى بلاد المسلمين بصور مختلفة. وقد وجدت أن القسم الأخير -وهو التأثر بالنظريات والمفاهيم والمناهج العلمية المعارضة للأصول الدينية- كان بارزًا في الفكر التغريبي العربي المعاصر مع ندرة الدراسات التي تبحث في صور هذا التأثير وصور أخطاره وكيفية ¬

_ (¬1) العلم والإيمان في الغرب الحديث، هاشم صالح ص 5 - 6 كتاب الرياض عدد رقم (51).

مواجهته؛ لذا اخترته موضوعًا للبحث الذي أقدمه -بعون الله- للدكتوراه بعنوان: تأثير النظريات العلمية الحديثة في الفكر التغريبي العربي المعاصر دراسة نقدية في ضوء العقيدة الإسلامية تبين مما سبق أن العلم في الفكر الغربي كان ضمن مباحث الفلسفة، ثم بدأ ينفصل عن الفكر الفلسفي مع بدايات العصر الحديث، وقد اختلط بمسيرته الجديدة بعد انفصاله عن الفلسفة بعض الأخطار التي مالت بمساره، والتصقت به على إثرها انحرافات خطيرة أصبحت سمة للفكر العلمي العلماني في الغرب، وأثّرت فيما بعد بمن أخذ بها من المسلمين، سواء من حرص على تلك العلوم لذاتها متأثرًا بما اختلط بها من انحرافات، أو من أراد استثمارها في تطوير الفكر "وهم المراد بهذه الدراسة"، وأصبحت هذه الانحرافات المصاحبة لحركة العلم الحديث أحد أبرز المؤثرات في انحراف مسيرة الفكر العربي المعاصر. فيكون الهدف -بإذن الله- من البحث: الدراسة النقدية لتأثير الانحرافات المرتبطة بحركة العلم الحديث ومناهجه ونظرياته في الفكر التغريبي العربي المعاصر في علاقته بالدين، إذ أجتهد -بإذن الله- في بحث سبب اتصال تلك الانحرافات بالفكر التغريبي العربي المعاصر، وصور تأثيرها فيه، وبيان خطورتها العقدية والعلمية والفكرية والعملية، فهذه الأهداف هي مدار اهتمامي وبحثي. ويمكن إرجاع صور الانحرافات المصاحبة لحركة العلم الحديث ذات الأثر في الفكر العربي إلى صورتين: الأولى: نظريات علمية مخالفة للدين، أو فلسفات وأيديولوجيات مبنية على تلك النظريات العلمية؛ والثانية: مناهج علمية تناسب مجالها الحسي التجريبي ولكنها طُبِّقت في غير مجالها مثل تطبيقها على الدين. ومن أهم الأمثلة على انحرافات الفكر التغريبي العربي المعاصر في هذا الباب: 1 - الاستسلام لضغط النظريات العلمية في الموقف من الدين. ومن آثار ذلك تحريف النصوص الدينية عن مرادها والأصول الدينية عن معناها لكي تتوافق مع النظريات العلمية الحديثة، أو رفض تلك النصوص والأصول عند الغلاة والتكذيب بها. وقد اتسع التحريف عند بعضهم ليطال الدين كله، فشمل تأويل العقائد وتأويل الشرائع من أجل عدم معارضة العلم، وهذا الخضوع لضغط النظريات العلمية قد وقع فيه حتى من له معرفة بالشرع مثل المدرسة العصرانية

المتأثرة بأفكار الشيخ محمَّد عبده، وبعض قيادات العمل الإِسلامي ممن تأثر بالاتجاه العصراني، فضلًا عن غيرهم من رموز الفكر التغريبي. 2 - تقديس العلم بصورته الحديثة، والغلو فيه بما فيه من خير أو شر، وجعله أهم المصادر، وهو مقدَّم عند المقدِّسين له على مصادر الدين، ووصل الأمر عند بعضهم إلى جعله المصدر الوحيد للمعرفة ورفض ما سواه، وللعلم عندهم -بمفهومه الحديث- الكلمة الفصل فيما اختلف الناس فيه، في تقليد لتيار العلموية الذي ظهر في الغرب، وهو تيار عرف عنه تحويل العلم إلى عقيدة جديدة. 3 - نقل المناهج العلمية المناسبة للقضايا المحسوسة إلى مجال الغيب، وتطبيقها على أبواب الغيب والأبواب الشرعية، ويرون أنها أفضل من المناهج التقليدية بحسب زعمهم، وإذا كان العلم الحديث في الغرب نشأ مستقلًا عن الدين ومعاديًا -مع أكثر دعاته- لكل ما هو ديني فهذا يكفي دلالة على نوع تلك المناهج ووجهتها وطريقة تعاملها مع أي دين، وسنجد من يتحمس لذلك من المفكرين العرب المشهورين مثل حسن حنفي، فيقول مثلًا عن مسائل التوحيد بأنها أصبحت موضوعًا "لعلم النفس والاجتماع لتحديد نشأة الأفكار الدينية في ظروف نفسية واجتماعية معينة" (¬1)، وآخر منهم هو محمَّد أركون يقول: "ينبغي أن نطبق العلوم الاجتماعية أو العلوم الإنسانية على التراث الإِسلامي مثلما طُبِّق على التراث المسيحي في أوروبا منذ زمن طويل. . . ." (¬2). 4 - نقل النظريات العلمية ذات المعارضة البيّنة للإسلام إلى بلاد الإِسلام، ونشرها والتحمس لها والدعوة إليها، مثل الدعوة إلى أفكار النظرية التطورية الدارونية حول وجود الحياة وخلق الإنسان وما ارتبط بها من فكرة التطور، وعرض نظريات في علم الفلك والفيزياء الحديثة حول وجود الكون بطريقة العرض المادي العلماني لها، ونشر نظريات علم الاجتماع الديني التي غلب عليها عند مؤسسيها في الغرب اعتبار الدين ظاهرة بشرية اجتماعية إن لم نقل كلها، يتساوى في ذلك ما أتى به الأنبياء -عليهم السلام- من ربهم مع الديانات الوضعية ¬

_ (¬1) من كتابه: التراث والتجديد ص 141. (¬2) قضايا في نقد العقل الديني ص 326، ومن منهجه إدخال القرآن والسنة في التراث.

التي ابتدعها الشيطان وأتباعه، ونشر نظريات في علم النفس مثل نظريات فرويد وغيره التي تصوِّر التدين والعقائد التي فطر عليها البشر بأنه مرض نفسي نابع من اللاشعور نتيجة غرائز جنسية بما في ذلك الإيمان بوجود الله، وأن الأنبياء -عليهم السلام- جميعًا مصابون -كما يقول فرويد- بنوع من العصاب يدفعهم إلى ادعاء تلقي الوحي والاتصال بالله تعالى، ومن علم الأنثربولوجيا نظريات حول نشأة الأديان في المجتمعات والشعوب البدائية ثم تطورها عند الشعوب الكتابية، غير مفرِّقين في ذلك بين دين نزل من السماء أو أديان وثنية أوحى بها الشيطان لأتباعه، ونظريات من علم الاقتصاد الحديث تدَّعي استحالة قيام اقتصاد حديث دون ربا، ولذا يرفضون الحكم الديني حول الربا؛ لأنه يتعارض مع علم الاقتصاد، بل حتى في علم الأخلاق نجدهم يرفضون الأخلاق الدينية ويستبدلون بها أخلاق علمية مصدرها العلم وتتوافق معه كما يزعمون. هذه وأمثالها تمتلئ بها كتب رموز فكرية عربية تغريبية بصورة أو أخرى، وتُنشر بقوالب فكرية وثقافية متنوعة بعد إخراجها من بيئتها التخصصية إلى بيئة الفكر والثقافة وتطبيقها على الدين الإِسلامي. 5 - بناء أصول فكرية جديدة مستمدة من الفكر العلمي الحديث تتعلق بتصور الكون والحياة والنفس الإنسانية، وتتعارض مع الدين أو معظم أصوله. 6 - الحرص على علمنة العلم، بداية بالجهود الفكرية التي تؤصل لذلك، وصولًا إلى النشاط الواقعي لتحقيق هذا الهدف بحجة أن العلم لا يتطور إلا بابتعاده عن الدين وضوابطه. 7 - تقرير دعوى التعارض بين الدين والعلم التي اشتهرت في الغرب، ونقلها إلى العالم الإِسلامي، ونشرها بصور وأشكال مختلفة، والتركيز عليها في أغلب الخطابات الفكرية التغريبية المعاصرة، ثم استغلال فكرة التعارض في رمي الدين بشتى صنوف التهم بحجة عدم علميته وعقلانيته، ثم رفع دعوى أهمية تأويله أو نبذه. 8 - ظهور دعوات واتجاهات عربية جديدة تتبنى تقديم الرؤية العلمية مكان الرؤية الدينية: يعتني أصحاب تلك الدعوات بالدعوة إلى العلم والنظرة العلمية والمناهج والمفاهيم العلمية دون تفريق بين الصحيح منها والفاسد، ويدعون أيضًا إلى النظرة العلمية للأديان والمجتمعات والحياة، وهم من يُطلق عليهم أحيانًا

أهمية الموضوع

دعاة الفكر العلمي، يقدمونه بمادته الإلحادية وروحه العلمانية، واشتهر هذا الاتجاه في بدايات القرن عند مجموعة من النصارى مثل فرح أنطون، وشبلي شميل، وسلامة موسى، ثم أخذ به بعض المسلمين مثل إسماعيل مظهر وصولًا إلى زكي نجيب محمود، وفؤاد زكريا. . وغيرهم. فهذه الأمثلة هي أصول عند طائفة من المتغربين كانت -وما تزال- مرتبطة بالانحراف المصاحب لحركة العلم، وأثر هذه الأصول في رموز الفكر التغريبي المعاصر كبير، وهذا يُبرز أهمية دراسة مثل هذه الظاهرة الفكرية. أهمية الموضوع: تبرز أهمية الموضوع في النقاط التالية: 1 - بيان خطورة الانحراف العقدي الناتج عن التأثر ببعض النظريات العلمية الباطلة، ومن صوره المشهورة: - زرع الشُبَه والشكوك حول أبواب العقيدة. - تأويل العقائد التي لا تتوافق -بزعمهم- مع النظريات العلمية. - هجر الأصول العقدية، أو نبذها واستبدال نظريات علمية بها. 2 - خطورة نشر دعوى التعارض بين الدين والعلم الحديث، أو بين الأصول العقدية والنظريات العلمية، وللاتجاه التغريبي نشاط في استثمار هذه الدعوى للانتقاص من شأن الدين وأصوله. 3 - ما يمثله العلم الحديث من فتنة في هذا العصر عند كثير من الناس، إذ يختلط فيه الحق بالباطل عندهم، فهم يظنّونه على درجة واحدة فلا يعلمون الفرق بين الصحيح منه والباطل، ولذا يتأثرون ببعض الانحرافات المرتبطة بحركة العلم الحديث جهلًا بها، ولاسيّما مع انتشار الجهل بالعلم الشرعي في كثير من بلاد المسلمين، وعندما يأتي أصحاب الفكر المنحرف من باب العلم الحديث ونظرياته فإنهم ينجحون في نشر ما يريدون لتمسحهم بالعلم والكشوفات العلمية. 4 - يحرص رموز الفكر التغريبي العربي المعاصر على بيان أهمية إدخال الروح العلمية الغربية العلمانية إلى العالم الإِسلامي وتطبيقها على الدين والتراث والمجتمع، ثم بدأت مشروعاتهم الفكرية تتوالى في دراسة التراث الإِسلامي مدَّعين استخدامهم منهجيات علمية متطورة يفضلونها على المناهج الإِسلامية المعهودة،

وقد اختلطت بهذه الروح العلمية مشكلات منهجية خطيرة مثل إهمال الوحي مصدرًا للمعرفة، واعتماد الحس معيارًا أساسيًا للمعرفة، والاتكاء على الموضوعية للتخلص من أي اعتقاد سابق ولو كان ذلك الاعتقاد هو الاعتقاد الحق. 5 - تبنّي أغلب المذاهب الفكرية الدعوة إلى العلم الحديث دون تحديد لمفهوم العلم، فيدخل فيه العلم وأشباه العلم والانحرافات المرتبطة به، فلا يُفرَّق بين علوم نافعة وبين نظريات إلحادية أو مناهج غير مناسبة لمجال آخر غير مجالها الحسي، من ذلك دعوة أحد المعاصرين إلى إدخال كل ذلك في جميع المراحل الدراسية من الابتدائية إلى الجامعية؛ لأن التعليم -بزعمه- "لا يزال ينقصه الحدّ الأدنى من النظرة العلمية والانفتاح على المنهجيات الحديثة. . . .". . إلى قوله: "انظر الوضع المخيف لكليات الشريعة والمعاهد الدينية التقليدية هناك حيث لا يزال السياج العقائدي المغلق يتحكم بالعقول كالسجن. . . ."، ويؤكد حاجة هذه المعاهد إلى العلوم الحديثة، ويرى أن التدين المنتشر اليوم في العالم الإِسلامي مصدره أصول الدين والفقه القديمة التي لم تُراجَع في ضوء العلوم الاجتماعية الحديثة إذ ما زالت تُدرَس بصورتها القديمة في كليات الشريعة. فمثل هذه الحملات على الإِسلام وعلومه تُقام باسم العلم الحديث ومناهجه دون تفريق بين الحق والباطل (¬1). 6 - زاد من خطورة الأمر وقوع مجموعة من الخيِّرين في خطأ منهجي، فهم يريدون الدفاع عن الدين، والجمع بينه وبين العلم الحديث، فتكلّفوا في ذلك تكلفًا قد يكون ضرره أكثر من نفعه، فخرجت كتب كثيرة تدور حول: الإِسلام والعلم، والعلم في القرآن. . . . وما شابهها، وتحمسوا للدفاع عن الإِسلام بإرجاع كثير من النظريات والأفكار العلمية إلى النصوص الدينية، وموقفهم هذا هو من ردود الفعل ضد انحراف تيار العلم التغريبي، ولعل من أبرز أسباب ظهوره هجمة التيار التغريبي على الدين، وادعاء مخالفته للعلم الحديث، ولذا كان من المهم التوقف النقدي مع هذه الظاهرة. 7 - أهمية إزالة الهالة التي يتدرّع بها الفكر العربي التغريبي، فهو ينسب أصوله الفكرية إلى العلم، ويدَّعي العلمية لمناهجه؛ لأنها تمثل العقل العلمي ¬

_ (¬1) انظر: قضايا في نقد العقل الديني، محمَّد أركون ص 267 وص 329.

أسباب الاختيار

الحديث، ويدَّعي لفكره التوافق مع العلم، بينما الحقيقة أن تلك الأصول العلمية التي أسس عليها فكره أصول فاسدة وبعيدة عن العلم ومضادة للدين، ولكن من باب التلبيس يكثرون من ذكر العلماء والنظريات العلمية ومصطلحات العلم ليُخيِّلوا للناس علمية فكرهم. فهذه قضايا توضح أهمية الموضوع، وقد دفعني ذلك إلى اختياره موضوعًا للبحث أقدمه رسالة دكتوراه، راجيًا من الله العون والتوفيق والسداد والهداية. أسباب الاختيار: 1 - ما وجدته من أهمية كبيرة لهذا الموضوع. 2 - ندرة الدراسات حول هذا الموضوع في ضوء عقيدة أهل السنة والجماعة رغم أهميته. 3 - ما ظهر لي من أساليب التلبيس عند الاتجاه التغريبي في هذا الميدان، إذ يتمسحون بالعلوم الحديثة في تأكيد أصولهم الفكرية مع أنها في الحقيقة تلبيسات وأباطيل، ولذا فهي تحتاج إلى كشف وبيان ونقد حتى لا يُغترّ بها. 4 - ضرورة وجود بحوث شرعية تبين الفرق بين العلوم النافعة وحدود مناهجها من جهة، ومن جهة أخرى ما ارتبط بهذه العلوم من نظريات مادية أو تطبيقات غير منهجية على أبواب لا تناسبها تلك المناهج لاسيّما مع كثرة من يحتك بتلك العلوم. 5 - هذا الموضوع يخدم مجال تخصصي "العقيدة والمذاهب المعاصرة" فإن فيه الدفاع عن عقيدة أهل الإِسلام، والرد على من يستثمر الانحرافات المتصلة بحركة العلم الحديث للطعن في الدين. أهداف الموضوع: 1 - جمع أبرز صور التأثر بالنظريات العلمية عند الاتجاه التغريبي ذات الصلة بموقفهم من الدين. 2 - كشف أسباب الانحرافات التي صاحبت تطور العلم الحديث، وأسباب تأثر الاتجاه التغريبي بتلك الانحرافات. 3 - بيان خطورة تطبيق نظريات علمية باطلة أو مناهج مرتبطة بها على الدين من الناحية العقدية والشرعية والمنهجية.

الدراسات السابقة حول الموضوع

4 - الدراسة النقدية لما ظهر من انحرافات في الاتجاه التغريبي بسبب تأثره بهذه النظريات أو استثماره لها في خدمة غاياته وأهدافه العلمانية. 5 - إبراز الموقف الشرعي من العلم الحديث ونظرياته ومفاهيمه ومناهجه. الدراسات السابقة حول الموضوع: لقد اجتهدت أثناء التخطيط للموضوع أو أثناء البحث فيه في جمع كل ما له صلة بالبحث، فلم يتيسر لي الحصول على كتاب في المكتبة العربية يتناول المشكلة التي أريد بحثها ويعالج القضية نفسها التي أنوي معالجتها بإذن الله، وقد توجد كتب فيها عناصر ترتبط ببحثي لكنها لا تتناول ما أتناوله من الجهة نفسها، بل تُركز على جهة أخرى، ومما وجدته من دراسات حول الموضوع ما يلي: أولًا: الكتب الإسلامية التي تكون بعنوان: الدين والعلم، أو القرآن والعلم، أو الإِسلام والعلم، وما في معناها وبابها، وهي كتب كثيرة يصعب حصرها، وقد انتشرت في السنوات الأخيرة بشكل ظاهر، ولاسيّما بعد دعوات التأصيل الإِسلامي للمعرفة. وهذه الكتب تُركّز على قضية عناية الدين الإِسلامي بالعلم بما في ذلك صورته الحديثة، أو تبرز صورًا من العلوم الحديثة لها أصلها في الإِسلام، ولكنها لا تتناول بشكل أساسي أثر الانحراف المصاحب لحركة العلم الحديث في الفكر التغريبي؛ لأن هدف مؤلفيها -في الغالب- إثبات مكانة العلم في الإِسلام لا آثاره على الفكر، فما يأتي من فقرات حول التغريب والعلمانية يأتي تبعًا ودون قصد. ولكن هذه الكتب لها فائدتها في إبراز مكانة العلم في الإِسلام، والتأكيد على عدم وجود مشكلة بين الدين والعلم من المنظور الإِسلامي كما وقع في أوروبا النصرانية، كما أن في بعضها مناقشات للاتجاهات المادية الغربية التي استغلت العلم الحديث ونظرياته في تأصيل رؤيتها المادية. ومع ذلك توجد -في كثير منها- مشكلة التوسع في بابين اشتُهرا في الدراسات المعاصرة هما: التفسير العلمي للنصوص الدينية، والإعجاز العلمي في الكتاب والسنة، فهذا التوسع يعيق الاستفادة العلمية من هذه الدراسات؛ ذلك أن على الباحث أن يتأكد أولًا من صحة أقوالهم قبل الاستشهاد بها. ومن بين الكتب الثرية بالمعلومات حول هذا الباب -مع الاختلاف مع

ثانيا: الكتب التي تناولت بعض موضوعات البحث

صاحبه في باب توسعه المذكور آنفًا -كتاب "الإشارات العلمية في القرآن الكريم بين الدراسة والتطبيق" للدكتور "كارم السيد غنيم". أما حول الباب عمومًا فتوجد كتب مثل: "الإِسلام والعلم" لأحمد غراب، "الإِسلام والعلم الحديث" لعبد الرزاق نوفل، وله أيضًا كتابا "بين الدين والعلم" و"السنة والعلم الحديث"، و"الدين والعلم الحديث" لإبراهيم محمَّد عبد الباقي، و"الإِسلام بين العلم والدين" لشوقي أبو خليل، و"الإِسلام في عصر العلم" لمحمد الغمراوي، و"الإِسلام والعلم التجريبي" ليوسف السويدي، و"العلم والدين" لأحمد عروة، و"الإِسلام في عصر العلم" لمحمد فريد وجدي. . . . وغيرها. ثانيًا: الكتب التي تناولت بعض موضوعات البحث: يوجد فصلان من فصول البحث تناولتها كتب أخرى لكن من زاوية مختلفة عن مرادي، والفصلان هما: "دعوى أهمية علمنة العلم ورفض التأصيل الإِسلامي للعلوم" و"دعوى التعارض بين الدين والعلم وإبطالها"، فأغلب من كتب في العلمانية تناول هذين الفصلين بصورة أو أخرى، مثل كتاب "مذاهب فكرية معاصرة" لمحمد قطب، و"العلمانية نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإِسلامية المعاصرة" لسفر الحوالي، و"تهافت العلمانية" لعماد خليل. . . . وأمثالها من الكتب المعاصرة فضلًا عن الكتب التي وردت في القسم الأول، فقد وجدتُ فيها مادة ثرية حول خطورة علمنة العلم ومناقشة دعوى التعارض المزعومة، إلا أنها لا تبحث هذه المسائل في صورتها عند المفكرين العرب المعاصرين، فلا تعتني مثلًا بمن قال بها منهم، وصُوَر عرضهم لها، وصور تأثرهم بالنماذج الغربية، وتسلسلها التاريخي، وغير ذلك مما أنوي التركيز عليه في البحث؛ لأنّ مدار بحثي سيكون عن تأثير الانحراف العلمي الحديث في الفكر التغريبي العربي المعاصر، لذا أبحث موضوعي الفصلين من هذه الزاوية خاصّةً، وهو ما لم أجده في البحوث السابقة، ولكنها -دون شك- ستكون مفيدة لي في جانب الردود العامة. ثالثًا: "منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير" وهي رسالة علمية مطبوعة لفهد الرومي: تناول المؤلف فيها منهج تلك المدرسة في التفسير، وذكر أنَّ من أسباب

رابعا: الكتب التي تدور حول الفكر العربي المعاصر ومذاهبه

انحراف منهجهم وكثرة تأويلاتهم التأثر بالنظريات العلمية الحديثة وذلك ضمن مؤثرات أخرى، ومن أهم الفروق بين هذه الرسالة وبحثي: 1 - أنه اعتنى بالمدرسة العصرانية وجعلها مدار بحثه واعتنى بروَّادها مثل جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ومحمد رشيد رضا، ومحمد وجدي، ومحمود شلتوت، وأحمد المراغي. . . .، وهي نموذج للتأثر، ولكني لا أقصدها بالدراسة بقدر ما أقصد نموذجًا آخر أكثر شهرة في تأثره بتلك النظريات والمناهج وهو الاتجاه التغريبي. 2 - أن أثر الانحراف المرتبط بحركة العلم الحديث كان جزءًا من بحثه يتناوله بحسب الحاجة، أما مدار بحثي فيظهر -من خلال الخطة- شموله لأهم صور الفكر التغريبي. 3 - أن الباحث تناول تلك الفئة من جهة التفسير، أما في بحثي فسيكون تناولها من جهات أخرى أهمها جهة العقيدة وجهة الفكر، وذلك في فقرة مخصصة لها. وكذلك ما يدور في فلك هذه الدراسة من كتب وبحوث حول الاتجاه العصراني فإن التناول فيها يكون من منظور أوسع من منظوري المتخصص في أثر الانحراف المنهجي العلمي على الفكر، مع اختلاف الاتجاه الفكري الذي أدرسه، ومن أمثلة تلك الكتب والبحوث "مفهوم تجديد الدين" لبسطامي محمَّد سعيد، "والعصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب" لمحمد أحمد الناصر. . . . وما في بابها، ومن ذلك أيضًا البحوث الجامعية العلمية حول العقلانية المعاصرة، وتركز غالبًا على العصراني منها. رابعًا: الكتب التي تدور حول الفكر العربي المعاصر ومذاهبه: توجد في الساحة العلمية والثقافية كتب كثيرة حول الفكر العربي المعاصر ومذاهبه، إلا أنها من النادر أن تتحدث عن محور اهتمامي وهو تأثر هذا الفكر بالنظريات والمناهج والمفاهيم العلمية الحديثة، ومن الكتب المشهورة في ذلك: "الفكر الإِسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي" لمحمد البهي، وثلاثة كتب لمحمد محمَّد حسين وهي "الإِسلام والحضارة الغربية"، و"حصوننا مهددة من داخلها"، و"الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر"، ومجموعة من كتب المفكر

خامسا: الكتب المتخصصة في مشكلة البحث

جمال سلطان. . . .، وهكذا أغلب الكتب الحديثة عن الفكر المعاصر فهي إن تناولت الفكر ومذاهبه فإنها تربطه بالتيارات الفكرية المشهورة في الغرب وهي أحد المؤثرات الأربعة الغربية المشهورة التي سبق ذكرها، أما عن تأثير الجانب العلمي فما وجدت كتابًا منها تناوله بالصورة التي رسمتُ خطتها أو قريبًا منها، وكذلك الرسائل الجامعية العلمية المختصة بالمذاهب المعاصرة التي أمكنني الاطلاع عليها. خامسًا: الكتب المتخصصة في مشكلة البحث: وغالب ما وجدته في هذا الباب يكون دراسة متخصصة لمفكر اهتم بالفكر العلمي أو نظرياته أو فلسفته. وهذا النوع هو الأقرب إلى مشكلة بحثي، وقد وجدت الدراسات الآتية: 1 - "الإِسلام والاتجاهات العلمية المعاصرة" للدكتور يحيى هاشم فرغل، وهو كتاب مميز في هذا الباب، تناول مؤلفه مشكلات في صلب البحث مثل النظريات العلمية "ولاسيّما نظرية التطور"، والمفاهيم العلمية التي انحرفت بها الاتجاهات المادية مثل القوانين الطبيعية، والحتمية، والصدفة. . . . وغيرها، وناقش دعوى توسيع المنهج العلمي ليشمل مجالات غير حسية. . . . وغيرها من المباحث المهمة. إلا أنه في باب التغريب توقف مع إسماعيل مظهر وعلاقته بالنظرية التطورية والمنهج العلمي وقانون الأحوال الثلاث لكونت، وتوقف مع بعض المقالات من مجلة "المقتطف"، وغلبت على بحثه مناقشة المشكلة العلمية بوضعها الغربي المادي والعلماني، دون أن تكون له عناية بدراسة تأثيرها على الاتجاه التغريبي إلا مع إسماعيل مظهر. 2 - "أصل الإنسان بين العلم والفلسفة والدين" للدكتور سامي عابدين، وهو كتاب تناول مسألة واحدة من مشكلات العلم الحديث هي نظرية التطور وأبعادها في الفكر العربي بكل مدارسه، ويمتاز الكتاب بأنه جمع أغلب ما كُتب في هذا الباب منذ دخول النظرية إلى الساحة العربية في الكتب والمجلات، فهو ثري بالمعلومات والشواهد والاستقصاء لكل ما قيل في الباب، فالهدف الأبرز فيه هو جمع الشواهد ويأتي النقد بعده في المرتبة، فهو قد قَصَر عمله على نظرية واحدة، وقد أفدت منه في بابها.

3 - "علماء الاجتماع وموقفهم من الإِسلام" لأحمد إبراهيم خضر، وهو من الكتب المشهورة في كشف انحرافات الاتجاه التغريبي في ميدان علم الاجتماع، إلا أنه اكتفى بتجربته الشخصية التي تمتد في هذا الميدان لأكثر من ثلاثين سنة بحسب مقدمته، وكانت أغلب شواهده من كتاب واحد جمع المتغربين في هذا الميدان بعنوان "الدين في المجتمع العربي -ندوة"، وقد استفدتُ منه في قسم علم الاجتماع، وقمتُ بتتبع الأمر من خلال أمثلة أكثر في هذا الميدان. 4 - "منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية" لمحمد محمَّد أمزيان، وهو من البحوث المميزة في هذا الباب، ويمتاز صاحبه بتخصصه الاجتماعي مع نقده لوضعية علم الاجتماع العلمانية في البيئة الغربية ونقد بعض النماذج العربية المقلِّدة، وهو أوسع وأشمل وأكثر علمية من الكتاب السابق، ونقطة الاختلاف معه محدودة وهي في هدف البحث، فهدفه هو علم الاجتماع عمومًا في الغرب والشرق، أما هدف بحثي فهو دراسة فكر المتغربين العرب في ميدان علم الاجتماع فضلًا عن غيره من الأبواب. 5 - "أبحاث ندوة علم النفس" لمجموعة متخصصين في علم النفس، ففي بعض الأبحاث مناقشة لبعض آثار النظريات النفسية على باحثين عرب، ولاسيّما بحث "نحو وجهة إسلامية لعلم النفس" للدكتور فؤاد أبو حطب، وقد ساعدتني أفكار الكتاب في بحثي في هذا الباب، ومع ذلك فهي وقفات مختصرة غير مقصودة في الأساس. 6 - "موسوعة الجندي" لأنور الجندي، وهي موسوعة كبيرة تجمع كل كتبه، وفيها جهد ضخم حول التغريب، وقد يكون هو الأوسع في المكتبة العربية، وقد جاءت متنوعة وشاملة لكل المجالات بما فيها علاقة هذا الاتجاه بالعلم الحديث ونظرياته ومناهجه، إلا أن المتعب فيها أنها لا تأتي في باب واحد أو مخصص للموضوع، وإنما تأتي في سياق نقاش قضايا أخرى، وقد أفادني، ولاسيّما في شأن واقع المشكلة في مصر. 7 - "الفكر الديني عند زكي نجيب محمود" للدكتورة منى أحمد أبو زيد، وهو كتاب يتناول بالدراسة شخصية مهمة في مجال فلسفة العلم ونظرياته ومناهجه، وفي الوقت نفسه تأثَّر بالعلمنة والتغريب، مما جعله يتعامل مع فلسفة العلم من منظور علماني، ولاسيّما في فترة تحمسه للوضعية المنطقية. وتأتي

منهج البحث

أهمية الدراسة في أنها تبحث فكر زكي محمود من خلال الجانب الديني وعلاقته بفلسفته العلمية. وقد كانت الدراسة مفيدة لي في استقصاء مواقف المفكر، ولكن الاختلاف بين منهجي ومنهج البحث السابق هو في الرؤية، ففيه رؤية متحمسة لفكر زكي محمود وتأخذ بموقفه العلماني بخلاف رؤيتي. 8 - "الفلسفة النشوئية وأبعادها الاجتماعية -قراءة في تجربة شبلي الشميل الفلسفية" للدكتور محمود المسلماني، وهذه الدراسة في السياق السابق نفسه، فهي دراسة علمية حول شخصية اهتمت بالعلم وفلسفته ونظرياته ولاسيّما في جانبها الداروني المادي، وهو رمز تغريبي بارز، وتمتاز هذه الدراسة بجانبها العلمي، ومع ذلك فهي تتبنى رؤية شبلي شميل التغريبية وإن بشكل مخفف فالشر دركات، وقد أفادني هذا البحث في اكتشاف العلاقة بين النظريات العلمية والرؤية المادية من خلال نموذج عربي، ونفترق بعد ذلك في التصور والمنهج والغاية، فالمؤلف يدرس تلك التجربة مؤيدًا لها، بخلاف مسار بحثي الإِسلامي. 9 - "سلامة موسى بين النهضة والتطوير" للدكتور مجدي عبد الحافظ، وهو كتاب يتناول أحد المتغربين المشهورين وأحد المتحمسين للنظريات العلمية بكل أبعادها المادية، وهو جزء من بحثٍ علمي، وقد أعطاني هذا البحث ما أعطاني البحث السابق أيضًا، ومسار الباحث مسار علماني تغريبي، ولكنه اعتنى بإبراز مشكلة العلاقة بين الفكر التغريبي والنظريات العلمية. 10 - "العلمانية من منظور مختلف" للدكتور عزيز العظمة، وهذا الكتاب لمؤلف علماني يدافع عن العلمانية بكل قوة، وقد جمع في بحثه كل شذوذ الفكر التغريبي مع تقديمه على أنه النموذج العقلي والعلمي ضد الفكر الديني الغيبي الخرافي، وقد جمع فيه ما ينتسب إلى العلم الحديث ونظرياته ويركز فيه على ما يعارض الدين. وقد وجدتُ فيه شواهد وأمثلة كثيرة في الباب، ولكن شتان بين من يسير نحو الغلو التغريبي وبين بحثٍ إسلامي. منهج البحث: أما عن منهج البحث في هذا الموضوع، فسأحاول -بإذن الله- السير وفق المنهجية التالية: 1 - الاستفادة من المنهج التاريخي الاستقرائي: أجتهد -بإذن الله- في تتبع

هذه الظاهرة من بداياتها حتى شهرتها وتحولها إلى تيارات فكرية، مع استقراء أهم صور انحرافات الفكر التغريبي المرتبطة بحركة العلم الحديث وآثارها ورصدها، وذلك من خلال استقراء كتابات المشهورين من معتنقي ذلك الفكر ودعاته، ثم جمعها وترتيبها بالصورة المناسبة لفهمها من جهة، ولتوجيه الدراسة النقدية إليها من جهة أخرى. 2 - استخدام المنهج النقدي: بعد كشف الآثار -صورها وخطورتها- أوجِّه ما يكون مناسبًا من صور النقد لتلك الآثار، بحيث يشمل النقد بيان خطأ تلك المزاعم أو تناقضها أو تلبيسها، والحكم الشرعي فيها وفق منهج أهل السنة والجماعة -بإذن الله-. 3 - تحقيق خدمات البحث المعهودة وأهمها: 1 - عند ورود آية فإني أذكر اسم السورة ورقم الآية. 2 - عند ورود حديث أجتهد في تخريجه من كتب السنة، وأما فيما يخصُّ الحكم عليه: فإن كان في الصحيحين أو أحدهما اكتفيت بالعزو إليهما، وإن كان في غيرهما اجتهدت في البحث عن حكم العلماء عليه بعد تخريجه. 3 - توثيق الشواهد: أوثقها من مصدرها ذاكرًا اسم الكتاب ثم المؤلف ثم الصفحة، وإن كان الشاهد كما هو ذكرت المرجع والصفحة مباشرة، وإن كان فيه تصرف فإني أوضح ذلك بحسبه، فإن كان يسيرًا قلت: "انظر"، وإن كان غير يسير فإني أنصّ على ذلك. 4 - التعريف بالأعلام الوارد ذكرهم في البحث، مركزًا على تاريخ ولادته ووفاته وأهم ما اشتُهر به ولاسيّما ما يرتبط بالبحث، وقد جمعتهم في ملحق في نهاية البحث. 5 - التعريف بالفرق والمذاهب والتيارات وما في بابها، وقد جمعتها في ملحق في نهاية البحث. 6 - التعريف بالمصطلحات والكلمات الغريبة وما في حكمها تعريفًا موجزًا، وقد جمعتها في ملحق في نهاية البحث. 7 - وضع الفهارس المناسبة للبحث. 8 - وضع مراجع البحث ومصادره.

خطة البحث

وبسبب كثرة الأسماء والمصطلحات وكثرة تردد بعضها في مواطن متفرقة فقد وضعتها في ملحق في نهاية البحث حتى لا تؤثر على حواشي البحث ويتيسر الوصول إليها. 4 - الفترة الزمنية للبحث، والفئة المقصودة بالدراسة: أما الفترة المعنية بالبحث فهي الفترة المعاصرة التي تمثل القرن الرابع عشر الهجري -العشرين الميلادي؛ وذلك أن أول صور التأثر بالانحراف المصاحب لحركة العلم الحديث ظهرت بوضوح في بدايات هذا القرن، وبرزت في الدعوة الجادة لنظرية التطور الدارونية التي عُرفت في علم الأحياء مع شبلي شميل، وسلامة موسى، وإسماعيل مظهر. . . . وغيرهم، ثم بدأت النظريات العلمية والمناهج العلمية تتلاحق على بلاد المسلمين، وتبنّى بعض المفكرين العرب صورًا منحرفة منها، وطبقوها على الإِسلام، ووسعوا دائرة مجالها من مجال تخصصها إلى ميادين الفكر والثقافة ومن ثمّ إلى أبواب الدين. أما الفئة المقصودة بالدراسة فهي أصحاب الاتجاه التغريبي الذين تحمسوا للنظريات العلمية بما في ذلك النظريات المخالفة للأصول الدينية، واجتهدوا في نشرها أو في استغلالها في بناء أصولهم الفكرية، أو قاموا بتطبيق مناهج علمية لها مجالها الخاص بها على مجال آخر لا يتناسب معها مثل تطبيقهم مناهج علمية تجريبية حسية على أبواب دينية غيبية، وعليه فمدار البحث يخص الاتجاه التغريبي العربي المعاصر. خطة البحث: نظمت هذا البحث كما يلي: المقدمة، وفيها: - أهمية الموضوع، وأسباب اختياره، وهدف البحث، والدراسات السابقة. - منهج الدراسة، وخطة البحث. التمهيد، وفيه: - النظرية العلمية. - أسباب نشأة الاتجاه التغريبي. - الموقف الإِسلامي من العلوم التجريبية وأمثالها.

الباب الأول: نشأة الانحرافات المرتبطة بحركة العلم الحديث وظهورها في العالم الإِسلامي، وفيه خمسة فصول: الفصل الأول: تعريف موجز بالثورة العلمية الحديثة وما ارتبط بها من نظريات مخالفة للدين، وأثرها في الفكر. الفصل الثاني: أسباب وجود الانحراف المصاحب للتطور العلمي الحديث. الفصل الثالث: تاريخ تكوُّن الانحرافات المصاحبة لحركة العلم الحديث في العالم الإِسلامي، وتأثيرها في الفكر التغريبي العربي المعاصر. الفصل الرابع: أسباب دخول الانحرافات المصاحبة لحركة العلم الحديث إلى البلاد الإِسلامية. الفصل الخامس: أبرز المواقف العلمية والفكرية في العالم الإِسلامي من العلوم الحديثة ومناهجها، وفيه تمهيد وثلاثة مباحث: المبحث الأول: موقف الاتجاه السلفي الداعي للتأصيل الإِسلامي للعلوم الحديثة. المبحث الثاني: موقف الاتجاه العصراني الداعي لتأويل ما توهم تعارضه من النصوص الشرعية مع العلم الحديث. المبحث الثالث: موقف الاتجاه التغريبي الداعي لتقديم العلم وعدم ربطه بالدين. الباب الثاني: التأثر المنهجي في الفكر التغريبي بالانحراف المصاحب للعلم الحديث، وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: التأثر المنهجي في مصدر التلقي وطرق الاستدلال، وفيه مبحثان: المبحث الأول: التأثر المنهجي في مصدر التلقي. المبحث الثاني: التأثر المنهجي في منهج الاستدلال. الفصل الثاني: التأثر المنهجي في طريقة التعامل مع القضايا الغيبية الاعتقادية وفيه مبحثان: المبحث الأول: التأثر المنهجي في طريقة النظر للغيبيات.

المبحث الثاني: أمثلة للتأثر المنهجي وبيان خطورتها الاعتقادية. 1 - في باب بداية الخلق ووجود الكون. 2 - في باب خلق آدم -عليه السلام- وأصل الإنسان. 3 - في باب الإيمان بالملائكة والجن. 4 - في باب المعجزات ودلائل النبوة. 5 - في باب الوحي. الفصل الثالث: التأثر المنهجي في طريقة التعامل مع القضايا الشرعية العملية، وفيه مبحثان: المبحث الأول: التأثر المنهجي في طريقة النظر للشريعة. المبحث الثاني: أمثلة للتأثر المنهجي وبيان خطورتها. 1 - في باب الأخلاق الإِسلامية. 2 - في باب العمل بالأدوية الشرعية للأمراض الجسدية أو النفسية. 3 - في باب حكم التعامل بالربا. 4 - في باب حجاب المرأة المسلمة. الباب الثالث: صور لدعاوى باطلة ونظريات منحرفة ظهرت في الفكر التغريبي حول الدين والعلم وخطورتها، وفيه فصلان: الفصل الأول: صور لدعاوى أظهرها الاتجاه التغريبي باسم العلم الحديث وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: دعوى أهمية علمنة العلم ورفض التأصيل الإِسلامي: مظاهرها وخطرها. المبحث الثاني: دعوى التعارض بين الدين والعلم الحديث. المبحث الثالث: دعوى كفاية العلم الحديث لحاجة الإنسان وشموليته بدلًا عن الدين. الفصل الثاني: صور من تأثر الفكر التغريبي بنظريات علمية منحرفة حول مفهوم الدين، وفيه تمهيد وثلاثة مباحث: المبحث الأول: التأثر بنظرية داروين التطورية من علم الأحياء حول الدين.

المبحث الثاني: التأثر بنظريات من علم النفس حول الدين. المبحث الثالث: التأثر بنظريات من علم الاجتماع حول الدين. الخاتمة: وفيها نتائج البحث. الفهارس: 1 - فهرس الألفاظ الغريبة والمصطلحات. 2 - فهرس الطوائف والفرق والمذاهب. 3 - قائمة المراجع والمصادر. 4 - فهرس الموضوعات. وقد واجهتني أثناء بحثي بعض المشكلات والصعوبات، وبفضل الله اجتهدت قدر الاستطاعة في تجاوزها، وأهمها: ندرة الدراسات الإِسلامية في هذا الباب مما يضيف مشقة على الباحث، وما وُجد منها فقد يختلف مع منهجية الباحث؛ ومنها تنوع المجالات التي يتناولها البحث مما يتطلب من الباحث القراءة في تخصصات مختلفة، والجلوس مع المختصين فيها، ولاسيّما في ميدان العلوم؛ ومنها مشكلات الترجمة التي تتفاوت بين الواضح والغامض، وهي مشكلة قد ذكرها المتخصصون في هذا الباب إذ غلب عليها البحث عن الربح، وهذا يتطلب من الباحث البحث عن الترجمات الأفضل، والتمعن في النصوص المترجمة بمقارنتها بغيرها. ومن المشكلات التي واجهتني أنني قد وجدت دراسات كثيرة حول رموز علمية إسلامية حديثة ولكن أصحاب تلك الدراسات قد أغفلوا موقف هؤلاء من الحضارة الغربية ومن التيارات الفكرية مع أن لهم جهودهم المهمة في ذلك، فأضطر إلى إعادة القراءة من أجل الاستفادة من نقدهم، ومن الأمثلة على ذلك ما كُتب عن العالمين: الشيخ السعدي والشيخ الشنقيطي -رحمهما الله رحمة واسعة-. ومن الصعوبات التي واجهت الباحث في هذا الميدان طبيعة الكتابات الفكرية والفلسفية التي تشتهر بالطول والصعوبة، وهذا يتطلب بذل أوقات مطولة في القراءة، وقد لا يظفر الباحث بعد ذلك إلا بالشيء القليل. وفي الختام. . فإني أشكر الله -سبحانه- أن وفقني وأعانني حتى أنجزت هذا البحث، وأشكره -سبحانه- على نعمه الكثيرة التي لا أحصيها، ومنها

ما منّ به عليّ من خدمة هذا الدين، وأسأله -سبحانه- المزيد من فضله. ثم إني أشكر لفضيلة الشيخ المشرف أ. د. سليمان الغصن تقبله الإشراف على هذا البحث، ثم أشكره على ما قدمه لي من مشورة ومن توجيهات ومن دعم، وأشكره على سعة صدره، وطيب استقباله، واهتمامه بالبحث والباحث، فجزاه الله خيرًا على ما قدم، وأسأل الكريم -سبحانه- أن يجزل له المثوبة، وأن يبارك له في علمه وعمره. كما أني أشكر كل من قدم لي العون أو الدعم أو المشورة من مشايخي الأجلاء ومن إخوتي الفضلاء، فقد قدموا لي كثيرًا، فأسأله -سبحانه- أن يجزيهم عني خير الجزاء.

التمهيد

التمهيد يحتوي التمهيد على ثلاث فقرات، هي: • أولًا: النظرية العلمية. • ثانيًا: أسباب نشأة الاتجاه التغريبي. • ثالثًا: الموقف الإِسلامي من العلوم التجريبية وأمثالها.

أولا: النظرية العلمية

أولًا: النظرية العلمية يُعدّ العلم أحد أشهر النشاطات الإنسانية، فقد خلق الله الإنسان بأعضائه المختلفة، ويحقق الإنسان بكل عضو وظيفة معينة؛ فالرجل للمشي، واليد للعمل. . . . وهكذا، إلا أن هناك أعضاء خُلِقت للتعلم والمعرفة فجاء معها العلم، وأصبح العلم فعالية لا تنفك عن الإنسان، وهذه الأعضاء هي الأذن والعين والقلب، قال -تعالى-: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)} [النحل: 78]، وقال -تعالى-: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} [الإسراء: 36]، وقال -تعالى-: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78)} [المؤمنون: 78]، وقال -تعالى-: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)} [السجدة: 9]، وقال -تعالى-: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23)} [الملك: 23]. قال الشيخ السعدي -رحمه الله- في تفسير آية النحل: "أي: هو المنفرد بهذه النعم حيث {أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} ولا تقدرون على شيء ثم إنه {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} خص هذه الأعضاء الثلاثة لشرفها وفضلها ولأنها مفتاح لكل علم، فلا وصل للعبد علم إلا من أحد هذه الأبواب الثلاثة وإلا فسائر الأعضاء والقوى الظاهرة والباطنة هو الذي أعطاهم إياها، وجعل ينميها فيهم شيئًا فشيئًا إلى أن يصل كل أحد إلى الحالة اللائقة به، وذلك لأجل أن يشكروا الله، باستعمال ما أعطاهم من هذه الجوارح في طاعة الله،

فمن استعملها في غير ذلك كانت حجة عليه وقابل النعمة بأقبح المقابلة" (¬1). قال شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ثم إن الله -سبحانه وتعالى- خلق القلب للإنسان يعلم به الأشياء، كما خلق له العين يرى بها الأشياء والأذن يسمع بها الأشياء، كما خلق له -سبحانه- كل عضو من أعضائه لأمر من الأمور وعمل من الأعمال. فاليد للبطش والرجل للسعي واللسان للنطق والفم للذوق والأنف للشم والجلد للمس، وكذلك سائر الأعضاء الباطنة والظاهرة" (¬2)، إلى أن قال: "ثم هذه الأعضاء الثلاثة هي أمهات ما يُنال به العلم ويُدرك، أعني العلم الذي يمتاز به البشر عن سائر الحيوانات دون ما يشاركها فيه من الشم والذوق واللمس، وهنا يدرك به ما يحب ويكره، وما يميز به بين من يحسن إليه ومن يسيء إليه إلى غير ذلك" (¬3)، "ثم إن العين تقصر عن القلب والأذن وتفارقهما في شيء وهو أنها إنما يرى صاحبها بها الأشياء الحاضرة والأمور الجسمانية مثل الصور والأشخاص، فأما القلب والأذن فيعلم الإنسان بهما ما غاب عنه وما لا مجال للبصر فيه من الأشياء الروحانية والمعلومات المعنوية، ثم بعد ذلك يفترقان: فالقلب يعقل الأشياء بنفسه إذ كان العلم هو غذاءه وخاصيته، أما الأذن فإنها تحمل الكلام المشتمل على العلم إلى القلب، فهي بنفسها إنما تحمل القول والكلام، فإذا وصل ذلك إلى القلب أخذ منه ما فيه من العلم، فصاحب العلم في حقيقة الأمر هو القلب، وإنما سائر الأعضاء حجية له توصل إليه من الأخبار ما لم يكن ليأخذه بنفسه. . . ." (¬4). ويمكننا استخراج أمر في غاية الأهمية من النص السابق، وهو أن العلوم الدنيوية الحسية ترتبط غالبًا بالعين، ومن هنا جاءت أهمية "الملاحظة والتجربة" للعلوم التجريبية البشرية، وأصبحتا مكوِّنين مهمِّين من مكونات المنهج التجريبي، أما العلوم المعنوية -ولاسيّما الدينية- فهي ترتبط بالأذن والقلب؛ فالأذن طريق الخبر، وتوصله إلى القلب، والقلب إن كان على الفطرة وسلم من الشبهة والهوى وبقية الصوارف تَحَقَّقَ له العلم الأسمى وانتفع به، ومن هنا تأتي أهمية ¬

_ (¬1) تفسير السعدي ص 445. (¬2) فتاوى ابن تيمية 9/ 307. (¬3) المرجع السابق 9/ 309 - 310. (¬4) المرجع السابق 9/ 310 - 311، ولكلامه بقية مهمة.

السمع للعلوم الدينية؛ لأن مصدرها الوحي، والمقصود هنا الحال الأغلب، "وعند هذا تستبين الحكمة في قوله -تعالى-: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} حتى لم يذكر هنا العين كما في الآيات السوابق فإن سياق الكلام هنا في أمور غائبة وحكمة معقولة من عواقب الأمور لا مجال لنظر العين فيها، ومثله قوله: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ} وتتبين حقيقة الأمر في قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)}. . . ." (¬1). ° ما المراد بالعلم؟ ربما يكون من العجب كثرة الاختلاف في تعريف العلم إذ نجد اختلافات كثيرة في كتب اللغة وغيرها حول تعريفه، قال الزبيدي اللغوي: "ووقع خلاف طويل الذيل في العلم حتى قال جماعة إنه لا يحد؛ لظهوره وكونه من الضروريات، وقيل: لصعوبته وعسره" (¬2)، وقال الرازي في تفسيره بعد ذكره لعدد من التعريفات: "ولما ثبت أن التعريفات التي ذكرها الناس باطلة، فاعلم أن العجز عن التعريف قد يكون لخفاء المطلوب جدًا، وقد يكون لبلوغه في الجلاء إلى حيث لا يوجد شيء أعرف منه ليجعل معرفًا له" (¬3). ثم ذكر الزبيدي بعض التعريفات فقال: "قلت: وقال الراغب: العلم إدراك الشيء بحقيقته. . . . وقال المناوي في التوقيف: العلم هو الاعتقاد الجازم الثابت المطابق للواقع، أو هو صفة توجب تمييزا لا يحتمل النقيض، أو هو حصول صورة الشيء في العقل، والأول أخص" (¬4). وقال الجرجاني في تعريفه: "العلم: هو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع. وقال الحكماء: هو حصول صورة الشيء في العقل، والأول أخص من الثاني. وقيل: العلم هو إدراك الشيء على ما هو به. وقيل: زوال الخفاء من المعلوم، ¬

_ (¬1) فتاوى ابن تيمية 9/ 311. (¬2) تاج العروس من جواهر القاموس، الزبيدي، مادة (علم)، 17/ 495. (¬3) تفسير الرازي، في المسألة السابعة من تفسيره لآية [البقرة: 31] 2/ 420، وانظر: قريبًا منه عند ابن حجر في فتح الباري 1/ 140 - 141 من كتاب العلم. (¬4) تاج العروس، الزبيدي، مادة (علم)، 17/ 495 - 496.

والجهل نقيضه. وقيل: هو مستغنٍ عن التعريف. وقيل: العلم: صفة راسخة تدرك بها الكليات والجزئيات. وقيل: العلم وصول النفس إلى معنى الشيء. وقيل: عبارة عن إضافة مخصوصة بين العاقل والمعقول،. . . . وينقسم إلى قسمين: قديم، وحادث، فالعلم القديم هو القائم بذاته تعالى، ولا يشبه بالعلوم المحدثة للعباد، والعلم المحدث ينقسم إلى ثلاثة أقسام: بديهي، وضروري، واستدلالي. . . ." (¬1). وقال الشيخ محمَّد العثيمين -رحمه الله-: "العلم لغة: نقيض الجهل، وهو: إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكًا جازمًا. اصطلاحًا: فقد قال بعض أهل العلم: هو المعرفة وهو ضد الجهل، وقال آخرون من أهل العلم: إن العلم أوضح من أن يعرف. والذي يعنينا هو العلم الشرعي، والمراد به: علم ما أنزل الله على رسوله من البينات والهدى" (¬2). ولا شك في أن التعريفات وإن اختلفت إلا أنها تعطينا المعنى التقريبي، ومما يهم من هذه التعريفات حول هذه الفعالية الإنسانية أمران: أنه فعالية ترفع الجهل الذي وُلد عليه الإنسان والوارد في آية النحل، وأنه فعالية تساعدنا على إدراك الأشياء، وإن اختلفت التعريفات حول درجة هذه المعرفة. فبإدراك الأشياء يرتفع الجهل ويتحقق العلم، وعمدته على الدليل، قال شيخ الإِسلام -رحمه الله-: "إن العلم ما قام عليه الدليل، والنافع منه ما جاء به الرسول، فالشأن في أن نقول علمًا وهو النقل المصدق، والبحث المحقق، فإن ما سوى ذلك -وإن زخرف مثله بعض الناس- خزف مزوق وإلا فباطل مطلق" (¬3)، وقال -رحمه الله-: "والعلم ما قام عليه الدليل، والنافع منه ما جاء به الرسول. وقد يكون علم من غير الرسول؛ لكن في أمور "دنيوية" مثل الطب والحساب والفلاحة والتجارة" (¬4). ¬

_ (¬1) كتاب التعريفات، الجرجاني ص 155، وانظر: الكليات، الكفوي ص 610 - 616. (¬2) كتاب العلم، محمَّد العثيمين، من الفصل الأول (تعريف العلم) ص 13. (¬3) الفتاوى 6/ 388. (¬4) الفتاوى 13/ 136.

فبالدليل يكون الفرق بين العلم وغيره؛ وذلك أن هناك نشاطات إنسانية ارتبطت بالعقل، مثل العلوم الدينية والعلوم الدنيوية والفلسفة والفنون والآداب، فما كان له دليل فهو العلم، وما سوى ذلك فليس من العلم، والذي قام عليه الدليل بوضوح ثلاثة أبواب: الدين ومصدره الخبر، والرياضة ومصدرها الاستنباط، والطبيعة ومصدرها الاستقراء، فهذه تسمى علمًا لوجود الدليل عليها، وأعلاها العلم الديني؛ لأن مصدره الوحي، ويأتي بعده في الدرجة العلوم المفضولة من رياضية وطبيعية وما نتج عنها من صناعات وما في بابها (¬1). وإذا كان العلم من أهم الفعاليات الإنسانية فإن منه ما يكون مصدره الوحي، وهو العلم الإلهي، وإن كان العقل يستطيع الوصول إلى بعض موضوعاته، ولكنه يضلّ وحده إن لم يعتصم بالوحي، وهذا العلم قد بلغ كماله ونهايته في الحضارة الإِسلامية. ومنه ما يكون مصدره العقل والحس، وهو العلم الذي يوفق الله البشر إليه بما أعطاهم من السمع والبصر والعقل، وهذا حال العلم الدنيوي، وهو علم قد تطور كثيرًا في الحضارة الغربية الحديثة. قال شيخ الإِسلام -رحمه الله-: "فصارت العلوم بهذا الاعتبار: إما أن تُعلم بالشرع فقط، وهو ما يعلم بمجرد إخبار الشرع مما لا يهتدي العقل إليه بحال، لكن هذه العلوم قد تعلم بخبر آخر غير خبر شارعنا محمد - صلى الله عليه وسلم -. وإما أن تُعلم بالعقل فقط؛ كمرويات الطب والحساب والصناعات. وإما أن تُعلم بهما" (¬2)، ويقول ابن خلدون -رحمه الله-: "اعلم أن العلوم التي يخوض فيها البشر ويتداولونها في الأمصار -تحصيلًا وتعليمًا- هي على صنفين: صنف طبيعي للإنسان يهتدي إِليه بفكره، وصنف نقلي يأخذه عمن وضعه. والأول. . . . يقف عليها الإنسان بطبيعة فكره، ويهتدي بمداركه البشرية إلى موضوعاتها ومسائلها وأنحاء براهينها ووجوه تعليمها، حتى يَقِفَه نظره وبحثه على الصواب من الخطأ فيها، من حيث هو إنسان ذو فكر. والثاني هي العلوم النقلية الوضعية، وهي كلها مستندة إلى الخبر عن الواضع الشرعي، ولا مجال فيها للعقل، إلا في إلحاق الفروع من مسائلها بالأصول" (¬3) ¬

_ (¬1) انظر: الفتاوى 19/ 233. (¬2) الفتاوى، 19/ 231، وانظر: نفس المرجع 4/ 210 - 211. (¬3) مقدمة ابن خلدون 3/ 1025 - 1026

ثم قال عن الثاني: "ثم إن هذه العلوم الشرعية النقلية قد نفقت أسواقها في هذه الملة بما لا مزيد عليه، وانتهت فيها مدارك الناظرين إلى الغاية التي لا شيء فوقها، وهُذبت الاصطلاحات ورُتبت الفنون، فجاءت من ورا الغاية في الحسن والتنميق" (¬1)، أما البشري منه فهو الذي يواصل البشر فيه جهدهم من أجل الانتفاع به في شؤون دنياهم. ° العلم الحديث ونظرياته: يدخل العلم الحديث في باب العلوم البشرية العقلية التي مصدرها العقل البشري، ومن قَدَر الله أن جعل لهذا النوع شأنًا كبيرًا في القرون الثلاثة الأخيرة، وأن يجعل لأوروبا شأنًا كبيرًا في رعايته وتطويره بصورة لم يعرف البشر لها مثيلًا، لدرجة أن أصاب طائفةً منهم غرورٌ عظيم فكفروا بكل دين، ووقعوا في أعظم صور الإلحاد، وأصاب طائفة فتنةٌ عظيمةٌ فأهملوا الدين وأهملوا شأن الآخرة، فانطبق فيهم قول الحق -تعالى-: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)} [الروم: 7]. تعود جذور العلم الحديث إلى عدد من الحضارات ولاسيّما الحضارة الإِسلامية، فكما أن علماء الحضارة الإِسلامية قد بلغوا في العلوم الدينية ذروتها فقد وضعوا أيضًا بصماتهم المهمة على العلوم الدنيوية، فطوروا بعضها وصححوا بعضها، وصاغوا منهجها في صورته التجريبية، وأصبحت لغة العلم في عدد من القرون هي العربية (¬2)، قال شيخ الإِسلام -رحمه الله-: "فما من خير يوجد عند غير المسلمين من أهل الملل: إلا عند المسلمين ما هو أكمل منه، وعند أهل الملل ما لا يوجد عند غيرهم، وذلك أن العلوم والأعمال نوعان: "نوع" يحصل بالعقل كعلم الحساب والطب، وكالصناعة من الحياكة والخياطة والتجارة ونحو ذلك، فهذه الأمور عند أهل الملل كما هي عند غيرهم؛ بل هم فيها أكمل، فإن علوم المتفلسفة من علوم المنطق والطبيعة والهيئة وغير ذلك من متفلسفة الهند واليونان، وعلوم فارس والروم؛ لما صارت إلى المسلمين هذبوها ونقحوها؛ لكمال عقولهم وحسن ألسنتهم، وكان كلامهم فيها أتم وأجمع وأبين، وهذا ¬

_ (¬1) المرجع السابق 3/ 1027. (¬2) موسوعة تاريخ العلوم العربية، إشراف رشدي راشد 1/ 16.

يعرفه كل عاقل وفاضل. . . ." (¬1). وهذا الدور المهم قد أهملته دراسات كثيرة، ومع ذلك فإن الغرب قد كان له شأن يختلف عن الشأن الذي كان للمسلمين، فقد وقعت أحداث كبار داخل الحضارة الغربية الحديثة تسببت بوقوع ذاك الفصام النَّكِد بين علوم الدين وعلوم الدنيا، ومن ثمّ الاعتناء فقط بعلوم الدنيا، ونبذ العلوم الدينية أو النظر إليها من منظور علماني، كما أن العناية بالعلوم الدنيوية كانت وفق رؤية علمانية لا دينية، مما أثر كثيرًا على مسيرة العلم الحديث، وأثر أيضًا على الدين (¬2). لقد بدأت النظرة إلى مفهوم العلم ودوره تتغير، ولاسيّما بعد التطورات المهمة التي لحقت بالعلم الطبيعي والرياضي داخل أوروبا، فقد أصبح العلم الذي يصح أن يطلق عليه اسم العلم هو العلم العقلي الدنيوي -ولاسيّما الرياضي والطبيعي- "حتى طار في الناس أنه لا عقلانية إلا بتحصيل الوصفين التاليين: "التجريب" و"الترويض"" (¬3)، وأصبح مصدر المعرفة هو الاستنباطي والاستقرائي مع استبعاد الوحي، واكتُفي بالشهادة المرتبطة بالبصر مادةً علميةً، وأُهمل الغيب المرتبط بالسمع، وفُعِّلَ منهج التجريب، يقول كارناب: "من أهم الملامح التي تميز العلم الحديث، بالمقارنة بعلم العصور المبكرة، هو تأكيده على ما يمكن أن نطلق عليه اسم "المنهج التجريبي"" (¬4) من أجل السيطرة على الطبيعة، وأُهمل شأن التوجيه الديني والقيمي لطريقة هذه السيطرة، وظهرت مفاهيم المنهج العلمي مثل الملاحظة، والتجربة، والفرضية، والقانون العلمي، والنظرية العلمية، والتفسير العلمي، والاستقراء، والاستنباط، والعلية، والحتمية، والطبيعة. . . . وغيرها من المفاهيم، وتُعد النظرية العلمية الأكثر أهمية في هذا الباب والأكثر إشكالًا. عند البحث في الكتابات العربية المعاصرة حول تعريف العلم نجد كثيرًا ¬

_ (¬1) الفتاوى 4/ 210 - 211 وانظر: العمل المهم الذي أشرف عليه رشدي راشد بعنوان: (موسوعة تاريخ العلوم العربية) بأجزائه الثلاثة، وانظر: أسس المنهج القرآني. . . .، د. منتصر مجاهد ص 90 - 120، وانظر: الإِسلام والعلم التجريبي، د. يوسف السويدي ص 20 وما بعدها. (¬2) سيكون هذا -بإذن الله- موضع تفصيل في الفصل الأوّل من الباب الأوّل. (¬3) سؤال الحداثة. .، طه عبد الرحمن ص 113. (¬4) الأسس الفلسفية للفيزياء، رودلف كارناب ص 55، ترجمة د. السيد نفادي.

منها قد انساق مع الفهم السائد في فلسفة العلم الغربية، من جهة حصر العلم في باب العلوم العقلية البشرية، وإغفال الحديث عن العلم الديني وكأنه قد خرج من مفهوم العلم، بل إن عددًا منها يبدأ بتعريف العلم على أنه اشتقاق من لفظته الإِنجليزية أو الفرنسية أو جذوره القديمة في لغاتهم، ويندر من يعود إلى المعاجم العربية والمكتبة الإِسلامية، وهذا مؤشر لافت عن سعة تغرب المفاهيم والمصطلحات الحديثة في الفكر العربي المعاصر. فماذا نجد من تعريفات للعلم في المكتبة العربية المعاصرة؟ هذه بعض النماذج من تعريفات العلم: "العلم بحث بمنهج ولهدف، فهو معرفة الشيء على ما هو به. وهو بمعنى المعلوم" (¬1)، ومنها: "العلم نسق من المعارف التي ترتبط بعضها ببعض ارتباط النتائج بالمقدمات في الاستدلال السليم. ففي العلم إذن نستخلص قضايا كلية أو جزئية من عدد قليل من المبادئ والقوانين التي نفترض صدقها أو نتحقق منه" (¬2)، ومنها: "العلم هو إدراك القانون؛ أي: التوصل إلى كنه العلاقات الشاملة والضرورية فيما بينها مما يتيح تفسير سبب حدوث الظاهرة على هذا النحو. ." (¬3). وقد ارتبطت بالفكر الحديث -ولاسيّما في مجال الفلسفة- مجموعة مجالات تهتم بالعلم مع غيره أو بالعلم وحده مثل: "نظرية المعرفة" و"الميتودولوجيا - علم المناهج" و"فلسفة العلوم، مثل: الوضعية، والوضعية المنطقية، والتطورية، والمادية وغيرها" و"الإيبستيمولوجيا" و"تاريخ العلم" (¬4). ° العلم الحديث "منهجه والطريق إليه وإلى نظرياته": تُرجِع فلسفة العلم الحديثة العلمَ إلى نوعين: العلوم الرياضية بمنهجها ¬

_ (¬1) مفاتيح العلوم الإنسانية. .، د. خليل أحمد ص 289. (¬2) الموسوعة الفلسفية العربية، مادة (علم) من قسم الاصطلاحات والمفاهيم، كريم متى ص 608، وانظر: المعجم الفلسفي، د. جميل صليبا 2/ 99 وما بعدها. (¬3) في فلسفة العلوم، د. إبراهيم مصطفى ص 23، وانظر: فلسفة العلم، د. صلاح قنصوه ص 56 - 57، وانظر: مشكلة الفلسفة، د. زكريا إبراهيم ص 95 وما بعدها. (¬4) انظر حول تعريفها والفروق بينها وعلاقتها بالعلم: مدخل إلى فلسفة العلوم. . . .، د. محمَّد الجابري ص 17 وما بعدها، وانظر حول الفرق بين العلم وفلسفة العلم: الموسوعة الفلسفية العربية، مادة (علم) من قسم الاصطلاحات والمفاهيم، كريم متى ص 608.

الاستنباطي، والعلوم الطبيعية بمنهجها التجريبي، وتُعد العلوم التجريبية هي الأهم في باب حياة الناس وإن اعتمدت على الرياضيات؛ وذلك بسبب ما حققته من منافع كبيرة، ومن هنا جاء دور المنهج العلمي التجريبي (¬1). ومع أن عمدة العلم الدنيوي على المنهج التجريبي الاستقرائي إلا أنه لا يعني هذا وجود اتفاق على طبيعة هذا المنهج، فلابد أن تجد الاختلاف حول كل قضية من قضاياه "وهكذا نلاحظ أنه بالرغم من أن مئات الكتب قد تم تحريرها ونشرها عن المنهج العلمي، وكان من المفترض أن يكون هناك اتفاق بوجه عام حول طبيعة النشاط المنهجي، إلا أن هذا الاتفاق ظل بعيدًا عن أن يتحقق. . . ." (¬2). توجد صورة عامة للمنهج العلمي بخطوات قد لا يُشترط فيها التتابع دائمًا، وهذه الخطوات هي: الملاحظة، التجربة، الفرضية، القانون والنظرية (¬3). والملاحظة هي المشاهدة الحسية الدقيقة لظاهرة من الظواهر عن طريق الحواس وبالاستعانة بالأدوات والأجهزة والأساليب، ولا شك في أن الأجهزة الحديثة المكتشفة التي تساعد العين قد كان لها دور كبير في تطور الملاحظة ونجاحها، والملاحظة العلمية تأخذ أشكالًا حى توصل إلى نتائج. أما التجربة فتأتي بعد أن تسجل حال الظاهرة كما هو عن طريق الملاحظة، فكأن الباحث التجريبي وهو في طور الملاحظة قد أنصت للطبيعة وسجل ما سمع كما هو، بينما في التجربة يقوم الملاحظ بالتدخل فيها، فيقوم بإخضاع الظاهرة لظروف جديدة، وتفيد التجربة في تحقيق اكتشافات جديدة لم تحققها الملاحظة، وقد لا ¬

_ (¬1) انظر: الموسوعة الفلسفية العربية، مادة (علم)، الاصطلاحات والمفاهيم، كريم متى ص 609 - 611، وانظر: نحو فلسفة علمية، د. زكي نجيب، الفصل السابع، وسيأتي لهذا مزيد حديث في الفصل الأول من الباب الأول من هذا البحث. (¬2) التفكير العلمي -الأسس والمهارات، مجموعة مؤلفين ص 75 - 76. (¬3) انظر: العالم بين العلم والفلسفة، جاسم العلوي ص 32 - 33، وانظر: فلسفة العلم، د. صلاح قنصوه ص 182 - 205، التفكير العلمي -الأسس والمهارات، مجموعة مؤلفين ص 77 - 85، أسس المنطق والمنهج العلمي، د. محمَّد الشنيطي ص 127 وما بعدها، وانظر عرضها من وجهة نظر إسلامية: أسس المنهج القرآني في بحث العلوم الطبيعية، د. منتصر مجاهد ص 63 - 77.

تتيسر التجربة كما في علم الفلك فحظه الملاحظة، والتجربة أساسية في علوم أخرى كما في الكيمياء (¬1). تأتي الفرضية "أو التفسير العلمي المؤقت للظاهرة" بعد الملاحظة والتجربة، والفرض العلمي هو عبارة عن وضع علّة تكون الظواهر أو الأشياء الملاحظة، أو موضوع التجربة معلولة لها وأثرًا من آثارها. إنه جهد عقلي للبحث عن علاقة عامة بين مجموعة من الظواهر، وهو محاولة لإعطاء تفسير للظاهرة المشاهدة، فمثلًا عندما يلاحظ أحدهم تكسر كوب من الزجاج على النار وسجَّل كل ملاحظاته، ثم قام بتجارب يغير فيها من الحرارة أو من الزجاج أو من الظروف، وسجل كل ذلك، يأتي هنا دور التفسير "وهو الفرض" في تبيين سبب تكسر الكأس الزجاجي عند وضعه على النار، فيكون أن الحرارة تزيد من أبعاد الأجسام الصلبة (¬2). ومن المهم بعد صياغة الفرض العلمي وضع طرق للتحقق منه، ولأهل العلوم والمناهج طرق مقترحة في التحقق من الفروض العلمية (¬3). ويُعد الفرض الطريق إلى القانون العلمي والنظرية العلمية، "يقوم الفرض بمهمته وهو غفل من الاسم والعنوان، ويظل كذلك حتى يعمّد بالتحقيق والإثبات، فيصير قانونًا أو نظريةً ويتسمى بهما" (¬4)، فالقانون العلمي هو تفسير نهائي للظاهرة قد تحقق منه، مع خلاف في فلسفة العلم: هل هو تفسير لها؟ أم ¬

_ (¬1) حول (الملاحظة والتجربة) انظر: أسس المنطق والمنهج العلمي، د. محمَّد الشنيطي ص 127 - 136، فلسفة العلم، د. صلاح قنصوه ص 200 - 205، التفكير العلمي -الأسس والمهارات، مجموعة مؤلفين ص 77 - 84، الاستقراء والمنهج العلمي، د. محمود زيدان ص 60 - 63، المنطق ومناهج البحث، د. ماهر عبد القادر ص 159 - 181. (¬2) حول (الفرض العلمي) انظر: الاستقراء والمنهج العلمي، د. محمود زيدان ص 36 - 71، العالم بين العلم والفلسفة، جاسم العلوي ص 32، وانظر: فلسفة العلم، د. صلاح قنصوه ص 187 - 189، التفكير العلمي -الأسس والمهارات، مجموعة مؤلفين ص 81 - 83، أسس المنطق والمنهج العلمي، د. محمَّد الشنيطي ص 137 - 143، المنطق ومناهج البحث، د. ماهر عبد القادر ص 185 - 216. (¬3) انظر مثلًا: أسس المنطق والمنهج العلمي، د. محمَّد الشنيطي ص 144 - 149، الاستقراء والمنهج العلمي، د. محمود زيدان ص 126 - 135. (¬4) فلسفة العلم، د. صلاح قنصوه ص 189.

هو فقط مجرد وصف مفيد؟ (¬1)، وهناك من يشترط في العلم الوصول إلى قانون، وهناك من يرى هذا الشرط مؤديًا إلى تضييق دائرة العلم، ولهذا يتسامحون مع العلم ويكتفون بأن ما حوى الدراسة المنظمة القائمة على منهج واضح والمستندة إلى الموضوعية يمكن أن نسميه علمًا (¬2). يمثل النموذج السابق الصورة الأشهر للمنهج العلمي حتى نهايات القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، وعمدته على الاستقراء، يقول د. محمود زيدان: "ونلاحظ أن الاستقراء هو منهج البحث في العلوم التجريبية كالطبيعة والكيمياء والأحياء كما تستخدمه بعض العلوم الإنسانية كعلوم النفس والاجتماع والتاريخ. وهدف المنهج الاستقرائي أن يوصلنا إلى كشف القوانين، فالنتيجة الاستقرائية هي صيغة القانون العلمي؛ ومن ثم سُمِّي الاستقراء منهج الكشف أو منطق العلوم التجريبية" (¬3)، ومراحل الاستقراء التقليدي ثلاث: " (1) الملاحظة والتجربة. (2) وضع الفروض. (3 ضض) تحقيق الفروض" (¬4). ولكن مع نمو المعرفة العلمية وظهور نظريات جديدة وتقدُّم الأجهزة وقع بعض التحولات في المنهج مع عدم إلغاء القديم، ويتبع ذلك تجديد مسمى الفرض العلمي، فتكون ثلاثة فروض، هي: التفسير العلمي ويمثله المنهج السابق، والتفسير الوصفي بحيث تبتعد عن العلية التي يمتاز بها النوع الأوّل، مثل نظريات علم الفلك، فهي لا تصل إلى مفهوم القانون العلمي العلي، وهي فروض مؤقتة تقبل التطوير (¬5). أما الثالث فهو التفسير الفرضي الذي يعطي تصورًا جديدًا للمفاهيم السابقة في المنهج التقليدي ولاسيّما من جهة تخفيف الاعتماد على العلية، كما أن الملاحِظ يدخل مشاركًا فيه، ومن هنا تدخل الاستنباطات الرياضية والرؤى الفلسفية (¬6)، وبهذا تكون النظريات المعاصرة أكثر تعقيدًا ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق ص 189 - 195، وانظر: التفكير العلمي -الأسس والمهارات، مجموعة مؤلفين ص 84. (¬2) انظر في: فلسفة العلوم، د. إبراهيم مصطفى ص 27. (¬3) الاستقراء والمنهج العلمي، د. محمود زيدان ص 30. (¬4) المرجع السابق ص 59. (¬5) انظر: الاستقراء والمنهج العلمي ص 206. (¬6) انظر: المرجع السابق ص 216 - 254، وانظر: التفكير العلمي -الأسس والمهارات، =

وغموضًا، وربما تختلط فيها الفلسفة بالعلم، والذاتية بالموضوعية، ويصبح العالم مشاركًا بعد أن كان يطلب استقلاله (¬1). وتأتي النظرية العلمية في نهاية المطاف، فما هي؟ وما دورها في العلم الحديث؟ وما سبب إثارتها للمشكلات الفكرية والاجتماعية؟ ° النظرية "مكانتها في المنهج العلمي، وتعريفها": تأخذ النظرية العلمية مكانًا مميزًا في المنهج العلمي الحديث وفي فلسفة العلم الحديثة، ففي المنهج العلمي تُعد "الخطوة النهائية هي إنشاء النظرية العلمية" (¬2)، وهي تُعد "التتويج النهائي للمنهج العلمي، وحصاد خطواته الأخيرة. فكل ما يهدف إليه المنهج العلمي نجده دومًا في النظرية العلمية، فهي التي تحشد الوقائع والمفهومات والفروض والقوانين في سياق ملتئم واحد" (¬3). ويقول د. عادل عوض عن أهميتها: "النظريات العلمية ضرورة من ضروريات العلم، فالحقائق التي نصل إليها عن طريق التجارب العلمية أو عن طريق الملاحظة لا يمكن أن نتركها مبعثرة غير متماسكة، بل إن الفكر البشري يدأب على الجمع بينها ولمّ شعثها في نظام واحد متناسق يربط أجزاءها ويجعل منها وحدة متصلة من التفكير. هذه الوحدات المتصلة من الحقائق والأقوال هي ما يسمى بالنظرية العلمية، والنظريات العلمية في تطور مستمر، فهي تنمو بنمو المعرفة البشرية وترتقي بارتقائها" (¬4)، وكذا عن أهميتها في فلسفة العلم يقول د. بدوي عبد الفتاح: "حظيت النظرية العلمية باهتمام فلاسفة العلم، باعتبارها نموذجًا للمعرفة العلمية بمعناها الدقيق" (¬5). يوجد تنوع في تعريف النظرية العلمية، ويشير هذا التنوع في التعريفات إلى ¬

_ = مجموعة مؤلفين ص 84 - 86، وانظر: أسس المنهج القرآني. . . .، د. منتصر مجاهد ص 177 وما بعدها. (¬1) انظر: من: نظريات العلم المعاصر إلى المواقف الفلسفية، د. محمود زيدان ص 82 - 100. (¬2) التفكير العلمي -الأسس والمهارات، مجموعة مؤلفين ص 90. (¬3) فلسفة العلم، د. صلاح قنصوه ص 195. (¬4) فلسفة العلم في فيزياء أينشتين. . . .، د. عادل عوض ص 180. (¬5) فلسفة العلم، د. بدوي عبد الفتاح ص 175.

صعوبة الاتفاق على صورة موحدة، ولكنها تعطي السمات العامة لمفهوم النظرية باعتبارها: مجموعة قوانين، أو باعتبارها مجموعة فرضيات محققة، أو مجموعة وقائع، صيغت في بنية فكرية تجمعها وهي أعلى منها درجةً في التعميم، ويكون التعميم قادرًا على تفسيرها مجتمعة، وقادرًا على توليد القوانين الجديدة ويتنبأ بمشاهدات جديدة. وهذه بعض التعريفات والتقريبات للنظرية العلمية: "النظرية العلمية مجموعة من القوانين العامة التي يرتبط أحدها بالآخر ارتباطًا متسقًا يعتمد بعضها على بعض وهي جميعًا متعلقة بنوع واحد من الظواهر، بحيث إن مجموعة تلك القوانين المؤلِّفة للنظرية العلمية تفسر تلك الظواهر من كل جوانبها" (¬1). "وليست النظرية في العلم تخمينًا أو اقتراحًا كما هو شائع عن تعريف كلمة "نظرية"، إن النظرية العلمية هي تفسير موحد ومتسق ذاتيًا لعمليات أو ظواهر طبيعية أساسية، وهذا التفسير يتم تشكيله من مجموعة من الفروض التي تم تأييدها. فالنظرية العلمية إذن تُبنى من المعرفة الموثوق فيها وهي الوقائع العلمية. فالنظرية العلمية تفسير الطبيعة بتوحيد الكثير من الوقائع غير المترابطة أو الفروض التي تم تأييدها. . . ." (¬2). "النظرية هي بنية فكرية تتضمن مفهومًا يستطيع أن يفسر المشاهَدات الموجودة، ويستطيع أن يتنبأ بمشاهدات جديدة" (¬3). "فالنظرية هي "نشاط إبداعي ومنطقي موجَّه لفهم أو تفسير صور الارتباط المنطقي بين مجموعة من القوانين الاستقرائية الصادقة الخاصة بمجال ما من مجالات الطبيعة. وذلك عن طريق ربطها معًا بمنظومة من المفاهيم النظرية المبتكرة، على نحو يوسع من دائرة التعميم، ويجعل في المستطاع استنباط قوانين جديدة بطريقة رياضية". بهذا المعنى تكون النظرية بالنسبة للنشاط التجريبي هي "خطة العمل، وهي الشروط والهدف الذي نرجو منه"" (¬4). ¬

_ (¬1) الاستقراء والمنهج العلمي، د. محمود زيدان ص 102. (¬2) التفكير العلمي -الأسس والمهارات، مجموعة مؤلفين ص 90. (¬3) العالم بين العلم والفلسفة، جاسم العلوي ص 32. (¬4) فلسفة العلم، د. بدوي عبد الفتاح ص 179.

وقد سبق في مسارات المنهج العلمي أنه يبدأ بالملاحظة والتجربة، ثم الفرضية، ثم القانون العلمي والنظرية، ففي مرحلته النهائية يأتي القانون والنظرية، فالقانون هو عبارة عن فرض تم التحقق منه، والفرق بينه وبين النظرية أن "القانون العلمي هو الذي يقبل التحقق، ويمكن أن يوصف بالصدق أو بالكذب؛ لأنه يمثل قضية تجريبية تبدأ من الواقع وتنتهي إليه. أما النظرية فلا شأن لها بالواقع المباشر لأنها ببساطة غير مشتقة منه. . . . فالنظرية العلمية هي بناء نظري مكون من عدد من القوانين الصادقة. . . ." (¬1). وأختم هذه الفقرة بذكر وظائف النظرية العلمية، وهي أربع وظائف: الأولى: التفسير "أو الفهم" بإدراك الأسباب التي بمقتضاها تحدث الظواهر، أو إدراك العلاقات بين الظواهر. الثانية: إثراء العلم بعلاقات ومفاهيم وقوانين جديدة تنبع من النظرية العلمية. الثالثة: التحقق من صدق القوانين الجديدة المنبثقة استدلالًا عن البناء المنطقي للنظرية، فبعد خروج قوانين جديدة منها نرجع إليها للتحقق من صحة الجديد. الرابعة: بيان الحدود التقريبية لصدق القوانين التي جاءت النظرية من أجل تفسيرها، فالنظرية مركبة من مجموعة قوانين، قد لا تُعلم حدودها إلا بالنظرية العامة (¬2). صحة النظرية العلمية وقضية التحقق منها: الوضع المعرفي للنظرية العلمية: من المناسب الابتداء بذكر الوضع المعرفي للنظرية العلمية في تيارات الفكر الحديثة، وتظهر ثلاثة مواقف، هي: الأول: الموقف الواقعي: يرى أصحابه أن للنظرية مضمونًا معرفيًا، ولذا فنحن نتحقق من نتائجها، ونصفها بالصدق أو الكذب. ¬

_ (¬1) المرجع السابق ص 178 - 179. (¬2) انظر: فلسفة العلم، د. بدوي عبد الفتاح ص 188 - 189، مع الاختصار.

الثاني: الموقف الأداتي: ويرى أنه ليس للنظرية العلمية أي مضمون معرفي، فلا توصف بالصدق أو الكذب، وإنما هي أدوات تؤدي وظائف هي: تفسير المعطيات الحسية وتقديم تنبؤات جديدة، لذلك فالأجدر أن نسأل: هل نجحت النظرية في القيام بوظائفها؟ بدلًا من أن نسأل: هل صدقت النظرية؟ فهي وسيلة إلى أفضل استثمار لمعرفتنا بالطبيعة، فليس ما يهمُّ أصحابَ هذا الموقف الحقيقة، وإنما كل ما يهمهم هو العائد العلمي. الثالث: الموقف التجريبي: وهو قريب من الواقعي، إذ يشاركه الاعتقاد بوجود مضمون معرفي للنظرية، ويخالفه بأن الواقعي يقول بوجود أنطولوجي للمفاهيم النظرية، بينما الطبيعة عند التجريبيين هي خبرتنا أو إدراكنا الحسي لها. وللموقف الأخير شهرة في الفلسفة الإِنجليزية التي ترى أن الطبيعة مجرد ظواهر تقع في خبرتنا، أما الواقعي فيرى وجودًا عقليًا -مثلًا- لتلك الظواهر الطبيعية (¬1). وهذا الاختلاف حول الوضع المعرفي للنظرية يحيلنا إلى صعوبات في إمكانية التحقق من النظريات العلمية، وسيجد الباحث مواقف مختلفة، وهذا التنوع يسمح لكل طرف أن يوجه النظرية العلمية إلى المعتقد أو الأيديولوجيا التي يتبناها، بما في ذلك أصحاب المواقف الدينية، ومن أسباب ذلك هذا المجال الواسع لمفهوم النظرية. فهذا أحد المهتمين بهذا المجال وهو "فرانك" يرى أن صحة النظرية ترتبط بالهدف منها، "ومن ثم فإنه لا يمكن الحكم على صلاحية النظرية بواسطة المعايير العلمية بالمعنى الدقيق: أي باتفاقها مع المشاهدات، وبتماسكها المنطقي. وبعد تطبيق كل هذه المعايير، يبقى في غالب الأمر أن نختار بين عدة نظريات. . . . ونجمل ما سبق فيما يلي: إن مشكلة الاختيار بين النظريات المختلفة في العلوم الفيزيائية لا يمكن حلها في نطاق هذه العلوم إذا كنا بصدد ¬

_ (¬1) انظر: فلسفة العلم، د. بدوي عبد الفتاح ص 204 - 211، والأنطولوجيا (أي: علم الوجود) قسم من الفلسفة يبحث في الموجود في ذاته مستقلًا عن أحواله وظواهره، ومنه -مثلًا- البحث عن الأشياء في ذاتها، من جهة ما هي جوهر بالمعنى الديكارتي، انظر: المعجم الفلسفي، جميل صليبا 2/ 560 - 561.

النظريات ذات التعميم العالي" (¬1). فمثل هذا المهتم بفلسفة العلم نراه يبتعد عن البحث في صحة النظرية -ولاسيّما ذات التعميم العالي- ويكتفي بوضع هدف يتم من خلاله قبول النظرية أو رفضها. وغالب النظريات العلمية لا يناسبها التحقق؛ ذلك أن التحقق يناسب الأمور التجريبية، ويغلب على النظرية العلمية ألا تكون تجريبية، "فلا يجوز منطقيًا أن نتحقق من نظرية نيوتن في الجاذبية لأنها بناء نظري خالص، بل من القوانين التجريبية المستنبطة منها، مثل قانون المد والجذر. وبنفس المنطق لا يجوز التحقق من النسبية العامة لأينشتاين، بل نتحقق من النتائج التجريبية المستنبطة منها، مثل انحراف الضوء المنعكس من كوكب عطارد القريب من الشمس نتيجة لجاذبية الشمس" (¬2). وقد كان التحقق من الأساسيات عند طائفة، ولكن التعقيدات التي صحبت النظريات المعاصرة جعلت بعضهم يحوّل مبدأ التحقق من الإيجاب إلى السلب، فبدل أن نطلب من صاحب النظرية أن يثبت صحتها أصبح المطلوب ألا توجد تجارب تنفيها (¬3)، فإذا سلمت النظرية من وجود تجربة تنفيها فهي نظرية مقبولة. ويُعدّ مبدأ التحقق -الذي يمكن من خلاله إثبات صحة نظرية أو إثبات بطلانها- أحد الموضوعات الكبرى في فلسفة العلم ولاسيّما عند الوضعيين، وقد دارت نقاشات كبيرة حول هذا المبدأ، إذ كانت الوضعية المنطقية تصر على مبدأ التحقق شرطًا لقبول المعرفة العلمية، وكان أهم المعترضين عليهم "بوبر" الذي ركّز على الاكتفاء بأهمية عدم وجود ما يكذب النظرية (¬4). ومن بين أسباب صعوبة التحقق الإيجابي أن هناك فروضًا علميةً يستحيل التحقق منها، مثل القانون الأوّل من قوانين الديناميكا الحرارية الذي يقول: إن كمية الحرارة في الكون في تناقص تدريجي، ومن ثم سوف يأتي على الكون يوم ¬

_ (¬1) فلسفة العلم. . . .، فيلب فرانك ص 431، ترجمة أ. د. علي ناصف. (¬2) فلسفة العلم، د. بدوي عبد الفتاح ص 212. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 213. (¬4) انظر مثلًا: الأسس الميتافيزيقية للعلم، د. حسين علي ص 72 - 85، وانظر: فلسفة العلوم -المشكلات المعرفية، د. ماهر عبد القادر، بكامله، وانظر: رودولف كارناب. . . .، وداد الحاج ص 86 وما بعدها.

تنعدم فيه الحرارة تمامًا ويتم فناؤه. فهذا فرض يقبله العلماء منذ قرابة قرن ونصف قرن تقريبًا، ومع ذلك فالتحقق منه مستحيل (¬1)، ويقول باحث آخر: "فليست كل النظريات يمكن اختبارها مباشرة، مثل قوانين الجاذبية والحركة عند "نيوتن" ونظرية التطور عند "دارون" ونظرية النسبية، إلا أنه من الضروري أن تكون هذه القوانين وتلك النظريات قابلة للاختبار بشكل غير مباشر. . . ." (¬2). وهذا هو حال أغلب النظريات العلمية المعاصرة، فمن الصعب التحقق منها، وبعضها لا يمكن التحقق منه أصلًا (¬3). ° طبيعة الحقيقة العلمية: فإذا كانت النظرية العلمية مما يصعب التحقق منه غالبًا، وكانت الحقيقة العلمية ذات وضع نسبي، فهذا يدفع إلى السؤال عن موقع الحقيقة العلمية من هذه المنظومة المعقدة؟ وهو سؤال مهم، ولاسيّما عند البحث عن المشكلات التي تقع بين العلم والدين. تكون الحقيقة أوضح في الجانب المادي، ولاسيّما في الموضوعات الجزئية مثل مكتشفات علماء الكيمياء من العناصر ومكوناتها، ولكن عند تجاوز الجزئيات إلى الكليات والعموميات، أو تجاوز الشهادة إلى الماضي البعيد أو المستقبل البعيد تأتي الصعوبات حول مفهوم الحقيقة، فضلًا عن النقاش الفلسفي والفكري الكبير حول مفهوم الحقيقة الذي لم يعد في الدراسات المعاصرة يعني المطابقة دائمًا، ولاسيّما بعد تأثير نظريات الفيزياء المعاصرة ونظريات العلوم الاجتماعية، مما جعل المفكرين يتكلمون عن مفهوم جديد للحقيقة، ولهذا أصبح مفهوم الحقيقة داخل الفكر الحديث في غاية التعقيد. وستبقى الحقيقة -بهذه الحال- ملتبسة عند أي مجتمع لا يملك مصدرًا موثوقًا وميزانًا مطلقًا يحكم به ويحتكم إليه، والذي هو في النهاية الوحي من رب العالمين، وهو القرآن الكريم، فهو المحكم والحاكم، وأما غير ذلك فستبقى الحقيقة ملتبسة فيه حتى داخل العلم، ولاسيّما بعد التحول من المنهج الاستقرائي إلى المنهج الفرضي ¬

_ (¬1) الاستقراء والمنهج العلمي، د. محمود زيدان ص 125. (¬2) فلسفة العلم في فيزياء أينشتين. . . .، د. عادل عوض ص 185. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 194.

المعاصر. وعلى هذا، فكل من تحدَّث عن الحقيقة العلمية فلابد أن يكون مستوعبًا لمثل هذه المستجدات حول مفهوم الحقيقة أولًا، ثم حول مفهوم الحقيقة العلمية ثانيًا. وهذه بعض الآراء من داخل فلسفة العلم حول مفهوم الحقيقة العلمية، يقول جاسم العلوي: "علينا أن ننبه إلى أن الحقائق العلمية ليست حقائق مطلقة، ولا أدل على ذلك من تحول العلماء من نظرية إلى أخرى، بل هي حقائق صحيحة ونسبية في حدود دقة وتطور الأجهزة المستخدمة. إن تغيّر النظريات العلمية لا يعني أن الكون حقائقه متغيرة بقدر ما يعني أن الزاوية التي نرى بها الواقع قد تغيّرت" (¬1)، ويقول أيضًا: "ولكن ليس كل نظرية تمكّنت من إعطاء نتائج عملية أو ملائمة مع التجارب أصبحت صحيحة على نحو مطلق، فقد استطاع القدماء أن يفسروا حادثة الخسوف والكسوف بالاعتماد على هيئة بطليموس التي جعلت من الأرض مركزًا للكون، ورغم النتائج العلمية الصحيحة التي تمخضت عنها. . . . إلا أن نظام بطليموس الفلكي لم يكن صحيحًا. . . . إذن من الممكن أن نسير بالفرضية في الطريق الخاطئ ونصل في النهاية إلى الهدف الصحيح" (¬2). ويقول د. صلاح قنصوه: "الحقيقة العلمية ليست هي الواقع " reality"، بل ما يقرره العلماء عن هذا الواقع، وليس ثمة حقيقة علمية نهائية،. . . . وما يزال العلم حتى اليوم مجازفات ومخاطرات، وكل "حقائقه" موقوتة لا تبقى كذلك إلا إلى حين. فلا يتملكنا الخوف إذن. . . ." (¬3). ¬

_ (¬1) العالم بين العلم والفلسفة، جاسم العلوي ص 33. (¬2) المرجع السابق ص 33 - 34. (¬3) فلسفة العلم، د. صلاح قنصوه ص 170.

ثانيا: أسباب نشأة الاتجاه التغريبي

ثانيًا: أسباب نشأة الاتجاه التغريبي لقد تعرفنا على مفهوم العلم ومفهوم النظرية العلمية، وعلى الوضع الجديد للعلم في الحضارة الغربية بعد أن تسلّمته من الحضارة الإِسلامية، ولاسيّما في إظهار نوع واحد من العلم على أنه الجدير بالتسمية العلمية وأما ما سواه فلا يكون علمًا، وهو مشكلة خطيرة نجح الغرب الحديث في تجذيرها في مفهوم العلم، ويعود السبب إلى الرؤية العلمانية التي طغت على الحياة الغربية وأخذ بها أغلب علمائهم ومفكريهم، وترسخت مع السنين، وأصبحت جسمًا ضخمًا يؤثر على المنضمين الجدد إلى ميدان العلم والفكر. ومن أخطر المشكلات الفكرية الحديثة ما وقع من انحراف تيارات فكرية علمانية بالعلم، فقد نشأ العلم الحديث قريبًا منها، فقامت هذه التيارات باستغلاله ومحاولة توجيه نظرياته والتأثير في مسيرته بما يخدم رؤيتها العلمانية. وإذا كانت هذه التيارات لا تجد في حقائقه البيّنة فرصة تستغلها فإنها قد وجدت في فرضياته ونظرياته وفلسفته تلك الفرصة، فظهرت تيارات فكرية مادية وإلحادية وظّفت العلم في مصلحتها وبما يحقق رسالتها. والخطير في الأمر أنها أصبحت نموذجًا يُحتذى، ولاسيّما بعد أن أصبح الغرب قبلة طالبي التقدم الدنيوي، فجاء الناس إليهم من كل مكان، فاستقبلتهم تلك التيارات الفكرية وأثّرت فيهم أيّما تأثير، وعادوا إلى بلادهم محملين بالرؤية العلمانية الجديدة، ومن هؤلاء أصحاب الفكر التغريبي العربي. ° تعريف التغريب: التغريب مصطلح حديث للدلالة على تيارات فكرية حديثة، وللدلالة على

وجهة جديدة في التصور والفكر والحياة، وبالعودة إلى المكتبة التراثية لا نجد فيها مثل هذا المصطلح بمثل هذا المحتوى الجديد. فمادة "غَرَبَ" و"تغريب" في اللغة والاصطلاح بعيدة عن المفهوم الجديد للتغريب، قال الفيروز آبادي: "الغَرْبُ: المغْرِبُ، والذهابُ، والتنحي، وأول الشيء، وحدّهُ، كغُرابِهِ، والحِدّةُ، والنشاط، والتمادي، والراوية، والدلو العظيمة، وعِرْق في العين يسقي لا ينقطع، والدمع، ومسيلُهُ، أو انهلاله من العين، والفيضة من الخمر ومن الدمع، وبثْرة في العين، وورم في المآقي، وكثرة الريق،. . . . ويوم السقي، والفرس الكثير الجري، ومُقْدِمُ العين، ومُؤْخِرُها، والنّوى والبُعد، كالغَرْبَةِ وقد تَغَرَّبَ. وبالضم النزوح عن الوطن، كالغُرْبَةِ والاغْتراب والتَّغَرُّبِ،. . . . وتَغَرَّبَ: أتى من الغرب. . . . وغَرَبَ: غاب، كغرّب، وبَعُدَ. واغْتَرَب: تزوج في غير الأقارب. . . ." (¬1). وفي الاصطلاح الفقهي نجد التغريب للزاني، قال ابن الأثير: "التَّغْريب: النَّفْي عن البلد الذي وَقَعت فيه الجِناية. يُقال: أغْرَبْتُه وغَرَّبْتُه: إذا نَحَّيْتُه وأبْعَدْتُه. والغَرْب: البُعْد" (¬2). ويمكن أن نأخذ مما سبق بعض المعاني للدلالة على المصطلح الجديد، ولاسيّما "الذهاب والتنحي، النشاط، التمادي، البعد، النزوح عن الوطن"، ففيها دلالات على مفهوم التغريب الحديث من بعض الوجوه. وبما أن التغريب في أساسه بدأ بصفته مشروعًا غربيًا قامت به دول الغرب نحو البلاد غير الغربية (¬3)، فقد كانت نشأة المصطلح هناك، تحت لفظة " westernization"، وترجمتها في القواميس: "يتغرب، يجعله غربي السمة أو الثقافة، يصبح غربي السمة أو الثقافة"، وتطلق لفظة " westerner"، على المستغرب المنادي بضرورة الأخذ بالثقافة الأوروبية الغربية (¬4)، فيكون في ¬

_ (¬1) القاموس المحيط، الفيروز آبادي، مادة (غرب) ص 153 - 154. (¬2) النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير، مادة (غرب) 3/ 349. (¬3) انظر: الإِسلام، الغرب وحوار المستقبل، محمَّد محفوظ ص 25، وانظر: رحلة الفكر الإِسلامي. . . .، د. السيد محمد ص 164 - 188. (¬4) انظر: القواميس، ومن ذلك: المورد، بعلبكي ص 1056، أكسفورد - Oxford، مادة (westernization)، ص 1355.

أساسه مصطلحًا غربيًا في حاجة للترجمة العربية اللغوية والاصطلاحية. والتعريف القاموسي منطبق بدرجة كبيرة على المعنى الاصطلاحي الفكري للتغريب، فهو مفهوم يحوي على دلالتين مهمتين: الأولى أن هناك من يسعى للتغريب؛ أي: هناك من يقوم بالمشروع؛ والثانية نتيجة للأولى وهي وجود طائفة قد قبلت الدعوة واستجابت لها فأصبحت متغربة، حتى وإن لم تمارس الدعوة إلى التغريب. ففي الدلالة الأولى نجد طرفين: الطرف الغربي ومن استجاب له من المدعوين وشاركه في الدعوة، بينما الثانية خاصة بالمدعوين فقط. وبالنظر للدراسات العربية حول هذا المصطلح الجديد نجد منها النماذج الآتية: يتحدث المفكر البارز "د. محمَّد حسين" المهتم بهذا الباب عن الزحف الغربي نحو الشرق عن طريق الغربيين أنفسهم أو عن طريق من تأثر بهم، فـ"ظهر في معجم السياسة والحضارة ما يسميه الغربيون ومفكروهم بالـ" westernization" وما يمكن أن نسميه بالتغريب؛ أي: طبع المستعمرات الآسيوية والأفريقية بطابع الحضارة الغربية. وجهود الاستعمار في هذا تشمل المسلمين وغير المسلمين من أهل المستعمرات، ولكن جهدهم الأكبر وعنايتهم الأوفر كانت للمسلمين بخاصة؛ لارتباط حياتهم في مختلف مناشطها بالدين" (¬1). أما "د. السيد محمَّد الشاهد" فبعد النظر في المدلولات العربية التراثية للتغريب والنظر في الحملة الغربية توصل إلى تعريف، فقد عرَّف "التغريب الثقافي بأنّه وقوع ثقافة مجتمع ما تحت تأثير ثقافة غربية أقوى منها عن طريق الاحتكاك الثقافي غير المتوازن بهدف إبعاد هذه الثقافة عن جذورها وتغيير أهم معالمها فتصبح غربية عن أصولها الاجتماعية التي نشأت وتكونت فيها وميزت مجتمعها عن المجتمعات الأخرى، أو هو محاولة لإبعاد المجتمع عن ثقافته الأصلية وإرغامه بطرق غير مباشرة على قبول ثقافة غريبة عنه" (¬2). وعرَّفت موسوعة إسلامية مهمة التغريب فقالت: "التغريب هو تيار فكري ذو أبعاد سياسية واجتماعية وثقافية وفنية، يرمي إلى صبغ حياة الأمم بعامة، ¬

_ (¬1) الإِسلام والحضارة الغربية، د. محمَّد حسين ص 41 - 42. (¬2) رحلة الفكر الإِسلامي. . . .، د. السيد محمد ص 151 - 152.

والمسلمين بخاصة، بالأسلوب الغربي، وذلك بهدف إلغاء شخصيتهم المستقلة وخصائصهم المتفردة وجعلهم أسرى التبعية الكاملة للحضارة الغربية" (¬1). ويربط الدكتور "علي النملة" بين التغريب والتنصير أثناء حديثه عن التنصير فيقول: "وذلك بالسعي إلى نقل المجتمع المسلم في سلوكياته وممارساته، بأنواعها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأسري والعقدي، من أصالتها الإِسلامية، إلى تبني الأنماط الغربية في الحياة، وهي المستمدة من خلفية دينية نصرانية أو يهودية. وفي هذا يقول سيرج لاتوش، في كتابه تغريب العالم: إن تغريب العالم كان لمدة طويلة جدًا -ولم يكف كليًا عن أن يكون- عملية تنصير، إن تكريس الغرب نفسه للتبشير بالمسيحية يتضح تمامًا قبل الحروب الصليبية الأولى، في انطلاقات التنصير قسرًا، وإن مقاومة شارل مارتل في بواتييه، وأكثر من ذلك تحويل السكسون إلى المسيحية بوحشية على يد القديس بونيفاس (680 - 754 م): ألا يشكل ذلك الحرب الصليبية الأولى، وأقصد القول بأنه شهادة لتأكيد ذاتية الغرب كعقيدة وكقوة؟. وهكذا، نجد أن ظاهرة المبشّرين بالمسيحية هي بالتأكيد حقيقة ثابتة للغرب، باقية في ضميره بكل محتواها الديني، يجدها الإنسان دائمًا في العمل تحت أكثر الأشكال تنوعًا، واليوم أيضًا، فإن أغلب مشروعات التنمية الأساسية في العالم الثالث تعمل بطريق مباشر أو غير مباشر تحت شارة الصليب" (¬2). وعرَّفه الكاتب "محمد محفوظ" فقال عنه: التغريب "ويضم هذا التيار مجموع القوى والشخصيات التي انطلقت في عملها الفكري أو الاجتماعي أو السياسي من منطلق عقدي أو فكري ينتمي حضاريًا للغرب، فهو يضم كل المنبهرين بالحضارة الغربية، الذين ربطوا مصيرهم بمصير الغرب سياسيًا وحضاريًا كما يضم التيار الماركسي، الذي حاول انطلاقًا من مقولات ثابتة أن يمارس عملية النقد والتشريح للنظام الرأسمالي الغربي. ." (¬3). فمن مجموع هذه التعريفات والرؤى نستخلص الآتي: ¬

_ (¬1) الموسوعة الميسرة. . . .، عن الندوة العالمية للشباب الإِسلامي 2/ 698. (¬2) التنصير مفهومه وأهدافه ووسائله وسبل مواجهته، علي النملة ص 57 - 58. (¬3) الإِسلام، الغرب وحوار المستقبل، محمَّد محفوظ ص 24 - 25، وانظر له أيضًا: ص 18.

- التغريب نشاط غربي هدفه تذويب المجتمعات الأخرى، وإلحاقها بطابع الثقافة الغربية. - التغريب نشاط طائفة منبهرة بالحضارة الغربية تسعى إلى تقليد الغرب من جهة، ومن جهة أخرى تبذل جهدها لنشر دعوتها في مجتمعها. - التغريب حالة ثقافية هدفها تحويل العالم إلى حال على شاكلة الغرب الحديث. - التغريب حالة مرضية، وبهذا يختلف عن النشاطات الصحية الإيجابية مثل التجديد والإصلاح والنهضة والتحديث. - التغريب حالة عامة، يشترك فيها أطراف من جميع فئات المجتمع: المثقف والتاجر والسياسي وعوام الناس، ويأخذ أشكالًا مختلفة ثقافية وفكرية وفنية وسلوكية و. . . . - التغريب حالة سمحت بتلاقي كل القوى النافرة من الإِسلام أو المعادية له تحت مظلة واحدة، فنجد اليهودي والنصراني والمسلم الضال والملحد في التيار الفكري التغريبي الواحد، ومن ثم وجدت الأقليات الدينية فرصتها في التغريب. - التغريب تيار شارك الغرب مشكلاته وانحرافاته، ومنها المشكلات التي ارتبطت بالعلم الحديث ونظرياته وفلسفته. وينطبق على المسلمين من هؤلاء قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لتتبعنَّ سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ تبعتموهم، قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟! " (¬1)، فهذا الوصف العجيب في بيان شدّة المتابعة حتى لو كان فيما يخالف العقل الصحيح والفطرة السليمة نجده منطبقًا على المتغربين؛ فعندهم تتبع لحال الغرب في كل شيء؛ في الفكر والثقافة، في الفن والأدب، في طريقة العيش والحياة والسلوك، في القيم، وفي ¬

_ (¬1) في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، البخاري برقم (7320)، كتاب الاعتصام، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لتتبعن سنن من كان قبلكم"، وعند مسلم، برقم (2669)، كتاب العلم، باب اتباع سنن اليهود والنصارى.

غيرها، قال الشاطبي - رحمه الله -: "فدلّ ضرب المثال في التعيين على أن الاتباع في أعيان أفعالهم" (¬1). وهذه بعض الشهادات من مفكرين غير بعيدين عن الفكر التغريبي، وميزتها أنها من أشخاص يعرفون التغريب من داخله، ورغم نقدهم له إلا أنهم لم يخرجوا عنه، ومنها مجمل ما كتبه المفكران المصريان: حسن حنفي وأنور عبد الملك. يتحدث "د. حسن حنفي" عن أثره الذي امتدَّ "إلى الحياة الثقافية وتصوراتنا للعالم، وهدد استقلالنا الحضاري، بل امتد إلى أساليب الحياة اليومية ونقاء اللغة ومظاهر الحياة العامة وفن العمارة" (¬2)، إلى أن قال: "كما تحولت مساحة كبيرة من ثقافتنا المعاصرة إلى وكالات حضارية للغير، وامتداد لمذاهب غربية اشتراكية، ماركسية، ليبرالية، قومية، وجودية، وضعية، شخصانية، بنيوية، سيريالية، تكعيبية. . إلخ حتى لم يعد أحد قادرًا أن يكون عالمًا أو فنانًا إن لم يكن له مذهب ينتسب إليه. ووضعنا أنفسنا أطرافًا في معارك لسنا أطرافًا فيها، وتفرقنا شيعًا وأحزابًا كما تفرق القدماء من ذواتهم، ولكن فرقتنا هذه المرة لم تكن موقفًا من الذات بل تبعية للآخرين. . . . وعادة ما يتحول التغريب الثقافي إلى موالاة سياسية للغرب. . . ." "ص 20". ومع أن التغريب دخل بقوة مع الاستعمار إلا أنه لم يخرج بعد الاستقلال، فيقول: "ولكن بعد الاستقلال الوطني عاد المستعمر من خلال الثقافة، وانتشر التغريب. استقلت البلاد ولكن احتُلَّت الأذهان" (ص 20 - 21)، وعندما ظهرت الأحزاب السياسية وريثة التيارات الفكرية أصابها التغريب أيضًا: "إذ لا يوجد عمل سياسي إبداعي دون أصالة بعيدًا عن التغريب. وما زالت أحزابنا السياسية حتى الآن -خاصة العلمانية منها- تصوغ القضية السياسية على نحو متغرب. . . ." (ص 22) (¬3). ويقول "د. أنور عبد الملك" عن التغريب تحت مسمى تيار العصرية الليبرالية: "إن نقطة الانطلاق هنا ليست شيئًا آخر في جوهرها سوى نهضة ¬

_ (¬1) الاعتصام، الشاطبي ص 438. (¬2) مقدمة في علم الاستغراب، د. حسن حنفي ص 19. (¬3) وانظر بتوسع: المرجع نفسه ص 53 - 56.

الحضارة الغربية التي يجب أن يسمح قليلها بتجديد كل أبعاد الوجود في العالم العربي المعاصر، سيكون التركيز على الفكر العلمي والعقلانية الفلسفية والليبرالية السياسية، وستحدد الهدف على أنه خلق مجتمع عصري مماثل لمجتمعات أوروبا وأمريكا الشمالية ينزع بتصميم نحو الأمام، وينفتح على التقدم مع احتفاظه من الماضي بالتقاليد والسنن التي لن تحول دون بنائه" (¬1)، وهي تتسع لاتجاهات مختلفة ولاسيّما بين تيار ليبرالي وآخر ماركسي. ثم يصف حال هذا التغرب فيقول: "كان على تقليد الغرب أن يعم كافة المجالات، من الثياب حتى الفلسفة، ومن الأبجدية حتى المؤسسات السياسية، ومن العادات الجنسية حتى الاقتصاد، إذ لن يوقف منحى الانحطاط سوى قطيعة حاسمة مع الماضي وتنكر كامل للانحطاط، وبعد ذلك -أي: بعد أن نكون بذلك قد ضربنا صفحًا عن كل ما كان يكوّن "الأنا" الوطني الانحطاطي- فقد كان من الممكن ازدراع الغرب في الأراضي العربية لتثبيت النهضة" (¬2). فهذه الشهادات الناقدة من داخل التغريب ذاته تكشف حجم التغريب وسعة مجالاته، وأخْذِها بكل جزء من حياة المتغرب، وهي ظاهرة عجيبة قد حذّر منها النبي - صلى الله عليه وسلم - أمتَه، فالحديث -وإن كان فيه إخبار بما سيقع، وقد وقع فعلًا- ففيه تحذير من هذا الطريق لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. نحن إذًا أمام ظاهرة جديدة هي ظاهرة التغريب، وهي معروفة ومشهورة، فما سبب ظهورها؟ أسباب نشأة الاتجاه التغريبي: لظهور أي اتجاه جديد أسبابه الداخلية والخارجية، ومن ذلك الاتجاهات الحديثة التي عرفتها بلاد المسلمين، والبحث العلمي عن الأسباب ليس بتلك السهولة، وخير طريق لمعرفة ذلك الابتداء بتوجيهات الوحي وإرشاداته والاسترشاد بفقه سلف الأمة حول مثل هذه الظواهر، إذ هي الموصلة إلى طريق السلامة، ويبقى الأمر بعد ذلك بحسب دقة الباحث في التنزيل الصحيح على الوقائع الجديدة، فيأتي النظر -من خلال هذا الإطار العام- في الحالة الجديدة ¬

_ (¬1) الفكر العربي في معركة النهضة، د. أنور عبد الملك ص 27 - 28. (¬2) المرجع السابق ص 36.

ومنها ظاهرة التغريب الحديثة، وذلك بالنظر العلمي في الوقائع التاريخية والاجتماعية، واستخراج الأسباب منها. وسأقسم الأسباب إلى قسمين: قسم عام دلّ عليه الوحي، وهذا القسم هو الإطار الصحيح للنظر في أسباب الانحراف؛ لأنه من العلم الخبير -سبحانه- ثم تأتي بعده الأسباب الجزئية التي تتحرك في الإطار العام السابق، والتي ما كان لها أن تؤثر كل ذلك التأثير لولا وجود ذلك الخلل العام الذي نبهنا إليه العليم الحكيم -سبحانه-. ° القسم الأول: الأسباب العامة التي حذر منها الوحي: لقد تأمل العلماء نصوص الوحي حول الانحراف، فجمعوا الأسباب التي دلّ عليها كلام الله -سبحانه- وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ومن ذلك ما قام به "الشاطبي" - رحمه الله - في كتابه "الاعتصام" فذكر أن الاختلاف قدري كوني، وآخر كسبي جاءت النصوص بالتنبيه عليه والتحذير منه مثل: الجهل، واتباع الهوى، واتباع العوائد، وتحسين الظن بالعقل، والفرقة، وساق في ذلك النصوص، وبيّن - رحمه الله - أثرها في ظهور الطوائف المخالفة والبدع والانحرافات العقدية. قال الشاطبي - رحمه الله -: "فلابد من النظر في هذا الاختلاف ما سببه؟ وله سببان. أحدهما: لا كسب للعباد فيه، وهو الراجع إلى سابق القدر، والآخر هو الكسبي وهو المقصود بالكلام عليه في هذا الباب، إلا أن نجعل السبب الأول مقدمة. . . . قال الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)} [هود: 118، 119] فأخبر سبحانه أنهم لا يزالون مختلفين أبدًا. . . ." (¬1). ومن أهم الأسباب الكسبية التي ورد بذكرها القرآن نجد: أولًا: الجهل: ولاسيّما الجهل بالله -سبحانه- والجهل بالدين. قال -تعالى-: {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ ¬

_ (¬1) الاعتصام، الشاطبي ص 390 - 391.

تَجْهَلُونَ (138)} [الأعراف: 138]، وقال -تعالى- عن نوح -عليه السلام-: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29)} [هود: 29]، وقال -تعالى-: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)} [الأنعام: 111]. فالجهل بالله والجهل بدينه له خطره، وله أثره في ظهور المخالفة والمخالفين، فهذه شهادة من رب العالمين وشهادة من أنبيائه المرسلين في أن سبب ضلال من ضلّ هو الجهل (¬1)، وكل من تتبع حال المخالفين -ولاسيّما في أزماننا المعاصرة- وجد الجهل بالدين صفة لازمة لهم، وقد يوجد عند بعضهم معرفة نظرية دون أن تصل القلب فتنفعه، وذلك له أسبابه ومنها الهوى، وهو السبب الثاني الذي ذكره الشاطبي - رحمه الله -. ثانيًا: الهوى: قال "الجرجاني" في تعريفه للهوى إنه: "ميلان النفس إلى ما تستلذه من الشهوات من غير داعية الشرع" (¬2)، وقال الشاطبي - رحمه الله -: "ولذلك سمي أهل البدع أهل الأهواء لأنهم اتبعوا أهواءهم فلم يأخذوا الأدلة الشرعية مأخذ الافتقار إليها، والتعويل عليها، حتى يصدروا عنها، بل قدموا أهواءهم، واعتمدوا على آرائهم، ثم جعلوا الأدلة الشرعية منظورًا فيها من وراء ذلك. ." (¬3). قال -تعالى-: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 119]، وقال -تعالى-: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)} [القصص: 50]، وقال -تعالى-: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)} [البقرة: 87]، وقال -تعالى-: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ ¬

_ (¬1) انظر كلام الشاطبي عن هذا السبب في: الاعتصام ص 396 - 398، وانظر: وجوب لزوم الجماعة وترك التفرق، جمال أحمد ص 161 - 171. (¬2) التعريفات، الجرجاني ص 257. (¬3) الاعتصام ص 398.

أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)} [البقرة: 145] وقال -تعالى-: {فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)} [طه: 16]، وقال -تعالى-: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56)} [الأنعام: 56]، وقال -تعالى-: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)} [الكهف: 28]، وقال -تعالى-: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23)} [النجم: 23]، وقال -تعالى-: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23]، وقال -تعالى-: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43)} [الفرقان: 43]، وقال -تعالى-: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} [الأنعام: 153]، وغيرها من الآيات (¬1). ثالثًا: التقليد: وقد عنون له الشاطبي بـ "التصميم على اتباع العوائد وإن فسدت أو كانت مخالفة للحق"، وقال عنه: "هو اتباع ما كان عليه الآباء والأشياخ، وأشباه ذلك، وهو التقليد المذموم" (¬2)، وهو في حقيقته سبب عند من قلد وعرض لمرض أعمّ وأشمل. وقد جاءت النصوص في هذا الباب بذكر الآباء وبذكر الأحبار والرهبان، وإنّ في دعوى المقلدين اتباع آبائهم -مع أن الآباء فيهم الجاهل والعالم- تعبيرًا عن ثقل البيئة الضالة التي يقلدها المقلد، وفي اتباع الأحبار والرهبان نوع آخر من التقليد، فإن ضلال الآباء عام غير مخصص، أما الأحبار والرهبان فهو خاص؛ فهم قادة دينيون وعلميون، ومع ذلك فهم أشد إضلالًا لقومهم ولمن ¬

_ (¬1) انظر كلام الشاطبي على هذا السبب: الاعتصام ص 398 - 401، أيضًا: ص 431 ص 453 - 467، وانظر: وجوب لزوم الجماعة وترك التفرق، جمال أحمد ص 189 - 201. (¬2) الاعتصام ص 402.

قلدهم، وبهذا يأتي الخطر من عموم البيئة ومن قادتها. ومن تأمل في حال المتغربين وجد فتنتهم بهذين البابين، فقد وقع لهم من جنسهما أشكال، فيجد فتنتهم بعموم البيئة الغربية التي ينتسبون إليها، حتى إن منهم من أعلن كفره بالشرق وانتماءه للغرب، ويجد فتنتهم بقادتها الفكرية والعلمية. قال -تعالى-: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)} [البقرة: 170]، وقال -تعالى-: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)} [المائدة: 104]، وقال -تعالى-: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24)} [الزخرف: 22 - 24]، وقال -تعالى-: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]، وقال -تعالى-: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} [آل عمران: 7] "والزيغ هو الميل عن الحق اتباعًا للهوى" (¬1). ومن عادة العلماء ذكر هذه الأدلة في النهي عن كل تقليد مذموم، فالعبرة بعموم الدلالة (¬2). رابعًا: الفرقة والافتراق: قال د. ناصر العقل: "الافتراق في الشرع يُطلَق على أمور: 1 - التفرق في الدين، والاختلاف فيه. . . .، 2 - الافتراق عن جماعة المسلمين. . . . فمن خالف سبيلهم في أمر يقتضي الخروج عن أصولهم في الاعتقاد، أو الشذوذ عنهم في المناهج، أو الخروج على أئمتهم، أو استحلال السيف فيهم، فهو مفارق" (¬3)، ومن كان بهذه الحال فهو موطن تحذير الشرع، وهو من أسباب الانحراف، وقد اتصف أهل التغريب بهذه الحال. ¬

_ (¬1) الاعتصام ص 431. (¬2) انظر كلام الشاطبي عن هذا السبب: الاعتصام ص 402 - 403، وانظر: وجوب لزوم الجماعة وترك التفرق، جمال أحمد ص 219 - 229. (¬3) مقدمات في الأهواء. . . .، د. ناصر العقل ص 18 - 19.

قال -تعالى-: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)} [آل عمران: 105]، وقال -تعالى-: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} [الأنعام: 153]، وقال -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)} [الأنعام: 159]، وقال -تعالى-: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)} [الروم: 30 - 32]، وقال -تعالى-: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)} [الشورى: 13]، وغيرها من الآيات (¬1). خامسًا: النفاق: لقد جاء الحديث عن النفاق في القرآن بشكل واسع، مما يدل على خطورته وأثره في صناعة الانحراف، وهو مرض عضال يصيب طائفة من الناس، يتصف أهله بإظهار الإِسلام وإبطان الكفر، ومن مظاهره كراهية الإسلام، وكراهية شرائعه، وكراهية نبيه - صلى الله عليه وسلم - أو تكذيبه، وكراهية انتصار المسلمين أو قوتهم (¬2). قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ ¬

_ (¬1) انظر حول الافتراق: وجوب لزوم الجماعة ص 29 - 61 ص 74 - 84، وانظر: الاعتصام، الشاطبي، 428 - 429، والفرقة هي مرض من وجه وسبب لأمراض أخرى من وجه. (¬2) انظر: المنافقون في القرآن الكريم، د. عبد العزيز الحميدي ص 443 - 449.

شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)} [المائدة: 41]، وقال -تعالى-: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)} [التوبة: 107 - 108]، والآيات في ذلك كثيرة. وقد ظهر أمر النفاق وخطره في حال المتغربين ولاسيّما الغلاة منهم، فتجد من يدّعي الإسلام ثم يتقول بأعظم مقولات الكفر، ويعتدي على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعلى الإسلام وعلى القرآن. سادسًا: التشبه بالكفار: تُعد ظاهرة التغريب من أشهر صور التشبه بالكفار، وهو تشبه طال كل أمور المتغربين، وهو أمر يصرح به كُتاب علمانيون فكيف بغيرهم؟! فقد وقع انهيار نفسي كبير عند طائفة من المسلمين في العصر الحديث أمام الحضارة الغربية، وقادهم ذلك إلى التشبه العجيب بحال الكافرين. قال -تعالى-: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)} [الرعد: 37]، وقال -تعالى-: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)} [الجاثية: 18]، وقال -تعالى-: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)} [الحديد: 16]، وقال -تعالى-: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)} [البقرة: 120]، وقال -تعالى-: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} [النساء: 115]، وغيرها من الآيات. وقد أشبع شيخ الإسلام هذا السبب بيانًا وشرحًا وتوضيحًا في كتابه المشهور "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم" (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: السنن والآثار في النهي عن التشبه بالكفار، سهيل حسن، وانظر: التشبه المنهي =

فهذه الأمراض الخطيرة التي جاء التحذير منها في الوحي -وهي: الجهل والهوى والتقليد والفرقة والنفاق والتشبه بالكفار- هي من أهم مسببات الانحرافات في الأمة، وفقه هذا الأمر يعطينا العلاج لها، فإن نشر العلم الشرعي في الأمة من أعظم الأمور في الوقاية من الانحراف، ومن أعظم وسائل مقاومته، وإذا نُشر العلم وتعلَّمه الناس على مذهب أهل السنة والجماعة ساعد أيضًا -بإذن الله- في تحجيم الأهواء والافتراق والتقليد المذموم والتشبه المحرم، والعلم هنا هو العلم المصحوب بالعمل، فقد كثر تحذير السلف من علم دون عمل؛ لأنه علم لا ينفع كثيرًا (¬1). ومن العجيب أن نجد بعض من ينتمي إلى الفكر التغريبي قد تنبه إلى أهمية العلاج المديني، وحثّ على الاستفادة من هذا العلاج في مواجهة هذا التغرب المفزع، وقد عدد حسن حنف -مثلًا- صورًا يمكن بها إيقاف التغريب أو التخفيف منه، ومنها: إبراز الموقف الإسلامي من موالاة الكفار والتودد إليهم، فغاية الأعداء القضاء على هويتنا، وإظهار الموقف الإسلامي الرافض للتقليد والتبعية في السلوك وفي العقائد. . وهكذا (¬2)، فإذا كان هذا الكلام من قِبَل المنخرطين في العلمنة والتغريب فمن باب أولى على دعاة الإسلام أن يبذلوا جهدهم في نشر العلم والدين والدعوة إلى إيقاف مثل هذه الأمراض. ° القسم الثاني: الأسباب الأخرى الجزئية: بقي الآن أن نتلمس الأسباب الأخرى التي ما كان لها أن تعمل لولا الأسباب الكبرى السابقة التي حذر منها الشارع العليم الحكيم -سبحانه-، ولكن لوجود الأسباب الكبرى سَهُلَ على غيرها من المؤثرات أن تعمل وتؤثر دون صعوبة. سأكتفي في هذه الفقرة -إن شاء الله تعالى- بتعداد أهم ما وجدته من أسباب لظاهرة التغريب، وذلك أن تفصيلات كثيرة سيأتي ذكرها -بإذن الله- في ¬

_ = عنه في الفقه الإسلامي، جميل اللويحق، فضلًا عن كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم. (¬1) انظر مثلًا: اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي بتحقيق الشيخ الألباني. (¬2) انظر: مقدمة في علم الاستغراب، د. حسن حنفي ص 22 - 23.

الفصول الثلاثة "الثالث والرابع والخامس" من الباب الأول مع فقرات متنوعة من بقية البحث حول هذا الموضوع؛ ولهذا أكتفي في هذه الفقرة بتعداد الأسباب، ومن أهمها ما يلي: أولًا: الضعف والتخلف العام الذي لحق بالعالم الإسلامي في العصور الأخيرة: وهو يرتبط أساسًا بضعف التمسك بالدين على هدي سلف الأمة، وعادة ما يسمح الضعف بظهور الانحرافات دون القدرة على مقاومتها، والمجتمع في ذلك يشبه الجسد الحي، فإن الجسد إذا أُصيب بضعف أصبح معرضًا للفيروسات والأمراض، فهي تجد فرصتها عند ضعف المقاومة، وربما يكون منها القاتل. ومن صور الضعف: الضعف العلمي، والضعف الاقتصادي والسياسي والصناعي، والضعف العسكري، وقابلت هذا الضعف قوة مادية ودنيوية بكل مجالاتها عند الغرب، وكانت هذه القوة مصدر فتنة وإغراء، مما سمح بتسرب التغريب وانتشاره. ومن مشكلات الضعف ما يحدث من ولع الضعيف المنهار نفسيًا المصاب بهزيمة نفسية بتقليد القوي المشهور، وهو كما أنه حالة نفسية في الأفراد فهو حالة نفسية جماعية للمجتمعات إلا تلك التي تعتصم بدينها وهويتها. ثانيًا: الاتصال بالغرب: تأتي أغلب صور التأثر والتاثير من خلال الاتصال بين الحضارات والثقافات، وقد وقع تأثر من بعض المسلمين في عصر قوة الإسلام وضعف الحضارات الأخرى وظهرت فرق مختلفة بسبب ذلك الاتصال، والحال أكثر وضوحًا في زمن ضعف المسلمين وقوة الغرب المادية وتطوره الدنيوي الفاتن. فقد جاء الاتصال وقت تقدم الغرب مع غليان ساحته الفكرية بتيارات جديدة، ومن صور الاتصال التي وقعت في البدايات: أ- الرحلات الأولى الاستكشافية أو التجارية أو البعثات الدبلوماسية، إذ تولَّت هذه الشريحة الأولى وصف حال الغرب، وهو وصف لا يخلو من فتنة، وقد كان هذا من بدايات بروز أشخاص منبهرين بالحضارة الغربية. ب- الابتعاث من أجل تحصيل العلوم والمعارف الجديدة في الغرب، وُيعد الابتعاث أحد أبرز الظواهر الثقافية الخطيرة، وهو جديد على الأمة

الإسلامية، فقد كان الأمر مختلفًا في العصور الأولى، إذ غلب عليها مشروع الترجمة، ومن النادر ظهور حالات ذهاب إلى أمم أخرى لتحصيل العلوم إلا بشكل رحلات فردية. أما في العصر الحديث فقد برز مشروع الابتعاث، بما يعنيه ذلك من ذهاب عدد من الشباب في وقت حماسهم من جهة وضعفهم من جهة، ولاسيّما أنه إذا لم يتم الإعداد الجيد للشباب المبتعثين فسيكونون عرضة للافتتان بالحياة الفكرية والاجتماعية وبعموم الحضارة الغربية، فكيف إذا واجه هؤلاء الشباب مؤسسات وقوى غربية تحاول استثمارهم لمشروعات تغريبية أو مشروعات فكرية علمانية. وقد نجح الغرب في جعل الابتعاث عملية مستمرة؛ فهو يكسب منها ماديًا ويكسب منها معنويًا، ومن الواضح أن العالم الإسلامي لم ينجح في الاستقلال المعرفي بعد كل هذه السنين من الابتعاث. وما يهم هنا أن الابتعاث المستمر قد أصبح منفذًا خطيرًا للتغريب الفكري والاجتماعي، وقد كان أغلب رموز التغريب الفكري من المبتعثين، فقد تحولوا من نفع الأمة إلى تغريبها. ثالثًا: البيئة العلمية والثقافية الجديدة: لقد ارتبطت هذه البيئة بمشروع التحديث الأعرج، الذي قام على جانب العلم الدنيوي والثقافة البشرية وأهمل جانب العلم الشرعي، إذ نمت مؤسسات علمية وثقافية جديدة لا تهتم من جهة بالعلوم الإسلامية وهي مختَرَقة من جهة بمشكلات العلمنة والتغريب، ومن ذلك المدارس العصرية التي تمكن منها غير المسلمين في بداية مشروع التحديث، وما لحقها من مؤسسات علمية أعلى، ولاسيّما أنه في فترة من الزمن كان تحصيل العلم الدنيوي إما بالابتعاث أو من خلال كليات تبناها الغرب مثل "الجامعة الأمريكية اليسوعية" التي أسسها المنصّرون في بلاد الشام أو كلية "فكتوريا" التي أسسها "كرومر" في مصر لإخراج جيل متغرب، وقد تخرج في هاتين الكليتين وشبيهاتها زعماء التغريب وقادة التيارات الفكرية المتغربة. كما أن هناك حقلًا ثقافيًا وأدبيًا تكوَّن وكوَّن من الجيل المتغرب في مؤسسات ثقافية و"صالونات" وتجمعات وأندية وغيرها، وكانت مجال إشهار واسع للتغريب، وخاصة بعد تسلط هؤلاء على مؤسسات الآداب والفنون المختلفة واستغلالهم لها في نشر التغريب، وقد كانت أداة مهمة في ذلك بسبب حبّ الناس للمتع الفنية والأدبية، ومن ثمّ تسرُّب الأمراض من خلالها إلى المتلقين دون أن يشعروا بها.

رابعًا: دور وسائل الإعلام: لقد أصبح للإعلام شأنه في العصر الحديث؛ ولاسيّما بعد الاكتشافات المهمة للطباعة وما لحق بها من ظهور الصحافة ثم اخترع الإذاعة ثم الشاشة وقدرتها على توجيه الرأي العام. وقد كانت الصحافة الفكرية مخصصة لنخبة المجتمع، وقد لعبت الصحافة التغريبية دورًا خطيرًا في نشر التغريب، ولاسيّما أن انطلاقة مشروع الصحافة كان مع النصارى ولاسيّما الجيل المتغرب منهم، فبثّوا التغريب والعلمنة وأمراض كثيرة في وقت لم يكن لهم فيه منافس، مع حماية حصلوا عليها من بعض الولاة ومن الاستعمار فيما بعد. خامسًا: الطباعة والترجمة: لقد ازدهرت الطباعة والترجمة في العصر الحديث؛ فمع إدخال المطبعة نمت طباعة الكتب والمجلات والصحف، ومع تأسيس مدارس تعليم اللغات الغربية نمت ترجمة الكتابات الفكرية والعلمية الغربية، ولكن المكتبة الغربية العلمية عسيرة على الترجمة وعلى الفهم إلا من قِبَل عدد قليل، فجاء التحول إلى ترجمة ما لا ينفع أو ضرره أكثر من نفعه من الكتابات الفكرية والأدبية والفنية، ولاسيّما أنها ممتعة وغير عسيرة مثل الكتابات العلمية، ولكن ليس كل ممتع مفيد، ومن هنا جاء التوسع في طباعة الفكر الغربي المترجم، وهو فكر غلب عليه العلمنة والتكذيب بالدين والانفلات من قيمه. لقد كان لفوضى الطباعة والترجمة أثرهما على مسيرة الفكر الحديث، وأسهمت في توسع التغريب. سابعًا: دور الأقليات الدينية: لقد لعبت تلك الأقليات دورًا بارزًا في التغريب، فقد كانت أداة اختراق استخدمها الغرب لتغريب العالم الإسلامي، وذلك أن هذه الأقليات تملك صلات بالطرفين: بالعالم الإسلامي من جهة سكناها ومعرفتها الجيدة بواقع المسلمين، وبالغرب من جهة الروابط الدينية. وقد بدأ الأمر بالتدخل الغربي والضغط على الدولة العثمانية بطلب إعطاء امتيازات خاصة لتلك الأقليات والسماح للغرب بالتواصل معها، فتعلموا اللغات الأوروبية وحصلوا على رعاية أوروبية ودعم كبير، وصنع منهم الغرب نخبة متعلمة نجحت في التغلغل في مفاصل المجتمع الإسلامي الثقافية والفكرية والاجتماعية، وقد كان منهم المتدين

الذي رعته الإرساليات، وكان منهم العلماني الذي كان دوره أبرز في مسيرة التغريب، وقد تولى هؤلاء كثيرًا من المؤسسات مثل: المطبعة والصحافة والمدارس العصرية والكليات التي أسسها الاستعمار، وأسهم الكثير منهم في إنشاء الجمعيات "الماسونية" في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، ثم الجمعيات "القومية" و"الليبرالية" و"الماركسية" في أوائل القرن الرابع عشر/ العشرين، ثم في المذاهب الفلسفية وتيار الحداثة منتصف القرن نفسه وما بعده، فإن كل البحوث حول هذه الجمعيات والتيارات والأحزاب التغريبية قد شاركت فيها تلك الأقليات بدور كبير. وهذا الدور قد تحدث القرآن عن جنسه وذلك بحديثه عن طرق اليهود والنصارى في مواجهة الإسلام. ثامنًا: التيارات الفكرية التغريبية وجمعياتها وأحزابها ومؤسساتها: كما عرف الإسلام الفِرَقَ قديمًا فقد عرف المذاهب الفكرية حديثًا، ويمكن وضع تفريق يساعد على الدراسة، فالفِرقة غالبًا تكون أصولها دينية، فسبب افتراقها الأول هو الأصول الدينية التي أخذت بها، أما المذاهب الفكرية فأغلبها قد نشأ في الغرب العلماني النافر من الدين والساعي إلى تأسيس حياة فكرية بعيدة عنه، ومع ذلك فهي غير بعيدة عن الفِرَق الدينية؛ لأن كثيرًا من هذه المذاهب قد جعل من تلك الأصول الفكرية شبيهًا بالأصول الدينية، فعند معتنقيها من الإيمان بها والثبات عليها ومقاومة من يخالفها مثل ما عند الفِرَق وربما أكثر، ومن الأمثلة على ذلك أصحاب الاتجاهات الماركسية. وقد كان لهذه التيارات الفكرية التغريبية الدور الأقوى في نشر التغريب، فالظواهر الجديدة في حاجة إلى دعاة يرعونها وينشرونها بين الناس، وقد كان هذا من دور تيارات التغريب التي تغلغل التغريب في أصحابها كما يتجارى داء الكلب بصاحبه، وقاموا على نشره بين الناس، ولاسيّما بعد أن وجد فيهم الغرب أداة مناسبة لمواصلة الهيمنة الفكرية وغير الفكرية على العالم الإسلامي. وتختلف التيارات الفكرية -ولاسيّما إذا أصبح لها جمعيات وأحزاب- عن غيرها بتلك القوة التي تحصل عليها بسبب توحد معتنقيها في تيار واحد يجمعهم وينظم جهودهم وحركتهم، وقد مكنتهم تلك القوة في بعض الفترات من الوصول إلى السلطة ومن ثم استغلال مؤسسات الدولة في بثّ التغريب، ومن

الأمثلة البارزة على ذلك جمعية "تركيا الفتاة" أو "الاتحاد والترقي" التي نجحت في الوصول إلى السلطة وإسقاط الدولة العثمانية، وإلغاء كثير من مظاهر الإسلام ومؤسساته، وفرض نمط تغريبي علماني شديد الغلو. تاسعًا: الدور الغربي الحديث: إن التحدي الغربي قديم ولم يتغير، فقد كانت المواجهات مع الروم طويلة ومستمرة، ويمثل سقوط القسطنطينية أحد المنعطفات المهمة في حياة الغربيين، وقد حاولوا التعويض زمن الحروب الصليبية ولكنهم أُخرجوا بعد قرنين، عندها انكمش الغرب على ذاته فترة طويلة من الزمن وفي ذاكرته هذا العدو الذي طردهم من فلسطين وطردهم من القسطنطينية وحاصرهم داخل قارتهم فترة طويلة من الزمن. وبعد تطورات خطيرة داخل القارة الأوروبية وتحولها إلى قوة جديدة وخطيرة تموج بتيارات خطيرة، عندها عادت طموحاتها من جديد لاختراق العالم الإسلامي، وكانت أولى المحاولات عن طريق الحملة الفرنسية على مصر، وبعدها انفتحت شهيتها نحو العالم الإسلامي، وقد جعلت من أهم طرقها لتحقيق ذلك تغريب المجتمع المسلم. ومن أخطر الأدوار الغربية لتغريب المجتمعات الإسلامية ما يأتي: أ - الاستعمار. ب - الاستشراق. جـ - الصهيونية. د - التيارات الفكرية الغربية. وقد كان الاستعمار أخطرها؛ وذلك أنه بعد نجاحه في الاستيلاء على كثير من بلاد المسلمين قام بتوجيه كل المؤسسات بما يحقق هدفه في تغريب المجتمع، ومن أهم نجاحاته قيامه بتكوين طائفة متغربة تقوم بالدور نيابة عنه في تغريب المجتمعات المسلمة. أما دور الاستشراق فهو تغريب العقل الإسلامي بحيث ينظر إلى تراثه ودينه وهويته من خلال المنظور الغربي الاستشراقي، فوضع المتغربون بينهم وبين دينهم وتراثهم وسيطًا خطيرًا، وقد افتتن كثير من المتغربين بهذه الدراسات الاستشراقية.

وترتبط بالاستعمار وريثته الصهيونية، فما خرج الاستعمار إلا بعد غرس جرثومة خطيرة داخل العالم الإسلامي، تقوم برعاية اليهود داخل البلاد الإسلامية ولاسيّما من خلال دولتهم التي أقاموها في فلسطين، وتقوم في الوقت نفسه برعاية المصالح الغربية، ويتبع الدور اليهودي دورُ الأقليات السابق ذكرها، وقد حدثنا القرآن عن التعاون بين اليهود والمنافقين وبين اليهود وأعداء الإسلام من المشركين، وهو يتكرر في زمننا هذا، ولاسيّما من جهة التعاون العلني والخفي بين اليهود وبين المتغربين، مع أن وضع دولتهم قد نفَّر المجتمعات المسلمة من كل متغرب يظهر تعاونه معهم، فتبقى الأدوار الخفية هي الأهم في هذا الباب. أما التيارات الفكرية الغربية فهي تيارات ذات أبعاد أيديولوجية، وترغب مع دعاتها في تعميم فكرها، وقد رحل السيمينيون أتباع سان سيمون والماسون مع الحملات الأولى لبث أفكارهم ومشروعاتهم داخل العالم الإسلامي في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، أما في القرن اللاحق فقد نشط المعسكران: الشيوعي والرأسمالي في الانتشار من خلال التيارات الفكرية داخل العالم الإسلامي، وقد كانت التيارات الغربية تحصل على الدعم من أجل مدّ النفوذ داخل البلاد الإسلامية لتغريب المجتمع، ومن الطبيعي أن يرعى كل تيار غربي الفرع العربي الذي يمثله داخل البلاد الإسلامية. فهذه القوى الغربية الخطيرة نشطت نشاطًا محمومًا داخل العالم الإسلامي لما يقرب من قرنين من أجل تغريب المجتمع، ولا يُستغرب نجاحه في إيجاد طائفة متغربة، فنشاطٌ بكل هذه القوة الفكرية والمادية وأخَذَ كل هذا الوقت ومارس كل الأساليب لابد أن يحقق ثمرة جهده، ومع ذلك فقد كان لمشروعات الجهاد الإسلامية الفكرية والمادية دورها في تخفيف وطأة الهجمة التغريبية وإبطال كثير من مشروعاتها. فهذه مجموعة أسباب كان لها دورها في ظاهرة التغريب، وقد يكون بعضها أكبر من بعض ولكنها بمجموعها تشبه النهر وروافده، فالانحراف الفكري الحديث يشبه النهر الملوث، وهذا النهر تكوَّن من مجموعة من الروافد التي تصب فيه، فهي تأتي من أماكن مختلفة، وبعضها يلتقي قبل الصب فيه، ثم تصل إليه ملوِّنةً ماءه بحسب ما تلوّنت به، ومغيِّرةً وضعه بحسب حالها، وهي إن كانت غزيرة وكثيفة زادت من قوته، وإن كانت ضعيفة ضَعُفَ حال ذلك النهر، وبقدر ما

تُقفل تلك الروافد أو يُخفف من حجمها أو يُغيَّر في تركيبتها السيئة بقدر ما يكون لذلك له أثره في هذا النهر. لقد كان لهذه الأسباب دورها في ظاهرة التغريب، وأصبح الاتجاه التغريبي اتجاهًا واضحًا في المجتمع المسلم، وهو اتجاه لا يتفق مع هوية الأمة، وهو خليط من تيارات تختلف في مسافة بُعدها عن الدين، ففي بعض مستويات هذا الخليط نجد الإلحاد الصرف الذي يجعله في أقصى الشرّ، ومنه ما هو دون ذلك. وهذا الخليط الفكري والاجتماعي المنحرف يحتاج إلى الدعوة والمجادلة والمجاهدة، فالدعوة تكون في حق كل غافل أو ضال وهم كُثُر في هذا الاتجاه، كما أنهم موضع مجادلة ومجاهدة واحتساب من قبل العلماء والمفكرين والباحثين، والنموذج التغريبي ليس بجديد وإن غيّر من شكله، ولذا فالموقف الدعوي والاحتسابي ليس جديدًا أيضًا، وهذا من قَدَر هذه الأمة الكوني والشرعي؛ فالكوني بظهور الانحراف، والشرعي بالقيام على تغييره أو الحدّ منه، لتظهر عبوديات كثيرة من دعوة ومجاهدة ومجادلة واحتساب وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وبهذا لا نستغرب وجود تيار ضال، ولكن من المهم تحقيق العبوديات التي أُمرنا بها بحسب الحاجة وحسب الاستطاعة. ° الفكر التغريبي والعلم الحديث ونظرياته: بعد أن تعرفنا على العلم الحديث ونظرياته وعلى الفكر التغريبي وأسباب نشأته، يأتي الحديث عن العلاقة بينهما، فهدف البحث هو الدراسة النقدية لمشكلة العلاقة السيئة بين الاتجاه التغريبي وبين العلم الحديث ونظرياته؛ وذلك أن الاتجاه التغريبي بسبب توجهه العلماني وقع تحت تأثير علمنة العلم الغربية وما ارتبط بها من مناهج ونظريات وفلسفات ذات موقف سلبي أو عدائي لكل ما هو ديني. ويدور الأمر بين التأثر بفلسفات ارتبطت بالعلم ونظرياته أو استغلت العلم ونظرياته من جهة، وهذا غير مستغرب من اتجاه وقع في أسر تقليد المذاهب الغربية، وبين الاستغلال للعلم الحديث ونظرياته في مواجهة الإسلام من جهة أخرى، وهو غير مستغرب أيضًا من اتجاه انفصل عن أمته والتصق بالعلمانية والمادية، وما بين هذين الأمرين "التأثر والاستغلال" قامت علاقة الاتجاه التغريبي بالعلم الحديث ومناهجه ونظرياته وفلسفته.

ثالثا: الموقف الإسلامي من العلوم التجريبية وأمثالها

ثالثًا: الموقف الإسلامي من العلوم التجريبية وأمثالها الموقف الإسلامي من العلم موقف لا مثيل له؛ فالعلم والإسلام توأمان لا ينفصلان، لقد وضع الإسلام العلم في منصّةٍ عالية، فبوابة الإسلام هي العلم، وقد عقد البخاري - رحمه الله - بابًا مهمًا في صحيحه فقال: "باب العلم قبل القول والعمل"، قال ابن حجر - رحمه الله - في الفتح: "قال ابن المنير: أراد به أن العلم شرط في صحة القول والعمل، فلا يُعتبران إلا به، فهو متقدم عليهما لأنه مصحِّح للنية المصحِّحة للعمل، فنبه المصنف على ذلك حتى لا يسبق إلى الذهن من قولهم: "إن العلم لا ينفع إلا بالعمل" تهوين أمر العلم والتساهل في طلبه" (¬1)، وفي الحديث عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "طلب العلم فريضة على كل مسلم" (¬2). ويكفي دلالة على مكانة العلم في الإسلام أن أول سورة نزلت كان فيها الحديث عن العلم ووسائله، وهي سورة العلق التي ابتدأت بـ "اقْرَأْ" وجاء فيها توجيه الإنسان إلى نعمة القلم ونعمة العلم التي أعطانا الله إياها، فقال -تعالى-: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [العلق: 1 - 5]، قال القرطبي - رحمه الله -: "قوله -تعالى-: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)} ـ يعني الخط والكتابة؛ أي: علم الإنسان ¬

_ (¬1) فتح الباري 1/ 160. (¬2) سنن ابن ماجه، برقم (220) من المقدمة، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، وصححه الألباني في (صحيح سنن ابن ماجه) برقم (183)، وفي سلسلة الأحاديث الضعيفة برقم (416)، أما من ضعَّف سنده من العلماء فقد قال بصحة معناه، انظر مثلًا: مفتاح دار السعادة. .، لابن القيم ص 156.

الخط بالقلم. وروى سعيد عن قتادة قال: "القلم نعمة من الله تعالى عظيمة، لولا ذلك لم يقم دين، ولم يصلح عيش". فدل على كمال كرمه سبحانه، بأنه علَّم عباده ما لم يعلموا، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم، ونبه على فضل علم الكتابة؛ لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إلا هو. وما دُوِّنت العلوم، ولا قُيِّدت الحِكَم، ولا ضُبطت أخبار الأولين ومقالاتهم، ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة، ولولا هي ما استقامت أمور الدين والدنيا. . . ." (¬1). وقال الشيخ عطية سالم: ". . . . ثم لم يقتصر - صلى الله عليه وسلم - في عنايته بالقلم والتعليم به عند كتابة الوحي، بل جعل التعليم به أعم، كما جاء خبر عبد الله بن سعيد بن العاص: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يعلم الناس الكتابة بالمدينة، وكان كاتبًا محسنًا" ذكره صاحب الترتيبات الإدارية عن ابن عبد البر في الاستيعاب. وفي سنن أبي داود عن عبادة بن الصامت قال: "علّمت ناسًا من أهل الصفة الكتابة والقرآن". . . . وأبعد من ذلك ما جاء في قصة أسارى بدر، حيث كان يفادي بالمال من يقدر على الفداء، ومن لم يقدر -وكان يعرف الكتابة- مفاداته أن يعلِّم عشرة من الغلمان الكتابة، فكثرت الكتابة في المدينة بعد ذلك. . . . فإذا كان المسلمون -وهم في بادئ أمرهم، وأحوج ما يكونون إلى المال والسلاح، بل واسترقاق الأسارى- فيقدمون تعليم الغلمان الكتابة على ذلك كله، ليدل على أمرين: أولهما: شدة وزيادة العناية بالتعليم. وثانيهما: جواز تعليم الكافر للمسلم ما لا تعلُّق له بالدين، كما يوجد الآن من الأمور الصناعية، في الهندسة، والطب، والزراعة، والقتال، ونحو ذلك. وقد كثر المتعلمون بسبب ذلك، حتى كان عدد كتَّاب الوحي اثنين وأربعين رجلًا ثم كان انتشار الكتابة مع الإسلام. . . . " (¬2). ¬

_ (¬1) تفسير القرطبي، 20/ 120. (¬2) من تكملته أضواء البيان 9/ 356 - 357، وحديث عبادة في سنن أبي داود برقم (3416)، كتاب الإجارة، باب كسب المعلم، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (256)، وحديث أسارى بدر في مسند الإمام أحمد برقم (2216) من طبعة بيت الأفكار الدولية، وقال فيه ابن كثير: انفرد به أحمد وهو على شرط السنن، السيرة النبوية 2/ 512.

وبعد هذه المنزلة الكبيرة التي جعلها الإسلام للعلم جاء دوره في وضع صورة جديدة لمفهوم العلم، فهناك إعادة تشكيل جذرية لمفهوم العلم تطال كل أموره، تطال المضمون والترتيب والغاية، فقد جاء الإسلام بعد أن وصل العالم إلى مرحلة صعبة من الجهل والظلم، فجاء بالتوحيد والعلم والعدل، فكان من رسالة الإسلام رفع شأن العلم بعد ملئه بمضمون جديد يقوم على العلم بالله وبدينه وبشرعه وبأمره ونهيه وبما أنزله مما يُصلح حال العالم، وأعاد ترتيب الأولويات في العلم، وكان قد أُهمل علم الدين الحق، ووُضع عند من بقي عندهم منه شيء في أسفل الهرم، وانشغل الناس بعلوم محرمة أو مفضولة وقدموها على العلم الأهم، وأخيرًا ربط الإسلام العلم بقيم وغايات قد غفل عنها البشر. فانطلقت الأمة الوليدة بهذا العلم الذي ورثته عن نبيها - صلى الله عليه وسلم -، كما أنها قد أخذت علوم الأمم النافعة وأدخلتها ضمن المفهوم الجديد للعلم. ومن بين النصوص القديمة -نسبيًا- والشاملة نجد كلامًا نفيسًا حول القضايا السابقة لابن عبد البر - رحمه الله - (368 - 463 هـ)، نختصر منه بعض المعالم رغم طوله وأهميته إذ قال: "باب العبارة عن حدود علم الديانات وسائر العلوم المتصرفات بحسب تصرف الحاجات وسائر العلوم المنتحلات عند جميع أهل المقالات"، بدأه بتعريف العلم وأقسامه فقال: "حد العلم عند العلماء والمتكلمين في هذا المعنى هو ما استيقنته وتبينته، وكل من استيقن شيئًا وتبينه فقد علمه،. . . . والعلوم تنقسم قسمين: ضروري ومكتسب، فحد الضروري ما لا يمكن العالم أن يشكك فيه نفسه ولا يُدخل فيه على نفسه شبهة، ويقع له العلم بذلك قبل الفكرة والنظر، ويدرك ذلك من جهة الحس والعقل، كالعلم باستحالة كون الشيء متحركًا ساكنًا،. . . . وأما العلم المكتسب فهو ما كان طريقه الاستدلال والنظر، ومنه الخفي والجلي، فما قرب منه من العلوم الضرورية كان أجلى، وما بَعُد منها كان أخفى. والمعلومات على ضربين: شاهد وغائب، فالشاهد ما عُلم ضرورةً، والغائب ما عُلم بدلالة من الشاهد. والعلوم عند جميع أهل الديانات ثلاثة: علم أعلى، وعلم أسفل، وعلم أوسط. فالعلم الأسفل هو: تدريب الجوارح في الأعمال والطاعات، كالفروسية والسياحة والخياطة وما أشبه ذلك من الأعمال التي هي أكثر من أن يجمعها كتاب أو أن يأتي عليها وصف. والعلم الأعلى عندهم: علم الدين الذي لا

يجوز لأحد الكلام فيه بغير ما أنزل الله في كتبه وعلى ألسنة -أنبيائه صلوات الله عليهم أجمعين- نصًا ومعنى، ونحن على يقين مما جاء نبينا - صلى الله عليه وسلم - عن ربه - عز وجل - وسَنَّه لأمته من حكمته، فالذي جاء به القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، شفاء ورحمة للمؤمنين، آتاه الله الحكم والنبوة فكان ذلك يُتلى في بيوته قال الله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34] يريد: القرآن والسنة، ولسنا على يقين مما يدَّعيه اليهود والنصارى في التوراة والإنجيل؛ لأن الله قد أخبرنا في كتابه عنهم أنهم يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنًا قليلًا ويقولون هو من عند الله، وما هو من عند الله، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون. فكيف يؤمَّن من خان الله وكذب عليه وجحد واستكبر؟ قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 51] وقد اكتفينا -والحمد لله- بما أنزل الله على نبينا - صلى الله عليه وسلم - من القرآن وما سَنَّه - عليه السلام -". ثم توقف مع علم اللسان وفائدته في معرفة "علم الدين الذي هو أرفع العلوم وأعلاها، به يُطاع الله ويُعبَد وُيشكر ويُحمد، فمن عَلِمَ من القرآن ما به الحاجة إليه وعرف من السنة ما يعوِّل عليه ووقف من مذاهب الفقهاء على ما نزعوا به وانتزعوه من كتاب ربهم وسنة نبيهم حصل على علم الديانة، وكان على أمّة نبيه مؤتمنًا حق الأمانة إذا أبقى الله فيما علمه، ولم تمل به دنيا شهوته أو هوى يرديه، فهذا عندنا العلم الأعلى الذي نحظى به في الآخرة والأولى". وبعد إعادة صياغة مفهوم العلم الديني ووضعه في مكانه يأتي إلى العلوم البشرية، فيذكر أهمها وأشهرها، مع بيان الموقف منها الذي هو الموقف في كل حين، وهنا تظهر نظرة العالم المسلم إلى العلوم من حوله وتقييمها من خلال الإسلام، وقد اصطُلح على تسمية هذا الموقف في الدراسات المعاصرة بالتأصيل الإسلامي للمعرفة، فقال: "والعلم الأوسط هو معرفة علوم الدنيا التي يكون معرفة الشيء منها بمعرفة نظيره، وُيستدل عليه بجنسه ونوعه كعلم الطب والهندسة. وهذا التقسيم في العلوم كذلك هو عند أهل الفلسفة (¬1)، إلا أن العلم ¬

_ (¬1) انظر أيضًا حول هذا التقسيم مع نقد مختصر: الفتاوى، ابن تيمية 9/ 125 - 131.

الأعلى عندهم هو علم القياس في العلوم العُلوية التي ترتفع عن الطبيعة والفلك، مثل الكلام في حدوث العالم وزمانه، والتشبيه ونفيه، وأمور لا يُدرَك شيء منها بالمشاهدة ولا بالحواس، قد أغنت عن الكلام فيها كتب الله الناطقة بالحق المنزلة بالصدق وما صح عن الأنبياء صلوات الله عليهم، ثم العلم الأوسط والأسفل عندهم على ما ذكرنا عن أهل الأديان إلا أن العلم الأوسط ينقسم عندهم على أربعة أقسام هي كانت عندهم رؤوس العلوم، وهي علم الحساب والتنجيم والطب وعلم الموسيقى. . . ."، ثم تحدث عن هذه العلوم الأربعة وبيان الصحيح منها والباطل عند أهل الدين، وذكر أثرًا له دلالته المهمة عن أبي إسحاق الحربي قال: "العلوم ثلاثة: علم دنياوي وأخروي، وعلم دنياوي، وعلم لا للدنيا ولا للآخرة؛ فالعلم الذي للدنيا والآخرة علم القرآن والسنن والفقه فيهما، والعلم الذي للدنيا علم الطب والتنجيم، والعلم الذي لا للدنيا ولا للآخرة علم الشعر والشغل به"، وبعد كلام مهم حول هذه العلوم ختم بعلم الدين في الإسلام فقال: "واتفق أهل الأديان أن العلم الأعلى هو علم الدين، واتفق أهل الإسلام أن الدين تكون معرفته على ثلاثة أقسام: أولها معرفة خاصة الإيمان والإسلام،. . . . والقسم الثاني معرفة مخرج خبر الدين وشرائعه،. . . . والقسم الثالث معرفة السنن واجبها وأدبها، وعلم الأحكام. . . ." (¬1). ومن الأمور المنهجية المهمة التي وقف معها هذا الإمام الكبير أنه -أثناء حديثه عن علم الدين- يذكر منهجية المسلم في هذا الباب، وهي: الاكتفاء بما في الوحي وأهمية العناية بصحة الخبر، فعلم الدين عمدته -كما سبق أول التمهيد- على السمع، بينما إذا جاء إلى علوم الدنيا نجده ينبه إلى "المشاهدة والحواس"، وما يقبله العقل ويقوم عليه البرهان، وذلك أن عمدتها على البصر، وهي ظاهرة في المنهج الإسلامي نحو العلم، فالدين عمدته الوحي، وفهمه يكون بما وُرِث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقامه سلف الأمة، أما الدنيا -بعد معرفة الحلال والحرام فيها- فعمدتها على الحس والمشاهدة والعقل، وبهذا يقوم علم الدين وعلم الدنيا على منهجية صحيحة. ¬

_ (¬1) انظر: تهذيب جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر ص 163 - 169، هذبه أبو عماد السخاوي.

° توجيه الإسلام للعلم وتيسير طرقه: ولمنزلة العلم في الإسلام جاءت النصوص قوية وصريحة في الحثّ عليه وترتيب الأجور العظيمة على طلبه ونشره، وقد خصص العلماء لذلك مصنفات في فضل العلم وطلبه، فضلًا عن أن أغلب كتب العلم الشرعي تبدأ بمقدمات تذكر فضل العلم، وهي دلالة بيّنة على منزلة العلم في الإسلام ومكانته (¬1). وقد فتح الإسلام جميع المنافذ نحو العلم النافع، وأزال الحواجز والمعيقات، فمن نظر في الإسلام وجد أنه ما ترك طريقًا يوصل إلى العلم النافع إلا دلّ عليه، وما من حاجز يعيق العلم النافع إلا حذّر منه، فما بقي بعد ذلك من عذر لأحد في طلب العلم، ففضل طالبه كبير، والطرق إليه ميسرة وصحيحة والعوائق مُزالة، وهذا يكشف تلك الظاهرة العجيبة التي ارتبطت بظهور الأمة الإسلامية، وهي مكانة العلم في هذا الدين العظيم، فإذا أصابها ضعف وجهل فهذا دلالة على بعدها عن تعاليم دينها، وهنا بعض معالم التوجيه الإسلامي في هذا الباب، وسأقسمها -إن شاء الله تعالى- إلى قسمين: الأول: من صور فتح الباب نحو العلم النافع. والثاني: من صور إزالة العوائق أمام العلم النافع (¬2). الأول: من صور فتح الباب نحو العلم النافع: وهو باب كبير، والقصد فقط التنبيه بالبعض على الكل، فمن ذلك: 1 - بيان سعة العلم، وأن ما عند البشر شيء قليل، وأثر هذا البيان على المسلم: قال -تعالى-: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)} [الكهف: 109]، وقال -تعالى-: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ ¬

_ (¬1) انظر تلك الوقفات المهمة حول فضل العلم ومنزلته في مفتاح دار السعادة، لابن القيم 1/ 48 - 187 بعنوان: (الأصل الأول في العلم وفضله وشرفه وبيان عموم الحاجة إليه، وتوقُّف كمال العبد ونجاته في معاشه ومعاده عليه). (¬2) انظر مثلًا في هذا الباب: أسس المنهج القرآني في بحث العلوم الطبيعية، د. منتصر مجاهد، وانظر: الإسلام والعلم، د. منصور محمد، وانظر: الإسلام والعلم التجريبي، د. يوسف السويدي.

مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)} [لقمان: 27]، قال الشيخ السعدي - رحمه الله - في آية الكهف: "فلو جُمع علم الخلائق من الأولين والآخرين، أهل السماوات وأهل الأرض، لكان بالنسبة إلى علم العظيم أقل من نسبة عصفور وقع على حافة البحر فأخذ بمنقاره من البحر بالنسبة للبحر وعظمته، ذلك بأن الله له الصفات العظيمة الواسعة الكاملة، وأن إلى ربك المنتهى" (¬1). وقال -تعالى-: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76]، قال ابن كثير - رحمه الله -: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} قال الحسن البصري: ليس عالِم إلا فوقه عالِم، حتى ينتهي إلى الله - عز وجل -. . . . عن ابن عباس: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} قال: يكون هذا أعلم من هذا، وهذا أعلم من هذا، والله فوق كل عالِم. وهكذا قال عكرمة. وقال قتادة: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} حتى ينتهي العلم إلى الله، منه بُدئ وتعلمت العلماء، وإليه يعود" (¬2). وقال -تعالى-: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} [الإسراء: 85]، قال ابن كثير - رحمه الله -: "وقوله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} أي: من شأنه، ومما استأثر بعلمه دونكم؛ ولهذا قال: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} أي: وما أطلعكم من علمه إلا على القليل، فإنه لا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء تبارك وتعالى. والمعنى: أنَّ عِلْمكم في علم الله قليل، وهذا الذي تسألون عنه من أمر الروح مما استأثر به تعالى، ولم يُطلعكم عليه، كما أنه لم يُطلعكم إلا على القليل من علمه تعالى. وسيأتي إن شاء الله في قصة موسى والخضر أن الخضر نظر إلى عصفور وقع على حافة السفينة، فنقر في البحر نقرة؛ أي: شرب منه بمنقاره، فقال: يا موسى، ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور من هذا البحر. أو كما قال صلوات الله وسلامه عليه؛ ولهذا قال تبارك وتعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} " (¬3)، والحديث الذي ذكره عن موسى - عليه السلام - والخضر دليل عظيم في الباب، فإن موسى - عليه السلام - عندما طلب الخضر ¬

_ (¬1) تفسير السعدي ص 489. (¬2) تفسير ابن كثير ص 684. (¬3) تفسير ابن كثير ص 790 - 791.

إنما طلبه للعلم، وجاء في الحديث "فجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر نقرة أو نقرتين في البحر، فقال الخضر: يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كنقرة هذا العصفور في البحر" (¬1). وهذا البعد الذي يرسخه الإسلام حول العلم له أهميته، فكل علم هو من الله سبحانه، وكل علم البشر لا يساوي شيئًا في علم الله سبحانه، وبهذا مهما بلغت علوم البشر من الكثرة والإبهار فهي نقطة بل لا شيء في علمه سبحانه، وإدراك هذا الأمر له أهميته، ومن صور الأهمية: عدم الغرور بما يصل إليه البشر من علم، بل ذاك يدفع أهله إلى التواضع، ومن ثمّ شكر المولى على ما فتح على الناس من علم والانتفاع به بما يرضي الرب سبحانه، والأمر الثاني الذي نستفيده من هذا الأمر أن العلم بحر لا نهاية له، وعلى المسلم طلب المزيد من العلم الذي ينفعه، وعلى المسلمين عدم الوقوف عند أي باب من العلم إلا في باب جاء الشرع بطلب التوقف فيه، وما عداه فالعلم بحر واسع وعلى الناس الأخذ منه دون توقف، وأعلاه العلم بالله وبما يوصلنا إليه، ويدخل في ذلك تبعًا كل علم نافع يحتاجه الناس. وهذا الأصل العظيم يجعل الأمة متوازنة في تحصيل العلم وفي موقفها من العلم، فلا تغتر بما حصلت عليه كما حدث للكفار من الاغترار بما وصلوا إليه من علوم، ولا تقف عند حدّ في طلب النافع منه. وتبع الأمر السابق بيان أن كل علم البشر هو من الله سبحانه، فهو الذي خلق الكون بسننه التي يكتشف منها البشر شيئًا بعد شيء، وهو الذي خلق للإنسان أدوات التعلم والإدراك من سمع وبصر وعقل، فيكون ما يحصلون عليه من علم هو من الله، ويعلمون في النهاية أن ذلك مما يفتح الله به على خلقه قال -تعالى-: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: 113]، وقال -تعالى-: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ ¬

_ (¬1) متفق عليه، البخاري برقم (119) كتاب العلم، باب ما يستحب للعالم إذا سُئل: أي الناس أعلم؟ فيكل العلم إلى الله، ومسلم برقم (4385) كتاب الفضائل، باب من فضائل الخضر - عليه السلام -.

إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)} [البقرة: 255]، ومن استشعر هذا الأمر أقام العلم بما يرضي الرب سبحانه، بخلاف من ظن أنه من قدرات العقول وحدها فتجده ينحرف بهذا العلم. ومن استشعر أن كل علم هو من الله، تجده يلجأ إلى ربه دائمًا في طلب العلوم، وحتى الدنيوية منها ما دامت صحيحة ونافعة، والإنسان يؤجر في ذلك بحسب نيته. 2 - دعوة القرآن إلى استخدام العقل في بابه الصحيح وبيان منزلة العلم: والآيات وإن قصدت في البدء إلى تحريك العقل نحو مقاصد دينية، إلا أن في ذلك توجيهًا صريحًا لتشغيل العقل وعدم إهمال شأنه، فجاءت آيات تدعو إلى النظر، وإلى التبصر، وإلى التدبر، وإلى التفكر، وإلى الاعتبار، وإلى التفقه، وإلى التذكر، وآيات في ذمّ الذين لا يعقلون وغيرها (¬1)، وغذاء العقل هو العلم، وقد جاءت آيات وأحاديث في الحث على العلم والتعلم بصور وأشكال مختلفة بالأمر الصريح أو بمدح العلم وأهله، أو بذكر الأجر، أو بذكر التميز، أو بذكر المآل الحسن. . . . وغيرها من الصور التي عُرض بها العلم في الكتاب والسنة (¬2)، وهذا باب يصعب سرد نصوصه فهي من الكثرة والتنوع بما يتعذر في مثل هذا المختَصَر ذكرها، ولكن من المهم الاعتبار بدلالتها على منزلة العلم في الإسلام، وعلى أهمية إعمال العقل فيما يقرِّب من الله وفيما ينفع من أمور الدين والدنيا، ومن هنا يُعلم أنه ما وُجد من حث على العلم وإعمال العقل مثل ما وُجد في الإسلام. 3 - حثّ الإنسان على استخدام الحواس في طلب العلم، وقد سبق هذا في أول التمهيد. 4 - طلب الحجة والبرهان، والصدق واليقين، والحق والقسط، وهي أمور لا تتحقق إلا بالعلم، فطلبها هو طلب العلم، وطلبها يقتضي العناية بالعلم، قال -تعالى-: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111]، وقال -تعالى-: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 64]، وقال -تعالى-: ¬

_ (¬1) انظر: القرآن والنظر العقلي، فاطمة إسماعيل ص 66 - 80. (¬2) انظر: مفتاح دار السعادة، ابن قيم الجوزية ص 1/ 48 وما بعدها، سبق ذكره.

{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)} [الأنبياء: 24]، وقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} [التوبة: 119]، وقال -تعالى-: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)} [البقرة: 42]، وقال -تعالى-: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [الأعراف: 169]، وقال -تعالى-: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)} [يونس: 36]، وقال -تعالى-: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28)} [النجم: 28]، وغيرها من الآيات. وفي الجملة فإن من تتبع القرآن وجده يحث على العلم وييسر كل طريق إليه، فإن هذه الشريعة العظيمة عندما تحث على باب أو تأمر به تجدها تيسر كل طريق إليه، وفي المقابل فإنها تُقفل كل باب يكون سببًا في تعطيل المأمور به، وفي الفقرة الآتية بعض ما يدلّ على ذلك. الثاني: من صور إزالة العوائق أمام العلم النافع: وكما فتح الإسلام الباب للعلم النافع فقد أزال كل العوائق التي تعيقه، ومن ذلك مثلًا التحذير من اتباع الظن، واتباع الهوى، ومن الجدل المذموم، ومن البغي، والريب، ومن تبديل كلام الله، ومن تحريف الكلم عن مواضعه، ونهى عن تقليد الآباء والزعماء والأحبار والرهبان بالباطل، ومن ذلك محاربته للخرافة من السحر والشعوذة والتنجيم، والخرافات التي تتعلق بالتصور والاعتقادات الغيبية، وغيرها من المنهيات التي غاية النهي عنها صلاح حال المسلم في دينه ودنياه. وقد سبقت آيات في النهي عن اتباع الظن في الفقرة السابقة، فالابتعاد عن الظن يعني الحرص على اليقين والحق والعلم والصدق، وفي النهي عن اتباع الهوى قال -تعالى-: {فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء: 135]، وقال -تعالى-: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26]، وجاء التحذير من تحريف الكلم عن مواضعه فذاك من التلاعب بالحق والعلم، قال -تعالى-: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 13]، وقال

-تعالى-: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء: 46]، ومثله النهي عن تبديل العلم والحق فقال -تعالى-: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)} [البقرة: 181]، وجاء في النهي عن التقليد المحرم أدلة منها: قوله -تعالى-: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)} [البقرة: 170]، وقال -تعالى-: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)} [البقرة: 171]، وقال -تعالى-: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22)} [الأنفال: 22]، وقال -تعالى-: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)} [الفرقان: 44]، فما أعظم هذا الوصف لمن أقفل حواسه عن الحق، وقال -تعالى-: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43)} [الزمر: 43]، وهي وإن كانت في باب الوصية فالعبرة بعموم اللفظ. أما ما جاء في المحرمات من مثل السحر والتنجيم والشعوذة والخرافات التي يتصورها الكفار حول الملائكة والجن وأصنامهم المعبودة فقد جاء التوحيد لمحاربتها، فكما أنها عائق عن تحقيق التوحيد فهي عائق عن العلم النافع، والأدلة في ذلك كثيرة. فمن تأمل هذا الباب عَلِمَ عظمة هذا الدين الذي ما ترك باب خير إلا دلنا عليه وما ترك باب شر إلا نهانا عنه، وعلم أن الشرع قد حث على العلم وحث على أسبابه ويسر الطرق إليه، وأنه في المقابل حذر من الجهل وأقفل الأسباب الموصلة إليه، فلله الحمد على نعمة الإسلام ونعمة القرآن، قال -تعالى-: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)} [إبراهيم: 1]، قال الشيخ السعدي - رحمه الله -: "يخبر تعالى أنه أنزل كتابه على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - لنفع الخلق، ليخرج الناس من ظلمات الجهل والكفر والأخلاق السيئة وأنواع المعاصي إلى نور العلم والإيمان والأخلاق الحسنة، وقوله: {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ}؛ أي: لا يحصل منهم المراد المحبوب لله إلا بإرادة من الله ومعونة، ففيه حث للعباد على الاستعانة بربهم" (¬1). ¬

_ (¬1) تفسير السعدي ص 421، وانظر: الإسلام والعلم، د. منصور محمد ص 39.

° الحكم الفقهي لأنواع العلوم: بعد أن عرفنا شيئًا من الموقف الإسلامي من العلوم أختم ببيان حكمها عند أهل العلم، ومع أن في كلام ابن عبد البر - رحمه الله - شيئًا من ذلك إلا أن عددًا من التفصيلات ذكرها علماء بعده، ومن أشهرهم الغزالي في كتاب "إحياء علوم الدين"، ولاسيّما من جهة الأحكام التكليفية "الواجب والمستحب والجائز والمكروه والمحرم"، ثم درج أهل العلم على مثل ذلك، ومن بينهم الإِمام النووي - رحمه الله -، ففي مقدمة كتابه "المجموع" تكلم على ذلك وقسم العلم إلى قسمين: شرعي وغير شرعي، فقال - رحمه الله - عن القسم الأول: "باب أقسام العلم الشرعي هي ثلاثة: الأول: فرض العين؛ وهو تعلُّم المكلف ما لا يتأدى الواجب الذي تعين عليه فعله إلا به. . . . القسم الثاني: فرض الكفاية؛ وهو تحصيل ما لابد للناس منه في إقامة دينهم من العلوم الشرعية، كحفظ القرآن والأحاديث وعلومهما، والأصول والفقه والنحو واللغة والتصريف، ومعرفة رواة الحديث والإجماع والخلاف. وأما ما ليس علمًا شرعيًا وُيحتاج إليه في قوام أمر الدنيا كالطب والحساب ففرض كفاية أيضًا نص عليه الغزالي. واختلفوا في تعلم الصنائع التي هي سبب قيام مصالح الدنيا كالخياطة والفلاحة ونحوهما، واختلفوا أيضًا في أصل فعلها، فقال إمام الحرمين والغزالي: ليست فرض كفاية، وقال الإِمام أبو الحسن علي بن محمد بن علي الطبري المعروف بالكيا الهراسي صاحب إمام الحرمين: "هي فرض كفاية، وهذا أظهر. قال أصحابنا: وفرض الكفاية المراد به تحصيل ذلك الشيء من المكلفين به أو بعضهم، ويعم وجوبه جميع المخاطبين به، فإذا فعله من تحصل به الكفاية سقط الحرج عن الباقين، وإذا قام به جَمْعٌ تحصل الكفاية ببعضهم فكلهم سواء في حكم القيام بالفرض في الثواب. . . ."، ثم قال: "واعلم أن للقائم بفرض الكفاية مزية على القائم بفرض العين لأنه أسقط الحرج عن الأمة"، ثم قال: "القسم الثالث: النفل؛ وهو كالتبحر في أصول الأدلة، والإمعان فيما وراء القَدْر الذي يحصل به فرض الكفاية". وقال عن القسم الثاني: "قد ذكرنا أقسام العلم الشرعي، ومن العلوم الخارجة عنه ما هو محرم أو مكروه ومباح: فالمحرم كتعلم السحر. . . . وكالفلسفة والشعبذة والتنجيم وعلوم الطبائعيين وكل ما كان سببًا لإثارة الشكوك،

ويتفاوت في التحريم. والمكروه كأشعار المولدين التي فيها الغزل والبطالة. والمباح كأشعار المولدين التي ليس فيها سخف ولا شيء مما يُكره ولا ما ينشِّط إلى الشر ولا ما يثبط عن الخير ولا ما يحث على خير أو يُستعان به عليه" (¬1). فقد جعل النووي -رحمه الله- تعلم العلوم العقلية الدنيوية البشرية النافعة من فروض الكفايات، وجعل لمن قام بفرض الكفاية مزية يختص بها، مع العلم أن لابن قيم الجوزية نقدًا لقسم فرض الكفاية يحتاج إلى تأمل إذ قال: "وأما فرض الكفاية -أي في العلم- فلا أعلم فيه ضابطًا صحيحًا؛ فإن كل أحد يُدخل في ذلك ما يظنه فرضًا، فيُدخل بعض الناس في ذلك علم الطب وعلم الحساب وعلم الهندسة والمساحة، وبعضهم يزيد على ذلك علم أصول الصناعة كالفلاحة والحياكة والحدادة والخياطة ونحوها، وبعضهم يزيد على ذلك علم المنطق. . . .". ومن اعتراضاته: "فلا فرض إلا ما فرضه الله ورسوله، فيا سبحان الله! هل فرض الله على كل مسلم أن يكون طبيبًا حجامًا حاسبًا مهندسًا؟!. . . . فإن فرض الكفاية كفرض العين في تعلقه بعموم المكلفين، وإنما يخالفه في سقوطه بفعل البعض. . . ." إلى آخر كلامه - رحمه الله - (¬2)، واعتراضه هنا إنما هو على جعلها فرض كفاية وليس اعتراضه على صحتها في ذاتها أو جواز تعلمها، وهو اعتراض وجيه، ومع ذلك فمن العلماء من جعلها فرض كفاية من جهة النظر في حاجة الناس إليها، ومعلوم أن هذه الحاجات معتبرة في الشرع، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "فلهذا قال غير واحد من الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم كأبي حامد الغزالي وأبي الفرج بن الجوزي وغيرهم: إن هذه الصناعات فرض على الكفاية؛ فإنه لا تتم مصلحة الناس إلا بها" (¬3). فهذا النوع إن لم يكن فرضًا من فروض الكفايات فهو جائز، ما لم يتعلق به ما يُفسد جوازه، كما أن الأمر يختلف بالنسبة إلى الدولة المسلمة، فما يجب في حقها قد لا يجب على الأفراد، فيجب على الدولة توفير الضروريات ¬

_ (¬1) المجموع للنووي 1/ 62 - 67 باختصار، وانظر: الفتاوى لابن تيمية 28/ 79 - 80. (¬2) مفتاح دار السعادة ص 157. (¬3) الفتاوى، 28/ 79 - 80.

والحاجيات، ومن ذلك فتح الباب لما ينفع وحثّ بعض الناس على تعلمه بوضع الحوافز وغيرها، وهي أمور لا تحتاج لإيجاب وإنما يكفي التحفيز؛ لأننا لن نُعدم في كل علم وفي كل فن وفي كل مهنة من يهوى تعلمها ويحب الاشتغال بها، قال النووي - رحمه الله -: "وأما الحرف والصناعات وما به قوام المعايش كالبيع والشراء والحراثة وما لابد منه حتى الحجامة والكنس فالنفوس مجبولة على القيام بها فلا تحتاج إلى حثٍّ عليها وترغيب فيها، لكن لو امتنع الخلق منها أثموا وكانوا ساعين في إهلاك أنفسهم، فهي إذن من فروض الكفاية" (¬1). وأختم هذه الفقرة بفتوى معاصرة جامعة ومهمة في هذا الباب ضمن فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية، وقد جاءت جوابًا على سؤال أورد صاحبه آيات النظر في الآيات الكونية وغيرها، سائلًا: هل يناسب الاستدلال بها على علوم طبيعية؟ فمن الجواب: "ومن هذا يتبين أن القصد من هذه الآيات إثبات أصول دينية هي توحيد الإلهية وبعث العباد يوم القيامة للجزاء، وصِدق النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعواه الرسالة، وفي دعوته الناس إلى التوحيد والبعث للجزاء، وقد دل على ذلك ما سبقها وما لحقها من الآيات. ولم يُقصد بها وضع قواعد للصناعة والزراعة، يتعرف الناس منها شؤون دنياهم، أو نظريات هندسية، أو شرح لسننه الكونية، ليتعرف الناس منها علوم الهندسة والفيزياء، وطبقات الأرض، ويصلوا بذلك إلى ما ينهض بهم في دنياهم من مخترعات، إنما وصل إلى ذلك من وصل بتوفيق الله، ثم بما وهب الله له من فكر ثاقب، ودراسة محكمة لما سخر الله لهم من ملكوت السموات والأرض وما بينهما، وما أودع الله في ذلك من سنن كونية. فالأصل في كتاب الله تعالى وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - التشريع الديني تقعيدًا وتفصيلًا، لا التقعيد والتفصيل للعلوم الكونية، وما جاء فيهما من ذلك فهو قليل وغير مقصود بالمقصد الأول، بل بالتبع، كالأخبار التي وردت في مسائل من الطب ونحوه، وهي جزئيات محدودة، لا قواعد كلية يُرجَع إليها في تشخيص الأمراض، أو يُعتَمد عليها في جميع أنواع العلاج، أو يُتَعرف منها خواص جميع الخامات وما يكون منها علاجًا للأنواع المختلفة من الأمراض". ¬

_ (¬1) روضة الطالبين، النووي 7/ 424.

وتوقفوا مع آية الأعراف التي ذكرها السائل: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)} [الأعراف: 185] بقولهم: ". . . . ولم تنزل لوضع تقعيد أو نظريات للعلوم الكونية، يرجع إليها من يريد أن يتعلم تفاصيل هذه العلوم"، ثم توقفوا مع حديث التداوي الذي ورد في السؤال بقولهم: "وأما حديث التداوي فالقصد منه الأمر بالتداوي، والتنبيه على الأخذ بالأسباب، وعدم الإعراض عنها، وبيان أن ذلك لا ينافي التوحيد؛ إذا كان المتداوي لا يعتمد على الأسباب ويجعلها الأصل في الشفاء، بل يوقن بأن الشفاء من الله، وأنه هو الذي جعل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء كما ثبت ذلك في الحديث، ولم يفصِّل النبي - صلى الله عليه وسلم - أنواع الأدوية والأدواء، ولم يبين لكل داء ما يخصه من الأدوية، إلا في جزئيات قليلة، ولم يضع للطب قاعدة يتعرف منها من يريد تعلُّم الطب خواص الأدوية، وأعراض الأمراض". ثم أعقبوا ذلك ببيان الموقف الإسلامي من العلوم الدنيوية والعقلية فقالوا: "ولكن حثهم على النظر وتعلُّم ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، وسخر الله لهم الكون، وأعطاهم العقل؛ ليتبصروا في ذلك، ووفَّق منهم من شاء لما شاء من إدراك أسرار الكون وعجائبه، وما فيه من الخواص والمنافع والمضار. فعلى المسلمين أن يتبصروا في كتاب الله تعالى، وفي سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -؛ ليعلموا كمال الشريعة، ومقاصدها، وتفاصيلها، كل ذلك بقَدْر ما آتاه الله من عقل واستعداد، وما هيأ الله له من صحة وفراغ، كما أن عليهم أن يدرسوا أيضًا سنن الله الكونية في السماوات والأرض، ليعلموا ما أودع الله فيها من أسرار، وليستنبطوا منها ما شاء الله مما هم في حاجة إليه: من علوم الطب والزراعة والصناعة والفيزياء وطبقات الأرض، وغيرها من العلوم الكونية؛ ليستفيدوا منها في دنياهم، ويستعينوا بها في شؤون دينهم، ويستغنوا بها عمن سواهم من الكافرين، وبذلك يجمعون بين القوة والعزة في الدنيا، والنجاة والسعادة في الآخرة، ويصلحون للخلافة في الأرض، وعمارتها دينًا ودنيا. وعلى ولاة أمور المسلمين من علماء وحكام أن ينهضوا بالأمة الإسلامية، وأن يرعوها حق الرعاية، ويأخذوا بأيديها إلى ما فيه الخير والصلاح علمًا وعملًا، ويوزعوا جهودها على جميع جوانب الحياة دراسةً وإنتاجًا لشتى العلوم

والأعمال، دينية ودنيوية، ليوجدوا الأكفاء الذين يقومون بمصالحها، ويتضلعون بأعبائها، ويتحملون مسئولياتها، وتستغني بهم عمن سواها من الدول علمًا وعملًا. ومن هذا يتبين أن كل علم ديني -مع وسائله التي تعين على إدراكه- داخل فيما يرفع الله مَن عَلِمَه وعمل به مخلصًا له عنده درجات، وأنه مقصود بالقصد الأول. وكل علم دنيوي تحتاجه الأمة، وتتوقف عليه حياتها، كالطب والزراعة والصناعة ونحوها، داخل أيضًا إذا حسنت النية، وأراد به متعلمه والعامل به نفع الأمة الإسلامية ودعمها، ورفع شأنها، وإغناءَها عن دول الكفر والضلال، لكن بالقصد الثاني التابع، ودرجات كلٍّ متفاوتة تبعًا لمنزلة ذلك من الدين، وقوته في النفع ودفع الحاجة، والله -سبحانه- هو الذي يقدِّر الأمور قدرها، ويُنزلها منازلها، وهو الذي يعلم السر وما هو أخفى، وإليه الجزاء ورفع الدرجات في الدنيا والآخرة، وهو الحكيم العليم. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم" (¬1). وهم يَعُدُّون النافع منها من فروض الكفاية، ففي فتوى أخرى عن حكم تعلم التكنولوجيا أجابوا: "أولًا: يتعلم المسلم من أمور دينه ما يجعله على بصيرة من أمره. ثانيًا: دراسة العلوم التكنولوجيا من فروض الكفاية، فإذا درسها أبناء المسلمين للاستفادة منها فهم على أجر، على حسب نياتهم" (¬2). ¬

_ (¬1) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برقم (6249) 12/ 64 - 77، عبد الله بن قعود عضوًا، عبد الله بن غديان عضوًا، عبد الرزاق عفيفي نائب رئيس اللجنة من لباب الأول، عبد العزيز بن عبد الله بن باز رئيسًا. (¬2) المرجع السابق برقم (4258) 12/ 81، وسيأتي مزيد من ذلك بذكر مواقف العلماء -ولاسيّما علماء الاتجاه السلفي- في الفصل الخامس من لباب الأول، مثل شيخ الإسلام ابن تيمية وعدد من الأئمة الأعلام مثل الشوكاني والألوسي والشنقيطي والسعدي رحمهم الله جميعًا.

الباب الأول نشأة الانحرافات المرتبطة بحركة العلم الحديث وظهورها في العالم الإسلامي

الباب الأول نشأة الانحرافات المرتبطة بحركة العلم الحديث وظهورها في العالم الإسلامي وفيه خمسة فصول: • الفصل الأول: تعريف موجز بالثورة العلمية الحديثة وما ارتبط بها من نظريات مخالفة للدين وأثرها في الفكر. • الفصل الثاني: أسباب وجود الانحراف المصاحب للتطور العلمي الحديث. • الفصل الثالث: تاريخ تكون الانحرافات المصاحبة لحركة العلم الحديث في العالم الإسلامي وتأثيرها في الفكر التغريبي العربي المعاصر. • الفصل الرابع: أسباب دخول الانحرافات المصاحبة لحركة العلم الحديث إلى البلاد الإسلامية. • الفصل الخامس: أبرز المواقف العلمية والفكرية في العالم الإسلامي من العلوم الحديثة ومناهجها.

الفصل الأول تعريف موجز بالثورة العلمية الحديثة وما ارتبط بها من نظريات مخالفة للدين وأثرها

الفصل الأول تعريف موجز بالثورة العلمية الحديثة وما ارتبط بها من نظريات مخالفة للدين وأثرها

الفصل الأول تعريف موجز بالثورة العلمية الحديثة وما ارتبط بها من نظريات مخالفة للدين وأثرها مدخل: يتضح في التمهيد المراد بالعلم الحديث فهو فعالية إنسانية اعتمد بقوة على المنهج التجريبيي الاستقرائي، وأنه أحد نشاطات العقل البشري التي جعلها الله له، وأن كل الحضارات المعروفة قد شاركت في هذا العلم بصورة أو بأخرى، وأنجزت فيه ما استطاعت إنجازه، إلا أنه كان من قدر الله سبحانه أن يجعل لأوروبا في عصرها الحديث دورًا بارزًا في التقدم بهذا العلم، وأن يُحدث أهلها في مسيرة العلم منعطفًا كبيرًا، وكان ابتداء ذلك مع ما اصطلح عليه بـ الثورة العلمية. يقدم هذا الفصل تحليلًا تاريخيا لهذا المنعطف المهم في مسيرة العلم المادي بداية بـ الثورة العلمية وما لحقها من تطورات، ويتناول أيضًا بعض ما ارتبط بها من إشكاليات مهمة لها علاقة بالدين أو الفكر الحديث، وكان لها وقعها فيما بعد.

وتنبع أهمية هذا العرض من كون مدار البحث يتعلق بدراسة علاقة أحد الاتجاهات الفكرية العربية المشهورة -الاتجاه التغريبي- بالعلم الحديث، وصور تأثره بهذا العلم ونظرياته وفلسفته لاسيّما في الجانب الديني؛ لذا كان من المناسب الابتداء بوضع خطوط موجزة عن صورة العلم الحديث، ونظرياته الكبرى، تُبيّن للناظر موطن الإشكال علاقة المتغربين بالعلم الحديث ونظرياته، مع التلميح لمن سبق إلى هذا التأثر من اتجاهات فكرية غربية، كونهم موطن قدوة للمتغربين العرب، وهل ما تأثر به الاتجاه التغريبي هو من العلم ونظرياته أو هو من الأفكار والفلسفات المبنية على نتائجه؟ وهكذا، مع ما يتبع ذلك من صور التحليل والنقد المناسبة بإذن الله.

أولا: مصطلح أو مفهوم "الثورة العلمية"

أولًا: مصطلح أو مفهوم "الثورة العلمية" اعتاد المؤرخون والباحثون على إطلاق تسمية معينة على فترة أو ظاهرة أو حدث، ومن ذلك إطلاق مصطلح "الثورة العلمية" على الفترة التي شهدت تحولات جذرية في العلوم على أيدي مجموعة من علماء العلوم الدنيوية الأوروبيين في القرنين السادس عشر والسابع عشر -العاشر والحادي عشر من الهجرة تقريبًا- لاسيّما مع عالمين بارزين هما: "جاليليو" و"نيوتن". ورغم شهرة مصطلح "الثورة العلمية"؛ إلا أن المعاجم العربية المتخصصة لا تسعفنا بتعريفه، وعندما يرد عنه الحديث في أغلب الموسوعات فلا تتطرق لتعريفه، وإنما تدخل في تفاصيل الثورة العلمية وموضوعاتها؛ ويظهر أن السبب في ذلك عائد إلى الحداثة النسبية لاستخدامه. ومما وجدته من المحاولات العربية لتعريفها ما أورده أحد الباحثين بأنها: "ذلك التحول الشامل الذي طرأ على كل مرافق الحياة العلمية والاجتماعية والعقدية والمؤسسية، خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر" (¬1)، وهو بهذا التعريف يركز على شمولية الثورة وتوسيع دائرة مجالها، وإن كان الأقرب للذهن أن تنصرف صفة الشمولية إلى المجال العلمي أولًا، وأما بقية مرافق الحياة فتكون تحولاتها تابعة للتحول في العلم ومتأثرة به -لا معه- كما يشير الباحث. وقد ذكر أيضًا بأن أول من نحت هذا المصطلح هم فلاسفة الأنوار أواسط القرن ¬

_ (¬1) مجلة فكر ونقد ص 13، العدد العاشر مقالة: كيف حصلت "الثورة العلمية" في أوروبا؟ لـ بناصر البعزاتي.

الثاني عشر/ الثامن عشر، ثم تضاءل تداوله فترة من الزمن، ثم عاد بقوة وشهرة في ثلاثينيات القرن العشرين (14 هـ) مع "ألكسندر كويري" و"هربرت بيترفيلد" وغيرهما (¬1). ويعد ""كواريه" فيلسوف العلم الفرنسي المعاصر "أبرز من جعل لهذا المصطلح دلالته الخاصة في تاريخ العلم وفلسفته، ومنذ خروج كتابه "دراسات حول جاليلو" عام (1939 م) الذي صاغ فيه دلالات هذا المصطلح بدأت العناية بدراسة الثورة العلمية وبنيتها ومفاهيمها في الكتابات الفكرية المعاصرة، وقد كانت رؤية كواريه عن الثورة العلمية بأنها "استبدال لنسق فكري بنسق آخر" (¬2). وجاء بعده بحوالي عشر سنوات كتاب "بيترفيلد -أصول العلم الحديث- (1948 م- 1367 هـ) " مركزًا على هذا المصطلح أيضًا، وكان للنتائج التي انتهى إليها أثرها في أغلب الدراسات المتخصصة في هذا المجال. وسار في نفس الاتجاه "روبرت هول في كتابه: "الثورة العلمية" (1500 - 1800 م) صياغة الاتجاه الحديث، عام (1956 م- 1375 هـ) (¬3) وهكذا انتشر الحديث عن هذا المصطلح عند فلاسفة العلم، وأصبح موضوعًا مهما من موضوعات فلسفة العلم أو الإبستمولوجيا المعاصرة (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق ص 15. (¬2) انظر: منطق التقدم العلمي، د. خالد قطب ص 131 - 133، وانظر: ظاهرة العلم الحديث، د. عبد الله العمر ص 5. (¬3) انظر: منطق التقدم العلمي ص 133 - 134. (¬4) تختلف المعاجم التي باللغة العربية حول تعريف (الإبستمولوجيا)، ويُعد محمد وقيدي من بين المفكرين العرب المهتمين بهذا المصطلح فعرّفه: (الإبستمولوجيا دراسة نقدية موضوعها المعرفة العلمية من حيث المبادئ التي ترتكز عليها والفرضيات التي تنطلق منها والنتائج التي تنتهي إليها، أما هدف الدراسة فهو البحث في الأصول المنطقية لهذه الفرضيات والمبادئ والنتائج من جهة وبيان قيمتها من جهة أخرى). من كتابه: ما هي الإبستمولوجيا ص 15، ونظرًا لارتباط هذا المجال ببحثي فسأعتمد ذكر هذا المصطلح بلفظته هذه لتعارف الباحثين باللغة العربية عليها، وانظر أيضًا: درس الإبستمولوجيا، عبد السلام بن عبد العالي وسالم يفوت، الفصل الأول ص 7 - 76، وانظر: برونشفيك وباشلار بين الفلسفة والعلم. .، د. السيد شعبان ص 122 - 124، وقد اقترح المناقشان جزاهما الله خيرًا تسميتها بـ (المعرفة).

ويحسن التنبيه في هذا المجال إلى أن مصطلح "الثورة العلمية" هو دلالة على تميّز تلك المرحلة التاريخية الأوروبية بإنجازات علمية معروفة، لكن دون تضخيم لذلك المصطلح وإكسابه قيمة مطلقة وتزكية نهائية؛ وذلك أن البحوث الحديثة في تاريخ العلم العالمي ما زالت تكتشف وجود إنجازات علمية كبيرة قبل تلك المرحلة، في أوروبا أو في خارجها (¬1) وإذا كان أول ما عُرفت به الثورة العلمية هو الكشوف الكبيرة في باب الفلك؛ فقد وجد أحد الباحثين معلومات مذهلة حول سبق علماء الفلك في الحضارة الإسلامية إلى تلك الكشوف بفترة كبيرة، بل يوجد تطابق كبير يُحيّر الباحث المنصف، وهذا مما دعا "نويل سويردلو لأن يسأل لا "عما إذا" كان كوبرنيكوس قد تعلم نظرية مراغة، "بل متى وكيف""، وذلك لأوجه التشابه الكبير بين نماذج "كوبرنيكوس" وبين مدرسة مراغة الفلكية في بلاد المسلمين (¬2). ومصطلح الثورة العلمية وإن بقيت دلالته الواضحة على القرنين السادس عشر والسابع عشر ولاسيّما التاريخين المهمين -وما بينهما- التاليين: (950 هـ تقريبًا/ 1543 م) تاريخ صدور كتاب "كوبرنيكوس" "عن الدوران في فلك السماء"، و (1098 هـ - 1687 م) تاريخ صدور كتاب "نيوتن" "المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية" الذي توّج جهود السابقين بإنشائه بناءً علميًا متكاملًا في نسق واحد، ومع ذلك هناك ثورات علمية حدثت بعد هذا التاريخ، وإن كان البعض يطلق عليها اسم: "الثورات في العلم" بدلًا من "الثورات العلمية"، جاعلًا الثورة في العلم أقرب للتطورات أو القفزات في بنية علم من العلوم بعيدًا عن مفهوم التحول الشامل الذي تميزت به الثورات العلمية، وتُعد الدراسة المشهورة لـ "توماس كون: بنية الثورات العلمية" هي من هذا النوع (¬3)، وبهذا يتسع الحديث لوجود أكثر من ثورة، كالثورة الكوبرنيكية والنيوتنية والدارونية وثورة الكوانتم (¬4) وهكذا. ¬

_ (¬1) انظر: مجلة فكر ونقد ص 16، مرجع سابق. (¬2) انظر: فجر العلم الجديد: الإسلام -الصين- الغرب، توبي أ. هف ص 70. (¬3) انظر: منطق التقدم العلمي، السابق ص 122 - 123، وكتاب كون، ترجمه أكثر من واحد وأشهرها ترجمة شوقي جلال إلى العربية (بنية الثورات العلمية)، وصدر في سلسلة عالم المعرفة برقم (168)، الكويت. (¬4) انظر: المرجع السابق، (منطق. .) ص 121.

ثانيا: ما قبل الثورة العلمية الحديثة "ممهدات الثورة العلمية"

ثانيًا: ما قبل الثورة العلمية الحديثة "ممهدات الثورة العلمية" [1] التركة الأرسطية المتغلغلة في أواخر العصور الوسطى الأوروبية ومحاولتهم تجاوزها: إذا كان مصطلح "الثورة العلمية" يقصد به التعبير عن واقعة غربية -أوروبية بالتحديد- فلابد من الاطلاع على أوضاع بلاد تلك الثورة؛ لنعرف على ماذا كانت الثورة! وذلك أن من دلالات الثورة أن تقع على وضع فكري أو اجتماعي متحكم يصعب تجاوزه سلميًا أو من خلال تطور طبيعي. وحسب الدراسات المعاصرة في إبستمولوجيا العلم؛ فإن هناك بوادر قطيعة إبستمولوجية تحدث في نظام فكري بين واقعه وماضيه، ويعقب هذه القطيعة ثورة على ذلك الماضي. وماضي أوروبا هنا كان الفكر الموروث عن فترة اصطلحوا على تسميتها بـ"العصور الوسطى"، وهي مرحلة تاريخية أوروبية طويلة -أكثر من عشرة قرون- مرحلة اعتناق أوروبا للدين النصراني (¬1)، فتحولت في هذه المرحلة للنصرانية المحرفة بعد أن كانت بلادًا وثنية. ¬

_ (¬1) العصور الوسطى: هي تعبير عن فترة زمنية أوروبية تقترب مدتها من ألف عام، ابتدأت تقريبًا ما بين الثالث والخامس الميلادي، ولم يحدث فيها إلا القليل من التطور في مجال العلوم المادية البشرية؛ وذلك لعناية الدارسين بعلم اللاهوت. وقد كانت عمدتهم في العلوم على الكتابات الإغريقية والرومانية، ومعتمدوهم في العلم "أرسطو" في المقام الأول ثم "إقليدس" و"جالينوس" و"بطليموس" وغيرهم. انظر: الموسوعة العربية العالمية، 16/ 362 - 363، وانظر: التفكير العلمي، فؤاد زكريا ص 160.

وأضافت أوروبا لهذا الدين الذي اعتنقته علما ورثته عن اليونان، لاسيّما ما تبقى من التركة الأفلاطونية والأرسطية، وهذه التركة خليط من الفلسفة والمنطق والعلم والأدب، وغيرها. وقد كان أثقل ما ورثته إنتاج أرسطو، الذي حدث له تعديلات كثيرة أشهرها ما قام به الفيلسوف والقديس عندهم "توما الإكويني"، حيث دمج التركة الأرسطية -الفلسفية والعلمية والميتافيزيقية- باللاهوت النصراني، وقبلت الكنيسة الكاثوليكية هذه التركيبة فيما بعد (¬1)، ومنذ ذلك الحين تغلغل الفكر الأرسطي في النصرانية المحرفة ولاهوتها الكلامي وتمكن من الفكر الغربي الوسيط، وبرزت هذه التركيبة تحت شعار التوفيق بين الدين والفلسفة أو بين الدين والعقل، ومن ثم جعل الفلسفة خادمة للدين اليهودي أو النصراني، وقد عرف هذا في أغلب فلسفات تلك المرحلة. وعادة ما تذكر كتب "تاريخ الفكر" سيطرة فلسفة أرسطو ومنهجه وعلمه على الفكر الأوروبي في العصور الوسطى وما بعدها، حيث تحول ذلك العصر إلى عصر شارح لفكر أرسطو، لاسيّما بعد دمج تركة أرسطو بالمعتقد النصراني، ومن ثمّ إلزام الناس باعتقاد ما فيها والتحذير من الخروج عليها، وأي تجديد لتلك التركة سيكون محصورًا في إعادة الجمال لها دون تجاوزها. وقد امتد ذلك إلى ما بعد الثورة العلمية، فمصطلحات أرسطو هي السائدة على مدى ثمانية عشر قرنًا تقريبًا (¬2)، ويُتهم من يحاول الخروج عن الإرث الأرسطي بالتجديف ¬

_ (¬1) عاش (توما الإكويني) زمن (فردريك الثاني)، ففي زمن حكمه تحمس أساتذة الجامعات للفلسفة الأرسطية وفلسفة ابن رشد، فعرفها توما، ثم انتقل إلى باريس، وتتلمذ على يد ألبرت الأكبر الذي غرس في قلبه حب أرسطو، وأقام توما بعد ذلك فلسفته معتمدًا على فلسفة أرسطو. وقد أُمر بعد ذلك بتدريس فلسفة توما في جميع المعاهد الكائوليكية، وبسبب ذلك أصبح أرسطو معدودًا بين الكاثوليك واحدًا من الآباء أو يكاد، وبات نقده يقرب جدًا من الكفر. انظر: توماس الإكويني، كامل محمد عويضة ص 32 - 34، وموسوعة الفلسفة، بدوي 1/ 426 وما بعدها، ومقدمة في علم الاستغراب، حسن حنفي ص 154 - 156، و (أما الكنيسة فقد قررت أن نظام أرسطو -توماس ضروري لضمان صدق العقيدة)، العلم في التاريخ، برنال 2/ 89، وتاريخ الفكر الأوروبي. .، رونالد، ترجمة الشيباني ص 18 ص 26. (¬2) انظر: بنية الثورات العلمية، حاشية الفصل الأول ص 289.

والإلحاد والكفر، وتكون عاقبته مأساوية في الغالب، وهنا ظهرت عقبة التجاوز لتركة أرسطو (¬1)، فهي مهمة شاقة بل شبه مستحيلة لأهل ذلك العصر؛ لأن من يحاول تجاوز ذلك فهو إنما يتجاوز ما يظنّونه عقيدة إلهية. وما سبق يكشف بأن تجاوز ذلك الفكر لن يتم إلا بثورة كبيرة تكسر الماضي وتحلّ محلّه، ولا يكفي أن تكون ثورة سياسية أو اجتماعية؛ بل هم بحاجة لثورة علمية وفكرية؛ وذلك أن الثورة السياسية أو الاجتماعية ممكنة الحدوث هنا أو هناك لارتباطها بأنظمة لا تدّعي الحقيقة غالبًا بقدر ما تهمها السلطة، أما الثورة العلمية فلا يمكن تحققها إلا بوجود قوتها الخاصة بها المتمثلة في الأدلة الكافية التي تكشف بأن ما كان يعتقده الناس علمًا ليس بعلم. هكذا، أصبح الإرث الأرسطي عائقًا من تقدم العلم وفي الوقت نفسه لم يستطع أحد تجاوزه، ومما يعمق الأزمة عدم إحساس الكثير بأنه عائق سوى قلة من العلماء والمفكرين. ومن باب المقارنة فإننا نجد بأن نفس الفترة التي قام فيها "توما الأكويني" بحبس الديانة النصرانية والفكر الأوروبي في التركة الأرسطية؛ نجد في بلاد المسلمين عَلَمًا بارزًا وإمامًا عظيمًا يجتهد في إنقاذ البشرية من هذه التركة لا في صورتها اللاهوتية والميتافيزيقية فحسب، بل ومن منهجها العلمي والعقلي لما فيه من نقص وضرر، وذلك العَلَم هو ابن تيمية - رحمه الله - (¬2). فنراه على سبيل المثال يقول في أهم الآلات العلمية الأرسطية وهي المنطق: "وأيضًا لا تجد أحدًا من أهل الأرض حقق علمًا من العلوم وصار فيه إمامًا مستعينًا بصناعة المنطق، لا من العلوم الدينية ولا غيرها، فالأطباء والحساب والكتاب ونحوهم يحققون ما يحققون من علومهم وصناعاتهم بغير صناعة المنطق" (¬3)، ويقول أيضًا: "فإن ¬

_ (¬1) لقد ركز "برنال" على إيضاح كثير من المحاولات لتجاوز هذا الإرث الأرسطي لاسيما الجانب العلمي منه، وبين الصعوبات الكبيرة التي جابهت العلماء في ذلك، ولا تخفى ميوله الماركسية؛ ولذا فهو يفرح بكل ما يعارض الدين، انظر كتابه: العلم في التاريخ، المجلد الثاني: الفصل السابع كاملًا، والتفكير العلمي، فؤاد زكريا ص 160 - 162. (¬2) كانت ولادته - رحمه الله - قبل وفاة توما الأكويني بعشر سنوات تقريبًا، فابن تيمية عاش بين عامي (661 - 728 هـ) (1263 - 1328 م)، وتوما عاش بين عامي (1224 - 1274 م). (¬3) نقض المنطق، ابن تيمية ص 168، تحقيق محمد الفقي.

علومهم التي جعلوا هذه الصناعة ميزانًا لها بالقصد الأول: لا يكاد ينتفع بهذه الصناعة المنطقية في هذه العلوم إلا قليلًا. فإن العلوم الرياضية: من حساب العدد، وحساب المقدار الذهني والخارجي، قد علم أن الخائضين فيها من الأولين والآخرين مستقلون بها من غير التفات إلى هذه الصناعة المنطقية واصطلاح أهلها. وكذلك ما يصلح من العلوم الطبيعية الكلية، والطبية، تجد الحاذقين فيها لم يستعينوا عليها بشيء من صناعة المنطق. . . ." (¬1). فشيخ الإسلام - رحمه الله - يبين في كلامه -وأمثاله كثير- بأن العلوم البشرية المادية لا يفيدها المنهج الأرسطي، وإذا كانت أهم العلوم الدنيوية وأدقها وأشهرها من ذاك الزمن -وإلى اليوم- وهي: "العلوم الرياضية والطبيعية" في غير حاجة لمنهجه، وتجد مع ذلك أيضًا الحاذقين فيها غير مستعينين بالمنهج الأرسطي فلم التعصب له؟! ومفهوم كلامه - رحمه الله - أن هذه العلوم تطورت بدونه، ويمكننا بمفهوم المخالفة أن نقول: بأن هذا المنهج قد لا يفيدها، وإن كان مطلب شيخ الإسلام في المقام الأول هي العلوم الدينية؛ فكأنه يقول: إذا كانت العلوم المادية لم تنتفع بالمنهج الأرسطي مع أنه ميزانها في المقام الأول كما يزعمون؛ فمن باب أولى عدم انتفاع العلوم الدينية به. وسنجد أن أوروبا لم تحقق تطورها في باب العلوم ولا ثورتها العلمية إلا بعد هجومها الكبير على أرسطو، وما تمّ ذلك عندهم إلا بعد نقد شيخ الإسلام بقرنين تقريبًا. وإن المسلم ليعجب اليوم ويألم من حالنا، فبعد أكثر من سبعة قرون من جهد شيخ الإسلام - رحمه الله -، ها نحن نرى بعض الناس يعظمون "أرسطو" ومنطقه أو آثاره في ما يسمى بالفلسفة الإسلامية والعلوم الكلامية، وكان الأصل أن نستفيد من نقده ونواصله لكي نتخلص من التركة اليونانية المعيقة لمسيرة أمتنا العلمية والفكرية، إلا أن الأمر عكس ذلك، فهذا هو منطق أرسطو يُدرس في معاهد إسلامية وكأنه شرط الفهم والعلم ودون نقد حقيقي له، ونجد أيضًا تركة أرسطو وغيره ما زالت متحكمة إلى حد بعيد بعلم الكلام الإسلامي إلى اليوم، بينما نجد أهله وبعد قرنين أو ثلاثة من دعوة شيخ الإسلام يُنجزون قطيعتهم مع أرسطو ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى، ابن تيمية 9/ 20 - 21، وانظر: المفكرون المسلمون في مواجهة المنطق اليوناني، مصطفى طباطبائي ص 126 وما بعدها.

[2] الأمر الداخلي: أثر عصر النهضة والإصلاح الديني

وفلسفته ومنهجه في حملة عنيفة قام بها مجموعة من مؤسسي الفكر الأوروبي الحديث. نترك هذه الآلام ونعود إلى أحداث الثورة العلمية، وبتلخيص ما سبق نصل إلى أن العلم السائد كان في الجملة هو الموروث عن "أرسطو"، والمقصود بالعلم هنا الصورة الكلية عن العلم ومنهجه وأصوله وغاياته وفلسفته وما في بابها. وهي تركيبة معقدة، مكونة من رؤى وأفكار أرسطية تحولت إلى عقيدة صلبة للكنيسة الكاثوليكية، بما في ذلك بعض المعارف المتصلة بالعلم، ولا يمكن في تلك الفترة تطوير العلم إلا بعد إصلاح العلاقة بينه وبين الكنيسة، إما بفصل العلم عنها أو بمحاولة الكنيسة إصلاح أخطائها وترك المجال للعلم. أمران أساسيان لتجاوز التركة الأرسطية: يظهر في مثل هذا الواقع بأن أي ثورة مقبلة هي بحاجة لأمرين متصاحبين: الأول وجود أدلة علمية أو حركة علمية كافية لفرض نفسها على الواقع العلمي، مؤكدةً عدم صحة ما سبق من علوم، وأنها البديل الصحيح الجديد. وأما الثاني فوجود ما يُضعف صورة العلوم القديمة العقدية في نفوس الناس؛ لأن غطاءها العقدي الديني قد يمنع الكثير من أي تفكير آخر وإن كان صوابًا. وهذان الأمران قد تحققا بصورة كبيرة في القرن (8 هـ - 14 م) وما بعده، الأول داخلي تمثل فيما سُمي بحركتي النهضة الأوروبية والإصلاح الديني، وقد أضعفا تسلط الكنيسة. والثاني خارجي تمثل في التأثر بما نُقل إليهم عن المسلمين من علوم، فكيف أسهم ما سبق في صناعة الأجواء المناسبة للثورة العلمية؟ هذا هو موضوع الفقرة القادمة. [2] الأمر الداخلي: أثر عصر النهضة والإصلاح الديني: بدأت تظهر بوادر التخلص من تركة أرسطو -التي تمثل قمة العلم- في عصر النهضة والإصلاح الديني، لاسيّما محاولة تجاوز عوائق التقدم العلمي، فقد ظهر مجموعة أشخاص أطلق عليهم فيما بعد "الإنسانيون" ميّزوا عصر النهضة ولاسيّما مدن إيطاليا أشهر بلاد أوروبا آنذاك، وكان جلّ همهم منصرفًا إلى الفنون والآداب وبعض المعارف مع إحياء واسع لتراث الإغريق الوثني. وظهر أيضًا في المرحلة نفسها مجموعة أطلق عليهم "دعاة الإصلاح الديني"

أ- عصر النهضة وحركة الإنسانيين

الذين قادوا الدعوة لإصلاح اللاهوت الكاثوليكي، وخرجوا عليه مكونين بذلك كنائس جديدة، كان أشهرها طائفة البروتستانت بقيادة "لوثر"، وقد أسهم الطرفان في "صناعة حقبة جريئة من تاريخ الفكر الغربي" (¬1). ويمكن القول بأن هاتين الظاهرتين أسهمتا بفعالية كبيرة في إضعاف قبضة التركة اللاهوتية الأرسطية الموروثة من العصور الوسطى، ومهدتا بشكل أو آخر لميلاد الثورة العلمية وعصر أوروبا الحديث. أ- عصر النهضة وحركة الإنسانيين: ذلك أن "الإنسانيين" أضعفوا شأن الدين ومنزلته ومكانته في حياة الناس، لاسيّما في طبقة المتعلمين ومن في حكمهم من النخبة، فقد اشتهر عنهم عيشهم حياة منفلتة مع إحيائهم للتراث الوثني بكل قيمه الأخلاقية والاجتماعية، وقد ذكر هذا أبرز المؤرخين العرب للفلسفة الغربية يوسف كرم: بأن حقيقة عصر النهضة هو العودة للثقافة القديمة التي تنضح بالوثنية من كل جانب، فانتشرت بسبب ذلك الوثنية في الأفكار والأخلاق (¬2)، ويقول أحد الباحثين الغربيين -برينتون-: "ولعل القارئ، إذا كان حقًا قد تأمل ما أسلفناه، قد خلص إلى فكرة مفادها أنه إذا كانت العصور الوسطى دينية في الأساس، وإذا كان عصر النهضة يعني على الأقل محاولة العودة إلى ما هو وثني أو لا ديني، إن لم يكن زندقة وإلحادًا، ألا ينبغي حينئذ ربط فنون العصور الوسطى بالكنيسة، وفنون عصر النهضة بالحرية البوهيمية التي لا تقيم وزنًا للأعراف والتقاليد. وهذا صحيح جزئيا. . . ." (¬3)، فإن هذه الصورة البوهيمية -وإن كانت ليست مطلقة بحسب رأي برينتون- ستُضعف صلة الناس بالكنيسة، ومن ثمّ أغلب ما تلقوه عنها، وسهولة قبولهم لما يعارضها لاسيّما وهي حركة منتشرة في المدن الإيطالية الراقية المحبة للترف والشهرة وما يصاحب ذلك في العادة من ضعف التدين، ويؤيد هذا أن أحد مشاهير تلك المرحلة -فرنسوا رابليه- قد اختار شعارًا معبرًا لإبراشيته: "افعل ما يحلو لك" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: تاريخ الفكر الأوروبي الحديث، رونالد ص 28. (¬2) انظر: تاريخ الفلسفة الحديثة، كرم ص 5 - 6. (¬3) تشكيل العقل الحديث، برينتون ص 36 - 37. (¬4) انظر: العلم في التاريخ، برنال 2/ 24.

ب- الإصلاح الديني

وهذا يوضح مقدار النزعة المغالية في الانفلات بعد الغلو القديم في الإذعان الأعمى للكنيسة، وهي خصيصة في كل جاهلية أو انحراف أن يتنقل أصحابه من غلو إلى غلو. ومما يلفت النظر بهذه المناسبة ما نجده عند مجموعة من المثقفين العرب من انسياقهم خلف الأحكام التي يطلقها الغربيون على تاريخهم والمشاعر التي يعبرون بها عن أحداثهم، ومن ذلك مدح عصر النهضة مطلقًا والإعجاب بدورهم في إحياء تراث الإغريق الوثني البوهيمي، وإن كان هذا لا يُستغرب من الكتاب الغربيين لكثرة العلمانيين والملاحدة فيهم؛ لذا يعجبهم مثل هذا المنحى، وإنما الغرابة فيمن انساق خلفهم من المثقفين العرب -بعلم أو بغير علم- في مدح هذا الموقف (¬1). ب- الإصلاح الديني: وجاءت الضربة الثانية للكنيسة الكاثوليكية عن طريق الانشقاق الكبير الذي أحدثه دعاة الإصلاح الديني، وكان أشهرها ظهور طائفة البروتستانت وميل كثير من الأوروبيين إليها، وكان أهم ما تدعو إليه: العودة للمسيحية البسيطة رغم أنهم لم يخرجوا عن انحرافاتها وإزالة السلطة التي كانت تتمتع بها الكنيسة الكاثوليكية، ونقدهم لبعض عقائدها التي تفرضها على الناس بحجة أنها وحي من السماء. وقد ثارت ثائرة الكنيسة الكاثوليكية لهذا الحدث، ودارت معارك كبيرة بين الطرفين، كان أشهرها حرب الثلاثين عامًا التي ذهب ضحيتها آلاف البشر، واتهم الكاثوليك لوثرَ وأصحابه بالكفر، وسمّتهم بالمحمديين بدعوى تأثرهم بدعوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان لوثر يتهم خصومه بأنهم على الطريقة الإسلامية، والإسلام عند الطرفين رديف الباطل، ومع أن الإسلام له دوره في التنور الفكري إلا أن ذلك لم يتجاوز تلك الأمور، فقد بقوا على ضلالهم العقدي رغم تحررهم ¬

_ (¬1) انظر مثلًا: فلسفة العلم، قنصوه ص 130، وانظر: الفلسفة الحديثة عرض نقدي، د. كريم متى ص 8، 13، وانظر: مقدمة في علم الاستغراب، حسن حنفي ص 172، 179، وحرل الاتهام المتبادل بين الكنائس، انظر: الإسلام والمسيحية، أليكسي جوارفسكي ص 98 - 99، ترجمة خلف الجراد.

العقلي وتخفيف أغلال الكثلكة عنهم. وهناك من يُلمح فعلًا إلى أن بعضًا من أسباب الدعوة للإصلاح الديني في الغرب عائد إلى اطلاع بعضهم على الإسلام وعظمته ومنزلته وأصوله الجليلة، فقادهم ذلك إلى تصحيح أوضاعهم، ولا يستغرب ذلك (¬1)، وإن كان الطريف في الأمر بأن التأثر جاءهم من حيث لا يحتسبون؛ حيث سمحت الكنيسة عام (1311 م) بفتح أقسام لتعليم اللغة العربية بغرض محاربة الإسلام ونشر النصرانية، وانتشر ذلك في معظم جامعات أوروبا (¬2)، وصحب ذلك ترجمة واسعة للكتب الإسلامية بمصدريها الكتاب والسنة، وهذا الاطلاع عليها أثّر في بعض العقلاء منهم وفيهم من أسلم بسبب ذلك، وقد وجدتها الكاثوليكية ذريعة في اتهام لوثر بأنه يريد إقامة مملكة محمد - صلى الله عليه وسلم - بدل مملكة عيسى عليه الصلاة والسلام، مستشهدين بدخول بعض أنصاره في دين الإسلام، ومع أن لوثر العارف باللغة العربية قد حاول مهاجمة القرآن الكريم (¬3) إلا أن بعضًا من أصوله التي دعا إليها تتشابه مع بعض أصول الإسلام (¬4). والمهم الآن هو بيان أثر حركة الإصلاح الديني بشكل أو بآخر في تحريك أوروبا نحو الثورة العلمية، يقول "سترومبرج": "فانطلاقًا من حركة الإصلاح الديني والحركة المضادة للإصلاح الديني، ومن تصادم هاتين الحركتين الدموي والعنيف، اتجهت أوروبا وروما نحو عصر كبلر وجاليليو اللَّذينِ جعلا الكون بأكمله موضوعًا للتساؤل، وإعادة النظر في جميع المفاهيم التي كانت قد تشكلت عنه، حيث إنهما كانا يتجهان بالموكب نحو علوم طبيعية جديدة، بلغت الذروة ¬

_ (¬1) انظر: مجلة البيان، عدد 12 ص 80 عن مقال د. السيد محمد الشاهد (أثر الإسلام في حركة الإصلاح البروتستانتية)، وانظر له أيضًا: رحلة الفكر الإسلامي من التأثر إلى التأزم ص 99 - 102، وانظر: مذاهب فكرية معاصرة، محمد قطب ص 560 - 561. (¬2) انظر: المقال السابق، وانظر: تراث الإسلام، شاخت 1/ 50، وقد أحال صاحب المقال على صفحة 39 ولم أجده ووجدت قريبًا منه صفحة 50، وقد أخبرني الدكتور عبد الراضي حفظه الله وهو المتخصص في هذا المجال أن التاريخ الصحيح هو سنة (1311 م) وكنت قد سجلت سنة (1345 م) حسب المرجع. (¬3) انظر: رحلة الفكر الإسلامي من التأثر إلى التأزم، سبق ص 100، وقد أخبرني د. عبد الراضي حفظه الله أن الصحيح عن هذا الرجل عدم معرفته باللغة العربية. (¬4) انظر: مقالة الدكتور السيد محمد الشاهد في مجلة البيان، السابقة.

[3] الأمر الخارجي: أثر العلم المنقول من بلاد المسلمين في ظهور الثورة العلمية

في انتظام مناهجها بإسحاق نيوتن قرابة نهاية القرن. ولا غرو إذا شاهدنا الناس في تلك الحقبة لا يطيقون احتمال هدوء المناهج الكلاسيكية وسكينتها، فتلك الأجيال لم تر في أي شيء توازنًا أو استقرارًا. فهم الذين اكتشفوا وعثروا على قضايا أسطورية مرعبة، والعالم القديم البالغ من العمر ألفي عام بدا شظايا لأعينهم، وأخذ العالم الحديث بمحيطه الكفافي يرسل بومضات واهية، ويتراقص أمام بصر إنسان القرن السابع عشر فيلهمه حينًا ويرعبه أحيانًا" (¬1). وبهذين الحدثين الداخليين: حركة مفكري عصر النهضة المائلة إلى اللادينية، وحركة الإصلاح الدينية؛ حدث إضعاف لسلطة الكنيسة القديمة واستهانة بما تحمله من علوم. ولكن الانتقال إلى عصر علمي جديد يحتاج لأمر آخر يساعد في النقلة؛ وهو ما أشرنا إليه سابقًا بعلوم ومعارف ومناهج يحصلون عليها تُبيّن ضعف أو خطأ ما ورثوه وأهمية تجاوزه. [3] الأمر الخارجي: أثر العلم المنقول من بلاد المسلمين في ظهور الثورة العلمية: المعتاد لمن تأمل في تاريخ البشر عدم وجود ظاهرة جديدة دون مقدمات تسبقها، وأسباب تتسبب في وجودها، حتى تلك التي تظهر فجأة فلابد من علل وأسباب إما ظاهرة أو خفية. ولا يخرج عن ذلك ظاهرة العلم البشري الحديث، وقد رأينا فيما سبق الظروف العامة المهيأة لمناخ فكري جديد، وهنا سنرى ظروف خاصة بالعلم ومن داخله تُسهم في تطوره، وكان على رأس ذلك الحجم الكبير والهائل من العلوم المنقولة من بلاد المسلمين قبل زمن الثورة العلمية، وهذه وقفة مع هذا الحدث المهم الذي تتجاهله كثير من الدراسات. لقد كابدت أوروبا في عصورها الوسطى التخلف العلمي، بينما شهد العالم الإسلامي حضارة عظيمة وتقدمًا كبيرًا في هذه العلوم وغيرها، وقد أسهم هذا التراث العلمي الكبير الذي كوّنَه المسلمون بعد أن أخذه الغرب في حدوث ثورتهم العلمية، وذلك بعد أحداث دامية ألمّت بالعالم الإسلامي فأضعفت تقدم المسلمين وعصفت بحضارتهم، وقد ذكر "غوستاف لوبون" بأن الإسلام هو ¬

_ (¬1) تاريخ الفكر الأوروبي الحديث، رونالد ص 46.

المحرك للعقل الأوروبي بعد أن أيقظه من سبات طويل (¬1). وقد كان لهذه التركة العلمية الكبيرة المنقولة إلى الغرب أثر في إحداث أمرين مزدوجين: فمن جهة كشفت للمهتمين بالعلوم ضعف ما بين أيديهم، ومن جهة أخرى كانت أرضًا صلبة اتكأ عليها علماء الغرب في انطلاقتهم العلمية الجديدة. لقد كانت إذًا الشرارة الأولى من الحضارة الإسلامية، وذلك بعد النقل الكبير لكثير من معارف المسلمين وترجمتها إلى لغاتهم التي بدأت بقوة من القرن (6 هـ - 12 م) تقريبًا وما بعده، حيث ازدهرت في تلك المرحلة عملية الترجمة، وتحولت وقتها أوروبا إلى ما يشبه ورشة عمل مستمرة -وقد حدث في صورة سابقة مختلفة نوع من هذا النشاط في بلاد المسلمين "في القرن الثالث الهجري/ الثامن الميلادي تقريبًا" عندما ترجمت حضارة اليونان وغيرها إلى بلاد المسلمين، وتُعد هاتان المرحلتان في الترجمة من أشهر فترات الترجمة بين الحضارات- فترجمت عن المسلمين علومًا نافعة ومناهج جديدة مثمرة قادت أوروبا إلى عصرها الحديث. ومن أهم الأمور التي نقلها الغرب عن الحضارة الإسلامية: علوم قديمة طورها المسلمون وهذبوها، وعلوم جديدة أبدعها المسلمون يمكن إضافتها إلى حصيلة الفكر البشري، والأهم مما سبق المنهج الجديد -الذي أرسى دعائمه المسلمون- في طريقة البحث والنظر في العلوم الدنيوية، وهم بهذا يفتحون أعين الباحثين على أكثر من منهج في البحث والنظر بعد أن سيطر المنهج الصوري الأرسطي فترة طويلة (¬2). وقد كان من عادة الكثير من باحثي الغرب التنكر لهذه الحقيقة، لاسيّما في مرحلة الغرور الغربي وتعصبهم للذات الغربية والاحتقار لكل الشعوب ¬

_ (¬1) انظر: رحلة الفكر الإسلامي. . . .، السابق ص 96. (¬2) انظر: الموسوعة العربية العالمية، 16/ 363، 410 - 411، وانظر: التقييم الإبستمولوجي -المنهجي لمساهمات العلماء المسلمين وإضافاتهم في العلوم الرياضية والطبيعية من كتاب قضايا المنهجية في العلوم الإسلامية والاجتماعية، د. محمد على الجندب ص 31 وما بعدها.

الأخرى، فقد تعصب المؤرخون الأوروبيون فترة اشتداد الروح القومية في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر (¬1)، إلا أنه في القرن الرابع عشر/ العشرين ظهرت دراسات لشخصيات غربية مشهورة -أكاديميًا وعلميًا- تُبيّن الأثر الكبير للحضارة الإسلامية في الثورة العلمية الحديثة، وأن هناك نقلة كبيرة حدثت للغرب بعد احتكاك أهلها بعلوم المسلمين وحضارتهم (¬2). والعجيب بأن التيار التغريبي العربي يُغمض عينيه عن مثل هذه الحقائق، وإن تناولها فبحذر شديد وعلى استحياء، بل قد يهاجم من يتحدث عنها من كُتاب المسلمين، وكأنهم لا يريدون أن يُحسب للمسلمين مأثرة في هذا العلم، بينما تظهرُ في الغرب دراسات متلاحقة تركز على مناقشة هذه القضية وتفتح الحوار الأكاديمي حولها. لقد اتخذ تعرّف أوروبا على الإسلام والمسلمين -في أواخر عصرها الوسيط، ثم فترة النهضة والإصلاح الديني إلى بدايات العصر الحديث- عدّة صور، وصاحبَ ذلك تكوين رؤية ذهنية في عقول الأوروبيين، ويهمنا الآن -في هذا اللقاء الحاسم والتاريخي بين أوروبا والإسلام أو بين الغرب والشرق- موقفهم من دين المسلمين وعلومهم النقلية والعقلية، وصلة كل ذلك بالتطورات الكبرى التي حدثت في عصر أوروبا الحديث، وأهمها باب الثورة العلمية. منذ أن دخل الإسلام إلى أوروبا بداية القرن الثاني الهجري عن طريق بلاد الأندلس فإنهم لا يجهلون وجود المسلمين، ولاسيّما قياداتهم السياسية والدينية والفكرية. وبدأت تلك النبتة الطيبة الإسلامية تنمو في بلاد الأندلس وتزدهر وتعطي ثمارها، وجعلت من بلاد الأندلس منارة لأوروبا كلها، واشتاق كثير من أهل أوروبا للعيش فيها، ومنهم من قذف الله في قلبه نور الإيمان فأسلم، ومنهم من أحب بلاد المسلمين ولغتهم وثقافتهم مما دفع القيادات الأوروبية -السياسية والدينية- إلى محاولات كبيرة لتغييب شعوبهم في ظلام دامس وتضليلهم عن حقيقة الإسلام، ومع ذلك فقد فشل بعضها، يقول "بريفوت": "في كتابه -تكوين ¬

_ (¬1) انظر: التفكير العلمي، فؤاد زكريا ص 134. (¬2) انظر تعليقًا مهمًا لمحمد قطب في كتابه: مذاهب فكرية معاصرة ص 70 وما بعدها.

الإنسانية في القرن التاسع -تعلم الكثير من المسيحيين على علماء الإسلام. . . . ثم يروي أن رئيس دير كلوني. . كان يأسف لما شاهده أثناء إقامته بالأندلس من تهافت الطلبة -من فرنسا وألمانيا وإنجلترا- على مراكز العلم العربية، ويضيف بريفوت قائلًا: العلم هبة عظيمة الشأن جادت بها الحضارة العربية على العالم الحاضر" (¬1). فها هي أهم دول أوروبا تقذف بأبنائها إلى الأندلس مع أنها جزء صغير من بلاد المسلمين، ولكنها كانت الأقرب إليهم، فما بالك ببقية بلاد المسلمين. ومثل هذا الوضع لن يُرضي قيادات أوروبا، فنجد ما نقله "برنارد لويس" من "عبارات الأسى والامتعاض التي يعبر بها "الفارو". . . . في منتصف القرن التاسع -الميلادي- عما يشعر به إزاء سلوك الشباب من أمته: كثيرون من أهل ملتي يقرؤون شعر العرب وقصصهم ويدرسون كتابات علماء الكلام والفلاسفة المسلمين، لا لينقضوا أقوالهم؛ وإنما ليتعلموا كيف يعبرون عن أنفسهم بشكل أكثر دقة وإتقانًا. . . . جميع الشباب النصراني من ذوي المواهب لا يعرفون سوى العربية والأدب العربي جديرًا بالإعجاب" (¬2). وإذا كانت الأندلس نقطة اتصال سلمية -نوعًا ما- فإن هناك نقطة اتصال أخرى غير سلمية وقعت أيام الحروب الصليبية التي أتاحت للنصارى على مدى قرنين الاطلاع على الإسلام وعلوم المسلمين، وحدث لهم تأثر بذلك. إلا أن أصحاب الأهواء السياسية والدينية في أوروبا لم يحسنوا استقبال الإسلام، وقاموا بكل ما يستطيعون من أجل إعاقة تقدمه عن طريق الحروب أو التشويه الثقافي، لاسيّما مع حدوث ثلاث فواجع للكنيسة ومعتنقيها، وهي: سقوط الأندلس بأيدي المسلمين، ثم خروجهم من بلاد الشام بعد احتلال دام أكثر من مئتي عام الذي كان يمثّل تعويضًا عن خسارة الأندلس، ولكن الفاجعة الأكبر كانت بسقوط القسطنطينية. فهذه الأحداث أوغرت صدر سياسيي أوروبا ومثقفيها ورجال الكنيسة ضد المسلمين وإسلامهم، وقاموا برسم صورة مشوّهة ¬

_ (¬1) كتاب "بيت الحكمة" تونس ص 84، مقالة د. محمد السويسي: (انتقال العلوم العربية والحضارة الإسلامية إلى الغرب). (¬2) المرجع السابق ص 84.

عن الإسلام والمسلمين من أجل تنفير الأوروبيين من الإسلام، وكوّنوا مع الزمن تراثًا ثقيلًا من الأكاذيب يضغط على عقول الأوروبيين ويعمي أبصارهم عن رؤية الحقيقة، وما زال هذا التراث بمفاهيمه الأساسية يضغط إلى اليوم على تصورات الغربيين حول الإسلام. هكذا كان الوضع: مدن إسلامية مزدهرة بالعلم والتقدم تغري العالم من حولها، وفي الوقت نفسه حقد دفين على الإسلام ظهر بوضوح عند فلول المهزومين في الحروب الصليبية وغيرها عبّر عنها مجموعة من رجال الكنيسة بأسلوب رخيص يعتمد على تزوير الحقائق أمام شعوبهم. وأمام هذا الوضع خلصوا إلى أهمية أخذ علم المسلمين من جهة، والامتناع عن الاستنارة بنور الإسلام من جهة أخرى. فكان من آثار الأول ولادة العلم الجديد في أوروبا، ومن آثار الثاني ولادة علم الاستشراق الذي ولد بقرار كنسي (¬1) لا ليتعلموا الإسلام؛ وإنما ليكون أداة في نقض الإسلام بحسب تعبير "الفارو" السابق ومسهّلًا لعمليات التنصير. وهكذا ترسخت في الغرب طريقة أو منهجية -في أثناء الاحتكاك بالعالم الإسلامي- يمكن أن نطلق عليها اسم طريقة المسموح والممنوع وهي طريقة لا تخلو منها أمة من الأمم غالبًا أثناء احتكاكها بثقافة أخرى. فالمسموح به هو علوم المسلمين ومناهجهم العلمية، وقد يصل الأمر إلى الحث على تعلمها والتسابق إلى ذلك. أما الممنوع فهو دين الإسلام ونور الله في الأرض وهدايته إلى خلقه، وتجاوز أمر المنع إلى رسم صورة مظلمة عن الإسلام؛ ليصنعوا بذلك حاجزًا بين أقوامهم وبين الإسلام. ورغم كل جهود المنع وما صاحبها من تشويه وتلبيس إلا أن نور الإسلام قد تسلل إلى بعض العقلاء فأسلموا أو أنصفوه بين قومهم وقالوا كلمة الحق والعدل فيه. وفي مقابل هذه الصورة الغربية نجد صورة مغايرة سلكها الجيل التغريبي في العالم الإسلامي في أثناء احتكاك المسلمين بالغرب، حيث تغيّرت منهجية أو طريقة "المسموح والممنوع"، فقد كان همّ التغريبيين نقل الأيديولوجيات والمذاهب والتيارات الفكرية الغربية، ونشطوا في ذلك نشاطًا كبيرًا، حتى ملأوا ¬

_ (¬1) انظر: رؤية إسلامية للاستشراق، أحمد غراب ص 26.

أرض المسلمين من هذه الأيديولوجيات والمذاهب. وامتنعوا في المقابل -أو تكاسلوا- عن النافع والمفيد من العلوم الحديثة، وإنك لتجد لبعض المسلمين من المبتعثين للغرب ممن لا ينتسب لتيارات فكرية تغريبية جهدًا في نقل العلوم المفيدة أفضل مما لهؤلاء المحسوبين على الفكر والثقافة من المتغربين. فإذا كان الغرب -في بدايات نهضته- قد استفاد من علوم المسلمين؛ إلا أنه أخذ الفائدة الجزئية وترك الكلية، أخذ بعلوم المسلمين التي تنفع للدنيا وترك الإسلام الذي به سعادة الدنيا والآخرة، فما بال المتغربين لا ينقلون النفع الجزئي، بل نراهم ينقلون ما يفسد على المسلمين إسلامهم، والله سبحانه قد أنعم علينا بالإسلام ورضيه لنا دينًا، وما ينقله المتغربون هو في الغالب مما يتعارض مع الإسلام ويدخل الشبهات في قلوب المسلمين. وهم رغم معرفتهم بلغات أجنبية وعيش أكثرهم زمنًا في البلاد الغربية لم يقدموا شيئًا في باب العلوم النافعة إلا ما ندر، والناظر في المكتبة التغريبية لا يكاد يجد كتابًا نقل ما ينفع المسلمين، بينما يغلب على كل واحد أنه قد وجّه جُلّ نشاطه للتعريف بمذهب أو تيار أو شخص في الغرب، والأمة الإسلامية لن تنسى قُبح عملهم بعد أن نذروا جلّ وقتهم لنقل الأيديولوجيات الغربية التي لا حاجة لنا بها، بل إن أهلها يتركونها الآن، وفي ديننا غنى عنها، وفي المقابل تركوا ما يفيد المسلمين وما حثّ عليه إسلامنا من العلوم النافعة لحياة الناس الدنيوية. والآن لنغمض العين على حرقة في القلب عندما حُرمت أوروبا من التعرف الصحيح على الإسلام بسبب تلك الحملة الصليبية من القادة السياسيين والدينيين، ومن أثر الجيل التغريبي العربي المشين في عصر المسلمين الحديث، ولنعد إلى سياق الثورة العلمية لنفتح العين مرّة أخرى على الأثر المهم الذي أثّرت به علوم المسلمين على تلك الثورة عندما نُقلت إليهم، وقد كانت سعادتهم أكبر لو نقل إليهم الإسلام مع علوم المسلمين. وسأكتفي في هذه الفقرة بذكر ملخص صغير عن دور المنقول من علوم المسلمين في إحياء الحركة العلمية في أوروبا وقيادتها نحو الثورة العلمية، معتمدًا في هذا الملخص على كتابين متشابهين في مادتهما حول أثر علوم المسلمين في نهضة أوروبا العلمية وهما: "تاريخ الفلسفة والعلم في أوروبا الوسيطة"، والمجلد الأول من "تاريخ العلوم العام: العلم القديم والوسيط. من

البدايات حتى سنة (1450 م) " (¬1) حيث نجد فيهما مادة ثرية حول الموضوع، وسيكون الأول هو الأصل: يورد مؤرخو العلم الدنيوي حقبة العلم العربي الكبرى بين القرن الثامن الميلادي والثاني عشر/ الأول الهجري والسادس؛ أي: ما يقرب من خمسة قرون، وسوف تقوم حركة "ترجمة" كبيرة في أوروبا لهذه العلوم، والتي سوف تُطلِق في الغرب بعد ترجمتها حركة فكرية كبرى أدت إلى نهضة القرن الثاني عشر/ الثامن عشر (¬2). بدأت التسربات الأولى في القرن العاشر الميلادي (4 هـ - 10 م) وما قبله إلى عصر الترجمات الكبرى في القرن الثاني عشر وما بعده، وكانت طرق التسرب والتعرف متنوعة أشهرها طريقان (¬3): الأول في أوروبا عن طريق بلدين أو مملكتين إسلاميتين استلبهما النصارى فيما بعد الأندلس وصقلية، والثاني في الشام زمن الحروب الصليبية التي استمرت أكثر من قرنين؛ حيث قربتهم تلك الحروب من إحدى حواضر الإسلام الكبرى. بدأ الأمر بقيام بعض الأديرة بترجمة الكتب العلمية، تبع ذلك بروز أشخاص ومدارس كان لهم أثرٌ كبير في تعريف الغرب علوم المسلمين، وكان منهم "جيربرت" الذي يُعدّه البعض أول ناقل مشهور لعلم العرب، كنقله الحساب وبعض الأدوات العلمية كالإسطرلاب، ثم ظهرت "مدرسة ساليرن" التي عنيت بعلوم المسلمين، وكان أحد مؤسسيها الأربعة يدرّس بالعربية، وأخيرًا جاء دور مميز لـ "قسطنطين الإفريقي" بنفس العمل. ¬

_ (¬1) الكتاب الأول: تاريخ الفلسفة والعلم في أوروبا الوسيطة، تأليف جونو وبوجوان. ترجمة د. علي زيعور، د. علي مقلد، والكتاب الثاني: تاريخ العلوم العام -المجلد الأول: العلم القديم والوسيط من البدايات حتى سنة (1450 م)، بإشراف رنيه تاتون، ترجمة د. علي مقلد، وانظر فصلًا مهما في: المقدمات التاريخية للعلم الحديث من الإغريق القدماء إلى عصر النهضة، توماس جولد شتاين ص 109 - 144 بعنوان: (هبة الإسلام)، ترجمة أحمد حسان، وانظر: مدخل إلى التنوير الأوروبي، هاشم صالح ص 42 - 66، وانظر: تاريخ الدراسات العربية في فرنسا، د. محمود المقداد ص 24 - 28، وانظر: أثر العرب في الحضارة الأوروبية، عباس العقاد، وانظر: الحضارة الإسلامية أساس التقدم العلمي الحديث، جلال مظهر. (¬2) تاريخ العلوم العام 1/ 455. (¬3) المرجع السابق 1/ 456.

امتد الجهد السابق في القرن العاشر والحادي عشر الميلادي تقريبًا (4 - 5 هـ)، ثم جاء بعد ذلك: عصر الترجمات الكبرى في القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي، وهو قرن تحولت فيه أوروبا ومدنها العلمية إلى مراكز ترجمة لما عند المسلمين. يقول شارل هسكنس عن عمل الترجمة في ذلك العصر: "لم يكن عمل المترجمين منحصرًا في مكان خاص، بل إن النقل قد تمّ ببرشلونة وطرزونة وسيجوفيا وليون وبمبلونا، كما أنه ظهر أيضًا من وراء جبال البيريني بطلوزة وبيزبي وأربونة ومرسيليا، ولكن المركز الرئيسي للترجمة كان في النهاية مدينة طليطلة" (¬1). وستتواصل جهود الترجمة وتتحول إلى نمط ثقافي سائد في أوروبا، فتظهر مدارس للترجمة في نهاية القرن الثالث عشر الميلادي/ السابع الهجري، ففيه: "تكاثرت التراجم من العربية إلى اللاتينية إلى درجة أن سارتون. . قسمها إلى أربع مجموعات: إيطاليو إيطاليا، الصقليون، وتراجمة مونبليه، ثم الإسبان. ." (¬2). وهكذا كان حال أوروبا في ما يقرب من أربعة قرون، نشاط كبير في الترجمة، يعجب منه الناظر في زمننا وهو ينظر في الحال التي نحن عليها، وربما بعض الناس اليوم لو قرؤوا مثل هذا الكلام ما صدقوه بعد أن انهارت قواهم المعنوية أمام الحضارة الغربية الحديثة في ظل هزيمة نفسية مؤلمة ربما يعالجها تذكر مثل هذا التاريخ. كانت إيطاليا منطلق عصر النهضة الأوروبية، ولا غرابة وهي تلتصق ببوابة مهمة تُطل من خلالها على علوم المسلمين وهي صقلية (¬3)، وقد استفادوا منها كثيرًا، لاسيّما بعد استيلائهم عليها. لكن البوابة الكبرى لاسيّما في القرن الثاني عشر كانت الأندلس المنافسة لصقلية، وذلك بعد أن استولى عليها النصارى وقاموا بأحد أبشع المذابح المعروفة في التاريخ البشري، وأصبحت مركز التعلم الأول لأوروبا "والمركز الثقافي الكبير، حيث كان مثقفو أوروبا كلها ¬

_ (¬1) كتاب "بيت الحكمة" التونسي، مقالة د. محمد السويسي: انتقال العلوم العربية والحضارة الإسلامية إلى الغرب ص 88، وليس المهم معرفة تلك المدن؛ لأن غرضي بيان أن أوروبا تحولت إلى ورشة عمل لترجمة الحضارة الإسلامية. (¬2) تاريخ العلوم العام 1/ 464. (¬3) كتاب بيت الحكمة السابق ص 87 - 88.

-بما فيهم الطليان- يأتون لاستقاء العلم من مصادره العربية" (¬1). وممن عرف في هذه المرحلة "اديلار الباتي" (1090 - 1160 م) الذي تعلم في بلاده، ثم في بلاد المسلمين ولاسيّما مدرسة طليطلة (¬2)، وتشبع بالعلوم العربية، وله في ذلك مقولة: "هل من أحد غيري تعلّم على يد المعلّمين العرب سلوك درب العقل،. . . ." (¬3)، وكأن في ذلك نوع من الافتخار، وأصبح العارفون باللغة العربية والعلوم المنقولة من بلاد المسلمين هم رواد الثقافة والمقربون من الملوك والأمراء في أوروبا. بدأت الطوائف المشهورة تعتني أيضًا بأتباعها، ويترجم مثقفوها ما ينفعهم من علوم المسلمين، ومن ذلك أثر أحد اليهود -سافاسوردا- الذي "ألف تأليفًا ضخمًا في العبرية، بقصد تفهيم العلم العربي للطوائف اليهودية في جنوب فرنسا" (¬4)، وقد كان لليهود أثر كبير في نقل علوم المسلمين إلى أوروبا أيضًا. ها نحن نقترب من القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي، وفيه تشهد أوروبا حركة علمية، ويبرز بقوة أثر "الجامعة" كمؤسسة علمية جديدة بعد أن احتوت ثمار العلوم المنقولة من بلاد المسلمين وانطلاقهم بها فيما ينفعهم، فبعد أن عاشت أوروبا ما يقرب من خمسة قرون في ظلمات القرون الوسطى على حسب تعبير مؤلفي تاريخ الفلسفة والعلم؛ جاءت يقظتها مع التأثيرات الإسلامية في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلادي، أعقبها ما أطلقوا عليه: "نهضة الجامعات والعصر الذهبي للعلم المدرسي في القرن الثالث عشر وبداية الرابع عشر" (¬5). إلا أنه في هذا القرن (7 هـ - 13 م) قد فقد العالم الإسلامي قطعة غالية من ¬

_ (¬1) تاريخ الفلسفة والعلم (الأصل) ص 183. (¬2) بعد احتلال النصارى لطليطلة (1085 م) حولوها إلى مركز لترجمة علوم المسلمين، وبرزت مدرسة طليطلة كأشهر نقاط العبور بين الشرق والغرب، فتُرجمت كتب "الخوارزمي" و"الحسن بن الهيثم" وغيرهما في الرياضيات والفيزياء. انظر: تاريخ الفلسفة والعلم (الأصل) ص 188 - 189، وص 88 وما بعدها. (¬3) تاريخ الفلسفة والعلم (الأصل) ص 184. (¬4) المرجع السابق ص 186. (¬5) المرجع السابق ص 168 - 169.

جسده كانت تشع بنورها على أوروبا كاملة وهي بلاد الأندلس، وقُضي على المسلمين فيها بصورة بشعة، وطاردوهم عبر محاكم التفتيش ذات التاريخ الأسود، وحاولوا طمس معالم الإسلام أينما وجدوها ما عدا العلوم النافعة لهم، وبذلوا كل ما يستطيعون من أجل تشويه صورة الإسلام في عقول شعوبهم، وسُدّت كل منافذ الدعوة إليه، وحُرم الأوربيون من التعرف عليه. إلا أن التاريخ لن ينسى أثر الأندلس المسلمة في يقظة أوروبا النصرانية، ولن ينسى بأن الأندلس مع أختها صقلية وغيرهما بقيتا من القرن العاشر الميلادي إلى نهاية الثاني عشر تقريبًا مركز الإشعاع لهم ونقطة الاتصال بالحضارة الإسلامية. وإنما ذكّرت بهذه الحقائق لأن أصحاب الكتاب السابق حاولوا إغفالها بقولهم: "إن أهمية العمل الذي تحقق سابقًا -أي: في القرنين الحادي عشر والثاني عشر-، وتراجع الإسلام في إسبانيا، وبذات الوقت تصاعد المسيحية؛ كل ذلك غير إلى حدٍ ما في القرن الثالث عشر سمة المركزين الكبيرين للترجمة: إسبانيا وصقلية، وبدلا من استقبال الثقافة العربية بشكل سلبي خالص، قام نوع من النشاط الخلاق بفضل تأثير ملكين متنورين: فريدريك الثاني وألفونس العاشر ملك قشتالة" (¬1). فهم يغفلون المجازر الوحشية التي حدثت للمسلمين، ويصورون المسألة كأنها فقط تراجع للإسلام وتقدم للمسيحية، وكأن المسألة تمت بتحول طبيعي وسلمي. وقد تحدثوا عن أثر الملكين المتنورين الهام في نقل العلوم من بلاد المسلمين إلى أوروبا ودمجها بالحياة العلمية والثقافية، إلا أنه لا يخفى بأن ملوك أوروبا آنذاك ومن خلفهم رجال الكنيسة كانوا يتحركون باتجاهين: أحدهما: قيادة الحروب الصليبية ضدّ المسلمين، والثاني: ترجمة علوم المسلمين إلى لغات شعوبهم. ومن ذلك ما قام به "فريدريك" من مراسلات "لملوك الشرق" للاستفادة مما عندهم من العلوم، ورعايته لمجموعة كبيرة تتقن العربية من العلماء ليترجموا له علوم المسلمين، وأغلبهم ممن درس في بلاد المسلمين أو عاش فيها، ومن أشهرهم "ميشال سكوت" و"ليوناردي بيزا"، ويظهر أن هذا الملك قد فتح عيون أوروبا لطريقته، فقاموا بفتح بعض نوافذهم لاستقبال شمس الشرق كألفونس ¬

_ (¬1) تاريخ الفلسفة والعلم (الأصل) ص 190.

العاشر وغيره، ومع ذلك فلا ننسى بأن هؤلاء قد أجرموا في حق أممهم عندما حرموهم من معرفة الإسلام بما وضعوه من حاجز بين شعوبهم وبين الإسلام، أما ما نقلوه من علوم المسلمين مما ينفع في الدنيا فقد ظهرت ثمرته في مولد العلم الجديد.

ثالثا: الثورة العلمية

ثالثًا: الثورة العلمية سبق الحديث عن الأجواء الممهدة لما اصطلح عليه فيما بعد "الثورة العلمية"، ورأينا صورة من التفاعلات الاجتماعية داخل المجتمع الأوروبي مع ما صاحب ذلك من تأثير بارز للحضارة الإسلامية وعلوم المسلمين في زيادة وتيرة الحراك الاجتماعي الأوروبي. وبما سبق يصل المجتمع الأوروبي إلى حافة نقلة نوعية كبيرة أُطلق عليها فيما بعد "الثورة العلمية"، ونظرًا لأهمية هذه الفقرة بالذات للبحث، فسأقف معها وقفة مطولة نسبيًا لأعيد تحليل هذا الحدث الكبير وفق رؤية نقدية إسلامية. وترجع أهمية هذا الحدث -الثورة العلمية- لظهور أول نظرية جديدة تأخذ شعبيةً كبيرة، وتُحدث صراعًا كبيرًا، وتعيد تشكيل خريطة الفكر الغربي كاملًا، وما تبع ذلك من تطورات على مستوى المجتمع الغربي ككل، وستصبح هذه النظرية نموذجًا لما يظهر بعدها من نظريات في صور الصراع المتوقعة مع بروز نظرية جديدة، والآثار المترتبة على ذلك، والمناهج المصاحبة لإدارة ذلك الصراع، والرؤى المقترحة حوله. ورغم توالي النظريات العلمية في الظهور بعد حدوث الثورة العلمية؛ فإن الأحداث المصاحبة لظهور كل نظريةٍ جديدة لا تختلف كثيرًا عن صورة الأحداث المصاحبة لأول نظرية. ويزيد في أهمية دراسة ذلك الحدث بأن امتداد هذا الصراع ظهر في كل بلد دخلته تلك النظرية -أو ما بعدها من نظريات- بما في ذلك بلاد المسلمين مع بداية احتكاكنا بالغرب في القرنين الأخيرين. وتحليل هذا الحدث المهم يسهم في تفسير ما يصاحب بروز النظريات العلمية من مشكلات في أي مكان ظهرت فيه، ويساعد في رسم الموقف السليم مع أي نظرية ظهرت أو ستظهر.

معالم الحدث في الكتابات الفكرية

معالم الحدث في الكتابات الفكرية نجد عند العودة إلى المراجع التي درست الثورة العلمية أو مرحلتها التاريخية نوعًا من الاتفاق على ذكر أحداث معينة أسهمت في حدوث الثورة أو تطورها، ومن أهم ما يذكر ما يلي: أولًا: أن الثورة العلمية انطلقت في المقام الأول من علم الفلك ويتبعه مباشرة علم الفيزياء. ثانيًا: أن النظرية الجديدة في علم الفلك هي القول بأن الأرض تدور حول نفسها من جهة، وحول الشمس من جهة أخرى -هذا في الجملة- على تفصيل يأتي ذكره، ورغم وجود مثل هذا الكلام قديمًا إلا أنه لم يكن هو السائد والمقبول. ثالثًا: أن هناك أسماء بارزة أسهمت في هذا الحدث أهمها -رغم وجود غيرها- "كوبرنيكوس" و"براهي" و"كبلر" و"برونو" و"جاليليو" ويختم عند الأغلب بـ "نيوتن"، ويطلق على النظرية غالبًا نظرية كوبرنيكوس أو النظرية الجديدة في الفلك. رابعًا: أن صراعًا عنيفًا قام بين الكنيسة من جهة وأقطاب علم الفلك الجديد من جهة أخرى، في فترة كانت الكنيسة قوية، فبدّعت وكفّرت وهددت وسجنت وأحرقت أو شاركت في إحراق البعض، وقد رسّخَ هذا الصراع صورةً نمطية أصبحت فيما بعد يعبر بها عن علاقة الدين بالعلم. خامسًا: أن تطورًا مهما صاحب ما سبق ولحق به على مستوى المنهج والفكر، قاد هذا التطور مجموعة أسماء أهمها "بيكون" و"ديكارت".

[1] البداية من علم الفلك

[1] البداية من علم الفلك: من يرجع إلى المكتبة الثقافية لينظر حجم ما كتب حول الفقرات السابقة؛ يجد ذلك الكم الضخم الذي يصعب اختصاره هنا رغم أهميته للبحث، وأي اختصارٍ مهما كان دقيقًا فهو يبقى مخلًا في عرض الجوانب السابقة، ومع ذلك فلكل باحث حدوده في بحثه، وأجد نفسي مضطرًا إلى اختصار ما يصعب اختصاره: أ- علم الفلك القديم: كان علم الفلك أحد العلوم السبعة (¬1) التي تُدرّس في جامعات أوروبا ويحرص عليها المتعلم الجديد، ويصعب تعليل "لم كانت انطلاقة الثورة العلمية من علم الفلك بالذات، و -لم- لم تأت من غيره"! ومع هذا فعلم الفلك كان أحد العلوم المشهورة آنذاك، ويحرص عليه كثير من المتعلمين. وكان عمدتهم في علم الفلك على كتاب "المجسطي" لبطليموس بحسب ما نقل عن المسلمين مع إضافات فلكيي المسلمين وغيرهم، مع مجموعة رسائل مدرسية سهلة لمن يصعب عليه كتاب "المجسطي" (¬2). كان محور عناية الفلكي يدور عن الأرض التي نعيش عليها وما يرى حولها من كواكب ونجوم، وعامة الناس يعلمون أنهم على الأرض، ويرون في النهار الشمس، وفي الليل أقرب ما يرونه القمر، ومن خلفه مجموعة هائلة من النجوم تزين السماء، وقد وردت آيات كثيرة في القرآن عن الأرض والقمر والشمس والنجوم والسماء، داعية العاقل إلى التأمل فيها والاعتبار بها ليتوجه القلب بعد ذلك إلى تعظيم خالقها وإلى عبادته سبحانه. وقد ظهر علم الفلك منذ زمن بعيد ليعتني برصد هذه الأفلاك ومعرفة أشكالها وأحجامها وحركاتها وآثارها، ويُذكر أن أصل هذا العلم أخذ عن ¬

_ (¬1) العلوم السبعة هي: (النحو، المنطق، الخطابة، الهندسة، الحساب، الفلك، الموسيقى). انظر: موسوعة الفلسفة، بدوي 1/ 427. (¬2) كان أشهر هذه الرسائل (في الفلك) لساكروبوسكو، وقد ظلّت ذات شعبية إلى زمن جاليليو، مع أن وفاة مؤلفها حوالي 1256 م، انظر: فجر العلم الحديث. . . .، توبي أ. هف ص 377.

"إدريس" عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام والله أعلم بحقيقة ذلك كما يقول شيخ الإسلام ابن تيميه - رحمه الله -، ومنه ما هو صحيح حيث يقول أيضًا: "أما الحساب -وهو نوع منه- فهو معرفة أقدار الأفلاك والكواكب وصفاتها ومقادير حركاتها، وما يتبع ذلك، فهذا في الأصل علم صحيح لا ريب فيه، كمعرفة الأرض وصفتها، ونحو ذلك، لكن جمهور التدقيق منه كثير التعب، قليل الفائدة، كالعلم مثلا بمقادير الدقائق، والثواني، والثوالث في حركات السبعة المتحيرة. . . ." (¬1)، ومنه ما هو حرام كعلم التنجيم القائم على السحر وما في بابه، أو خاطئ كأي علم توجد فيه ثغرات تُصحح مع الزمن. فالصحيح منه ما قام على الرصد والتأمل والحساب، وقد يعتريه الخطأ من بعض جوانبه، لاسيّما مع نقص الأجهزة الكافية للوصول إلى نتائج سليمة. ومن مشاكل علم الفلك القديم أنه اشتهر في بيئات وثنية كاشتهاره في بلاد اليونان الوثنية، فاشتغل به بعد ذلك كثير من الناس ليوصلهم إلى أبواب التنجيم، وقد كان التنجيم بابًا لجمع الأموال واستغلال رغبة الناس في معرفة المستقبل والغيب، وكان بابًا للوصول إلى الرئاسة، حيث كان كثير من الملوك والأمراء يقربون المنجمين ويستشيرونهم في كثير من الأمور. وهكذا إما أن نجد المنجم كاهنًا في أحد المعابد التي تُعبد فيها الكواكب والنجوم، أو لصًا يجمع الأموال ويتّجر بهذا العلم، أو مقربًا من السلاطين والملوك فينعم بالمنزلة والمكانة. لهذا وغيره راج سوق علم التنجيم وكثر طلابه، بخلاف علم الفلك الصحيح، فهو أصعب وطلبه أعسر. وقد كان الموقف الشرعي في الجملة إباحة ما ينفع منه وتظهر ثمرته أو السكوت عنه، وتحريم ما لا ينفع، وفيه انحراف عقدي؛ كادعاء علم الغيب ومعرفة آثارها في الأرض على وجه التفصيل أو ما إلى ذلك (¬2). والغريب في الأمر أن رواد الثورة العلمية الفلكية كان عندهم عناية بأمور التنجيم إلى جانب عنايتهم بعلم الفلك الصحيح، وكان عند بعضهم اعتقاد شيء ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى 35/ 181. (¬2) انظر: علم النجوم هل الشروع فيه محمود أم مذموم؟ الإمام الحافظ الخطيب البغدادي ص 21 - 46، تحقيق طارق العمودي.

ب - علم الفلك الجديد وشخصياته

من ألوهية بعض النجوم كعقائد الوثنيين القدامى، وفيهم من اعتقد بالامتداد اللانهائي للكون منبهرًا بهذا المشهد الذي علمه وما صاحب ذلك من القول بوحدة الوجود. فهذه الأمور وغيرها كانت موجودة عند أغلب رواد الثورة العلمية الفلكية، ومع ذلك لا تجدها مذكورة في الكتب التي تحدثت عن الصراع بين الدين والعلم كما يقال، حيث يُظهرون أهل الدين أنهم أهل خرافة بينما أقطاب العلم كأنهم بعيدون عنها، مع أن الجميع -رجال الكنيسة ورواد الثورة العلمية- يشتركون في جوانب من الانحراف العقدي ويجمعون صورًا من الخرافة والدجل. كان الأمر في باب الفلك في العصور الوسطى الأوروبية قد استقرّ على نظرية "بطليموس" مع الصورة الأرسطية، وأخذت الكنيسة بتلك النظرية وأصبحت جزءًا من معتقدات النصارى، وقد كان الرسم المتخيل للكون بحسب رأي "أرسطو" بأن الأرض هي المركز، حولها الماء، ثم في دائرة أعلى الهواء، ثم القمر، وهذه الكونيات التي تحت القمر، وفوق القمر مجموعة دوائر لمجموعة كواكب، وهي ستة، ثم بعدها حزام مليء بالنجوم (¬1). كانت هذه هي النظرية السائدة، ونظرًا لأن المجتمع الأوروبي قد مرّ بأحداث كبيرة ضربت الكنيسة وعلمها، من ذلك الحركة الإنسانية وحركة الإصلاح الديني؛ فقد صاحب ذلك بلبلة عميقة أصابت الأوروبيين. ورغم اتفاق الكنيسة الكاثوليكية والمنشقين الجدد البروتستانت على نظام أرسطو؛ إلا أن هناك فئة بدأت تتشكك فيه، ويرون فيه ثغرات كبيرة، ويبحثون عن تصور جديد حول طبيعة حركة ما يرونه من أفلاك لاسيّما الدائر منها فيما أطلق عليه فيما بعد بالمجموعة الشمسية. ب - علم الفلك الجديد وشخصياته: كان أغلب رواد الثورة العلمية الفلكية الجديدة من أبناء الكنيسة، ومنهم من سلك في مراتبها درجات عليا، إلا أنه كما حدث من أبنائها من انشق عنها في الجانب الديني الطقوسي؛ فهناك أيضًا من سيبدأ في الانشقاق عنها في ما تعتقده من علوم ومعارف، وهذا يقودنا إلى التعرف على شخصيات المرحلة الجديدة، والنظرية التي ضربوا بها الفكر السائد في زمنهم. ¬

_ (¬1) انظر: فجر العلم الحديث، توبي أ. هف ص 381.

1 - مولد النظرية مع كوبرنيكوس

في أثناء حديث الدكتور محمد قطب عن الطغيان العلمي الذي تمارسه الكنيسة ورجالها ذكر بأنها تفرض "على العقول ألا تفكر في أمور الكون المادي بما تقتضيه الملاحظات والمشاهدات العلمية، وأن تلتزم بالتفسيرات الكنسية لما جاء من إشارات في التوراة عن شكل الأرض وعمر الإنسان، ولو خالفت هذه التفسيرات كل حقائق العلم النظرية والعلمية على السواء! بدأت القصة، أو بدأت الزوبعة حين قال العلماء: إن الأرض كروية وإنها ليست مركز الكون. ويعرف التاريخ الأوروبي من أبطالها ثلاثة أسماء شهيرة غير الأسماء الأخرى التي لم تلمع على صفحات التاريخ، وهؤلاء هم كوبرنيكوس وجردانو برونو وجاليليو. ." (¬1). ولعل من المفيد إضافة "براهي" و"كبلر" و"نيوتن". وأغلب هؤلاء كانوا في القرن السادس عشر الميلادي وبداية السابع عشر باستثناء نيوتن فقد كان عالم أوروبا في القرن السابع عشر (10 - 11 هـ)، وهذا يقودنا إلى ملاحظة ذكرها "توبي أ. هف" بأن: "القرن السادس عشر كان قرنًا من الابتكارات الفلكية التي أعادت ترتيب الكون بشكل جذري" (¬2)؛ أي: ترتيب الأخطاء المتصورة في العلم الفلكي الأوروبي عن الكون. 1 - مولد النظرية مع كوبرنيكوس: وقد بدأت محاولات الترتيب مع كوبرنيكوس فيما يطلق عليه عادة "الثورة الكوبرنيكية"، وتذكر "الموسوعة العربية العالمية" بأن: "نهضة العلم ابتدأت في أوروبا عام (1543 م) بطبع كتابين دحضا التقاليد السائدة، كتب أحدهما الفلكي البولندي نيكولاس كوبرنيكوس، وكتب الثاني أندرياس فزاليوس، وهو عالم تشريح. . . ." (¬3)، وكتاب "كوبرنيكوس" هو "حول دوران الأجسام السماوية" (¬4) الذي ¬

_ (¬1) مذاهب فكرية معاصرة ص 47، وانظر: تاريخ الفلسفة الغربية (الكتاب الثالث) الفلسفة الحديثة، راسل، ترجمة محمد الشنيطي ص 58 الذي خصّ أربعة بالذكر (كوبر وكبلر وجاليليو ونيوتن). (¬2) فجر العلم الحديث ص 358. (¬3) الموسوعة العربية العالمية 16/ 364. (¬4) قد يرد اسم شحص أو مفهوم أو كتاب بألفاظ مختلفة في الكتب المترجمة؛ وذلك كعادة المترجمين العرب في عدم اتفاقهم على ما يترجمونه، ومثاله هنا كتاب كوبرنيكوس، =

تحدى فيه "وجهة نظر بطليموس التي مفادها أن الأرض هي مركز الكون، وكانت نظرية بطليموس التي تقضي بمركزية الأرض تتطلب سلسلة معقدة من الحركات الدائرية كي تفسر مشاهدات الفلكيين بصدد الطريقة التي تتحرك بها الكواكب. فقد أدرك كوبرنيكوس أنه إذا كانت الأرض والكواكب الأخرى تدور حول الشمس، فإن ترتيبًا أقل تعقيدًا من الدوائر يمكن أن يفسر حركة الكواكب المنظورة، ولكن نظريته المتعلقة بمركزية الشمس لم تحدد بدقة حركات كل الكواكب. ." (¬1). وقد تردد كوبرنيكوس في إخراج نظريته، وكتابه المشهور صدرت طبعته الأولى وهو على فراش الموت، وما تداوله الناس إلا بعد موته، وبهذا تجاوز مشكلة مواجهة الكنيسة والجمهور العلمي. وقد عني الناشر بالتنبيه إلى أن كوبرنيكوس قدم نظريته على أنها مجرد فرض فلم يُثر الكتاب اعتراضًا كما يقول يوسف كرم، وهي نظرية "قال بها قبله أرسطرخس الفيثاغوري، وذكرها شيشرون في أحد كتبه، وقرأها كوبرنك، فعمل على تأييدها، أو بعبارة أصح، على بيان إمكانها" (¬2). وفي مقدمة الكتاب بقلم صديقه "أوسياندر" أكد على ذلك حيث قال بأن: "نظرية اعتبار الشمس مركزًا قدمت كفرض"، إلا أن "راسل" يلمح إلى عدم وجود يقين بصدد موافقة "كوبرنيكوس" على هذا الكلام، وقد أهدى كتابه إلى البابا، وكأنه نجا بذلك من إدانةٍ كاثوليكية رسمية حتى حلّت عليه زمن "جاليليو" (¬3). كان كوبرنيكوس (1473 - 1543 م) رجل دين بولنديًا -أي: أنه من رجال الكنيسة المعتبرين- وبعد جولة له في إيطاليا عاد إلى موطنه، حيث كان كاهنًا فيها، هذا من جهة معتقده. ¬

_ = فنجده هنا (حول دوران الأجسام السماوية)، وفي ترجمة محمد الشنيطي لكتاب راسل: تاريخ الفلسفة الغربية جعله (عن الدوران في فلك السماء)، وفي ترجمة فؤاد زكريا لكتاب راسل: حكمة الغرب نجده بـ (في دوران الأجرام السماوية)، وفي ترجمة شكري سعد لكتاب العلم في التاريخ لبرنال عنونه بـ (دورة الأجرام السماوية)، ولولا الإطالة لذكرت غير ذلك، هذا والمترجَم شيء واحد، وهو عنوان كتاب متفق عليه، فكيف سيكون الحال إذا كان المترجم هو موضوعات الكتب. ومثل ذلك أسماء الشخصيات والمقولات المهمة والمصطلحات العلمية أو الفلسفية. (¬1) الموسوعة العربية العالمية 16/ 364. (¬2) تاريخ الفلسفة الحديثة، يوسف كرم ص 18. (¬3) انظر: تاريخ الفلسفة الغربية (الكتاب الثالث) الفلسفة الحديثة ص 58 - 59.

أما الجوانب العلمية فقد كان أستاذ الرياضيات أثناء إقامته في روما، وعنايته بالفلك كانت في وقت فراغه، ومن خلال تأملاته الفلكية وبحوثه وصل إلى نتائج جمعها في كتابه الآنف الذكر، وهو يعد مؤسس علم الفلك الحديث. ومما يُذكر عنه أنه درس في جامعة بادوا في إيطاليا، وهي جامعة اشتهر عنها العناية بالعلوم المنقولة عن المسلمين، وكانت تمثل إحدى النقاط المهمة في تعرف الغرب على الشرق (¬1). وخلاصة نظريته: أن للأرض حركة مزدوجة، دورة يومية حول نفسها، ودورة سنوية حول الشمس، وأن القمر يدور حول الأرض، وأن الأرض والقمر والكواكب الأخرى كلها تدور حول الشمس، مع إثبات كروية الأرض ككروية القمر وغيره مما يشاهد في السماء، وبيّن بالتفصيل أنه بهذه النظرية يمكن تفسير جميع المظاهر الفلكية، وجعل دورانها حول الشمس في حلقة دائرية تبعًا للاعتقاد الفلسفي اليوناني بأن الدائرة أكمل الأشكال الهندسية والله سبحانه لا يخلق إلا الأفضل (¬2). وقد ذكر غير باحث بأن لـ "كوبرنيكوس" عبارات في تعظيم الشمس، ومنهم من حملها على المجاز، ومن ذلك ما قاله فيها بعد وصف الأفلاك: "في الوسط تجلس الشمس على عرشها، ومن معبدها المنير يشع نورها على الكون كله، ومن الحكمة أن نسميها بالمصباح المنير أو العقل المدبر أو حاكم الكون، وسماها الإله المنظور. ." (¬3). لقد كانت هذه النظرية بما خلفها من نظريات وحسابات وما بعدها من نتائج وحقائق، جديدة على المجتمع الغربي، وجديدة على الأوساط الفكرية العلمية الدينية، إلا أنها لم تكن جديدة على بيئات أخرى لاسيّما علم الفلك في بلاد المسلمين، يقول توبي: "فمن المتفق عليه الآن بشكل عام أن التصور الكوبرنيكي الجديد للكون لم يقم على ملاحظات جديدة مذهلة أو أساليب ¬

_ (¬1) انظر: ما قاله د. حسن حنفي في كتابه: مقدمة في علم الاستغراب، في الهامش رقم (279) ص 177. (¬2) انظر: تاريخ الفلسفة الغربية، راسل ص 58، وانظر: العلم في التاريخ، برنال 2/ 48. (¬3) العلم في التاريخ، برنال 2/ 48.

رياضية جديدة لم تكن معروفة لدى العرب" (¬1)، ذلك أن علماء الفلك في البلاد الإسلامية قد حاولوا تجاوز كتاب المجسطي المعتمد في باب الفلك في أغلب بلاد العالم آنذاك. ويشير باحث عربي -عبد الحميد صبرة- إلى أن عالم الرياضيات ابن الهيثم لعب دورًا مهمًا في حفز الفلكيين العرب لتجاوز بطليموس واليونانيين، حيث صرح في أثناء شرحه لكتاب "المجسطي" بأن الترتيبات المقترحة فيه لحركة الأجرام السماوية فاسدة، وأن الترتيبات الصحيحة لم تكتشف بعد (¬2)، فقامت بعده حركة فلكية كبيرة صححت كثيرًا من الأغلاط، معتمدة على الملاحظة والحساب. ولهذا احتار مجموعة من الباحثين بعد ظهور مجموعة كبيرة من كتب التاريخ للعلم العربي، بسبب هذا التشابه الكبير بين النتائج التي وصل إليها علماء في البلاد الإسلامية وبين ما عرضه كوبرنيكوس ومن بعده حول الموضوع نفسه، "وهذا التطابق الأساسي للنماذج هو الذي دعا نويل سويردلو لأن يسأل لا "عما إذا" كان كوبيرنكس قد تعلم نظرية مراغة بل "متى وكيف"" (¬3)، وأن هذا "الشبه بين النماذج الفلكية التي وضعتها مدرسة مراغة "ووصلت أفضل صورها على يد ابن الشاطر -وبين نماذج كوبيرنكس. . . . بلغ من الشدّة -باستثناء مركزية الشمس عند كوبيرنكس- حدًا دعا البعض إلى القول، دون تجاوز الحقيقة: "إن كوبيرنكس هو أشهر أتباع مدرسة مراغة، إن لم يكن آخرهم"" (¬4). وقد يستغرب بعض القراء ما أحيط بهذا الحدث من أهمية، وما أنيط به من آثار، وجعله مفتاحًا للثورة العلمية، ومفرقًا بين العلم القديم والعلم الحديث، مع أن بعض مواده قد قيل بها من أيام اليونان، فلم كل هذه الأهمية له؟! والحقيقة أن بعدنا الزماني والمكاني والثقافي عن الحدث قد لا يشعرنا بخطورته على التطورات الفكرية والعلمية في العصر الحديث، ومما يقربنا من تصور الحدث هو التذكر بأن أوروبا عاشت قرونًا طويلة لاسيّما ما اصطلح عليه العصر المدرسي الذي غلب عليه ثقافيًا كُتب تُشرح وتدرس وتُدرّس وتكرر دون إحداث شيء جديد، ومع الأيام تحولت تلك المواد المدروسة إلى مسلمات عقدية يصعب ¬

_ (¬1) فجر العلم الحديث ص 354. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 71. (¬3) فجر العلم الحديث ص 70. (¬4) المرجع السابق ص 72.

2 - إحراق برونو يشهر النظرية

الخروج عليها، ومن أتى بجديد فلا يقبل منه لما في ذلك من ابتداع ومخالفة للأوائل، فإذا أضيف على ذلك تقديسها وإنزالها منزلة الوحي علم عند ذلك صعوبة إعلان موقف أو رأي جديد، والانتقال من نمط تفكير إلى آخر. فإذا كانت الكنيسة بهذه المكانة والمنزلة ولها هيبة، ومعارفها لا يرقى إليها أي شك، وقد تحالفت مع الإقطاع والنبلاء والأمراء وتحالفوا معها، ثم يأتي من يضرب ببعض معارفها عرض الحائط، فلا شك أن نجاح مثل هذا يعرضها للانهيار، ومن ثمّ أطلق على أثر كوبرنيكوس ثورة؛ لأنه حطم من جهة علم الفلك القديم، والأهم من ذلك ضربته القاسية التي وجهها للكنيسة، لاسيّما وهو يشكك في معارفها العلمية التي يُحرم التكذيب بها. 2 - إحراق برونو يُشهر النظرية: خرج كتاب "كوبرنيكوس" سنة وفاته، ودفن في مقابر القديسين، وسلم من التجريم إلى زمن "جاليليو"، إلا أن من قاد النظرية نحو الصدام مع الكنيسة شخص آخر يُدعى "جيوردانو برونو" (1548 - 1600 م) الإيطالي، ويعد أبرز فلاسفة عصر النهضة، دخل ديرًا للدومنيكان ثم بعد فترةٍ خلع ثوب الرهبنة، وكان كثير المشاغبة ضد الكنيسة، فيُجرّم مرّة ويعلن توبته أو يهرب. وبقي متنقلًا بين أوروبا يُدرّس علم الفلك والفلسفة الأرسطية، إلا أنه انقلب ضد فلسفة أرسطو وظل يُدافع عن الفلك الجديد وعن حرية الفكر، وسجن أكثر من ست سنين، واتهم بثماني تهم منها التهكم على تجسّد المسيح وعلى القربان الأقدس، ويذكر "يوسف كرم" -وهو يميل للدفاع عن موقف الكنيسة عادة- بأن البابا أصدر "أمره بأن يطلب منه إنكار القضايا المخالفة للعقائد المقررة، دون القضايا المتعلقة بمذهب كوبرنك. فكان هذا التمييز من جانب البابا دليلًا على استعداد الكنيسة لقبول العلم الجديد، قبل تحريم كتاب كوبرنك وإنذار جاليليو بثماني عشرة سنة. . . ."، فرفض "برونو" الإنكار "فحكم عليه بالجرم، وبتسليمه إلى السلطة المدنية "كي يعاقب برفق ودون سفك دم" فأعدم حرقًا بعد أسبوع. ."، وكلام "يوسف كرم" لا يتفق أوله مع آخره؛ فان الكنيسة لو كانت ستقبل علم الفلك الجديد ما وصل الأمر إلى تحريم كتاب كوبرنيكوس وطلبها من جاليليو الاعتذار عن أقواله الفلكية، وكذا فإن تعليقه الختامي يشكك في تلك المقدمة حيث قال في النهاية: "ومهما يكن من أمر إحراقه -وكان منهاج العصر يحتمل هذا الضرب

من الإعدام- فلا شك في أنه خرج على الدين خروجًا خطيرًا، كما أشرنا إليه وكما سيتضح من بيان مذهبه أنه كان راهبًا معيبًا وفيلسوفًا مفتونًا، جواب آفاق، مشاكسًا مهاترًا" (¬1). ونحن أهل الإسلام نعلم بأن "برونو" قد خرج على الدين، وهو من أهل وحدة الوجود عند من عرّف بمذهبه؛ إلا أن الخروج أيضًا من الكنيسة، وكونها تتخذ من سلطتها مبررًا لإحراق المخالفين لها لا يمكن تبريره في عصرها ولا في عصرنا، وأنها بعملها هذا -لاسيّما وهي تُتهم بأنها أحرقته على ما قاله من صواب سواء في باب نفيه لتجسّد المسيح عليه الصلاة والسلام أو في أبواب الفلك- سَتُرسّخ صورة نمطية خطيرة في علاقة ما اصطلح عليه الدين بالعلم ورجال الدين برجال العلم، وسيُعَمم هذا الموقف على أنه يمثل كل دين، ويتخيل الناس أنه إن وجدت قوّة وسلطة لأي دين فستقوم بما قامت به الكنيسة من تعذيب أو إعدام أو تحريق لمخالفيها. وفي المقابل فإن قضية "برونو" التي اشتهرت في تاريخ الفكر هي في دفاعه عن العلم الجديد ونظرية كوبرنيكوس الفلكية لا أنها على معتقداته المخالفة للكنيسة؛ لاسيّما ومثل تلك المعتقدات شائعة في أوروبا، ولن يكون أكثر فسادًا في الاعتقاد من جماعة الإنسانيين ومع ذلك لم يُحرقوا. و"برونو" لم يشتهر بجديد في الفلك بقدر ما اشتهر بدفاعه عن نظرية "كوبرنيكوس" ونشره لها، وهذا ما ميزه عن "كوبر"، فبينما خاف كوبر من إخراجها في حياته وبقي محتفظًا بها إلى يوم وفاته، فإن "برونو" يمثل الصوت الإعلامي البارز، وهو مشاغب أيضًا، صاحب لسان حاد على مخالفيه، وقد قاده ذلك إلى ما خاف منه "كوبرنيكوس"، وفعلًا ظلّت حادثته ماثلة أمام أعين بقية علماء الفلك. بقي ذلك إلى أيام "جاليليو" الذي كان ما إنْ يظهر فكرة حتى يسارع في التوبة والاعتذار عنها (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: تاريخ الفلسفة الحديثة، يوسف كرم ص 32 - 34، وما بين القوسين من كلامه دون تصرف. (¬2) ذكر مجموعة من الكتاب السوفييت في موجز تاريخ الفلسفة ص 144 - 146، عن "برونو" أنه ممن يقول بامتداد الكون ولا نهائيته ومن ثمّ وجدوها فرصة كعادتهم مع الفرضيات في إنكار الخالق سبحانه، وهذه مشكلة ارتبطت بظهور النظريات العلمية، إذ تجد من =

ولكن هذه الهيبة التي كانت للكنيسة قامت على الكذب والظلم والجهل، والناس عادة وإن هابوا مثل هذه المؤسسات التي تتصف بما سبق فإنهم في داخلهم يمقتونها ويكرهونها ويفرحون بالخلاص منها يومًا ما، وهذا ما حدث تدريجيًّا في أوروبا مع المؤسسة الكنسية. يجعل التيار العلماني من حدث إحراق "برونو" رمزًا للبطولة، ويستلهمون منه حججهم في الدفاع عن العلم في مواجهة الدين، ويتناسون أن الدين الحق لم يُمثّل في هذه الحادثة، وأن حادثة الإحراق كانت شائعةً في أوروبا، فلماذا تناسوا الدفاع عن بقية المحروقين إلا لهوى في النفوس، مع العلم بأن الإعدامات بصورها المروعة ظَلَّت تمارس حتى مع الأنظمة العلمانية المدافعة عن العلم والعلماء كما يقال (¬1)، ولا يعني هذا تبرير جرائم الكنيسة في حق الأبرياء بقدر ما يعني عدم السماح للعلمانيين باتخاذ مثل هذه الحوادث فرصة لمعاداة الدين بحيث يخلطون دين الحق مع أديان الباطل. لا شك أن حدث إحراق رجل تعرفه أغلب أوروبا كبرونو سيكون له صداه الواسع في المجتمع الأوروبي، وسيبدأ الناس مناقشة سبب إحراقه. وكونه دافع عن نظام كوبرنيكوس الفلكي؛ فهذا الحدث سيدفع بهذا النظام الفلكي إلى الساحة الثقافية وسيتحاور الناس حوله بكثرة. وهذا الحدث أيضًا أدخل الكنيسة في مأزق، فهي إما أن تثبت صحة كلامها في نفيها النظرية الكوبرنيكية أو تترك ذلك لأهل الفلك، وهم الأعلم في هذا الباب، ولا شك أنها كانت في حاجة إلى دعم من علماء الفلك لحفظ ماء ¬

_ = المنحرفين تهيئهم لاستثمارها، فالماديون يرون بأن نظريات الفلك الحديثة تثبت عدم الخلق للكون وعدم وجود الخالق، وأن نظريات نيوتن تثبت عدم الحاجة إلى الاعتقاد القائم على أن الرب سبحانه يحفظ الكون ويدبره من السماء، وأن نظرية داروين تثبت أن الإنسان والكائنات الحية وجدت صدفة عن طريق الطبيعة والمادة، وهكذا، وهذا مما نفّر أهل الأديان منها فضلًا عن احتياطات المسلمين حولها. (¬1) مما يذكر في هذا الباب أن الثورة الفرنسية الداعية للعلمانية وحقوق الإنسان والمدعية للعلم قد أعدمت الكثير بما في ذلك طائفة من المفكرين والعلماء عند مخالفتهم لها سياسيًا، انظر: تاريخ الفكر الأوروبي. . . .، رونالد ص 277 وما بعدها، وممن سجنته الرياضي والفيلسوف "كوندورسيه"، وقد وجد ميتًا في السجن، انظر: موسوعة الفلسفة، د. عبد الرحمن بدوي 2/ 315 - 316.

3 - براهي والبحث عن الأدلة

الوجه أمام المجتمع، لاسيّما أنها غير قادرة على إثبات بطلان النظرية بحجج علمية، وأما الحجج العقلية المعروضة والمتخيلة فكثيرة، وسنجد أنها لا تقوى على مواجهة العلمية أو إقناع الفلكيين. وفي هذا الجوّ المشحون انطلق الفلكيون في التحقق من كلام أستاذهم والدفاع عن علمهم، وفي الوقت نفسه واصلت الكنيسة طغيانها العلمي ومراقبة ومتابعة هؤلاء وتحذيرهم، والمجتمع ينظر وبشاهد ويترقب، ومع ذلك فإن نظرية كوبرنيكوس فعلًا كانت تعاني من مصاعب ذكرها أغلب الدارسين لذلك الحدث، وأن تلك الثغرات كانت تسمح بانتقاص النظرية الكوبرنيكية ليس من رجال الكنيسة فقط، بل من بعض العلماء والمثقفين. ومن ذلك افتقارها إلى بعض الحسابات المهمة التي تقطع الشك، وأنها انتقلت من مركزية الأرض إلى مركزية الشمس، وعدم إيجاد شيء مقنع حول سرعة دوران الأرض دون أن نشعر به، إلى غير ذلك (¬1). 3 - براهي والبحث عن الأدلة: يظهر أن اقتناع الفلكيين الجدد بنظرية كوبرنيكوس قد دفعهم إلى مواصلة البحث عن الأدلة وعن الأجوبة لكل التساؤلات، ومن أولئك الفلكي المشهور تيشو براهي: (1546 - 1601 م) حيث نذر حياته لرصد الكواكب وذلك تحت رعاية ملك الدانمارك، ثم تحت رعاية الإمبراطور "رودلف الثاني": فقام من خلال أجهزته بفهرسة للأجرام السماوية، وذلك عبر معاينته لمواضع الكواكب سنين طويلة، ومادة هذا الفهرس مناسبة بعد ذلك لمن أراد دراسة الفلك أو التحقق من النظريات أو وضع تصور جديد، وكان من أهم آثارهِ كشفه لمذنبات أبعد من القمر وكان أثرها كبيرًا في القضاء على نظرية أرسطو القائلة بان التغير والفساد خاص بالمنطقة التي تحت القمر لا ما فوقه، وكما يقول "راسل": "وهذا مثل كل شيء قاله أرسطو في الموضوعات العلمية، ثبت أنه عائق دون التقدم" (¬2). وكان لبراهي ¬

_ (¬1) انظر: العلم في التاريخ، برنال 2/ 62، وتاريخ الفلسفة الغربية (الحديثة) الكتاب الثالث، راسل ص 59 - 60، موجز تاريخ الفلسفة لجماعة من السوفيات ص 143. (¬2) تاريخ الفلسفة الغربية (الحديثة) الكتاب الثالث، راسل ص 63، وانظر: العلم في التاريخ 2/ 62 - 63.

4 - كبلر: للسعي للتوفيق واكتشاف القوانين

نظرية قريبة من نظرية كوبر: يرى بأن الشمس والقمر يدوران حول الأرض، أما بقية الكواكب فتدور حول الشمس، ويذكر "برنال" بأنها في الحقيقة تنتسب إلى نظرية كوبرنيكوس (¬1). وبهذا العمل يقدم "براهي" الأدلة المادية المحسوسة بحسب إمكانيات ذلك الزمان؛ أي: أن الدعم يتواصل لنظرية "كوبر" التي أُعدم بسببها "برونو". 4 - كبلر: للسعي للتوفيق واكتشاف القوانين: وقد قاد هذه المعركة من بعد "براهي" تلميذه ومساعده كبلر: (1571 - 1630 م)، الذي انصرف من تدريسه اللاهوت إلى الرياضيات لحبه لها، وما يرى فيها من كمال وإلى الفلك، وقد استفاد كثيرًا من أستاذه "براهي"، وقد كان ميّالًا إلى التنجيم، وذلك أنه يرى أن الله هيأ التنجيم للفلكيين (¬2)، وقد بدأ نشاطه الفلكي بمحاولة التوفيق بين النظرية الكوبرنيكية وبين نظرية العقول المحركة للكواكب الموروثة عن الفلسفة الأفلاطونية، ثم ترك تلك وآثر العلل الطبيعية، واستعاض بالقوة عن العقل المحرك. ومن أهم إنجازاته استعاضته بالمدار الإهليجي بدل المدار الدائري، وتخليه عن عقيدة كون الدائرة أكمل المخلوقات وهي عقيدة موروثة عن الفلسفة الأرسطية وقال بها كوبرنيكوس قبله، إلى غير ذلك. - محاولات التوفيق: ومما يهمنا في عمله تصوره بإمكانية التقريب بين النظرية والدين وإقامة علاقة بينهما تقوم على الوفاق بدل الصراع، ففي أول كتاب له خصص فصلًا للتوفيق بين نظرية كوبرنيكوس والتوراة، فلما راجع المخطوط أساتذة اللاهوت بجامعة توبنجن البروتستانتية -وكان بروتستانتيًا- حذفوا منه ذلك الفصل، فلم يظهر في الكتاب المطبوع، بل رفض لاهوتيون بروتستانت أن ينشر دراسة حول مذنب ظهر في زمنه (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: العلم في التاريخ 2/ 63، وتاريخ الفلسفة الغربية السابق ص 63 أيضًا. (¬2) انظر: تشكيل العقل الحديث، برينتون ص 138، والعلم في التاريخ 2/ 63. (¬3) انظر: تاريخ الفلسفة الحديثة، يوسف كرم ص 19.

وعملية التوفيق هي منهج تاريخي مشهور، فقد كانت مشكلة التعارض قبل ظهور العلم الحديث تقوم بين ما يتوهم تعارضه بين الدين والعقل، وهو الآن ينتقل إلى ما يتوهم تعارضه بين الدين والعلم. ولم يكن "كبلر" الأول أو الوحيد في هذه المحاولة، وقد سبقه إلى ذلك "رتكس" (1514 - 1574 م) أول أتباع كوبرنيكوس وأشدهم حماسة له، حيث كتب رسالة "حاول فيها التوفيق بين الكتاب المقدس والنظام الكوبيرنكي الجديد. وهذا يعني باختصار أن الصدام بين النظام الجديد للعالم والآراء اللاهوتية المعتمدة -وهي مزيج من النصوص المقدسة والأرسطية التقليدية- شكل عقبة كَأْدَاء أمام قبول النظام الكوبيرنكي، وكان لا مفر من أن يصل هذا الصدام إلى لحظة المواجهة الحاسمة -إما في أثناء حياة كوبيرنكس أو بعد ذلك بقليل- كما حدث فعلًا مع غاليليو. ." (¬1). وستبرز أيضًا جهود التوفيق في آخر المطاف مع "جاليليو" في عدّة محاولات، والملاحظ هنا بأن أصحاب المحاولات ليسوا رجال الكنيسة أو من المدافعين عن الدين، بل هم رجال الفلك المدافعون عن العلم، بعكس ما يُرى من صور حديثة بعد الانتصار الذي حققه علم الفلك ومن بعده انتصار النظام العلماني في الغرب، وهذا الانتصار قاد الكنيسة إلى عزلة، مما دفع البابا ليون الثالث عشر (1893 م) والبابا بنوا الخامس عشر (1921 م) في رسالتين لهما إلى قصر "تطبيق نصوص الكتاب المقدس على الأمور الدينية" (¬2). وفشل منهجية التوفيق من الطرفين -علماء الفلك وغيرهم أولًا ورجال الكنيسة ومن في حكمهم ثانيًا- يعبر عن مشكلات خاصة في منهجية التوفيق؛ لأنها في الغالب تعبر عن حالة الضعيف أمام القوي، وليست ميزانًا بين الحق والباطل أو الصواب والخطأ أو بين الأمور المشتبهة؛ ولذا لا يلجأ إليها إلا من كان مُستضعفًا، بخلاف القوي الواثق من مبدئه وما هو عليه، وهناك دون شك إلى جانب المشكلات الداخلية بمنهجية التوفيق مشكلات خارجية ترتبط بالتطورات الخاصة بالمجتمع الغربي أسهمت في فشل مشروع التوفيق، وجعلت كل طرف يتحرك في مجاله دون تدخل في الطرف الآخر. ¬

_ (¬1) فجر العلم الحديث، هف ص 356. (¬2) انظر: غاليليه أو مستقبل العلم، فيلما فريش ص 98.

وسيأتي بإذن الله فصل خاص عن هذه المنهجية التي كثُرَ استخدامها لدى بعض الشخصيات الإسلامية لمحاولة الدفاع عن الدين أمام النظريات العلمية، وبيان مدى مناسبتها، وإنما وقفت معها في هذا الموطن؛ لأنها أشهر مرحلة برزت فيها منهجية التوفيق. لم يكن رجال الدين على شاكلة واحدة إذ كان فيهم بعض العقلاء المعتدلين مثل الكردينال "بلارمينوا" الذي قال في رسالة له "ترجع إلى سنة (1615 م) موجهة إلى أحد الرهبان المناصرين لمذهب كوبرنك: "لو كان هناك برهان حق على دوران الأرض وثبات الشمس، إذن لتعين الحذر الشديد في تفسير آيات الكتاب المقدس، ولكان أحرى بنا أن نقول: إننا لا ندرك معناها، من أن نكذب ما قام عليه البرهان. ولكني لن أعتقد بقيام هذا البرهان قبل أن يبين لي" وهذا ما حدث بالفعل فيما بعد، إذ لم تعد الكنيسة تحرم الاعتقاد بمذهب كوبرنك، بل صارت تحمل الآيات على محمل التعبير بالظاهر، كما نقول نحن الآن: طلعت الشمس وغربت" (¬1). فهذا الموقف يعطي ثالث موقف من مواقف الكنيسة: ففي وقتِ قوتها كان رأيها الصواب وتهدد المخالف، ثم في مرحلة متوسطة عند ثبوت أدلة برهانية فيكون هناك حذر شديد في تفسير النصوص المقدسة وسلوك مسلك التفويض، وفي المرحلة الثالثة كأنه يشير إلى ترك التفويض وسلوك المذهب الظاهري مع النصوص مع ما يحويه من اعتراف مبطن بأن الظاهر لا يعني الحقيقة، والحقيقة هي في علم الفلك، وهذا الموقف الذي وقعت فيه الكنيسة ما كان ليحدث لولا اشتمال ما عندهم على باطل ومعلومات غير صحيحة، وما نجح فيه العلم وانتصر به على الكنيسة هو في جزء الحق الذي معه، لا أنه يملك كل الحق. ومما يجدر التنبيه إليه في هذا المقام هو غرابة موقف "كبلر": فبينما يقال عنه بأنه صاحب ديانة صادقة على الطريقة البروتستانتية، فإنه مع ذلك له ميل إلى التنجيم، وإلى القول بالعقول الفلكية وأنه كان ميالًا إلى عبادة الشمس (¬2)، وهناك من يربط بين هذا الميل إلى عبادتها وبين وضعها مركزًا في نظريته، فإذا تركنا ¬

_ (¬1) تاريخ الفلسفة الحديثة، يوسف كرم ص 22. (¬2) انظر: العلم في مواجهة المادية. . . .، د. عماد الدين خليل ص 27.

هذه العجائب وهي لا تنقضي مع هؤلاء، فإن له في المقابل كشوفًا علميةً مهمة كان لها أثرها في حل مشاكل في علم الفلك والفيزياء الكونية. - اكتشافه ثلاثة قوانين وبروز مفهوم القانون الطبيعي: وأهم ما قدمه للفلك اكتشافه لثلاثة قوانين عن حركة الأجرام السماوية (¬1)، وربك أعلم بعباده حيث قال سبحانه: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)} [الروم: 7]، حيث استطاع بعدد قليل من القوانين تفسير كثير من حركات الأجرام السماوية، وهذه ميزة منهجية للقانون أو القاعدة أو الأصل في أنها جملة صغيرة تفسر عددًا كثيرًا من الجزئيات، والوصول لمثل هذا العمل ليس سهلًا، ويندر في تاريخ البشرية من يكتشف مثل هذه القوانين والقواعد والأصول وما في بابها. إلا أنه سيصبح لمفهوم القانون أثر كبير في بناء النظريات العلمية الحديثة والعلم الحديث، ونظرية "كوبرنيكوس" عندما صاغها "كبلر" في قوانين نجح في إقناع الفلكيين بها، وفي فرضها على العلم رغم ما سيحدث لها من تحسينات مع اللاحقين إلا أن التحسين ليس مثل الإبداع. وبقدر فائدة القوانين للتطور العلمي، إلا أن هناك خللًا ما صاحب ازدهار مفهوم القوانين لاسيّما مع عالم أوروبا في القرن الحادي عشر/ السابع عشر "إسحاق نيوتن"، وحاصل هذا الخلل: أنه عن طريق مذاهب علمانية سادت في أوروبا تمّ الاستعاضة بفكرة القانون عن الإيمان الحقيقي الكامل بربوبية الرب سبحانه وتقديره لكل شيء، فهؤلاء عندما استنتجوا الحوادث من أسبابها، والتغيرات من عللها، اكتفوا بها (¬2)، وصاغوها في قوانين، وقطعوا النظر في تدبير الله سبحانه لهذا الكون وتصريفه له وإمساكه للسماوات والأرض وتسخيره للمسخرات، فمنهم من يرى أن الله قد أوجد هذا الكون بقوانينه، وتركه بعد ذلك، وهذا غالبٌ على الربوبيين، ومنهم من لا يبحث عما خلف هذه القوانين بحجة أنها قضايا ميتافيزيقية ماورائية أسطورية غيبية دينية على اختلاف في تعليلاتهم، وهذا غالب على الملاحدة الخلص. وهناك في المقابل من رأى بأن ¬

_ (¬1) انظر عرضًا مبسطًا لها في: الطريق إلى المريخ، سعد شعبان ص 31. (¬2) انظر نموذجًا من الاستثمار المادي لفكرة القوانين: موجز تاريخ الفلسفة، مجموعة كتاب سوفييت ص 149 - 150.

إثبات هذه القوانين يعدّ انتقاصًا لقدرة الله سبحانه ولربوبيّته فمن هذا المنطلق كذب بها مطلقًا. ودين الله الحق المنزل من السماء وسط في ذلك قال -تعالى-: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]، فالكون كله مدبر لله سبحانه مسخر له، يصرّفه سبحانه كيف شاء، وهو سبحانه قد وضع في الكون أسبابًا ومسبباتها وعللًا ومعلولاتها كما ورد في كثير من النصوص، ولذا فمذهب أهل السنة عدم إنكار الأسباب، ولا يقال: يفعل عندها أو معها وإنما بها، فهي مؤثرة، والسبب والمسبب من خلق الله سبحانه ولا يخرج عن تقديره سبحانه. فما ثبت صحته من هذه القوانين، وهو ناتج عن التأمل في علاقة عوالم الكون الكبرى والصغرى، فلا يخرج عن هذه القاعدة، وما كشف من التأمل في هذه العلاقات ما هو إلا مما وضعه الله سبحانه من تأثير بعض عوالم الكون في أخرى، وسيأتي لهذه النقطة مزيد بحث في فصل قادم بإذن الله، وما كانت هذه الوقفة إلا من أجل تتبع الصور المنهجية أو النمطية التي ترسّخت مع أول نظرية علمية ظهرت في العصر الحديث. - دخول الأجهزة الحديثة في مضمار العلم وأثرها في تقدمه: من الأمور شبه المتفق عليها بأن للأدوات التي اكتشفها المسلمون ونقلت إلى الغرب أثرًا مهمًّا في مساعدة علماء الغرب في تطوير علومهم، كما أن للأرقام العربية التي يُعبر بها عن أثر المسلمين في تطور علم الحساب وأثر تطويرهم لعمل الصفر، ومن ثمّ أثرها في ترويض العلوم؛ أي: جعل أغلب العلوم ذات صورة رياضية دقيقة، دورها المهم في تطور العلم. وقد بني علماء أوروبا على المنقول إليهم مع سعيهم الحثيث لمواصلة تطويرها، ووجدوا بأن العلم المعتمد على المنهج التجريبي في حاجة إلى أجهزة، وأن نتائجه في حاجة لعلوم الحساب، وهما مما قد سبق للمسلمين فيهما شق الطريق. لقد كانت مشكلة رؤية البعيد أو الصغير أو المختفي أمرًا يعيق أيّ تطور علمي حقيقي، فمن البعيد الأجرام السماوية، ومن الصغير الكائنات المجهرية، ومن المخفي أعضاء جسم الإنسان الداخلية أو ما في جوف الأرض وما في حكمها.

وقد يسّر الله سبحانه للبشر اكتشاف أجهزة تسهم في رؤية ما يصعب رؤيته مما سبق، وكان أولها اكتشاف المقرّب "التلسكوب"، وباكتشافه قفز علم الفلك قفزة كبيرة، ولحقه اكتشاف المجهر الذي يكبر ما لا تراه العين المجردة حتى تراه بوضوح، وأخيرًا اكتشاف الأشعة التي تتخلل الحواجز، وتتجاوزها لتظهر المخفي خلفها أو بداخلها، وما زالت هذه الأنواع الثلاثة في تطور مستمر، وكان أثرها في تقدم العلم كبيرًا. وهذه ميزة ميّزت العلوم المادية في العصر الحديث، وهي ارتباطها بالأجهزة، وكلما كان العلم قادرًا على صنع أجهزته كان تطوره وتقدمه ودقته أسرع وأفضل، ومن أهمها الأجهزة التي تساعد العين في رؤية ما لم تكن تستطيع رؤيته، والعين هي إحدى وسائل ووسائط التعلم، وبقوتها ودعمها تزداد إمكانية التعلم والتحقق. وإذا عدنا إلى أجواء أوروبا في قرنها السادس عشر بعد إحراق برونو وإدانة غيره، وحاجة الكنيسة وأصحاب النظرية الأرسطية إلى منُقذ لها من المأزق الذي هي فيه، ومع قوانين كبلر وكتاباته، ومع الحديث الدائر في أوساط المجتمع المختلفة، وحاجة الفلكيين أيضًا إلى الدعم الإضافي للخروج من هذا الصراع ومن المسبّة التي ألحقتها بهم الكنيسة وأصحاب أرسطو، في هذه الأجواء يُيسر الله سبحانه لأحد الناس اكتشاف المقرب "التلسكوب" من شخص ليس له علاقة بكل هؤلاء، ولا علاقة له بكل هذه الأحداث. وما من شك بأنه في فترات زمنية مختلفة كان هناك من تمنى لو يرى الأشياء البعيدة على الأرض أو في السماء ولكن لم يصل أحد إلى حلّ لهذه الأمنية، وفي هولندا وبطريقة غامضة توصل أحد الصُنّاع إلى اكتشافه، وكان صانعًا للنظارات (¬1). وبدأ الناس يتداولون هذا الجهاز الغريب بإعجاب كبير، فها هو يقرب البعيد على هذه الأرض، ويقرب بعض ما نراه في السماء، وبدا الآن ممكنًا دخول جهازٍ مادي ليفك هذا الصراع الدموي والحدث الكبير الذي دام أكثر من مئة سنة وذهب ضحيته العديد من الناس، وكان أشهر من استخدمه العالم الإيطالي جاليليو. ¬

_ (¬1) انظر: العلم في التاريخ 2/ 67، وتاريخ الفلسفة الغربية (الحديثة) 3/ 69.

ج- دور جاليليو

ج- دور جاليليو: كان جاليليو أحد أشهر شخصيات هذه المرحلة، درس الطب أول حياته إلا أن ميله كان لغيره، ودرس في جامعة بيزا الإيطالية ثلاث سنوات، ثم انتقل إلى جامعة بادوا المشهورة في أوروبا، والتي قامت شهرتها على نقل علوم المسلمين وتطويرها، قضى فيها سبع عشرة سنة، وكان يُدرّس الفلك القديم مع اعتقاده بنظرية كوبرنيكوس، شأنَ غَيْرِ واحِدٍ من أساتذة العصر كما يقول يوسف كرم (¬1). 1 - استعمال جاليليو للتلسكوب وآثار ذلك: وصلت أخبار التلسكوب إلى آذان أساتذة بادوا، فقرر جاليليو أن يصنع واحدًا بنفسه، ووجهه إلى السماء "وفي الليالي القليلة الأولى التي شاهد فيها السماء اقتنع بخطأ كل ما صوره أرسطو لهذه السماء الصافية، أما القمر فبدلًا من أن يراه كرة كاملة وجده مليئًا بالبحار والجبال. ."، وأغلب ما رآه "صورة مصغرة لنظام كوبرنيكوس والتي يمكن لأي فرد التحقق منها إذا نظر من خلال التلسكوب إلى السماء" (¬2). جمع "جاليليو" كل تلك المشاهدات مع ترتيبه الخاص بها في كتاب "رسول من النجوم" وعنوان الكتاب في حدّ ذاته معبّرٌ عن المشكلة التي كانت في عصره، وفيه إيحاء للأطراف المتنازعة بأن ما كنتم فيه تختلفون قد ذهبتُ إليه وتأكدتُ منه، وعدتُ إليكم بخبر يقين. والحقيقة أنه لم يذهب إلى هناك كما يحاول رواد الفضاء في عصرنا هذا، وإنما حاول تقريب الفضاء منه ليرى بعض ما لم يكن يُرى سابقًا، وقد أدهشت مشاهداته وملاحظاته كثيرًا من الناس، والتي أعلن فيها بشكل قاطع تأييده لنظرية كوبرنيكوس. وسبحان الله كم يدهش المتابع لهذه الأحداث كيف كانت نهايتها، فمنذ مئات السنين وهؤلاء الفلكيون يقدمون النظريات المختلفة، ويكتبون مئات الكتب، ويسطرون آلات الأوراق، ويجهدون أنفسهم بإقامة المراصد الضخمة وينفقون عليها الشيء الكثير، ويبقون الليالي الطويلة يتابعون بأبصارهم حركاتها، ¬

_ (¬1) انظر: تاريخ الفلسفة الحديثة ص 19 - 20 وفيها شيء من سيرته. (¬2) العلم في التاريخ، برنال 2/ 68.

ويحاولون كشف تلك العلاقات بمعادلات رياضية سهلة وقوانين ميسورة، وتحدث حول كل ذلك الصراعات الهائلة والمناقشات الضخمة، ثم يظهر جهاز صغير، تحمله اليد، وتنظر من خلاله العين، فترى بصورة سريعة ما لم يكُن يرى، وتكشف أشياء لم تخطر على بال أحد، فتقوم بهدم ذلك التراث الضخم، وتحول كل تلك الكتب إلى المتاحف، والمراصد إلى الآثار، والجهود والصراعات إلى التاريخ، وتطوى حقبة طويلة بلغت مئات السنين لاسيّما تركة أرسطو حول الأفلاك وما في بابها. والعجيب أنه منذ نظرية بطليموس ورؤية أرسطو واعتماد الكنيسة لها، واعتمادها في أغلب كتب الفلسفة والعلم في العصور الوسطى، واعتمادها مئات السنين، وتحويلها إلى عقيدة كنسية يكفر من يخالفها، تأتي آلة صغيرة، وجهاز متواضع ليحطم كل علم أرسطو ونظام بطليموس حول الكون، وقامت هذه الآلة بالمهمة نيابة عن عشرات الأشخاص ومئات الكتب وآلاف الصفحات وأوقفت الجدل الطويل والصراع الكبير، وقالت رأيًا شبه حيادي في الموضوع. لقد انتقل الحديث من الاحتمالات العقلية والملاحظات والمشاهدات البصرية العادية إلى التلسكوب، وبدأ أغلب أطراف الصراع بوضع كل تركتهم عند عدسته، وانتظار حكمها في كل ذلك، فما أيدته قُبل، وما لم تؤيده اختلف فيه أو رفض. وهو جهاز بسيط يسّره الله سبحانه لبعض خلقه، فقلب الوضع رأسًا على عقب. وفي هذا عبرة مفادها: بأن العلم ما لم يكن وحيًا من السماء فسيبقى تحت دائرة الاحتمال والظن، وأن ما يعتقده الناس علمًا ولم يكن له دليل من الوحي، فقد يأتي يوم من الأيام يتحول إلى خطأ تاريخي يعجب المتأخرون كيف أن المتقدمين قالوا به كل هذه السنين. وبالعودة إلى الأحداث الدائرة حول الثورة العلمية وبعد إعلان "جاليليو" نتائجه، كان الخاسر الوحيد هو الكنيسة وأتباع أرسطو، فأما الكنيسة التي سمحت في الفترة الماضية بكتب "كوبرنيكوس" ونظريته كفرضية عادت الآن وحرّمتها وجرّمت "كوبر". وقام بعض رجال الكنيسة مع بعض المتعصبين لأرسطو بالامتناع عن النظر من خلال التلسكوب حتى لا يهتزّ ما أثبته أرسطو أو الكنيسة. وأما جاليليو بكلامه هذا فسيدخل في صراع طويل ومرير مع الكنيسة كان أخطر بكثير في آثاره من ذلك الذي حدث مع "برونو"، فبرونو يبقى في الدرجة

الأولى فيلسوفًا أما جاليليو فهو عالم، وجعله "راسل": "أعظم مؤسسي العلم الحديث، مع إمكان استثناء نيوتن" (¬1). ويهمنا في هذه الأحداث الصورة النمطية التي تشكلت من آثار الصراع حول هذه النظرية وأصبحت نموذجًا يتكرر مع ظهور كل نظرية جديدة في الغالب. لقد استعان جاليليو بأداة جديدة في الصراع الدائر في أوروبا آنذاك، والذي يظهر أنه لم يكن في حاجة إليها للاقتناع الشخصي بنظام "كوبر" ونظريته، فقد كان فرحًا بها لإقناع المخالفين وجمهور الناس. ومنذ ذلك الحين وإلى الآن والآلات بأنواعها تدخل في أغلب الصراعات التي يولدها التعارض بين نظريات العلماء وأفكارهم من جهة والثقافة السائدة من جهة أخرى، وقد أصبح لها مكانة كبيرة في حسم أغلب الصراعات. ويتناسى البعض بأن هذه الأجهزة يدخلها الخطأ والاشتباه، وأنها -وإن كانت مادية- فهي تتأثر بمن يصنعها أو يوجهها أو يستثمرها، وهذا ما يؤكده بعض فلاسفة العلم المعاصرين ولاسيّما في الجوانب البعيدة أو الصغيرة، حيث يختلط فيها رأي العالم بتفسير الظاهرة (¬2). ومن أيام التلسكوب الذي قرب البعيد إلى بعض الأجهزة الحديثة التي ساعدت مجموعة للقيام بعمليات الاستنساخ لبعض الكائنات الحية، وللأجهزة أثرٌ كبير في إيجاد صراعات ثقافية كبيرة أو إقفالها. وسيظهر في بعض فقرات البحث شيء من ذلك فنجد عمدة بعض الرافضين لما جاء في الدين من قضايا خبرية، بأن الأجهزة الحديثة بقياساتها الدقيقة لم تُثبت ذلك، أو أثبتت خلافه، مع أنه عند التحقيق يظهر خطؤهم، ومن باب التمثيل أذكر حديثًا وقع في زمننا حول نوعٍ من الأجهزة -وهي تلك التي تكشف بعض المخفي كالأشعة وما في بابها- فإن هناك أدوات تصوير حديثة تكشف الجنين في بطن أمه وتحدد جنسه: ذكر أو أنثى، فقد يتوهم البعض ويجعل ذلك من باب الغيب المطلق؛ لأن النصوص الشرعية تجعل ذلك من باب الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، وهذا يعني عدم قدرة الأجهزة الحديثة على كشف ذلك، ولا شك أن هذه المسألة ما كانت لتثار لولا ما يسره الله للبشر من اكتشاف هذه ¬

_ (¬1) تاريخ الفلسفة الغربية (الحديثة) الكتاب الثالث، راسل ص 66. (¬2) انظر: الباب الثاني، الفصل الثاني، المبحث الأول، من هذا البحث.

الأجهزة وصناعتها، وقس على ذلك ما تقربه المقربات أو تكبره المكبرات من الأنواع الثلاثة المذكورة. وفي هذا الباب أيضًا ما أحدثته المكبرات مما هو أوسع مما سبق، حيث تكبر جينات الجنين قبل تكونه، ليحددوا ليس فقط ذكورتَه من أنوثته، بل أوصاف ذلك الطفل، فعلماء الوراثة يقولون بأن لكل عضو "جينًا" معينًا يسهم في تشكيله، ومن خلال التعرف على هذا الجين يمكن معرفة صفة ذلك العضو، ومن ثمّ معرفة صفات الطفل (¬1). وسأقف مع الأولى لأنه قد دار حولها الجدال والحوار، فأغلب المستشفيات يوجد فيها أجهزة لتصوير باطن الإنسان، ومن ذلك تصوير ما في بطن الأم، ويمكن للأم أن تعرف ما في بطنها أذكر هو أم أنثى، وتعرف بعض أحواله وصفاته ووضعه الصحي. وقد فهم بعض الناس من قوله -تعالى-: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} [لقمان: 34]، وقوله -تعالى-: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8)} [الرعد: 8] وما في بابها من النصوص أن ذلك من الغيب المطلق، وعندما أُدخلت هذه الأجهزة إلى بلاد المسلمين وجدها البعض فرصة للطعن أو التشكيك، والبعض الآخر وقع في حيرة. عندها وقف العلماء وبيّنوا الفرق بين الغيب المطلق والغيب النسبي، فإن هذا النوع -وهو ما في الأرحام- قد عرفته الملائكة، وإذا أطْلع الله عليه أحدًا لم يكن غيبًا مطلقًا، أو أن الغيب المراد هنا أشمل من كونه تحديد جنس الطفل وصفاته الخَلقية، وإنما المراد والله أعلم ما يكتب للجنين ويقدر له في بطن الأم وفي دنياه وآخرته (¬2). وليس المكان هنا مكان تفصيل الحديث عنها، وإنما الكلام عن أثر الأجهزة التي صاحبت العلم الحديث، وأصبحت أداة يستثمرها من لا خلاق له ¬

_ (¬1) انظر: العصر الجينومي -إستراتيجيات المستقبل البشري، د. موسى خلف، فقد وجدته مع تخصصه الدقيق في هذا المجال صاحب عرض جميل، وانظر: الجينوم- السيرة الذاتية للنوع البشري، مات ريدلي، ترجمة د. مصطفى إبراهيم فهمي. (¬2) انظر: شرح العقيدة الواسطية، للشيخ ابن عثيمين 1/ 153.

2 - صراعات جاليليو والمظهر الفكري الذي تبعها

في إظهار الشُبه والشكوك حول النصوص الدينية. وهذا انحراف خلقي صاحب بعض علماء العصر في العلوم الحديثة وذلك عندما يحاولون توجيه هذه الأجهزة في خدمة أهوائهم ويستخدمونها بغير حق ضد الدين وأهله، وهو انحراف صاحب حركة العلم الحديث في علاقته بالدين. وبالعودة إلى "جاليليو" أول من اشتُهر عنه الاستعانة بالمقرب "التلسكوب" في صراعه وما أثاره ذلك الفعل منه نجد صورًا غريبة، منها مثلًا: خوف معارضيه من هذا الجهاز، وقد رفض أتباع أرسطو النظر إلى السماء من خلاله، وأنه لا يكشف إلا عن أوهام ما دام ذلك يخالف ما قرره "بطليموس" و"أرسطو"، ويخالف ما قررته الكنيسة (¬1). ولكن هذا الرفض لم يُغير من رغبة الناس في استخدام هذه الأجهزة، بل اعتمدت الثورة العلمية اعتمادًا كبيرًا عليها فيما بعد. 2 - صراعات جاليليو والمظهر الفكري الذي تبعها: بعد أن عرفنا أثر الأجهزة في الثورة العلمية، فلنعد إلى علاقة جاليليو بالأحداث والنمط الذي تشكّل بسبب صراعه مع الكنيسة: يُعدّ جاليليو أحد أبرز علماء أوروبا تأثيرًا في حركة العلم الحديث وأثره بارز في صناعة الثورة العلمية، وبسبب صراعه الدامي مع الكنيسة تشكّلت مواقف ومناهج طبعت صورة الفكر الغربي الحديث، وأثّرت كثيرًا في علاقة العلم بالدين، ومن المفيد ذكر صورة مختصرة عن جزء بسيط من أثر جاليليو في الثورة وفي الصراع مع الكنيسة ليتبيّن لنا حقيقة أثره ودوره ونفهم الصورة الملتبسة في العلاقة بين الدين والعلم عندهم، والصورة المستقرة في عقول الغربيين بعد ذلك الصراع. من يرجع لكتب تاريخ الفكر والعلم في أوروبا في أثناء حديثها عن مرحلة جاليليو، يجدها وكأنها قد حصرت النشاط الأوروبي في قضية جاليليو ومخالفيه، وكأن الحدث الأبرز والدائر في أوساط المجتمع هو حدث جاليليو فقط، ويظهر ¬

_ (¬1) انظر: تاريخ الفكر الغربي، رسل، ترجمة الشنيطي ص 70، وتاريخ الفلسفة الحديثة، كرم ص 20، والعلم في التاريخ، برنال 2/ 68، وانظر: عن دور الأجهزة: العالم بين العلم والفلسفة، جاسم العلوي ص 31.

أنه كان أهم شخصية دون منازع بما أثاره، وسأعتمد على ملخص جيد وضعه يوسف كرم (¬1) عن صراع جاليليو مع الكنيسة، وأجعله ثلاثة أجزاء: أ - الصراع الأول. ب - الصراع الثاني. ج - ما بعد الصراعين "النتائج". أ - الصراع الأول: بعد أن أصبح جاليليو شخصية أوروبية مشهورة يجالس كبار الساسة والبابا وهم قادة أوروبا، ونشر بعض ما نشر، وقع الصراع الأول وخلاصته: 1 - أخرج عالم من روما كتابًا يتهم فيه جاليليو "بمخالفة التأويل السلفي للكتب المقدسة". 2 - قام جاليليو بإخراج رسائل يدافع فيها عن نفسه، وقام فيها "بتأويل النصوص الكتابية المعترض عليها طبقًا لنظريته". 3 - تدخل أحد رجال الكنيسة الكبار في الصراع ونصح جاليليو "بأن يقتصر على التدليل العلمي، ويعرض نظريته على أنها فرض أبسط من النظرية القديمة، ويدع تفسير الآيات الكتابية إلى اللاهوتيين ولكنه لم يستمع إلى هذه النصيحة: ونشر تفسيرًا جديدًا لبعض الآيات". 4 - عندها طلب منه ديوان التفتيش الكنسي أن يمتنع من الجهر برأيه ووعد بالامتناع، وبعدها قرر ديوان التفتيش إضافة إلى ذلك تحريم كتاب كوبرنيكوس ما لم يصحح، بعد أن كان مسموحًا به. لقد كان الصراع القائم مع معارضيه بسبب تحمّسه لنظرية يرونها مخالفة لما عندهم من معتقدات بخلاف نشاطه العلمي الآخر فما كان موطن اعتراض، بل كان يلاقي الدعم والتشجيع، ويكفي أنه كان من المقربين لقيادات المجتمع آنذاك. وهذه مسألة من المهم إبرازها، فإن هذه الحقيقة يُغفلها العلمانيون، وبعض من ينقل عنهم قد لا ينتبه لكل هذه الأبعاد في قصة الصراع وحقيقته، وهو تأكيد ¬

_ (¬1) انظر: تاريخ الفلسفة الحديثة ص 19 - 24.

لما ذُكر سابقًا من أهمية العدل بين المتخاصمين، فإن حقيقة الصراع بين الطرفين أنهما جميعًا كانوا أهل أهواء وأخطاء ولكنها دون أدنى شك تكون شنيعة عندما تكون باسم الدين. وسنجد بعض المتغربين عند استشهاده بنظرية علمية واعتماده عليها فإن خالفه مخالف، اتهم مخالفه بأنكم ضد العلم وتكررون موقف الكنيسة من العلم، مع العلم بأن الكنيسة لم تكن ضد العلم مطلقًا، وإنما كانت ضد النظريات التي تخالف ما تعتقده من معتقدات وتسكت عمّا لا يخالفها وتسمح بالنشاط العلمي في الجملة، وهذا يظهر من سماحها بكتاب كوبر بشرط تصحيحه وبطلبها من جاليليو أن يجعل نظريته فرضية لا نظرية. وخطأ الكنيسة هي أنها فرضت أخطاءها على الآخرين وجعلتها عقائد يجب اعتقادها، وتخلط بين الحق والباطل، وبعض ما استشهد به رجال الكنيسة مما هو معروف عند أهل الأديان مثل استشهاد لوثر بقصة إيقاف الرب سبحانه الشمس لنبي من أنبيائه. وسنجد أن جاليليو قد استمر في الدفاع عن النظرية الجديدة، وهي التي أوصلته إلى المحاكمة، بخلاف نشاطه العلمي الدنيوي فقد بقي قائمًا حتى في ظل إقامته الجبرية. قد يقال بأن الكنيسة كانت منزعجة من شهرة جاليليو، وتخشى أن يخرج العلماء من خارج إطارها ومؤسساتها، وأنها استثمرت معارضته لعقائدها في محاولة ضربه وإقصائه، وأنها تريد محاربة كل ما أتى به إلا أنها تركز على الجانب الفرضي غير المؤكد في كلامه حتى لا تشوّه صورتها، وتبقى هذه إحدى الافتراضات القوية المحتملة، وذلك لما عُرفت به الكنيسة من طغيان وجهل. ومع ذلك فإنه لم يُعرف عن الكنيسة أنها حاربت العلوم الجديدة التي لا تخالف معتقدات كنسية معينة، وإنما حاربت من أتى بشيء يخالف ما تقرر عندهم عقديًا. ومن المؤكد بأن تيارات كثيرة جاءت بعد أحداث الثورة العلمية كانت لها مصالح في إبراز التعارض بين العلم الجديد والدين أيًا كان هذا الدين، وتُصوره على أنه تعارض محتوم، وأن العلم يتعصب للعقل والمعرفة وأما الدين فيتعصب أهله للجهل ويحاربون العلم.

آلية حل المشكلة وفك الصراع بين الكنيسة ورواد الثورة العلمية: لقد عمل جاليليو سنين في جامعة "بادوا" أشهر جامعات أوروبا آنذاك، ومما يذكر عنها بأنها قد تأثرت بمذهب ابن رشد القائل بالفصل بين الحقيقتين: حقيقة دينية لها طريقها ومنهجها وأهلها، وحقيقة فلسفية لها طريقها ومنهجها وأهلها، وصياغته لقانون خاص بالتأويل لتطبيقه عند الحاجة من قبل الراسخين في العلم. أما السائد في أوروبا وعلى المستوى الرسمي للكنيسة: فإن ما تقدمه الكنيسة هو الحقيقة وإن ما يخالفها فهو خطأ، وقد استقرّ الوضع على التلاحم بين اللاهوت والفلسفة لاسيّما بعد اعتماد اجتهادات توما الإكويني. ولكن الجديد في الساحة الأوروبية هو بروز النظريات والكشوف العلمية، وبعضها يتصادم مع ما تقرر لديهم في اللاهوت، هنا برزت من جديد مشكلة التعارض بين لاهوتهم والعلم الجديد. وقد بدأت بوادر الخلاف بما رصده ذلك الرجل عن جاليليو وأثبت "مخالفته التأويل السلفي للكتب المقدسة" كما يقول، مع العلم بأن التحريف قد لحق بكتبهم المقدسة، وأن عقائد باطلة أُضيفت إلى المعتقد المسيحي، ومن أهمها عقيدة ألوهية المسيح - عليه السلام -، وأن تجسّده كان على الأرض، ولذا فهي معظمة ومقدسة ومركز الكون وثابتة؛ لأن هذا هو ما يليق بالإله، فخلطوا في كلامهم المعتقد الباطل بالتصورات اللازمة عنه. ولمعالجة هذه الأزمة استخدم جاليليو منهجية التأويل لتقريب النصوص من نظريته أو منهجية التفسير لوضع معنى آخر للنصوص لا يخالف نظريته. والملاحظ أن القائم بالتأويل والتفسير هو عالم الفلك لا رجل الكنيسة؛ وذلك أنه كان في حاجة لتمرير نظريته مع حرصه على السلامة من مخالفة الكنيسة، على أنه يوصف بالتدين أيضًا. ولكن الوضع تغيّر بعد ذلك بسنين حيث ضعفت الكنيسة، وتمّ إقصاؤها في المجتمع الغربي بعد نجاح الثورات العلمانية، عندها تحولت عمليات التأويل والتفسير من رجال العلم إلى رجال الكنيسة، وأصبحت الكنيسة هي الأضعف والأحوج لمنهجيتي التأويل والتفسير لتمرير عقائدها، ولتسلم قدر الاستطاعة من مخالفة العلم الحديث وأهله، واعتمدت في كثير من النصوص التفسير بالظاهر فيما يتعلق بهذه النظرية.

مع العلم بأن جزءًا من رجالات العلم وأغلب التيارات الفكرية لم تعد تحترم نصوص كتبهم المقدسة، بل الأوجع من ذلك على الكنيسة أنه بعد ضعفها ترك المفكرون منهجية التأويل والتفسير وتحولوا إلى منهجية النقد، وقد كان أشدّها ما قام به "إسبينوزا" و"شتراوس" (¬1) وغيرهما، وقد كان مصدر نجاحهما كثرة التحريف والتزييف الذي قامت به الكنيسة، وكان أشدّ ما توجه له هجوم هؤلاء هو القول بألوهية عيسى - عليه السلام - والأقانيم والعشاء الرباني وغيرها، وهي مما يُعلم من دين الإسلام كذبها وبطلانها، وهذا ما يقرّه العقل الصحيح والفطرة السليمة. وهنا يتضح دور انحراف الكنيسة في فتح الباب للملاحدة وأمثالهم للطعن في الأصول الدينية، كالإيمان بالله سبحانه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وغيرها، ويتضح بأن الخلاف المزعوم ليس حقيقيًا؛ لأنه قام بين دين محرّف ونظريات تجمع بين الظن واليقين أو الحق والباطل. والذي يناسب ذكره في هذا المقام بأن "التأويل" وسيلة الأضعف، وأنه ينصب على النصوص الدينية فهي موضع الاشتباه أو التشابه عندهم، ولا يُنزل على النصوص والنظريات العلمية مع أنها قد تكون موضع الاشتباه أو التشابه كذلك، وأنه ما قام التأويل إلا بسبب الثغرات الموجودة في الكنيسة وتحريفاتهم الكبيرة لما جاء من الوحي، وأما الحق فواحد في الأبواب الخبرية، وما ثبت منه فلا يمكن أن يظهر من العلوم ما يعارضه. ويُظهر هذا التحليل التاريخي للحديث بأن منهجية التأويل تفتح من المشاكل أكثر مما تحل، وهذا يبرهن على عدم صلاحيتها في معالجة القضايا الدينية معالجة حقيقية، ويكفي أنها توحي بعدم صحة النص أو عدم صحة الفهم أو المعنى. ومن الخطأ ما نلاحظه في هذا الزمان من انسياق بعض المسلمين خلف طريقة التأويل لكل ما يتوهمه متعارضًا مع النظريات العلمية من أجل الدفاع عن الدين في وجه طوفان العلوم الحديثة، وذلك أنه يعبر عن الضعف وعدم الثقة بما بين أيدينا من الحق، وهذا سيكون مدخلًا للتوسع في نبذ النصوص والعقائد، والكلام هنا لمناسبة السياق، وإلا فهناك مبحث خاص بقضية التعارض ومنهج الناس في حلّها ومناقشة كل ذلك بإذن الله. ¬

_ (¬1) انظر: الحديث عن شتراوس لاحقًا ضمن اليسار الهيجلي.

وفي ختام تحليل الصراع الأول تبرز لنا قضية وأنها كانت خاطئة، فمقولة: "إن الكنيسة عارضت العلم باسم الدين" ليس بصواب، وذلك أن هناك من سيعمم هذه العبارة فيما بعد ويجعل الدين أيًا كان عدوًا للعلم، وأيضًا فإن المنهج الذي استخدمه جاليليو سواء كان تأويلًا أو تفسيرًا جديدًا لم يكن حلًا سليمًا؛ لأنه حافظ على أخطاء الكنيسة حتى جاء من يُقصي الدين بعد ذلك ويبعده عن المجتمع عندما ضعف شأنه وأهله في أوروبا، والمسألتان السابقتان ينبغي الاحتفاظ بهما لفصول قادمة، والآن لنتجه إلى تحليل الصراع الثاني. ب- الصراع الثاني: سبق في الصراع الأول تخطئة جاليليو من قبل الكنيسة واستسلامه لرأيها، ووعد بالامتناع عن الجهر برأيه، وهذا يعني: أنه سيكون تحت دائرة الملاحظة والمراقبة، وأن أي عمل يعمله سيستفز بعض رجالات الكنيسة. 1 - في هذا الجوّ ظهر مُذنّب في الفضاء، وتكلم عنه جاليليو بكلام، فرد عليه أحد اليسوعيين. 2 - صنف جاليليو كتابًا أسماه "المحاول"؛ أي: محاولة في المنهج التجريبي، ووجّهه لأحد رجال الدين، وحمل فيه حملة عنيفة على الفلك القديم. 3 - بعد ثماني سنوات من كتابه "المحاول" أخرج كتابه المشهور "حوار يناقش فيه أربعة أيام متوالية أهم نظريتين في العالم" يقتصر فيه ظاهرًا على سرد الحجج في جانب كل نظرية، مع أن تعاطفه كان مع نظرية كوبرنيك. 4 - تمت مساءلته فأجاب "أنه ما زال منذ قرار ديوان الفهرست يعتبر رأي بطليموس حقًا لا يتطرق إليه الشك، وكرر هذا الجواب، فكان كاذبًا مرتين. . . ." (¬1). لم يحدث جديد في الصراع الثاني، فإن مشكلة النزاع لم تكن حول جهوده العلمية وإنما بقيت حول دفاعه عن النظرية الجديدة في الفلك، ورفضه أن يجعلها فرضًا كغيرها من الفروض أو أن يؤكدها بحجج يقينية تقطع الشك عن الجميع. والذي يظهر بأن الطرفين كانا يصارعان من أجل حفظ كرامة الوجه كما يقال، وأن الجميع لم يكن همّه الحقيقة بقدر ما كان همه الخروج بأقل الخسائر، ¬

_ (¬1) انظر: تاريخ الفلسفة الحديثة، يوسف كرم ص 21.

ويظهر أيضًا بأن الاستفزاز كان سيّد الموقف من الطرفين، فكل طرف يستفز الآخر، وكل ذلك كان على حساب الحق والصواب. وقد ذكر "يوسف كرم" بأن المخالفين لجاليليو كانوا كُثرًا، فليس فقط الكاثوليك، بل وطائفة البروتستانت وجميع الأرسطوطاليين من مؤمنين وملاحدة وغيرهم، ولذا فالشبهة في حقه أكبر، فخرج حكم الكنيسة بتجريمه، ففي عام (1633 م) "أصدرت محكمة التفتيش حكمًا بالإجماع على غاليليو يقضي بسجنه وبإلزامه بالتخلي عن معتقده"، وكان نصه "إننا نقضي ونحكم ونصرح بأنك أنت يا غليليو قد جعلت من نفسك متهمًا بالهرطقة تمامًا، وذلك بسبب تمسكك بعقيدة خاطئة ومضللة، ومنافية لما جاء في الكتاب المقدس، من أن الشمس هي مركز الكون، وأنها لا تتحرك أو تنتقل من الشرق إلى الغرب، وأن الأرض هي التي تتحرك، وأنها ليست مركز الكون". وبعد إطلاق الحكم عليه بأيام تلفظ وهو جاث على قدميه -كعادتهم- في كنيسة سانتاماريا في روما بعبارة الارتداد والتخلي عن معتقده على الوجه الآتي: "أنا غاليليو، في السبعين من عمري وماثل بشخصي أمام القضاء وأمام ناظري الكتاب المقدس الذي أضع يدي عليه بقلب ملؤه الإيمان، أصرح بأني أتخلى عن معتقدي وبأني أكره وأشجب الهرطقة المتعلقة بحركة الأرض" (¬1). وهناك اختلاف في الدراسات اللاحقة في سبب الحكم عليه، هل هو علمه ومعتقده الناتج عنه؟ أم أنه شخصه وأسلوبه في معارضة الكنيسة؟ فالمدافعون عن الكنيسة والمائلون إليها يرون السبب الثاني، أما أعداء الكنيسة فيرون السبب الأول. والشخص المحايد يعرف بأن للسببين أثرًا في المحاكمة، إلا أن مجرى التاريخ الأوروبي قد سار لصالح جاليليو ضد الكنيسة، وأصبحت الكنيسة هي من يبحث عن تفسير جديد لنصوص الكتاب المقدس -المحرف- وغلب عليها اعتماد التفسير بالظاهر، وترك الخوض في المجالات العلمية أو مجادلة العلماء. وبعد تدهور قوة الكنيسة طالب أنصار "جاليليو" الكنيسة بمراجعة حكمها والاعتذار عنه، وقد بقيت عشرات السنين تتهرب من ذلك، وتجد صعوبة في الاعتذار، إلى أن جاء البابا "جون بول الثاني" عام (1980 م) فأمر بتشكيل لجنة ¬

_ (¬1) انظر: غاليليه أو مستقبل العلم، فيلما فريتش، وترجمة عادل شقير ص 61 - 62.

من العلماء والمؤرخين ورجال الكنيسة لتقويم الحكم الذي صدر على جاليليو. وقد توصلت اللجنة إلى أن القضاة الذين حاكموه قد جانبوا الصواب، وفي عام (1984 م) تمّ ردّ الاعتبار لجاليليو أي بعد ما يقرب من (350) سنة من إدانته (¬1). أما جاليليو فقد حُكم عليه بالسجن، إلا أن البابا آنذاك خفف عنه وجعله في إقامة جبرية خاضعة للمراقبة والمتابعة، وفيها أخرج أهم مؤلفاته في الفيزياء والميكانيكا الحديثة. ج- ما بعد الصراعين "النتائج": ذهب "جاليليو" وبقيت آثار الصراع، منها ما كان خاصًا بالمجال العلمي، ومنها ما له علاقة بالنظريات العلمية، ومنها ما له علاقة بالأنظمة الثقافية والدينية والاجتماعية السائدة، ومن أهم ما يختم به هذا الحدث من نتائج أربع قضايا وهي: أولًا: أثر الصراع في بروز الحل العلماني القائم على الفصل بين الكنيسة والعلم. ثانيًا: قضية تكافؤ النظريات العلمية. ثالثًا: القانون وآلية حركة الكون. رابعًا: التقدم العلمي والمنهج الجديد. فالأولى تبين أبعاد الطلاق القائم في الغرب بين العلم والدين وترسباتها التاريخية الحديثة، والثانية توضح مسألة مهمة تخص النظريات العلمية وتتعلق بالتساؤل حول إمكانية وجود أكثر من نظرية حول قضية واحدة، وأما الثالثة فهي بعض ما رسّخَهُ جاليليو في حركة العلم الحديث، ولها آثارها على المجال الديني، وأما الأخيرة فتبين حقيقة الأثر الإيجابي لجاليليو في حركة العلم الحديث. أوّلًا: أثر الصراع بين جاليليو وبالكنيسة في بروز الحلّ العلماني القائم على الفصل بين الدين والعلم أو بين الكنيسة والعلم: سبق أن ذكرنا بأن هذه المرحلة في أوروبا مرحلة صراعات كبيرة كان ¬

_ (¬1) انظر: غاليليه أو مستقبل العلم ص 100، ويُعدّ جون بول الثاني المنتخب عام (1978 م) أول بابا غير إيطالي منذ (1523 م)، انظر: مادة (البابا) في الموسوعة العربية العالمية.

أهمها: موجة الإنسانيين الخارجين على الكنيسة وقيمها، وانشقاق تيارات الإصلاح الديني والحروب المصاحبة لها وأشهرها حركة البروتستانت، وقام ثالثها بين الكنيسة ورجال العلم. ولعل هذا الصراع الأخير لأول مرّة يحدث في أوروبا منذ سيادة الكنيسة الكاثوليكية، فقد كان رجالات العلم هم رجال الكنيسة أو من أتباعها أو من المسالمين لها، إلا أن علماء الفلك بالدرجة الأولى -وإن كان عند بعضهم أكثر من علم- هم أول من أقام هذا الصراع بعرضهم نظرية جديدة وتحمسهم لها ودفاعهم عنها. وسبق القول بأن الكنيسة لا تعارض العلم، ونشاط العلماء كليًا لاسيّما، وبعض رجالها هم من العلماء في مجالات مختلفة، إلا أن الذي فاجأها هو النظرية الجديدة التي تخالف ما تعتقده من مكانة الأرض لتجسد الرب فيها في صورة عيسى - عليه السلام - كما يزعمون، واستدلالهم بأن الله سبحانه أوقف الشمس لنبي من أنبيائه ولو كانت ثابتة لما كان الإيقاف لها وإنما للأرض، وينبغي أن نعلم بأن بعض اعتراضات الكنيسة كانت وجيهة وذات أصل صحيح وإنْ فُهمت أو فسرت خطأ؛ إلا أن خلط الحق بالباطل من قبل الطرفين أضاع الحقيقة بينهما. ومنذ إحراق "برونو" وأوروبا محتارة في طريقة معالجة مثل هذه المشكلة، ثم جاءت محاكمة "جاليليو" كأشهر محاكمة في تاريخ أوروبا لتدخل الصراع مرحلة خطيرة، يقول "برنال": "إن واقعة محاكمة جاليليو تميز عصرًا جديدًا؛ لأنها حولت الصراع بين العلم والعقائد الدينية إلى مسرحية درامية" (¬1)، وعدها "كويستلر" "أكبر فضيحة في تاريخ المسيحية" (¬2)، وقد كانت الحلول المقدمة محدودة، وجميعها صعبة، فإما تقديم أحد الطرفين وإلغاء الآخر وهذا لم يعد ممكنًا، أو القول بصواب أحدهما وخطأ الآخر وهذا عسير على الطرفين، أو محاولة التقريب وهو ما فعله جاليليو عن طريق التأويل، ولكن ذلك أغضب الكنيسة، فهي تراه غير مؤهل لفهم اللاهوت والكتاب المقدس. عندها برز حلّ آخر يظهر أن "جاليليو" حاول عرضه وهو: الفصل بين اللاهوت والعلم، وقد قُبل هذا الحل بعده بسنين عند انتصار الثورات العلمانية ¬

_ (¬1) العلم في التاريخ 2/ 77. (¬2) غاليليه أو مستقبل العلم، فيلما ص 60.

في أوروبا، وتمّ الفصل لصالح العلم وأصبح لكل منهما الحق في الوجود وعدم السماح لأحدهما بمنع ما يراه الآخر. وربما كان استمرار الصراع دون حل أحد الدوافع الكبيرة في نجاح العلمانية، يقول "حسن حنفي" عن "جاليليو": "دافع عن الفصل بين اللاهوت والعلم؛ لأنهما مختلفان موضوعًا ومنهجًا وغاية وحتى لا يتعارضا ويتصادما. وبذلك وضع جاليليو أساس استقلال العلم الحديث عن اللاهوت" (¬1)، وإن كان البارز من سيرة "جاليليو" ميله إلى التوفيق أكثر من ميله إلى الفصل، إلا أن حدث الصراع اتخذ ذريعة فيما بعد لأهمية الفصل بين اللاهوت والعلم. وإذا كان هذا يكشف لنا السند التاريخي الذي يعتمد عليه دعاة العلمانية في أوروبا للفصل بين الدين والعلم، فهو سند مفهوم لواقعهم التاريخي؛ وذلك أن اللاهوت فيه ما فيه من التحريف والانحراف، وفيه من المزاعم ما لا يقبله عقل ولا يقرّه نقل، ولكنه غير مقبول إن طبق في مكان آخر لا يجد مثل هذه الملابسات التاريخية والمنهجية. ثانيًا: تكافؤ النظريات العلمية: كانت النظرية المعتمدة عند الكنيسة في الفلك هي نظرية "بطليموس" القائلة بمركزية الأرض وثباتها، والنظرية الجديدة هي نظرية "كوبر" ومن بعده، والتي دعمها جاليليو والقائلة بمركزية الشمس ودوران الأرض حول نفسها وحول الشمس. وقد كان أحد الحلول المعروضة القول: بتكافؤ النظريات؛ لأنه لا يمكن للإنسان العادي التأكد من صحة إحداهما، ولكل واحدة منهما إيجابيات وسلبيات، فلماذا لا تقبل النظريتان، ويقال بهما؟! إن قضية تكافؤ النظريات كانت قضية يصعب قبولها آنذاك؛ لأنها تعد من اختلاف التضاد الذي لا يمكن الجمع بين طرفيه؛ فالحقيقة في هذا الجانب واحدة فقط، والحقيقة الوحيدة آنذاك هي الموجودة في الكنيسة، وما عداها فلا يمكن قبوله. ولكن فلاسفة العلم المعاصرين يعلمون صعوبة الجزم بأن النظرية؛ أيًا كانت، أنها حقيقة مطلقة، وينظرون للنظريات بأنها أداة تفسير مناسبة في وقتٍ ¬

_ (¬1) مقدمة في علم الاستغراب ص 178.

ما، ولكنها قد تكون مملوءة بالثغرات التي تُعالج مع الزمن أو تستبدل بنظرية أخرى، بل ربما نكتشف بعد زمن خطأَها، وبهذه النظرة الجديدة يمكن القول بتكافؤ النظريات العلمية؛ لأنه لا توجد نظرية تزعم لنفسها بأنها الحقيقة المطلقة، وظهر في الإبستمولوجيا المعاصرة نظرة جديدة لمفهوم الحقيقة العلمية، فهي حقيقة مؤقتة إذا صح التعبير، وما هو حقيقة علمية اليوم قد يكون غدًا خطأً علميًا. بل أكثر من ذلك هناك إمكانية القول بنظريتين حول موضوع واحد، مثل القول بالموجات أو الجسيمات، تفسيرًا لظاهرة حركة وانتقال الأشعة، وكلتا النظريتين لهما من التأكيدات العلمية ما يكفي لتبريرها كحقيقة في المجال العلمي (¬1). إذًا فما كان ممنوعًا زمن "جاليليو" أصبح اليوم مقبولًا، وهذا يؤيد عدم التساهل في تقديم النظريات العلمية على ظواهر النصوص الشرعية؛ وذلك أن من قدم ما يظنّه "حقيقة علمية" فهي حقيقة مؤقتة أو حقيقة نسبية، والعلم بعضه ينسخ بعضًا. فمفهوم "الحقيقة العلمية" يختلف عن مفهوم الحقيقة الشائع عند الناس، فالشائع عند الناس أنها حقيقة مطلقة، ويبنون على ذلك أحكامهم ومواقفهم، بينما أصحاب العلم الحديث أو فلاسفته لا يرون ذلك الإطلاق ولا يرون مانعًا من ظهور نظرية جديدة أفضل من الأولى وأقدر على إجابة ما لم تجب عليه الأولى. أما "جاليليو" فقد دافع عن نظرية على حساب أخرى ولم يفعل ما فعله "كوبر" من جعل الفرضيتين متكافئتين، وقد دفع ضريبة ذلك فيما بعد، وبعد أكثر من ثلاثمائة سنة برز فلاسفة وعلماء من أنصار الفلسفة الوضعية ومن الإبستمولوجيين المعاصرين يدافعون عن موقف "أوزياند" صاحب مقدمة كتاب "كوبرنيكوس" في جعل الفرضيتين متكافئتين، ويعدون "كافة الفرضيات العلمية متكافئة من حيث الأهمية أو القيمة؛ لأنها ليست سوى تعابير مختلفة لا يمكننا اعتبارها صحيحة كما لا يمكننا -وفي الوقت نفسه- اعتبارها خاطئة ما دمنا نفتقر إلى تجارب حاسمة تمكننا من ترجيح أحد الاعتبارين على الآخر" (¬2). وهذا النص من أحد الكتب المدافعة عن جاليليو ولذا فهو لا يرى رأيهم، وإن كان ¬

_ (¬1) سيأتي الحديث عنها في فقرة (النظرية النسبية ونظرية الكم) نهاية الفصل ص 237. (¬2) غاليليه أو مستقبل العلم، فيلما ص 70.

رفضه لكلامهم دون حجة أو دليل قدمه، ونقل أيضًا رأي "بيار دوهيم" في كتابه: "مفهوم النظرية الفيزيائية من أفلاطون إلى غاليليو" بأن "المنطق كان بجانب كل من أوزياندر وبلّرمان وأوربانوس الثامن وليس بجانب كبلر وغاليليو، ذلك أن أولئك أدركوا المدى الحقيقي للعلم، أما هؤلاء فقد أسيء فهمهم في هذا الصدد" (¬1)، وقريبًا من هذا المعنى موقف "هنري بوانكاريه" (¬2). وقد اعترض آخرون على الموقف السابق، وتتركز اعتراضاتهم على استثمار مقولة تكافؤ النظريات في التنقيص من موقف جاليليو، ومع ذلك فالمقولة ذاتها ذات مكانة كبيرة في فلسفة العلم المعاصرة (¬3). والمتأمل من خارج دائرة العلم الحديث يدرك بأن مقولة تكافؤ النظريات تخفي في طياتها أمورًا كبيرة، وعلى رأسها الصراع الكبير بين النظريات العلمية ذاتها، فالنظريات المتعارضة يتتابع ظهورها، وبروز النسبية في الحقيقة التي تقولها كل نظرية من النظريات، فهذه وغيرها تدفع بمقولة التكافؤ إلى الواجهة. وإن كان هناك مِنْ درْسٍ لمن هم خارج الإطار العلمي الحديث ومشاكله فهو عدم تقديس النظريات العلمية وادعاء العصمة لها، وكذا عدم الاستعجال في تقديمها على ظواهر النصوص الشرعية، وبالمقابل عدم تنزيل نصوص شرعية على نظريات علمية؛ لأنه في البابين: إن قدمت نظرية فهناك غيرها يكافِئها، وإن نُزّل عليها نص شرعي فعلى أيّة نظرية يُنزّل؟! ثالثًا: القانون وآلية حركة الكون: دخلت مفاهيم جديدة مع العلم الجديد أصبحت من مكونات العلم الحديث، وقد سبق أثر "كبلر" عندما وضع ثلاثة قوانين لتفسير حركة الكون وأثر ذلك. وقد تطورت كثيرًا مع "جاليليو"، وأصبحت -معه ومن بعده- سمة مهمة للعلم الحديث، وهي محاولة وضع صياغة رياضية لتفسير الظواهر الطبيعية. فمن خلال التجريب والملاحظة يمكن إدراك بعض مظاهر الطبيعة، ومن خلال ¬

_ (¬1) المرجع السابق ص 70 - 71. (¬2) انظر: تاريخ الفلسفة الحديثة، كرم ص 23، وسيأتي توضيح موقف (دوهيم وبوانكاريه) وغيرهما من نقاد العلم في فقرة قادمة. (¬3) انظر: غاليليه أو مستقبل العلم، السابق ص 69 - 73.

الاستعانة بالرياضيات يمكن صياغتها في قوانين ومعادلات تُسَهِّلُ فهم الظاهرة وتمكّن الآخرين من الاستفادة منها، وبهذا أصبح التقدم العلمي مربوطًا بالتجريب والرياضيات (¬1)، وأسهم ذلك في عقلنة الظواهر الفيزيائية وكشف القوانين المنفصلة التي تخضع لها الأجسام المتحركة (¬2)، وحوّل جاليليو -بهذه المنهجية- الطبيعة إلى رياضة كما يقول "هوسرل" وغيره (¬3). وإذا نجح العالم في إيجاد معادلة أو قانون لتفسير ظاهرة طبيعية يبدأ بعدها في قياس حالات عليها أو تنزيلها على عدد من الجزئيات، وبقدر ما تنجح في تفسير كل هذه الجزئيات دون شذوذ تعدّ صحيحة، وعندما توجد حالة تشذ تظهر حاجة المعادلة أو القانون إلى تصحيح أو تغيير. وقد نجحت قوانين "كبلر" وإضافات "جاليليو" في تفسير كثير من الظواهر الكونية وفهم حركة الأجسام، ولذلك أثرٌ كبير فيما بعد على تطور العلم وتطور الانتفاع به في الصناعة والتقنية وغيرها من أبواب الانتفاع. ولكن جهود كبلر وجاليليو وغيرهما كانت تثير من الأسئلة بقدر ما تقدم من أجوبة، وبقيت الاعتراضات عليها قائمة وعدم انتظامها بشكل دقيق أمر بارز، وستبقى كذلك إلى أن يأتي عالم أوروبا في القرن الثاني عشر/ الثامن عشر، وهو "نيوتن" ليحل كثيرًا من تلك المشاكل، ويفتح في الوقت نفسه مثلها من النقاشات. ومن المعلوم بأن مفهومي المعادلة والقانون وغيرهما لم يكن الأصل فيها أن تثير إشكالات كبيرة مع الدين، وما كان يخطر ببال مبتكريها من العلماء أنها ستُظهر شيئًا من ذلك، بل هي تعبير واضح على أن خلف هذا الكون -صغيره وكبيره- خالقًا عليمًا حكيمًا سبحانه، خلق كل ذلك عن علم وحكمة وقدرة كاملة، وجعل لكل شيء قدرًا، فسبحان الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى. ولكن فئة أبت أن تنظر من خلال هذا المنظار وجعلت لمفهومي المعادلة والقانون وما في بابهما دلالات أخرى. وقد كان من أهمها وأخطرها ما بنوه من ضلال على القول بالنظرية الآلية -الميكانيكية- للكون. ¬

_ (¬1) انظر: الموسوعة العربية العالمية 16/ 365. (¬2) انظر: تاريخ الفلسفة الغربية، رسل، ترجمة الشنيطي ص 69. (¬3) انظر: مقدمة في علم الاستغراب، حنفي ص 179.

وأساس النظرية الآلية بأنه متى وجدت الحركة لأي جسم فستبقى هذه الحركة مستمرة ما لم يُعقها عائق، وهو أحد القوانين التي كشفها جاليليو وأخذ به نيوتن فيما بعد، فهذا القلب ينبض باستمرار دون توقف، وهذه الرئة، وكذا كثيرٌ من حركات الأعضاء غير الإرادية، وهذا في الأجسام الصغيرة، ومثلها الأجسام الكبيرة وغيرها، فمتى تحركت فهي تبقى في حركتها. وبحسب رأي جاليليو: فإن الحركة متى وجدت استمرت دون افتقار إلى علّة (¬1)، وهذا ما أخذه بعد ذلك نيوتن وجعله أول قوانين الحركة الثلاثة "فكل جسم ساكن، أو في حركة منتظمة على خط مستقيم يظل كذلك ما لم تؤثر فيه قوة من الخارج تجبره على تغيير حالته. وتفسير ذلك، أنه لو وجد جسم سماوي يتحرك حركة منتظمة فإنه يظل في حركته إذا لم تطرأ عليه آية مؤثرات خارجية. ومثال ذلك الكواكب والتوابع التي حولها. والأقمار الصناعية التي نطلقها في الفضاء، تظل تدور لأنها لا تلقى مقاومة" (¬2). وسأترك الحديث عن مفهوم "الآلية - الميكانيكية" إلى موضع الحديث عن آخر أعلام الثورة العلمية وهو نيوتن، ويكفي هنا ربط هذه المفاهيم الجديدة بالنظرية الجديدة من جهة، وبالثورة العلمية الجديدة من جهة أخرى. فالقول بالآلية أول ما ظهر في علم الفلك لتفسير حركة الأفلاك دون البحث عن علل خارجية لتفسير تلك الحركة. فمع القول بأن الأصل في الجسم استمراره في الحركة إذا لم يوجد عائق فإنهم لا يبحثون عن السبب الذي كان الأصل في الحركة، وهل هي حركة مستقلة أم أن استمرارها محفوظ بسبب خارجي عنها! رابعًا: التقدم العلمي والمنهج الجديد: لقد كانت بصمات جاليليو على العلم واضحة، وهناك من يجعله أعظم مؤسسي العلم الحديث، فما أهم معالم تلك البصمات؟ ¬

_ (¬1) تاريخ الفلسفة الحديثة، يوسف كرم ص 23. (¬2) الطريق إلى المريخ، م. سعد شعبان ص 32.

يظهر في هذه الفقرة الأثر الإيجابي لأعمال جاليليو في تقدم العلم وتحقيق ثورة علمية حقيقية، وهذا النوع يتساوى الناس فيه، فقد يبرع فيه المؤمن والملحد، المصدق بالأديان والمكذب بها، بل قد يفتح الله للكفار إذا بذلوا أسباب ذلك كما قال -تعالى-: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)} [الروم: 7]، وقد أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن الدنيا "لو كانت تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء" (¬1)، فعلوم الدنيا ميسرة لمن طلبها، ولذا فهي ليست لوحدها علامة صلاح صاحبها أو فساده، أو صلاح تلك الأمة التي ظهرت فيها أو فسادها. وإن كان المؤمن والأمة الصالحة إذا اشتغلوا بهذه العلوم طاعة لله سبحانه وقصْد نفع الناس بها، كان لهم من التوفيق ما لا يكون لغيرهم، وتحقق لهم الانتفاع الصالح بها ما لا يكون لغيرهم، فإذا عرفنا مثل هذه الحقيقة انتفى ما يردده بعض الجاهلين: "لِمَ تقدّمَ الكفار وهم كافرون بالله العظيم"؟! بعد هذه الوقفة نرجع إلى ما أعطاه الله لهؤلاء القوم عندما اشتغلوا بالدنيا وعلومها، ومما يسره الله لجاليليو وأمثاله وساعدت في تقدم العلم: اكتشافه للأدوات التي كانت سببًا في تقدم العلم كالمقرب -التلسكوب- مثلًا، واكتشافه لبعض قوانين حركة الأجسام، وإشاؤه لعلم الميكانيكا، وتطويره لعلم الفيزياء، وما ترتب على ذلك فيما بعد من اختراعات وصناعات لم تعرفها أمة من الأمم. وقد كانت إحدى أهم نقاط انطلاقه دعوته الملحّة إلى تجاوز منهج أرسطو، فهو وإن كان نافعًا في بعض الأبواب إلا أنه لا يقدم نفعًا في كشف الجديد، ودعوته لاستخدام المنهج التجريبي المقنن رياضيًا. وهذا يذكرنا بنقد آخر لمنهج أرسطو المتبع في العلم في جهة أخرى وقبل جاليليو بسنين كثيرة، وهو نقد علماء المسلمين، وقد كان من أهم ما أخذوه على منهج أرسطو: بأنه لم يظهر نفعه لأهل علم من العلوم أو صنعة من الصنائع، بل كان تطور علومهم وصنائعهم دون اعتمادهم عليه، ومنهم الكثير لا يعرفونه. وبعد سنين من ذلك ¬

_ (¬1) من حديث سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - رواه الترمذي برقم (2320)، كتاب الزهد، باب ما جاء في هوان الدنيا على الله -عز وجل-، وابن ماجه برقم (4111)، كتاب الزهد، باب مثل الدنيا، وقال الترمذي: صحيح غريب من هذا الوجه، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (686).

النقد الإسلامي يظهر في أوروبا الاعتراض نفسه، الموجّه لمنطق أرسطو ومنهجه مع الدعوة إلى التخلص منه في باب العلوم والبحث عن منهج جديد، هو ما أطلق عليه فيما بعد المنهج التجريبي وعمدته على المشاهدة والتجريب والملاحظة ثم التعبير عن ذلك بصيغ رياضية ورموز جبرية. وقد أثبتت بحوث كثيرة -من الشرق والغرب- بأن الغرب مدين للمسلمين بالمنهج التجريبي، فهم من أرسى دعائمه الأولى بعد النقد الكبير الذي وجّهوه للمنهج الصوري الأرسطي، ثم تعرف عليه الغرب في نهايات عصورهم الوسطى وتعلموه وطوروه في حركة الترجمة المعروفة لعلوم المسلمين. ثم جعله علماء أوروبا منهجهم العلمي المعتمد، وانطلق به كل عالم في ميدان علمه فحققوا نتائج كبيرة. وقد تسبب هذا المنهج في إيقاف الطريقة المدرسية السائدة في عصورهم الوسطى، وكان عمدة تلك الطريقة على متون فلسفية وعلمية تُشرح مرارًا وتعاد تكرارًا. ولكن بعد هذه الثورة المنهجية أصبح العلم ليس شرحًا للقديم وإنما اكتشاف الجديد، أو إضافة تصويبات للقديم. وأصبح مصطلح العلم مرتبطًا بمن يكتشف جديدًا أو يطور علمًا قائمًا، أما ذلك الذي يفهم العلوم الموجودة ويشرحها فلا يسمى عالمًا حقيقة. وأصبح ذلك سمة من سمات العلم الحديث، حيث تجد كل باحث شديد الحرص على إضافة الجديد أو تطوير القديم أو تصحيح أخطائه أو سدّ ثغراته، والعالم هو من يكتشف علمًا جديدًا، أو قانونًا جديدًا، أو نظريةً جديدة، وهكذا ظهر مصطلح التقدم تعبيرًا عن مواصلة الاكتشاف والتجريب وما يرتبط بذلك من تغيرات تصيب المجتمعات. وأحد أهم الأسباب التي أعطاها الله لهم هو حصولهم على منهج التجريب من المسلمين وتخلصهم النسبي من منطق أرسطو ومنهجه، وكان هذا أحد الأسباب المنهجية في التقدم العلمي الحديث، ومع ذلك فقد أغراهم بهجر كل قديم بحجة عدم علميته، حتى وإن كان الدين والقيم فوقع الغرب فيما بعد في أزمات، واختلط التقدم بأضرار كبيرة توازيه. وإذا كان هذا الوضع يصح على حالهم؛ لأن العلم المدرسي لا نفع فيه، فما هو إلا شرح أو محافظة على ما لا نفع فيه، أما في العلم المنزل من السماء والذي أكمله الله سبحانه برسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال -تعالى-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ

عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، فإن العلم الأكمل هو ما ارتبط به حفظًا أو تفسيرًا أو شرحًا أو استنباطًا، ويتبع ذلك العناية بعلوم الدنيا وتطويرها. 3 - ماذا بعد جاليليو؟ جاليليو وفكر عصره وظهور التيار العقلي والتيار التجريبي: شهدت البلاد الأوروبية غير إيطاليا انتشارًا لطائفة البروتستانت، وكانت تلك البلاد أيضًا قد شهدت بوادر حركة فكرية فلسفية جديدة تحاول الانفصال عن الماضي الفلسفي كما حدث مع التيار العلمي. ومن المعلوم بأن أوروبا منذ عرفت الفلسفة أيام اليونان والعلم فرع عنها وتابع لها، فهي الأصل وهو الفرع، إلا أن الفرع مع العلماء الجدد قد حدث له تطورات جديدة مما يعني أن الأصل -الفلسفة- لابد له أن يتغيّر. فقد كانت هناك أصوات في عصر النهضة تنتقد أرسطو ومنهجه وتدعو إلى تجاوزه، إلا أنها كانت ضعيفة الصدى، ولكن بعد الأحداث الكبيرة في ميدان العلم ما كان يمكن بقاء الفلسفة بعيدًا عن تلك التطورات. وقد عرفت أوروبا بعد عصر النهضة تيارين فلسفيين كبيرين، وما زالا إلى الآن مع بعض التعديلات والتطويرات لهما. وهذان التياران هما: التيار الفلسفي العقلي والتيار التجريبي الحسي. عُرف الأول في فرنسا وعرف الثاني في إنجلترا، ومن الطبيعي أن يكون للفلاسفة معرفة بالعلوم إن لم يكن بعضهم علماء في بعضها؛ وذلك أن العلوم فرع عن الفلسفة، ومن كان فيلسوفًا فلابد أن يكون على معرفة بالعلم. لم يكن هذان التياران قد ظهرا بوضوح زمن جاليليو، وذلك أن رواد التيارين كانوا بعد زمنه أو ممن عاصروه وعاشوا بعده بفترة. وقد كان لمؤسسي هذين التيارين صلة بجاليليو بطريقة أو أخرى، وذلك أن جاليليو أصبح يمثل ذروة علمية في أوروبا لابد من الاعتراف بها، وبهذه الصلة بدأت الفلسفة تربط نفسها بحركة العلم الجديد، وهي إما أن تتأثر به أو تحاول استثماره في الدفاع عن أصولها، وهذا أحد أهم الأسباب للتعرجات التي حدثت في مسيرة العلم، فما سرّ العلاقة؟ أو كيف كانت بدايتها؟ - الاتجاه العقلي. لا يكاد يوجد اختلاف في أن "ديكارت" الفيلسوف

[2] قنطرة بيكون وديكارت والتأسيس المنهجي للثورة الفكرية والعلمية

الفرنسي المشهور هو مؤسس الفلسفة الحديثة في الغرب، وأنه المنشئ للتيار العقلي الحديث، وهذا يعني أهمية بحث الصلة من جهته. سمع "ديكارت" بالعقاب الذي نزل بجاليليو، فسارع بطيّ مخطوطة كان قد كتبها عن "العالم" وذلك ليعيد صياغتها بصورة لا تحذف منها الكنيسة شيئًا كما يقول، وهذا يدل على أن ديكارت كان متابعًا لأحداث جاليليو، أما عن علاقته به فيُذكر بأنه كان يحسده على سمعته، وأنه لم يكن يشعر بأي تعاطف تجاهه (¬1). وهذه الغيرة لا تستغرب فقد كانا متعاصرين، وديكارت يعدّ نفسه فيلسوفًا وعالمًا، إلا أنه كان على اطلاع بنشاط جاليليو. - الاتجاه التجريبي. وهذا الموقف السلبي تجاه جاليليو نجده أيضًا عند أهم رواد التيار التجريبي وهو "بيكون" حيث "رمى كوبرنك بالدجل، ولم يدرك -كما يقول يوسف كرم- أهمية قوانين كبلر وبحوث جاليليو. فهو لم يشتغل بالعلم" (¬2)، وربما يرجع الأمر أيضًا إلى معاصرته لجاليليو. - أتباع الاتجاهين. ولكن الأمر يختلف مع أتباع ديكارت وبيكون، أو قل مع فلاسفة التيارين الكبيرين العقلي والتجريبي، حيث نجد دفاعًا حارًا عن العلم وعن جاليليو مع أحد كبار الديكارتيين وهو الفيلسوف المشهور لايبنتز، ونجد أكثر من ذلك مع صديق أو تلميذ بيكون -على خلاف- وأهم مؤسسي التيار التجريبي الفيلسوف توماس هوبز حيث يقول: "جاليليو. . كان أول من فتح لنا أبواب الفلسفة الطبيعية الكلية التي هي معرفة الحركة، ومن ثم فليس في استطاعة عصر الفلسفة الطبيعية أن يعد شخصًا آخر أرفع منه منزلة. ." (¬3). ونظرًا لأهمية الاتجاهين في الفكر الغربي في علاقته بالعلم الحديث، فلابد من وقفة مع المؤسسين لهما "ديكارت" و"بيكون". [2] قنطرة بيكون وديكارت والتأسيس المنهجي للثورة الفكرية والعلمية: إذا كانت مجموعة من الدراسات تذكر "نيوتن" بعد "جاليليو" إلا أن هناك قنطرة مهمة يصعب تجاوزها متمثلة في مؤسسي التيارين الفلسفيين الكبيرين في ¬

_ (¬1) غالييه أو مستقبل العلم، فيلما ص 75 - 76. (¬2) تاريخ الفلسفة الحديثة، يوسف كرم ص 44. (¬3) توماس هوبز فيلسوف العقلانية، د. إمام عبد الفتاح ص 64.

الغرب وهما "ديكارت" و"بيكون"، وتأتي أهمية الوقوف معهما؛ لأنهما يمثلان أكبر تيارات أوروبا الفلسفية، وهذا يعني أنهما يشكلان نموذجًا جيدًا لدراسة علاقة الفكر بالعلم، ولا يخفى أهمية ذلك لموضوع الدراسة الذي يتناول علاقة تيار فكري بالنظريات العلمية، ومع ذلك فإن الحديث سيكون مختصرًا وبقدر ما يفيدنا في الموضوع. إذا كانت معاصرتهما لجاليليو سببت بعض التنافس، فإن التوجه نحو العلم أصبح سمة لهما ولأغلب الفلاسفة بعدهما، وقد كان لهما ولمدرستهما أثر كبير في الثورة العلمية، أثر خطير في تشكيل صورة العلم الجديدة وطريقة حضوره في المجتمع. ومما يجمع بين بيكون وديكارت نقدهما الشديد لمنطق أرسطو ومنهجه، ومحاولتهما وضع منهج جديد، إما لتصحيح عمل العقل ورسم صورة جديدة عنه كما هو مع ديكارت، أو لكشف الجديد كما عند بيكون، وقد شغلهما المنهج بدرجة كبيرة، وربما كانت هي إحدى أهم القضايا الفكرية في تلك المرحلة، وقد "سمي القرن السابع عشر بعصر "الاهتمام بالمنهج" وهذا حق، فقد اهتم الفلاسفة والمفكرون في ذلك العصر بالطريقة التي ينبغي أن يتبعها الإنسان في بحثه عن الحقيقة" (¬1). واتفاقهما على أهمية العلم ومكانته، وأهمية وضع منهج جديد يساعد في تطويره وتقدمه، مع هجوم كبير على العلم الأرسطي والوسيط وعلم عصر النهضة، وإعجابهما بالثورة الكبيرة التي حصلت في علم الفلك رغم مواقفهما من بعض علماء الفلك. واتفاقهما أيضًا على الشك في الموروث ورفض الطريقة المدرسية القائمة على الشرح لمتون قديمة والاكتفاء بالاستنباط منها، وهي التي كان يخدمها منهج القياس الصوري من منطق أرسطو، فإنه منهج غايته استخراج فرع عن أصل، أو إخراج نتيجة من مقدمة؛ أي: أنه تحصيل حاصل، وربط للمستجدات بأصول ثابتة، بينما العلم هو اختراع لجديد في المناهج والنظريات والاكتشافات، ولهذا فهو في حاجة إلى منهج آخر. ولا شك أن العلاقة السيئة مع الكنيسة الممثلة للدين في زمنهما جعلت جهدهما -كما هو حال جهد علماء الفلك من قبلهما- يتحرك مستقلًا عن الدين ¬

_ (¬1) توماس هوبز -فيلسوف العقلانية، د. إمام عبد الفتاح ص 95.

أ- فرانسيس بيكون

إن لم يكن معارضًا ومنافسًا له، وهذه المشكلة طبعت ببصماتها السلبية على علاقة العلم والفكر بالدين في الفكر الغربي. أ- فرانسيس بيكون: فيلسوف إنجليزي (1561 - 1626 م) فأما حياته العامة فكان صاحب طموحات سياسية قدم من أجلها صورة سيئة لصورة العالم والفيلسوف، حيث عُرف بالخسة والسفالة وتعامل مع غيره بالخيانة والغدر كما ذكرت كتب التراجم، وكان أشدّها خسة ما فعله بصديقه الحميم "أسكس"، فقد كان أسكس مقربًا من الملكة فحاول توفير منصب رفيع لبيكون ولكنها لموجدتها على بيكون رفضت ذلك، فقام أسكس بمنح بيكون إحدى ضياعه. وبعد سنوات فقد أسكس حظوته عند الملكة واتهمته بالخيانة، وطلبت من بيكون أن يُعدّ صحيفة الاتهام ضد صديقه ليقدم للمحاكمة، فحكم عليه بالإعدام وأعدم (¬1). وبيكون يعترف بأنه "ضعيف الإرادة" في مقاومة الشر والفساد، وأنه "شارك في مفاسد أهل العصر" (¬2)، وهذا الانحطاط الخلقي عند أهم رموز الفكر الغربية تُلقي بظلاله على صورة العالم والمفكر في العصر الحديث، وصورة ما يقدمه عندما يقدمه بِرِقة خلق مع الابتعاد عن الدين. ودون أدنى شك بأن لذلك أثره على صورة العلم والفكر النابع عن أمثاله، وهذه مشكلة العلم والفكر الحديث بأن كثيرًا من رواده يعانون أزمة خلق أو أزمة دين أو أزمة هوية، وأن لهذه الأزمة بصماتها وآثارها على ما قدموه، يظهر عند بعضهم ويختفي عند آخرين، كل بحسبه. فأزمة الخلق كالذي شاهدناه هنا مع بيكون، وأزمة الدين كالذي نشاهده معهم جميعًا ولاسيّما التيار المادي الملحد الذي اشتهر في أوروبا، وأزمة الهوية مثل وضع اليهود داخل أوروبا النصرانية والشكوك حول نشاطهم العلمي، وهي قضايا أشكلت في الفكر الغربي الحديث. دعا "بيكون" إلى الإصلاح العظيم للعلم، وأهم معالم هذا الإصلاح: ¬

_ (¬1) انظر: موسوعة الفلسفة، د. عبد الرحمن بدوي 1/ 393، وانظر عرضًا آخر عند "ديورانت" يدافع فيه عن "بيكون" بأنه قد أنذر صديقه عدة مرات، والحقيقة أن ذلك لا يستقيم مع الصداقة لاسيما والجميع أهل فساد، انظر: قصة الفلسفة ص 139. (¬2) انظر: موسوعة الفلسفة، السابق 1/ 393.

تحديد معنى العلم الصحيح أولًا، فجعله القائم على "التجربة والملاحظة"، وغايته "تمكين الإنسان من السيطرة على الطبيعة" للاستفادة مما فيها. وأما المنهج المناسب فهو الاستقراء الناقص في مقابل الاستقراء الكامل الأرسطي (¬1). وذكر أنه بهذه الطريقة يمكن أن يحدث تقدمًا في العلم مثل ذلك الذي حدث في الاكتشافات الجغرافية المهمة، أو في المخترعات الجديدة مثل فن الطباعة والبارود، والاكتشافات العظيمة في علم الفلك بفضل كوبرنيكوس وجاليليو (¬2). ونبه إلى عائق أمام التقدم نحو العلم الجديد، وهو ما أسماه بالأصنام الأربعة المسيطرة على عقول المفكرين والناس وهي: أصنام القبيلة والكهف والسوق والمسرح، التي لابد من تحطيمها لنتقدم بالعلم. فالصنم الأول ناشئ من طبيعة الإنسان، فهي مشتركة بين جميع أفراده، مثل التعميم لبعض الحالات دون النظر لحالات معارضة، وعدم الانتباه إلى التشابه وحدوده. وأما أصنام الكهف فينتقل فيها من الأوهام التي يشترك فيها كل البشر إلى الأوهام التي يتميز كل فرد، فإن لكل فرد طبيعة بسبب التربية والبيئة، فتجد مثلًا بعض الناس يكشف الفروق وآخر يلاحظ التشابه، وتجد شخصًا يميل للتنقيب عن العيوب وآخر لا يرى إلا المحاسن وهكذا. وأما أصنام السوق فهي مخصوصة بالألفاظ حيث يتخيل بعض الناس أن لتلك الألفاظ حقائق كالمصطلحات الفلسفية مثلًا، ويحدث بسببها مناقشات كثيرة، ثم إذا هي تدور فقط حول ألفاظ دون معنى. وأما الرابع فأصنام المسرح وخصها بالنظريات والمذاهب المتوارثة، فكأنها مسرحيات يتم عرضها ويصدقها الناس، وهي أوسع من الثالثة؛ لأن تلك ألفاظ وهذه مذاهب (¬3)، ولن نتقدم في مجال العلم والفكر ما لم نتخلص من هذه الأصنام. ¬

_ (¬1) انظر: موسوعة الفلسفة، السابق 1/ 394. (¬2) انظر: المرجع السابق، ونفس الصفحة. (¬3) كثير من الكتب التي تحدثت عن "بيكون" وقفت مع هذه الأصنام المنهجية التي دعا بيكون إلى التخلص منها. انظر مثلًا: تاريخ الفلسفة الحديثة، كرم ص 47 - 48، وموسوعة الفلسفة، بدوي 1/ 395 - 396، وانظر: فرنسيس بيكون -آراؤه وآثاره، د. محسن جهانكيري ص 136 - 147.

وقام أيضًا ضمن هذا المشروع بتصنيف جديد للعلوم يُعد من أهم التصنيفات في العصر الحديث، ولكن الأهم من ذلك كلّه هو صورة "المنهج العلمي" الذي دعا إليه. يقوم المنهج العلمي عند "بيكون" على التجريب والملاحظة، وطلب من الباحث العلمي أن يكون كالقناص الباحث عن فريسة، والقنص يقوم في ثماني عمليات منها: تنويع التجارب وإطالتها وقلبها إلى غير ذلك. وفي كتابه "الأورغانون الجديد" تحدث عن الاستقراء المناسب لتطوير العلم، وعمدته على اللوحات الثلاث: لوحة الحضور ولوحة الغياب ولوحة الدرجات، وقد أخذ بها "مل" فيما بعد في قواعده، وأضاف عليها اثنتين (¬1). وبعد الانتهاء من عملياته بين تلك اللوحات يقوم بعملية الاستقراء، وعمدته بأنه إذا انتفى السبب انتفى المسبب. ومما لاحظه الدارسون لبيكون أنه لم يكن له عناية بالعلوم وإبداعها بقدر ما كانت عنايته بإصلاح منهجها؛ ولذا لم يحفظ عنه شيء كبير في العلوم ولا قام بتجارب حقيقية (¬2). كانت هذه أهم أدوار بيكون في العلم الحديث وسأختمها ببعض الوقفات حول بيكون وأمثاله: 1 - كانت عناية بيكون منصبّة على رسم منهج جديد يساعد في اكتشاف الجديد، والتخلص من كل المناهج القديمة، وأهم مشروعاته هي في دعوته للمنهج التجريبي في الفكر الغربي ودفاعه عنه دفاعًا حارًا، وقد ظهر في دراسات حديثة عن جهات مختلفة ما يثبت بأن المنهج التجريبي لم يكن غائبًا عن الحضارات والأمم الأخرى، وأن أفضل من أصل أصوله وأبدع شروطه وقوانينه هم علماء في البلاد الإسلامية، وأن أوروبا بدأت تتعرف على هذا المنهج منذ نهايات عصورها الوسطى. 2 - لا يختلف بيكون عن كثير ممن عاصرهم من المفكرين في الخلط بين العناية بالعلم والاحتفاظ ببعض المفاسد المخالفة للعلم علاوة على بعض المفاسد الخلقية عند أغلبهم، وقد سبق بيان شيء من صورة المفاسد الأخلاقية ¬

_ (¬1) انظر: موسوعة الفلسفة، السابق 1/ 396 - 397، وانظر: فرنسيس بيكون -آراؤه وآثاره، د. محسن جهانكيري ص 167 - 186. (¬2) انظر: تاريخ الفلسفة الحديثة، كرم ص 45، وانظر: قصة الفلسفة، ديورانت ص 178.

التي لا تهمنا إلا بقدر ما لها من أثر على حركة العلم وأخلاقياته، أما ما يخالف العلم فمن الأشياء الغريبة ما نجده من اعتقاده بالكيمياء القديمة -الخيمياء السحرية- وبالتنجيم وبالسحر (¬1)، وهي وإن وقع فيها شيء من الحظ فهي محرمة في الدين الحق ولا تتفق مع المناهج العلمية، وقد سبق مثل ذلك مع رواد أول نظرية علمية وهم علماء الفلك من ميل بعضهم إلى أبواب التنجيم. 3 - التمهيد للفصل بين اللاهوت والعلم: فقد كان أحد أهم الدعاة لذلك؛ ولذا جُعل من رواد حركة التنوير في القرن الثاني عشر/الثامن عشر (¬2)، وعادة ما يكون المقصود بالتنوير فصل الدين عن مناشط الحياة واستقلال العقل بإدارتها، وعندما نعرف شخصية بيكون نعرف بأن لدعوى الفصل أبعادًا أخرى غير القضية العلمية، وهذا يكشف بأن تلك الدعوى التي نجحت في الغرب لم تكن مبنية على قيمة منهجية وعلمية صافية، بل قد اختلط بها الهوى والميول الفاسدة البارزة عند دعاتها، وأنها مرتبطة بوضع تاريخي وصراع اجتماعي معيّن، ولا يمكن أن نجد من رجل لا يكترث بالأخلاق ولا بالدين همًّا في الإصلاح الديني أو المصالحة بين الدين والعلم أو جعل العلم في خدمة الدين. أخيرًا فإن دور بيكون لم ينته بموته، فقد كان لفكره وللصورة التي رسمها عن العلم أثرها الكبير في الفكر الغربي الحديث، ونجد ذلك أوضح في التيار التجريبي المشهور والحسي والمادي، وذلك بحسب القسمة المشهورة في أغلب الكتب المؤرِّخة للفكر الغربي الحديث إلى: "تجريبي وعقلاني"، من أمثال: "هوبز" و"لوك" و"هيوم" و"مل" وغيرهم، بل ينتسب إليه التيار المادي الملحد الذي عرفته أوروبا في القرن الثاني عشر/الثامن عشر وما بعده، وهناك من يراه هو مؤسس الفكر الحديث لا ديكارت (¬3). وقد كان لحكايته "أطلانطا الجديدة" (¬4) -وهي قصة تخيلها عن مدينة يحكمها العلماء- أثر كبير في توجّه أهم مركز علمي وهو المعهد الملكي في بريطانيا للعناية بهذه العلوم. ¬

_ (¬1) انظر: تاريخ الفلسفة الحديثة، كرم ص 45. (¬2) انظر: موسوعة الفلسفة، بدوي 1/ 398. (¬3) انظر: نقد نقد العقل العربي -نظرية العقل، جورج طرابيشي ص 196 مع هامش (6). (¬4) انظر: قصة الفلسفة، ديورانت ص 171.

ب- ديكارت

ب- ديكارت: كان "بيكون" ممثلًا للتيار التجريبي ومؤسسًا له ومخططًا صورة علاقته بالعلم الجديد، وانتشرت رسالته في إنجلترا مع من تأثر به في أوروبا، يقابله فيلسوف العقلانية ومؤسس الفلسفة الحديثة الفرنسي ديكارت (1595 - 1650 م)، ويختلف عن بيكون بميله للهدوء والبعد عن السياسة وحبه للفلسفة واشتغاله بها. وتنبع أهمية البحث عن دوره: من كونه المؤسس للتيار الآخر والشق الثاني في الفكر الغربي الحديث وهو: التيار العقلي، وكان أثره كبيرًا في وضع بصمات خاصة حول علاقة التيار بالعلم، وله جهد بارز في رسم منهج العلم والفكر فضلًا عن كونه عالمًا في الرياضيات ومبتكر الهندسة التحليلية، فهو بخلاف بيكون قد قدم اكتشافات علمية جديدة. وشارك بيكون بالدعوة لمنهج جديد، وانتقاص المنهج الأرسطي السائد، وأن العلم والفكر في حاجة لمثل هذا المنهج الجديد لكي يتقدم. كان من أول مؤلفاته كتابه "بحث في العالم" وفيه يثبت دوران الأرض حول الشمس، وعندما سمع ما حلّ بجاليليو أخفى كتابه؛ لأن مادة الكتاب الأساسية تقوم على إثبات ذلك (¬1). وسأترك مادة ديكارت الفلسفية؛ لأن لها مجالها في الدراسات الفلسفية وأكتفي بما له علاقة بالثورة العلمية، وفي ذلك يقول عبد الرحمن بدوي: "استهدف ديكارت في تفكيره تحقيق ثلاثة أمور: 1 - إيجاد علم يقيني فيه من اليقين بقدر ما في العلوم الرياضية، بدلًا من العلم الواصل إلينا من العصر الوسيط. 2 - تطبيق هذا العلم اليقيني تطبيقًا عمليًا يمكن الناس "من أن يصيروا بمثابة سادة ومالكين للطبيعة". 3 - تحديد العلاقة بين هذا العلم وبين "الموجود" الأعلى أي الله، وذلك بإيجاد ميتافيزيقا تتكفل بحل المشاكل القائمة بين الدين والعلم" (¬2)، وهذا تلخيص جيد من بدوي. ¬

_ (¬1) انظر: ديكارت، د. مهدي فضل الله ص 81. (¬2) موسوعة الفلسفة، بدوي 1/ 491، والتعريض للخط والترقيم من الباحث.

نلحظ بعض الاتفاق مع طموحات بيكون، وإن كان بيكون لا يريد العلم اليقيني، ويكتفي بالعلم النافع حتى وإن لم يكن يقينًا، إلا أنه كبيكون حدد غاية العلم بالسيطرة على الطبيعة والقدرة على استثمار مواردها وكنوزها، وبقدر إيجابياتها فقد تحولت دعوى السيطرة على الطبيعة إلى آفة في الحضارة الحديثة بعد تحولها إلى دمار هائل بسبب انفلات الدعوى من عقال الأخلاق والدين، وأما الثالثة فهي تحدد مشكلة العلاقة بين الدين والعلم، وهي مشكلة اتخذ حلّها في الفكر الغربي طريقة الفصل ثم العزل؛ أي: الفصل بين الدين والعلم، ثم عزل الدين في مكان قصي. بدأت عنايته بالعلم بعد رؤيا رآها كما يقول عن نفسه أُمر فيها بإقامة هيكل العلوم (¬1)، وبعد زمن بدأت عنايته في إصلاح الفلسفة، وإيجاد منهج جديد للبحث في كل العلوم (¬2). وقد كان من بين أشهر كتبه التي عُني فيها بإصلاح المنهج كتابه: "مقال عن المنهج"، وهو كتاب صغير الحجم أوضح فيه القواعد التي ينبغي على العقل أن يتبعها في بحثه عن الحقيقة في مختلف العلوم، وقد بالغ بعض النقاد في مدح هذا الكتاب من قوله: أنه كان وراء نشأة كل العلم والحضارة الغربية (¬3). ويقوم منهج ديكارت الشهير، والذي دخل بسببه باب الشهرة، على أربع قواعد، وذلك أنه يرى أن القليل من القواعد النافعة أفضل من الكثرة دون فائدة، وهي سمة بارزة أيضًا في منهج بيكون السابق ذكره، وهذه القواعد الأربع هي: 1 - ألا أقبل أي شيء أنه حقيقي إلا إذا تبينت أنه كذلك بيقين، وهذا يعني: تجنب الاندفاع في الحكم. 2 - أي صعوبة تقابلني أقسمها إلى أجزاء بقدر الحاجة المعينة على فهمها وحلّها، وهذه عملية تحليل. 3 - بعدها التركيب، وهي أهمها في نظر ديكارت وأن المنهج بأجمعه ينحصر فيها: فبعد التحليل نركب ونجمع الأجزاء إلى بعضها، ونرتبها وننظمها ¬

_ (¬1) انظر: ديكارت، مهدي ص 78. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 80. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 82.

بغية توجيه العقل لاستكشاف الحقائق، ولا يشترط أن نعيد ترتيب المشكلة كما كانت، بل نرتبها بحسب ما يساعد على الفهم والحل. 4 - أن أقوم بإحصاء تام ومراجعة عامة على نحو أتأكد معه أنني لم أغفل شيئًا (¬1). ولم يكتف ديكارت ببيان هذه القواعد وشرحها، بل أقام عليها فلسفة كبيرة، وكون مدرسة فكرية مشهورة، فالمدرسة الديكارتية أو المذهب العقلي الحديث ترجع إلى فلسفة ديكارت ومنهجه. وموقف "ديكارت" الديني والخلقي أفضل بكثير من موقف "بيكون"، فقد كان ديكارت مهتمًا بإثبات الربوبية والإيمان بالله سبحانه وأنه الخالق للكون والبشر، وكان مهتمًا بالجانب الخلقي والتربوي بعكس ما رأيناه مع بيكون الذي وإن كان يؤمن بوجود الله سبحانه وينكر على الملاحدة مذهبهم، إلا أن ما بعد ذلك لا يعنيه. ولا شك أن العلاقة السيئة مع الكنيسة كانت أحد الدوافع لابتعاد هؤلاء عن الدين أو العناية به، أو البحث في حقيقته، أو محاولة تصحيح الانحرافات التي أضافتها الكنيسة إليه. وانصرف همهم إلى البحث عن السلامة من الكنيسة إن كانوا في موطنها القوي، والتأكيد المتواصل لأهمية فصل الكنيسة واللاهوت والدين عن العلم. وقد كان منطلق "ديكارت" في قضاياه الدينية هو العقل فقط، ومن هنا جاء الابتعاد التدريجي عن الدين، وبما أن الإيمان بالله ضرورة لا ينكرها أحد وطريق الكنيسة إلى ذلك الإيمان غير مقنع، فلابد من الاعتماد على العقل. ولكن غاية ما عند التيار العقلاني في الأبواب الدينية إن أصاب هو إثبات الربوبية، أما ما سواها فلا شيء كبير عندهم، وهنا يظهر النقص الكبير الذي وقع فيه الفكر العقلاني تجاه الدين في أوروبا، فقد دافعوا عما يُقرّ به أغلب عقلاء البشر وبما تدين به الفطر السوية، ولكن بقيت أمور العبادة والتوحيد وشرائع الدين معطلة عند هؤلاء، ومما يؤسف له أن هذا أصبح سمة غالبة لمن يسمون عندهم ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق ص 107 - 111، وموسوعة الفلسفة، بدوي 1/ 492 - 493، وانظر: تيارات الفكر الفلسفي. . . .، أندريه كريسون ص 45.

بالمؤمنين من مفكرين وعلماء إذْ هم في الغالب ممن يعتقد بوجود الله ولكنه لا يعترف بالنبوات والشرائع. هكذا يتفق ديكارت مع بيكون في أهمية العناية بالمنهج، ويختلفان في رسم صورته، واتفق الناس بعدهما بأن لمقترحاتهما في إصلاح المنهج أثرًا كبيرًا في تطور العلوم وتقدمها. وبهذا نكون قد اقتربنا من آخر رموز الثورة العلمية وهو نيوتن، ومما يوصلنا إليه فقرتان نختم بهما الحديث عن ديكارت لهما علاقة بالثورة العلمية وبنيوتن: الأولى: حول آلية الكون وقد سبق الحديث عنها مع "كبلر" و"جاليليو"، وبها قال "ديكارت" في قوانينه الخاصة بطبيعة الأجسام، وفسرها تفسيرًا ميكانيكيًا آليًا شاملًا؛ لأن الكون محكوم بقوانين لا تتغير، وهو هنا يختلف عن العالمين السابقين بأنهما يقفان عند اكتشاف القوانين. أما ديكارت فيعلل ذلك ويفسّره في ظلّ التصور العقدي الذي اعتقده؛ فهو يرى بأن الله سبحانه هو الذي خلق الوجود أو الكون، وخلقه بقوانين يتحرك بمقتضاها. وبحسب رأيه فإذا كان الله سبحانه ثابتًا وأزليًّا فإن تلك القوانين التي أوجدها لتدبير الكون بمحض إرادته وحريته هي أيضًا ثابتة وأزلية، وهذا لا ينتقص من قدرة الله سبحانه (¬1). وهو بهذا يتصور حركة للكون لا يمكن تغييرها عن حالها حتى من قبل موجدها، ويظهر من كلامه بأنها لن تتغير أبدًا تبعًا لما يراه في صفة الإرادة والمشيئة الأزلية الثابتة، ويظهر أنه لا يؤمن بأن الله سبحانه يفعل ما يشاء ولا يؤمن بأن أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له: كن فيكون. وقد انتقد عليه "بسكال" قوله هذا، ورأى بأنه لم يترك لله سبحانه أي دور في العالم (¬2). فهذه الآلية بهذه الصورة ترفع تدبير الله سبحانه لأمور الكون وإمساكه للسيارات بما يشاء سبحانه، وتقليبه الأمور وتصريفه لها، وتصبح الصورة العقدية الديكارتية قائمة على أنه سبحانه خلق الكون بقوانينه وتركه بعد ذلك. وإن كان يرى بأن الرب سبحانه "له القدرة دائمًا على التدخل في شؤون الكون، للتغيير في مساره، إذا ما أراد، وهو إذا كان لا يتدخل، فلأنه يريد خير ¬

_ (¬1) انظر: ديكارت، د. مهدي ص 164. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 164.

[3] نيوتن وظهور أشهر ثاني نظرية في العلم الحديث

الإنسان. وقد خلق العالم بقوانينه إياها، من أجل تحقيق هذه الغاية" (¬1). ويختلط في هذا الموقف الحق بالباطل؛ فإن ديكارت وغيره يتصورون الرب سبحانه بحسب اجتهاداتهم العقلية، ويصفونه بما تُمليه عليهم نظراتهم الفلسفية، بما في ذلك علاقته سبحانه بمخلوقاته وتدبيره لأمورها، وهذا باب وإن كان العقل يقدر على بعض أموره إلا أنه لا يصل فيها إلى الحق الكامل. من هنا جاءت أهمية الوحي، ومن خلاله نعرف الرب سبحانه ونصفه سبحانه بما وصف به نفسه، ونثبت له ما أثبت لنفسه، ونثبت له في خلقه وتدبيره ما أثبته سبحانه لنفسه، ويكون الوحي للعقل كنور الشمس للعين. ولو كان العقل قادرًا باستقلال على الوصول إلى الحق الكامل في كل هذه الأبواب لوصل إليه أذكياء وعباقرة المفكرين واتحد قولهم على رأي واحد، إلا أن الواقع غير ذلك من كثرة الاختلاف والتباين، عندما يتّكِلون على العقل ويزهدون في الوحي. وقد سبق بأن ما تشعر به الحواس من آلية حركة الكون، وما تلحظه العقول وتكشفه القرائح من قوانين يمكن بها تفسير هذا التوازن العجيب في حركة الكون، لا يعني بأن هذه القوانين هي المسيرة باستقلال. وأما الثانية: فهي تأثير ديكارت على نيوتن، فقد كان لديكارت فضل كبير على تقدم الرياضيات، خصوصًا في ميداني الجبر والهندسة، واكتشافه الهندسة التحليلية. وقد أسهم ذلك في حلّ كثير من المسائل الفيزيائية التي كانت عسيرة الحل من قبل، وهذا مما استفاده نيوتن من ديكارت (¬2)، فلنختم به الحديث عن الثورة العلمية. [3] نيوتن وظهور أشهر ثاني نظرية في العلم الحديث: لقد أخذت بالتحديد الذي يجعل "نيوتن" آخر شخصيات الثورة العلمية، ولا يشك أحد في ثقل "نيوتن" على العلم الحديث وأثره الكبير في وضع العلم في منصة الشرف وتقديمه على غيره، وأثره في ترسيخ قيمة العلم في المجتمع الغربي، وإقفال كثير من المشاكل العالقة، وتشكيل صورة خاصة به. ¬

_ (¬1) المرجع السابق ص 164 - 165. (¬2) انظر: موسوعة الفلسفة، بدوي 1/ 498.

إسحاق نيوتن (1642 - 1727 م) لم تكن طفولته تنبئ عن مثل هذه القدرات كما يقول دارسو حياته، وبدأ شبابه بتعلم الفنون، وكان عنده ميل كبير للرياضيات، ورث كرسي أستاذه في الرياضيات والبصريات ومن هناك بدأت أعماله العلمية المشهورة، وفي آخر حياته أصيب بمرض وصاحبه نشاط سياسي مما خفف من نشاطه العلمي، وبعد كبره انسحب إلى الدين وترك كل شيء إلى أن مات (¬1). وأهم أعماله -وهي قليلة مقارنة بشهرته- اكتشافه حساب "التفاضل والتكامل" على خلاف كبير هل هو من اكتشفه أم "لايبنتز"، وكتابه في البصريات، وكتاب "أسس الرياضيات"، وأهمها جميعًا كتاب "المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية" مع نظريته الجديدة حول الجاذبية. كانت ولادة "نيوتن" في العام الذي مات فيه "جاليليو"؛ أي: في عصر الأحداث "الكبرى" وكان "جاليليو" آخر أعلام إيطاليا وبموته انتهى أثر إيطاليا في حركة العلم الحديث، وسينتقل الدور إلى بلاد أخرى كفرنسا وإنجلترا وبعض بلدان أوروبا الأخرى، وهي رحلة طويلة كانت بدايتها الحديثة بذهاب أبناء أوروبا لأخذه من مدن المسلمين في الأندلس وصقلية وربما إلى مصر والشام وغيرها، ثم نُقل كثير منها إلى إيطاليا حاضرة أوروبا في عصر النهضة، وتصبح مدن إيطاليا -ولاسيّما جامعة بادوا معقل العلم المنقول عن المسلمين مع إضافات علمائها- مركز العلوم في أوروبا. ولكل أجل كتاب، فها هي إيطاليا تتوقف عن أثرها، وينتقل العلم إلى بلدان أخرى في أوروبا، وقد حدث في واقعنا المعاصر أن انتقلت كثافة العلوم الدنيوية إلى بلد جديد هو أمريكا، وها نحن اليوم في بوادر ظهور مجتمعات جديدة تواصل مسيرة العلم كاليابان مثلًا. إن براعة أمة من الأمم في هذه العلوم لا يعود إلى عرقها أو موطنها، وإنما إلى ما ييسره الله لقوم فيبذلون من أسباب تحصيله ما يجعلهم بارعين فيه، وبحسب الوسط الذي يظهر فيه العلم والبيئة التي يعيش فيها لا يخلو أمره من أن يكتسب شيئًا من خصائص ذلك الوسط ومقوماته وفلسفته. ¬

_ (¬1) معجم الفلاسفة، جورج طرابيشي ص 631، وانظر: الموسوعة العربية العالمية 25/ 545 - 547، مع كتاب: إسحاق نيوتن والثورة العلمية، جيل، حيث هو مرجعي المهم في باب المعلومات اللاحقة.

لقد كانت أحداث النظرية الفلكية الجديدة تعصف بأوروبا، والتفاعلات معها ما زالت كبيرة، ورغم إعلان "جاليليو" تراجعه عنها وتحريم كتاب "كوبرنيكوس" إلا أن ذلك لم يزد الأمر إلا اشتعالًا، وهاهم علماء أوروبا ومثقفوها أمام نظريات جديدة حول الفلك فماذا يفعلون بها؟ لقد توسط "بيكون" و"ديكارت" بين تلك النظريات وبين "نيوتن" بما اقترحوه من قواعد جديدة، ومناهج للبحث في العلوم لعلها تكون مخرجًا من تلك الأزمة ومفتاحًا للاستفادة من العلم الدنيوي. اجتمعت هذه الأحداث لتنقل جمهرة كبيرة في أوروبا من العناية بعلوم العصر المدرسي المعهودة إلى علوم جديدة، "وأصبح الاهتمام بالقضايا العلمية والرياضية عاطفة جارفة، لا، بل انفعالًا لاهبًا لم تستطع سوى القلة أن تتصدى له" كما يقول "سترومبرج" (¬1)، وحدث نوع من الاتفاق بين علماء تلك المرحلة على أهمية دراسة الكون في ظل اختلاف التفسيرات حوله (¬2)، وقد كان هناك عدّة نظريات (¬3)، فهناك النظرية القديمة لبطليموس وأرسطو، وهناك تصور لكوبرنيكوس وآخر لبراهي وثالث لجاليليو، أوصلها البعض إلى سبع نظريات، ولكن حدث توجه في محاولة إثبات ذلك في مجال الفيزياء والاستعانة بصيغ رياضية لعلها تقطع أكثر الجدل الدائر، وظهرت عناية بالبحث عن نظريات عامة في الحركة والجاذبية تفسر في تكامل وشمول ظواهر الكون. فجاء "نيوتن" واستعمل "اكتشافات الآخرين كي يطور نظرة موحدة عن قوى الكون في كتابه المبادئ (1687 م)، فصاغ قانون الجاذبية الكونية، وأظهر أن الأجسام الأرضية والسماوية تتبع هذا القانون" (¬4)، فماذا أضاف إلى من سبق؟ إذا عدنا للأحداث السابقة نجد بأن "كوبرنيكوس" قد وضع نظرية جديدة في حركة الكواكب، وتبع ذلك رصد دقيق مع "براهي"، استفاد منه تلميذه "كبلر" واستنتج ثلاثة قوانين تفسر حركتها، وطوّر ذلك "جاليليو" وأكد بعضها برصده بواسطة ¬

_ (¬1) تاريخ الفكر الأوروبي الحديث، رونالد ص 84. (¬2) العلم في التاريخ، برنال 2/ 121. (¬3) انظر: تاريخ الفكر الأوروبي الحديث، رونالد ص 85. (¬4) الموسوعة العربية العالمية، 16/ 365.

التلسكوب الذي صنعه، وبقي أحد الأسئلة المحيرة، ولكن لماذا هي تسير بهذا الوضع وتحافظ عليه دون خلل (¬1)؟ عرفنا في فقرة سابقة أنه كان من آثار العناية باكتشاف القوانين ضعف العناية بالأسباب الغيبية، أصبح هناك توجه إلى الاكتفاء بالأسباب المادية المحسوسة، وهي تترسخ يومًا بعد يوم. وسبق أيضًا بأن الرؤية الإسلامية لا تتعارض مع إثبات وجود أسباب مادية خلقها الله سبحانه في مخلوقاته يؤثر بعضها في بعض، وكل شيء بتقدير الله سبحانه. أما مع هؤلاء فإن هناك فجوة بدأت تتسع مع كل مرحلة من مراحلهم، أهم معالمها هو الاكتفاء بالنظر لهذه الأسباب والافتتان بها دون البحث عن حقيقة من أوجدها أو من وراءَها، ثم كَبُر عند قطاع عريض منهم حتى جعلوها هي المتفردة بالإيجاد والخلق والتدبير مع الماديين والملحدين (¬2)، وهذا لم يكن في البداية بهذه الصورة حتى مع نيوتن، إنما كان الأمر معهم بالاكتفاء على إيجاد سبب طبيعي مادي لهذه الظواهر وترك ما سواها؛ لأن ذلك ليس بمقدورهم كشفه دون أن يعني ذلك عندهم إنكاره. وعودة للسؤال فجوابه المعهود أن ذلك راجع إلى تدبير الله سبحانه، وهو جواب أهل الأديان، وهو لا يمنع أن الله سبحانه جعل لها سننًا تسير عليها، وهذا هو ظاهر النصوص الشرعية، أو أن الله جعل لها ملائكة تُسيّرها، فإنه ما من مخلوق إلا وجعل الله له ملكًا يدبره، وكان هناك أقوال فلسفية وضلالات بشرية تعارض ما جاء عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مثل القول بالعقول المسيرة للكواكب، فهذه الأمور منها ما هو حق إلا أنه ناقص أو محرف، ومنها ما هو باطل معروف البطلان (¬3)، والحق منه لا يمنع وجود أسباب جعلها الله سبحانه في مخلوقاته تكون سببًا في حركات بعضها. ولكن مع الاتجاه الفكري والعلمي الجديد ظهرت دعوة إلى إغفال الحديث عن القضايا الغيبية مثل ما ثبت في الأديان أو ما عرف في الميتافيزيقا من نظريات فلسفية، والاكتفاء فقط بعللٍ مادية طبيعية مشاهدة، وكان أبرز من أسس ¬

_ (¬1) انظر: مدخل إلى فلسفة العلوم، الجابري ص 269 - 270. (¬2) انظر: مذاهب فكرية معاصرة، محمد قطب ص 521. (¬3) انظر: نقض المنطق، شيخ الإسلام ابن تيمية ص 99 - 107.

أ- كتاب "المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية"

لذلك منهجيًا ديكارت وبيكون وطبقه نيوتن مع تجديده للمنهج. يقول راسل: "وفي ميدان الفلك قدم -نيوتن- التفسير النهائي الذي كان كوبرنيكوس وكبلر قد اتخذا الخطوات الأولى في سبيله، وهو القانون العام للجاذبية، الذي ينص على أن هناك، بين أي جزأين من المادة، قوّة جذب تتناسب طرديًا مع حاصل ضرب كتلتهما وتتناسب عكسيًا مع مربع المسافة بينهما" (¬1)، وأصبح ممكنًا تفسير حركة الكواكب وأقمارها والمذنبات، وكأن المفتاح الرياضي للكون قد اكتشف (¬2)، وحُلّ أحد الأسئلة الشائكة في تلك المرحلة حول السرّ في كون هذه الكواكب تسير مثلًا حول الشمس بما انقدح في عقله من فكرة الجاذبية بقانونها الرياضي. قدّم نيوتن نظريته حول الجاذبية في مرحلة كانت هناك نظرية أخرى تفسيرية معتمدة في أوروبا، وهي ما اصطلح عليه بدوامات ديكارت (¬3) وخلاصتها: أنه تخيل كل جسم وكأنه ترس دائري يحتك بجسم آخر، وأن العالم كله بهذه الصورة، وعندما يتحرك فهي حركة تلك التروس، وكل واحد يؤثر في الآخر في حركة دائمة، وعندما عرضت نظرية نيوتن في الجاذبية ضد دوامات ديكارت لم يكن من السهولة تقبلها، وبقيت زمنًا تكافح نظرية ديكارت، وتمكنت فيما بعد من علم الفلك والفيزياء الكونية الحديثة. أ- كتاب "المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية": يُعد الكتاب بحسب الموسوعة العربية العالمية "من أعظم الإسهامات الفردية في تاريخ العلوم. وكان أول كتاب يحوي النظم الموحدة للمبادئ العلمية التي تشرح ما يحدث على الأرض وفي السماء" (¬4)، يتألف من ثلاثة أجزاء، عرض في الجزأين الأولين "علم الميكانيك" وبناها على ثلاثة قوانين (¬5)، ما ¬

_ (¬1) حكمة الغرب، راسل، ترجمة فؤاد زكريا ص 56، وانظر: مدخل إلى فلسفة العلوم، الجابري ص 271 وانظر: الموسوعة العربية العالمية 17/ 483، 25/ 545. (¬2) انظر: حكمة الغرب، راسل ص 56 - 57. (¬3) انظر: العلم في التاريخ، برنال 2/ 133. (¬4) الموسوعة العربية العالمية، 25/ 546 وانظر: كتب غيرت الفكر الإنساني ص 165 - 176، وانظر: مدخل إلى فلسفة العلوم، الجابري ص 270 - 271، وانظر: إسحاق نيوتن والثورة العلمية، جيل كريستيانسن ص 110 وما بعدها. (¬5) انظر: مدخل إلى فلسفة العلوم، الجابري ص 270، وانظر: الفيزياء والفلسفة، جينز ص 149.

زالت معتمدة حتى اليوم، أشبه بقواعد النحو في اللغة، فهي قوانين لحركة الأجسام التي على الأرض أو في الكون، مع العلم بأن الفيزياء المعاصرة قد كشفت أجسامًا جديدة لم تنطبق عليها هذه القوانين وهي الذرة وما في باطنها من جسيمات ليتفرغ لها علم آخر فيما بعد الكم - الكوانتم. وقد جمع نيوتن بين قوانينه الثلاثة وقوانين كبلر في حركة الأجرام السماوية الثلاثة أيضًا ليخرج بنظريته الجديدة عن الجاذبية (¬1). وخصص الجزء الثالث وهو أهمها "لعرض نظريته في نظام الكون وهو نظام طبق فيه القوانين التي توصل إليها في الجزأين الأول والثاني، على مجموعة المشاكل التي كانت تناقشها فلسفة الطبيعة، واضعًا حدًا نهائيًا للتفسيرات الميتافيزيقية والافتراضات التي لا تقوم على أساس من التجربة، مجتهدًا في إرجاع مختلف ظواهر الطبيعة إلى مبدأين اثنين: المادة والحركة، فاكتسبت بذلك النزعة الميكانيكية سيطرة عامة في مختلف المجالات" (¬2)، وأيدت اكتشافاته المذهب الآلي الميكانيكي (¬3). ويظهر توجه جديد دوّنه نيوتن في منهجه المقترح وأصبح سمة لنظرية المعرفة عند علماء أوروبا وهو الحرص على الملاحظة والتجربة والتعبير عنها بصيغ رياضية وجبرية، وما سوى ذلك فلا يلتفت إليه، حتى وإن وُجدت حوله تساؤلات ما دام أنه لا يمكن التأكد منه رياضيًا وتجريبيًا، وذلك تبعًا لـ "نظرية المعرفة" الجديدة، القائمة على مصدرية العقل والحس والتجربة، في الرياضيات والطبيعة، وإبعاد ما سوى ذلك من مصادر؛ كالمصادر الدينية والنظريات الميتافيزيقية واللاهوتية. وقد يوجد بعض العذر لعلماء أوروبا باكتفائهم بالعقل والحس والتجربة وبتشككهم في مصادرهم الدينية واللاهوتية؛ وذلك لما تحويه الأخيرة من تناقضات توحي أو تؤكد بعدم مناسبتها للمجالات العلمية، ومع ذلك فإن الاكتفاء بمصدرية الحس والعقل قد فتح أبوابًا لمن جاء بعد هذا الجيل من العلماء لإنكار ¬

_ (¬1) انظر: الطريق إلى المريخ، سعد شعبان ص 30 - 33، وانظر: مدخل إلى فلسفة العلوم، الجابري ص 271. (¬2) مدخل إلى فلسفة العلوم، الجابري ص 271، وانظر: إسحاق نيوتن والثورة العلمية، جيل كريستيانسن ص 115. (¬3) انظر: تاريخ الفلسفة الحديثة، كرم ص 154.

ما لم ينكره السابقون؛ بل قيام بعض المتأخرين منهم بالدعوة إلى الإلحاد تحت مظلة العلم مع نهايات القرن الثامن عشر الميلادي، وغلب ذلك على علماء القرن التاسع عشر (12 - 13 هـ) وما بعده. وهنا يظهر فرق مهم بين نيوتن ومن قبله من علماء أوروبا وبين العلماء الذين أتوا بعده حول قضية النظريات والقوانين والتفسيرات العلمية، فبينما كان الأمر عندهم يقف عند حدّ الاكتفاء بحدود ما يمكن التأكد منه بالملاحظة والتجربة، نجده عند اللاحقين لا يقف عند هذا الحدّ بل يضاف إلى ذلك منع التفسيرات الأخرى وتجريمها؛ لأنها ميتافيزيقية غيبية. وكان ممكنًا التفريق بين النظريات والتفسيرات التي مصدرها البشر، فهنا يُطالبون بالدليل والبرهان، قال -تعالى-: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111]، وبين تفسيرات لها بعض الدلائل في الوحي، فهذه الأخيرة إذا صحت وكان معناها صريحًا كَفت في الموضوع، ولا يمنع ذلك وجود أسباب طبيعية لتلك الظواهر أوجدها الرب سبحانه في مخلوقاته. فلو فسر مجموعة من العلماء طريقة سقوط المطر طُولبوا بأدلتهم وبراهينهم، وإن جاء من يخبرنا بأن الله هو الذي ينزل المطر وأن ذلك من فضله وكرمه على البشر والكائنات الحية وجب قبوله ما دام ذلك واردًا في الوحي، أو أثبت بالوحي أن لله سبحانه ملائكة مخصصة بالمطر وجب قبوله، وهذا المعتقد لا يمنع وجود الأسباب المادية التي يلاحظها العلماء في دورة الماء ويعبرون عنها بمعادلات وقوانين؛ فإن الله سبحانه قد جعل لكل شيء سببًا، عرفه من عرفه وجهله من جهله، والسبب الذي نراه ونلاحظه لا يكفي لوحده، وإلا لاعترض معترض فقال: لماذا هذا المطر جاء بهذه الكمية فقط، في هذا المكان بعينه، في هذا الوقت بعينه، بهذه الصور المعينة؟ فهذا السؤال لا يستطيعون الإجابة عليه بما يذكرونه من تفسيرات ونظريات. ولو كابر مكابر كما فعل "لابلاس" (¬1) وقال: إن لذلك قانونًا معينًا لو كشفته لأخبرتك أنه سينزل هنا بهذه الكمية، فإنه سيقال له أيضًا: ولماذا كان هذا القانون بهذه الصورة؟ فهذا المثال يوضح الفرق بين موقف نيوتن، ومن قبله من العلماء، وهو ¬

_ (¬1) انظر كلامه في: الفيزياء والفلسفة، جينز ص 151، وانظر: مقدمة في علم الاستغراب، حسن حنفي ص 221.

التفسير بالملاحظة والتجربة والاكتفاء بها بوصفها مُعطىً ظاهرًا، والسكوت عما سوى ذلك، وعدم قبوله في التفسير إلا إذا أمكن التأكد منه، ولكن لا يعني هذا الموقف العلمي الرفض المطلق لوجود أسباب أعلى، وإنما يقولون: ليس ميدانها التجربة والحس والملاحظة. وهو موقف فيه جزء من الصواب من وجهة دينية بحسب نظري؛ فإنه في بابه يبحث في تخصصه ويحاول اكتشاف مثل هذه الظواهر والتعبير عنها بنظريات وقوانين، ويكتفي بذلك؛ لأنه إن نفى ما سواها فهو غير عالم بما نفاه، وإن قبله فقد يقبل ما ليس بصواب، أما عند من حفظ الله لهم كتابهم، وعندهم من الله سبحانه البرهان والفرقان والميزان، فإنهم يزنون هذه الأمور بذلك الميزان فما كان صوابًا فهو كذلك، وما كان معارضًا لما عندهم علموا بطلانه، وما كان مسكوتًا عنه، فإن كان لهم حاجة في بحثه وتحريره قاموا بذلك، فلا يوجد ما يمنع ذلك. ولأن البيئة التي كان فيها نيوتن تتجه نحو اللادينية والعلمنة، فقد جاء بعده من رفض هذا الاكتفاء أو السكوت، ومنع أي تفسير لا يمكن تجربته، بل اتخذ هذا النظام -الآلي للكون الذي صاغه نيوتن- ذريعة للإلحاد في نهايات القرن الثامن عشر (12 هـ) وما بعده. والعجيب أننا نجد حتى في العالم الإسلامي من ينساق خلف هذه المنهجية؛ أي: منهجية الاكتفاء ومنع ما لا يمكن تجربته، حتى تلك التي يمكن تفسيرها دينيًا ويقرّ بها كل أهل الأديان فضلًا عن أهل الإسلام. وفي هذا الباب ما نجده عند أحد الرموز الفكرية العربية المعاصرة حول نظرية الجاذبية، حيث يقول: "وعلى الرغم من أن نيوتن يتمسك بفكرة الجذب كمعطى تجريبي، فإنه لم يتردد في إقحام الميتافيزيقا في تفسير طبيعة الجاذبية نفسها، وهنا يبدو الوجه الآخر من شخصية نيوتن"، وذلك أن من بين ما أثارته نظرية الجاذبية: هل الجاذبية خاصية ذاتية للمادة مثل الصلابة وغيرها أم أنها خارجة عنها؟ فكان رأي "نيوتن" "منساقًا مع هذا الطرح الميتافيزيقي للمسألة كما يقول الجابري" بأن الله سبحانه عندما خلق المادة، خلقها بصفاتها من الامتداد والحركة الشيء الذي نتج عنه عالم يسير سيرًا ميكانيكيًا، وحتى يبقى العالم كما هو عليه فعلًا، "أضاف الله إلى هذه الطبيعة الميكانيكية للعالم، خاصية جديدة، بموجبها تنجذب الأشياء إلى

ب- القوانين والنظرية

بعضها" (¬1)، فموقف "نيوتن" المعروض هنا بأنه جعل الأجسام من خلق الله سبحانه، وكذا صفاتها الذاتية هي في الأصل من خلق الله سبحانه، وإن كان كغيره يجعل تلك الصفات مستقلة في نشاطها كالحركة مثلًا، فحسب القانون الأول للحركة بأن الجسم يبقى في حركته على خط مستقيم بسرعة ثابتة ما لم يؤثر فيه مؤثر خارجي، وهو أخيرًا يجعل هذه الجاذبية مما أضافه الله إلى العالم حتى يحافظ عليه كما هو، فهي خاصية جعلها الله سبحانه في هذا العلم المادي، ولكن المادة يمكن معرفتها بالحس وكذلك صفاتها، فنحن مثلًا نشاهد حركتها، ولكن الجاذبية لا تدخل في هذا الإطار. يُظهر "نيوتن" هنا اعترافه على الأقل بخلق الله سبحانه لهذا الكون وصفاته وما وضعه الله فيه من خاصية تحافظ عليه، ونجد الكاتب السابق غير مرتاح حتى لهذه البقية الباقية مما يُقرّ به نيوتن، وكأنه يريد وصف عالم مادي يُفسَّر فقط بما يُرى ويحس به ويخضع للملاحظة والتجربة، وهذه نزعة مغالية في الاكتفاء بعالم المحسوس والمعقول ومنع كل غيبي في الباب، ولا يعني هذا صواب ما قاله نيوتن أو خطأه، وإنما هو بيان لما نجده عند بعض المفكرين العرب من التهويل من شأن الميتافيزيقا خالطين في ذلك الحق بالباطل، دون تفريق بين المختلفات وتوضيح للمشتبهات (¬2). ب- القوانين والنظرية: بالعودة إلى نظرية "نيوتن" في الجاذبية وبعض آثارها، نجد من بين أهم ما وصل إليه الموضع المميز للقانون في عمله. وقد سبقت وقفات مع "كبلر" صاحب القوانين الثلاثة حول مفهوم القانون ومع "جاليليو"، ولكن مفهوم القانون سيكون له شأن كبير في النسق النيوتني؛ لأنه بنظرية الجاذبية قد فسّر كل علاقة بين الأجسام المتحركة على الأرض أو في الكون بقوانين دقيقة لم يسبق إليها في تاريخ البشرية، فكيف كان وقع هذه النظرية وقوانينها الدقيقة على المجتمع لاسيّما من الوجهة الدينية؟ ويرجع تركيزي على الوجهة الدينية والفكرية؛ لأنها هي ما يهمني في المقام ¬

_ (¬1) مدخل إلى فلسفة العلوم ص 273. (¬2) يوجد كلام جيد في الموضوع عند "رونالد" في تاريخ الفكر الأوروبي الحديث ص 91.

الأول من المسائل والأحداث التي وقعت بعد إعلان نظريته. فمن أهم مفاهيم النسق النيوتني: فكرة الجاذبية، والزمان المطلق، والمكان المطلق، والأثير، والآلية أو الميكانيكية التي وصف بها عمل الكون، وقد كان النقاش حول هذه المفاهيم كبيرًا في الإطار الديني والفكري في أوروبا، وكان من بين أهم الموضوعات التي دار حولها النقاش: علاقة الرب سبحانه بهذا النظام الجديد الذي اقترحه نيوتن عن العالم. والحدث المهم الذي يحتاج منا للتحليل والنقد هو امتداد تلك النظريات والفرضيات إلى ما بعد التجربة والحس والمعادلات الرياضية، لتدخل إلى تفسير عوالم غيبية. أو على العكس من ذلك تحاول الاكتفاء بما قدّمَتهُ من تفسير، وتَمنعُ أي تفسير آخر لتلك الظواهر الكونية أو الأرضية أو الإنسانية والاجتماعية، فهذه هي مدار الصراع الكبير في الغرب، وهي مدار النقاش عند المسلمين أيضًا، إذا ثبت تعارضها مع الوحي مع الجزم بأن العلم الصحيح لا يتعارض مع الوحي قطعًا، وأن التعارض هو لعدم اكتمال العلم أو عدم فهم الوحي. فإذا تأملنا في نظرية "نيوتن" المشهورة حول الجاذبية وآثارها نجد فيها ما هو من النوع الأول: أي المعارف التي لا تُرفض وميدانها العقل والتجربة، ومنها ما هو من النوع الثاني: أي ما يرتبط بقضايا أبعد من ميدان العلم وتشارك فضاء الدين ومجاله، فكيف كان الوضع آنذاك؟ وما الدروس التي يمكن للأمة المسلمة الاستفادة منها على ضوء ذلك الحدث؟ في البداية نعلم بأن نظرية الجاذبية كأي نظرية علمية هي منظومة علمية متشابكة، فيها أبعاد لا يمكن التأكد منها من قِبَل كل العقلاء؛ لذا لابد أن تجد من يتوقف معها وربما يعترض عليها، وإن كانت أيضًا لن تعدم من يناصرها، وقد رأينا صورًا من ذلك مع النظرية الفلكية الجديدة ويتكرر مثلها مع نظرية الجاذبية. فقد هُوجمت أولًا من أنصار "ديكارت"، وذلك أنها تفرض نفسها تفسيرًا آخر غير دوامات ديكارت السابقة، وهوجمت أيضًا من علماء بأنها غير تجريبية بما فيه الكفاية. ومع ذلك فهذه القضايا وأمثالها يمكن تجاوزها، وأما التي يصعب تجاوزها فهي ما سبق أن جعلناه من القسم الثاني، ومما يؤكد صعوبة ذلك أنه نفسه قد حاول في مقدمة الطبعة الثانية من كتاب "المبادئ" توضيح ما قد

يلتبس على الناس، وحاول الإجابة على تساؤلات المتسائلين، وأهمها الدائر حول حقيقة اعتقاده من قضية علاقة الرب سبحانه بهذا العالم، وذلك أن النظرة الآلية والميكانيكية للكون تجعله يتحرك دون عناية إلهية وتدبير سماوي. ومما حاول إضافته عن علاقة الرب سبحانه بتصوره الذي قدمه عن العالم: بأن قصَرَ تفسيراته الميكانيكية على العالم المادي، وأن هذا العالم يدل على أنه موضوع وفق نسق مميز، مما يعني بأن هناك من جعله على هذه الصورة، ولابد أن هناك من حركها، ثم إن في النظام الشمسي شذوذات في المسلك يصححها تعالى دوريًا كلما ظهرت، وتنازل عن مبدأ عدم فناء الطاقة، حيث افترض بأن العالم يفقد بعض طاقته بمضي الوقت، وستنفد ما لم يتدخل الله ليرد لها قوتها (¬1)، ومن عناية الله بهذا الكون ما أوجده من جاذبية بين أجسامه ليحافظ بها على وضعه كما سبق. في هذا الموطن بالذات يقع الخلط والإشكال، وتظهر مشكلة العلاقة بين الدين والعلم؛ لأنه انتقل من نظريته إلى الحديث عن الرب سبحانه، وعن ربوبيته، وأفعاله سبحانه، يعرضها بصورة ضبابية تبدو كالآتي: كأنه يعد نظريته الكشف النهائي، وأن الشيء المطلوب بعد اكتشافاته هو في تنزيل ما يمكن تنزيله من أفعال الله بهذا الكون وفق ما اكتشفه، ومثالًا فما دام هناك شذوذات ستكون وظيفة الرب سبحانه هو في تصحيحها، ونلاحظ هنا أن من يضع هذه الوظائف هو نيوتن وفق ما يقترحه ويراه مناسبًا، ولهذا سَخِر منه فيلسوف ألماني "لايبتنز" معاصر له حول اعتقاده في الله؛ إذ صوره -تعالى الله عن ذلك- "كعامل غير بارع يحتفظ به كي يقوم بتصحيح أخطائه" (¬2). وهذه الصورة المنحرفة عن الرب سبحانه هي أحسن حالًا من صورة أشدّ انحرافًا ورثت عن آلية ديكارت المقترحة حول نظام العالم "حيث كانت الحاجة إلى الله -سبحانه- تتمثل فقط في إعطائه الدفعة الأولى للكون. . . . وهذه فكرة شديدة الخطر من حيث إنها فكرة تخرج على الربوبية التقليدية، علمًا بأن ديكارت استند بشدّة إلى الله بوصفه الضامن ¬

_ (¬1) انظر: كتب غيرت الفكر الإنساني، الشنواني ص 173 - 174، وانظر: إسحاق نيوتن والثورة العلمية، جيل ص 101. (¬2) انظر: تاريخ الفكر الأوروبي الحديث، رونالد ص 93.

لكون منتظم. وقد وجد عدد من العباقرة كـ"باسكال ولايبنتز" نظرية ديكارت تلك بأنها تبعث على القلق وعدم الارتياح. وهنا نستذكر الانسحاب الشهير لباسكال وتراجعه إلى الدين الصوفي، مرعوبًا من آلة الكون التي لا إله لها كما يزعمون. . . ." (¬1). فما الفرق بين التصورين الديكارتي والنيوتني؟ يرى "ديكارت" بأن الله أوجد الكون وفق آلية ثم تركه لوحده، مع بقائه ضامنًا لانتظامه، أما نيوتن فأضاف بأن الرب سبحانه له فعل في الكون حصره في تصحيح أخطائه أو تجديد ما ينقص منه، وكلاهما يحويان انتقاصًا كبيرًا من ربوبية الرب سبحانه، فنيوتن وإن أثبت شيئًا من دوام فعله سبحانه وربوبيته فهو إثبات ناقص، إلا أنه أحسن حالًا من تعطيل الرب في التصور الديكارتي. وهذا الباب عمومًا عند أهل الإسلام، ولاسيّما أهل السنة مما لا يُقال فيه بالظن والتخمين أو سدّ الفراغات، وإنما يرجع فيه إلى كلام الله سبحانه عن نفسه وعن أفعاله وعن أسمائه وصفاته وعن رعايته لخلقه وتدبيره للعالم سبحانه. وهؤلاء عندما تركوا الباب لعقولهم عندها قام كل واحد يقترح العمل المناسب للرب سبحانه -تعالى الله عن ذلك- أو يقترح الحدود التي يراها للخالق في خلقه، فمن هو حتى تكون له هذه الوظيفة؟! وبسبب ذلك نجد مثل هذا الاختلاف الكبير فيما بينهم، وربما بسببه أيضًا ما وجده من ينتسبون للمذاهب الإلحادية من فرصة في عدم الاعتراف بالرب أصلًا. وواضح من الاختلاف السابق بأن العلم الحديث في صورته الديكارتية والنيوتنية قد إنطلق في تصوره للرب سبحانه انطلاقة ناقصة ومنحرفة، ولا تقوم على أرض مستقرة. وإذا كان الفكر الغربي الوسيط وبداية الحديث يقوم أساسًا على الإقرار بالربوبية -فيثبتون وجود الرب سبحانه والانطلاق من ذلك إلى بيان ما يجوز في حقه وما يمتنع من صفات أو أفعال أو علاقة بمخلوقاته- وهي ما بقي معهم رغم صور الانحراف التي فيها، وأقصى ما فيها إثبات توحيد الربوبية، ورغم ذلك يولد مشوهًا مع صُنّاع العلم الحديث. فآلة العالم الآلية -الميكانيكية- التي تصورها ديكارت ونيوتن وغيرهما فتحت الباب للانتقاص من هذا المعتقد ¬

_ (¬1) المرجع السابق ص 85.

ج- النقاش حول علاقة العلم بالدين

الذي هو البقية الباقية عندهم رغم ما فيه من النواقص، وهذا يؤدي إلى القضاء على ما بقي من لاهوت ديني. ونحن نعلم أن ما بقي من الإقرار بالربوبية هو معتقدٌ مهم في قيام النسق الديني اللاهوتي بشقيه اليهودي والنصراني، فإن الكنيسة في الجانب النصراني قد اعتمدت اجتهادات "توما الإكويني" أو إصلاحات "لوثر" وجيله عند البروتستانت، وهي تنطلق عادة من إثبات وجود الرب سبحانه وربوبيته، فإذا تقرر ذلك انتقلوا إلى بقية المعتقدات والشرائع والطقوس النصرانية، وعندما يُضرب الأصل ينهار البنيان أو يتأثر. ومع أننا نجد نظام "ديكارت" و"نيوتن" يعتمد اعتمادًا كليًا على إثبات وجود الرب سبحانه، فهما على الأقل يريان بأنه موجود، وأنه خالق العالم ومحركه حتى ولو "بالدفعة الأولى"، إلا أن صورة النظام الجديد للعالم عندهما تُلغي الحاجة إلى الإيمان بربوبية كاملة للرب سبحانه وتوحيده في أفعاله من الملك والخلق والتدبير، وهذا ما قاله نابليون عندما عُرض عليه هذا النظام، إذ تساءل عن وظيفة الرب في هذا النظام، فأجابه "لابلاس" بأن ذلك افتراض لم يعد له حاجة لتفسير نظام العالم. ج- النقاش حول علاقة العلم بالدين: لقد كانت الكنيسة أيام "جاليليو" ومن قبله قادرة على الهيمنة ومنع الأقوال المخالفة، أما في زمن "نيوتن" فقد بدأ شأنها يضعف، وستنهار مكانتها بعد موته بسنين قليلة، لذا لم يكن من حلٍ سوى الحوار والنقاش، وليقدم كل ما عنده. ففُتح في هذا الجو النقاش حول علاقة العلم بالدين، بعد أن أصبح العلم المقصود به علم الطبيعة كالفلك والفيزياء وما في بابهما، والدين المقصود به في المقام الأول اللاهوت النصراني، وإلى حدِّ ما اليهودي المعروف في أوروبا وقت ظهور هذه المشكلة، وهي مسألة تحتاج إلى أن نفرد لها مساحة خاصة. تذكر مصادر تاريخ الفكر الغربي عن "نيوتن" عدم دعوته لمخالفة الكنيسة، وأنه من موضعه بوصفه عالمًا لا يرى تعارضًا حقيقيّا بين العلم والدين، بل إن العلم ليدل على وجود الرب سبحانه بما نكتشفه من بديع خلقه، أما مسائل الطقوس الكنسية فلا علاقة لها بالعلم ولم يكن يحرص عليها عامة المفكرين والعلماء آنذاك، وما كان يعنيهم في الدين هو الإقرار بوجود الرب وصنعه للعالم.

ونظريته في الجاذبية لا تستفز الكنيسة كما حصل من نظرية كوبرنيكوس في دوران الأرض حول الشمس، وذلك أنه جعل الجاذبية خاصية وضعها الرب سبحانه في الكون ليحفظ بها نظامه وتماسكه، وإذا لم يوجد ما يمنعها فلا أقل من تركها والسكوت عنها. ومع ذلك ففيها ما يثير بعضهم، وسبق بأن نيوتن عرف ذلك فقدم بمقدمة في الطبعة الثانية للكتاب لتلافي ذلك، ويذكر أحمد الشنواني بأنه عند خشية "اللاهوتيين لأول وهلة من تأثير كتاب "المبادئ" على الدين" شجع "نيوتن" "بنتلي" ليلقي محاضرات "بويل" -بويل عالم كيميائي ومتدين بالنصرانية إلى حد تسميته بالعالم القديس- فحاولت "النظرة الجديدة إلى العالم تأييد الإيمان؛ لأنها أكدت على وحدة الكون ونظامه، وعظمته الواضحة أدلة على حكمة الله وقوته وجلاله" (¬1)، وهو بهذا العمل يُرسي دعائم القول بعدم التعارض بين الدين والعلم، وهو تيار أصبح معروفًا في الفكر الغربي، واتفق عليه مجموعة من الجهتين: جهة الكنيسة وجهة العلماء. ومن المعلوم بأن الإسلام وأهله في هذه المرحلة لم يكن لهم علاقة بهذه الأحداث، فلم يكن في أوروبا سوى النصرانية واليهودية، أما أهل الإسلام فقد كانوا خارج هذه الأحداث وما دخلوا مشاكلها إلا بعد حدوثها بما يقرب من قرنين، ولكن أهل الإسلام سبق لهم التعرف بقضية مشابهة، وهي قضية العلاقة بين العقل والنقل ومما خرج به أهل السنة من النزاع الدائر حولها: أن القضية الدينية الصحيحة الصريحة لا يمكن أن تتعارض مع قضية عقلية صريحة صحيحة، ولديهم من ثمار ذاك الصراع ما يُمكّنهم من معالجة ما يشابهه، وكان من المفترض أن نتجاوز مشكلة العلاقة بين الدين والعلم بسهوله لولا أن هناك ملابسات أحاطت فترة تعرفنا بتلك العلوم أسهمت في إعادة المشكلة عندنا، وفتحت نقاشات واسعة ما زالت ممتدة إلى الآن. ¬

_ (¬1) كتب غيرت الفكر الإنساني، أحمد الشنواني ص 176، و"روبرت بويل" (1627 - 1691 م) من أصدقاء "لوك"، أسس (محاضرات بويل) للإجابة عن الأسئلة التي يطرحها العلم والفلسفة في وجه الدين، وقد قدم فيها المفكر الإنكليزي "صموئيل كلارك" الذي كان صديقًا لـ "نيوتن" سلسلتين من محاضرات بويل، دافع فيها عن المسيحية أمام الربوبيين، انظر: المقدمة في فلسفة الدين، أديب صعب ص 74.

وما يهمنا الآن أن "نيوتن" كأشهر علماء أوروبا في القرن الثامن عشر (12 هـ) دون استثناء كان يقول بعدم التعارض بين الدين والعلم، ويرى بأن العلم يمكنه خدمة الدين، فأما العلم فهو رجله كما يقال، وأما الدين فقد كان على معرفة كبيرة باللاهوت الديني تؤهله لإصدار مثل هذا الرأي. وهذا الرأي هو الأصح في منطق العقل، فإن المعارف الصحيحة لا تتعارض ما دامت صحيحة صريحة، ومن تأمل في المسائل الكبار المزعوم فيها التعارض يجدها تفقد أحد الشرطين: الصحة أو الصراحة. ولكن مسار العلاقة في أوروبا لم يواصل ما اقترحه نيوتن، فمع تفاعلات فكرية واجتماعية وقعت في أوروبا قادت العلاقة بين الدين والعلم إلى التصادم ومن ثمّ الطلاق، لاسيّما مع المذاهب والتيارات المادية والملحدة والوضعية وغيرها. ويمكن وضع حدود عامة للعلاقة المتصلة والمنفصلة بين العلم والدين، فمع النظريات الفلكية في القرن السادس عشر (10 هـ) وبداية السابع عشر (11 هـ) لم تحسم العلاقة منهجيًا وإن حسمت اجتماعيًا لصالح الكنيسة باعتذار "جاليليو"، ولكنها في نهايات القرن السابع عشر (11 هـ)، ثم الثامن عشر (12 هـ) صلحت العلاقة بسبب نجاح "نيوتن" كأهم عالم لأوروبا آنذاك في تخفيف حدّة النزاع رغم ما في اجتهاداته من ثغرات ردّ عليها بعض مفكري عصره. وستأتي لحظة الانفصال مع تبجح العلم مع بعض دعاته بأقوال لا تقرّها أديانهم ولا يقرّها دين الإسلام، وكانت هذه النقطة في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر مع نظرية "داروين" وبوضوح في الاتجاه المادي لهذه النظرية. وقد كانت العلاقة مفروضة من قبل القوى السياسية والاجتماعية ولم يفرضها المنهج العلمي والميدان العقلي الصحيح، فعندما كانت الكنيسة هي الأقوى فرضت رأيها، وعندما اعتدلت قوّة الكنيسة مع القوى العلمانية كانت العلاقة أقرب من حيث العموم إلى التوازن والاعتدال، وعندما انتصرت القوى العلمانية وسادت التيارات المادية الإلحادية فرضت هذه القوى الرأي المخالف للدين ونصرته وبلغت ذروتها في دول ملحدة تطارد من يقرّ ببقايا دينية وتحاربه. ومن يتأمل تاريخ الفكر الغربي إلى اليوم لاسيّما في قضيتنا وهي العلاقة بين الدين والعلم لا يخفى عليه وجود ثلاثة تيارات تشكل ثلاث منهجيات، نشأت مع المشكلة وما زالت مستمرة إلى اليوم، وهي، الأول: تيار يميل إلى الرأي

الديني رغم ما فيه من تحريف وأخطاء حتى وإن قابلته حقائق علمية قوية، والثاني: تيار يميل إلى الرأي الإلحادي ويوجه النظريات العلمية إلى أهدافه حتى وإن قابلته حقائق دينية قطعية، الثالث: تيار معتدل يرى بأن للدين حقائق وللعلم حقائق، وللدين مجال وللعلم مجال، ثم هم مدارس شتى في كيفية وضع العلاقة بينهما، وماذا يُقدّم عند التعارض، وكيف يتم الجمع بين الأمور المتعارضة؟ وكون التيارات العلمانية والمادية هي الأقوى في الغرب في القرن الرابع عشر الهجري/ العشرين الميلادي، فدون أدنى شك بأنهم سينتصرون لمذهبهم وسيوجهون كل النظريات لخدمة منهجهم. هكذا يتضح بأن مشكلة العلاقة بين النظريات العلمية الممثلة للعلم وبين الدين في صورته اللاهوتية النصرانية المحرفة قد وجدت حلّها مع تركيبة نيوتن وتوفيقيته، فمنذ إثارتها مع النظرية الفلكية وهي مدار صراع هائل حتى وجدت بعض ما يهدئها ويضعها في صورة وفاق بدل العداء مع نيوتن وعصره (¬1)، ويظهر بأن أغلب الطرفين قد رضيا بهذا التوفيق، وإن كان من الواضح بأن الجهود التوفيقية ومحاولات التقريب غالبًا ما انطلقت من العلماء لا من رجال الكنيسة، وبعيدًا عن مدى صدق العلماء أو كذبهم، فالمهم بأن جهدهم قد نجح زمن "نيوتن" في تخفيف القطيعة، وكان لنيوتن كما كان لجاليليو قبله دراسات مختلفة لتأويل نصوص أو عقائد دينية لتتوافق مع النظريات والرؤى العلمية. ولكن سيظهر بأن عمليات التوفيق سيوقفها أحد علماء أوروبا في نهاية القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، وذلك لصراحة ما قدّمه في مخالفة الأديان ورفضه لأي توفيق مع الدين، وأيضًا لمنحى الرجل الفكري المنتمي إلى العلمانية والمادية، وهما أسوأ ما أنتجه الفكر الغربي من مذاهب معادية للدين. يكشف هذا العرض التاريخي بأن توتر العلاقة بين الدين والعلم إنما هي مشكلة أوروبية ظهرت بسبب بروز النظريات العلمية الجديدة المتعارضة مع اللاهوت الديني المعروف في الغرب، ويكشف بأن ظهور أحد الطرفين على الآخر يرتبط بالقوة السياسية والثقل الاجتماعي لأحدهما على حساب الآخر وأنه لا يرتبط بحقائق موضوعية صحيحة تفرض نفسها، ويكشف أخيرًا بأن جميع ¬

_ (¬1) انظر: تاريخ الفكر الأوروبي الحديث، رونالد ص 85.

د- أثر نيوتن في الفكر الغربي

التيارات المختلفة ومنهجياتها المختلفة لبيان العلاقة بين الدين العلم ما زالت موجودة وتتصارع فيما بينها. د- أثر نيوتن في الفكر الغربي: لا يوجد اختلاف في دور "نيوتن" في العلوم الطبيعية، وأنه أهم رجالاتها في العصر الحديث، وأنه مثّل العلم لأكثر من قرنين، حتى إن هناك من خشي من سيطرته على العلم وعدم قدرة من بعده في تجاوزه كما حدث في الماضي من تعظيم لأرسطو أضعف قدرة من بعده على تجاوزه. فهل أثّر نيوتن ونظرياته وأفكاره في الفكر الغربي؟ وهل يمكن للعلم والعلماء الجدد أن يؤثروا في الاتجاهات الفكرية؟ وما صورة هذا التأثير؟ كان المعهود في تاريخ الفكر الغربي بأن المفكرين والفلاسفة هم من يقود العلوم المعهودة عندهم، وأن الفلسفة في درجة أعلى من هذه العلوم فهي أمّ العلوم، ولكن مع نيوتن وبعده ربما تنقلب المعادلة، حيث يكون تأثير النظريات العلمية أقوى في تشكيل التيارات الفكرية الجديدة، وربما نجد هذا واضحًا مع نيوتن، فعندما أعلن نظريته العلمية وفلسفته ومنهجه لم يتقبلها الفكر الغربي بسهولة، وبقيت في بعض نقاط أوروبا الجغرافية مهجورة أو منتقدة، وكأنها في حاجة إلى دعاة ينشرونها ومفكرين يبنون عليها أنساقهم الفكرية. ويظهر بأن هناك مجموعة أسباب هيأت لنسق نيوتن أن يكون له مع الأيام قوّة مؤثرة فيما بعد في الفكر الغربي، وحتى ندرك أثره فنحن في حاجة لاسترجاع المسارات الفكرية الكبرى التي ظهرت في عصر أوروبا الحديث. كان الاتجاهان الكبيران "العقلي والتجريبي" من أهم المسارات الفكرية، الاتجاه العقلي الذي برز بصورة واضحة مع ديكارت وأتباعه، والاتجاه التجريبي والحسي الذي عرف مع "بيكون وهوبز" ومن بعدهما. ومع وجود أنصار الاتجاهين في أغلب أوروبا إلا أن العقلي كان أكثر شهرة في فرنسا وما حولها، والتجريبي كان أكثر شهرة في إنجلترا وما حولها، وهما يكبران عامًا بعد آخر، وكان لهما وجودهما الكبير زمن نيوتن وبعده. وفي هذه المرحلة أيضًا ظهر تياران جديدان سيرسمان خارطة جديدة للفكر الغربي أحدهما نشأ مع "كانط" الفيلسوف الألماني المشهور محاولًا في فلسفته

الجمع بين الاتجاهين العقلي والتجريبي مع الاستفادة من صورة العلم النيوتنية الأخيرة. والآخر ظهر مع حركة التنوير الداعية إلى الحرية والعلمانية والتحمس للعلوم الجديدة. فهذه أربعة اتجاهات فكرية كُبرى اشتهرت في هذه المرحلة يصاحبها بروز اتجاه علمي بدأ يفرض نفسه مستقلًا عن التيارات الفكرية والفلسفية يومًا بعد يوم إضافة إلى تيار لاهوتي مستمر من الماضي. ومن المعلوم بأن التيارات الفكرية الأربعة لم تكن على وفاق مع الكنيسة واللاهوت الديني، وقد كان هناك سباق بين الطرفين على الاستعانة بالعلم -بعد أن نجح في إثبات وجوده- في ذلك الصراع بينهما، وقد نجحت التيارات الفكرية أكثر من غيرها في استغلال ثمرات العلم المادي ونظرياته في خدمة رؤاها، ومن ذلك استعانتهم جميعًا بالنسق النيوتني. ومن الطبيعي أن تقود الروح اللادينية للتيارات الفكرية نشاطهم نحو توظيف ثمرات العلم بما يخدم تلك الروح، وما يتبع ذلك من غياب للموضوعية وبروز نزعات الأهواء والرغبات على حساب الحقيقة والعدل والإنصاف، وقد بلغت ذروة هذا الانحراف بنجاح الثورة الفرنسية عام (1789 م)؛ أي: بعد ما يقرب من ستين عامًا من وفاة نيوتن (1727 م)، وبهذا حققت التيارات اللادينية نجاحها السياسي والاجتماعي في ثورة فرنسا، وبهذا الانتصار سيُقدّم كل معارض للدين واللاهوت الديني على أنه الحقيقة الوحيدة، وسيُفرض في الساحة الفكرية والعلمية والاجتماعية، ويكفي أن نعرف بأن التعليم الديني منع من المدارس، وأن النظريات العلمية ما كان حقًا منها أو باطلًا قد فُرض على المجتمع تعلمها. وليس المقصود تتبع تفاصيل تلك الأحداث وإنما اقتناص علاقة الفكر الغربي بالعلم المادي ونظرياته لتتبين حقيقة تلك العلاقة، ومن ثمّ الاستفادة منها في فهم مجريات العلاقة عندنا فيما بعد. فمما يقول "يوسف كرم" عن تأثيره: "كان لمنهجه العلمي ولمكتشفاته أثر في الفلسفة، وكانت له فلسفة خاصة تركت هي أيضًا أثرًا. جاء اكتشافه للجاذبية مؤيدًا للمذهب الآلي وموطدًا للثقة في المنهج الرياضي، فقد دل على مبدأ يفسر تماسك أجزاء الطبيعة، ووضع قانونًا كليًا استخرج منه بالقياس نتائج متفقة مع التجربة، على أنه إذ يقول بالجاذبية يعلن أنه لا يزعم بهذه التسمية تعيين طبيعة القوة التي تقرب جسمًا من جسم أكبر، وهذه نقطة جديرة بالملاحظة، فإنها تعني

أن العلم الآلي يلتقي مع الظواهر ولكنه لا يدعي تفسيرها" (¬1). يلخص هذا النص أهم آثار نيوتن وبعض مساراتها فهو: أولًا: أثّر بمنهجه العلمي واكتشافاته العلمية في الفلسفة. وثانيًا: أثر بفلسفته الخاصة -النابعة من تأملاته- في الفكر الغربي. وأخيرًا: فنظريته حول الجاذبية دعمت المذهب الآلي الذي سيكون له شأن في الاتجاهات المادية مع التذكير بأنه بنظريته إنما يفسر، لا أنه جعل للمادة فعلًا مستقلًا وتامًا وحقيقيًا كما سيكون مع الماديين في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر مثلًا. وإذا كانت النظريات العلمية مجال أخذ ورد، وقبول واعتراض، فما بالك بالأنساق الفكرية المبنية على تلك النظريات، فمجال الأخذ والرد فيها أوسع لاسيّما مع دخول أصحاب الأيديولوجيات اللادينية التي تهوي بأصحابها وتطمس عن أعينهم الحقائق ولو كانت مثل شعاع الشمس، ويستثمرون ما يجدون في النظريات من مشتبهات وثغرات ليؤيدوا ما يعتقدون من أيديولوجيات، وكانت نظريات نيوتن أحد الأمثلة البارزة على ذلك لاسيّما ما تبناه الماديون من أفكار حول فاعلية المادة والحتمية وغيرها. والمقام هنا ليس مقام تفصيل الأثر المتبادل بين نظريات نيوتن وبين الاتجاهات الفكرية، ففي ذلك دراسات موسعة، وإنما المقصود بيان دور النظريات العلمية وأثرها مجملًا في الفكر الحديث، وهنا ذكرٌ موجز لبعض التفاعلات بين نيوتن والفكر لاسيّما مع الاتجاهات الفكرية البارزة: فهذا ليبنتز أحد أهم الديكارتيين والتيار العقلي يمتدح كتاب "المبادئ" وأنه "يعدل في قيمته كل المؤلفات السابقة". وهذا يبين مكانة نيوتن عند العقلانيين. وهذا هيوم أحد أهم مؤسسي المذهب الحسي التجريبي يقول عن نيوتن بأنه "أعظم وأندر عبقري ظهر ليشرف النوع الإنساني ويعلمه" (¬2)، فهذان ممثلان كبيران لأكبر تيارين في الفكر الغربي الحديث يعلنان مكانة نيوتن ووضعه في المقدمة. ¬

_ (¬1) تاريخ الفلسفة الحديثة، كرم ص 154، وانظر: تاريخ العلوم العام ترجمه على مقلد 2/ 300 وما بعدها، وانظر: حول قواعد منهجه الاستقراء والمنهج العلمي، د. محمود فهمي زيدان ص 74 - 77. (¬2) كتب غيّرت الفكر الإنساني، الشنواني ص 175، وانظر: العلم في التاريخ 2/ 136.

وفي هذه المرحلة ظهر تيار جديد أطلق عليه تيار التنوير أخذ على عاتقه الدعوة للعلمانية وإضعاف قيمة الدين في حياة المجتمع والدعوة للحرية والعقلانية، وقد كان مركزه فرنسا وانتشر بعد ذلك في أغلب بلاد أوروبا في القرن الثاني عشر الهجري/ الثامن عشر الميلادي. وكان من أشهر شخصيات هذا التيار فولتير، وقد أخذ على عاتقه التعريف بنيوتن ونظرياته ونشرها، حتى إنه عُدّ أهم الشخصيات التي أسهمت في تعريف فرنسا بنيوتن وعلمه ومنهجه (¬1). وعرفت أيضًا أوروبا في هذه المرحلة فيلسوفًا مشهورًا "كانط" كان له أثره في تكوين فلسفة جديدة "الفلسفة النقدية" وغلب تأثيره على أكثر التيارات الفكرية التي جاءت بعده، حتى إن هناك من يفرق بين مرحلتين في الفكر الغربي، قبل كانط وبعده. فهذا الفيلسوف أقام أغلب أصوله الفلسفية على نسق نيوتن العلمي والفلسفي والمنهجي، ومن كتبه مثلًا: "التاريخ العام للطبيعة، ونظرية السماء: دراسة للنظام والأصل الميكانيكي للكون، وفقًا لمبادئ نيوتن" (¬2)، وقد أوضح "محمد وقيدي" في بحثه عن نظرية كانط في المعرفة (¬3) أثر نسق نيوتن على كانط؛ ذلك أن فلسفته عاصرت النسق الفيزيائي النيوتني "فاستفادت من معطياته في بناء نظريتها في المعرفة" (¬4). فهذه أربعة تيارات، اثنان منها قبله "العقلي والتجريبي" وقد أُعجبا بنسقه، واثنان معه أو بعده التنوير والنقدي الكانطي أعجبا به أيضًا. وهناك تيار خامس سيكون أكثر شهرة في القرن اللاحق وهو "التيار المادي" الذي يرى بأن المادة هي الأصل، وهي فاعلة مؤثرة بنفسها، ومن مصادرها العلمية المزعومة الصورة الحتمية البادية في الصورة الآلية والميكانيكية في نظريات نيوتن (¬5)، فقد ولّدت نظريته نزاعًا كبيرًا بين تيارين حول الحتمية ¬

_ (¬1) انظر: كتب غيرت الفكر الإنساني، الشنواني ص 173، والعلم في التاريخ، برنال 2/ 136، وتاريخ الفكر الأوروبي الحديث، رونالد ص 185 - 186 ونفس الكتاب تحدث عن "منتسكيو" ص 190. (¬2) انظر: كُتبه التي عرضها د. زكريا إبراهيم، عبقريات فلسفية -كانط أو الفلسفة النقدية ص 261. (¬3) انظر: ما هي الإبستمولوجيا، محمد وقيدي ص 143 - 211. (¬4) المرجع السابق ص 199. (¬5) سيأتي عرض ذلك لاحقًا، في القرنين الأخيرين، لاسيما مع النظرية الكمية ص 276.

واللاحتمية شبيهة بمسألة الاختلاف بين الجبرية والقدرية، حيث كانت نظرية نيوتن في الجاذبية مفتاحًا للمذهب الحتمي، ومؤيدة لأصحاب المذهب الآلي المادي وبقيت الأشهر حتى برزت نظرية "النسبية" و"الكوانتم" في الفيزياء المعاصرة لتميل لصالح المذهب اللاحتمي، وهذا شاهد واضح على أثر النظريات العلمية في الفكر. وأخطر ما زعمه التيار المادي اعتمادًا على النسق النيوتني بأن آلية الكون وسيره وفق نظرية الجاذبية، تدل بأن الكون يتحرك بقوانينه الخاصة دون حاجة إلى حفظ إلهي لها، ووصل بهم الأمر إلى إنكار وجود الرب أصلًا، والقول بأن المادة هي الفاعل الوحيد التي عُبر عنها في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر بالطبيعة، فهي الموجدة لكل شيء والفاعلة لما تريد. وستقوم المادية بتحويل تصور نيوتن حول نظريته في الجاذبية، فهو يفسر بها ظاهر الكون ويرى أنها من وضع الرب سبحانه لحفظ نظام الكون الذي خلقه، ولكنها مع الماديين تتحول إلى صفة من صفات الطبيعة والمادة، ويرون بأن عالم المادة يتصف بصفات يُوجد بها ذاته ويُسيّر بها نظامه. وهذا التحول الخطير سانده بعض المنتسبين لدائرة العلم في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر وكان أشهر من أظهر ذلك البيولوجي داروين وسيأتي بيانها لاحقًا. والمهم هنا أن نظريات نيوتن أصبح لها تأثير كبير، وأن العلم مع نيوتن بدأ يستقل بذاته ويكوِّن شعبية تنافس المذاهب الفكرية المعهودة والعلوم الموروثة، وبدأ المنهج الجديد في البحث والنظر يفرض حضوره يومًا بعد يوم، وبدأت العلوم تتطور بسبب ذلك، ولكن هذه الشهرة للعلم جلبت إليه أهل الأهواء والأيديولوجيات ليوظفوه في خدمة مذاهبهم. لقد استقطب نيوتن الحياة الثقافية والفكرية والدينية في الغرب، ورغم قلّة إنتاجه وانصرافه إلى السياسة آخر حياته ثم الدين، إلا أن نسقه أثّر كثيرًا ولأكثر من قرنين، وفي ذلك يقول محمد الجابري: "ويمكن القول بصفة عامة: إن الفكر العلمي بمختلف جوانبه ومنازعه -وكذا الفكر الفلسفي- قد بقي، طوال القرنين الماضيين، يتحرك داخل البنيان الذي شيّده نيوتن، وذلك إلى درجة أن الأفكار والنظريات العلمية التي ظهرت خلال المدّة المذكورة، لم تكن تقبل، أو على الأقل لم يكن ينظر إليها بعين الارتياح والرضا، إلا إذا كانت مندرجة في النظام

العام الذي أقامه صاحب نظرية الجاذبية" (¬1). وهذه الشهرة جعلت "راسل" يقول: "لقد كان النصر كاملًا -أي: لنيوتن- إلى حد ينذر بالخطر من أن يغدو "نيوتن" أرسطو آخر، ويفرض على التقدم حاجزًا لا يمكن تخطيه" (¬2). ونجد مفارقة عجيبة في هذه العلاقة بين نظريات نيوتن واكتشافاته ومنهجه وبين الفكر المتفاعل معها، تتمثل في أن نيوتن يميل إلى أن النظر في هذا الكون يدل على وجود الله سبحانه ويحاول التوفيق بين نظريته في الجاذبية وبين ما يعرفونه من أمور الدين، بخلاف التيارات الفكرية المستثمرة لنجاحه فهي توظف نظرياته في خدمة العلمانية المادية والإلحاد. فهو يرى بأن نظريته تُظهر نظام العالم وتناسقه، وأن ما فيه من نظام وجمال وترتيب يدل على وجود الله سبحانه (¬3)، وما يترتب على الإقرار بوجوده من أمور أخرى، ونراه مثلًا يحاول التوفيق بين نظريته في الجاذبية وبين قصة طوفان نوح عليه الصلاة والسلام، فهو يرى بأن الله سبحانه حينما أراد أن يغرق القوم الكافرين الذين كذبوا نوحًا عليه الصلاة والسلام، أمر نجمًا جبارًا بأن يقترب من الأرض، وبحسب نظرية الجاذبية اختلت قوى الطرد والجذب، فاندفع الماء من باطن الأرض تحت تأثير الجاذبية الرهيبة، وصارت أمواج البحر كالجبال، وتراكمت السحب نتيجة التبخر، وتساقطت أمطار وكأنها السيل المنهمر، ولما تحقق أمر الله سبحانه، أمر النجم أن يعود إلى مكانه، فعادت الأرض إلى ما كانت عليه (¬4). فهو يحاول المحافظة على سلامة نظريته وفي الوقت نفسه لا يريد إنكار ما يعرفونه من الأمور الدينية. فمن الناحية العلمية فسر كيف تحدث ثلاثة أمور في عذاب أولئك الكافرين، وهي: تفجر الأرض بالماء بشكل لا مثيل له، وسحاب كثيف مع مطر غزير لا مثيل له، وموج هائل متلاطم، وهذه الثلاثة يمكن تصور حدوثها باقتراب نجم كبير من الأرض، ولكنه بقدر ما يُقرّب المسألة للمائلين إلى العلوم الحديثة، ¬

_ (¬1) مدخل إلى فلسفة العلوم، الجابري ص 269. (¬2) انظر: تاريخ الفلسفة الغربية (الكتاب الثالث) الفلسفة الحديثة، راسل، ترجمة محمد الشنيطي ص 71، وانظر: العلم في التاريخ، برنال 2/ 135. (¬3) انظر: تاريخ الفلسفة الحديثة، كرم ص 155، وتاريخ العلم العام، ترجمة د. علي مقلد 2/ 302. (¬4) انظر: تراث الإنسانية 9/ 68.

إلا أنه تكلفٌ لا مبرر له، وادعاء أمر من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، فنحن نؤمن بهذا الحدث ولكننا لا نعلم التفاصيل الغيبية فيه إلا ما ورد في الوحي. والأمر العجب هو فرار هؤلاء من الإيمان بقدرة الله سبحانه على إحداث هذه الأمور، وحرصهم على التعليل الطبيعي لمثل هذه الأحداث، مع أن الأعجب من كل هذه الأمور هو وجود الكون كله، فإيجاد الكون والعالم أعظم بكثير من حدث الطوفان في جزء صغير من مخلوقاته، والله سبحانه قد أكثر من الاستدلال على منكري البعث بإيجاد المخلوقات الكونية وبخلق الإنسان، وهذا الدليل الذي كثر وروده في القرآن هو دليل مناسب أيضًا على هذه المسألة؛ فإن من أوجد الكون بعوالمه العجيبة أقدر -وكلها عنده سواء- على مثل هذه الآيات، سبحانه. ومع ما نراه من ضبابية حول اعتقاده فإن من المؤكد أنه لم ينف الدين الذي عرفه بين قومه، بل يرى أن ما عنده يدعم الدين، في المقابل نجد تيارات ذات أهداف مشبوهة وظّفت نظرياته واكتشافاته ومنهجه في صراعها مع الدين مدّعية بأن علم نيوتن يدعم الموقف الإلحادي، ومن أشهرها الاتجاه المادي بكل تياراته، وتظهر هنا النقطة الفاصلة بين النظرية العلمية وفكر صاحبها وبين استثمارها في خدمة رغبات وأهواء أطراف أخرى. والعجيب أن صاحب النظرية لا يرى في نظريته ما يدعو إلى الإلحاد والمادية، ويصر أصحاب التيار المادي على استثمارها في باب لم يقله صاحبها. وبعكس ما سبق في الفيزياء الكلاسيكية -فيزياء نيوتن- نجد صورة مغايرة في الفيزياء المعاصرة، فهي فيزياء تنتسب للمدنية العلمانية وترعرعت مع الماديين، وكان الأصل فيها أن تتوجّه لخدمة الاتجاهات المادية؛ إلا أن الأمر انقلب رأسًا على عقب، فظهرت تيارات فكرية ترى بأن الفيزياء المعاصرة تعد صفعة موجعة للتيارات المادية الملحدة، وأنها لا تتعارض مع أصول دينية بل العكس فهي تؤيد قضايا الدين (¬1). وهو تقابل غريب وعجيب، يحتاج منا إلى عناية خاصة؛ إذ فيه عدّة دلالات يهمّ منها طريقة توظيف النظرية وفهمها في خارج إطارها. ¬

_ (¬1) انظر: الحديث الآتي آخر هذا الفصل عن نظريات الفيزياء وأثرها في القرن الرابع عشر الهجري/ العشرين الميلادي ص 237.

رابعا: ما بعد الثورة العلمية (1) "القرن الثاني عشر الهجري/ الثامن عشر الميلادي"

رابعًا: ما بعد الثورة العلمية (1) "القرن الثاني عشر الهجري/ الثامن عشر الميلادي" مما لا خلاف فيه بأن الثورة العلمية قد دفعت بالعلم الدنيوي إلى قمة النشاطات البشرية في العصر الحديث؛ فالعلم المادي هو مجال النشاط التعليمي من بدايات تعلم الطفل في مراحله الأولى إلى أعلى الدرجات الأكاديمية، ومواد الرياضيات والفيزياء والكيمياء والجيولوجيا والهندسة والعلوم الاجتماعية تأخذ بحظ الأسد من كل تعليم في العصر الحديث، وهذا أحد مؤشرات نجاح الثورة العلمية. ولكن إذا كانت الثورة العلمية تمثل خليطًا من التطور العلمي والانحراف الديني فكيف قبلته شعوب العالم! ويرجع الجواب إلى طبيعة هذا الخليط، فمن نظر إلى التطور العلمي وثماره قاده ذلك إلى طلبها من أجل الانتفاع بها، ولكن هناك من لم يفرق بين تطور العلم والانحراف بالعلم، وذلك بسبب تلاحمهما في مرحلة الثورة وما بعدهما لاسيّما في القرن الثاني عشر الهجري/ الثامن عشر الميلادي، وما بعده لدرجة سيادة التصور المادي القائل بأنه لا يمكن أخذ الجانب العلمي البحت دون الأخذ بما يصاحبه من انحرافات تحت مسمى منهجيات العلم وفلسفته وروحه وآثاره. وقضية عدم التفريق بين التطور العلمي والانحراف في العلم أو به قضية برزت بوضوح في القرن الثاني عشر الهجري/ القرن الثامن عشر الميلادي وإن كانت جذوره قبل ذلك. [1] أبرز التطورات العلمية: من الطبيعي مواصلة جهود نيوتن المتوفى في نصفه الأول (1727 م) الذي

نجح في شق مجرى سار فيه من بعده، وهناك نشاطات أخرى حول هذا المجرى نُلمح لبعضها (¬1)، ومنها: لقد أدرك الباحثون أهمية التجريب والرياضيات في تطور العلم، فقاموا بوضع مناهج تساعد في ضبط عمليات التجريب، ومن ثمّ تحويلها إلى صيغ رياضية، وأدركوا أيضًا أهمية الأجهزة وقد رأينا دور المقرب "التلسكوب" في دعم نظرية كوبرنيكوس، ودور المكبر في اكتشاف كائنات صغيرة حولنا كنا قرونًا لا ندري عنها شيئًا، وذلك بعد أن اكتشف "روبرت هوك" بمجهره عالم الخلايا الصغير في أنسجة الحيوانات والنباتات لنصل إلى أحد أهم مكونات الكائن الحي، وسيعقبه اكتشاف أصغر مكون للجسم المادي وهو الذرة وما فيها من جسيمات. وهكذا أمكن بهذه الأجهزة رُؤية البعيد والصغير، فتعرفنا على عوالم جديدة مدهشة. وتطور في هذه الفترة علم وظائف الأعضاء مع "هارفي" وشرح بمعادلات دقيقة الدورة الدموية، وإن كان ابن النفيس قد سبقه إلى ذلك الاكتشاف بسنين، وفي هذه الفترة أيضًا تحولت الخيمياء السحرية إلى كيمياء علمية مع "بويل" وغيره. وتذكر المراجع بأن العلم المادي الحديث مدين بالكثير لجمعيتين علميتين مشهورتين ظهرتا مع نجاح الثورة العلمية، وجمعتا أهم المشتغلين بالعلوم الحديثة، وكان من أهم أهدافهما تطوير العلم لا تدريسه، فالأولى تأسست عام (1660 م) الجمعية الملكية في لندن، والثانية أكاديمية العلوم في باريس عام (1666 م) وعلى منوالهما فُتحت أكاديميات علمية في بقية أوروبا. تدخل الأحداث السابقة في جانب التطور العلمي الذي لا يجادل أحد في أهميته لتقدم العلوم، وهو أمر يمكن حدوثه في أي مجتمع أو حضارة، ولكن هذا التطور الإيجابي حدث له ما يحرف مساره ويفسد ثماره، وفي هذه الفقرة أتناول بعض تلك الأحداث مرجئًا تحليلها للفصل القادم بإذن الله. وبما أن ما يعنيني هو انحراف المسار في العلاقة بالدين وما يرتبط به؛ لذا فسأقتصر في ذكر الأحداث على ما يخدم هدف البحث، وأول ما نجده: هو نتائج ما حدث من صراع سبق ذكره مع مولد أول نظرية حديثة في علم الفلك ثم ¬

_ (¬1) انظر: هذه التطورات في: الموسوعة العربية العالمية، 16/ 367.

[2] التحول إلى العلمنة

نظرية الجاذبية في الفيزياء، وقد كان حادًّا في النظرية الأولى وخفيفًا في الثانية، وحصلت عمليات توفيق بين الطرفين، وخرجت الثورة العلمية في النهاية منتصرة في صراعها مع الكنيسة الممثلة للدين في أوروبا. [2] التحول إلى العلمنة: لم يحدث في هذه الفترة شيء كبير في حجم نظريات علم الفلك أو الفيزياء في القرن السادس عشر والسابع عشر الميلادي (10 - 11 هـ)، فقد بقي علم جاليليو ونيوتن هو السائد في الساحة العلمية والثقافية؛ إلا أن هناك أحداثًا فكرية كبيرة وسياسية خطيرة عصفت بأوروبا في هذه المرحلة، وقد أُدخل العلم ونظرياته وعلاقته بالدين وبالفكر في هذه الأحداث، وقد كان هذا من أهم أسباب الانحراف بالعلم، وذلك بتوظيفه خارج دائرته في الصراع الدائر في أوروبا بين الكنيسة والعلمانية؛ ذلك أن أوروبا مقبلة على مرحلة حاسمة من تاريخها حول علاقتها بالدين، وقد كان العلم أحد الأسلحة الجديدة المستخدمة في هذا الصراع وفي حسمه. لقد مرّت بأوروبا مجموعة أحداث جعلت أهلها يزهدون في الدين ولا يتحسرون على الخلاص منه، من بينها التركة الفاسدة من الانحراف الشنيع الذي بلغته الكنيسة سواء في ضلال المعتقدات والعبادات أو في سوء تعاملها مع الناس، ومن ذلك أيضًا عودة جمهرة من المثقفين للروح الوثنية الإغريقية والرومانية أعقب الإحياء الذي حدث لها في عصر النهضة، ومن ذلك تفشي روح التفلّت الخلقي وعدم المبالاة بأمور الدين والأخلاق عند الناس. ثمّ زاد الطين بلّة موقف الكنيسة المتعنت من التطورات العلمية الجديدة. فهذه الأمور وغيرها قد دفعت جمهرة غفيرة في أوروبا إلى العلمانية واللادينية، وقد تحقق هذا الأمر في القرن الثامن عشر (12 هـ) عندما حُسم في نهايته بنجاح الثورة العلمانية، وقيام أول دولة لا دينية في أوروبا. وفي صراع محموم كهذا لا يمكن إغفال استخدام أحد الأسلحة الجديدة المهمة وهو العلم على أنه آلة يمكن استخدامها في الخير والشرّ، ويمكن توظيفها هنا أو هناك. [3] تيارات الفكر المشهورة وعلاقتها بالعلم: شهدت هذه المرحلة تطورات فكرية كبيرة أوصلت المجتمع الثقافي إلى

أ- التياران الموروثان "العقلاني والتجريبي"

إحداث قطيعة مع تراثه الديني، وعادة ما يطلق الكتاب الغربيون على هذه المرحلة: عصر التنوير والعقل، ويُشعِرون القارئ أن التنوير ارتبط بالتخلص من الدين واستبدال مصدرٍ آخر به للمعرفة هما العقل والعلم، ولكن الحقيقة أنه كان تنويرًا في مجالات العلم والتقدم الدنيوي، لكنه كان ظلامًا في مجال الدين والقيم عندما اتخذ الانعتاق من الكنيسة ذريعة للانعتاق من كل دين. لقد قام أغلب مفكري هذه المرحلة بالدعوة لحياة مجتمع بعيدة عن السلطة الدينية يقوم على العقل ويطور العلم الذي عرف مع الثورة العلمية. وقد كان أشهر التيارات الفكرية في هذا القرن كما سبق خمسة تيارات (¬1)، تياران موروثان من المرحلة السابقة: "العقلاني، والتجريبي"، وثلاثة برزت في هذه المرحلة: "النقدية الكانطية، والمادية، والتنوير". وقد رأينا علاقة هذه التيارات بنظرية نيوتن؛ لأنها أتت بعده، وتعد علاقتهم بنيوتن نموذجًا لتفاعل الفكر مع التطورات العلمية. الصورة الجديدة التي رسمتها المذاهب الفكرية للعلم في هذه المرحلة: أ- التياران الموروثان "العقلاني والتجريبي": يمكن القول: إنهما واصلا ما ابتدآهُ في الفترة السابقة مع "ديكارت" و"بيكون"، إلا أن الاتجاه التجريبي كان أكثر إيغالًا في الرؤية الحسية والالتصاق بالعلوم الجديدة؛ فهي أقرب لنظريتهم في المعرفة، فقد أصبح العلم الصحيح والحقيقي هو ما كان مصدره الحسّ، وبسبب نجاح منهج التجريب الحسي في تحقيق اكتشافات جديدة عظيمة تحول إلى منهج مقدم على غيره، وزادت ثقتهم في المحسوسات أكثر من غيرها، مما دفعهم نحو عالم المادة والشهادة وإغفال عالم الغيب وما لا يقع في دائرة الحسّ، ولذا كان إنكار الدين بينهم أكثر وأشهر. ب- الفلسفة النقدية الكانطية: يعد الفيلسوف الألماني كانط (1724 - 1804 م) أشهر الفلاسفة في القرن الثامن عشر (12 هـ)، وقد كانت فلسفته تروم الجمع بين الاتجاهين الكبيرين: "العقلي والتجريبي"، فهو يرى بأن هناك قبليات عقلية لا يمكن إنكارها تساعدنا ¬

_ (¬1) في فقرة تأثير نيوتن في فكر عصره ص 184، والتركيز هنا على صورة العلم التي رسختها الاتجاهات الفكرية في الثقافة الغربية.

في المعرفة، ولكن المعرفة الحقيقية لا تكون إلا ذات واقع حسي. وقد كان يهدف من مشروعه الفلسفي النقدي الكبير نقد العقل إلى البحث في: كيف نجعل "الميتافيزيقا" ذات الموضوعات الثلاثة الرئيسة: "الله - خلود النفس - الحرية" (¬1) يقينية في درجة يقين العلوم الرياضية والطبيعية، فإن اختلاف الناس في الميتافيزيقا كبير بخلاف العلوم الرياضية والطبيعية. هكذا كان مشروعه الأساسي: تحويل الميتافيزيقا إلى علم يقيني. وقد رأى أن الإجابة لا تتحقق إلا إذا عرفنا لماذا العلوم الرياضية والطبيعية يقينية، وعندها نستطيع بناء ميتافيزيقا يقينية كهذين العلمين. فقام بتحليل موسع للعلمين يبحث سبب اليقين فيهما، ولكن انتهى به المطاف في الحياة قبل أن يصل إلى الجواب، وإن كان قد قام بعمل كبير حول هذه العلوم مما جعله أشهر فلاسفة الغرب المحدثين. يظهر في المشروع الكانطي حضور العلوم التي لم يعد من الممكن إغفالها بعد نجاح الثورة العلمية، ويظهر أنها أصبحت مقياسًا لليقين، وهذا ما أراده كانط من تحليلها، ولكن من بين النتائج التي وصل إليها موقفه الغامض من الدين، وذلك عندما اكتفى بمصدري العلم: العقل والتجربة. وذلك أنه وصل إلى أن القضايا الدينية لا ينطبق عليها المنهج الرياضي اليقيني ولا ينطبق عليها المنهج الطبيعي التجريبي اليقيني، وعلى هذا فالدين أو الميتافيزيقا مما لا يدخل في دائرة العلم ولا يمكن إثبات قضاياه بالمنهج العلمي (¬2). ولكن في الوقت نفسه لا يمكن التخلص من قضايا الدين أو الميتافيزيقا ولا يمكن إنكارها، فكيف الطريق إلى إثباتها؟ وجد الحل في مجال الأخلاق والعقل العملي؛ إذ هي ضرورية، وإذا كانت كذلك فلا تتحقق إلا بالإقرار بوجود الله، ووجود النفس، أما العقل العلمي فلا يمكنه إثباتها (¬3)، ولكنه أهمل المصدر الثالث للمعرفة، وهو الخبر الصحيح، وهو هنا الوحي. وقد تسبب هذا الموقف فيما بعد إلى قسمة ثنائية ما بين العلمي والديني، ¬

_ (¬1) انظر: كنط وفلسفته النظرية، د. محمود زيدان ص 261، وانظر: الدين والميتافيزيقا في فلسفة هيوم، د. محمد الخشت ص 50. (¬2) انظر: موقف من الميتافيزيقا، زكي نجيب محمود ص 51 - 52. (¬3) انظر: كنط وفلسفته النظرية، السابق ص 71 - 72، النقد في عصر التنوير، د. نازلي إسماعيل ص 188 - 221.

ج- الاتجاه المادي

فالعلم مجاله العقل والتجربة ويمكن الاستدلال عليه والوصول فيه إلى اليقين. والدين مجاله الوجدان الخاضع للعقل العملي والأخلاقي ولا يدخل في دائرة العلم، وتوسع قوم بعد "كانط" بهذه القسمة فيما بعد، فجعلوا ما مجاله العقل هو العلم والحقيقة، وما مجاله الوجدان فهو الوهم والخرافة والأساطير، وفتح الباب للدعوى العلمانية القائمة على اعتماد العلم للحياة لأنه مما يقبل التعميم ومما يتفق عليه الناس بخلاف الدين فيكون شأنًا فرديًا وجدانيًا؛ وقد كان أحد أهم أسباب هذه المنهجية نظرية كانط المعرفية الجديدة. ج- الاتجاه المادي: وهو أحد أشهر الاتجاهات في الفكر الغربي الحديث، وصاحبُ العقيدة الإلحادية الصرفة، فإذا ذُكر عُرف بأنه المضاد تمامًا لأي اتجاه ديني، ومما يذكر "بوشنسكي" عن سبب ظهوره فقال: "أدى تقدم العلوم الطبيعية إلى ميلاد التصور المادي للكون، الذي بشر به توماس هوبز (1588 - 1679 م) من قبل، ازدهر في فلسفات بونيه (1720 - 1793 م) ولامتري (1709 - 1751 م) وهولباخ (1723 - 1789 م) وديدرو (1713 - 1784 م) وهلفتيوس (1715 - 1771 م) (¬1). ونجد في كتاب: "موجز تاريخ الفلسفة -تأليف جماعة من الأساتذة السوفيات" تتبعًا تفصيليًا لهذا التيار الذي يتبنونه بقوّة، وهم غالبًا في كل قسم من أقسامه يربطون بين تقدم الاتجاه وبين تقدم العلوم، ومن ذلك مثلًا حول ما يخص هذه المرحلة في فرنسا قولهم: "ومع الأفكار العلمية الجديدة، أفكار الرياضيات والفيزياء والميكانيك والفيزيولوجيا والطب، بدأت الآراء الفلسفية المادية تشق طريقها إلى أذهان الناس" (¬2)، فيُشعِرون قارئهم بأن العلوم الجديدة تؤدي إلى التصور المادي بطريقة آلية وحتمية. وقد كان الاتجاه المادي حريصًا على الالتصاق بهذه العلوم التي يظهر أنها تمثل لهم نوعًا من الدعم في الحضور الاجتماعي، وقد سعى أصحاب هذا الاتجاه في هذه الفترة على تبسيط أقوالهم لتصل وتؤثر في كل الناس ولاسيّما المتعلمين منهم (¬3). ¬

_ (¬1) الفلسفة المعاصرة في أوروبا، بوشنسكي ص 25. (¬2) موجز تاريخ الفلسفة -تأليف جماعة من الأساتذة السوفيات ص 193، وانظر: ص 208. (¬3) المرجع السابق ص 208.

د- التنوير

د- التنوير: تيار التنوير بحسب اصطلاحات الكتب المؤرخة هو أشهر تيارات الفكر في القرن (12 هـ - 18 م)، وقد سهّل المعارف والأفكار الصعبة وعرضها بأسلوب سلس ومرتب كـ"الموسوعة" مثلًا أو بأسلوب أدبي وفني. وقد أفاد هذا الأسلوب في انتشار أفكارهم في طبقات أوسع من المجتمع، وأسهم ذلك في تمرير أفكارهم السلبية في جلباب الإيجابية دون أن يشعر بها المجتمع، ومن ذلك النقد الحاد للدين ونشر ثقافة الإلحاد أو العلمانية. ورغم الانحراف الديني عند من يمثلونه إلا أن نقدهم قد تجاوز الانحراف إلى الثوابت الدينية، كالإيمان بالله والتصديق بوجود الأنبياء والإقرار بالغيب واليوم الآخر، فهذه وإن وقع في تصورها انحراف كبير عند اليهود والنصارى، إلا أن أصولها مما هو ثابت في دين الإسلام الذي جاء به كل الأنبياء إلى خاتمهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم. ومما تحمس له زعماء التنوير: الدعوة للعلوم الجديدة، والتعريف بها، ونشرها، وتبسيط العلوم والنظريات، وربط تطور المجتمع بها؛ مما جعل أصحاب "الموسوعة العربية العالمية" يقولون عنها بأنها: "حركة فلسفية أثّرت تأثيرًا كبيرًا في تطور العلم خلال أواخر القرن السابع عشر، والقرن الثامن عشر الميلاديين" (¬1)، ولكنهم سكتوا عن الأثر الخطير الذي مارسوه في إفساد العلاقة بين العلم والدين، وذلك أنهم صوّروا الدين عدوًّا لدودًا للعلوم الجديدة، وأن تقدم العلم مرهون بإبعاد الدين أو تحطيمه (¬2). [4] الثورة الفرنسية العلمانية (1789 م): سبق الحديث عن أهم تيارات الفكر في القرن (12 هـ - 18 م)، وقد كانت تتفاعل مع المجتمع ويتفاعل هو معها، وكان المجتمع يراقب الأحداث ويرغب في التخلص من ظلم الكنيسة والسلطة، ويجد في هذه التيارات صورة الخلاص، فقام قوم بتحويل تلك المشروعات الفكرية إلى ثورة سياسية واجتماعية هي الثورة ¬

_ (¬1) الموسوعة العربية العالمية 16/ 366. (¬2) انظر حول هذا التيار الفصلين الخامس والسادس: من تاريخ الفكر الأوروبي الحديث، رونالد ص 169.

الفرنسية، وكان من أهم معالمها تبني الأفكار السياسية الجديدة، وبناء مجتمع جديد يعتمد على العلم ويُقصي الكنيسة والدين عن شؤون الحياة العامة لتبقى شأنًا فرديًا، وبلغ درجة مغالية في جناحها اليساري الذي طالب بإلغاء الدين وعبادة العقل في شخص امرأة حسناء تُنصب إلها (¬1)، وقررت الثورة التعليم الإلزامي العلماني من المرحلة الابتدائية (¬2). ومن أهم الصور النمطية التي نجحت الثورة في ترسيخها هي إقرار العداء بين الدين والحياة العامة، ولاسيّما المجال الجديد العلم، ومن ثمّ فرض التعليم العلماني منفصلًا عن الدين، ومن أدوار الثورة أنها أحلّت العلوم الجديدة مكان العلوم القديمة، وأصبح ذلك سمة التعليم الحديث، ومن مشاكل الثورة كأغلب الثورات أنها فرصة لأهل الأغراض، باستثمارها لصالح أهدافهم وتوجيهها في خدمة مصالحهم، ومن ذلك ما نراه هنا من دخول الماديين واليساريين واليهود (¬3) من خلال الثورة، واستثمارهم لها في عرض رغباتهم وفرضها عن طريق النظام السياسي الجديد على المجتمع بعد أن كانوا في الماضي ينشطون في المجتمع بشكل خفي وفردي، فهم الآن قد وصلوا للسلطة ونجحوا في تمرير مشروعاتهم الفكرية من خلالها. ¬

_ (¬1) انظر: الفكر العربي الحديث أثر الثورة الفرنسية في توجيهه السياسي والاجتماعي، رئيف خوري ص 44. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 46. (¬3) دور اليهود تؤكده كتب مثل: (بروتوكولات حكماء صهيون)، و (أحجار على رقة الشطرنج)، وسيأتي بحث ذلك في فقرة قادمة.

خامسا: ما بعد الثورة العلمية (2) "القرن الثالث عشر الهجري/ التاسع عشر الميلادي"

خامسًا: ما بعد الثورة العلمية (2) "القرن الثالث عشر الهجري/ التاسع عشر الميلادي" من تتبع مسيرة العلم الحديث والتطورات التي أحاطته، ولاسيّما أحداث القرن السابق والثورة السياسية الاجتماعية التي خُتم بها، شك أنه يدرك أن القرن التاسع عشر (13 هـ) سيكون أوسع انحرافًا في بابنا، لاسيّما ونحن نرى تيارات كبيرة لا تُلقي بالًا للدين، وتضعه موضع السخرية فضلًا عن تيار الإلحاد المادي الذي بدأ بوضوح في القرن الماضي، فهي دلالة على علاقة موجعة ستكون بين الدين والعلم، وكررتُ مرارًا بأنه لا توجد مشكلة بين الدين الحق والعلم الصحيح النافع، وإنما المشكلة هي بين دين محرف يزعم لنفسه الصدق والحق وعلم يُستثمر في دعم أهداف تيارات فكرية بتصورات مادية وإلحادية. كيف وقد أصبح لهذه التيارات دولة تحميهم ونظام يساندهم، وجمهور يؤيدهم مع قيام أول دولة علمانية بالمفهوم الحديث للعلمانية. وقد عُرف عن هذا القرن بأنه عصر "الوضعيات"؛ لكثرة التيارات الوضعية، وغالبًا ما يجعلون العلم مرادفًا للمفهوم الوضعي، وعرف عنه فيما بعد بأنه عصر النزعة "العلموية"؛ أي: الغلو في العلم وتقديسه إلى درجة أن جعلوه دينًا أو مذهبًا اعتقاديًا؛ وكأن الكشوف العلمية القابلة للصحة والخطأ، أو التطوير، أصبحت عقائد يجب اعتقادها. ومع انتشار هذه الروح العلمانية اللادينية والإلحادية المادية، وتسلطها على غيرها لم يعد أصحاب النظريات العلمية يخشون أهل الدين أو المجتمع المحافظ، بل يقذفون بنظرياتهم دون مبالاة حتى وإن خالفت ما عُرف في أديانهم، وهي بقايا محرفة من دين سماوي حق.

[1] تيارات الفكر المشهورة

وإذا كانت المراحل السابقة تصور تأثير العلم والنظريات العلمية في الاتجاهات الفكرية، فقد تحول الأمر في هذا القرن أو كاد إلى تأثير الأفكار في العلم والنظريات العلمية، ويظهر الاستثمار الإيديولوجي والاستغلال الخبيث للنظريات العلمية في خدمة المادية والعلمانية والإلحاد، وتظهر مذاهب وإيديولوجيات علمانية مادية إلحادية تزعم أنها دين العلم الجديد. ورغم كثرة النظريات العلمية في هذا القرن، وأحداث كبار وقعت بين هذه النظريات من جهة وبين الدين والفكر والحياة الاجتماعية من جهة أخرى؛ إلا أن أبرزها وأشهرها نظرية "داروين" التطورية التي تحولت من حقل علم الأحياء "البيولوجيا" إلى مذهب فكري كبير ما زالت امتداداته موجودة في عصرنا. وهذه خطوط عريضة عن أهم التطورات العلمية والفكرية في هذه المرحلة مع التوقف مع ما يرونه في الغرب أهم نظرية علمية، لاسيّما وقد أحدثت في عالمنا الإسلامي الصراع نفسه وربما أكثر، وبسبب الانقلاب في وضع التأثر والتأثير بين النظريات والأفكار فسنبدأ هنا بأبرز المذاهب الفكرية. [1] تيارات الفكر المشهورة: سأبدأ بذكر أهم المذاهب الفكرية في هذا القرن، وقد كان لـ "كانط" فيلسوف عصر التنوير -الذي حاول الجمع بين العقلي والتجريبي- شهرة أيضًا في هذا القرن، لاسيّما مع أتباعه الأربعة الكبار: "فيشته، وهيجل، وشلنج، وشوبنهور"، وكان أهمهم وأشهرهم الفيلسوف الألماني هيجل، فبفلسفته افتُتِح القرن الثالث عشر/ التاسع عشر (¬1)، وقد كان أكثر الفلاسفة تأثيرًا في أوروبا والأكثر أتباعًا، وأهم أتباعه من أطلق عليهم "اليسار الهيجلي" (¬2)، الذين سيطروا إلى حد كبير على جزء كبير من الفكر في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، بينما الجزء الآخر منه كان مع "كومت" الفرنسي و"داروين" الإِنجليزي. ¬

_ (¬1) انظر: تشكيل العقل الحديث، راندل ص 232. (¬2) انظر: مقدمة في علم الاستغراب، حنفي ص 258 وما بعدها، تاريخ الفكر الأوروبي الحديث لرونالد ص 371 بلفظ (الشبيبة الهيغلية)، وانظر: الإنسان في فلسفة فيورباخ، د. أحمد عطية ص 52 - 60.

أ- اليسار الهيجلي

أ- اليسار الهيجلي: لقد ورث اليسار الهيجلي مادية القرن الثامن عشر وسار بها إلى أسفل دركاتها، وورث عن تنوير الثامن عشر نزعته العدائية للدين عمومًا ولاسيّما الكاثوليكي منه. ورغم أن اليسار الهيجلي لا ينتمي للمجتمع العلمي بمعناه الصرف، فهم من حقل الفكر والفلسفة، إلا أنهم لا يمانعون في تأييد مذهبهم المادي أو طعنهم في الدين من الاستعانة بما وصل إليهم من نظريات علمية، وهذا ماركس أبرز وأشهر اليسار الهيجلي يوصي تلميذه وصديقة إنجلز: "بدراسة الدارونية علّه يعثر فيها على شيء ينتفعان به" لمذهبهما (¬1)، وكان ماركس مؤسس أشهر المذاهب في أوروبا نهاية القرن الثالث عشر/ التاسع عشر وأبرزها حضورًا في القرن الرابع عشر/ العشرين، وقد صاغ مذهبه هذا "معتمدًا على المادية الدارونية التي كانت شائعة، وتعبر عن روح العصر" (¬2). ومن أهم شخصيات اليسار الهيجلي فيورباخ داعية الإلحاد والمادية الأبرز في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، ويعد أهم منظري الإلحاد، وفكرة الاغتراب التي اعتمد عليها في نقد الدين أسس عليها فيما بعد "فرويد" نظريته في علم النفس. ومنهم أيضًا شتراوس الذي يتميز بجهده في نقد النصوص الدينية، وأصبح نقده منهجًا يطبق في نقد النصوص الدينية (¬3). هكذا ظهر اليسار الهيجلي ماديًا وملحدًا وناقدًا للنصوص الدينية، ولمفهوم الدين وأصوله الكبرى ومؤسسًا لمذاهب فكرية لها امتدادها في الفكر الغربي والعالمي إلى يومنا هذا، ورغم كون جهده فكريًا بالدرجة الأولى، إلا أنه استثمر ما يعرفه من نظريات ومعارف علمية في نقده للدين ودفاعه عن ماديته وإلحاده وأنساقه الفكرية الجديدة. وقد كان اليسار الهيجلي أبرز التيارات شهرة، وأثرًا في أوروبا في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر ومعظم القرن الرابع عشر/ العشرين وأكثرها تطرفًا ضدّ ¬

_ (¬1) انظر: تاريخ الفكر الأوروبي الحديث، رونالد ص 441. (¬2) مقدمة في علم الاستغراب، حنفي ص 304. (¬3) انظر: تاريخ الفكر الأوروبي الحديث، رونالد ص 371.

ب- نقاد الدين ونصوصه الجدد

الدين، وهكذا نرى في كل مرحلة من مراحل الفكر الغربي الحديث ظهور مجموعة تزعزع بقايا الدين والميتافيزيقا والفلسفات المثالية، كان أولها ما عرف بالإنسانيين في عصر النهضة، ثم مجموعة عصر التنوير في القرن (12 هـ - 18 م)، وهنا في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر تأتي مجموعة اليسار الهيجلي. وعلى قدر ما تُضعف هذه التيارات من مكانة الدين وصحة أصوله بقدر ما تدفع إلى الأمام المعتقدات الفكرية الجديدة التي تزعم أن لها أدلة علمية كافية. ب- نقاد الدين ونصوصه الجدد: يضاف إلى هذه الموجة المادية اللادينية والإلحادية بروز ظاهرة جديدة في هذا القرن، حيث تخصص مجموعة بإعادة النظر في الدين النصراني وكتابهم المقدس وعقائدهم الأساسية، وكان أهم ما أوجع الكنيسة ما قام به كل من "شتراوس" و"رينان" من دراسات حول أسطورة ألوهية المسيح ومن نقد لكتابهم المقدس، فكان كتاب الأول "حياة يسوع" (¬1)، والثاني "حياة المسيح" (¬2). فقد شكك هذا النوع من الكتابات المجتمع الأوروبي في دينه، ومن ثمّ في قيمة الدين المعرفية والعلمية، فإذا كانت أصوله الأساسية مشكوكًا فيها فكيف بحديثه عن القضايا العلمية الأقل شأنًا، واقتنع الكثير بعدم وجود قيمة معرفية لكتابهم المقدس؛ ولذا من الأفضل الانتقال للمصدر الجديد وهو العلم، ولا شك أن التحريف الشنيع الذي فعله "الأحبار والرهبان" بديانتهم وكتابهم المقدس والإضافات الكثيرة من قِبَلهم جعلته عرضة لطعن الطاعنين، وفرصة للضالين من الماديين والملحدين لاستثماره في دعم مذهبهم. وكانت المعركة المزعومة بين "الدين والعلم" معركة خاسرة منذ البداية، جمعت بين طرفين متناقضين، مع كل واحد منهما من الضلال أكثر مما عند الآخر؛ ولذا فستبقى معركة معلقة، وإن تحقق انتصار نسبي للتيار اللاديني، فإنه سيعقبه في القرن الرابع عشر/ العشرين بروز تيارات دينية ومثالية وميتافيزيقية تبحث عن الدين أو عن معانيه وإن كان ذلك بأوهامهم. عندما تحرك تيار اليسار الهيجلي وأصحاب "الدراسات الجديدة حول ¬

_ (¬1) انظر: تاريخ الفكر الأوروبي الحديث ص 260. (¬2) انظر: كتاب رونالد السابق ص 403.

ج- الوضعية

الدين" في أرض ضعيفة التدين منحرفة الدين نجح هذا التيار في زعزعة قيمة الدين ومكانته، ويعود نجاحه إلى انحراف أهل الدين لا إلى قوة التيار المادي واللاديني، وها نحن نشاهد اليوم -وبعد أكثر من قرن- كيف ينهار أهم مذهب قام من مجموعة اليسار الهيجلي هو المذهب الماركسي، بينما الدين سيبقى قائمًا وتحتاجه النفوس مهما فُعِل لإزالته. ج- الوضعية: يأتي الاتجاه الوضعي مقابلًا للاتجاه الفكري السابق -الذي يُرسي دعائم الإلحاد أو المادية أو اللادينية، ويستغلّ ثمار العلم وإن كان أغلب رواده ليسوا من أهل العلوم- ويريد وضع دين العلم الجديد تحت مصطلح "الوضعية" أو "فلسفة الوضعية". فها هي الثورة الفرنسية العلمانية تعصف بالنظام القديم القائم على بقايا الدين والإقطاع والميتافيزيقا، وقد حان الأوان بحسب رأي العلمانيين لوضع نظام جديد قوامه العلم وفلسفة علمية وضعية تكون بمثابة الدين الجديد مكان الدين المحطم. ومصطلح الوضعية مصطلح واسع يجمع بداخله تيارات فلسفية كثيرة يغلب عليها الجانب المادي والحسي والتجريبي الممتد في الوراء إلى "هيوم" و"لوك" و"بيكون" وغيرهم (¬1)، ولكنه ارتبط بالفيلسوف الفرنسي المشهور كومت وعرف به أكثر من غيره، وذلك بسبب تبنّيه للمصطلح ودعوته لإقامة "فلسفة وضعية" عمدتها العلم الجديد والحس والتجربة، والانتهاء عن العودة للميتافيزيقا أو الدين، فقد أعلن "أوغست كومت": "أن القرن التاسع عشر قد شهد ولادة العصر الوضعي الذي أخذ يحل محل عصور اللاهوت والميتافيزيقا. وهكذا أصبح العلم المادي هو الإله الجديد، وأصبحت الأهداف العلمية فقط هي الأهداف الدنيوية. ولذلك ينبغي إبعاد المطلق وكذلك الله إلى مملكة الأساطير والخرافة" (¬2)، وقد رسم "كومت" مسارًا حتميًا لحركة التاريخ عبر ما أسماه قانون الحالات الثلاث: حيث كانت البداية بعصر اللاهوت، ثم جاء بعده عصر الميتافيزيقا، ومع الثورة العلمية ¬

_ (¬1) انظر: مقدمة في علم الاستغراب، حنفي ص 279. (¬2) تاريخ الفكر الأوروبي الحديث، رونالد ص 372.

وما تبعها من تطور العلوم يأتي عصر الوضعية. ويُعدّ الانتقال من عصر لآخر انتقالًا حتميًا، ولا يمكن الرجوع للعصر السابق، وبهذا فإن الدين لا مكان له في عصر الوضعية؛ لأنه عصر العلم. هناك من بيّن فيما بعد سذاجة هذا القانون، فإن المرحلة التي وصفها بأنها لاهوتية قد عرفت علومًا دقيقة متطورة، والمرحلة الوضعية التي يعيشها عرفت طقوسًا دينية بدائية أو شبه بدائية من وثنية وغيرها حتى ضمن الهلوسات الأيديولوجية الغربية، وكذا مع تطور علم الأنثربولوجيا ظهرت معارف جديدة تبطل قانونه. وليس المقام موطن ذكر فلسفته وما اعترض عليه، وإنما المقصود بأن "كومت" أراد أن يجعل من نفسه نبي العلم وفيلسوفه، وكأنه بدينه الذي أطلق عليه الوضعية سينسخ الأديان السابقة، وقد وصل الأمر معه ومع أتباعه إلى "إقامة ما يشبه كنيسة ترتكز على عقيدة رسمية تؤمن بالتقدم والعلوم الطبيعية والإنسانية. وإنكار رسمي وحاد للرب المسيحي. وكان كونت ذاته هو المبشر الأعظم بهذه العقيدة الوضعية، بما لها من كنائس منظمة، والتي انتشرت وساد فكرها بين جماعات أخرى متباينة. . . ." (¬1). وهكذا تجتمع كبرى تيارات الفكر في القرن (13 هـ - 19 م) في دفع المجتمع نحو اللادين، وطبعت المجتمع بطابع الوضعية لاسيّما مع انتشار كنائس كومت "أو الكنائس الكومتية" في الغرب، مما جعل أحد المؤرخين المشهورين للفكر الغربي يتساءل ويقول: "فنحن لا شك نتفق مع كومت على أن المدنية الغربية هي مدنية "وضعية". وهنا يبادرنا السؤالان التاليان: هل يمكن أن تكون لنا مدنية لا تؤمن بالله ولا بالميتافيزيقا، بل تؤمن بالعلم والتكنولوجيا اللذين يفيان بحاجاتنا أحسن إيفاء، ولكنهما لا يوفران لنا أية قيمة أو فعل، ما عدا أنهما يسدان المزيد والمزيد من احتياجاتنا؟ وهل محكوم على المجتمع الحديث أن يكون مجتمعًا انقساميًا لا وحدة له ولا روح ولا قيم؟ " (¬2)، وقد كان ¬

_ (¬1) تشكيل العقل الحديث، راندل ص 298 - 299. وانظر: رونالد، السابق ص 401، ومقدمة في علم الاستغراب ص 290، وقصة الفلسفة، ديورانت ص 455، وتاريخ الفلسفة الحديثة، كرم ص 327، وانظر: تيارات الفكر الفلسفي. . . .، أندريه كريسون ص 319، وص 371. (¬2) تاريخ الفكر الأوروبي الحديث، رونالد ص 402، وانظر: ص 404.

[2] النشاط العلمي في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر

جواب أتباعه بأن العلم عاجز عن إعطائنا القيم العليا والمثل والأهداف، رغم محاولاتهم جعل العلم والوضعية دينًا يحقق مثل هذه الأمور. ورغم أن المذهب الوضعي كان "الموضة" الفرنسية إلى نهايات القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، إلا أنه قد ظهرت موجة من تيارات الفكر ضد الوضعية اكتسبت شعبية كبيرة، مالت بالحركة الفكرية نحو التصوف والحدس وإشباع جوانب أغفلتها الوضعية، لاسيّما مع الفيلسوف الفرنسي المشهور برجسون (¬1). وهكذا نجد الوضع الفكري والروحي في الغرب عادة ما يتذبذب بين النقيضين كعادته وعادة كل فكر منحرف، فما أن يغرق في المادية أو الوضعية ويهلك في صحرائها عطشًا حتى يجد من يسحبه إلى فلسفات مثالية أو صوفية أو دينية لتخفيف ذلك الألم، ثم يعودون لما كانوا عليه، وهكذا في دوامة مستمرة. وخلاصة ما سبق أننا نجد ثلاثة تيارات عرفها القرن الثالث عشر/ التاسع عشر: اليسار الهيجلي، وأصحاب الدراسات الجديدة حول الدين، والفلسفة الوضعية، كان لها شهرتها وأثرها، وأصحابها وإن لم يكونوا جميعًا من دائرة العلم فإنهم يريدون بنشاطهم الدعوة لعصر علمي وضعي مادي دون دين. [2] النشاط العلمي في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر: جاء الآن دور النظر في المجال العلمي والوقوف مع أشهر نظرية ظهرت في هذا القرن، وما أثارته من ضجة ونزاع وكيف كانت علاقتها بالدين والفكر والمجتمع. مسكين هو العلم الذي يولد في قرن كهذا القرن أو يتطور فيه، فالدولة التي ترعاه دولة علمانية ذات توجه وضعي، والقيادات الفكرية تميل إلى المادية أو الإلحاد أو الوضعية، وتدعي أنها مذاهب علمية، وتمطر المجتمع بشبهات وأهواء لا مثيل لها، فكيف سيكون حال العلم في مثل هذه الأجواء المظلمة؟! فلنلقِ نظرة سريعة عن أهم معالم التطور العلمي في هذا القرن قبل الوقوف مع أشهر نظرية ظهرت فيه، وبالرجوع لأشهر الموسوعات العربية وأحدثها نجد ما يأتي: ¬

_ (¬1) انظر: قصة الفلسفة ص 570.

غطّت البعثات العلمية كل أنحاء العالم لتوسيع المعرفة الجغرافية ودراسة الحيوانات والنباتات التي يتم العثور عليها، ولا يخفى أنها صاحبت المدّ الاستعماري الحديث، وقد كانت إحدى البعثات على ظهر السفينة "بيجل" وفيها "تشارلز داروين"، وقرأ في أثناء هذه الرحلة أعمال الجيولوجي "تشارلز لايل"؛ وكانت نظريته أن الأرض تغيرّت ببطء وعلى نحو تدريجي وعبر سنين طويلة، وكان تغيّرها بعمليات طبيعية، فتأثر بها "داروين". وبعد أكثر من عشرين سنة من رحلته نشر داروين كتابه: "أصل الأنواع" عام 1859 م وفيها الحديث عن نظريته في التطور والنشوء والارتقاء، وعادة ما يجعلها المؤرخون للفكر والعلم أهم نظرية في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر وأكثرها أثرًا (¬1). وهذا يقودنا إلى الحديث عن علم الأرض -الجيولوجيا ونظرياته البارزة في هذا القرن، فكان أهم ما نشأ من صراع بسبب هذا العلم الجديد الصراع بين نظريتين من نظرياته: الأولى تقول بأن الأرض كانت مغمورة بالمياه ثم انحسرت المياه عن اليابسة، وهذا يفسر وجود حفريات بحرية على اليابسة، وهي متأثرة بالنسق النيوتني السابق في القرن (12 هـ- 18 م). وأما الثانية الجديدة فترى بتطور طبيعي بطيء للأرض: "حيث علل الظاهرات بعملية مطردة تقوم بها القوى الطبيعية ذاتها خلال فترات زمنية هائلة". ورغم كون النظريتين من الكلام المجمل كغالب النظريات العلمية، إلا أنهما -لاسيّما الثانية- قد أثارت مشاكل حول إثبات الطوفان مع نبي الله نوح عليه الصلاة والسلام أو إنكاره، أيضًا أثارت مشاكل تاريخية، إذ في كتابهم المقدس بعض التواريخ المحددة عن أحداث كونية لا تتوافق مع هذه المدد الزمنية الطويلة. فجاء "تشارلز لايل" على ضوء ما سبق وأسس علم الجيولوجيا، وأخذ بالنظرية الثانية، ورفض الاعتراضات الدينية، ثم جاء "داروين" فاعتمد عليه في بناء نظريته التطورية (¬2). وتذكر "الموسوعة" أيضًا من نظريات علوم الأحياء: "النظرية التي مفادها ¬

_ (¬1) انظر: الموسوعة العربية العالمية 16/ 367. (¬2) انظر: تاريخ الفكر الأوروبي الحديث، رونالد ص 408 - 410.

أن كل الأشياء الحية مكونة من الخلايا"، وقد ساعد الكيميائي الروسي "متري مندليف" في تنظيم دراسة الكيمياء عندما نشر الجدول الدوري. وفي الفيزياء برزت معارف جديدة حول الحرارة والطاقة والمغناطيس والكهرباء، وكان أشهرها قانون حفظ الطاقة ونظرية "ماكسويل" حول الضوء. فالضوء المرئي يتكون من موجات قوى كهربائية ومغناطيسية، وقد كان لهذه النظرية أثرها الفكري والعلمي، وسنؤجل أثرها الفكري ونتحدث عن أثرها العلمي؛ فقد أنتج الفيزيائي الألماني "هرتز" موجات مغناطيسية تتوافق مع نظرية ماكسويل، وقاد عمله هذا إلى اختراع المذياع والرادار والتلفاز (¬1). وصعدت أيضًا في هذا القرن نظرية على حساب أخرى حول مادة الكون المادي وصورته، حيث كانت النظرية البارزة في القرن السابق -الثاني عشر/ الثامن عشر- أن المادة تتكون من جسيمات صغيرة لا يمكن قسمتها، وأنه من خلال ترابطها تتكون المركبات، وهي قريبة من نظرية الجوهر الفرد والجزء الذي لا ينقسم في الفلسفة الذرية القديمة وفي علم الكلام الذي ظهر في العالم الإِسلامي، ولكن مع نهاية القرن الثالث عشر/ التاسع عشر بدأت النظرية السابقة تضمحل، وبيّنت الكشوف العلمية بأن عالمًا جديدًا داخل الذرة بدأ يُعرف (¬2)، وهذا العالم سيكون مدار علم جديد سيولد في نهايات القرن ويسيطر على القرن الرابع عشر/ العشرين وهو: علم الكوانتم أو الكم. ومعلوم أن النظرية الأولى كانت عمدة دليل حدوث الأجسام في علم الكلام، حيث تبدأ أغلب كتب المتكلمين من إثبات حدوث الأجسام المعتمدة على الجزء الذي لا يتجزأ أو الجوهر الفرد. أيضًا من أحداث هذا القرن العلمية اكتشاف الراهب النمساوي "جريجور مندل" قوانين الوراثة الإحصائية الحيوية التي وضعت حجر الأساس لعلم الوراثة (¬3)، والملاحظ أن العالِم هنا من المحسوبين على الدين وهذا يوضح أن العلاقة بين الدين والعلم لم تكن دائمًا علاقة انفصال. ¬

_ (¬1) انظر: الموسوعة العربية العالمية -بتصرف- 16/ 367 - 368، 17/ 659. (¬2) انظر: المرجع السابق 16/ 368، 17/ 659 وما بعدها. (¬3) انظر: الموسوعة العربية العالمية 16/ 368.

وإذا كان علماء الفيزياء قد اكتشفوا عالم المادة الصغير، فإن علماء الكيمياء والأحياء قد اكتشفوا عالم الأحياء الصغيرة، بدأت مع الكيميائي الفرنسي "لويس باستير" الذي اكتشف بأن كائنات مجهرية معينة يمكن أن تسبب المرض للبشر والحيوانات الأخرى (¬1)، وقد فتح ذلك الباب واسعًا لاكتشاف مخلوقات جديدة لم يكن البشر على معرفة بها مئات السنين، فمَنْ كان يتوقع مثلًا بأن كأسًا من الماء يسبح فيه عالم من المخلوقات؟ ومن كان يتوقع مثلًا بأن في النطفة المنوية آلاف الحيوانات لها حياتها العجيبة؟ ومثله الكائنات البكتيرية والمجهرية التي أصبحت ميدان بحوث واسعة في القرن الرابع عشر/ العشرين. وقد واصل أيضًا في أول هذا القرن مجموعةٌ من الناس استثمار نظريات نيوتن، وأبرزها ما قام به "لابلاس" من وضعه لنظامه الشهير "نظام الكون" حيث شرح فيه عمليات تطوّر الكون ونشأته من دوامة غازية سماها سديما، وإذا كان نظام نيوتن الكوني قد بناه على الإقرار بحفظ الله له؛ فإن "لابلاس" ألغى هذا، وحين سأله "نابليون" عن مكان الله - سبحانه وتعالى - في نظامه أجاب: "مولاي ليست بي حاجة إلى تلك الفرضية" (¬2)، ونابليون هذا هو صاحب أول حملة استعمارية صليبية حديثة على العالم الإِسلامي، وقد أحضر معه مئتي عالم في أثناء احتلاله لبلاد مصر سنة (1798 م)، وخرج من مصر مطلع القرن الثالث عشر/ التاسع عشر بعد أربع سنوات، وعادة ما يُقال في كتابات كثيرة بأن هذه أول مرّة يطّلع فيها المسلمون على العلوم الحديثة بعد التطور الكبير الذي لحق بها، وسيتوجه المسلمون في منتصف القرن الثالث عشر/ التاسع عشر إلى فرنسا لدراسة هذه العلوم زمن ولاية محمَّد علي باشا، وستكون هذه موضوع الفصل الثالث والرابع. المهم هنا بأن الفيزياء والفلك بعد "لابلاس" فتحت أبوابًا جديدة تبحث فيها عن نشأة الكون وحالته الآن ومستقبله، وستكون نظريات كثيرة تتطاحن فيما بعد ولها أثرها في مسيرة الفكر والعلاقة بالدين، وقد كان الأمر كذلك في مجال الكيمياء حيث كان لاكتشافات "شيلي، وبريستلي، ولافوازييه" وغيرهم أثرها في الفلسفة وميادين الفكر الأخرى لا يقل عن تأثير مذهب نيوتن، وهذا "فريدريك ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق 16/ 368. (¬2) انظر: رونالد السابق ص 287، والموسوعة. . . . 17/ 483.

[3] نظرية التطور الدارونية وأبعادها الفكرية والاجتماعية

إنجلز" أحد المؤسسين الكبار للماركسية حين شرْحِهِ لقوانين المادية الجدلية يستشهد بأمثلة من الكيمياء (¬1). وهكذا نلاحظ بأن النظريات العلمية لم تعد تتحرك في إطارها العلمي، ولم تعد كالسابق تظهر باستحياء أو تلقى العداء، بل تجاوزت ذلك وبدأت تؤثر في فروع أخرى من فروع المعرفة (¬2)، وتؤثر كثيرًا في المدارس والمذاهب الفكرية أو ربما تستغلها تلك المذاهب. ورغم أن لكل نظرية أثرها إلا أن نظرية داروين التطورية هي الأشهر في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر وجزء مما بعده، وقبل الحديث عنها نلمح إلى أن هناك نشاطًا بارزًا في نوع آخر من العلوم بدأ في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ونهايته وسيكون أكثر شهرة في القرن الرابع عشر/ العشرين؛ لذا نؤجل الحديث عنه إلى هناك، وهذا النوع من العلوم هو ما يسمى بالعلوم الاجتماعية وأهمها علم الاجتماع الذي دعا إليه فيلسوف الوضعية "كومت" وقام على إنشائه تلميذه "إميل دوركايم" وغيره، وثانيها علم النفس وهو وإن كانت المحاولات فيه قديمة إلا أن علم النفس الحديث قد ارتبط أيما ارتباط بنشاط العالم النمساوي "فرويد" ونظرياته الجديدة، ولكن هذين العلمين لم يشتهرا إلا في القرن الرابع عشر/ العشرين فيكون الحديث عن أثر نظرياتهما في فقرة لاحقة، وأما الآن فسنقف مع نظرية التطور الدارونية. [3] نظرية التطور الدارونية وأبعادها الفكرية والاجتماعية: أ- مصطلح التطور: يُعد أحد أشهر المصطلحات ظهورًا واستخدامًا في الفكر المعاصر، ورغم أن جزءًا من معانيه معروفة منذ القدم، إلا أنه اكتسب مدلولات خاصة في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر وما بعده، ورغم شهرته إلا أنه كما يقول لالاند: "أكثر المعاني غموضًا وحتى أكثرها تناقضًا وتعارضًا" (¬3). وقد كان ميدانه في الفلسفة إلا أنه تحول إلى مذهب علمي في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر وما بعده "يوم أخذ العلماء يعللون نشوء الأنواع الحية بقانون تنازع البقاء، وقانون الانتخاب ¬

_ (¬1) انظر: رونالد السابق ص 408. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 407 - 408. (¬3) موسوعة لالاند الفلسفية 1/ 379 تعريب خليل أحمد خليل.

ب- تشارلس داروين (1809 - 1882 م)

الطبيعي "دارون"، أو يرجعون تبدلها التدريجي البطيء إلى تأثير البيئة والوراثة "لامارك"، أو يجعلون التطور قانونًا كليًا محيطا بكل شيء: من السديم إلى الشمس والكواكب السيارة، ومن الأنواع الكيميائية إلى الأنواع الحية، ومن الوظائف العضوية إلى الملكات العقلية والمؤسسات الاجتماعية "هربرت سبنسر". . . ." (¬1). وقد كان هؤلاء الثلاثة: "داروين - لامارك - سبنسر" عصب التطور ودعاته ومنظريه في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر من وجهة علمية وفكرية. وكما كان مصطلح التقدم عقيدة التنويريين في القرن الثاني عشر/ الثامن عشر، فإنه يأخذ صورة أخرى ذات طابع علمي في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر تحت مصطلح التطور، ويمكن تقريبه بأنه: "تحوّل تدريجي، ومنظور إليه، عمومًا كتحول بطيء جدًا، أو متكون من تغيّرات أوليّة شديدة الضآلة لا تكاد تلحظ" (¬2). ويرجع سبب شهرة المصطلح من تحويله من ميدان الفكر القابل له إلى ميدان العلم وتطبيقه على الكون المادي وعلى الإنسان. ففي الكون لا يُنظر إلى قصة خلقه كما وردت في الدين وإنما يضع العالم صورة لوجوده من حال كانت عليه إلى الحال الذي نراه عليه باجتهاده النظري، ومثله في باب الكائنات الحية فتترك قصة الخلق الدينية وتُستبدل بنظريات تقول بأن هناك تحولات طبيعية، وبفعل الطبيعة وفق نظرية النشوء والارتقاء، هذه التحولات تمت من كائن إلى آخر، وعبر سنين مديدة، لتصل في النهاية إلى صورة الإنسان. ورغم وجود أكثر من شخص قام بعرض مثل هذه الآراء، إلا أن أشهرهم كان البريطاني "تشارلز داروين". ب- تشارلس داروين (1809 - 1882 م): درس أول حياته الطب، ثم تركه إلى اللاهوت ثم انصرف من كل ذلك وتحول لدراسة علم الأحياء "البيولوجيا" بدأها برحلة علمية حول الأرض حوالي خمس سنوات، جلس بعدها ما يقرب من ربع قرن يدون ويجمع ويدرس، حتى ¬

_ (¬1) المعجم الفلسفي، جميل صليبيا 1/ 295. (¬2) موسوعة لالاند الفلسفية 1/ 378 - 379 وهو المعنى الثاني من معاني التطور عند "لالاند"، وانظر: المعجم الفلسفي، جميل صليبا 1/ 294.

ج- من إشكاليات النظرية الدارونية في مفهوم العلم

أخرج نظريته في كتابه: "أصل الأنواع" عام (1859 م)، وبقي بعده ربع قرن يدافع عن نظريته ويزيدها دراسة وشواهد، وهو لم يصنف كتبًا كثيرة يشابه في ذلك سلفه الإِنجليزي نيوتن، فقد كانا لا يخرجان كتبهما إلا بعد زمن طويل (¬1). وهو في كتابه: "أصل الأنواع" يناقش ما أصل أنواع الكائنات الحية الموجودة؟ هل ترجع إلى أصل واحد أم إلى أصول مختلفة؟ وكيف توجد حيوانات متشابهة في النوع لكنها تختلف صفاتها بحسب البيئة التي تكون فيها؟ مما دفعه إلى القول بأن الطبيعة المحيطة تؤثر في الكائنات الحية، ثم وصل إلى افتراض أن كل الكائنات الحية أصلها من خلية واحدة، وأن الطبيعة أوجدت الحياة فيها صدفة، إلى غير ذلك (¬2). ومن المعلوم بأن نظرية داروين في إطارها العلمي حدث لها تغيّرات كبيرة، إما من داخل أتباعها مع الدارونية الجديدة ومن بعدهم أو مع علماء البيولوجيا من خارج الدارونيين، ولكن "داروين" يبقى عند الجميع من أهم علماء البيولوجيا في العصر الحديث، ويبقى في الدراسات الحديثة من أهم العلماء في تاريخ العلم الحديث مما يجعله في مصاف كوبرنيكوس وجاليليو ونيوتن، وهذه المكانة البارزة لداروين تجعل الفتنة به كبيرة وقبول نظريته بآثارها سائغًا عند المعجبين به، فإذا عرفنا عصر الصراع مع الدين وبناء النظام اللاديني والتحول إلى المادية أدركنا مدى ما سيختلط بها، ويزيد الباب سوءًا ميل داروين المادي واتجاهه نحو دائرة اللا أدرية ليجعلها عقيدته الأساسية (¬3). ج- من إشكاليات النظرية الدارونية في مفهوم العلم: فإذا تركنا جانب الفرضيات فيها وما يختص بالمسائل العلمية لعلماء الأحياء/ البيولوجيا وغيرهم ونظرنا إلى ما تحويه من إشكالات خارج إطارها العلمي ويؤثر في الرؤية العلمية ويؤثر في تصور الناس عن العلم فسنجد بعض المشكلات، منها: أولًا: إعطاء الطبيعة القول الفصل في الإيجاد والتأثير والتغيير ورفض ¬

_ (¬1) انظر: تاريخ الفلسفة الحديثة، كرم ص 351. (¬2) انظر عرضًا لها في: الدارونية والإنسان. . . .، د. صلاح عثمان ص 37 وما بعدها. (¬3) موسوعة الفلسفة، عبد الرحمن بدوي 1/ 474.

الإقرار بأية صلة بين المخلوقين وخالقهم، وحتى في باب كيف ظهرت الحياة في أول خلية وجدت بحسب نظريته، يقول: إن الطبيعة أوجدتها صدفة؛ لأنه لا يُثبت للطبيعة قصدًا وإرادة حتى تخلق ما تشاء بالصورة التي تشاء، وإلا كانت بديلًا عن الرب عند المقرين بالخالق، وعندها فالأولى الإقرار به بدل القول بالطبيعة، فمن شدّة فراره من إثبات جانب غيبي أو ما يسمونه ميتافيزيقي، فإنه يستبدله بمثل هذا الفرض: أن الطبيعة تخبط خبط عشواء، وصدفة وجدت الحياة في الخلية الأصل للكائنات والأنواع الحية (¬1)، وقد ترسخ في ذاك العصر القول بالطبيعة داخل حقول العلم المختلفة دون النظر إلى أبعد منها. ثانيًا: تعزيز الاتجاه المادي: الذي ظهر مع التنويريين في القرن (12 هـ - 18 م) وبرز في اليسار الهيجلي في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر فولدت أيديولوجيات ومذاهب مادية كبرى في نهاية القرن الثالث عشر/ التاسع عشر وأشهرها الماركسية، وهذا واضح في تحمس الاتجاه الماركسي لداروين وإعجابهم به. فإذا كان العلم بحسب زعم "داروين" يثبت أن الطبيعة هي التي أوجدت الإنسان، فإنها هي التي أوجدت عقله وغرائزه وقيمه، حتى المعاني الدينية. فإن الماركسية متوازية مع الدارونية ترى بأن الجدل المادي والتاريخي وصراع الطبقات وظهور مجتمعات واختفاء أخرى يرجع أيضًا إلى المادة وطبيعتها. وإذا كان الاتجاه المادي قبل داروين يبني نقده للدين الحق على أوهام عقلية، فإنه بعد داروين يبني أصوله الإلحادية على أوهام علمية، ويزعم بأن هذه الأوهام العلمية تؤيد المبادئ المادية، وأصبحت المادية عندهم هي صورة العلم (¬2). ثالثًا: أصبح "داروين" قدوة للعلماء الملحدين ومن ثم تسليم زمام قيادة العلم لأمثال هؤلاء الملحدين، وذلك أنه قبل داروين لم يكن عالم من العلماء البارزين يدّعي الإلحاد، وإن كان أكثرهم لا يعتني بالدين، فقد رأينا بأن أغلبهم كان من خريجي مدارس كنسية أو لهم عناية باللاهوت، من أمثال مؤسسي الثورة العلمية مثل كوبرنيكوس وكبلر وبراهي وجاليليو ونيوتن، وكان يغلب عليهم الحرص على التوفيق بين نظرياتهم وبين الدين -صدقًا أو مجاملة ومداراة- ولكنه ¬

(¬1) انظر: حقيقة الخلق ونظرية التطور، محمَّد كولن ص 78 وما بعدها، ترجمة أورخان محمَّد. (¬2) ستأتي مناقشة هذه الفقرة في مبحث تالي ص 219.

مع "داروين" وبعد الثورة العلمانية ونجاح الاتجاهات المادية أقفل باب المجاملة ومراعاة الدين وصُرّح بالإلحاد أو ما يؤدي إليه. ونشأت ناشئة ترى العلم رديف الإلحاد وصديقه، وأن العلم إن لم يكن مؤيدًا للإلحاد ففيه شك، وظهرت ظواهر عجيبة بسبب نجاح هؤلاء في قيادة العلم والعناية به مما سنرى بعض معالمه في فقرات قادمة. رابعًا: التفسير العلمي للدين. أصبح لظاهرة الدين في حياة البشر تفسيرٌ علميٌّ مزعومٌ، ويتبع ذلك كل ما يرتبط بالدين من أصول عقدية أو شرعية أو خلقية، والخلقية هي ما كان يحرص عليه كثير من مفكري الغرب في العصر الحديث، إذ هم لا يسلمون بصحة عقائد وشرائع النصرانية التي عرفوها لكنهم يعترفون بقيمتها الخلقية. ولكن حتى هذه البقية الباقية ستقضي عليها الدارونية، فمع "داروين" نجد أن الطبيعة هي التي توجد وهي التي تتحكم بالتغيير، ومما أوجدته الدين ذاته بعقائده وشرائعه وأخلاقه، أليست الطبيعة هي التي أوجدت العقل والقلب والمشاعر والأحاسيس، فهي أيضًا التي أوجدت ما يرتبط به مما يعتقد أنه عقيدة (¬1) أو يُتخلق به ويعمله من منظور الحق والواجب. ومن يتأمل في هذا التاريخ يلحظ كيف كان المسار سريعًا: فمع التنوير ضُربت الديانة الكاثوليكية، ومع الثورة العلمانية أزيلت مؤسستها الرسمية، ولكن بقيت بقايا تمسك ببعض قيم الدين فجاء دور القضاء عليه مع داروين، فإنه مع الدارونية حتى مفهوم الحلال والحرام والصواب والخطأ والجميل والقبيح والنافع والضار والمسموح الممنوع، كل ذلك لا معايير ثابتة له وليس له أصل سماوي، وتم تعطيل خلق الله سبحانه وأمره، {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54]، فإذا تعطل الخلق تعطل الأمر، والأمر هو شريعة رب العالمين من واجب وحلال وحرام وقيم وأخلاق وسلوك. ¬

_ (¬1) انظر مثلًا: تشكيل العقل الحديث، برينتون ص 222، وانظر، تاريخ الفكر الأوروبي الحديث، رونالد ص 422.

وإن كان "داروين" بصفته عالم أحياء ليس من شأنه مناقشة هذه القضايا، فإن شر من تولى أمرها في نهاية القرن طفل داروين -كما عبر بذلك ول ديورانت الذي تأثر كثيرًا بنظريته وهو "نيتشه" "فإذا كانت الحياة هي تنازع البقاء، وبقاء الأصلح، عندئذ تكون القوة هي الفضيلة الأساسية، والضعف هو النقيصة الوحيدة" (¬1)، ليعلن عدم الحاجة حتى لأخلاق الكنيسة؛ ذلك أن أتباع داروين وغيرهم رغم رفضهم اللاهوت النصراني لكنهم لم يرفضوا أخلاقها، ورغم جرأتهم في الإقلاع عن المذهب الكاثوليكي واللوثري والإنجليكاني، فإنهم لم يقلعوا عن الديانة النصرانية نفسها أي روحها الأخلاقية، فأزال داروين الأساس اللاهوتي لأخلاقها ولكنها بقيت حتى جاء دور "نيتشه" ليزيلها تمامًا (¬2)، ويعلن مقولته المشهورة التي دوّت بها أوروبا عن إعلان موت الله ويصل إلى إنكار خلقه وأمره، وإن كان هناك من يرى بأن نيتشه يقصد بمقولته هنا "الله كما صورته الكنيسة". فبعد كل تلك الموجات من العلمنة والمادية ما عاد له خلق، ولا له أمر ينفذ في أرض الواقع، فلماذا تصرّ الكنيسة على إبقائه؟! (¬3). كان هذا من أبرز صور التفاعل الخطير بين أشهر نظرية وبين أحد أشهر رموز الفكر في نهايات القرن التاسع عشر وأول العشرين. أيضًا سيكون لمزاعم داروين العلمية -حول نشأة العقيدة بفعل أثر الطبيعة في الإنسان- امتدادها في العلوم الناشئة بعده، فهذا علم الاجتماع مع دوركايم وغيره، يرى بأن الدين نشأته بأسباب اجتماعية يمكن تفسيرها علميًا، وهذا أحد مؤسسي علم النفس المعاصر فرويد يرى بأن نشأة الدين ترجع إلى أحداث نفسية داخل النفس الإنسانية، وقريبًا من ذلك مزاعم الماركسية حول نشأة الدين بسبب الصراع الطبقي والجدل المادي التاريخي، فالدين عند هؤلاء جميعًا ليس له أصل موضوعي حقيقي تحرف بعد ذلك، وإنما هو ناتج من الطبيعة أو الجدل المادي أو من ظروف اجتماعية أو من اللاشعور، وسيكون لهذه مزيد دراسة في الفصل الثاني من الباب الثالث. ¬

_ (¬1) انظر: قصة الفلسفة، ديورانت ص 504. (¬2) انظر: قصة الفلسفة، ديورانت ص 505 بتصرف. (¬3) انظر: نيتشه عدو المسيح، د. يسري إبراهيم ص 111 وما بعدها.

د- من النظرية إلى المذهب

د- من النظرية إلى المذهب: ما سبق جزء من إشكالات النظرية الدارونية، ورغم كونها نظرية تنتمي إلى علم الأحياء، فإنها قد تحولت إلى مذهب فكري، له من يعتقده وينشره ويتأثر به، وهذه إحدى مشكلات العلم في العصر الحديث، فهو لم يعد يتحرك داخل إطاره، بل أصبح مجالًا خصبًا لبناء المذاهب في ظل وجود منظومات نظرية علمية ضبابية مشتبهة تسمح لأهل الأهواء استثمارها لصالح أهوائهم. وهذا الواقع يؤكد أهمية مطلب أسلمة العلوم أو على الأقل تحييدها في الصراعات الفكرية الدائرة، وإذا كان عصرها الحديث يكشف صعوبة الحياد إن لم يكن استحالته فما بقي إلا العناية بإحاطتها بسوار إسلامي يسمح لها بالتطور دون الانحراف. ولا شك أن التيار العلماني العربي قد أزعجنا بصراخه حول رفضه فكرة أسلمة العلوم ويتذرع بأدلة ظاهرها الصواب ومقصدها التلبيس إذ يقولون: كيف تريدوننا أن نُؤسلم المعادلات الرياضية والكيميائية والقوانين الفيزيائية وغيرها وليس لها علاقة بالدين! ولكن السؤال نقلبه فنقول: هذه العلوم التي تزعمون حياديتها قد تحوّلت إلى مذاهب فكرية واستثمرت في الطعن في أصول دينية، أفتسمحون لها هناك وتمنعون هنا طلب علماء المسلمين بأسلمتها. وهذه قضية سيأتي لها مناقشة خاصة في مكان آخر، وإنما القصد هنا التذكير بعمق المشكلة ومكانها التاريخي؛ لأننا نجد نظرية علمية تنتسب لعلم الأحياء ومع ذلك حوّلها أصحابها إلى مذهب مع الدارونية الاجتماعية واستعانت بها مذاهب فكرية أخرى لتأييد أصولها. يقول "ول ديورانت": "وكما سادت الرياضيات على الفلسفة في القرن السابع عشر وأنجبت للعالم ديكارت وهوبز وسبينوزا وليبنتز وبسكال، وكما أخذ علم النفس يسطر الفلسفة في آراء بركلي وهيوم وكوندلاك وكانت، فقد كان علم الأحياء في القرن التاسع عشر عمود الآراء الفلسفية الفقري في آراء شلنج وشوبنهور وسبنسر ونيتشه وبرجسون" (¬1). والذي يظهر أنه ما كان لعلم الأحياء أن يكون كذلك لولا الأثر الذي قام به داروين وأتباعه، وتحول داروين إلى أبٍ ¬

_ (¬1) قصة الفلسفة، ديورانت ص 457، وقد سبق ذكر ملحوظة عن اختلاف الترجمات العربية في ترجمة الأسماء، وأنا أعتمد ما ذكره المترجم دون تغيير.

"لأيديولوجية علمية في عصر علمي" كما يقال، وهذه بعض النماذج من المذاهب والتيارات الفكرية النابعة من روح المذهب الداروني: 1 - المذهب التطوري: المرتبط باسم "داروين" مثل: "الدارونية"، و"الدارونية الجديدة"، وأشهرها "الدارونية الاجتماعية"، وكانت جميعًا ذات شهرة في نهايات القرن وذات منحى مادي مُتلبس بدعاوى علمية. 2 - الصلة بين الدارونية والمادية في صورتها الماركسية: نظرًا لأن الدارونية أصبحت تمثل روح العلم في تلك المرحلة وهي في الوقت نفسه ذات تصور مادي، فهي بهذا الوضع ستكون كالمغناطيس الجاذب للمذاهب المادية، ولذا غازل "ماركس" "داروين" وجعل الإهداء في كتابه: "رأس المال" لداروين. ويقول مجموعة من الأساتذة السوفيات الماركسيين بأن داروين لقي عالي التقدير من ماركس، وأنه يرى بأن "مؤلف داروين هذا غاية في الأهمية، وهو يصلح لأن يكون أساسًا علميًا -طبيعيًا لفهم الصراع التاريخي للطبقات"، ومنذ السبعينات "راح مؤسسا الماركسية يركزان الاهتمام على المسائل الفلسفية لعلوم الطبيعة" (¬1)، وكان "ماركس" يرى بأن الدارونية قد شكلت أساسًا جوهريًا للمادية والشيوعية (¬2)، وقد كان المذهب الماركسي أشهر تيارات الفكر نهايات التاسع عشر وبدايات العشرين (13 - 14 هـ)، ومع اتساع رقعته في أوروبا والعالم فقد أسهم بدور بارز في نشر هذه الأبعاد السيئة باسم العلم. 3 - الصلة بين الدارونية وطائفة من اليهود: كان ممن استثمر هذه النظرية بصورة أو أخرى يهود أوروبا، فربما وجدوا فيها فرصة لنشر ضلالهم تحت غطاء علمي، وقد سبق رؤية أصابعهم في الثورة الفرنسية التي حطمت سيطرة الكنيسة ودينها، وهاهم يلتفون حول التيار المادي والعقلي والشكي، وأخيرًا حول الدارونية، يقول محمَّد قطب: "من بين الأسماء "اللامعة! " التي شكلت الفكر الأوروبي الحديث ثلاثة أسماء على الأقل من ¬

_ (¬1) موجز تاريخ الفلسفة لجماعة من الأساتذة السوفيات ص 448. (¬2) انظر: خديعة التطور، يحيى هارون ص 7 وفيه أيضًا نص إهداء ماركس لداروين.

"كبار" اليهود: ماركس وفرويد ودوركايم. . . . كل منهم قام بدوره في زلزلة الفكر الأممي وإعادة تشكيله على النحو المطلوب. . وكل منهم قام بدوره في تحطيم الأعداء الألداء للمخطط اليهودي: الدين والأخلاق والتقاليد. . وكل منهم بني أفكاره "العلمية"، على أساس النظرية الدارونية من هنا أو من هناك. ." (¬1)، وهذا الدور المشبوه سيكون موضع تحليل في الفصل القادم بإذن الله. 4 - الأثر العام للدارونية: يساعد تحول الدارونية إلى مذهب في توسع دائرة أثرها، وأغلب الكتاب المؤرخين للفكر الغربي يذكرون امتداد أثرها إلى مجالات شتى، وفي ذلك يقول "برينتون": "لقد امتد أثر داروين إلى الفلسفة والاقتصاد، وإلى كل العلوم الاجتماعية الوليدة" (¬2)، ويذكر "رونالد" بصورة ربما تكون مبالغة بأن الدارونية "قد أثرت في كل ميدان من ميادين العالم الحديث" (¬3)، بل أصبحت داعمًا للروح الفردية الرأسمالية الحديثة الأشرة، وذلك أنها تعبير عن استثمار القوي الغني للثروة التي بين يديه في السيطرة والاستغلال تحت مبدأ قانون الغاب الداروني، وهذا ما يفسر إعجاب كبار الرأسماليين بداروين، مثل "روكفللر" وغيره (¬4)، ويفسر خروجها من الدوائر الأكاديمية إلى ميادين التجارة والصناعة (¬5). أعجب بها أيضًا الاشتراكيون سواء كانوا ماركسيين وقد سبق ذكرهم، أو كانوا امتدادًا لاشتراكية "سان سيمون" وغيره، وذلك لما في الدارونية من عداء للدين، ومساندتها للمذهب الطبيعي، وفيهم من يرى بأنها الأساس العلمي للمذهب الاشتراكي (¬6). وهكذا نلاحظ الأثر الكبير الذي أحدثته نظرية علمية دوّنها صاحبها في ¬

_ (¬1) مذاهب فكرية معاصرة ص 100 وقد وضّح وحلل دور الثلاثة ص 100 - 118. (¬2) تشكيل العقل الحديث، برينتون ص 222. (¬3) المرجع السابق ص 416. (¬4) انظر: تاريخ الفكر الأوروبي الحديث، رونالد ص 430. (¬5) انظر: المرجع السابق ص 423. (¬6) انظر: تاريخٍ الفكر الأوروبي الحديث ص 430. وقد أخرج الفيلسوف البراجماتي "جون ديوي" كتابا بعنوان: (أثر داروين في الفلسفة)، انظر: نفس المرجع ص 423.

هـ - موقف الكنيسة والعلماء من النظرية

كتاب واحد، وما أوجدته من مذاهب أو ما أوجدته من مواد مناسبة للاستثمار في تأييد مبادئ فكرية أو سياسية أو غيرها. هـ - موقف الكنيسة والعلماء من النظرية: 1 - موقف الكنيسة: رغم ضعف الكنيسة وأهلها في هذه المرحلة وأهل الفكر الديني، إلا أنها ثارت ثائرتهم مع إعلان داروين لنظريته، لاسيّما مع ما تحويه من مادية صلبة لا مثيل لها ومن إنكار قطعي للقيم والأخلاق؛ فهو لا يجعل فرقًا كبيرًا بين الإنسان والحيوان. لقد صدمتها النظرية أول الأمر وأعلنت كفر داروين وزندقته (¬1)، ولكن لم تعد للكنيسة تلك المكانة عند الناس، وضعف قبول رأيها في القضايا اللاهوتية حول الكون والعالم، وربما كان من أسباب ضعف قبول موقفها ما قدمته من تنازلات أمام كل ضربة واجهتها في الماضي، فلا يستغرب أن لا يثق الناس بصمودها هنا، لاسيّما بعد أن توصلت إلى عدم التفسير الحرفي لما ورد في كتابهم المقدس في مثل هذه "الموضوعات" وقد سبق مثل هذا الموقف مع النظرية الفلكية الجديدة (¬2). ولكن الجانب الذي ناظر حوله الاتجاه المديني بقوة هو جانب الأخلاق، ولم يكونوا لوحدهم في ذلك فقد شاركهم جمهور غفير من العلماء المعارضين لنظرية داروين والمفكرين والفلاسفة؛ لأن الفكر الفلسفي العلماني غير المادي والفكر الديني اللاهوتي يتفقان في الجملة على إنسانية الإنسان، وكان الفكر العلماني من فترة التنوير وما بعدها يركز على قيمة الإنسان، لكن بعد إعلان نظرية داروين لم يعد الفكر العلماني قادرًا على الاستمرار في تلك الدعوى، فهو يجد بأن العلم الذي ناصره واستثمره يقوده مع أحدث نظرياته إلى إلغاء هذه القيمة للإنسان، وبدأ الفكر العلماني يتناقض مع نفسه فما كان في الأمس من أهم دعاويه يسقط اليوم، فماذا عساه فاعلًا أمام ذلك؟! ¬

_ (¬1) انظر: مذاهب فكرية معاصرة، قطب ص 94. (¬2) انظر: تاريخ الفكر الأوروبي الحديث، رونالد ص 419.

لقد قام "نيتشه" بالدور المطلوب، فأيد نظرية داروين ورأى بأن ما كان يحافظ عليه الفكر العلماني من قيمة للإنسان لا حقيقة لها، ولابد من القضاء عليها، وتجاوز الزيف العلماني حول تلك الدعوى، ولكن هناك آخرون عزّ عليهم أن يهوي الإنسان إلى هذه الدركة السحيقة. إن حقيقة التأثر بالدارونية وصورة تلك الأجواء تُظهر لنا بعض المعاني خلف مقولات فلسفية اشتهرت في القرن الرابع عشر/ العشرين مثل مقولة "نيتشه" عن "موت الإله"، وكأننا نرجع من جديد إلى عهد الديانات الوثنية الإغريقية التي تعرف تصارع الآلهة وموتهم، وكأنه يضع الحد النهائي للدين في الفكر العلماني، وهناك مقولة أخرى تعلن "موت الإنسان" أيضًا وهي للفيلسوف البنيوي الفرنسي "ميشيل فوكو" الذي أعلن موت الإنسان الذي بشرت به الحضارة الحديثة (¬1)، فقد قضت تلك النظريات على أهم معاني الدين القائم على الإيمان بالله، فما بقي من حاجة للإيمان الديني، وقفت على قيمة الإنسان وخلق الله سبحانه له في أحسن تقويم ليهووا به إلى أسفل سافلين، فما بقي من حاجة للاعتراف بقيمة الإنسان، والعجيب أن كل ذلك يُربط بالعلم وآخر نظرياته. وربما كان هذا الانحدار بالإنسان بعد القضاء على الدين من أهم الأسباب في ولادة مذاهب دينية ومثالية وصوفية ووجودية في القرن الرابع عشر/ العشرين مع ما حظيت به من قبول وانتشار في المجتمع الغربي. 2 - موقف العلماء: أيضًا كان للعلماء مواقفهم المتباينة من نظريه داروين التي ترجع إلى ثلاثة مواقف (¬2): أولها موقف المؤيِّد لداروين، فمن الطبيعي أن يكون لكل عالم مشهور أتباع ومؤيدون، وثانيها موقف الرافض لنظريته، وبحجج ونقاش علمي، ويظهر أنهم الأضعف في مرحلة شهرة داروين، وإن كان قد تحقق انتصارهم بعد ذلك بسنين. وكان هناك موقف ثالث يتكرر مع مولد كل نظرية علمية تتعارض مع ¬

_ (¬1) انظر: موت الإنسان في الخطاب الفلسفي المعاصر. . . .، د. عبد الرزاق عيد ص 15 وما بعدها ص 128. (¬2) انظر: مذاهب فكرية معاصرة، قطب ص 95.

[4] البحث عن حدود النظرية العلمية والدين

أصولهم الدينية أو الأخلاقية، وغالبًا ما يكون هؤلاء طرفًا معتدلًا في الجهتين، إما من رجال اللاهوت ولهم معرفة بالعلوم الجديدة، أو من رجال العلم ولهم معرفة باللاهوت أو عندهم تدين، وهذا الموقف يتمثل في دعوة أهله للتوفيق بين الدين والنظريات العلمية، إما عن طريق الجمع أو التأويل أو التفسير الجديد أو غيرها، وقد يأخذ طابعًا مميزًا إذا صدر عنهم في وقت لا يعانون فيه من ضغط خارجي، وإنما صدر عنهم عن قناعة حقيقية. ويكشف هذا التباين في الموقف من هذه النظرية صعوبة الفصل في النظريات العلمية والخروج منها بقول واحد متفق عليه؛ ذلك أن النظرية العلمية ليست معادلة واضحة أو قانونًا محددًا لا يحتمل إلا قولًا واحدًا، وإنما هي فضاء واسع ضبابي يحمل في طياته: الكلام البيّن صوابه والكلام البيّن خطؤُه والكلام المشتبه وهو الذي يفتح باب الاختلاف والتنازع. ويستغل عادة أهل الأهواء هذه المساحة الضبابية المشتبهة لإثارة ما يخدم مبادئهم ونشر شبهاتهم، فإن اعترض عليهم معترض دافعوا عن أنفسهم بأنهم يستندون إلى ركن قوي وهو العلم، والعلم قوله حق وفصل، وكأنه من باب واحد يشبه المسائل الحسابية والمعادلات الرياضية والقوانين الفيزيائية والكيميائية، مع أن النظريات العلمية غير ذلك، فهي تحوي هذا وذاك، وفيها مجال للأقوال والأفكار المشتبهة، ولو كانت بمثابة الصواب البيّن لما وقع حولها كل ذلك الاختلاف. وقد عُرفت هذه المواقف الثلاثة أيضًا في العالم الإِسلامي أثناء دخول هذه النظرية إليه، فظهر الموقف الرافض بإطلاق والموقف القابل بإطلاق والموقف الذي يحاول التوفيق بينها وبين الإِسلام، وقد كانت إحدى أشهر النظريات التي دار بسببها صراع كبير في العالم الإِسلامي. [4] البحث عن حدود النظرية العلمية والدين: لقد أورث الصراع في المجتمع الغربي بين الفكر والعلم والدين والتفاعلات بينها نتيجة في غاية الأهمية، خلاصتها تدور حول إعادة النظر في قيمة العلم وقيمة الدين، وذلك أن تلك التفاعلات لم تصل إلى نتائج حاسمة مما دفع الفكر إلى إعادة النظر في مجموعة قضايا، ولاسيّما بعد المصير الذي

أ- مفهوم النظرية

أوصلهم إليه ظهور النظرية الدارونية، مما فتح النقاش عن إعادة النظر في قيمة النظرية العلمية وحدودها وكذا قيمة الدين وحدوده. أ- مفهوم النظرية: ما زال الحديث ممتدًا عن نظرية التطور الدارونية؛ لأنها تريد أن تفرض على علوم الطبيعية بعض مبادئها، لذا أصبح من المهم وضع النظرية العلمية موضع الدراسة والعناية في فلسفة العلم المعاصر، فضلًا عن أنها جزء لا يتجزأ من تركيبة العلم الحديث والمعاصر، ولهذا قامت مناهج وعلوم تدرس مفهوم النظرية وحدودها وإمكانياتها وطرق الحكم عليها والخلاف حول خروجها عن إطارها إلى غير ذلك. لقد أصبحت النظرية العلمية جزءًا من مفهوم العلم، حتى إنك لا تستطيع القول بأنه علم إن لم يكن فيه مجموعة نظريات، إما للتفسير أو نموذج إرشاد أو قياسًا أو توجيهًا أو غيرها من مهمات وفوائد النظرية العلمية. ومما يلاحظ بأن نظرية داروين استنفرت المفكرين والعلماء للوقوف حول مفهوم النظرية، ومنذ ذلك الحين، وهي ميدان أبحاث ودراسات وتأملات كثيرة لوضع مفهوم موحد لها يبيّن حدودها ويرسم دورها في المستقبل، وهذا الدور هو من أهم ما يعني أي باحث عن علاقة العلم بالمجالات الأخرى (¬1). ب- مع الدين وضدّه: وقبل إنهاء الحديث عن القرن الثالث عشر/ التاسع عشر وعن نظريته الأشهر -النظرية الدارونية- نجد ما يلفت النظر، حول هذا الصراع الدائر بين دعاة النظرية والاتجاهات الفكرية المتباينة في الفكر الغربي ألا وهو: ما إنْ يظهر موقف جذري معارض للدين ويدعو إلى الإلحاد حتى يظهر ما يوقفه أو يجد الجدار الذي يصطدم به، فتنسحب بعض الجماهير المؤيدة له وتبحث عمَّن يعيدها إلى بعض مبادئ الدين، حتى وإن كان ذلك الملاذ أوهى من بيت العنكبوت. ¬

_ (¬1) ذلك هو ميدان فلسفة العلم، وهو فرع يتسع يومًا بعد يوم، انظر صورتها العربية في: الفلسفة العلمية (رؤية نقدية)، وفلسفة العلوم (قراءة عربية)، كلاهما للمتخصص في هذا المجال الدكتور ماهر عبد القادر.

وهذا الحال يُبصّرنا باستحالة عيش الناس دون دين مهما وقع منهم من ضلال وإلحاد، وأن العطش الناتج عن موجات الإلحاد يولّد ميلًا جارفًا يجعلها تتعلق بأي رابط يربطها بالدين، ومما نجده على مستوى الفكر الغربي في هذا الميدان ما قام به كانط "لصد موجة الإلحاد الكامنة في المذهب العقلي الذي بدأه "بيكون" و"ديكارت" وانتهى في شك "ديدرو" و"هيوم" وأسفر مجهود "كانت" بأن أعلن قصور العقل في ميادين المشاكل والبحوث السامية. ولكن "دارون" بغير قصد و"سبنسر" بقصد ووعي عادا وجددا هجمات "فولتير" وأتباعه على الدين والإيمان القديم، وعادت النزعة المادية الآلية. . . ."، فتصدى لها "برجسون" بمذهبه الحيوي بما فيه من نزعة صوفية جديدة (¬1)، وقد ذكر "راندل" صور هذا الأخذ والرد بين المجال الديني والمجال الفكري والعلمي لهذه المرحلة فقال: "وجاءت النزعة المثالية واتجاه التأكيد على البنية الكلية العضوية في أواخر القرن التاسع عشر عقب النزعات المادية والاسمية الذرية لعصر التنوير، وذاع إحياء التقاليد المسيحية في القرن التاسع عشر، عقب النزعة الربوبية والنزعة الإلحادية المتحمسة، ونزعة الشك التي كانت تظهر بين الحين والحين ونزعة معاداة رجال الدين في القرن الثامن عشر. خلاصة القول: إن التحول إلى الأذواق الرومانسية هو أحد الأمثلة الكلاسيكية للتحول السريع في كثير من أطوار الثقافة" (¬2)، ويذكر أيضًا صورة التسوية الفكتورية التي سمحت بميلاد إحياء مسيحي كبير وميلاد جماعات مسيحيّة جديدة، وانتشار النشاط التبشيري المرافق لحركة استعمار جديدة شملت أغلب أراضي العالم، ولم يعد بإمكان العناصر القائدة إعلان موقف عداء صريح من الكنيسة وإلا تعرض مستقبله السياسي لخَطَر (¬3). ومن صور هذه التحولات من الإلحاد إلى الدين ما نجده أيضًا مع المذهب الوضعي الذي زعم لنفسه إلغاء الدين والميتافيزيقا وميلاد دين العلم، نجده في نهايات القرن بعقيدته "العلموية" مرفوضًا من تيارات الفكر الفرنسية القوية، ¬

_ (¬1) انظر: قصة الفلسفة ص 570 وما بين القوسين بنصه. (¬2) تشكيل العقل الحديث ص 230. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 247 - 250 بتصرف.

وعادت تلك التيارات "إلى الميتافيزيقا والدين متحدية في ذلك الوضعيين. وجاءت هذه التيارات متمثلة في هنري برغسون، وانبعاث الكاثوليكية والمذهب الوجودي الحديث والرمزية في الأدب والسيريالية في الفن. . . . إلخ" (¬1)، ورغم تباينها، إلا أن ما يجمع بينها التمرد على الفكر الوضعي العلموي. هكذا نجد العلاقة بين الدين والعلم في نزاع دائم، كان عصر التنوير في القرن الثاني عشر/ الثامن عشر قد بلغ مبلغًا كان يُظن معه عدم العودة للدين، وتعزز ذلك بالثورة العلمانية الفرنسية ونظريات مادية علمية في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، ومع ذلك لم تستطع كل هذه الزلازل أن تُلغي حاجة الناس للدين أيًا كانت صورته، وبالرغم من درجة التهكم بالدين والإله في القرن الثاني عشر/ الثامن عشر التي انتشرت حتى في الجماهير نجد على نقيضها حرارة دينية في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر (¬2) حتى في بعض المثقفين وفي تيارات فكرية مشهورة، والأمر سيكون أشهر في القرن الرابع عشر الهجري/ العشرين الميلادي، فلنذهبْ إليه ونَرَى ماذا حدث فيه. ¬

_ (¬1) تاريخ الفكر الأوروبي الحديث ص 403. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 314.

سادسا: ما بعد الثورة العلمية (3) (القرن الرابع عشر الهجري/ العشرون الميلادي)

سادسًا: ما بعد الثورة العلمية (3) (القرن الرابع عشر الهجري/ العشرون الميلادي) شهدت مسيرة العلوم الحديثة في هذه الفترة إنجازات كبيرة وتطورات مذهلة، كانت ثمرة من ثمار الثورة العلمية، وظهرت نظريات جديدة قلبت بعض المسلمات في باب العلوم، ومع هذا التطور العلمي، فقد شهدت بلاده أحداثًا جسامًا، وكان العلم أحد المسهمين في وقوعها، كان أهمها الحربين الكبيرتين اللتين كادتا أن تقتلع قارة أوروبا من على اليابسة. وعادت مشكلة العلاقة بين الدين والعلم إلى قمة الواجهة، وبدأ الصراع بين المذاهب الجديدة في حرب مدمرة على المستوى الفكري والاجتماعي والسياسي. أيضًا كانت بداية عصر الاستعمار الجديد، وانطلاق ما يسمى بـ "المدنية الغربية" وإخضاعها آسيا وإفريقيا لسيطرتها في ظل احتلال تضافرت فيه جهود التنصير والتغريب والاستغلال الرأسمالي البشع. ومما يذكره أحد الكتاب الغربيين بأن مدبري تلك الأحداث ممن تشبع بالنظرية الدارونية الداعية إلى الصراع، فالبقاء لا يكون إلا للأقوى (¬1). ولا يسع الباحث في مثل هذه الكثرة من الأمثلة سوى اختيار أشهرها وأبرزها، والنظر في آثارها في الموقف من الدين وعلاقتها بتطورات الفكر. نستذكر في هذا المقام أحد التقسيمات المشهورة للدراسات العلمية الذي جعلها في أربع مجموعات وهي: "الرياضيات والمنطق، العلوم الطبيعية، علوم ¬

_ (¬1) انظر: تاريخ الفكر الأوروبي الحديث ص 485 - 490.

[1] المستجدات في العلوم الاجتماعية "علم الاجتماع وعلم النفس"

الحياة، العلوم الاجتماعية" (¬1)، وقد رأينا بعض النظريات العلمية في الأقسام الثلاثة الأولى وبعض تطوراتها، أما القسم الرابع فرغم وجود عناية قديمة به، إلا أنه لم يدخل إطار العلم الحديث ويكتسب نظرياته إلا في نهايات القرن التاسع عشر ثمّ العشرين (13 - 14 هـ)، ويهمني من العلوم الاجتماعية الخمسة: "علم الإنسان وعلم الاقتصاد وعلم السياسة وعلم النفس وعلم الاجتماع" (¬2) العلمان الأخيران؛ لأنهما شهدا ميلاد نظريات كثيرة ذات أثر كبير في مسيرة العلم والفكر المعاصر. [1] المستجدات في العلوم الاجتماعية "علم الاجتماع وعلم النفس": بعد النجاحات التي تحققت في العلوم الطبيعية والرياضية بدأ التفكير في نقل مناهجها إلى مجال العلوم الاجتماعية لعلها تحظى بتطور مماثل، وقد جاء جزء كبير من هذه المحاولة نهايات القرن التاسع عشر واشتهرت بدايات القرن العشرين (13 - 14 هـ) وما بعده. أ- علم الاجتماع: يُعنى علم الاجتماع بدراسة الأفراد والجماعات والمؤسسات التي تشكل المجتمع البشري، وأما نظريات هذا العلم، فهي ما يصوغه علماؤه من نظريات تُبنى على ملاحظة الجوانب المختلفة في المجتمع (¬3). ويُعد ابن خلدون صاحب المقدمة أشهر من أرسى أصول هذا العلم وفق رؤية إسلامية في القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي "732 - 808 هـ" (1332 - 1406 م)، ولكن هذه المرجعية الإِسلامية لم تعجب أصحاب الميول العلمانية، مما جعلهم يقسمون جهد ابن خلدون إلى قسمين: قسم عقلاني وهو ما له صلة بالعلم، وآخر لا عقلاني وهو ما له صلة بالوحي والدين والعقيدة (¬4). أما في الغرب فأشهر من ارتبط به مصطلح علم الاجتماع هو الفيلسوف الفرنسي داعية الوضعية "أوجست كونت" في المنتصف الأول من القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، ثم تحول إلى ¬

_ (¬1) الموسوعة العربية العالمية 16/ 356. (¬2) الموسوعة العربية العالمية 16/ 358، وهناك تقسيمات أخرى قريبة من هذا، انظر: مقدمة في الإنسانيات والعلوم الاجتماعية، د. أحمد بدر ص 69 وما بعدها. (¬3) المرجع السابق (لموسوعة) 1/ 191. (¬4) انظر: منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية، محمَّد أمزيان ص 452 - 454.

مشروع كبير مع تلميذه اليهودي المشهور "دوركايم" ثم تلميذه "ليفي بريل" وكذا "ماكس فيبر" وغيرهم. وعادة ما توضع سلسة خاصة بهذا العلم تبدأ بسان سيمون ثم تلميذه كونت ثم تلميذه دوركايم ثم تلميذه ليفي بريل، ومن أهم ما يجمعهم في تقديمهم لعلم الاجتماع أن يكون بديلًا عمّا كان يقوم به الدين قبل عصر العلم. ومن خارج هذه السلسلة توجد أيضًا نظريات كان أشهرها ما جاء ممن تأثر بداروين "الدارونية الاجتماعية"، ومن أبرز أصحابها "سبنسر" (¬1)، وإن كان تأثير نظرية داروين ليس فقط في "الدارونية الاجتماعية" بل امتد إلى أغلب نظريات تلك الحقبة (¬2). وتوجد أيضًا نظريات اجتماعية ارتبطت باتجاه المادية الجدلية فيما اقترحه "ماركس" و"إنجلز" من نظرية اجتماعية، تجعل لعامل الاقتصاد الأثر الأبرز في التحكم بكل الأنماط والنظم الاجتماعية، ولها نسخة مطورة في كتابات "ماكس فيبر" (¬3). هكذا نجد عددًا من النظريات العلمية داخل علم الاجتماع سواء من الدائرة الضيقة لهذا العلم التي أسسها كونت ودوركايم وغيرهما، أو من خارجها مثل الدارونية الاجتماعية أو المادية الجدلية الماركسية، وجميعها يزعم أنها "نظريات علمية"، وكانت المرحلة (1890 - 1914 م) مرحلة الاستقلال الحقيقي لهذا العلم (¬4). ونظرًا لاختصاص علم الاجتماع بالمجتمعات البشرية بما في ذلك معتقداتهم وقيمهم وثقافتهم وآدابهم وفنونهم ووسائل عيشهم وطرائقها ومعارفهم وطرق تحصيلها، لذا تكثر النظريات حول هذه الموضوعات، وما يعنينا في المقام الأول النظريات الخاصة بالدين وما يسمونه الظاهرة الدينية. ومن الأمور التي تتفق عليها أغلب مدارس علم الاجتماع الحديثة زعمها النظر للدين من منطلق علمي، وأهم ما تذكره هذه النظرة العلمية بأن الدين مرتبط ¬

_ (¬1) انظر: تاريخ الفكر الأوروبي الحديث، رونالد. . ص 535. (¬2) انظر: النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، إيان كريب ص 13. (¬3) انظر: منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية ص 105 - 114، والموسوعة العربية العالمية 1/ 194 وما بعدها. (¬4) انظر: تاريخ الفكر الأوروبي الحديث، رونالد ص 535.

ب- علم النفس

بأوضاع أرضية، إما أنه راجع لعامل اقتصادي أو لأثر الطبيعة في التطور وإيجاد ظواهر مختلفة أو بسبب التفاعلات الاجتماعية أو غير ذلك مما سيأتي مناقشته بإذن الله في الفصل الثاني من الباب الثالث. ويعد علم الاجتماع بصورته العلمانية أحد أشهر العلوم التي احتك بها المسلمون وقت ظهورها ودعوة بعضهم إلى نقلها، وقد كان "دوركايم" مشرفًا على أحد أوائل رموز التغريب -طه حسين- في العالم الإِسلامي في الفترة التي بدأت تتهاوى فيها آخر دولة إسلامية كبيرة وتُقطّع أراضيها وتوزع غنيمة للمحتلين، في هذا الوقت يُشجع المتعلمون على تحصيل هذه العلوم أو تفرض عليهم. ومن المفارقات العجيبة: أن أول احتلال حديث لجزء من العالم الإِسلامي عبر حملة "نابليون" على مصر كان يصطحب معه مجموعة من السان سيمونيين أتباع سان سيمون أستاذ كونت، وقد بقي منهم مجموعة بعد خروجه استعان بهم "محمَّد علي" والي مصر آنذاك، وأما الاحتلال الثاني فقد كان بزعامة بريطانيا عام (1882 م) أرض النظرية التطورية الدارونية وهو عام موت "داروين"، وفيها كان اتصال مجموعة من المبتعثين بالمدرسة الفرنسية الاجتماعية وأشرف "دوركايم" على أحدهم، فعاصروا النموذجين: النموذج المؤسس مع "سان سيمون" والنموذج المجدد مع "دوركايم". ب- علم النفس: يدرس علم النفس السلوك والعمليات الذهنية (¬1)، ومنهجهم في ذلك مثل مناهج العلوم الأخرى غالبًا؛ "فهم يصوغون نظريات، تسمى أيضًا فرضيات، تعبر عن التفسيرات المحتملة لمشاهداتهم. ." (¬2). ورغم الجهود المعروفة في تاريخ الفكر البشري في هذا الميدان، إلا أن تحوله إلى مجال العلم بمفهومه الحديث، الذي يعتمد على مناهج وبناء النظريات بدأ في منتصف القرن الثالث عشر/ التاسع عشر وما بعده، لاسيّما بعدما أسس الفيلسوف الأمريكي "وليم جيمس" مختبرًا نفسيًا ومثله معمل الفيلسوف "فلهلم فونت" في ألمانيا. ¬

_ (¬1) انظر: الموسوعة العربية العالمية 25/ 315. (¬2) المرجع السابق 25/ 316.

وبسبب الاختلاف حول الموضوعات التي يجب دراستها في هذا العلم وكيف تدرس، انقسم علماء النفس إلى أربع مدارس أو مذاهب هي: "المدرسة البنيوية، والسلوكية، والجشطالتية، ومدرسة التحليل النفسي" (¬1). وهناك تطورات لحقت هذا العلم وإن كان أغلب المعاصرين يميلون إلى طريقة الانتقائية من بين ما سبقهم من مدارس ومناهج، وتبقى مدرستا: التحليل النفسي والمدرسة السلوكية الأشهر في مجال علم النفس والأكثر تأثيرًا في ميادين الفكر. ومن بين المشاكل المشتركة بين أغلب مدارس علم النفس المعاصرة إنكارها لحقيقة الروح المُقرّة في الدين، وتعد آراء ونظريات كل من "بافلوف" و"فرويد" أكثر ما اختُلف حوله في الفكر المعاصر. وكما أن أبرز مؤسسي علم الاجتماع الحديث يجعلون الدين ظاهرة اجتماعية، فكذا مع نظرية "فرويد" سيكون الدين عبارة عن ظاهرة نفسية أنتجها الإنسان من خلال عمليات لا شعورية يأتي ذكر نموذجها وأثرها في الفكر التغريبي في مبحث مستقل بإذن الله "الباب الثالث الفصل الثاني". ومهما تكن المسائل التي قدمها علم الاجتماع غريبة، إلا أنها تعد مألوفة في الفكر والفلسفة، بخلاف ما قدم في علم النفس مع "فرويد" ومدرسته فهي غير مألوفة، وأحدثت آثارًا في مسيرة العلم يجعلها البعض شبيهة بالأحداث التي صاحبت النظرية الكوبرنيكية أو النيوتنية أو الدارونية، و"فرويد" نفسه يجعل نظريته إحدى ثلاث صدمات أصابت الفكر الإنساني وولدت عنده الشعور بالنقص والقصور والخيبة وحطمت كبرياءه وغروره (¬2). ويعترف كثير من مؤرخي الفكر الغربي المعاصر ودارسيه بالأثر الكبير والخطير لـ"فرويد" في العلم والفكر والفن والمجتمع، وأهم ما يضاف إليه: نظريته العلمية في علم النفس، ويحتل فيها مفهوم الذهن اللاشعوري موقعًا عظيم الأهمية (¬3). ومن آثاره أن أصبح علم النفس بمفاهيمه الجديدة موضة العصر (¬4)، ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق 25/ 317. (¬2) انظر: التحليل النفسي من فرويد إلى لاكان، عدنان حب الله ص 6. (¬3) انظر: تاريخ الفلسفة الغربية، رسل، ترجمة الشنيطي ص 278، 280. (¬4) انظر: تشكيل العقل الحديث، برينتون ص 337.

وأصبح اسم "فرويد" كما يقول "سترومبرج" شائعًا ومألوفًا وامتد "تأثيره إلى ميادين التربية والتعليم والآداب والفنون والدين والفلسفة والأخلاق والثقافة الشعبية" (¬1). ومما صدم به "فرويد" المجتمع الغربي -بعد خروجه من الصدمة الدارونية- المكانة الكبيرة التي جعلها للجنس؛ فإن ما يحرك الإنسان ليس العقل فقط، بل هناك جانب لا عقلي أكبر أثرًا في توجيه العمل الإنساني يعود إلى الدافع الجنسي، وسار بنظرية "داروين" إلى أبعد مجال يمكن أن تصل إليه، فالإنسان مع "داروين" ما هو إلا صورة مطورة عن الحيوان، ومع "فرويد" يصبح "الإنسان مخلوقًا تسيّره الرغبات البهيمية، وقرر أن أجمل إبداعاته ومثله العليا إنما هي في الواقع نتاج شهواته السرية" (¬2). أما الدين فلم يرَ فيه فائدة لعمله، بل عدّه ظاهرة عُصابية مرضية نشأت بحسب نظريته من "عقدة أوديب" وهو يشابه في ذلك "ماركس" و"فيورباخ" و"دوركايم"، فالدين عند "فيورباخ" و"ماركس" يمثل استلابًا واستعبادًا ونوعًا من التعويض لوضع غير صحيح، وكذا هو مع "فرويد" فالمريض العصابي يجد في الدين وسيلة تعويضية، "وهذا الواقع يضع فرويد في معسكر أولئك المسمين "بالعقلانيين" وذلك من حيث كونهم أعداءً للدين، ويؤمنون بأن العقل السليم ينبغي أن يقنع ويكتفي بالنظرة الطبيعية إلى الكون". وهذه الصورة الفرويدية عن الدين فيها مزاجية ومكابرة؛ إذ هي بالمنهج العلمي غير مقبولة، وهذا ما اعترض عليه التيار الوضعي السلوكي: فمن ذاك الذي يعرف أين هي "عقدة أوديب" أو أحسّ بها، كما أن استدلاله ينقلب عليه: فإذا كان "فرويد" يقول: أن المرء متدين بسبب مرضه العصابي، فسيرد عليه المخالف: إن غير المتدين أو الملحد لم لا يكون للسبب ذاته أيضًا (¬3). هكذا دخلت العلوم الاجتماعية في قائمة العلوم العصرية ذات النظريات ¬

_ (¬1) تاريخ الفكر الأوروبي الحديث، رونالد. . ص 498، وانظر: مقدمة في الإنسانيات والعلوم الاجتماعية، أحمد بدر ص 77، وانظر: فكر فرويد، إدغار بيش ص 39، ترجمة جوزف عبد الله، وانظر: ما وراء الأوهام، إريش فروم ص 136، ترجمة صلاح حاتم، فرويد والتراث الصوفي اليهودي، باكان ص 21. (¬2) تاريخ الفكر الأوروبي الحديث، رونالد. . ص 500. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 502، بتصرف باستثناء ما بين القوسين.

ج- العلاقة بين الدين والعلوم البشرية من جهتي الخبر والشرع

المشهورة لاسيّما علمي الاجتماع والنفس (¬1)، وأصبحت نظرياتهما بدرجة تأثير العلوم الرياضية أو الطبيعية نفسها، ومما يلفت النظر بأن صاحِبَي مدرسة التحليل النفسي في علم النفس والمدرسة الاجتماعية الدوركايمية من اليهود، مما يدفع كثيرًا من الدارسين إلى الربط بين أخلاق اليهود وضلالهم ومشكلة وجودهم داخل إطار أوروبا النصرانية ومذاهبها الفكرية وبين ما يقدمونه من نظريات في العلوم الاجتماعية، وليس ذلك الاتهام من قبل أهل الدين فقط بل قام من قبل أهل العلمنة كالذي شاهدناه في دول أوروبية علمانية طردت فرويد وغيره، وأكتفي هنا بوضعها في إطارها التاريخي ولها جانب تحليلي في فصل قادم بإذن الله. إلا أن ما يميز العلوم الاجتماعية عن العلوم الرياضية أو الطبيعية أنها تضع الدين في صلب اهتمامها، فالدين هو قضية يمرّ بها كل إنسان شاء أم أبى، وهي قضية تعرفها كل المجتمعات في الوقت نفسه، والإنسان والمجتمع هما موضوعا علمي النفس والاجتماع. ج- العلاقة بين الدين والعلوم البشرية من جهتي الخبر والشرع: نلاحظ بأن القسمين: العلوم الرياضية أو الطبيعية والعلوم الاجتماعية تلامس الدين أو موضوعاته وأصوله ومفاهيمه بأشكال مختلفة، إلا أن العلوم الرياضية والطبيعية بما فيها علم الحياة أقرب للقضايا الكونية الخبرية، أما العلوم الاجتماعية فهي تلامس القضايا الشرعية أكثر من ملامستها الكونية. فنجد مثلًا بأن وجود الكون وقصة خلقه ووجود الإنسان وقصة خلقه، والأحداث الطبيعية من رياح ومطر وزلازل، ومن تفاعلات بين العناصر المادية، أو ما يحدث في الكائنات الحية من أحوال، كل هذه المسائل مما نجد حديثًا عنها في الدين، وهي أيضًا مجال عناية العلوم الطبيعية. أما الأمور الشرعية المتعلقة بالواجب والمحرم والقيم والعبادات والمعاملات وغيرها، فهذه مسائل اعتنى بها الدين على مستوى الفرد أو الجماعة، وهذا النوع أيضًا أصبح مجال عناية العلوم الاجتماعية. ومما يلاحظ في أثناء دراسة الفكر الغربي ومتابعة تطوراته أن ميدان الشرع ¬

_ (¬1) انظر: الفلسفة المعاصرة في أوروبا، بوشنسكي ص 55 - 57.

[2] نظريتا النسبية والكوانتم وثورة جديدة في الفيزياء

كان مجال نقد فكري وفلسفي ولم يُدخل في مجال العلوم الحديثة بصورة واضحة، إلا في نهايات القرن التاسع عشر، ثم العشرين (13 - 14 هـ) وذلك في إطار العلوم الاجتماعية، بخلاف ميدان الأمور الكونية؛ فقد احتك بها علماء الطبيعة -المؤمن منهم والملحد وفق مصطلحاتهم- من القرن السابع عشر (11 هـ). وبسبب سوء العلاقة بين المجال الديني في أوروبا وبين مجالي الفكر والعلم الحديث فقد امتدّ ذاك التوتر في العلاقة إلى ميدان الموضوعات المشتركة بين الدين من جهة والفكر والعلم من جهة أخرى، ودائمًا يوظِف الأقوى أصوله في الانتقام من الآخر، ومنذ انتصار التيار العلماني وهو يوظف كل المستجدات الفكرية أو العلمية أو الأدبية والفنية في إضعاف الدين وإقصائه، ساعدهم في ذلك الانحراف الكبير في الدينين المعروفين في أوروبا، وقد كان استثمار العلوم الطبيعية ونظرياتها في الانتقاص من المعارف الكونية الدينية ونقدها، بينما كان النصيب الأكبر في انتقاص الشرائع من مهمة العلوم الاجتماعية ونظرياتها، والأمر في الباب يرجع إلى الاستثمار الأيديولوجي والتوظيف الخاطئ. وبالرغم من وجود قضايا مشتركة بين القسمين: الكوني والشرعي، إلا أن الغالب هو ملامسة العلوم الطبيعية للأمور الكونية، وملامسة العلوم الاجتماعية للأمور الشرعية، وهذه القسمة ستوجه مسيرة البحث في دراسة الاستثمار السيئ للنظريات العلمية من تيار عربي في مواجهة الإِسلام أو انتقاصه وإقصائه، حيث نراهم يناورون بين القسمين ومفاهيمهما دون احترام أو تعظيم لدينهم، فلا يرجعون له ولا يتحاكمون إليه؛ فإن الله سبحانه قد أخبر بأن له الخلق والأمر، فقال -تعالى-: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54]، فالخلق يتعلق بالأمور الكونية والأمر خاص بالأمور الشرعية. [2] نظريتا النسبية والكوانتم وثورة جديدة في الفيزياء: لقد شهد ميدان العلوم الطبيعية تطورًا كبيرًا في هذا القرن، وكان من أهمها ما حدث في ميدان الفيزياء من نظريات واكتشافات، ولما لها من أهمية واسعة أثر فإني سأبسط فيها القول أكثر من غيرها؛ وذلك أنها ذات تأثير كبير خارج إطارها، وتمثل ثورةً كبيرةً في مجال العلم، وتعد صورة لذروة العلوم المعاصرة؛ لهذا وغيره تصبح نموذجًا مناسبًا وجديدًا لعلاقة العلم بغيره.

أ- تحولات في الفيزياء "أشياء صغيرة تدفع العلم نحو التواضع"

أ- تحولات في الفيزياء "أشياء صغيرة تدفع العلم نحو التواضع": كان "ديكارت" -أحد مؤسسي الفكر الغربي الحديث- يرى بأن الرياضيات هي معيار الحقيقة، وقضاياها صادقة لا تحتمل الخطأ، إلا أن مشكلتها هي عدم تناسبها مع الواقع الطبيعي دائمًا، وصوريتها المفرطة مما جعلها أنسب للتيارات المثالية، ولهذا قلل من قيمتها التيار التجريبي. وقد وجد التيار التجريبي والمادي في تطور الفيزياء مع "جاليليو" و"نيوتن" ضالته فأصبحت فيزياء نيوتن المقياس الأنسب للحقائق الواقعية، ومثلت دعمًا كبيرًا للاتجاه المادي الذي ظهر في القرن (12 هـ- 18 م) وما بعده، وبقيت كذلك أكثر من قرنين. ورأى الكثير في القرن (13 هـ - 19 م) -عصر الوضعية- بأن العلم سيكون البديل الأمثل لبيان الحقائق، وأن أثر الدين أو الميتافيزيقا أو غيرهما قد انتهى (¬1)، وأن مقاييس العلم هي المقاييس "الصحيحة" ومناهجه هي الوحيدة الجديرة بالاحترام والقبول. وهكذا أصبح المقبول في باب الحقائق هو ما تقبله الصورة النيوتنية للعلم سواء قال ذلك نيوتن أو مما بُني على نظرياته، والمرفوض هو ما لا تقبله. وأصبحت المفاهيم الفيزيائية النيوتنية لا يعتريها الخطأ أو الوهم أو النسبية، وكان من أهم مفاهيمها القول بالأثير وهو ماده تملأ الكون ثابتة، مستدلًا على ذلك بأن الضوء من طبيعة موجية، ولابد من مادة ينتقل عبرها، فكان المقترح لهذه المادة هو مفهوم الأثير، ويعد مقياسًا تقاس بواسطته حركة الأشياء، ويتبع ذلك تصوره لوجود الزمان المطلق والمكان المطلق وغير ذلك من المفاهيم المرتبطة بمفهوم الأثير. وخرجت تلك المفاهيم من دائرة الفيزياء والعلوم الطبيعية إلى دائرة الفكر والفلسفة والمذاهب الأيديولوجية، حيث شُيّدت على تلك الفرضيات العلمية مذاهب فكرية ينزع أغلبها نحو الإلحاد والمادية وإقصاء الأصول الدينية، وبلغت ذروتها في النزعة العلموية والمذهب الوضعي في المنتصف الأول من القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، والمذهب الماركسي والداروني في نصفه الثاني "الثالث عشر الهجري" مع تيار إلحادي ومادي، من هنا وهناك سبق ذكر بعضها في أثناء الحديث ¬

_ (¬1) انظر: تاريخ الفكر الأوروبي الحديث، رونالد. . ص 509.

ب- تجربة مايكلسون ومورلي ومولد النظرية النسبية

عن القرن التاسع عشر، والجميع يزعمون اعتمادهم على العلم، وفي ذلك تقول مجلة علمية في تلك المرحلة: "لقد أصبح رجال العلم أنبياء العلوم التقدمية" (¬1). ورغم أن جملة من علوم لم تصل لدرجة اليقين كما حدث لعلم الفيزياء، إلا أنها أصبحت أوثق العلوم عند أهلها، والعلوم الأخرى واثقة من اللحاق بها، والوصول إلى ما وصلت إليه. ولكن وفي ذروة تحمّس العلوم لتقليد الفيزياء وذروة الغلو الوضعي تأتي ضربة موجعة لمجموعة من الحقائق المطلقة وبعض المفاهيم الصلبة في الفيزياء الكلاسيكية، وجاءت الضربة من داخل الفيزياء ذاتها ومن خلال أمور صغيرة ذات أثر كبير، وكأن ذلك التيه والغرور العلمي وما بني عليه من مذاهب في حاجة إلى درسٍ موجع من أمور صغيرة: قد يكون عملًا بسيطًا يقلب الأمور، أو أن الأمر صغير في العين ولكنه أكبر مما نتخيل، وهما أمران وقعا في النشاط الفيزيائي فقلب أمورها بشكل عجيب، وزلزلا الفيزياء اليقينية لتتحول إلى اللايقين أو النسبية، وهما: الأول: تجربة "مايكلسون ومورلي" عام (1887 م) التي قضت على مفهوم الأثير. الثاني: اكتشاف عالم الذرة المدهش الذي لا يخضع لقوانين الفيزياء المعهودة. فها هي تجربة واحدة تقضي على مفهوم أساسي في أصلب العلوم الحديثة، وها هو اكتشاف لكائن صغير للغاية يُسمى "الذرة" يفتح المجال للشك في كثير من المسلمات السابقة في ميدان العلم. ب- تجربة مايكلسون ومورلي ومولد النظرية النسبية (¬2): ليس المقصود هنا -كما في غير هذا الموضع- عرض الجانب النظري ¬

_ (¬1) تاريخ الفكر الأوروبي الحديث ص 509. (¬2) المراجع التي تحدثت عن هذه التجربة وأثرها كثيرة أذكر منها: الموسوعة العربية العالمية، 25/ 218، مدخل إلى فلسفة العلوم، محمَّد الجابري ص 339، أينشتين، محمَّد مرحبا ص 76 وما بعدها، أينشتين والنسبية، مصطفى محمود ص 37، من نظريات العلم المعاصر، محمود زيدان ص 33، فلسفة العلوم، بدوي عبد الفتاح ص 246، العالم بين العلم والفلسفة، جاسم العلوي ص 80. وقد بسطه د. السيد شعبان في كتابه برونشفيك وباشلار. . . . ص 106.

1 - الأثير لا يصمد أمام التجربة

العلمي من التجارب والنظريات أو الجانب التجريبي التطبيقي منها، وإنما المقصود توضيح المعاني المرتبطة بها ذات الأثر في مسيرة العلم ونظرياته ومفاهيمه، وأثر ذلك في مجالات أخرى، وهذه الطريقة أمر معتاد في مثل هذه الدراسات. 1 - الأثير لا يصمد أمام التجربة: كانت مشكلة قياس حركة الأجسام ومعرفتها من مهام الفيزياء، فعندما يسير الماء في نهر، فمن الممكن قياس سرعته مقارنة باليابسة، وعندما يسير أحدنا بسيارته فتقاس سرعته بالأرض الثابتة تحته، وهكذا، ولكن إذا كانت الأجرام السماوية تتحرك وكذا الضوء فكيف تقاس؟ ما الشيء الثابت الذي نعتمد عليه في القياس؟ كان المقترح في الفيزياء الكلاسيكية، فيزياء نيوتن، مادة الأثير، وذلك أن الضوء عندهم عبارة عن موجات، ولابد في حركته الموجية من مادة يتحرك فيها، وكان هذا دليلًا بارزًا على وجوده، ومن ثمّ جعله مقياسًا للحركة حيث "تبنى علماء ذلك الزمان النظرية التي تنص على أن الأثير الذي تتحرك خلاله كل الأشياء في الكون حسب اعتقادهم هو إطار إسنادي غير متحرك. وبالتالي يتم الحكم على كل الحركات الأخرى بالنسبة لهذا الإطار الإسنادي. وقد كان التصور أن الأثير هو مائع أو صلب مرن، أو أنه يملأ كل الفراغ الموجود بين الذرات التي تكوّن المواد. وأنه لا يقاوم مطلقًا حركة الأرض" (¬1)، وقامت مفاهيم مهمة على هذا الفرض، ومثّلت آنذاك حقائق يقينية، واستقرت فترة زمنية طويلة. وجاءت المفاجأة عبر تجربة قام بها عالمان في هذا الباب هما "مايكلسون" و"مورلي" عام (1887 م) التي قد قام بها "مايكلسون" قبل ذلك عام (1881 م)، فكانت نتيجتها إثبات عدم وجود الأثير، مع العلم أن افتراض وجوده أو عدمه تشكل أهمية داخل الفيزياء وخارجها، ويظهر ذلك واضحًا في صدمة العلماء وحيرتهم من نتيجة هذه التجربة، "فقال قوم: إن في الأمر سرًا. واتهم آخرون ¬

_ (¬1) الموسوعة العربية العالمية 25/ 218.

إحدى التجربتين. وكذلك انقسم العلماء على أنفسهم زهاء ربع قرن وكانوا شيعًا وأحزابًا لا يدرون ما هم فاعلون، فهم أمام أمرين: إما أن يتخلوا عن نظرية الأثير "التي فسروا بها ظواهر كثيرة: كهربائية وكهرطيسية وضوئية" لعجزها عن اكتشاف حركة الأرض فيه، وإما إن يتخلوا عن نظرية كوبرنيقوس التي قامت التجربة على صحتها والقائلة بأن الأرض متحركة. لقد كان الرجوع إلى نظرية بطليموس القائلة بسكون الأرض أحب إلى نفوس كثير من الفيزيائيين من القول بأن الأمواج الضوئية والأمواج الكهرطيسية -يمكن وجودها من غير وسط تتموج به. . . ." (¬1)، أو كما يقول مصطفى محمود: "وكان معنى هذا -أن يسلم العلماء بأن نظرية الأثير كلام فارغ. . ولا وجود لشيء اسمه الأثير. . أو يعتبروا أن الأرض ساكنة في الفضاء. وكانت نظرية الأثير عزيزة عند العلماء لدرجة أن بعضهم شك في حركة الأرض واعتبرها ساكنة فعلًا. ." (¬2). وبقدر ما سببت هذه التجربة من أزمة داخل دائرة العلم وإحراج لأتباع هذا الفرض حتى إن القول به أصبح بمثابة فضيحة كما يقول "سترومبرج" (¬3)، إلا أن الفضيحة أكبر عند آخرين زعموا أن العلم هو الوحيد القادر على قول الحقيقة، وأن الفيزياء هي أعظم علم ظهرت فيه الحقيقة، وما على العلوم الأخرى إلا الاقتداء بها، وأن مفاهيمها من المسلمات التي لا جدال حولها، ومن هنا بدأت مذاهب فكرية تدعم تصوراتها بالاستناد على هذه المعطيات العلمية. ولكن هذا الاكتشاف يعصف بمفهوم كبير في الفيزياء وهنا يبرز الحرج والفضيحة في هذا الميدان؛ إذ سيقال: أنتم بنيتم رؤيتكم المذهبية على دعامة تزعمون صلابتها، وأقصيتم كل من خالفكم، وإذا بنا نرى بعض ما تعتمدون عليه ينهار، فماذا أنتم قائلون للناس بعد اليوم؟! هذه صورة من الفضيحة المرتبطة بهذا الكشف، مع العلم بأن ما يطلق عليه عادة بالزلزال الذي نزل بالعلوم الطبيعية لم يكن هو الزلزال الوحيد؛ إذ امتد إلى ما هو أوثق منها وهو العلوم الرياضية وذلك بعد ظهور هندسة جديدة -غير ¬

_ (¬1) أينشتين، د. محمَّد مرحبا ص 82. (¬2) أينشتين والنسبية، مصطفي محمود ص 37 - 38. (¬3) تاريخ الفكر الأوروبي الحديث ص 510 - 511.

2 - من التجربة إلى النظرية النسبية

هندسة إقليدس المعروفة من قرون -هي هندسة ريمان وغيره اللا إقليدية الجديدة (¬1). وقد كان المذهب المادي أكثر المذاهب الفكرية انزعاجًا من هذه الاكتشافات؛ لأنه بني أيديولوجيته الإلحادية والمنكرة لعالم الغيب على قوة العلوم الطبيعية المادية حيث يرى فيها دلائل على مادية العالم وآليته وحتميته. ثم هو يصطدم بتجربة صغيرة تزلزل أهم أدلته وتشكك في مشروعية استدلاله واستغلاله لثمرات العلوم. 2 - من التجربة إلى النظرية النسبية: بدأ التساؤل العلمي: إذا كان الأثير خطأً علميًا، فما البديل الذي يمكن قياس حركة الأشياء بالاستناد عليه؟ كان هذا أحد الأسئلة التي فتحت الأجواء لميلاد أشهر نظريات القرن الرابع عشر/ العشرين، وهي النظرية النسبية، وعادة ما توضع هذه التجربة مفتاحًا لميلاد النظرية النسبية. كان جواب ألبرت أينشتين أنه لا يوجد مقياس، وأن حركة الأشياء نسبية، فكل حركة إنما تقارن بغيرها بحسب مكان الملاحظ. فعندما أكون على الأرض فأنا أقيس حركة الأشياء وألاحظها بحسب مكاني، ولو كنت على القمر مثلًا لكان مصدر ملاحظتي هو وضعي على القمر، وسأشاهد أمامي الأرض مع بقية الأجرام، وهكذا (¬2). فالمُلاحِظ العلمي لا يستطيع ملاحظة الشيء المطلق من مكان أو زمان أو كتلة أو غيرها من المفاهيم -هذا إن وجدت- وإنما هو يلاحظ هذا الشيء النسبي. ولعل هذا الكلام يذكرنا بنقاشات داخل التراث الإِسلامي ربما تساعدنا على فهم مثل هذه النظريات وأبعادها؛ ومن ذلك ما كان يردّ به شيخ الإِسلام ابن تيمية على استدلال نفاة العلو قائلين بأن تصور العلو لا يتوافق مع القول بكروية الأرض؛ لأن العلو لمن هم في القطب الشمالي مقابل لعلو من هم في القطب ¬

_ (¬1) انظر حول أثر هذه المستجدات الرياضية: في فلسفة العلم، د. إبراهيم مصطفى ص 85 وما بعدها، وانظر: مدخل إلى فلسفة العلوم. .، د. الجابري ص 73 وما بعدها. (¬2) انظر مثلًا: فلسفة العلوم، د. بدوي عبد الفتاح ص 245 - 248.

الجنوبي. فكان من نقاشه لهم: لابد من التفريق بين جهتين، جهة إضافية وجهة حقيقية، فأما الإضافية فهي النسبية بمفهومات عصرنا، وأما الحقيقية فهي أن الأفلاك جميعها ما فوقها هو العلو وما في جوفها هو السافل. فالنسبي بحسب وجودنا نحن على الأرض ولكنه ليس هو العلو المطلق، وهو قول بنسبية المكان الخاص بعالم المخلوقات (¬1). وذكرت هذا المثال لنعرف فقط أبعاد المشكلة وآثار المسألة بمثال توضيحي تراثي، وإلا فإن أصحاب النظرية النسبية قد يكتفون بنسبية المكان وينكرون ما سوى ذلك أو يسكتون عنه. لقد انطلق "أينشتين" في بناء نظريته النسبية على هذا الفرض "أن كل شيء نسبي" وأخرج نظريته بداية القرن الرابع عشر/ العشرين، وباتفاق الدارسين للفكر المعاصر بأنها أشهر نظرية في هذا القرن، مما يجعلها نموذجًا جيدًا لدراسة أثر نظريةٍ ما في الفكر والمجتمع، وأصبح يقال مثلًا: "إذا أردت أن تفهم القرن العشرين فعليك بأنشتين أولًا" (¬2). وسأختار تعريف "الموسوعة العربية العالمية" بها، وفيها: "النسبية نظرية فيزيائية للعالم الألماني أينشتاين، استولت على خيال الشخص العادي أكثر من أي نظرية فيزيائية أخرى في التاريخ. ومع ذلك فإن نظرية النسبية، على عكس الكثير من نظريات الفيزياء، لا يمكن أن يفهمها الشخص العادي بسهولة. . . . وهذه النظرية خاصة بالكون، فهي تتناول معظم الأفكار الأساسية التي نستخدمها لوصف الأحداث الطبيعية. وهذه الأفكار تختص بالزمن والفضاء والكتلة والحركة وتتألف النظرية من جزئين رئيسيين: الأول نظرية النسبية الخالصة، أو المقيدة، التي نشرها أينشتاين عام (1905 م). أما الثاني فهو نظرية النسبية العامة التي قدمها أينشتاين عام (1915 م) " (¬3). وقد كانت الأفكار الأساسية المتعلقة بوصف الأحداث الطبيعية قبل النظرية النسبية قائمة على صورة العلم النيوتني، تقوم على إثبات الأثير والزمان المطلق والمكان المطلق والجاذبية والحركة وغيرها، فتحول الزمان والمكان المطلقان إلى زمان ومكان نسبيين، وأُسقط مفهوم الأثير من العمل الفيزيائي، وبدل القول بالجاذبية ¬

_ (¬1) انظر: درء تعارض العقل والنقل، شيخ الإِسلام ابن تيمية 6/ 327 - 340. (¬2) أينشتين، محمَّد مرحبا ص 5. (¬3) الموسوعة العربية العالمية 25/ 217، وانظر: درس الإبستمولوجيا، عبد السلام وصاحبه ص 163.

3 - علاقة النظرية بالواقع المعاصر

قيل بالمجال الذي تحدثه النجوم حولها، يشبه في ذلك ما يصنعه المغناطيس ببرادة الحديد حوله. 3 - علاقة النظرية بالواقع المعاصر: لا يستغرب من نظرية علمية تنال كل هذه الشهرة أن لا تحدث في ثقافة عصرها آثارها الخاصة بها، فقد أصبحت حديث الناس "وغدت كلمة نسبي تلوكها جميع الألسنة وتتندر بها" (¬1)، وهي حديث أغلب الصالونات الثقافية في الغرب (¬2)، وما زالت شهرتها إلى الآن (¬3)، ويكفي أن نتذكر القنبلة النووية والطاقة الذرية لتقودنا مباشرة إلى "أينشتين" الذي كان لمعادلاته الأثر الواضح في اكتشافها. وكما كان النموذج في القرن الثامن عشر (12 هـ) هو نظرية "نيوتن" وأثرها، وفي القرن التاسع عشر (13 هـ) نظرية "داروين" بأثرها، فأبرز النظريات في القرن العشرين (14 هـ) هي نظرية "أينشتين" ومارست أثرها كغيرها، وأصبحت منذ ظهورها مجال استقطاب واسع لكل فعاليات الفكر المعاصر، وسأقف على نوعين من آثارها، الأول يتعلق بما أحدثته من شرخ في شعور الناس نحو العلم ولاسيّما في الثقة المطلقة والعامة به في بابي العلم والعمل، فما قدّمه التيار العلموي المغالي في تقديس العلم يتعرض الآن لمساءَلة، فقد قالوا: إن معلوماته هي الحقيقة وأنه قادر على النفع المطلق في باب الحياة العملية. والثاني يتعلق بأثرها في تيارات العصر. النوع الأول: الشعور الجديد نحو العلم: لقد نجح العلم الحديث في فرض وجوده في المجتمعات الحديثة، وارتسمت له صورة حسنة في أذهان الناس، ومن أهم ما ارتسم أمران، الأول: أن العلم يعبر عن الحقائق كما هي، وأن معرفته يقينية وصادقة لا يعتريها الشك، ويكفي أن يقال عن قضية: إنها علمية لتجلب للسامع الثقة بها، ولكن الوضع الآن تغير مع النظريات الجديدة. أما الثاني: فهو أن العلم سيقدم السعادة ¬

_ (¬1) أينشتين، د. محمَّد مرحبا ص 40. (¬2) انظر: فلسفة العلوم، د. بدوي عبد الفتاح ص 259. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 254.

للبشرية، وسعادة الناس مرهونة بمزيد من تقدمه والاعتماد عليه، ولكن واقع الأمم التي ازدهرت فيها هذه العلوم يقول غير ذلك، فقد انهارت كثير من الآمال المعقودة بالعلم الحديث بعد أن أظهر العلم وجهًا آخر له تمثل في صور من الموت والدمار والخوف. 1 - انهيار اليقين العلمي القديم: لقد انهار اليقين القديم المرتبط بالثورة العلمية والمذاهب الفكرية المدعية الوصول للحقائق النهائية في ضوء العلم الحديث، وهذا أمر اتفقت عليه أغلب الدراسات التي تحدثت عن نظرية النسبية، فقد أحدثت النسبية تغييرًا جذريًا في كل تلك اليقينيات، وكما في الموسوعة العربية العالمية "لقد غيرت النسبية كل المفاهيم الفلسفية والفيزيائية عن الفضاء والزمن. وقد أثرت في تصوراتنا وأحاسيسنا الحدسية عن العوالم البعيدة والنجوم وكذلك عن عالم الذرة الدقيق. وما زال بعض هذه الشكوك أو التساؤلات موجودًا" (¬1)، وأثبتت النظرية للجميع بأن العلم مهما بلغت درجة اليقين فيه، وثقة الناس به، فهو في حاجة إلى المراجعة دومًا، ونحن نراه يراجع كل المفاهيم الكبيرة التي دارت حولها الفيزياء ومن خلفه العلوم الطبيعية والفلسفة، سواءً أصاب في ذلك أم أخطأ، لا يهمنا من ذلك إلا أن العلم المطلق قد ولّى زمانه وما بقي إلا العلم النسبي المتواضع في حركته ونتائجه. ولكن ليس معنى ذلك بأن العلم لا يملك حقائق صلبة صادقة، وأنه لا ينطلق من أرضٍ صلبة، وإنما المراد بأن حقائقهُ نسبية فقط وغير مطلقة، والنسبية هنا نسبية فيزيائية لا نفسية حتى لا تصبح المسألة خاضعة لأهواء ورغبات؛ أي: أن الأفراد عند ملاحظتهم لأمرٍ ما، من مكانٍ مشترك، فهم لا يختلفون في تلك الملاحظة غالبًا، ولكن لو كانت الملاحظة من مكانين غير مشتركين فإن القياسات ستختلف (¬2). ومن الأمثلة الطريفة في باب النظريات التي أعادت النسبية تقديمها من جديد؛ الاختلاف حول نظريتين في الفلك: نظرية "بطليموس" القائلة بأن الأرض ¬

_ (¬1) الموسوعة العربية العالمية 25/ 221. (¬2) انظر: من نظريات العلم المعاصر. . . .، زيدان ص 38.

هي المركز وتدور حولها الشمس، ونظرية "كوبرنيكوس" القائلة بأن الشمس هي المركز وتدور حولها المجموعة الشمسية، حيث تصبح النظريتان ذات وجاهة؛ لأن كل واحدة صحيحة بحسب معيار أصحابها ومنطلق ملاحظتهم، ويصبح الأمر عبارة عن فرض أحدهما أيسر من الآخر كما سبق أن ذكرناه عن "هنري بوانكاريه"؛ فدوران "الأرض حول الشمس لا يخرج عن كونه فرضًا أيسر من الفرض القديم وأقرب تناولًا، ولكنه ليس أصح منه؛ لأن فكرة الصحة تتضمن فكرة الإطلاق" (¬1)، ولأن النظريات الرياضية والعلمية هي في جوهرها -كما يرى- اصطلاحية وفروضًا ميسرة (¬2)، وهذه رؤية بارزة في مدرسة "نقد العلم" المعروفة في الفكر المعاصر. وكذا كان الأمر مع فروض النسبية الجديدة ومن أهمها "تكافؤ كل النظم الإحداثية في وصفها للظواهر الفيزيائية" (¬3)، ومما يعنيه "أنه لا فرق بين السكون والحركة المنتظمة. ولولا مقارنتنا الدائمة بين الشمس والأرض، ما عرفنا أن أرضنا تتحرك. لذلك، لم يخطئ علم الفلك القديم حينما تصور أن الأرض هي المركز الثابت للكون. فما الفرق بين أن تكون الأرض تتحرك حول الشمس أو العكس، لا شيء!! المهم هو أين يقف الراصد. ومن ثم، فنظام كوبرنيقوس ليس بأصح من نظام بطليموس، وإنما فحسب أبسط منه. بمعنى أن الأقرب إلى طبائع الأشياء أن يدور الصغير حول الكبير، وليس العكس" (¬4). وبسبب اعتماد الماديين على النسق النيوتني ونظرياته وبناء مذهبهم المادي على ذلك النسق فقد رفضوا هذا الرأي النابع عن نظرية النسبية، ورأوا -بحسب المفكرين السوفييت- بخطأ النسبية في مساواتها بين النظامين البطليموسي والكوبرنيقي، وأن ذلك مكيدة من قبل "أينشتين" قصد بها مناهضة المادية، ويقترح أحدهم تدميرها حتى تتخلص من هذه الآراء المثالية الرجعية الموجودة فيها (¬5). ¬

_ (¬1) أينشتين، د. محمَّد مرحبا ص 75، ومثل هذا الكلام يدور داخل فلسفة العلم وهو غير مقبول خارجها. (¬2) انظر: موسوعة الفلسفة، بدوي 1/ 386 - 388. (¬3) فلسفة العلوم، بدوي ص 249. (¬4) المرجع السابق ص 249 - 250. (¬5) انظر: المرجع السابق ص 264 - 265.

ومن المفيد هنا إبداء وجهة نظر تستدعيها هذه الأحداث حول النسبية عمومًا وحول نسبية النظريتين المفسرتين لحركة الأجرام السماوية: فإذا كان هذا النزاع حول النظريتين ما زال قائمًا داخل الإطار العلمي فضلًا عن الفلسفي والفكري، فلماذا يُصرّ قوم على إعطاء حكم مطلق بصحة إحداهما ولاسيّما نظرية كوبرنيكوس! ألم يكن من الأفضل القول بأن هذه النظرية القصد منها التفسير، وأنها أيسر في شرح الظواهر الكونية وحركة الأجرام السماوية، على أنها ليست هي الحكم النهائي والمطلق؛ لأن هذا في ظل المستجدات النظرية أصبح صعبًا. وهذا يُظهر في الوقت نفسه حجم الخطأ الذي مارسه تيار عريض في الفكر الحديث عند قيامه باستثمار نظرية الفلك الحديثة في ادعاء كذب أو خطأ العقائد الدينية حول الظواهر الكونية، ويظهر حجم الأهواء في ذلك أيضًا، فمن المهم قبل وضع تلك النظريات في مواجهة الدين التحقق من كل جوانبها. ووجهة النظر هذه خاصة بأولئك القوم الذين فرحوا بتلك النظريات، وادعوا أنها حقائق مطلقة واستثمروها في التشكيك بأمور دينية، بزعمهم وجود تعارض بين حقائق العلم والدين، وينثرون النظريات العلمية حول الكون باستسهال عجيب ولاسيّما ممن هم خارج دائرة التخصص العلمي، وإذا بالأمر أعقد من ذلك بكثير وأعسر مما تصوروه، وأن أمامهم مهمة كبيرة لابد من إنجازها قبل زعم التعارض، وهي إثبات أن النظرية حق مطلق، ثم إثبات أن الدين يقول بهذا الأمر المخالف، ومن ثم إثبات عدم إمكانية الجمع بينهما، ولكن الأمر مع أصحاب الأهواء عكس ذلك، فهم ما إن يروا ما يناسبهم حتى تجدهم من المسارعين في الخوض فيه دون إعطاء الأمر حقه من التبيّن والتحقق العلمي. 2 - انهيار الآمال الجميلة حول العلم: رأينا في القرن التاسع عشر (13 هـ) نزعة وضعية ترى بأن مستقبل البشرية هو مع العلم، وأن التقدم أمر حتمي يرتبط بتجاوز الدين والميتافيزيقا نحو العلم، وأن العلم سيحل كل المشاكل المعيقة للحياة السعيدة، وسيجيب عن كل الأسئلة المحيرة. وقد تقبل البعض وعلى مضض الحضيض الذي وضعت الدارونية الإنسان فيه في النصف الثاني من القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، على أمل أن العلم

سيحل هذه المشكلة، فالإنسان وإن كان حقيقته حيوانًا متطورًا بحسب نظريته، إلا أن لديهم أملًا بأنه بالعلم سيتطور ويصارع ويعيش حياة أفضل. وصاحبَ ذلك ما يراه الناس من تطور تقني متسارع واكتشافات صناعية مذهلة، أغلبها يصب في مصلحة الإنسان ونفعه، أنستهم نسبيًا الحضيض الذي وضعهم فيه. إذًا فالعلم كما يتوهمون هو عقيدة المستقبل، وهو الوحيد القادر على إسعاد البشر. في جوٍّ متفائل كهذا جاءت اكتشافات جديدة خيبت الآمال وأوجدت من الآلام أكثر بكثير مما كان يتوقع من العلم، وما زال هذا النوع من الاكتشافات في ازدياد. فمن بين مكتشفات "أينشتين" ما توصل إليه من علاقة بين الكتلة والطاقة، وليس المقصود بحث جانبها العلمي هنا بقدر أن المقصود التأمل في علاقتها بالنظرة المتفائلة التي أسقطت من حسابها كل شيء حتى الدين والقيم مكتفية بالعلم القادر على سدّ حاجاتنا. فقد توصل "أينشتين" من خلال دراسته لمفهوم الكتلة وعلاقتها بالطاقة في ضوء التصور النسبي الجديد إلى معادلة حول تلك العلاقة، صُنع على أساسها فيما بعد القنبلة الذرية. فبحسب هذه المعادلة فإنه يمكن استخراج طاقة مهولة من جرام واحد، فإن أردت أن تعرف قدر طاقة من جرام واحد من "اليورانيوم" مثلًا، فما عليك سوى ضرب هذا الجرام في مربع سرعة الضوء لتخرج لك كمية هائلة من الطاقة يمكن أن تحرق بها مدينة كاملة عن بكرة أبيها، كما يمكن أن تزود هذه المدينة بوقود من هذا "الجرام" لمدّة سنة (¬1)، وبِحُسبة بسيطة للمقارنة، فإن هذا "الجرام الواحد" يعطينا طاقة "حرارية وضوئية" تعادل تلك التي نحصل عليها بإحراق ثلاثة آلاف طن من الفحم الحجري (¬2). إن هذا الاكتشاف العجيب يُعد جزءًا من عالم الفيزياء الحديثة، وهو يفتح أبوابًا من النقاشات ما زال بعضها مستمرًا إلى اليوم، وكان الأصل أن يكون أولها الاعتراف بالخالق سبحانه وتعظيمه والإيمان به؛ فإن وجود مثل هذه الحالة لهي كافية لإيقاظ القلب وتذكيره بربه، فإذا كان الجرام الواحد يخرج منه كل هذه الطاقة المذهلة الكافية لمسح مدينة من على وجه الأرض أو إعطائها ما يكفي من ¬

_ (¬1) انظر: أينشتين والنسبية، مصطفى محمود ص 65 - 66. (¬2) انظر: مدخل إلى فلسفة العلوم، الجابري ص 348.

الطاقة لتعمل أياما كثيرة، وهو في الوقت نفسه مارد خطير فيكفي إخراجه من مخبئه الذي خلقه الله فيه حتى يصبح مرعبًا ومخيفًا بما في ذلك الاستخدامات السلمية، والأعجب من ذلك صعوبة إعادته إلى حالته الوادعة المسالمة مما يدفع بالدول المنتجة له إلى دفنه في بلاد فقيرة دون علم أهلها ليلوث ترابهم وماءهم ومزروعاتهم سنين عديدة. أما كان هذا الجرام كافيًا لإيقاظ القلوب الميتة الهاربة من الله ومن الإيمان به لتعود إليه؟! وهذا وهو نموذج من بين نماذج أكثر دهشة وعجبًا، ومما يؤسف له ونتعجب منه بأن مثل هذا النقاش كان الأضعف حضورًا في الفكر المعاصر، وجزء منه تحول إلى الدفاع عن مبادئ الفلسفات المثالية المدافعة عن عالم الروح والمطلق والحرية لكن بعبارات تزيد من جفاف القلب وعطشه علاوة على الرعب الذي يعيشه. التفت الفكر الغربي المعاصر إلى هذه الأزمة وبدلًا من العودة للحل الصحيح القائم على الإيمان بالله سبحانه، ترك ذلك إلى بدائل لا تسمن ولا تغني من جوع، وانصرف أهله إلى دعوى إنقاذ الإنسان من طغيان العلم ومصائبه، وتبخرت الأحلام الوردية المعقودة بالعلم بعد أن رأوا ثمرة من ثماره تبتلع مدنًا بأهلها في غمضة عين دون تفريق بين كبير أو صغير أو حيوان وإنسان، وما تبع ذلك من سباق محموم يُوظف العلم فيما يدمر حياة الإنسان. كانت عقيدة الوضعية في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر قائمة على أن العلم مسالم وأن بيديه سعادة البشرية، وما على البشر سوى الانهماك في العلم، وأما الدين والأخلاق فهي نتاج أوضاع اجتماعية سابقة على ميلاد العلم، جاءت بسبب جهل الإنسان، وما عاد في حاجة إلى ذلك مع العلم، فجاء الجواب سريعًا في أول القرن العشرين (14 هـ)، حيث كان نصفه الأول حروبًا لا مثيل لها، وكان بطلها وموجهها هو العلم باكتشافاته المذهلة، أليس من ثماره الدبابة والصاروخ والطائرة؟! أليس من ثماره السفينة الحربية والغواصة؟! أليس من ثماره القنبلة العادية والنووية والهيدروجينية؟! أليس من ثماره الجراثيم القاتلة والغازات السامة والأسلحة الكيمياوية والبيولوجية؟! والقائمة في ذلك طويلة. أليست معادلة صغيرة فيزيائية (ط=ك ث 2) (ESMC 2) (¬1) كانت وراء أخطر ¬

_ (¬1) (ط) هي الطاقة (الحرارية والضوئية) التي سنحصل عليها، وإذا أردنا أن نعرف مقدارها =

سلاح في العصر الحديث! وبدأ التساؤل: أين ما كانت الوضعية تبشرنا به؟ وفتح التساؤل الباب على مصراعيه أمام أزمة كبيرة طحنت أوروبا والغرب في النصف الأول من القرن العشرين (14 هـ). واتجه الفكر إلى إنشاء مذاهب تخفف من جفاف العلم وقسوته وتتمرد عليه، وربما هذا مما يفسر نجاح المذاهب الروحية والمثالية والوجودية في هذه المرحلة. ومما تكشفه هذه الأوضاع بأن العلم له حدوده، فهو لا يخرج عن كونه نشاطًا بشريًا يفتح الله به على قوم فيبدعون فيه، لكنه لا يصل إلى درجة قيادة البشرية إلى سعادتها، ولذا فهو كغيره من النشاطات البشرية في حاجة إلى قيمة أعلى، تهذب أهدافه، وتُقوِّم اعوجاجه، وتصحح مساره، وتنقذ الناس من شروره عند وجود من يوقد نارها. كانت هذه هي الصدمة الثانية، فالأولى أن العلم لا يستطيع إعطاء حقائق مطلقة، وأنه في حاجة إلى تعديل مساره وتصحيح أخطائه أو تغييرها، وما هو علم اليوم قد يصبح غدًا في أحد المتاحف الموجودة هنا أو هناك كشيء من التراث، وأما الثانية فإنه يحمل في طياته أسباب الدمار كما يحمل أسباب السعادة؛ وذلك أنه نشاط بشري قابل للتوظيف في الجهتين، وهنا تظهر حاجة العلم إلى قيمة أعلى تضبط مساره، بعد أن رأينا كيف وظف في الشرور، وجانب السعادة فيه بقي محتكرًا على عالم الأقوياء ويُحرم منه الضعفاء، وأصبح النافع منه خاصًا بجلب السعادة والثراء لأهله فقط، وفي هذه الدنيا فقط ويحرم منه الآخرون إلا بالقدر الذي يريده أهله، فاختفت بهذا الأحلام الوضعية المرتبطة بمستقبل العلم. ¬

_ = من المادة المطلوبة، فإنها تكون بأخذ جرام واحد مثلًا وهو (ك) الكتلة ونضربه في مربع سرعة الضوء (ث 2) لنحصل على مقدار الطاقة. فإذا عرفنا أن سرعة الضوء هي (300 ألف كلم في الثانية) فعليك أن تتخيل المقدار الكبير من جرام واحد فضلًا عن عشرة أو أكثر. فنجد مثلًا مقدار الطاقة الموجودة في نواة ذرة يورانيوم واحدة = 220.000.000.000 ألكترون فولت، وعند إنشطار نواة ذرة اليورانيوم يتحرر من طاقتها المختزنة 1، 0 % فقط؛ أي: جزء لا يكاد يذكر، ولكنه مهول للغاية، ويتضح بمقارنته بالطاقة التي نحصل عليها من حرق كمية مماثلة من الوقود الكيميائي، فنجد أنه من نفس كمية اليورانيوم نحصل على طاقة تزيد بمليون ضعف ما نحصل عليه من الوقود الكيمائي، فسبحان الخالق. انظر: الموسوعة العربية العالمية 25/ 218 - 219.

النوع الثاني: النظرية النسبية وتيارات الفكر المعاصر: ليست النظرية النسبية حديثًا عابرًا يمرّ دون أثر، وإنما هي أهم معالم العلم المعاصر، وجذبت أغلب التيارات المعاصرة إليها بالسلب أو الإيجاب، وبما أن الفصل يبحث في أثر النظريات على الأفكار أو علاقتها بتيارات الفكر، فسأذكر هنا بعض ملامح تلك العلاقة معتمدًا في ذلك على العرض الذي قدمه الدكتور "بدوي عبد الفتاح محمَّد" في كتابه: "فلسفة العلم" (¬1)، والغرض فقط بيان حجم ما أثارته النظرية في الفكر المعاصر، وسأقتصر على أربع فئات هي الأشهر في الفكر الغربي "علماء في العلوم الحديثة والفلاسفة والمتدينون والساسة": 1 - موقف العلماء: انقسم العلماء باختلاف تخصصاتهم حول النظرية إلى قسمين: فقسم أبدى إعجابه الكبير بالنظرية عادًّا إياها نظرية مدهشة، وقسم آخر رفضها أو توقف فيها أو عدّها أقرب إلى مجال الفلسفة من مجال العلم؛ لأن أغلب مفاهيمها الرياضية لا يمكن إثباتها بالتجربة أو ملاحظتها وفق معايير العلم التجريبي (¬2). والمتأمل لهذا الاختلاف من خارج دائرتهم يقوده ذلك إلى نتيجة مهمة تتعلق بموقفنا نحن المسلمين من النظريات العلمية، ومفادها: بأنه ما من نظرية علمية إلا واختلف أهلها -أي: أهل التخصص في المجال التي ظهرت فيه- قبل غيرهم، وهذا يعني أن النظرية ليست من قبيل الحقائق الواضحة أو المطلقة، ولو كانت كذلك مع الزعم بأن دلائلها يتساوى الناس في فهمها لما وقع كل هذا الاختلاف على الأقل في دائرة العلم ذاته، فنحن نرى العلماء يقبلون الحقائق التي جاء بها ومعادلاتها الرياضية، ولكن فريقًا يتوقفون مع النسبية الخاصة وهم مع النسبية العامة أكثر اختلافًا وتوقفًا. وليس مقصدي هنا الميل لجانب دون آخر أو الحكم بصوابها أو خطئها، وإنما المقصود بأن النظرية العلمية منظومة كلامية علمية مجملة تحوي في طياتها ¬

_ (¬1) توجد كتب كثيرة تحدثت عن صور آثار "النظرية النسبية" لكن هذا المرجع يتميز بالترتيب والشمول مستفيدًا من كتب فرانك أحد المهتمين بتأثير نظريات الفيزياء على الفلسفة وهو: فلسفة العلوم، د. بدوي عبد الفتاح محمَّد، دار قباء، مصر، طبعة 2001 م. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 254 - 258.

الأفكار البديهية الصحيحة والأخرى الغامضة والثالثة القابلة للتوظيف في مجالات شتى. ومنظومة بهذه الصورة ليس من الصواب رفضها مطلقًا أو قبولها مطلقًا، وإنما المطلوب تحليلها والاستفادة من جوانبها المفيدة إن احتيج لها وتصحيح الخاطئ منها والتوقف مع الغامض فيها. وهناك صورة أخرى داخل إطار العلم المعاصر في التفاعل مع النسبية نجده في علم الاجتماع الزاحف بقوة إلى ميدان العلم المعاصر، حيث وجد في النسبية مجالًا خصبًا ينعش النظريات الاجتماعية -الذي كان مرتبطًا في مرحلة سابقة بالدارونية والماركسية والوضعية- حيث حول مجموعة من علماء الاجتماع مسارهم نحو النسبية. ومن أهم مجالات تأثرهم بالنسبية ما نجده من نظريات حول ثقافة عصرٍ ما؛ إذ يرى أحد علماء الاجتماع المعاصرين "سوروكن" بأن نظرية النسبية أحدثت تغييرًا جذريًا في "العقلية الثقافية للعصر"، فمن وجهة نظره أن لكل عصر عقليته الثقافية الخاصة المعبرة عن روحه. ففي العصور الوسطى سادت الثقافة الروحية والمثالية، حيث كانت القيم الروحية هي الأهم من المادية، والدنيا إنما هي معبر للآخرة. وفي القرن السابع عشر (11 هـ) وما بعده احتلت ثقافة جديدة عقول الناس، وهي الثقافة الحسية، فلم تعد الطبيعة موضوعًا للتأمل في بديع صنع الله. ولم يعد العلم نوعًا من التقرب إلى الله. بل أصبحت المادة هي الحقيقة الأساسية، والإدراك الحسي هو المعرفة اليقينية بالطبيعة (¬1). وبحسب ما أرى فإن هذا الموقف لا يختلف كثيرًا عن بقية مدارس علم الاجتماع إلا أنه أخف تطرفًا في نقطة واحدة هي: أن الحقائق في كل عصر حقائق نسبية بخلاف التيارات الوضعية في علم الاجتماع فهي ترى بأن عصر العلم هو عصر الحقائق الصلبة الصحيحة بخلاف ما قبله فهو عصر الأوهام. وقد امتدت هذه النظرية النسبية للحقائق إلى مجالات واسعة في العلوم الاجتماعية والإنسانية، وأغلب العلمانيين يوظفون ذلك في حربهم مع الدين جاعلين من الدين وأصوله وفروعه قضايا نسبية، وليست حقائق مطلقة. وقد امتد ذلك إلى مجموعة من العرب عند دراستهم للإسلام وبحثهم فيه، فيتكلمون على الحقائق النسبية، ويفرقون بين الحق المطلق والحق النسبي، وكذا في الصدق والعدل ¬

_ (¬1) فلسفة العلوم، بدوي ص 259 - 260.

والصواب وغيرها مما سيأتي في فصول قادمة بإذن الله مع تحليله ونقده، مع العلم أن أكثرها قد لا يرتبط بالنظرية النسبية إلا في كلمة نسبية. 2 - الموقف الفلسفي: رغم كثرة مذاهب الفلسفة ومدارسها إلا أن هناك تقسيمًا له شهرته في تاريخ الفلسفة قد يساعدنا في تتبع آثار النسبية في الفلسفة، وهو تقسيمها إلى مثالية ومادية. فأما التيار المثالي العقلاني فقد رحب غالبًا بهذه النظرية لنزعتها اللامادية؛ فمن ذلك مثلًا إثباتها لواقع غير مادي، وفي هذا ردٌّ على الماديين الذين لا يرون العالم إلا مادة، بينما في النظرية ما يدل على أن هناك كيانات غير مادية تؤثر في الأجسام المادية، وإنْ ثقُل وزنها مثل تأثير انحناء الفضاء في الأجرام السماوية، وأقصت مفهوم تأثير الطبيعة والمادة على العقل، وبدأ العلم المعاصر في الجملة يبتعد رويدًا رويدًا عن المادية والآلية. وفي المقابل فإن التيار المادي لم يسكت عن استدلالات المثاليين وردّ عليها بردوده، ثم منهم من حاول سحب النظرية لتؤيد المذهب المادي، ومنهم من رفض النظرية لإحساسهم بحقيقة معارضتها للعقيدة المادية التي هم عليها، لذلك سارع عدد من المفكرين السوفييت باتهام النسبية بأنها نظرية رجعية دوجماطيقية، تعود بالعقل الإنساني إلى عصور الروحانيات والتصورات الميتافيزيقية (¬1). ورغم الاختلاف بين التيارين فإن مفاهيم فلسفية حول "المكان" و"الزمان" و"الحتمية" و"الحرية" وغيرها بدأت تأخذ مسارًا جديدًا في ضوء النظرية النسبية وصاحبتها الأخرى الكوانتية، وبدأت الفلسفة المعاصرة تنظر لهذه المفاهيم نظرة جديدة. وإذا كان فيلسوف العقلانية في القرن (12 هـ) الثامن عشر "كانط" قد بني فلسفته على "الزمان المطلق" و"المكان المطلق" كما وجدها عند عالم الطبيعة نيوتن، فإنهما لم يعودا مطلقين بل أصبحا نسبيين، ونجد أغلب فلسفات العصر تتحرك في ضوء هذا المفهوم الجديد للزمان والمكان. ¬

_ (¬1) انظر: فلسفة العلوم، لبدوي ص 258، 265 - 270، وانظر: فلسفة العلم، فيليب فرانك ص 226، ترجمة علي ناصف.

وقل مثل ذلك في مفهوم آخر وهو آلية الكون وميكانيكيته التي ترسّخت مع فيزياء نيوتن، وذهب بها "لابلاس" إلى أبعد حدودها: فالعالم يتحرك كالآلة، وأما افتراض وجود رعاية إلهية لهذه الآلة ففرضٌ لا حاجة للعلم إليه، تعالى الله عن ذلك. ولكن مع النسبية وصاحبتها الكوانتية ظهرت مستجدات تعكر صفو التصور الآلي -الميكانيكي، حيث تُظهر ضعف تلك الآلة، ومن ثم إزالة الوهم المتعلق بوضع آلة نيوتن موضع الحقائق المطلقة، مما فتح الباب لنقاشٍ طويل حول مذاهب فلسفية: منها من ينتصر للحتمية كما هو الغالب في المادية ومنها من ينتصر للحرية واللاحتمية كأغلب المثاليين، وهي مسألة شبيهة باختلاف بعض أتباع أهل الدين في موضوع القدر ما بين قدرية وجبرية، ففي الفلسفة المعاصرة وتيارات العلم نجدها بمصطلحات أخرى أشهرها الحتمية واللاحتمية (¬1). 3 - الموقف الديني: فإن الكنيسة وإن أُقصيت بعد نجاح الثورة العلمانية، إلا أنها مع نهايات القرن التاسع عشر (13 هـ) بدأت تنتعش في دائرتها، وتستقطب أتباعًا عطشى من هنا وهناك، وسمحت الدول الاستعمارية في حملاتها لحركة تنصيرية داخل البلاد المحتلة. وبدأت كنائس جديدة تتفاعل مع الأفكار الجديدة العلمية أو الفلسفية، فتحاور وتناقش وتعترض أو تستثمر إلى غير ذلك. إلا أنها تبقى مؤسسة ضعيفة مقارنة بالمؤسسات العلمانية، وهكذا كان حالها أول القرن العشرين (14 هـ). لعل من المناسب هنا أن نتعرف على علاقة صاحب النظرية النسبية بالدين ورأيه في علاقة نظريته بالدين، ثم ننتقل بعد ذلك إلى الكنيسة وأهلها: أما هو فأصله من اليهود، ولكنه عاش في أسرة غير مبالية بالدين إن لم تر طقوسه وعقائده من خرافات القرون الوسطى، وولاؤه ليهوديته قد لا يتعارض مع عدم تدينه، وأجوبته في المسائل الدينية أجوبة غامضة -بخلاف ما نراه من احترام للدين عند أغلب رواد الثورة العلمية بمن فيهم نيوتن في السابق، أو ما نراه من صراحة تامة في الإلحاد، كما في القرن (13 هـ - 19 م) - وكأن قضية النسبية ¬

_ (¬1) انظر: الفيزياء والفلسفة، جيمس جينز ص 268، 284 مع أن هذه القضية بالذات أوضح في نظرية الكوانتم القادمة، وانظر: الفصل الثالث من كتاب محمود زيدان (من نظريات العلم المعاصر إلى المواقف الفلسفية) ص 101.

جرّت ظلالها إلى مسألة الدين ذاته فلم يعد بالإمكان اتخاذ أحد الموقفين، مع أو ضدّ، وإذا كان مقياس التدين هو الإقرار بالنبوات، فإن أمثال هؤلاء لا يلتفتون لذلك، وإنما الإيمان عندهم ضد الإلحاد، وهو الإيمان بوجود الله سبحانه فقط، ومع ذلك فحتى هذه المسألة لم تكن أجوبته فيها واضحة، ففي جوابه عن سؤال: هل تؤمن بالله؟ قال لسائله: "إن سؤالك هو أصعب الأسئلة في العلم فهو ليس بسؤال يجاب عنه بنعم أو لا. أما أنا فلست ملحدًا. . . ."، ومما قاله: "إن العقل البشري مهما بلغ من عظم التدريب وسمو التفكير عاجز عن الإحاطة بالكون. فنحن أشبه الأشياء بطفل دخل مكتبة كبيرة ارتفعت كتبها حتى السقف فغطت جدرانها، وهي مكتوبة بلغات كثيرة. فالطفل يعلم أنه لابد أن يكون هنالك شخص قد كتب تلك الكتب، ولكنه لا يعرف من كتبها ولا كيف كانت كتابته لها. . . . ثم إن الطفل يلاحظ أن هنالك طريقة معينة في ترتيب الكتب، ونظامًا خفيًا لا يدركه هو، ولكنه يعلم بوجوده علمًا مبهمًا. وهذا على ما أرى هو موقف العقل الإنساني من الله، مهما بلغ ذلك العقل من السمو والعظمة والتثقيف العالي" (¬1). ورغم تردده إلا أن الإعلان عن مثل هذا الموقف يُعدّ انعطافًا في مسيرة العلم المعاصر؛ لأن الظن قد ساد بأن العلم رديف الإلحاد، وأغلب رموز العلم في القرن (13 هـ - 19 م)، ومنظري الفلسفات الوضعية العلمية كانوا من الملاحدة، وأبرز المذاهب الفكرية شهرة كانت تقوم على الإلحاد، وهذه أمور كلها مؤشرات على صعوبة وجود عالم كبير يدلي بمثل الموقف السابق الذي يُشتمّ منه ريح الإيمان، على الأقل بوجود الله سبحانه، وأنه هو الموجد لهذا العالم، فقد كانت عقيدة علماء القرن الثالث عشر/ التاسع عشر -الوضعيين والماديين- بأن الطبيعة هي الموجدة لذاتها وعوالمها، وأنها تخبط خبط عشواء، وأن ذلك مردّه إلى الصدفة كما كان جواب "داروين" أحد أشهر علماء القرن، ولكن القرن الرابع عشر/ العشرين يُظهر جوابًا آخر وإن كان سيبقى ضبابيًا ربما لواقع الفكر والمجتمع الغربي آنذاك. ولا شك أن جزءًا من نظرية النسبية وموقف صاحبها يُعدّ نقطه لصالح الفلسفة المثالية والمذاهب الدينية واللاهوتية وأهل الدين في المجتمع الغربي، ¬

_ (¬1) أينشتين، مرحبا ص 163.

وهذا مما يفسّر سرّ انزعاج التيار المادي في صورته الماركسية مثلًا من هذه النظرية. أما رأي صاحب النظرية عن علاقة نظريته بالدين فهو يرى أنها "مسألة علمية محضة، وليس لها أدنى علاقة بالدين"، وقد كان هذا جوابه لرئيس الكنيسة الإنجليكانية الذي حرص على لقاء "أينشتين" بعد سماعه أقوالًا متناقضة عن علاقة نظريته بالدين (¬1). ويعد هذا الموقف صدمة أخرى للاتجاهات الوضعية والمادية التي غطت على غيرها في القرن (13 هـ - 19 م)، فهم كانوا يرون بأن العلم يلزم منه أن يكون ضدّ الدين وأنه البديل عنه، أما هنا فنجد موقفًا آخر يجعل النظرية مسألة علمية لا علاقة لها بالدين، وما كان هذا الموقف ليرضي الاتجاه الوضعي والمادي والأطراف الأخرى الملحدة. وينبغي التذكير هنا بأن موقفه المديني إنما ننظر إليه في دائرة الفكر الغربي، وبحسب الأجواء السائدة هناك لا بمنظارنا نحن؛ لأن رؤيته الدينية رؤية مختلفة عما يعتقده أهل الكتاب أو أهل الإِسلام ممن يقرون بالنبوات، ولكن هذه الرؤية الشبيهة برؤية أهل وحدة الوجود كانت في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر غير مقبولة في التيارات البارزة؛ لأنها مفتاح للإقرار بوجود الله، وقد كان هذا المفتاح فرصة للمتدينين الغربيين باستثماره في إثبات أصولهم الدينية وفي مقدمتها الإقرار بوجود الرب سبحانه والإقرار بعالم الغيب. ننتقل الآن إلى موقف الكنيسة والمتدينين من النظرية بعد أن عرفنا موقف صاحب النظرية من الدين، فإذا كانت النظرية النسبية ذات مستويات مختلفة فمنها ما قد يتوافق مع قضايا دينية ومنها ما قد يتعارض، ولذا كان الانقسام بينهم حول النظرية كغيرهم: فمنهم من رأى في معادلة "أينشتين" حول علاقة المادة بالطاقة نصرًا للدين وحجة جديدة يساند الله بها رسالاته. فان تحول المادة إلى طاقة، أو العكس، وتأثير الطاقة غير المادية وغير المنظورة في الأشياء المادية كلها مما يؤيد الدين؛ ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق ص 46، وانظر: فلسفة العلم في فيزياء أينشتين. . . .، د. عادل عوض ص 266 - 271.

لأنها تؤكد على وجود كائنات لا مادية، وعلى هذا فإن الإنسان فيه كائنات لا مادية تؤثر فيه مثل النفس والروح والقيم. ومنهم من رأى فيها ما يثبت عقيدة البعث، وبقاء عمل الإنسان، وعودة النفس إلى جسدها يوم القيامة من أجل الحساب. وأنها تؤدي إلى دحض المذاهب المادية والإلحادية التي طالما عانت منها الأديان، إلى غير ذلك. وفي مقابل التيار المتحمس لاستثمارها نجد تيارًا آخر رفضها لعدّة أسباب منها مثلًا ضررها الأخلاقي لجعلها المبادئ الأخلاقية من الأمور النسبية (¬1). ومن المعلوم بأن النظرية النسبية لم تتدخل في هذه الأمور الدينية وإنما كان هذا من التأويلات التي بناها هؤلاء حول النظرية، وهم في ذلك كغيرهم من المستثمرين لهذه النظرية لاسيّما وهي قد أعانتهم في زلزلة عدوهم اللدود الاتجاه المادي الذي كان يبني إلحاده على نظريات علمية سابقة، ويكون من حقهم كغيرهم استثمار النظرية فيما تؤيدهم فيه. ولكن يبقى جميع هؤلاء في خطرة لأنهم لا يتعاملون مع حقيقة علمية قطعية واضحة لا اختلاف حولها، وإنما هم يتعاملون مع منظومة مجملة يمكن لكل تيار أن يجد فيها ما يناسبه، وإن كانت بعض النظريات أقرب للاستثمار من تيار على حساب غيره، ولكن كونها الأقرب لا يعني عدم وجود ثغرات يطعن بها المخالف، أو فيها مجالات تسمح للمخالف ولو بعد حين باستثمارها أيضًا لصالحه، وهو أمر بارز في أي فكرة مجملة تحوي في طياتها احتمالات شتى. 4 - الموقف السياسي: فمن الطريف في هذا الباب بأن أشهر ثلاثة أنظمة علمانية سياسية -في النصف الأول من القرن الرابع عشر/ العشرين الميلادي- رفضت هذه النظرية، وهي أنظمة عنصرية أو قومية أو مادية ذات ممارسة استبدادية بارزة، وهي: النظام الشيوعي، والنازي، والفاشي. ورغم أن أكثرها يزعم الحرص على العلم إلا أنهم رفضوا هذه النظرية. والعجب يشتد مع النظام الشيوعي؛ لأنه نظام يزعم العلمية، ولكن العجب يخف إذا علمنا بأن سبب الرفض مرجعه عقائدي بالدرجة ¬

_ (¬1) انظر: فلسفة العلوم، بدوي ص 261 - 262.

ج- اكتشاف الذرة ومولد نظرية الكم

الأولى، فالشيوعية مبنية على المادية، وقد أسست ماديتها على صورة العلم في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر -آلية نيوتن وتطورية داروين المادية وغيرها كما سبق الحديث عنها-؛ ولذا فلن تقبل بنظرية تقوّض هذا المعتقد المادي حتى وإن جاء من دائرة العلم (¬1). أكتفي بالإشارة السابقة؛ لأن المقصود بيان مدى اتساع التفاعل الغربي مع "النظرية النسبية" إحدى أشهر نظريات القرن، وأنتقل إلى ثاني أشهر نظرية علمية في هذا القرن وهي "نظرية الكم". ج- اكتشاف الذرة ومولد نظرية الكم: رأينا فيما سبق أثر تجربة واحدة قام بها كل من "مايكلسون ومورلي" أدت إلى إزاحة مفهوم الأثير عن دائرة العلم، ورغم كونها تجربة محدودة، إلا أنها شكلت منعطفًا في تاريخ العلم عامة والفيزياء خاصة، ومع سقوط هذا المفهوم سقطت معه مفاهيم كبيرة كانت مرتبطة بالفيزياء النيوتنية بما في ذلك مذاهب فلسفية وفكرية بنت مبادئها على تلك المفاهيم. وليس من السرّ أن نرى بعض المذاهب المادية تستميت في الدفاع عن مفهوم الأثير حتى في القرن الرابع عشر/ العشرين رغم أن التجربة كانت في النصف الثاني من القرن الثالث عشر/ التاسع عشر (1887 م)، ونجد اتفاق المفكرين والكتاب السوفييت على تخطئة النظرية النسبية لقبولها بنتيجة التجربة الموجعة لهم وتخليها عن فرض الأثير، وهو العمود الفقري لكل الفلسفات المادية (¬2). ومن طرائف الأمور بأن صاحِبَي التجربة كان هدفهما إثبات وجود الأثير؛ لأن نيوتن الذي أقام نسقه الفيزيائي على الأثير لم يستطع إثبات وجوده، وبقي في حيرة من أمره. فجاءا بتجربة في وقت كانا من أنصار فرض الأثير ولكن التجربة خيبت آمالهما، وكان إعلان نتيجة التجربة بمثابة الصاعقة التي نزلت بعلماء القرن (13 هـ -19 م) كما صورها أكثر من كاتب (¬3). ويبقى الأمر الملفت ¬

_ (¬1) انظر: فلسفة العلم، بدوي ص 262 - 264، وانظر: فلسفة العلم في فيزياء أينشتين. . . .، د. عادل عوض ص 276 - 281. (¬2) انظر: فلسفة العلوم، بدوي ص 264. (¬3) كان القصد من التجربة إثبات "الأثير"؛ لأن أصحاب التجربة ممن كان يعتقد بهذا الفرض =

1 - قصة عالم الذرة

بأن عملًا بسيطًا كهذه التجربة غيَّر مسار علم بأكمله، وغيَّر مفاهيمه الأساسية، وكان نواة لنظرية جديدة يولد معها فيزياء جديدة. في زمن هذه التجربة الصغيرة كان هناك مجموعة أخرى توصلت إلى اكتشاف مدهش وأكثر إثارة وعجبًا في مسيرة العلم المعاصر، ألا وهو اكتشاف عالم الذرة وما تبعه من ظهور علم جديد هو علم الكوانتم. 1 - قصة عالم الذرة: للذرة خلفية تاريخية تمتد لأكثر من عشرين قرنًا، وقد أُنجز في خمسين سنة ما يعادل بل يفوق ما أنجز في كل تلك القرون، ولهذا النوع بالذات خلفية إسلامية أيضًا ما زالت ممتدة إلى عصرنا الحاضر عند بعض التيارات الإِسلامية، فنبدأ بها كتوطئة لموضوع "الذرة" ولنكشف بأن مثل هذه الميادين تُحدث خلافًا واسعًا عندما تدخل في مجالات دينية أو كلامية ولاهوتية وثقافية. كانت هناك بحوث ونظريات قديمة تبحث عن جواب لهذا السؤال: ممَّ يتكون هذا العالم؟ ومن أشهر النظريات القديمة النظرية الذرية في الفلسفة اليونانية ونظرية العناصر الأربعة. وعندما تُرجمت كتب فلسفية كثيرة من الهند والفرس واليونان في القرن الثاني الهجري، وما بعده تأثر بعض المسلمين بهذه الموضوعات، واشتغلوا بها. ومن ذلك مباحث المتكلمين حول الجسم والجوهر والجزء الذي لا يتجزأ وكذا المتفلسفة، وتنازعوا حولها كثيرًا واختلفوا فيها إلى طوائف، ومن العجب أن نجد في وقت مبكر في الجسم أو الجوهر عدّة مذاهب، فقد جمع الإِمام أبو الحسن الأشعري في كتابه "مقالات الإِسلاميين واختلاف المصلين" أقوالًا كثيرة (¬1)، وهو المتوفى سنة (330 هـ) فما بالك بما حصل بعده؟! ومن ذلك اختلافهم حول الجوهر الفرد أو الجزء الذي لا يتجزأ أو ذرات الفلاسفة، وقد بُني على ذلك مسائل أصولية كبيرة، وانشغل بها المسلمون قرونًا ¬

_ = وكانت المفاجأة عكسية ولم يصدقا ذلك وصعب تصوره، ولكن بعد ذلك تحولت التجربة من نتيجة سلبية إلى إيجابية في مجال آخر وسببت إعادة التفكير في الفيزياء، انظر: العقلانية المعاصرة بين النقد والحقيقة، د. سالم يفوت ص 118 - 119. (¬1) انظر: 2/ 4 وما بعدها من كتاب: المقالات.

طويلة. ومن باب المثال نجد أن من أهم معالم البناء المنهجي في كتب العقائد الكلامية الابتداء بدليل حدوث الأجسام، ولهم في إثبات ذلك طرق أهمها الاعتماد على مفهوم الجزء الذي لا يتجزأ أو الجوهر الفرد الذي يعبر عن أصغر شيء في الأجسام، ويعدون هذا الدليل دليلًا عقليًا قويًا على إثبات حدوث الأجسام، ومن ثم فلكل حادث محدث إلى نهاية السلسلة (¬1). وهو دليل تتشابه فيه الاستدلالات الكلامية عند متكلمي المسلمين وعند غيرهم من الملل الأخرى، ولكن مع المتغيرات في الفكر الغربي، ضعفت العناية به داخل الإطار المديني واللاهوتي وتحول إلى قضية فلسفية وميتافيزيقية، ووجدت النظرة الذرية أنصارها من أمثال "جاليليو" و"بويل" و"نيوتن" (¬2)، ولكنها بقيت في الإطار الفلسفي ذاته. خرجت فرضية الذرة بوصفها مفهومًا فلسفيًّا وكلاميًّا من دائرة الفلسفة لتدخل إلى دائرة العلوم الجديدة التي بدأت تستقل بنفسها عن الفلسفة وتعتمد على منهج الملاحظة والتجريب. وكان أول من أخضع الفرض الذري للتحقيق التجربيي "دالتون" في الكيمياء ونقلها فيما بعد "فرداي" وغيره إلى الفيزياء (¬3) لتصبح في مطلع القرن العشرين (14 هـ) وما بعده أهم موضوعات الفيزياء وأكثرها شهرة. ومسيرة فرضية الذرة داخل العلم الحديث مسيرة عجيبة، وهي تختلف عن تلك المسيرة المعهودة عند السابقين، فهي عند أصحاب العلوم الحديثة فرض يتعلق بعالم المادة من حولنا، وربما يمكننا من خلال فهم الذرة استثمار تلك المعرفة في إحداث تغييرات أو تركيبات في المواد، لينتفع الناس بها تبعًا للغاية التي تسعى إليها علوم الطبيعة، وهو السيطرة على الطبيعة قصد الانتفاع بها. فقد كان الفرض الذري أحد أهم أسباب التقدم في علم الكيمياء، فمن خلاله تم ترتيب العناصر الكيميائية، ابتدأ ذلك دالتون ثم طورها مندليف، وخلاصتها: بما ¬

_ (¬1) انظر مثلًا: التصور الذري في الفكر الفلسفي الإِسلامي، د. منى أحمد أبو زيد ص 15 - 41 ص 221 وما بعدها. (¬2) انظر: من نظريات العلم المعاصر إلى المواقف الفلسفية، زيدان ص 15. (¬3) انظر: فلسفة العلوم، بدوي ص 224.

أن هناك شبه اتفاق على أن كل عنصر مكون من ذرات، وأنه بحسب اجتماع الذرات أو افتراقها تتكون المواد، وهذا يعني بأن لكل عنصر موجود عددًا ذريًّا يجعل وزنه مختلفًا عن الآخر. ثم حصروا ما يعرفون من عناصر في زمنهم، ووضعوا أخفها معيارًا للقياس على أن يكون وزنه المقترح رقم واحد، وكان أخف ما وجدوه الهيدروجين، ثم يقيسون بما بين أيديهم من أدوات كميات مساوية لكمية الهيدروجين، فما زاد إلى الضعف يكون رقمه أو وزنه الذري اثنين، وما زاد ثلاثة أضعاف يكون وزنه ثلاثة، وهكذا، وبهذا تم ترتيب العناصر ترتيبًا علميًا، وبعض عناصر الجدول بقيت فارغة؛ لأنهم لم يجدوها إلى أن اكتُشفت فيما بعد (¬1). وهذا الترتيب المتفق عليه عندهم يدلس على أن الله سبحانه قد خلق عناصر الطبيعة وفق ترتيب بديع، مما جعل مجموعة من العلماء المعاصرين يجعلونه مدخلا للاستدلال على عظمة الخالق سبحانه، ويشعرون بآية من آيات الله في خلقه (¬2). ولكن الذرة تبقى فرضًا، ولم يستطع أحد آنذاك إثبات وجودها الواقعي، إلى أن جاءت تجارب "ماكسويل" حول الغازات ليؤكد فرضية الذرة بصورة أكبر في علم الفيزياء، ومع ذلك يبقى الجميع على الاعتقاد بأن الذرة جسيم لا ينقسم (¬3)، كالتصور المعروف عند بعض المتكلمين. وتأتي اكتشافات مذهلة ومتلاحقة في نهايات القرن الثالث عشر/ التاسع عشر تفتح الأعين عن عالم عجيب، وتدخلنا في مساحة هائلة مدهشة، رغم أنها حيز صغير لا يمكن رؤيته، وإنما يعرف فقط بآثاره، وتحول الفرض إلى شبه حقيقة، واكتشف علماء الفيزياء بأنه ليست المسألة مسألة الذرة فقط بل أبعد من ذلك؛ فالعجب هو من العالم الذي بداخل الذرة، والذي بدأ يظهر لنا جزء صغير منه. بدأت هذه الاكتشافات تأخذ حيز الدقة مع "طومسون" (1856 - 1940 م) الذي اكتشف أشياء مهمة عن عالم الذرة ولاسيّما حول الإلكترون، على أن ¬

_ (¬1) انظر: من نظريات العلم المعاصر إلى المواقف الفلسفية، زيدان ص 15، وبدوي السابق ص 224، وانظر: مدخل إلى فلسفة العلوم، الجابري ص 318 - 323. (¬2) انظر: شهادات مجموعة من العلماء في: الله يتجلى في عصر العلم، مثلًا ص 28. (¬3) انظر: من نظريات العلم المعاصر إلى المواقف الفلسفية، زيدان ص 15 - 16، وانظر: مدخل إلى فلسفة العلوم، الجابري ص 333.

جميع ذرات العناصر تحوي على هذا الإلكترون نفسه وإنما الاختلاف بين العناصر يرجع إلى الاختلاف في عددها، وهنا أصبح التصنيف العلمي للعناصر أكثر دقة. وتابع "راذرفورد" أبحاث أستاذه مع آخرين ومما توصلوا إليه: أن هناك غير الإلكترون، فهناك أيضًا نواة يدور حولها الإلكترون. تبين فيما بعد أن هذه النواة أيضًا مركبة من جزيئات أو جسيمات. واكتشفوا أن لبعض الذرات خاصية إشعاعية. واكتشفوا داخل النواة عوالم جديدة منها مثلًا: "البروتون" و"النيوترون" و"البوزيترون" وجسيمات أخرى. والمسألة ليست فقط في ما اكتشف داخل الذرة من عالم مدهش، بل أيضًا ما اكتشف عن طبيعة وجودها داخل الذرة، فلها حركتها الخاصة وطاقتها وإشعاعها وترتيب في غاية العجب (¬1). لقد كانت فعلًا رحلة مذهلة: فلدينا جسم مكون من عناصر، كل عنصر عند تحليله نجده مؤلفًا من ذرات، وعند الدخول إلى باطن الذرة نجد فيها الإلكترون الذي يسبح بداخلها ويدور حول نواة، وعند الدخول إلى النواة نجد فيها أنواعًا مختلفة من الجسيمات، وما زالت البحوث متواصلة في هذا الميدان الصغير, فسبحان الخالق. وبموازاة هذا العمل المدهش في الذرة كانت هناك بحوث في ميدان الطاقة، سواء كانت طاقة ميكانيكية أو حرارية أو ضوئية أو كهربائية، وكان البحث يدور حول تجلياتها هل هي متصلة أم منفصلة؟ وكان السائد إلى نهايات القرن الثالث عشر/ التاسع عشر أنها متصلة، فقام عالم فيزياء ألماني ماكس بلانك (1858 - 1947 م) بتجارب توصل إلى أن الطاقة أيًا كانت لا تظهر إلا بصورة منفصلة على شكل وحدات، وتنص النظرية: "على أن الطاقة لا تطلق باستمرار لكن في شكل وحدات مفردة تسمى الوحدة منها كمًا", ولذا سميت نظرية الكم. وقد اقترح "أينشتين" فيما بعد جسيمًا سُمي الفوتون هو الذي يحمل الطاقة ¬

_ (¬1) انظر: هذا الكون -ماذا نعرف عنه؟ د. راشد المبارك ص 113 - 123، وانظر: مدخل إلى فلسفة العلوم، الجابري ص 325 - 327، وانظر: أفي الله شك؟. . . .، د. حمد المرزوقي ص 60 - 67.

2 - من آثار النظرية

في أثناء ظهورها. ثم جاء بعدهما عالم آخر "نيلز بور" فشرح كيف تمتص الذرات الطاقة وكيف تشعها. وبعد جهود مختلفة أنشأ فيزيائيان أوروبيان نظامين متكافئين يحويان في صياغة رياضية واضحة كل الفيزياء الكمية السابقة، لتصبح فيما بعد حقلًا معروفًا باسم ميكانيكا الكم (¬1)، وأصبح موضوع نظرية الكم أو الكوانتم الأساسي هو "عالم الذرة واكتشاف مزيد عن تركيبها وحركاتها وما بها من طاقة وإشعاع" (¬2). واتجه علماء الفيزياء بعد هذه الاكتشافات ومن يستفيد من علمهم في مسارين: فقسم يدرس العالم الكبير، عالم الكون الواسع، هل الكون منبسط أم كروي، وهل هو ممتد إلى ما لا نهاية أم له نهاية، وهل له بداية زمانية ونهاية زمانية، وما طبيعته، وما صورة حركته ونشاطه، وهؤلاء يتحركون في ضوء النظرية الأولى وهي نظرية النسبية لاسيّما النسبية العامة. وقسم يدرس العالم الصغير في حجمه، الكبير في حركته وطاقته، والمذهل بعجائبه، وهو عالم الذرة، ما حقيقتها وما مكوناتها، وما طبيعة الطاقة الداخلة إليها أو الخارجة منها، وما القوانين الموضحة لذلك؟ وهؤلاء يتحركون في ضوء النظرية الثانية نظرية الكم أو الكوانتم. وكما أنه قد كان ما كان من آثار للنسبية في تيارات العصر، ونالت شهرة أكثر من غيرها، فإنه أيضًا قد كان لنظرية الكوانتم آثارها أيضًا لاسيّما وهي تتعلق بفرض طالما أثر افتراضه في تاريخ الفكر البشري، وسبّب دوامات هائلة في كل ثقافة دخل إليها، فهل يعقل أن يظهر من جديد في ثوب العلم دون أن يحدث أثرًا! هذا ما ستلقي عليه الأسطر القادمة بعض الضوء، وبالله التوفيق. 2 - من آثار النظرية: توجد نقاط مشتركة بين النظرية النسبية ونظرية الكم في علاقتهما بتيارات العصر، فبالرغم من اختلافهما من الوجهة العلمية البحتة إلا أن التأويلات الفلسفية والميتافيزيقية لهما متشابهة في كثير من الوجوه (¬3). وقد ذكرتُ بعض ما ¬

_ (¬1) الموسوعة العربية العالمية 17/ 660، وانظر: مدخل إلى فلسفة العلوم، الجابري ص 365 - 383، وانظر: درس الإبستمولوجيا، عبد السلام وصاحبه ص 186 وما بعدها. (¬2) من نظريات العلم المعاصر إلى المواقف الفلسفية، زيدان ص 19. (¬3) انظر: فلسفة العلم. الصلة بين العلم والفلسفة، فيليب فرانك، ترجمة د. علي ناصف ص 287.

تشارك به النسبية في السابق، ونضيف هنا تفاعلات أخرى مع هذه النظرية. إن هذا المخلوق العجيب الصغير الذرة قد حيّر العلماء، وأخذ من جهودهم سنوات طويلة، وأنفقت عليه دول الغرب نفقات باهظة ربما لو أُنفقت في غيره لتقدم العلم وتطور في مجالات متنوعة، ويكفي أن نلقي نظرة على ما أنفق لإنتاج القنبلة الذرية لنرى إحدى مشاكل تعامل الغرب مع عالم الذرة، حيث يقول "برنال": "وفي الواقع أن ما أنفق على إنتاج القنبلة الذرية، وهو 500 مليون جنيه إسترليني، يفوق كثيرًا كل ما أنفق على الأبحاث والتطورات منذ بدء التاريخ" (¬1). وبقدر هذا الجهد الهائل حول الذرة علميًا وتقنيًا كان هناك في المقابل جدل فكري كبير حول بعض ما توحي إليه في عالم الفكر وأثر ذلك في تغيير أصول فكرية أيديولوجية وعقدية لمذاهب شتى. 1 - أول ما نلاحظه تكوّن مذاهب علمية داخل دائرة العلم عمومًا أو الفيزياء خاصة، ويعود ذلك في المقام الأول إلى أن مادة العلم الجديدة وهو عالم الذرة مادة لا يمكن رؤيتها والإحساس بها إحساسًا مشتركًا حتى تكون الأقوال العلمية حولها واحدة. فمع أن مادة البحث والنظر والملاحظة واحدة وهي الذرة؛ إلا أننا نجد أقوالًا مختلفة تكاد تشكل مذاهب علمية مختلفة. وهكذا نجد الاختلاف في طبيعة الضوء هل هو موجي أم جسيمي، ونجد تصور الذرة لا يذكر إلا مقترنًا بصاحبه (¬2)، فنجد مثلًا ذرة "طومسون" أو ذرة "رذرفورد" أو غيرهما، وهكذا، فلكل عالم اقتراحه. وهنا يبرز التساؤل المحيّر: إذا كنا نتعامل مع ظاهرة علمية تخضع للملاحظة والتجريب فلماذا لا يكون القول فيها واحدًا؟ لقد كان من الطبيعي الاختلاف في مسائل دينية أو لاهوتية أو ميتافيزيقية؛ لأن التعامل فيها يكون مع أمور غيبية أو ذهنية، فتختلف الآراء حولها, لكن هنا في ميدان العلم ونحن أمام ذرة واحدة بين أيدينا، ومع ذلك اختلفت فيها آراء العلماء، وأصبحت في دائرة ما يختلف فيه، فلماذا لا يكون العلم حاله مثل حال تلك الأمور التي اعتدنا الاختلاف فيها؟ وبهذا يضعف كونه الممثل للحقيقة لوحده، ويبطل تقديمه على ¬

_ (¬1) العلم في التاريخ 3/ 174. (¬2) انظر: مدخل إلى فلسفة العلوم، الجابري ص 326.

غيره مطلقًا دون قيد أو شرط، ولا يصلح لأن يكون مقياسًا للصواب لوحده أو معيارًا للحقائق. ومن بين أهم المشاكل المنهجية والإبستمولوجية المثارة بسبب تنوع المذاهب العلمية داخل مدرسة الكم أو ميكانيكا الكم مشكلة الحقيقة الفيزيائية (¬1). فبينما كانت تأخذ صورة المطابقة في الفيزياء الكلاسيكية، وتبعًا لذلك يتفق الأتباع على قول واحد، فإنها في الفيزياء المعاصرة تنزع إلى التنوع، وتصبح الحقيقة نسبية مرتبطة بتطور العالم، وكأنها مفهوم مصنوع من جدلية التفاعل بين ذهن العالم والمادة التي بين يديه. فلو كانت صورة طبق الأصل عن المادة لما اختلفت آراء العلماء، ولو كانت تصورًا ذهنيًا صرفًا لما كان هناك إطار عام يعترف به الجميع مثل أن هناك ذرة وداخلها إلكترون ونواة وجسيمات أخرى. ولكن الذرة أو الإلكترون لم يرهما أحد، وإنما عرفا بآثارهما، فيبقى الاعتراف بهما تقريبيًا ومتخيلًا. فتصبح كلمة حقيقة أو مصطلح الحقيقة في ضوء الفيزياء المعاصرة مغايرًا لمفهومها في الفيزياء الكلاسيكية؛ أي: أن الحقيقة في الفيزياء المعاصرة ليست مما يحكم عليها بالصدق والكذب بسهولة؛ لأنها لا تعني المطابقة دائمًا، ولكنها مما يحكم عليها بالفائدة أو عدمها، فإن كانت تفسر وتنفع فهي حقيقة حتى تفقد قيمتها تلك بحقيقة جديدة أنفع منها. ولا شك أن جرّ مصطلح بهذا المعنى إلى ميادين أخرى يسبب مشكلات كثيرة، ومن ذلك مثلًا وضع تقابل بين الحقائق الدينية المثبتة في الوحي وبين الحقائق الفيزيائية، فإن المقابلة هنا بين ما هو حقيقة التي لا مجال لها إلا الصدق، وبين ما هو حقيقة نفعية تفسيرية قد يأتي ما ينسخها. وتظهر إشكالية المقابلة هذه من جهتين: من جهة رجال الدين أو من علماء متدينين يريدون استثمار نتائج مثل هذه النظريات لإثبات صحة عقائد أو لبيان سبق الدين إلى كشفها، فماذا هم فاعلون لو جاءت نظرية جديدة تلغي هذه وتستبدل حقائقها بحقائق أخرى؟ ¬

_ (¬1) انظر مثلًا: فلسفة العلم. الصلة بين العلم والفلسفة، فيليب فرانك ص 300 وما بعدها، والفيزياء والفلسفة، جيمس جنز ص 259 وما بعدها، ترجمة جعفر رجب.

وتظهر من جهة بعض العلماء غير المتدينين الذين يستثمرون نتائج هذه النظريات في التشكيك بأصول دينية والتكذيب بها؛ لأن في كل نظرية مجالًا لحركة الطرفين، وإن كانت بعض النظريات تميل لخدمة طرف أكثر من آخر فلا يمنع وجود تأويلات معارضة أيضًا، فماذا هم أيضًا قائلون لأتباعهم عندما يحدث في الغد تغيرات في النظرية؟ ومن الواضح أن من بين الأسباب لهذا الاضطراب أن الجميع وضع الحقائق المطلقة مقابل ما يطلقون عليه حقائق المنفعة النسبية، وبسبب الاشتراك في اللفظ وقع الاضطراب في المعنى. ومثل هذا نجده في الكتابات العربية الإِسلامية والعلمانية؛ إذ نجد من الكُتّاب من يستثمر نتائج هذه النظريات لتفسير أصول عقدية، وبيان سبق الإسلام إليها، بينما يجتهد التيار العلماني في استخدام مفهوم الحقيقة النسبية، وتطبيقه على أصول عقدية وشرعية من أجل إثبات نسبيتها، وأنها حقائق مؤقتة تناسب فترة زمنية قد يأتي ما يطورها أو يكون بديلًا عنها (¬1). ونجد في هذا المقام المنهجي التشارك بين مفهوم الحقيقة النسبي المرتبط بإشكاليات نابعة من نظرية الكم مع نظرية النسبية لأينشتين، فنسبية "أينشتين" الخاصة تدور حول نسبية الزمان والمكان والمادة والحركة، وهنا مع الكم نسبية تدور حول الحقيقة ذاتها في عالم المادة الصغير. وبما أن الفيزياء تُعد من أهم علوم العصر وأدقها فإن منهجها وفلسفتها تصبح مركز استقطاب للاقتداء من بقية المعارف، وربما هذا يفسر أن أغلب الكتب التي تتحدث عن فلسفة العلم تجعل أمثلتها الصلبة من مجال الفيزياء. ومع تحول الفيزياء المعاصرة إلى نظريتين كلاهما ينظر للحقيقة بمفهوم نسبي؛ فإن هذا المفهوم سيلقي بظلاله على أغلب مجالات الفكر المعاصر وتياراته، وتصبح كلمة النسبية من أشهر الكلمات دورانًا على ألسنة الناس. 2 - من نظرية الكم إلى تيارات الفكر. عُرض فيما سبق مسألة منهجية أثارتها نظرية الكم ترتبط بمفهوم الحقيقة. والآن وقفة مع قضيتين تعدان من أهم القضايا التي أثارتها النظرية داخل تيارات الفكر والدين في الفكر الغربي، وهما: ¬

_ (¬1) سيأتي الحديث عن هذا الموضوع في الفصل الخامس من هذا الباب.

الأولى: عواصف تواجه الفكر المادي وتياراته. الثانية: اللاحتمية أو اللايقين وأثرها على المذاهب الحتمية. - ما الإلكترون؟ فبالرغم من أن النظرية الكوانتية كانت وراء أغلب تلك الآثار؛ إلا أن أحد سكان الذرّة كان له الأثر الأبرز في إثارة كثير من القضايا وهو الإلكترون. فما هو الإلكترون؟ وما سرّ دوره في هذه النقاشات؟ سبق أن رأينا ما يقوله علماء الفيزياء عن الذرة واكتشافاتهم حولها، وملخصها بأن المادة أو المواد أو قل الأجسام تتكون من عناصر، والعناصر أصغر مكوناتها الذرة، وبعد نجاح أحد العلماء في شطر الذرة وجد بداخلها جُسيمًا سُمي الإلكترون، ووجدوه يتحرك، وكان التصور الأول لتلك الحركة أنها دائرية ثم جاء تصور جديد أنها حركة على شكل بيضاوي، وأن الإلكترون يدور حول جسيم آخر هو النواة، وأن هناك جسيمات أخرى داخل النواة أطلق عليها البروتون والنيوترون وغيرها، وما زالت الأبحاث مستمرة في هذا العالم المدهش. فالإلكترون جسيم داخل الذرة، ويتحرك في مسار بيضاوي، وهو يمتص الطاقة ويطلقها، وهو عند امتصاصه للطاقة أو إطلاقه لها يتغير مسار حركته حول النواة اقترابًا وابتعادًا، وهو في هذه النقطة بالذات يتحرك بأسلوب لا يمكن التنبؤ به وكل ما هنالك احتمالات ولا يوجد يقين عن حركته، ومن هنا جاء مبدأ اللايقين. وتتم عمليات تحريك الإلكترون عن مساره عن طريق إسقاط أشعة على الذرة، تسير الأشعة في صورة فوتونات وكأنها كرات، فيدخل أحدها الذرة ويصطدم بالإلكترون فيحركه عن مساره أو يخرجه من الذرة، فيما يشبه كرات البلياردو. وفي غرفة السحاب التجريبية لـ"ويلسون" يمكن مشاهدة أثر الإلكترون عندما يكون خارج الذرة، فالإلكترون عندما يشق طريقه خلال جُزيئات الغاز بغرفة التجربة يترك خلفه تكثفات، يشبه في ذلك أثر التكثفات التي تتركها طائرة تطير على ارتفاع شاهق في السماء مع أنك لا ترى الطائرة نفسها. وبهذا نعرف أنه قد مرّ من هنا، أما ما بداخل الذرة من إلكترونات فلم يشاهدها أحد وليس من الممكن إلى الآن مشاهدتها, ولا ندري هل ما شاهدناه خارج الذرة هو نفسه

الموجود داخلها أم أنه قد حدث له تغير (¬1). لقد قام أحد علماء الفيزياء -هيزنبرج- بالتفرغ لهذا الجسيم العنيد، فحاول "بتجاربه ملاحظة موضع الإلكترون وسرعته واتجاهه بأدق ما لديه من مكبرات"، ومما وجده أن تحديد مسار إلكترون واحد وسرعته واتجاهه يعد جهدًا ضائعًا، ولا ترجع المشكلة "إلى نقص في آلات العلم، وإنما إلى طبيعة الإلكترون. ولكي يثبت ذلك افترض أن مكبرًا خياليًا قادر على تكبير الإلكترون إلى قدر قطره بمائة بليون مرة حتى نستطيع رؤيته". فتظهر هنا صعوبة أخرى، إذ حتى نراه فنحن في حاجة إلى أشعة قوية، ولكن هذه الأشعة ستزيله من مكانه. فإن استطعنا تكبيره لهذه الدرجة وهي خيالية فلن نستطيع رؤيته؛ لأن الأشعة التي ستمكننا من رؤيته ستقتلعه من مكانه، وبحسب تشبيه البعض فإن ذلك كمن يريد اصطياد عصفور بمدفع عملاق. وصل "هيزنبرج" بعد كل ذلك إلى مبدأ اللايقين الذي يقول فيه -بعد ملاحظات طويلة وحسابات دقيقة-: "إن من المستحيل من حيث المبدأ أن ترصد موضع الإلكترون وسرعة حركته واتجاهها بدقة متناهية في الوقت نفسه. يمكنك فقط أن تحدد بدقة متناهية موضع الإلكترون، وحينئذ لا نستطيع تحديد سرعته واتجاهها بنفس الدقة، أو يمكنك تحديد سرعته واتجاهها بكل دقة، وحينئذ لا تستطيع تحديد موضعه المكاني" (¬2). ومن الأمور المدهشة حول هذا الكائن المحير اختلاف علماء الفيزياء حوله، هل هو من طبيعة موجية يشبه في ذلك أمواج البحر أم هو من طبيعة جسيمية كحبات الرمل! إننا نسمع ونقرأ عن موجات تسبح في الفضاء باختلاف أطوالها من قصيرة ومتوسطة وطويلة، فهل هي موجات تشبه موجة البحر من ¬

_ (¬1) انظر: الفيزياء والفلسفة، جينز ص 209، وانظر: من نظريات العلم المعاصر إلى المواقف الفلسفية، زيدان ص 20. (¬2) انظر: من نظريات العلم المعاصر إلى المواقف الفلسفية، زيدان ص 28 - 29، وانظر: أينشتين والنسبية، مصطفى محمود ص 29 - 30، وانظر: فلسفة العلوم، بدوي ص 237، العالم بين العلم والفلسفة، جاسم العلوي ص 120، وانظر: أفي الله شك؟، د. حمد المرزوقي ص 49 - 52، وما بين الأقواس عن زيدان.

لحظة انطلاقها إلى منطقة استقبالها أم هي تنطلق على شكل جسيمات وحبات؟ إنها من المسائل الشائكة وذات أبعاد مؤثرة خارج دائرتها العلمية كما سنرى. فإذا نظر العلماء إلى الضوء أو الإلكترون وجدوا فيهما ما يدل على أنهما من طبيعة موجية وفيهما أيضًا ما يدل على أنهما من طبيعة جسيمية، فانقسموا تبعًا لذلك إلى مدرستين، وكل مدرسة بنت رأيها على استدلالات، أما إدراك حقيقة الضوء أو الإلكترون فغير ممكنة تمامًا طالما أن الرؤية لهما مستحيلة، مما حدا بالبعض إلى القول بعدم وجود الإلكترون واقعيًا، وأنه مجرد تصور رياضي مفيد، ومن ثمّ ينتقلون إلى الوظائف الممكنة لهذا التصور الرياضي المفيد (¬1). وهناك تيار ثالث حاول الجمع بين الأمرين، فقال: إنهما من طبيعة موجية، وفي الوقت نفسه جسيمية، وهو مما يزيد الحيرة حول الموضوع (¬2). وعجائب هذا الكائن المدهش الإلكترون كثيرة، وما وقفت إلا مع ما له صلة بحركة الفكر المعاصر لنرى، كيف كان لمثل هذا الكشف والنظرية من آثار، مع العلم بوجود أمرٍ آخر يدفعني لمواصلة الحديث عنه؛ وهو أن الصحيح من هذه المعلومات يدفع بالعاقل إلى النظر في ملكوت الله سبحانه والتفكر في مخلوقاته، وذلك جزء من العبودية التي حثنا عليها ربنا سبحانه في مواطن كثيرة من كتابه الكريم. وهذا النظر والتفكر هو أنفع للقلب في الدنيا والآخرة إذا قاد صاحبه للإيمان به سبحانه. وهذا أمر ينقص الكتابات العلمية والفكرية حول هذا الموضوع وأمثاله، فهي تبقى سابحة في عالم الأرقام والفرضيات والملاحظات الجامدة دون أن يدفعها ذلك إلى إيقاظ القلب، فتفتح له نوافذ أخرى نحو الإيمان بالله سبحانه وتحقيق عبوديته، وإذا لم يكن هذا الهدف بارزًا في الدراسات العقدية فستكون فائدتها ناقصة. بعد هذه الرحلة في عالم الإلكترون نرجع إلى القضيتين اللتين تسبب الإلكترون بإثارة النقاش حولهما، وكذا نظرية الكم وميكانيكا الكم القائمة على دراسته. ¬

_ (¬1) انظر: فلسفة العلوم، بدوي ص 228 - 230. (¬2) انظر: من نظريات العلم المعاصر إلى المواقف الفلسفية، زيدان ص 26 - 27.

الأولي: عواصف تواجه الفكر المادي وتياراته: لقد رأينا ابتهاج الماديين بشتى تياراتهم في القرن التاسع عشر (13 هـ)، بانتصارهم على الدينيين والمثاليين، يزعمون أن العلم -سواء في فيزياء نيوتن ومن بعده لابلاس أو مع داروين وغيره- يؤكد صحة مذهبهم؛ لأنهم لا يرون مذهبهم بناءً فكريًا وفلسفيًا فقط، بل يزعمون أن العلم يدعم رؤيتهم أيضًا. وتقوم رؤية الاتجاه المادي على أن الحقيقة هي في المادة فقط، وأنها أصل الوجود وحقيقة العالم، وما سوى ذلك مما يعتقده أهل الأديان من عالم الغيب أو ما يراه أهل المذاهب المثالية من وجود ماهيات عقلية ومُثل، فكل ذلك مما لا حقيقة له. وإذا كان من السهل عليهم مجابهة النظرية النسبية لكونها صياغة علمية بروح فلسفية، فالزمان النسبي أو المكان النسبي وانحناء الكون وغيرها من مفاهيم النظرية النسبية ليست مما يمكن وضعه بسهولة تحت محك التجربة، ولكن صعُب عليهم التعامل مع نظرية الكم لأنها ضمن دائرة العلم الفيزيائي الضيق، وهو العلم نفسه الذي تزعم المادية أنها بنت أدلتها عليه. وقد رأى الماديون والوضعيون بأن العلم والمادة هما الدين البديل عن دين القرون الوسطى، ولكن نظرية الكم وعالم الإلكترون قد هشم هذا الدين المادي البديل (¬1)، يقول أحد الكتاب الغربيين: "عشنا طوال القرن التاسع عشر، وجزءًا من القرن العشرين في جو مذهب مادي واثق من نفسه. . . . كان عالمًا ميكانستيًا، وكنا نجلس فوق قمته. كنا نمسك بالقوى الظاهرية للمادة، وكانت المادة هي إلهنا. كان العالم الطبيعي يتحدى الوحي الروحي للإنجيل بنظرياته في الإلحاد والعقلانية. ويمكن للمرء أن يقول: إن هذه الحقبة للمذهب المادي قد امتدت حتى يوم انفجار القنبلة الذرية فوق هيروشيما. . . . وأظن أنه يصح لي أن أقول: إن المادة قد انتحرت الآن -وأنه قد تكشف لنا أن المادة لم تعد قادرة على أن تحمي أو تنفع أي إنسان في أي مكان ما لم توجه الأفكار التي تسندها نحو مفاهيم جديدة للاتكال المتبادل" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: فلسفة العلم، فرانك ص 288. (¬2) فلسفة العلم ص 296.

ولا شك أنها نقلة كبيرة من قرنٍ أُلِّهت فيه المادة إلى قرن انتحرت فيه. وبدا الأمر وكأن نظرية الكم مع صاحبتها النسبية ترخّصان بدخول "العنصر العقلي أو الروحي في الكون الفيزيائي، بينما تدعو النظرية النيوتونية للكون الفيزيائي إلى استحالة ذلك. ومن المؤكد أن هذا لم يكن رأي نيوتن. . . ." (¬1). ويذكر "فرانك" أيضًا عن أحد الكتاب بأنه قدّم "البرهان الواضح على أن فيزياء القرن العشرين قد أعادت إلى الكون دور الروح الذي لفظه نمط الفيزياء النيوتونية"، وقد أورد هذا البرهان كثير من أصحاب الكتب والمقالات والمحاضرات، ومفاد البرهان أننا كما نشعر بأمور دون أن نعلم حقيقتها في نظرية الكم أو نظرية النسبية، وهذا يعني بأننا "لم نعد مضطرين إلى الاعتقاد بأن "المادة المتحركة" هي وحدها الشيء "الحقيقي". . . ."، وفي الوقت نفسه "فإننا لم نعد مضطرين إلى الاعتقاد بأن تجاوبنا مع الجمال، أو أن إحساسنا بالارتباط الخفي بالله ليس لهما نظير موضوعي. . . ." (¬2). وإذا نظرنا أيضًا إلى علماء الفيزياء في القرن الرابع عشر/ العشرين، وهم من يعوِّل عليهم التيار المادي في ماديته نجدهم قد مالوا في الغالب إلى الشق المثالي من الفلسفة، وهو وإن لم يكن مرادفًا للدين أو مساويًا له، فإنه على الأقل يشترك معه في إثبات وجود عالم خفي يؤثر في عالم الحسّ والمادة والشهادة (¬3)، وذلك يمثل تحديًا كبيرًا للماديين، إذ سيقال لهم: إن أهم أدلتكم على مذهبكم المادي، وأقواها إنما يستند على الفيزياء خصوصًا، وهاهم علماؤها لا يميلون إلى ماديتكم وتأخذ بتصوراتهم الفلسفات المثالية والوضعية الجديدة، أتكونون علميين أكثر منهم؟! ¬

_ (¬1) المرجع السابق ص 290. (¬2) انظر: المرجع السابق، فرانك ص 293 - 294، ونجد مثل هذا الاستدلال شائعًا حول النظرية وبهذه الصورة، ويمكن صياغته بصورة أصح من الناحية الشرعية بحيث يقال: إن صحت مثل هذه النظرية بمفاهيمها، وهي تدل على عالمٍ مخلوق لا يمكن رؤيته وإنما يعرف بآثاره، فمن باب أولى صحة ما يستدل به المقرون بوجود الله سبحانه والمؤمنون به من معرفته سبحانه من آثاره ومخلوقاته، ويكون من قياس الأولى المعتبر. (¬3) انظر: من نظريات العلم المعاصر إلى المواقف الفلسفية، زيدان ص 81، الفصل الرابع، وانظر: الفيزياء والفلسفة، جينز ص 267، وانظر: أسس المنهج القرآني في بحث العلوم الطبيعية، د. منتصر مجاهد ص 26.

وبعيدًا عن تقويم هذه المواقف فإن المتابع لهذه الأحداث يجد نقلة كبيرة في الفكر العلمي والفلسفي المعاصر، وهي نقلة ليست سهلة، فبينما ساد اعتقاد راسخ في القرن التاسع عشر (13 هـ) عند العلماء والمفكرين بأن "الحديث عن وجود حقائق لا مادية، مثل وجود الله أو النفس يعتبر تفكيرًا غيبيًا غير علمي" لدرجة أن أحد أعلام تلك المرحلة -لابلاس- يقول لنابليون "حينما سأله عن الدور الذي يقوم به الله في تدبير الكون، فقال: إنني لست بحاجة إلى هذا الفرض يا سيدي" (¬1)، وإذا بنظرية الكوانتم تؤكد بأن المادة المحسوسة تكاد تكون وهمًا بصورتها في المذاهب المادية. وأن الحقيقة ما هي إلا جسيمات غير مرئية على الإطلاق، وإنما نستدل على وجودها من آثارها، وإذا كان الإلكترون غير قابل للمشاهدة وإنما نستدل على وجوده بآثاره، فلم لا يكون الإقرار بالله -عَزَّ وَجَلَّ- وإثبات النفس والوعي والقيم مما يمكن ربطها على نحو جديد بتصور عصرنا العلمي (¬2)؟! ومن المؤكد بأن للمسلم نظرة خاصة حول هذه الأحداث عندما يقيّمها من خارجها, لاسيّما في مسألة كهذه تدور حول الإلحاد والإيمان, أو بين المادية والغيب، ومن معالم هذه النظرة: بأنه وإن رأى انتصار المثاليين على الماديين، فالمادة لم تعد هي المادة، وإنما هي كائن غير مادي، وإن رأى انتصار المؤمنين على الملحدين -بحسب اصطلاحاتهم- باستدلالهم بأنه كما أن هناك موجودات مادية غير مرئية أو إنما تعرف بآثارها، فمن باب أولى وجود الله سبحانه، وكذا الأخلاق والوعي والعقل والنفس والحرية، وهي عناصر بناء اللاهوت في الغرب والفلسفات العقلية والمثالية، إنه -وإن رأى كل ذلك- فهو يعرف النقص الكبير الذي فيها؛ ذلك أنها -وإن نجحت في إلجام الماديين والملحدين فهي- غير كافية لقيادة الناس نحو الدين الحق والاعتقاد السليم، وإنما ذلك مرتبط بطرف آخر لم يمارس دوره الحقيقي في جوّ هذه المعركة وهم المسلمون، فإنه لو صاحب مثل هذه النكسات للتيارات المادية والإلحادية أمة تُبيّن للناس الدين الحق، وترشدهم إلى الاعتقاد السليم لربما رأينا من يتحول عن مذاهب مثالية ¬

_ (¬1) انظر: هامش رقم (2) عند بدوي، فلسفة العلوم ص 232، وانظر: الفيزياء والفلسفة، جينز ص 151. (¬2) انظر: المرجع السابق، بدوي ص 233.

جوفاء إلى دين السماء، ولكن الأمة الإِسلامية كانت في هذه المرحلة تمرّ بضعف شديد يستحي بعض أهلها من الاعتراف بإسلامهم أمام الغرب المتحضر في نظره فضلًا عن أن يدعو إلى دينه، ومنهم من انهمك في هذه المرحلة في تقليد أعمى لمذاهب ضالة وتحول من موطن الريادة والقيادة والدعوة والتبليغ إلى موطن التبعية والتقليد. ومما ينبغي تذكره دائمًا بأن الإلحاد والمادية لا علاقة لهما بجوهر العلم، فالعلم ليس ماديًا ولا إلحاديًا، وإنما هو نشاط إنساني يمكن توجيهه هنا أو هناك، ومما يدل على ذلك بأن الاتجاه المادي والإلحادي قد أقام مذهبه هذا على فيزياء نيوتن من جهة آليتها -ميكانيكيتها- أو قيامها على المادة فقط، ولكننا نجد أن نيوتن نفسه لم يكن ماديًا ولا ملحدًا، وإنما ذلك كان من قبل الاستثمار الأيديولوجي المبني على الهوى لفيزياء نيوتن. وأغلب رواد الثورة العلمية من كوبرنيكوس إلى نيوتن لم يكونوا ملاحدة أو ماديين وإنما كانوا مؤمنين باصطلاحاتهم الغربية. وأيضًا فإن الإيمان بالله سبحانه والإقرار بوجوده، وما يتبع ذلك من الالتزام بدينه والقيام بالعبودية الكاملة له سبحانه، مما لا يرتبط بالفيزياء أو الكيمياء أو الرياضة أو غيرها من العلوم. فهو بداية أمر فطري فطر الله الناس عليه، ثم هو أمر تقرّه العقول الصحيحة, ومع ذلك فإن الفطرة قد تطمس والعقول قد تضل؛ لهذا تكفّل الله سبحانه بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وكان خاتمهم محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وفي ذلك الحق وحده، وأما هذه العلوم فالصحيح منها إن لم يدل على ما أنزل الله من الهدى والحق فإنه لن يعارضه، وكل ما عارضه من علوم البشر فإما لخطأ فيها أو لسوء استثمار لها أو عدم معرفتها معرفة صحيحة. ونقول هذا الكلام حتى لا يأتي من يقول بأن نظرية الكم مثلًا توافقت كثيرًا مع عقيدة الإقرار بالغيب؛ لكن جاء بعدها نظرية أخرى كشفت نقصها أو ضعفها أو خطأها، فهل يعني ذلك أن يترك الناس الإقرار بالغيب من أجل سقوط نظرية كانت تؤيده. وهذا الأمر يؤكد خطورة التساهل في التعامل مع النظريات العلمية التي لم تتحول إلى حقائق قطعية يقينية في الأبواب الدينية، وربما تكون السلامة في ظل ما يُسمى بـ"الحقائق العلمية النسبية" التوقف كثيرًا حتى مع تلك التي اشتهر عنها بأنها حقائق قبل استثمارها دينيًا؛ لأن قيمة الحقيقة إنما اكتسبتها من

أهل دائرة العلم، ولا يستطيع غيرهم التأكد من صحتها؛ لأن الناس في باب النظريات المعاصرة تبع للعلماء، يثقون بكلامهم دون قدرة الناس العاديين من التأكد والتوثق من صحتها، فمن يستطيع مثلًا التحقق من نظرية النسبية العامة. ويستدعي هذا النقاش التحذير من مواقف متساهلة ظهرت على السطح الإِسلامي يقوم أصحابها بأمرين خطيرين -إن لم يُبنَيا على علم وبصيرة- وهما: التفسير العلمي لنصوص الوحي أو بيان الإعجاز العلمي فيها. وعلى قدر ما أشعر بجلالة الأمر الذي يقومون به وسموّ مقصدهم ونبل غاياتهم؛ إلا أن التساهل في هذا الباب قد يُفسِد أكثر مما يصلح، وإنما ذكرت هذه الملحوظة هنا لشيوع الاستثمار الديني لمثل نظرية الكم. وعندما أعرض للصدمة التي تعرض لها الاتجاه المادي والإلحادي، فإنما أقدم صورة من صور الاستثمار غير المشروع للعلم ونظرياته ومفاهيمه ومناهجه، وأن ذاك الاستثمار قد ضُرب من معاقل العلم ذاتها، وهذا النوع مما له ثمرة في التحليل النقدي وبيان الانحرافات المرتبطة بالتطور العلمي عندما يساء استخدامه. وخلاصة القضية الأولى بأن الاتجاه المادي والإلحادي قد تزعزعت منظومته الفكرية المستندة للعلم، ففقد الحجج التي كان يستند عليها. فإن أراد الملحد الإصرار على الإلحاد فلا سند له من العلم، ولهذا نجد التيارات الإلحادية الجديدة بعيدة عن ميدان العلم بخلاف تيارات القرن السابق، وهذا لا يعني قلة الإلحاد ولكن سنده العلمي قد ضعف. الثانية: اللاحتمية أو اللايقين وأثرها في إضعاف المذاهب الحتمية الجامدة: من بين أشهر القضايا التي أشغلت الفكر الغربي قضية حرية الإرادة، وحرية الإرادة قضية مرتبطة بالإنسان، هل هو حرٌّ مختار أم أنه لا يملك حريته واختياره؟ وهذه المسألة ليست جديدة، فهي مسألة شائكة في كل الأمم، والاختلاف حولها كبير، وغالبًا ما نجد في كل أمة الانقسام المشهور بين اتجاه ينحى منحى مذهب الجبرية، وآخر ينحى منحى مذهب القدرية، وهي مسألة ترتبط بالإيمان بالقدر عند المسلمين والإيمان بالله -سبحانه وتعالى- وتحقيق توحيد الربوبية. وقد سلك الفكر الغربي الحديث أول أمره مسلك الحتمية الشبيه بالمذهب الجبري، مستندين في ذلك إلى دائرة العلم ذاته، فهم يرون بأن قوانين نيوتن

الفيزيائية قد فسرت حركة الكون، وأنه يسير بشكل دقيق لوحده، ويكفي -بحسب رأي لابلاس- أن نعرف نقطة من نقاط مسار أي حدث لنعرف بقية نقاطه (¬1). ثم عُمّم ذلك إلى بقية المجالات بما فيها الإنسان ذاته ومشاعره وأفكاره والمجتمعات وحركة التاريخ والحضارات وهكذا. وقد كان الاتجاه المادي أشهر الاتجاهات ادعاءً للعلمية، ومما برّروه علميًا موقفهم من مشكلة حرية الإرادة، فهذا كان أصل العالم كله يرجع إلى مادة وحركة، وقد كشف نيوتن قوانين حركتها، فإن ذلك بحسب رأي الماديين يشمل الإنسان؛ ففسروا "الفكر على أنه نشاط ميكانيكي للمخ، والعاطفة على أنها نشاط ميكانيكي للجسد" (¬2)، وكان ميلهم تبعًا لذلك إلى مذهب الحتمية الجبرية. وبما أن التفسير المادي للإنسان يخضع لميكانيكا مادية مستوحاة من الفيزياء؛ فإن مثل هذا التفسير لابد أن يتأثر عند التغير في دلالات المصدر. وقد رأينا أثر نظرية الكم في زعزعة المذهب المادي جملة، ونرى هنا أثرها في زعزعة قضية مهمة من قضايا الاتجاه المادي هي الحتمية. وقد كان سبب هذه الأحداث والتغيرات هو بعض ما كشف عن عالم الإلكترون، فكما أنه قد أصاب الاتجاه المادي عمومًا في مقتل؛ فإنه هنا أيضًا أصاب قضية الحتمية المادية بإصابات مماثلة، ويظهر أن هذا الكائن الصغير الذي لم يره أحد قد كان نقمة شديدة على الاتجاه المادي. يتعلق الأمر هنا بالمبدأ المشهور في نظرية الكم الذي اكتشفه الفيزيائي "هيزنبرج" عام (1927 م)، وهو مبدأ اللايقين، وخلاصته: أنه بعد نجاح "طومسون" في تفتيت الذرة واكتشافه الإلكترون داخلها، واكتشاف "راذرفورد" النواة، وتصورهم بأن الإلكترون يدور حولها، جاء بعدهما "نيل بور" بافتراضٍ حول حركته: فالإلكترون لا يبقى في مدار محدد حول النواة، وإنما يقفز من مدار إلى آخر، يشبه في ذلك قفزات حيوان الكنغرو في حقل، جاء بعدهم "دي ¬

_ (¬1) انظر: الفيزياء والفلسفة، جيمس جينز ص 149 - 150، وانظر: العلم والاغتراب والحرية. مقال في فلسفة العلم من الحتمية إلى اللاحتمية، د. يمنى الخولي، الفصل الثالث: ضروب الحتمية العلمية. وانظر: فلسفة العلم، فيليب فرانك ص 305. (¬2) الفيزياء والفلسفة، جيمس جينز ص 274.

بور وشرودنجر" ليفترضا أن الذرة والإلكترون من طبيعة موجية، عندها لا يكون لهما وضع محدد داخل الذرة. أخيرًا جاء "هيزنبرج" ليكشف شيئًا أكثر غرابة عن الإلكترون، فبعد تجاربه وملاحظاته عن الإلكترون -كما سبق- توصل إلى "مبدأ اللايقين الذي يقول: إن من المستحيل من حيث المبدأ أن ترصد موضع الإلكترون وسرعة حركته واتجاهها بدقة متناهية في نفس الوقت" (¬1)، ومن نتائجه ذات الأثر في موضوع الحتمية "أننا إذا عزلنا إلكترونًا واحدًا عن بقية مجموعة الإلكترونات في مجال واحد، وحددنا تحديدًا دقيقًا سرعة حركته واتجاهها، فلن نستطيع تحديد موضعه المكاني بنفس الدقة، وإذن فبالأحرى لا نستطيع أن نتنبأ بموضعه وحركاته في أي لحظة أخرى في المستقبل، وذلك يهدد مبدأ الحتمية" (¬2). وتبع هذه التطورات العلمية بلبلة فكرية حول حقيقة التصورات التي بناها فلاسفة ودعاة مذاهب على مفاهيم علمية سابقة، ومما يزيد عمق المشكلة بأن التطورات لا تدفع إلى نهاية الطريق وفق تراكمات معرفية يكمل اللاحق السابق ويصحح قصوره، بل يكاد الأمر يكون أشبه بالعودة إلى نقطة البداية، ويكاد يكون كل ما هناك: أنه في عصر الفيزياء الحديثة كان من السهل إطلاق أحكام قطعية في الموضوع أما بعد الثورة الجديدة في الفيزياء المعاصرة فقد كشفت بأن الأمر أعقد من ذلك بكثير، ومن هنا تحولها إلى مفاهيم الإحصاء والاحتمال بدل القوانين القطعية (¬3). وقد استثمر البعض مثل هذه النتائج في إثبات حرية الإرادة للإنسان واختلافه عن عالم المادة، وأنه وإن كان عالم المادة يخضع لحتمية كونية، فإن الإنسان غير ذلك، وإلا لما كان هناك فائدة أو تبرير لوجود الأخلاق أو الشرائع ¬

_ (¬1) سبق الحديث عن الإلكترون، وانظر أيضًا: من نظريات العلم المعاصر إلى المواقف الفلسفية، د. محمود زيدان ص 27. (¬2) من نظريات العلم المعاصر إلى المواقف الفلسفية ص 104 - 105، وانظر: فلسفة العلوم، د. بدوي عبد الفتاح ص 273 وما بعدها. (¬3) انظر: من نظريات العلم المعاصر إلى المواقف الفلسفية، الباب الثاني، الفصل الثالث، وانظر: الفيزياء والفلسفة ص 287، وانظر: العلم والاغتراب والحرية، الفصل الخامس (انقلاب العلم المعاصر على الحتمية)، ومع أن في المرجع الأخير شرح موسع إلا أن فيه مبالغة حول القول بميل العلماء إلى اللاحتمية تمامًا.

د- خاتمة حول الفيزياء المعاصرة

أو الواجبات. أما بعد أن ظهر أنه حتى في باب المادة يصعب القول بخضوعها التام لمبدأ الحتمية فمن باب أولى الإنسان. ومع ذلك فقد كانت هناك بعض الاعتراضات على مثل هذا الموقف؛ لأن نظرية الكم لاسيّما فيما يتعلق بحركة الإلكترون لم تجزم بعدم سيره على نظام معين، وإنما كل ما هنالك الجهل إلى الآن بحقيقة هذا القانون الذي يسير في ضوئه، ويزيدون في اعتراضهم بالقول العام المناسب لكل نظرية: بأن العلم قابل للتطور فهل نربط حرية الإرادة بالنظريات العلمية، فماذا نفعل لو ظهرت تطورات علمية ساندت من جديد الرأي القائل بالحتمية (¬1). وهذا الجدل الدائر في الوسط الغربي مفيد لغيرهم، إذ من المهم -ونحن نتابع مثل هذه التطورات- أن تنتبه أمتنا لمثل هذه التجارب، ويتخذ أهلها من ذلك الدروس الكافية؛ فإنه في مثل هذا الباب ورغم الجدل الدائر حول الموضوع منذ مئات السنين، إلا أنهم لم يصلوا فيه إلى الحلّ المريح، ومثله ما حدث في بلاد المسلمين من جدال واسع بين القدرية والجبرية، فما استطاع أحد منهما إيجاد ما يثبت صحة كلامه، وهذا يعني أن المشكلة لن تجد حلها في دائرة العلم ولا في دائرة الفلسفة. فأما العلم فها هي نظرياته تدفع بهم في اضطراب دائم من اليمين إلى اليسار أو عكسه، ولذا رأى آخرون بأن الحل هو في الفلسفة، ومع ذلك فهي أكثر حيرة في الباب، فما بقي إلا العودة للحل الديني الذي نجده في الوحي من كلام رب العالمين سبحانه وهدى سيد المرسلين محمَّد - صلى الله عليه وسلم -. د- خاتمة حول الفيزياء المعاصرة: تعود الإطالة مع نظريتي الفيزياء لأكثر من سبب؛ منها: أنهما أشهر نظريات العلم في القرن الرابع عشر/ العشرين، ولذا فهي أنسب لتمثيل القرن، كما أنها ترتبط بعلم يُعدّ من أدق العلوم الطبيعية وهو سبب وجيه لجعله مقياسًا لغيره، كما أن آثارها في مجالات عدّة من مجالات الفكر وشهرتها وامتدادها إلى اليوم، كل ذلك يدفع أي باحث للتوقف معها أكثر من غيرها, لاسيّما أن هناك ¬

_ (¬1) انظر: فلسفة العلم، فيليب فرانك ص 311 وما بعدها، وانظر: الفصل السادس من العالم بين العلم والفلسفة، جاسم العلوي ص 163.

[3] علاقة العلم بالفكر في القرن "الرابع عشر/ العشرين م"

من يجعلها في مستوى الثورة العلمية الأولى من حيث الآثار الناتجة عنها. ويكاد يكون حجم المشاكل التي فتحتها الفيزياء المعاصرة داخل إطار الأفكار والمناهج والمذاهب والمجتمع بحجم المشكلة التي أثارها تفجير القنبلة النووية وخوف العالم من هذا الإنتاج الفيزيائي. إلا أن العالم يعتني بالتحذير من المشاكل والأخطار النابعة عن الإشعاعات النووية، وقامت مؤسسات عالمية رسمية وشعبية للتصدي لمثل هذا الخطر. ولكن في المقابل لا يتم الحديث بالجهد السابق نفسه عن أبعادها المنهجية والفكرية والثقافية، السلبي منها والإيجابي، الصحيح والخاطئ، وإنما يُكتفى عالميًا بالانهماك في خطرها المادي على جسم الإنسان أو على الأرض، وما تحدث من تلوث في باطن الأرض أو خارجها وهو أمر عظيم دون شك، بينما جانب القيم والأفكار والدين والإيمان تترك دون عناية في مستوى السابق. وهنا يتحدد واجب المسلمين أمام النظريات العلمية وتظهر هويتهم وما يتميزون به عن غيرهم، إذ الأصل أن يُعنى عند التعامل مع العلوم ونظرياتها ومكتشفاتها بعلاقة كل ذلك بدين الإنسان وقيمه مع العناية بآثارها على جسد الإنسان والبيئة المادية المحيطة به؛ لأن الغرب انصرف إلى الحياة الدنيا وأسقط الآخرة من حساباته، لذا تكون عنايتهم بآثار مثل هذه العلوم ونظرياتها على الإنسان في الدنيا فقط، أما المسلمون فهم يعلمون بحقيقة الدارين والمنزلين، وهم على يقين بعالم آخر غير هذا العالم الأرضي، لذا فهم عند نظرهم في هذه العلوم وتعاملهم مع نظرياتها ومكتشفاتها يربطون ذلك بما يعتقدونه، وينظرون للآثار الدنيوية والدينية، الأرضية والأخروية. ويجعلون مثل هذا الاعتقاد ضابطًا للصواب والخطأ مما يجدونه عند غيرهم ومعيارًا لما يقبل أو يرفض. [3] علاقة العلم بالفكر في القرن "الرابع عشر/ العشرين م": رأينا في الفقرات السابقة -عن القرن الرابع عشر/ العشرين الميلادي- المستجدات المهمة في العلوم الاجتماعية، وأهمها ما طرأ على علمي الاجتماع والنفس من تطورات، وبروز نظريات للعلمين، وتأثيرهما الكبير في الفكر المعاصر. ورأينا أيضًا أبرز تطور في العلوم الطبيعية وهو ما حدث في ميدان الفيزياء بميلاد أشهر نظريتين في القرن، وهما: النسبية والكم، وما ارتبط بهما

من آثار وحوار وجدل، وهي في الأهمية لدرجة أن هناك من يجعلها ممثلة لثورة علمية جديدة غيّرت كثيرًا من مفهوم العلم. وقد أحدثت هذه التطورات العلمية آثارها في الفكر المعاصر، وفتحت المجال لظهور نقاشات كبيرة، بل ظهور مذاهب خاصة بالعلم أو مجالات فلسفية تُعنى به كالإبستمولوجيا مثلًا. وبسبب الكشوف العلمية والتطورات المنهجية أعيد من جديد أهمية البحث في قيمة العلم وحدوده وإمكانياته ومجاله، وهي موضوعات كان الظن في القرن الماضي أنها قد حسمت لصالح النظرة الوضعية العلموية. ومما رأيته مهمًا في الباب ويحتاج إلى وقفة وبحث: تلك الدراسات العلمية والمنهجية والفلسفية حول العلم وأهمها ما يدور في إطار فلسفة العلم أو الإبستمولوجيا وما تبعها من مواقف -تخالف تلك المعروفة في القرن الماضي- ترى بأن العلم له حدوده، وأن هناك مجالات أهم تتعلق بالوجود والإنسان والحياة، فإذا كان العلم لم يخدم تلك المجالات، فعلينا أن نبقيه في مجاله، ونبحث لها عن حلِّ في غيره أو أن نتجاوزه حتى وإن أدى ذلك إلى عدم الاكتراث به. وهذا مما يفسر ظهور مذاهب كثيرة ضد المادية والوضعية تمثلت في المثالية والعقلانية الجديدة والبرجسونية ومذاهب الحياة والعمل والبراجماتية والوجودية والتوماوية الجديدة والدينية والروحانيات الصوفية وغيرها. مع العلم أن أصحاب هذه المذاهب ليسوا ممن يجهل العلم ونظرياته وتطوراته وفائدته، بل إن منهم علماء في تلك العلوم. وعن بين الظواهر الأكثر إلفاتًا في هذا الجو ميل كثير من العلماء إلى ترك الإلحاد الشائع عند أسلافهم والارتماء في أحضان مذاهب مثالية، علّهم في ذلك يجدون بعض ما يشفي غليلهم ويجيب عن تساؤلاتهم، ومنهم من أعلن إيمانًا دينيًا يتعارض مع موضة الإلحاد السائدة في السابقين. لا شك أن مثل هذه الموضوعات مهمة لمثل هذا البحث، وهي رغم أهميتها لم تجد إلى الآن الدراسات الإِسلامية التحليلية والنقدية الكافية. وأما حدودي هنا فتقف عند إبراز أهم معالمها مما يعطي صورة مساعدة لفهم موضوعات قادمة بإذن الله.

أ - طبيعة النظرية العلمية وحدودها "طبيعة المعرفة العلمية وحدودها"

أ - طبيعة النظرية العلمية وحدودها "طبيعة المعرفة العلمية وحدودها": لنتذكر في هذه اللحظة خط سير الفكر الغربي حول موضوع العلم، فقد كانت البداية مع الثورة العلمية، وكان أغلب رموزها من غير الملحدين؛ بل منهم من كان من خريجي المدارس الكنسية، واعتنى أهم رموزها بالتوفيق بين نظرياتهم والدين. وبسبب أوضاع تاريخية أوروبية غربية؛ انحرف مسار الفكر العلمي مع تيارات كثيرة، وأصبحت الفكرة السائدة بأن العلم يمثل التطور الحقيقي للبشرية بخلاف الدين والميتافيزيقا، ومن هنا أُبرزت ضرورة القطيعة التامة والجذرية بين الدين والعلم، ومع الأيام اتسعت القطيعة والانفصال بينهما مع تعبئة الاتجاه العلمي بكراهية شديدة للدين وقضاياه لدرجة أن أصبح العلم رديفًا للإلحاد عند الكثير، وأن العلم هو الدين الجديد والبديل عن الدين الموروث وعن الميتافيزيقا، وأن العلم مع العقل قادر على الإجابة عن كل الأسئلة وحلّ كل المشكلات. ولكن بنهايات القرن الثالث عشر/ التاسع عشر حدثت تطورات كبيرة، كان منها ما توجّه إلى العلم لتفحص حقيقة حدود تلك القدرات المزعومة له. ومنها ما توجه إلى العقل ذاته للبحث في معناه، وفي قدراته على مشاركة العلم أو قيادة العلم نحو ما يكفل التقدم والتطور. وقد كانت هذه الوقفة الغربية مع العلم أو العقل متعبة وقاسية قادت الكثير من الواقفين إلى الشك في قدراتهما ومحاولة إعطاء تصور جديد لمعناهما وحدودهما. ففيما يخص العقلانية الغربية نجد هجومًا قاسيًا ضدّها وانقلابًا كبيرًا عليها، وبحسب تعبير أحد الراصدين للفكر الغربي وعقلانيته؛ فقد ختم تلك المسيرة العقلانية بالقرن الرابع عشر/ العشرين معنونًا لها بـ"الهجوم ضد العقل" و"نزعة العداء للعقل" (¬1) وهي نزعة تكاد تغلب على مذاهب القرن الرابع عشر/ العشرين. وهذه النزعة ضد العقل والداعية إلى الزهد فيه ميدانها الدراسات الخاصة بالفكر والفلسفة، أما ما يناسب بابنا فهو الحديث عن نوع آخر من وقفة الفكر الغربي ¬

_ (¬1) هو "كرين برينتون" في كتابه (تشكيل العقل الحديث) الذي خصصه لمتابعة هذه العقلانية منذ عصر النهضة، مستعرضًا ذلك في خط تصاعدي إلى نهاية التاسع عشر، وعندما وصل للقرن العشرين عنونه بـ (الهجوم ضد العقل)، انظر: الفصل السابع والثامن.

1 - نقاد العلم

مع ذاته وهي تلك المتعلقة بالعلم، وكان أبرزها: "نقاد العلم" في المقام الأول، ثم "الوضعية الجديدة" بداية بـ "ماخ" أو مع أصحاب حلقة فيينّا وما خرج عنها تحت مسمى "الوضعية المنطقة". وفي مقابل هؤلاء تأتي "العقلانية العلمية الجديدة" ذات روح مثالية، وتأتي مذاهب "العمل والحياة" المعاصرة. لقد شكلت كل هذه الاتجاهات موقفًا جديدًا حول طبيعة النظرية العلمية أو المعرفة العلمية، وحدودها، نقف فيما يأتي على أهم ما أثارته حول العلم ونظرياته. 1 - نقاد العلم: لم تخل الساحة الفكرية الغربية من نقاد العلم؛ إلا أنهم كانوا فيما مضى من خارج دائرة العلم، وأما الجديد هنا فهو ظهور مجموعة من نقاد العلم من العلماء، أو ممن لهم صلة قوية بالعلم ولديهم معرفة جيدة به. ومما يُلحظ بأن هذه المجموعة عُرفت أولًا في فرنسا وبعضهم من الكاثوليك؛ أي: من أرض الدعوة للوضعية والعلمانية التي أسست للدين الجديد ممثلًا في العلم وظهور نزعة مذهبية وضعية علموية "ترى أن المعرفة العلمية، الفيزيائية والكيميائية هي وحدها المعرفة الحق" (¬1)، وميّز الدكتور "الجابري" بين نوعين لها: الأولى علموية ميتافيزيقية: تعتقد أن العلم سيحل جميع المشاكل التي كانت من اختصاص الميتافيزيقا، وقد حاولت إقامة تصورات عامة عن الكون والإنسان بواسطة "النتائج العلمية" وهكذا نشأت تبعًا لذلك ديانات وضعية. الثانية علموية منهجية: ترى أن المنهاج المتبع في الفيزياء والكيمياء هو وحده الصالح؛ ولذلك يجب تطبيقه في العلوم الإنسانية. واستعارت مفاهيم الفيزياء والكيمياء لتستعملها بشكل تعسفي ساذج في الميادين الاجتماعية والسيكولوجية (¬2). ومع انتشار هذه النزعة ووصولها إلى ذروتها في القرن التاسع عشر (13 هـ) ظهر تيار من داخل العلم ذاته ينادي بالتوقف قليلًا عن هذا التعصب للعلم؛ لأنه ¬

_ (¬1) مدخل إلى فلسفة العلوم، د. محمد الجابري ص 290. (¬2) انظر: مدخل إلى فلسفة العلوم ص 290 - 230.

في الحقيقة ليس بتلك الصورة المتخيلة عند أصحاب النزعة العلموية. وقد كان نقاد العلم هم الأشهر صوتًا في هذا الميدان، وكانت بداياتهم في نهايات القرن التاسع عشر، وازدهرت في مفتتح القرن العشرين (14 هـ) (¬1). هناك مجموعة أسماء أسست مجال نقد العلم في فرنسا وخصوصًا الفيزياء مثل: "بوترو" و"بوانكاريه" و"دوهيم" و"برجسون" و"لوروا"، وكان هدفهم من نقد العلم تعيين حدوده (¬2). وقد سار كل واحد منهم أو من المتأثرين بهم في طريق يصب في هذا المجال. فمنهم من ابتدأ بالرياضيات، ومنهم من جعل نموذجه الفيزياء، وآخر علم الفلك، ورابع القوانين العلمية أو النظريات العلمية، وهكذا، يعيدون قراءتها وتحليلها ويبحثون خلال ذلك حدودها وقدراتها، وبصورة درامية عبّر عنها "أندريه كريسون" بأن العلم يشرع بمقاضاة ذاته (¬3). وكان خلاصة ما قرروه بأنه "مهما تكن نظريات علوم الطبيعة كاملة، فلا ينبغي اعتبارها إلا كوسائل كلامية ملائمة. فلنعتبرها كوسائل لتصور الأشياء، كوسائل نافعة لأذهاننا البشرية. ولنعتبرها كمخطط، كوسيلة مذكرة، كحيلة مبتدعة للسيطرة على الكون، ويجب أن لا نعتبرها أكثر من ذلك" (¬4)، وأقرّ عندها "كثرة من المفكرين، المستقلين في أصولهم، بأن العلوم الوضعية لا تتمتع إطلاقًا بتلك الدلالة وذلك المدى الميتافيزيقي اللذين عزاهما إليهما سبنسر وتين" من أصحاب النزعة العلموية، وعكف بعدها الباحثون يتحرّون "عن دلالة المفاهيم الأساسية التي تستخدمها العلوم وعن قيمتها" (¬5). فلنأخذ بعض النماذج من هذا التيار: بوانكاريه. لقد انطلق بوانكاريه في نقده للعلم من الرياضيات إلى بقية العلوم "وانتهى من نقده إلى تقرير أمرين: ¬

_ (¬1) انظر: تاريخ الفلسفة. الفلسفة الحديثة، إميل برهييه 7/ 199. (¬2) انظر: موسوعة الفلسفة، د. عبد الرحمن بدوي 1/ 485، وانظر: تاريخ الفلسفة، إميل برهييه 7/ 187، الفصل الحادي عشر (نقد العلوم)، وانظر: تيارات الفكر الفلسفي، أندريه كريسون ص 400 وما بعدها، وانظر: الفلسفة المعاصرة في أوروبا، بوشنسكي ص 42. (¬3) انظر: تاريخ الفكر الفلسفي، كريسون ص 300. (¬4) تاريخ الفكر الفلسفي ص 403. (¬5) انظر: تاريخ الفلسفة، برهييه 7/ 187.

الأول: هو أن العقل يتمتع بحرية تجربة واسعة في ابتكار المفهومات في الرياضيات والعلوم. والثاني: أن النظريات الرياضية والعلمية هي في جوهرها اصطلاحية وفروض ميسرة" (¬1)، وهو بهذا يُسقط ما تصوره المذهب الواقعي عن النظريات العلمية من جعلها صورة طبق الأصل للواقع وإعطائِها قيمة مطلقة. فالعقل يتدخل في صياغتها, ولذا نجدها دائمًا تقبل التطور والتغير، والعالِم إنما يختار من النظريات ما يراه مناسبًا لعمله دون عنايته بموضوع مطابقته للواقع. وإذا كان الأمر كذلك فانه لا يُطبّق على النظرية العلمية معيار الصواب والخطأ ولا ينظر إليها من جهة المطابقة، وإنما ينظر إليها على أنها فرض، الغرض منه التيسير والتسهيل، ويمكن تغييرها عند الحاجة، وتم الانتقال من الصحة والخطأ إلى الملائم أو غير الملائم (¬2). - دوهيم. وإذا كان "بوانكاريه" انطلق من الرياضيات في نقده للعلم فإن منطلق دوهيم ثاني أشهر شخصية في نقد العلم كان من الفيزياء، وهما أهم عِلْمين في العصر الحديث وأدقهما في باب العلوم الحديثة. فقد كان أهم كتبه "النظرية الفيزيائية: موضوعها وتركيبها"، ومما يراه عن النظرية أنها نظام يهدف إلى تمثيل مجموعة من القوانين على أبسط وأكمل وأدق نحو ممكن، ويرى بأن القوانين العلمية ليست نسخة من الواقع، وإنما هي من خلق العقل (¬3)، وربما هذا يفسر تغيّرها؛ لأنها لو كانت نسخة عن الواقع لما تغيرت. وفي كتابه المشهور: "نظام العالم، تاريخ المذاهب الكونية من أفلاطون إلى كوبرنك" في خمسة مجلدات، وجد في أثناء عرضه لمختلف المذاهب أنها ترجع في نظرياتها "إلى مذهبين: أحدهما أن النظرية العلمية تفسير حقيقي للظواهر. . . . والآخر أنها مجرد تصور للظواهر وقوانينها لا يدعي النفاذ إلى جواهر الأشياء، وهذا يجعلها ¬

_ (¬1) موسوعة الفلسفة، بدوي 1/ 388 - 389. (¬2) انظر حول موقفه من النظريات العلمية وصورة نقده: تاريخ الفلسفة الحديثة، يوسف كرم ص 437، وانظر: موسوعة الفلسفة، بدوي 1/ 386 - 388، وانظر: تاريخ الفلسفة، برهييه 7/ 188، وانظر: مدخل إلى فلسفة العلوم، الجابري ص 296، وانظر: مقدمة في علم الاستغراب، حسن حنفي ص 415. (¬3) انظر: موسوعة الفلسفة، بدوي 1/ 485 - 486.

افتراضًا ليس غير. . . ." (¬1). وهذا يؤيد الرأي القائل بأن النظرية فرض ميسر أو أن الطبيعة تقبل تعدد التفسيرات، وذلك يعني عدم وجود تفسير واحد يحتكر الحقيقة مما يقوله البشر، وتعدد التفسيرات يجعل كل التصورات ما دامت تذكر أدلتها صحيحة من وجهة نظر أصحابها، ألسنا نجد في الطبيعة بعض الظواهر تتعدد حولها التفسيرات؛ أكده من خلال أمثلة فيزيائية كالنظريتين المتصارعتين حول طبيعة الضوء: فإحداهما أنه من طبيعة جُسيمية والأخرى على أنه من طبيعة موجية -أكثر ما يلفت النظر حول هاتين النظريتين أن الشواهد التجريبية تؤيدهما معا بالرغم من أنهما تقومان على أسس فيزيائية مختلفة- مما دفعه إلى القول بأن الطبيعة تقبل العديد من التفسيرات (¬2). هكذا قام كل من "بوانكاريه" و"دوهيم" بمحاكمة قاسية للعلم وكانت أهم نتيجة توصلا إليها وطرحاها مع غيرهما من نقاد العلم: أن النظريات العلمية إنما هي تفاعل بين العالِم وموضوع علمه، وأن لعقل العالِم أثره في صناعة النظرية، وهي تفقد بهذا صفة الموضوعية والتعبير الواقعي عن الواقع، وميزتها تكون في التيسير والتسهيل وبقدر ما تقوم بذلك نقبلها فقط، ويخطِئ من يظن أنها تُعبّر عن حقائق يمكن جعلها مرجعًا للتصويب والتخطئة. ويعني هذا أنه لو جاء مستثمر للنظرية واتخذها مصدرًا ومرجعًا للتكذيب بأمور خارج إطارها أو التأييد فهو غير مصيب بفعله هذا، ويُعدّ هذا الوضع تغيُرًا كبيرًا حول تصور قيمة النظرية العلمية؛ لأنه قبل حملة نقاد العلم كانت النظريات العلمية مرجعًا للتصديق والتكذيب بالقضايا غير العلمية أما بعد حملتهم فقد أصبحت مرجعًا لعمل العالم فقط، وفتحت بذلك جبهة واسعة داخل إطار فلسفة العلم. ورغم تنوع المذاهب وتعددها فإن الميل السائد في مدارس فلسفة العلم الكبرى ينحى منحى التصور النسبي لقيمة النظريات العلمية، وممن تأثر بهذا الوضع الجديد من نقد العلم "الامتداد الوضعي في القرن الرابع عشر/ العشرين للوضعية القديمة"، إذ نراه رغم تمسكه بدور الحس والتجربة في إثبات قيمة العلم ¬

_ (¬1) تاريخ الفلسفة الحديثة، يوسف كرم ص 437 - 438. (¬2) انظر: فلسفة العلوم، د. بدوي عبد الفتاح ص 226، وانظر: برونشفيك وباشلار. .، د. السيد شعبان ص 27 - 28.

2 - فلسفة العلوم أو الإبستمولوجيا

واعتباره المقياس الوحيد للعلم، فإنه مع ذلك يميل إلى أن النظريات العلمية ذات طبيعة اسمية، وليست تعبيرًا عن حقيقة الواقع (¬1). 2 - فلسفة العلوم أو الإبستمولوجيا: لقد كانت علاقة الفلسفة والفكر بالعلم في الغرب في صراع مستمر بين جذب ومدّ، وكان التيار الوضعي والمادي قد انطلق بالعلم إلى حدّ التطرف. فجاءت أولى الصدمات مع نقاد العلم في نهايات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين (13 - 14 هـ)، ومنذ ذاك والأوضاع الفكرية مضطربة، وفي جوّ كهذا بدأ مصطلح فلسفة العلم يُتداول في الأوساط الفكرية. وفي أوائل الأربعينيات انعقد أول مؤتمر دولي لفلسفة العلوم في باريس عام (1935 م)، وظهرت فيه تسمية هذا المصطلح بصورة محددة وتداولها العلماء والفلاسفة (¬2)، وإن كانت موضوعات هذا المجال مثار اهتمام من القرن الماضي، وممن عرف سابقًا في هذا الباب أصحاب نقد العلوم الذين سبق الحديث عنهم في الفقرة السابقة. وقد ظهرت مدارس واتجاهات شتى في مجال فلسفة العلوم، وإن كان الغالب أن كل مدرسة هي امتداد لتيار قديم، وتنظر للعلم وفق مبادئ ذلك التيار المعبِرَة عنه، والغالب عليهم أيضًا الاقتراب من الاتجاه المثالي والعقلاني. ومن بين التقسيمات التقريبية لهذه المدارس تقسيمها بحسب البلدان كالذي نجده عند "حسن حنفي" في كتابه: "مقدمة في علم الاستغراب". - فنجد أولًا في ألمانيا وما حولها مجموعة علماء كانت لهم فلسفة خاصة حول العلم وكان أشهرهم صاحبا أشهر نظريتين في القرن وهما "ماكس بلانك" (1858 - 1947 م) صاحب نظرية الكم، و"أينشتين" (1879 - 1955 م) صاحب النظرية النسبية، وقد سبق الحديث عنهما وآثار نظريتهما، ونُضيف هنا موقفًا خاصًا لماكس بلانك أحد المناهضين للاتجاهات الوضعية، فقد تصور العالَمَ مادة العلم من ثلاثة اتجاهات: فهناك أولًا العالم الخارجي الواقعي الموضوعي الذي لابد من التسليم بوجوده، وهو مستقل عنا، وهناك عالم إحساساتنا الناتج ¬

_ (¬1) انظر: مدخل إلى فلسفة العلوم، الجابري ص 27. (¬2) انظر: فلسفة العلوم (قراءة عربية)، د. ماهر عبد القادر 1/ 15.

عن الإحساس به وعن التجربة، وما نحس به هو جزء من العلم الواقعي الأول وليس كلّه، وهذا العالم هو ما تعترف به الوضعية وترفض ما سواه. أما الثالث فهو عالم الفيزياء؛ أي: الصورة التي تقدمها لنا الفيزياء عن العالم، وهو من إنشاء الفكر البشري، ويحاول باستمرار الاستجابة لمتطلبات معينة، ولذا نجده يتغير باستمرار (¬1). فعالم الفيزياء يحاول تصوير عالم الواقع ولكنه يبقى إنشاءً فكريًا معتمدًا على الحواس والتجربة، ولذا فهو يختلف عنه وإن كان يحاول الوصول إليه. ويأتي هذا التقسيم من أحد أشهر علماء الفيزياء وصاحب نظرية علمية كبيرة في القرن الرابع عشر/ العشرين، ومع ذلك فهو يرى بأن العلم الذي يرسمونه بنظرياتهم لا يشترط أن يكون عالم الواقع، إنما هو عالم فيزيائي من مهمته فهم العالم الأول والاستفادة منه وتفسيره. وفي الاتجاه نفسه -بل أكثر- نجد الفيزيائي الألماني أينشتين يتجه نحو العقلانية والمثالية ضد الوضعية والمادية المعروفة في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، وتصبح النظرية معهما أبعد عن أن تكون صورة مستقلة عن الواقع وطبق الأصل عنه، ويتشابهون في هذه المواقف مع نقاد العلم. وفي ألمانيا غير بلانك وأينشتين نجد مجموعة أخرى لها عناية بفلسفة العلم مثل ريشنباخ (1891 - 1953 م) وهمبل (1905 م)، إلا أنهما عرفا مع الوضعية المنطقية وكانا إليها أقرب. وكان منهم شرودنجر (1887 - 1961 م) ممن يرى بأنه لا فصل في النظرية بين العقل والمادة، فإن العقل يتدخل في تشكيل النظرية وصناعتها وليس عارضًا محايدًا للواقع كما هو. ومنهم أخيرًا هيزنبرج (1901 - 1976 م) صاحب مبدأ اللايقين أو اللاتحدد الذي سبق ذكره في فقرة نظرية الكم (¬2). - ونجد ثانيًا في فرنسا مجموعة كان لها نشاط بارز في مجال فلسفة العلوم ¬

_ (¬1) انظر: مدخل إلى فلسفة العلوم، محمَّد الجابري ص 299 - 301، وقريبًا منها العوالم الثلاثة عند فيلسوف العلم "كارل بوبر". انظر: منطق الكسف العلمي، بوبر ص 36 من مقدمة المترجم د. ماهر عبد القادر. (¬2) انظر: الحديث عن جميع الألمان من "بلانك" إلى "هيزنبرج" عند د. حسن حنفي، مقدمة في علم الاستغراب ص 413 - 414.

3 - الوضعية المنطقية

منهم نقاد العلم السابق ذكرهم من أمثال بوانكاريه ودوهيم، ومنهم أيضًا فيلسوف العلم المشهور "جاستون باشلار"، فهو صاحب نشاط بارز ومدرسة كبيرة لها امتدادها حتى في الفكر العربي. تدور مؤلفاته "حول موضوعين أساسيين هما: نظرية المعرفة العلمية. . والنزعة الشعرية المقترنة بالتحليل النفسي"، ويذكر لتاريخ العلم فائدة مهمة، فهو "يبين كيف أن ما نعده اليوم نظرية علمية صحيحة قد مرّ بالعديد من النظريات التي ثبت خطؤها في مرحلة تالية. ومعنى هذا أيضًا أن ندرك أن نظرية الغد ستكون صحيحة في نظر أصحابها؛ لأنها قضت على نظرية اليوم" (¬1). ويمثل موقفه هذا من النظرية رؤية معتدلة مقارنة بما نراه مع الوضعية والعلموية، وفيه اعتراف بنسبية النظريات العلمية وقابليتها للتبدل والتغير، ويقترب في ذلك من كل الرؤى السابقة. - ونجد ثالثًا في إنجلترا صورة أكثر مثالية لا تستبعد الديني والإيماني في الموقف من النظريات العلمية وضمن إطار فلسفة العلم. وكان من أشهر فلاسفة العلم أدنجتون (1882 - 1944 م) فهو يرى مثلًا بأن العلم الحديث والفلسفة وإن اعتمدا على العقل فإنهما لا يستبعدان الإيمان, بل إن العقل أحد قواعد الإيمان, وانتهى إلى مثالية صوفية، وقريبًا منه جيمس جينز (1877 - 1946 م) الذي عرض صورة مثالية في علاقة الفلسفة بالفيزياء المعاصرة (¬2). ورغم الاختلاف والتباين بين جميع من سبق، إلا أن ما يجمع بينهم: نظرتهم النسبية إلى النظرية العلمية، والمعرفة العلمية مع الاتفاق على قيمة العلم وأهميته. 3 - الوضعية المنطقية: يُعد المذهب الوضعي المنطقي أحد أشهر فلسفات القرن العشرين (14 هـ) وهو من بين أهم التيارات عناية بفلسفة العلم، ويزعم أصحابها وضع رؤيتهم ¬

_ (¬1) عن موسوعة الفلسفة، بدوي 1/ 292، وكأن الأصح الشعورية مكان الشعرية، وانظر: برونشفيك وباشلار بين الفلسفة والعلم. .، د. السيد شعبان ص 145، وانظر: مجموعة الفرنسيين عند حسن حنفي في: مقدمة في علم الاستغراب ص 415 - 416. (¬2) انظر: مقدمة في علم الاستغراب ص 416.

الفلسفية وفق مقتضيات العلم. وترجع جذورها القريبة إلى حلقة فيينّا، وقد كان "ماخ" في مقام الأب الحقيقي للحلقة. وقد ضمّت مجموعة كبيرة من الباحثين في مختلف فروع العلم والفلسفة، وأعلنت ميلادها بالبيان الذي أصدرته عام (1929 م) بعنوان "فهم علمي للعالم" بقيادة "موريتز شيلك" (1882 - 1936 م) (¬1)، ومن بين رموزها منظِّرها المشهور "كارنابّ" وصديقهم من مدرسة برلين "ريشنباخ". استفادت المدرسة من "ماخ"، ومن نقد "بوانكاريه" الذي يرى بأن النظريات العلمية ما هي إلا اتفاقات، ولكنهم في الوقت نفسه يريدون المحافظة على إرث التيار التجريبي الذي يعتمد على الحس والتجربة (¬2). ويمكن التفريق بين التيار الواقعي والتجريبي القديم وبين الوضعية المنطقية الحريصة على مواصلة رؤاه، بأن الأول كان يرى التطابق بين حقيقة النظرية والواقع، أما الوضعية المنطقية فبتأثير ماخ وبوانكاريه تنزع منزعًا اسميًا، فالنظرية هي أداة اصطلاحية للتعبير عن الواقع ولكنها ليست الواقع، ولكن في الوقت نفسه فلابد من علاقة بين النظرية والواقع تجعل بأيدينا طريقة للتحقق من المعرفة، فجاءت بذلك أهم الإشكاليات التي حاولت الوضعية معالجتها دون أن تنجح وهي: كيف نستطيع التحقق من صدق المعرفة العلمية؟ ويعد هذا الموقف من ضمن موضوعات فلسفة العلم، وهو موطن صراع كبير بين تيارات الفكر الغربي وإن كان لا يصل إلى درجة موقفهم من غير هذه المعرفة المقرونة بالتجربة سواء كانت دينية أو ميتافيزيقية أو مثالية. فما يُسمى علمًا هو إما "الرياضي والمنطقي" الذي هو تحصيل حاصل أو "الطبيعي التجريبي والحسي" الذي يعتمد على التجريب والاستقراء والإحصاء في الوصول إلى نتائج جديدة، وما لا يدخل في هذين القسمين فليس علمًا وإنما هو كلام فارغ. ومن بين أشهر الأمثلة المضروبة لديهم هو كلمة "الله" التي هي غاية الديانات ونهاية ¬

_ (¬1) انظر: رودولف كارناب. نهاية الوضعية المنطقية، وداد الحاج ص 39 - 51، وانظر: الفلسفة المعاصرة في أوروبا، بوشنسكي ص 93 - 94، وأغلب المهمين فيها من الألمان كما ذكر، وبهذا تكون ألمانيا أهم موطن لفلسفة العلم في القرن العشرين. (¬2) انظر: كتاب وداد الحاج السابق ص 161 - 164.

علومها، فهي بحسب مذهبهم كلمة لا تدخل إطار العلم؛ لأنها لا تدخل في القسم الأول ولا القسم الثاني (¬1)، وتكون كلمة فارغة لا معنى لها. فهذا الموقف الأيديولوجي الملحد هو ما أثار ضجة كبيرة ضد الوضعية المنطقية في الغرب؛ فإن الانتقال بفلسفة العلم إلى حدود الإنكار للعقائد والتكذيب بها بحجة أنها لا يمكن التحقق منها، وفق معايير الوضعية المنطقية، هو أحد صور الانحراف الكبيرة في فلسفات العلم المعاصرة، وأبرز صور الاستثمار السيئ لثمار العلم الحديث في إنكار ما لا يدخل في مجاله. فلو توقف الأمر على حدود: ما الذي يعدّ علمًا رياضيًا أو طبيعيًا؟ وما حدوده؟ وما إمكانياته؟ لما حدث إشكال، وما زال العالم مختلفًا حولها إلى الآن. لكن العمل غير المشروع هو جعل العلم الرياضي الاستنباطي أو الطبيعي الحسي والتجريبي العلم الوحيد المعتبر وما عداه فوهم وكلام فارغ. لقد جعل الوضعيون المنطقيون من بين مهامهم تصفية العلم من كل المفاهيم الدينية والميتافيزيقية وتسوير العلم بأسوار لا تسمح بدخول مثل تلك المفاهيم إلى دائرة العلم. ففي البيان الذي أصدرته المجموعة بعنوان "فهم علمي للعالم" ما يؤكد ذلك، فهو يقوم على استبعاد الميتافيزيقا من كل فروع المعرفة، ومن ذلك "تنقية النظريات العلمية من الميتافيزيقا"؛ لأن يقين نظرية ما يأتي فقط من المشاهدة؛ أي: من الأحاسيس، وما لا صلة له بالمشاهدة والأحاسيس فيجب تنقية النظريات العلمية منه، وهي الصورة التي عرفت مع "ماخ" وأحيتها الوضعية المنطقية (¬2). وبدأت المجموعة بمراجعة العلوم كلٌ في تخصصه وتنقيتها من المفاهيم الميتافيزيقية بحسب المبادئ المقترحة في البيان، وهدفهم المشترك -رغم الاختلافات بينهم- هو إلغاء الميتافيزيقا. وقد اتخذت الوضعية المنطقية من مفهوم الميتافيزيقا مدخلًا للانحراف بالعلم على المستوى الأيديولوجي للتيار، فجعلت منها منطلقًا لاستبعاد الدين والانتقاص من قيمه وعدم الاعتراف بمسلماته، ومن تسامح منهم مع الدين فقد أحاله إلى مجال الأساطير والفنون والموسيقي المعبرة عن مشاعر وجدانية، لا أنه ذو مرجعية حقيقية أو مضمون صحيح. ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق ص 45. (¬2) انظر: رودولف كارناب. نهاية الوضعية المنطقية ص 41.

4 - فلسفة العلم في الفكر العربي

والموقف الإلحادي ليس جديدًا في الفكر الغربي، وقد اشتهر في أوروبا لاسيّما بعد النشاط البارز للملحد الكبير "فيورباخ"، ثم التيارات المادية في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، ولكن ما يميز الوضعية المنطقية أنها تدعم موقفها الإلحادي باتكائها على المنهج العلمي والرؤية العلمية وهو بارز من عنوان البيان. ولكن استثمارها لنتائج العلم والمنهجية العلمية في دعم الإلحاد لم يستمر طويلًا، إذ واجهتهم تحديات فكرية داخلية وخارجية ولاسيّما حول معيار التحقق من المعرفة العلمية. ففي الداخل حدثت تراجعات وتحولات، وفي الخارجية كان أشهرها المجادلة الطويلة بين الوضعية وبين فيلسوف العلم اليهودي "بوبر"، وما زالت مستمرة، وقد انتقلت بعض صورها وصراعاتها إلى بلاد المسلمين، وكما رأينا ميل المشتغلين بفلسفة العلم في بلاد المغرب إلى الإبستمولوجيا الفرنسية فقد مال بعض المشتغلين بفلسفة العلم في مصر إلى الوضعية المنطقية مع مدرسة "زكي نجيب محمود" أو إلى "بوبر" وأتباعه كما أشار إلى ذلك الدكتور ماهر عبد القادر أحد المهتمين بهذا المجال (¬1). ومن مفارقات المذهب الوضعي أنه رغم عدم القطع بصدق المعرفة العلمية، واعتبارهم إياها من قبيل المواضعات العلمية ذات البعد النسبي، إلا أنهم يجعلونها المعرفة الوحيدة المقبولة والصحيحة, إذ يبقى السؤال: ومن أين لكم بصحة جوابكم القطعي حول كونها الوحيدة المقبولة؟ ألأن الموقف القطعي يعتمد على معرفة؟ ومع ذلك فإن الوضعية المنطقية في الموقف من النظريات العلمية تعد أقلّ تطرفًا من جذرها التاريخي المتمثل في وضعيات القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، ولكنها امتداد له في الإلحاد باسم العلم. 4 - فلسفة العلم في الفكر العربي: قد تخالف هذه الفقرة مسار البحث، فهو عن المسار الغربي وهي عن العربي، وإنما جاء دخولها لمناسبة خاصة، ففي منتصف القرن الأخير أصبح الاتصال والتواصل بين الغرب والشرق ميسورًا وسريعًا ومن ذلك مثل هذا الميدان. إذا كانت فلسفة العلم هي رؤية فلسفية حول العلوم الحديثة، فإن هذه ¬

_ (¬1) انظر: فلسفة العلوم، د. ماهر عبد القادر 1/ 20، وحول "مدرسة بوبر" انظر أيضًا لـ"ماهر": مقدمة الجزء الثاني من الطبعة الأولى 2/ 11 - 14.

العلوم -في القرن الرابع عشر- ما زالت في طور التشكل والتكون، ولم يظهر إلى الآن شخصيات عربية ذات إبداع بارز في ميدان العلوم الحديثة، فمن الطبيعي أن تتأخر مثل هذه الفلسفة حتى تبرز هذه العلوم، وذلك أنها لم تُعرف في الغرب إلا بعد عشرات السنين من الثورة العلمية (¬1). ولكن مع عملية التقليد المتواصلة لتيارات الفكر الغربي، فقد ظهر في الفكر العربي نشاط لمجموعة تُعنى بهذا الباب، ومن بين المبررات أن هذه العلوم وإن لم نبدع فيها، إلا أنها تُدرس في كل مكان من بلادنا، وفلسفة العلم أيضًا أضحت قسمًا من أقسام الفلسفة والفلسفة تُدرّس في العالم الإِسلامي فيدرس تبعًا لذلك القسم الجديد فلسفة العلم. ولا شك في أهمية وجود رؤية واضحة حول الموقف من هذه العلوم الجديدة وطريقة التعامل معها وفهم طبيعتها وحدودها, ولكن مسار هذه الرؤية يختلف عن مسارها في الغرب. ومن المغالطات الواضحة ما يفعله تيار عريض في فلسفة العلم العربي، حيث يرمي بنفسه في أحد تياراتها الغربية، ويجعل من نفسه كالقشة في مجرى نهرها الجارف، دون أن تشق لها نهرًا خاصًا بها يراعي الأصول والثوابت ويوجه المسيرة ويخدم الأهداف ويحقق رغبة التفوق والقوة للأمة، وعند افتراض وجود قناعة بأهمية فلسفة العلم في الفكر العربي فإنه من الطبيعي أن يختلف مسارنا عن مسارهم لا أن نلتصق بأحد تياراتهم. ولكن المتأمل في المفكرين العرب المهتمين بفلسفة العلم يلحظ انخراطهم في تيارات فلسفة العلم الغربية دون إبداء شيء من الخصوصية، بل استثمار مفاهيمها من قبل بعضهم في الانتقاص من تراث المسلمين وربما دينهم. وبمكن رصد مدرستين عربيتين في هذا المنحى (¬2)، الأولى متأثرة بالوضعية المنطقية، وما لحقها أو سبقها من تيارات في المسار نفسها، ويغلب على هذه المدرسة الميل إلى التحليل ورفض الميتافيزيقا والتعصب لمرجعية الحس، وجعله مقياس العلم الوحيد. ومن بين أبرز أعضاء هذه المدرسة الدكتور زكي نجيب محمود ناشر الوضعية المنطقية في الفكر العربي. وحسب ما ذكر أحد الراصدين ¬

_ (¬1) توجد حالات قليلة إلا أن أغلبهم يعيشون في الغرب، ولم يمثلوا ظاهرة واضحة. (¬2) انظر: فلسفة العلوم (قراءة عربية)، د. ماهر عبد القادر 1/ 19 - 20.

5 - نحو نظرية معرفة جديدة

لفلسفة العلم في الفكر العربي، فإن سبب ذلك يعود إلى توجه مجموعة بعثات في الغالب إلى بلاد يزدهر فيها التيار الوضعي والتحليلي (¬1)، وذلك يشعرنا بأن الأمر لم يخضع لاختيار حرّ من قبل المفكرين المتحمسين لفلسفة العلم الوضعية بقدر ما كان تقليدًا للموجود أمامه. ومثل ذلك يقال على المدرسة الثانية المنتشرة في بلاد المغرب التي مالت إلى تقليد المدرسة الفرنسية ذات المنحى النقدي، ولاسيّما في صورتها الباشلارية بالدرجة الأولى، وأضاف البعض الرؤى الألتوسيرية "باشلار وألتوسير". ويعود ذلك في الغالب إلى اقتراب بلاد المغرب من فرنسا، وذلك يشعرنا أيضًا بغياب الاختيار الحرّ والنقدي للموقف الفكري المغربي، وإنما كان شيئًا قريبًا من الحدود أُعجب به هؤلاء، ومن بين الأسماء المشهورة نجد كلًّا من "محمَّد الجابري" و"سالم يفوت" و"محمد وقيدي" وغيرهم (¬2). وقد استثمر أتباع المدرستين مفهومات فلسفة العلوم وآلياتها في دراسات داخلية ضمن إطار الفكر العربي مما سبب إشكالات كثيرة تأتي بإذن الله دراستها في مباحث قادمة. 5 - نحو نظرية معرفة جديدة: لقد كانت مسيرة العلم في الفكر الغربي مضنية وعسيرة، وكانت مشوبة بشوائب خطيرة لم يكن أقلها الاستثمار الخطير من قبل تيارات فكرية لا دينية لثمار العلم في تدعيم أصولها ومذاهبها. ولكن مع مستجدات القرن الرابع عشر الهجري/ العشرين الميلادي انقلب الوضع رأسًا على عقب، وظهرت تيارات جديدة تعيد دراسة العلاقة مع العلم وتكشف كثيرًا من الأوهام المتخيلة حول حقيقة العلم، وتكشف كثيرًا من التلاعبات الفكرية عن طريق بناء أنساق فكرية مدعية اعتمادها على العلم ونظرياته. وقد كان من بين أكثر المتضررين بالمستجدات العلمية الاتجاه المادي بكل تياراته ومدارسه، سواء في تصوره لحقيقة العلم أو في استثماره الأيديولوجي لثماره. ويمكن لراصد مسيرة العلم في الفكر الغربي أن يصل الآن ومع فلسفة ¬

_ (¬1) انظر: فلسفة العلوم (قراءة عربية) 1/ 33. (¬2) انظر: المرجع السابق 1/ 48 - 49.

العلوم إلى مجموعة نتائج نختار أهمها مما له صلة بقضية تساؤل البحث الجوهري حول طبيعة النظرية العلمية (¬1)؟ فمن بين أهم التحولات الملاحظة حول طبيعة المعرفة العلمية ما يأتي: كانت روح النظرة السائدة في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر بأن النظريات العلمية هي صورة طبق الأصل عن الواقع المادي، فالمطابقة هي المفهوم الشائع آنذاك، ويتعلق بهذه النظرة أن الصواب هو ما وافقها والخطأ ما عارضها، وأوسع من ذلك إذ أصبحت هي الحق الوحيد وما عداها فباطل، فالحقيقة العلمية تمثل الحقيقة المطلقة التي لا يدخلها الشك أو الاحتمال وهي معيار الصواب والخطأ. وعندما وضعت المعرفة العلمية -الرياضية والطبيعية- معيار الحقيقة المطلقة بدأت تصفية واسعة لكل ما يخالف هذه الحقيقة أو يتعارض معها، وكان من بين أهم التيارات نشاطًا في ذلك التيارات المادية والوضعية واليسارية. ثم حدث ما حدث من مستجدات في أرض العلم ذاته، وأعيد النظر في كثير من المسلمات حول العلم ذاته، وبأيدي العلماء أنفسهم قبل غيرهم، فتغيرت طبيعة الصورة السابقة وانكسرت تلك المعادلة المادية، وأصبح مفهوم المطابقة غير دقيق في النظريات والمعارف العلمية واستبدل به مفهوم المواضعات أو الظاهريات. واستُبدل به تبعًا لذلك مفهوم الحقيقة العلمية المطابقة مفهوم الحقيقة العلمية النسبية، واستبدل بالحقِ الأنفعُ، وإذا كان الصواب والخطأ يناسب مفهوم المطابقة، فإن المواضعات والظاهريات استبدلته بمناسب وأيسر وأنفع أو غير مناسب وأصعب وغير نافع (¬2). وهي تُشكل تحولات منهجية جذرية لطبيعة النظرية العلمية والمعرفة وطبيعة العلاقة بها. فالنظرية العلمية الفيزيائية مثلًا ما هي إلا مواضعات يقترحها الذهن قصد التفسير الأسهل بحسب رأي نقاد العلم، أو هي تعبير عن الظاهر الذي ¬

_ (¬1) انظر: الفلسفة المعاصرة في أوروبا، بوشنسكي ص 39 - 41 فقرة: أزمة علم الطبيعة النيوتني. (¬2) انظر: فلسفة العلم، فيليب فرانك ص 427 - 432، ترجمة د. علي ناصف.

ب- انقلاب فكري ضد الوضعية العلموية وتيارات المعرفة المادية

يتبدى لأدواتنا الحسية لا أنه هو الواقع ذاته، فالعقل يتدخل في صياغة النظرية وليس آلة تصوير فقط. ويعني هذا بأنها حقيقة مؤقتة نسبية تواضعنا عليها الآن قصد التيسير، وليست حقيقة مطلقة يمكن القول عنها: إنها خطأ أو صواب تصور الواقع كما هو، وإنما هي حقيقة نسبية تنفعنا الآن في تفسير الظواهر والتحكم بها أو معرفة كيفية التعامل معها، ويتبع ذلك أن المطلوب ليس صحتها وإنما هل هي نافعة لنا أم لا؟ هل تحقق ما نريد بصورة ميسرة أم لا؟ وبحسب قدرتها في نفعنا تكون نظرية جيدة حتى يأتي يوم لا تستطيع تلك النظرية الإجابة عن أسئلة أو تقديم النفع، فتستبدل بنظرية أخرى تقوم بما قصرت فيه الأولى. وقد سهّل هذا التحول المنهجي حول مفهوم النظرية ولادة كثير من النظريات الجديدة ويسر تغيير النظريات القديمة إذا احتيج إلى ذلك، والأهم من ذلك بأن الكثير لم يعد لديهم اعتقاد صارم بأن النظرية العلمية حقيقة أزلية كالحقائق الدينية الموحى بها من السماء، وإنما هي اجتهاد بشري قد يتغير في مستقبل العلم. وتبقى هذه النظرة الجديدة هي المعبرة غالبًا عن روح فلسفة العلوم في القرن الرابع عشر الهجري/ العشرين الميلادي. ب- انقلاب فكري ضدّ الوضعية العلموية وتيارات المعرفة المادية: مما يلفت النظر في القرن الرابع عشر الهجري/ العشرين الميلادي ميلاد مذاهب تنتقص من أثر العلم عندما يتجاوز ميدانه، بل تنتقص المكانة المعطاة للعقل والفكر العقلي في المراحل السابقة. وليس أهلها من الجاهلين بالعلوم الحديثة إن لم يكن بعضهم من مدرسيها, ولكنهم اختلفوا مع تيارات القرن الماضي عندما قامت تلك بإعطاء العلم صلاحيات واسعة وبناء منظومات فكرية من خلال تأويلها للنظريات العلمية وتطبيقها في ميادين مختلفة من حياة البشر. فحدث مع مجموعة كبيرة ومشهورة من تيارات القرن الرابع عشر/ العشرين انقلاب كبير ضد الوضعية والمادية الواقعية واستقطبت جماهير غفيرة وأحدثت رؤية جديدة في علاقة الإنسان بالعلم والعقلانية. وعند استعراض أهم تيارات الفكر في هذا القرن نجد أن تلك الرؤية الوضعية والمادية عن العلم قد أصبحت ضعيفة وتكاد في مواطن كثيرة أن تكون

منبوذة. فمن أشهر التيارات الفكرية في هذا القرن نجد بقايا ممتدة من القرن الماضي، كالاتجاه المادي والمثالي ومنها ما هو جديد كفلسفة الحياة والعمل والوجودية وفلسفات الوجود والظاهرية والبنيوية وغيرها: كان أشهرها في مطلع القرن ما يُطلق عليه فلسفة الحياة والعمل وأهمها: "الفلسفة البرجسونية أتباع الفيلسوف الفرنسي برجسون" "والبراجماتية أو الذرائعية التي ظهرت في أمريكا مع بيرس ووليم جمس وجون ديوي". 1 - البرجسونية. فأما "برجسون"، فقد كان في مسار تيار نقد العلم، وما كان يرى بتلك القيمة الكبيرة للعلم ونظرياته بحسب ما تراه الرؤية الوضعية والمادية، وعادة ما يُصنف في مدرسة اللامعقول، لنزوعه إلى الحدس وقبوله للدين ومعارضة العقلانية والعلموية (¬1). 2 - البراجماتية. أما البراجماتية أو الذرائعية ولاسيّما مع "وليم جيمس"، فقد كانت أيضًا تنزع إلى أن الحقيقة المطلقة غير موجودة حتى في العلم، وإنما تقاس حقيقة الشيء بثمرته وفائدته ونفعه، فالحقيقي هو النافع، وإذا كان الدين أو العلم أو غيرهما ذا فائدة وثمرة فله حقيقة. وإن كان فيهم من تطرف للنظرة الوضعية مثل "جون ديوي" وقدّم العلم على غيره (¬2). كانت البرجسونية أهم فلسفة في فرنسا أول القرن بينما الوجودية في أمريكا وموطن اللغة الإِنجليزية، وهما عادة ما يوضعان في إطار الاتجاه اللاعقلي والحيوي والعملي، ويوضعان ضمن تيارات أرادت إيقاف النزعة العلموية المادية والوضعية وفتح المجال للكائن الحي. 3 - المثالية. نجد أيضًا اتجاهًا ثالثًا ضد النزعة العلموية: المادية والوضعية وهو الاتجاه المثالي مع "كروتشه" و"برنشفيك" ومع "الكانطية الجديدة"، وقد كان لهذا الاتجاه نفوذه في القرن الرابع عشر/ العشرين أيضًا، وكان معظم أصحابه ضد الوضعية العلموية، وفيهم تأثر بمدرسة نقد العلم والوضعية الجديدة التي ترى بأن النظريات العلمية ما هي إلا مواضعات، وقد كان كروتشه مهاجمًا للعلم ¬

_ (¬1) انظر: قصة الفلسفة، ول ديورانت ص 556، وانظر: الفلسفة المعاصرة في أوروبا، بوشنسكي ص 175. (¬2) انظر: الفلسفة المعاصرة في أوروبا، بوشنسكي ص 193 وما بعدها.

وبنفس الاتجاه يهاجم الميتافيزيقا والدين ويؤسس لمثالية جديدة (¬1). ويبقى السؤال عن وضع الاتجاه المادي خصيم المثالية؛ أين هو في هذه المرحلة؟ الحقيقة أنه موجود؛ ولكن كثيرًا من دعاويه المستندة على العلم قد سقطت، وما بقي له إلا العودة إلى التخرصات العقلية للدفاع عن الإلحاد بكل مكوناته من إنكار للربوبية والغيبيات واليوم الآخر والروح وغيرها، وهو مرض موجود حتى عند أطراف من خصوم المادية، فهو مرض مستمر في الحدوث ما بقي داعيته في الوجود وهو الشيطان الرجيم. ورغم أنه الأضعف في القرن الرابع عشر/ العشرين إلا أنه قد وجد من يدافع عنه بقوة، مثل الفيلسوف الإِنجليزي راسل، ومثل الوضعية الجديدة وفلسفة التحليل، ومجموعة كبيرة من الماركسيين ولاسيّما في المعسكر الشيوعي السابق وأتباعه في العالم، فإن مما أسهم في بقائه واستمراره أن دولة الاتحاد السوفيتي السابقة قد اعتمدت المادية والإلحاد كأيديولوجيا أساسية ووحيدة للدولة الجديدة بعد نجاح الثورة البلشفية عام (1919 م)، بصورتها "الماركسية اللينينية" واجتهدت في نشرها والدفاع عنها واستبعاد كل ما يعارضها ولو بالتصفية الجسدية للمعارضين، وإعادة النظر في العلوم في ضوء النظرية الماركسية، وأصبح العلم معهم ماركسيًا لا علميًا. والدين عندهم عبارة عن أقوال خاطئة أثبت العلم الطبيعي خطأها، والعلم -بصورته الماركسية- هو الوحيد الذي يسمح لنا بمعرفة الحقيقة. فأما راسل وإن لم يكن شيوعيًا إلا أنه أحد أهم المدافعين عن الإلحاد في القرن العشرين والمتمسكين بالمذهب المادي محتجًا في ذلك بالعلم مع حجج فلسفية أخرى (¬2). ولكن العلم في القرن الرابع عشر/ العشرين -كما سبق- لا يساعد الماديين على ماديتهم وإلحادهم، وعندما شعروا بذلك رفضوا نظريات الفيزياء المعاصرة بحجة أنها ذات ميول مثالية، ووظفت الدولة والسوفيتية كُتّابها لمحاربة تلك ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق ص 136، وعن المجموعة انظر: نفس المرجع، الباب الثالث ص 125 - 168، وانظر: عرض "مذهب كروتشة" كتاب "زكريا إبراهيم" الفلسفة المعاصرة ص 116. (¬2) انظر: الفلسفة المعاصرة في أوروبا، بوشنسكي ص 91.

النظريات. أما أصحاب الوضعية والتحليل والفيلسوف راسل ممن يعيش في بلاد غير شيوعية، فيكتفون بأن العلم ميدانه الحسّ، ومسائل الدين مما لا تحُسّ فهي إذًا غير علمية ولا يصلح أن يقال عنها: حقيقة، فهذا التيار لا يملك دليل إثبات على موضوعه، وإنما يستشهد على عدم صحة الدين بأنهم لم يحسّوا به ولم يعرفوه، وكما هو معروف فإن عدم الإحساس بالشيء لا يدل على أن الشيء غير موجود (¬1). وقد لقي هذا الموقف المادي ضربات موجعة من أغلب تيارات القرن الرابع عشر/ العشرين، لاسيّما في ماديته، وإن كان كثير من التيارات الأخرى يشاركون الاتجاه المادي في الإلحاد، إلا أن ميولهم الإلحادية لا يقيمونها على العلم وإنما على وسوسات عقلية. 5 - الوجودية. نجد أيضًا في القرن الرابع عشر/ العشرين اتجاهًا كبيرًا هو الوجودية، وهي تكاد تكون فرارًا من العلم والعقل إلى مشاكل الإنسان ذاته ووجوده، ومن الطبيعي في مدينة علمانية محرومة من شرع السماء أن تكون النظرة إلى الإنسان ووجوده بعيدة كل البعد عن المنزلة الحقيقية التي أرادها الله سبحانه لعباده. ومع ذلك فهي تحكي أزمة حقيقية عاشتها أوروبا بعد أن اعتنت بعالم المادة والحسّ والتقدم الدنيوي، وغلت في العلوم الجديدة ونسيت الإنسان، بل أرعبته بحربين كبيرتين قضت على الملايين، عندها جاءت الوجودية تدعو إلى ترك العلموية والعقلانية والوضعية والانتباه لوجود الإنسان. وبسبب ذلك فهي عادة ما توضع في دائرة الاتجاهات اللاعقلية، ويصفها "بوشنسكي" وكأنها فلسفة هندوسية (¬2). 6 - الظاهريات والبنيوية. لقد كانت الأمثلة السابقة أبرز الاتجاهات الفكرية التي انقلبت على العلم والعقلانية، وما بقي ذا صلة بالعلم فهو أبعد ما يكون عن الصورة الوضعية المعهودة في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر كالذي نجده في فلسفة "هوسرل" الظاهرية أو الفمنولوجية، وكالذي نجده في البنيوية مع "فوكو" و"شتراوس" و"بارت" و"ألتوسير" و"يونغ" وغيرهم، فهي تعتني بالوعي مع ¬

_ (¬1) أكتفي هنا بمجمل عن التيار المادي يناسب العرض التاريخي؛ لأنه سيأتي له بحث خاص في الفصل القادم ص 352. (¬2) انظر: الفلسفة المعاصرة في أوروبا، السابق ص 320.

"هوسرل"، وتهتم بالبناء اللغوي مع البنيوية وابتعدت كثيرًا عن التيارات العلموية وإن لم تبتعد عن الإلحاد (¬1)، وهناك غير هذه التيارات، والمقصود عرض ما يدل على مثل هذا الانعطاف، والابتعاد عن المادية والعلموية، ومع ذلك فالكثير من التيارات الفكرية وإن هجر المادية فما زال يخوض في مستنقع الضلالة، ولكن المؤشر المهم هنا هو هجر الدعاوى العلمية القديمة لإثبات الإلحاد، ومن بقي منهم على هذا الوباء فمستنده من خارج العلم. خاتمة: لم الانقلاب على العلموية والوضعية والمادية؟ لو اكتفينا بالتيارات الكبرى المعارضة للوضعية والعلموية والرافضة لاستفراد النظرة العلمية بالساحة مثل: "البرجسونية والبراجماتية والوجودية والمثالية والكانطية الجديدة وفلسفات الميتافيزيقا الجديدة وغيرها"، وأبرزنا هذا التساؤل: لماذا انقلبت كل هذه التيارات على النزعة العلموية؟ ربما سيكون من بين أهم الأجوبة بأن النظرة العلمية لم تحقق للإنسان سعادته ولم تلبِّ رغباته وطموحه، وظهر وكأن التعاسة مرتبطة بتقدم العلم عندما يتقدم دون قيم عليا ترعاه وتجعله في خدمة الإنسان. وربما من بين الأجوبة المهمة بأن العلم نشاط بشري محدود الإمكانيات، يقبل التوظيف والتلاعب، ويعتريه الخطأ والصواب، والنقص فيه صفة لازمة كما هي خاصية لكل مخلوق، وبقدر ما تنفتح أبواب لم تكن معروفة عند من سبقنا بقدر ما تنفتح أضعافٌ مضاعفة من مساحات الجهل (¬2)، وأصبح الاكتشاف وكأنه اكتشاف لغابة كبيرة من الألغاز بدل أن يكون جوابًا لسؤال أو حلًا لمشكلة، لقد اكتشفنا الذرة فهل أُقفل الباب؟ الحقيقة أن هذا الاكتشاف قد أوصلنا إلى غابة كثيفة من الألغاز. وقد اكتشفنا الخلية فهل وصلنا إلى النهاية؟ الجواب: لا. وإنما ظهر لنا عالم عجيب من الكائنات لا يعلم بحقيقته إلا من خلقه وأوجده. وهاهي المركبات الفضائية تسبح في الفضاء فهل أُقفل الباب؟ والجواب: لا. وإنما أرتنا فقط جزءًا من حجمنا الضئيل في ¬

_ (¬1) انظر حول "الظاهرية": المرجع السابق، بوشنسكي ص 219، وانظر حول "البنيوية": مقدمة في علم الاستغراب، حسن حنفي ص 411، ونظرًا لشهرة هذه المذاهب في الفكر العربي المعاصر وكثرة تعريف العرب بها فقد اكتفيت بالذكر المختصر لها، مع العلم بأن كل تيار منها كان له دعاته في العالم الإسلامي. (¬2) انظر البحث الرائع في كتاب: حبات المعرفة، د. محمَّد التكريتي ص 43 وما بعدها.

ج - عصر جديد لعلاقة العلم بالايمان في الفكر الغربي

عالم كبير مدهش يصعب تصوره فضلًا عن الإحاطة به. لقد كانت هذه الاكتشافات جزءًا مما أصاب الفكر المعاصر بالصدمة وفتح باب الأسئلة من جديد، وتحولت أشهر التيارات إلى العناية بالإنسان أو البحث في حقيقة الوجود، والقوم يسيرون دون هداية من الله، فمثلهم كمثل من صور الله لنا حاله في سورة البقرة قال -تعالى-: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)} [البقرة: 17 - 20]. من المدهش ما نجده من بعض الأقلام العربية حول هذا الموضوع إذ يقول بعضهم: إن الغرب قد شبع من العلوم الدنيوية، وشبع من العقلانية، وشبع من التقدم والتطور، وجاءت لحظات التوقف مع اللاعقل، مع الوجود والحرية والفن والمثاليات والتدين والتصوف. أما نحن فنحن غارقون في الخرافة والأساطير والتخلف فعلينا أولًا بأخذ ما يرفضونه الآن، أن نأخذ بالعقلانية والتقدم دون أن نأخذ ميولهم الجديدة. والحقيقة أننا لا نريد تلك ولا هذه، فلا نريد عقلانية تختم بالإلحاد أو علموية تنابذ الدين، ولا نريد في الوقت نفسه مثاليات ومذاهب اللاعقل، إنما نريد من عندهم ما ينفعنا وما حثنا ديننا على أخذه، فالحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها، وما ينفع الناس في دنياههم أو أبدانهم أو قوتهم من العلوم النافعة هي مما ينبغي الحرص عليه، أما ما بني عليها من تأويلات أو انحرافات، فيكفينا أن نتعظ بما أوصلت أهلها إليه، والسعيد من وعظ بغيره، وفي الوقت نفسه عندنا وبين أيدينا ما يغنينا عنها. ج - عصر جديد لعلاقة العلم بالايمان في الفكر الغربي: لقد كانت العلاقة بين العلم والدين عسيرة منذ ولادة الثورة العلمية، كان الدين -ممَثلًا في الكنيسة النصرانية على وجه الخصوص- أكبر من عانى من صراعه مع الحركة العلمية؛ ومن بين أهم الأسباب لتلك المعاناة: الانحرافات الكبيرة التي وقعت فيها الكنيسة سواء بالتحريف في الدين أو بظلم الناس، وكانت المادة المحرفة أرضًا خصبة لضربات المعترضين المتتالية، ولكن الكنيسة

كانت القوية في البداية، ففرضت رأيها، وأجبرت العلماء على التراجع، بينما قام العلماء بمحاولات شاقة لتأويل نصوصهم الدينية أو عقائدهم الرسمية لكي تتوافق مع نظرياتهم العلمية، وقد استمر هذا الوضع إلى عصر نيوتن. وبعد الثورة الفرنسية الداعية إلى العلمانية ضُربت قوّة الكنيسة ضربة قاسية، فقد أُزيلت الأنظمة السياسية الداعمة لها، ثم أُقصيت الكنيسة من مجال حياة الناس التعليمية والاجتماعية والسياسية وغيرها، وأبقيت كنشاط ديني لمن أراده. صاحب ذلك زوال عقدة الخوف عند العلماء من الكنيسة والمجتمع في نقدهم للدين فانطلقوا دون احترام للعقائد الدينية يدعمهم في ذلك تيارات فكرية ذات نزعة مغالية في اللادينية. ووصل العداء والقطيعة بينهما ذروته في القرن الثالث عشر الهجري/ التاسع عشر الميلادي في صورة الوضعية العلموية الداعية إلى وضع الدين في متحف للآثار والاكتفاء بالعلم، ولم تعد المسألة مسألة تعارض بين الدين والعلم كما في السابق، ومن ثمّ معالجة ذلك التعارض، وإنما المسألة أصبحت مع الوضعيين بأن الدين وهم وخرافة اخترعته البشرية في يوم من الأيام كما اخترع قوم عبادة أوثان أو عبادة حيوانات، فكذلك الأديان الكتابية هي مثلها، ويزعمون بأن العلوم الطبيعية -ماركس مثلًا- تؤكد خطأ كثير من العقائد الموروثة، وهو دليل على أن الناس اخترعوها. ورغم أن العلماء أنفسهم لم تكن تعنيهم هذه الأمور، فهي مناقشات تدار في أرض الفكر والفلسفة، إلا أن قادة الفكر قد سحبوا العلماء إلى ميدان المناقشات، وذلك عندما قام مجموعة من المفكرين والفلاسفة باستثمار النظريات العلمية في حججهم ضد الدين، عندها دخل هؤلاء العلماء حلبة المناقشة -على أن منهم من كان مهتمًا بالفكر والفلسفة- وتورطوا في الميل لجانب الدعاوى اللادينية ودعمها بما بين أيديهم من علوم، ثم اتسع الأمر عندما ترك كثيرٌ منهم الدين وتحول بعضهم إلى الإلحاد أو إلى مواقف لا أدرية؛ لأنهم يرون بأن أهل الدين لم يثبتوا صحة ما بين أيديهم ولا تنطبق عليه مناهجهم العلمية، ويرون حججًا فكرية وفلسفية تتابع دون أن تجد الرد المناسب، ويرون أن ما بين أيديهم من علوم لا تدل على كثير من القضايا الدينية المعروفة زمنهم. فانصرف هؤلاء العلماء إلى موقف لا أدري يقوم على الحيرة والشك، وآخرون سلكوا طريق

الإلحاد، وقد كانوا كثرة، ومجموعة بقيت على الدين على أن يُحصر في الجانب القيمي والأخلاقي فقط. وقد كان أخطر ما في الأمر هو دخول الإلحاد إلى طائفة العلماء؛ لأنهم سيدعمون الإلحاد من خلال تخصصاتهم العلمية، فإن ميدانهم العلمي يقوم بالدرجة الأولى على الحسّ والتجريب، وهو ميدان يختلف عن باب العقائد إذ هي قضايا غيبية لا يدخلها الحسّ والتجريب لاسيّما قضايا الغيب المحض. فهؤلاء العلماء عندما يرون أن مناهجهم لا تحقق هذه القضايا الغيبية فيسلمون عندها بادعاءات الملحدين، وكأن الطريق الوحيد للحقيقة والمعرفة هو طريقة الحسّ والتجريب. لقد أوجد هذا الموقف من قبل العلماء مشكلة كبيرة نحو الدين، ذلك أنهم أصبحوا في مكانة عالية بعد انتصارات العلم وتقدمه، وصاروا قدوة لغيرهم، وعلومهم هي مطمع أغلب الدارسين في بلادهم، بل هي العلوم الوحيدة التي تستحق في نظرهم التعب والتحصيل. وعندما يأتي الطلاب والمعجبون بتلك العلوم لدراستها ثم يرون بأن البارزين فيها يميلون إلى الإلحاد أو المواقف المتشككة اللاأدرية، بل منهم من يربط العلم بالإلحاد وانكار كل ما عرف من الدين؛ فإن النتيجة المتوقعة هي وقوع مجموعة من المتعلمين في شراك الإلحاد اقتداء بالعلماء والبارزين. وهذا يوضح أحد أهم عوامل انتشار ظاهرة الإلحاد في إطار الحركة العلمية، فإذا أضفنا إليه بأن المذاهب المشهورة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر -كالماركسية والوضعية والدارونية الاجتماعية- قامت على موقف عقائدي واضح وهو الإلحاد، ومن بين حججهم المزعومة بأن العلوم الطبيعية تدعم موقفهم، علمنا عندها كيف تضافرت عوامل كثيرة في توسيع دائرة الإلحاد. وهكذا افتتح القرن الرابع عشر/ العشرين على وهمٍ كبير حاصله أن العلم رديف الإلحاد، وأصبح من السائد في الثقافة الغربية المعاصرة آنذاك بأن من شروط دخول العلم أن تكون ملحدًا، وأنه لا يتصور وجود عالم غير ملحد. وهو يكشف بأن الدعوة للمذهب الربوبي في القرن الثاني عشر/ الثامن عشر أو للإلحاد في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر كانت قوية ومستمرة، وأنها اخترقت ميدان العلم الجديد، ونجحت في استقطاب مجموعة من البارزين في

المجال العلمي، والأدهى من ذلك أنها نجحت في تحويل هؤلاء العلماء إلى موظفين في مؤسسة الإلحاد يدعمونها بما يرونه من مناهج علمية أو نظريات أو فرضيات أو اكتشافات، وذلك بعد تأويلها بالصورة المناسبة القابلة للتوظيف في ميدان الإلحاد. وبقدر ما يكشف النشاط القوي للتيارات الإلحادية، بقدر ما يكشف ضعف التيار العلمي أمام شبهات الملحدين، إن لم يكن يكشف هوى لدى بعضهم في إدخال الإلحاد داخل دائرة العلم. وعندما نرجع إلى بداية الثورة العلمية نراها على صورة غير ما هي عليه في نهايات القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، فقد كان العلماء هناك يصرّون على إعلان تدينهم ويحرصون على تأويل النصوص والعقائد الدينية حتى لا تتعارض مع العلم، ويرون العلم يدعم الدين، أما في نهايات القرن الثالث عشر/ التاسع عشر فقد خُيّل للكثير أن العالم الحق لابد أن يكون ملحدًا، وأن العلم لا يمكن أن يتوافق مع الدين، ومن الأمثلة المعبرة عن هذا الوضع ما ذكره أحد المشتغلين بالعلوم الحديثة "ألبرت ماكومب" حيث يقول عن نفسه: "عندما كنت طالبًا بالجامعة وكنت قد قررت أن أدرس العلوم. وإنني لأذكر جيدًا كيف أخذتني إحدى عماتي جانبًا ذات يوم وتوسلت إليّ أن أعدل عن هذا القرار؛ لأن العلوم، كما كانت تعتقد، سوف تقضي على إيماني بالله. لقد كانت تعتبر، كما يعتبر الكثيرون، أن العلوم والدين قوتان متعارضان، وأنهما لا يمكن أن يجتمعا في قلب رجل واحد" (¬1). ومن الأمثلة أيضًا ما ذكره "أندروكونواي" (عالم فسيولوجي) بأنه كان في جلسة مع مجموعة من رجال الأعمال فقال أحدهم: "سمعت أن معظم المشتغلين بالعلوم ملحدون، فهل هذا صحيح؟ "، وتساؤل رجل الأعمال هذا وتحذير تلك العمة من عامة الناس؛ يوحي بمقدار انتشار تلك القضية بين الناس. ولا يخفى بأن انتشارها إلى هذه الدرجة له أثر سلبي؛ إذ تجد الداخلين الجدد إلى ميدان العلوم ينخرطون فيها بمثل هذا الوهم، وعندما يظهر لأحدهم شواهد ضدّ الإلحاد وحجج قوية تدعم الدين؛ يحاول صرف التفكير عنها خشية أن تقوده إلى شيء من الإيمان. ¬

_ (¬1) الله يتجلى في عصر العلم ص 110 و"ألبرت" متخصص في علم الأحياء، وانظر قريبًا من هذا اعتراف عالم فلكي فرنسي في كتاب: العلم والإيمان في الغرب الحديث، هاشم صالح ص 29.

ومن طريف ما يُذكر في هذا الباب عن أحد الملاحدة أنه التفت دون شعور منه إلى أذن ابنته الصغيرة وتأمل في شكلها "وذكر بينه وبين نفسه أن من المحال أن تكون تلك التلافيف الدقيقة التي تشتمل عليها الأذن قد نشأت عن طريق المصادفة. إنها لا يمكن أن تكون قد نشأت إلا عن طريق خبرة بالغة وتصميم وتدبير. ولكنه أبعد هذه الفكرة عن عقله المارق عن الدين؛ فقد خشي أن يؤدي به هذا النوع من التفكير إلى النتيجة المنطقية، وهي أن التصميم يحتاج إلى مصمم أو مبدع أو إله" (¬1)، وقد جاء اعتراف هذا الرجل بعد تركه للإلحاد، وهو يكشف صورة من صور الصراع النفسي داخل ذوات مجموعة من الملحدين في المجال العلمي، فالمشاهدات البسيطة فضلًا عمّا يكشفه العلم من حقائق تؤدي إلى الإقرار بوجود الرب سبحانه، ومع ذلك فهو يدفع هذه النتيجة عن نفسه ويجتهد في صرف النظر عنها، وهي في الحقيقة الموقف المعاكس للمؤمن عندما ترده وسوسات الشيطان، فإنه يستعيذ بالله من الشيطان وينتهي عن التفكير في ذلك، فالتفكر لا يوقَف إذا كان يوصل للحقيقة؛ وإنما يوقف إذا كان يوصل للشك في الحقيقة، والإيمان بالله سبحانه والإقرار به حقيقة يتفق عليها البشر، إلا حالات مرضية شاذة. ومما يزيد عجبنا في هذا الباب أن مجموعة من المسلمين المبتعثين للدراسة في الغرب قد تأثروا بهذه الصورة المَرَضية، واعتقد بعضهم بأن النظرة الوضعية هي خاتمة التطور البشري ولا مجال للعودة إلى الدين، ومن بين آخر الاعترافات ما نجده لأحد أشهر مترجمي الفكر الفرنسي المعاصر حيث يقول: "أعترف بأن هذه التساؤلات كانت قد شغلتني طيلة الفترة الماضية دون أن أجد لها حلًا. كنت واقعًا، كغيري من المثقفين العرب المحدثين، تحت تأثير النظرة الوضعية للأمور، وكنت أعتقد أنها نهائية وأبدية، وكنت أعتقد أيضًا أن جميع المفكرين والعلماء في أوروبا هم ماديون وضعيون لا علاقة لهم بالإيمان أو بالدين" (¬2)، وقد كان هذا المُتَخيل عن الفكر الغربي مستوطنًا عقول مجموعة من ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق، الله يتجلى في عصر العلم ص 48. (¬2) العلم والإيمان في الغرب الحديث، هاشم صالح ص 7، وحادثة التراجعات تتكرر ويأتي معها مثل هذه الاعترافات، انظر: حال مجموعة في: أسس التقدم عند مفكري الإسلام، د. فهمي جدعان ص 332 وما بعدها.

المتوجهين للغرب، ويشعرون بأن شرط قبولهم فيه هو قبول المرحلة التي قطعها الفكر الغربي في البعد عن الدين والالتصاق به، وأن مساره قد تحدد نحو المادية والإلحاد والوضعية، وبعد انغماسهم في الفكر الغربي شعروا بخطأ المتخيل عن الفكر الغربي؛ فإن تطورات حدثت داخل العلم وصاحبها تفاعلات فكرية قلبت الوضع تمامًا، وحدث ما لم يكن في حسبان الماديين، وإن كانت بدت هنا وهناك بوجه خجول وحائر: فأما الخجل فيعود إلى أنه قد ظهر من داخل العلم من رفض الإلحاد أو استغلال ثمرات العلم في دعوى الإلحاد، ولكن في جوّ علمي يسوده الإلحاد لم يكن في استطاعة مثل هؤلاء العلماء إعلان آرائهم دون خجل. وأما الحيرة فهم يرون بأن الأصول الدينية الكبرى القائمة على الإيمان بالله سبحانه، وأنه خالق المخلوقات وموجدها سبحانه، وأنه هو المدبر للأمور والمستحق للشكر والحمد، وأن مصير الناس سائر إلى يوم آخر هو اليوم الآخر، كل هذه الأصول يجدون أنفسهم تقرّ بها، وأن العلم لا يعارضها, ولكنهم حائرون فيما بين أيديهم من تراث ديني ولاهوتي عرضته لهم الكنيسة والفلسفة مليء بالتناقضات مما لا يقبله عقل سليم. وربما هذا هو ما يدفعهم للإقرار بتلك الأصول دون الاعتراف بصورتها المعروضة في الديانتين المعروفتين عندهم، وهي اليهودية والنصرانية أو بالصورة اللاهوتية والكلامية والفلسفية. لقد وجدتُ هذا الاستحياء في عرض الاعترافات الإيمانية بما يصاحبها من حيرة فيما بين أيديهم في أثناء قراءتي لاعترافات مجموعة من البارزين في العلوم العصرية في كتابين: أحدهما يمثل مجموعة ناطقة بالإنجليزية، والثاني لمجموعة ناطقة بالفرنسية، وفيهما تعبير عن قسمي الثقافة المشهورة في الغرب (¬1). فمن صور الاعترافات الخجولة ما يقوله أحد العلماء الفرنسيين عندما سُئل عن موقفه: "أشعر بالحرج إذ أتحدث عن هذا الموضوع، فالعقائد الدينية تدخل ضمن دائرة الحياة الخاصة والحميمة للإنسان، وليس من السهل التحدث عنها في ¬

_ (¬1) الكتاب الأول: الله يتجلى في عصر العلم، تأليف نخبة من العلماء الأمريكيين بمناسبة السنة الدولية لطبيعيات الأرض، أشرف على تحريره جون كلوفرمونسيما، ترجمة الدكتور الدمرداش سرحان، عن دار القلم، بيروت، وهو النموذج الإنجليزي. والكتاب الثاني: العلم والإيمان في الغرب الحديث، هاشم صالح، كتاب يصدر عن جريدة الرياض السعودية، وهو النموذج الفرنسي.

بلد علماني كفرنسا, ولكني أريد أن أؤكد منذ البداية بأن الإيمان لا يتعارض إطلاقًا مع العقلانية، وذلك لأن الحقيقة واحدة في جميع الحالات" (¬1)، إن مثل هذا الاعتراف يدعونا أن نبدأ بالقصة من أولها وذلك مع نظريات القرن الرابع عشر/ العشرين. تُعد الفيزياء من أبرز العلوم الطبيعية تطورا وشهرة، وقد بلغت مع نيوتن ذروة عالية لم يصلها علم من العلوم الطبيعية، وقد كان الظن منتصف القرن التاسع عشر (13 هـ) بأنها قد قدمت كل أجوبتها، فجاءت مذاهب مادية وبنت بعض أصلب انحرافاتها على فيزياء نيوتن كالإلحاد والمادية. فجاءت صدمة لهؤلاء من داخل الفيزياء ذاتها مع نظريتي النسبية والكم؛ عندها أعاد العلماء نظرهم إلى الفيزياء وبقية العلوم، وقد كان أهم ما تزعزع: السند المادي الذي كان يدعم التيار الإلحادي والمادي. وقد رفض مؤسسا النظريتين التصريح بالإلحاد، وأغلب أجوبتهم تدل على أنهم يرون استحالة تصور عالم بهذه الحال دون من أبدعه وأوجد فيه هذا النظام. ورغم أن صاحب النسبية أصله يهودي وصاحب الكوانتم أصله نصراني؛ إلا أنهما يتفقان على عدم قبول الصورة الموجودة للديانتين، ولكنهما في الوقت نفسه ضدّ فكرة الإلحاد، ومما يقوله مؤسس نظرية الكم بلانك: "إن الدين والعلوم الطبيعية يقاتلان معًا في معركة مشتركة ضدّ الشك والجحود والخرافة. ولقد كانت الصيحة الجامعة في هذه الحرب وسوف تكون دائما: إلى الله" (¬2)، وأما "أينشتين" فقد سبق بيان موقفه. وبتتابع ظهور جهود نقاد العلم في وقت يعاني المجتمع الغربي من خواء وفراغ روحي كبير وجد أكثر العلماء وغيرهم بأن الدعوة للإلحاد باسم العلم دعوى ذهب وقتها وبأن فسادها وأصبح العلم ضدّها. فظهرت عند ذلك دعوات من جديد إلى المصالحة بين الدين والعلم، على أن تقوم الكنيسة بالتنازل عن بعض ما يتعارض مع العلم، ويتوقف العلماء عن استثمار نتائجهم في دعم المادية والإلحاد. ¬

_ (¬1) العلم والإيمان في الغرب الحديث ص 35، والمتكلم "جان دورست" عالم بيولوجيا. (¬2) الله يتجلى في عصر العلم ص 168.

وبدأت موجة من التدين -بحسب مفهومهم للتدين- تغزو العلماء، ويجدون فيه راحة كبيرة وخروجًا من أزمتهم الروحية، على أن منهم من يرى فيه دعمًا لنشاطهم العلمي، وقد كانت بارزة في علماء الطبيعة، وهو نفس المجال الذي ظهر منه الإلحاد في القرن الماضي، وفي هذا يقول أحد الفيزيائيين بعد نشره كتابه: "الله والفيزياء الحديثة" بأنه قد دهش "عندما اكتشف أن كثيرًا من علماء الطبيعة يؤمنون بالله ومتدينون. بل حتى العلماء الذين لا يؤمنون. . . . يقولون بأنهم يشعرون بشعور غامض بأن هناك شيئًا ما" (¬1)، ويقول عالم الطبيعة جورج إيرل: "إن الاعتقاد الشائع بأن الإلحاد منتشر بين رجال العلوم أكثر من انتشاره بين غيرهم، لا يقوم على صحته دليل، بل إنه يتعارض مع ما نلاحظه فعلًا من شيوع الإيمان بين جمهرة المشتغلين بالعلوم" (¬2). ويقول آخر في ردّه على اعتقاد البعض بأن المشتغلين في العلوم ملحدون، فأجابه: "إنني لا أعتقد أن هذا القول صحيح، بل إنني -على نقيض ذلك- وجدت في قراءتي ومناقشتي أن معظم من اشتغلوا في ميدان العلوم من العباقرة لم يكونوا ملحدين، ولكن الناس أساؤوا نقل أحاديثهم أو أساؤوا فهمهم"، ثم استطرد في بيان أن الإلحاد يتعارض مع منهجية العلماء (¬3). وقد كانت هذه الاعترافات مع غيرها -لثلاثين عالمًا- تدندن حول الموضوع ذاته معتبرة الإلحاد قد ولّى، وأنه لا تعارض بين العلم والإيمان, وأن المستقبل للتصالح بينهما، وأن الإلحاد لا علاقة له بالعلم؛ وإنما هو موقف فكري يستغلّ ثمرات العلم. كانت المجموعة السابقة معبرة عن المشتغلين بالعلم في أمريكا، ونجد في أوروبا الوضع نفسه، حيث جمع المؤرخ الفرنسي "جان ديليمو مؤخرًا شهادات العلماء الكبار الذين أعلنوا التوافق بين العلم والإيمان, وقالوا بأن تخصصهم العلمي الدقيق لا يتعارض مع الإيمان بالله، على العكس فإنه يزيد منه ويقويه" (¬4)، فجمع فيه شهادة تسعة عشر عالمًا من أجل البرهنة على أن العلم لا يتناقض مع الإيمان. وهم ينتمون إلى اختصاصات متعددة، ومن الدرجة الأولى، ¬

_ (¬1) حبات المعرفة، د. محمَّد التكريتي ص 34، وصاحب المقالة "د. بول ديقيز". (¬2) الله يتجلى في عصر العلم ص 45. (¬3) المرجع السابق ص 156، وصاحب الكلام العالم الطبيعي والفسيولوجي "أندرو كونو". (¬4) العلم والإيمان في الغرب الحديث، هاشم صالح ص 11.

وأنه جمع هذه الشهادات المهمة لكي ينقض الفكرة الشائعة لدى الجمهور، وهي أن العالم لا يمكن إلا أن يكون ملحدًا أو على الأقل لا مباليًا بالإيمان, وبيّن هؤلاء العلماء بأن المؤمنين في دائرة العلم أكثر عددًا مما نظن (¬1). وقد عرض مؤلف كتاب "العلم والإيمان في الغرب الحديث" شهادة اثني عشر عالمًا، كل في مجاله ويدلي بدلوه ضدّ الإلحاد، ويسيرون على نفس خُطى المجموعة الأولى، ويعرض أيضًا تعريفًا بكتاب جان ماري أحد أساتذة البيولوجيا "آلة العلم: العلم والايمان" مستعرضًا الصراع بين العلم والكنيسة منذ الثورة العلمية إلى القرن الرابع عشر/ العشرين، ففي نقده للحداثة الممتدة من ديكارت إلى عصر ما بعد الحداثة، يأخذ عليها أنها اعتنت بالجانب المادي من الإنسان وغفلت عن حاجاته الروحية، ومن المهم في عصر ما بعد الحداثة التركيز على الحاجات الروحية، وتحقيق المصالحة الكبرى بين العلم والإيمان أو بين العقل والدين. وهكذا نربح الدنيا والآخرة، وإن أخطأت الحداثة في رمي الإيمان في سلّة المهملات في صراعها مع الكنيسة فقد جاء عصر ما بعد الحداثة لكي يعيد للإيمان دوره من جديد، وهذا الطلاق الذي حصل في أوروبا بين العلم والإيمان لم يعد له مبرر اليوم (¬2). وكم نتحسر نحن المسلمون عندما نشعر بهذه المجموعات المتعطشة للإيمان وسدّ الفراغ الروحي ألّا تجد من دعاة الإِسلام الأقوياء المؤثرين المقنعين من يقوم بسدّ الفراغ وإشباع الجموع العطشى، هاهم ينبذون الإلحاد خلفهم ويعترفون بأهمية الإيمان وحاجتهم إليه، ثم يلتفتون فلا يجدون حولهم إلا ضلالات الضالين من أتباع الديانتين المحرفتين اليهودية والنصرانية، فما أعظم لو التفت هؤلاء ووجدوا حولهم مراكز إشعاع إسلامية تنشر الإسلام وتستقبل هؤلاء العطشى. يتكلم الأكاديمي الفرنسي على جموع غفيرة انهارت آمالها بعد سقوط الشيوعية، وهي مستعدة لأن تقبل التوجيه في غمرة بحثها عن حاجتها الإيمانية وجادَة لاتباع من يزرع لها الأمل، فلِمَ لا نتحسر ونحن نراهم يهيمون في الأرض لعلّهم يجدون ما يرويهم دون أن نقدم لهم شيئًا؟! ¬

_ (¬1) المرجع السابق ص 15. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 123 - 146.

لقد كانت رحلة شاقة قمتُ بها لمتابعة ذلك الصراع العنيف بين العلم والدين أو قل: العلم والكنيسة في الفكر الغربي، ولكنها كانت ضرورية لفهم طبيعة العلاقة والتأثر والتأثير بينهما، وحقيقة ما ارتبط بهما من قضايا، والنتائج التي وصلت إليها تلك العلاقة، وبعض ما يرتسم للمستقبل. كل ذلك حتى نفهم حقيقة العلاقة بين الفكر العربي وبين الحركة العلمية الحديثة، الصحيح منها والمنحرف، النافع منها والضار، الاستغلال السلبي والاستثمار الإيجابي، ولكن قبل ذلك هناك سؤال يعرض نفسه: لماذا كان كل هذا الصراع الكبير؟ ولماذا انحرفت مسيرة العلم وأهله حتى أصبح رديفًا للإلحاد؟ هذا التساؤل وإن كشفنا عنه تاريخيًا في ما مضى، فإن الفصل القادم بإذن الله سيكشف عن الجواب بطريقة أخرى تقوم على التحليل المنهجي بدل العرض التاريخي.

الفصل الثاني أسباب وجود الانحراف المصاحب للتطور العلمي الحديث

الفصل الثاني أسباب وجود الانحراف المصاحب للتطور العلمي الحديث

الفصل الثاني أسباب وجود الانحراف المصاحب للتطور العلمي الحديث العلم في صورته -الرياضية والطبيعية والاجتماعية- ما هو إلا نبتة تتأثر بالمكان الذي زرعت فيه، وبحسب تربة ذلك المكان وسماده ومائه وأشعة شمسه ونقاء هوائه يكون حال تلك النبتة. ومعلوم بأن نبتة العلم الحديث قد غرست جذورها في أرض أوروبا، وترعرعت في أجواء الصراع الكبير بين الكنيسة والسلطة السياسية من جهة، وبين الفئات الجديدة المعارضة لطغيان الطرفين من جهة أخرى، وتأججت تلك المعركة بعد المعارضة الكبيرة من قِبل الكنيسة لحركة العلم الحديث، فخرجت تلك النبتة في أجواء مشحونة بين ما يسمونه دينًا وبين التوجهات نحو الإصلاح أو العلمنة، وخرجت الكنيسة خاسرة في تلك المعركة، ووجدت أطراف مُبغِضة للدين فرصتها في سدّ الفراغ الناجم عن سقوط الكنيسة، فأعلنت عن مشروعها ضمن ما اصطلح عليه فيما بعد بالعلمانية. فالعلم في أوروبا لم يعش يومًا من الأيام في أجواء صالحة، فقد كان في العصور الوسطى يتحرك في ظل الطغيان الكنسي، وربما يشاركها أعمالها وتصورها، وهو بعد ذهاب السيطرة السياسية القديمة وسندها الكنسي، عاش في الجو العلماني الذي جاء معتمدًا على إحياء التراث الإغريقي اليوناني الروماني

بروحه الوثنية والمادية التي مثلت فيما بعد الغطاء الآيديولوجي للرؤية العلمانية الجديدة. وأوروبا التي عرفت إبداعات فكرية وعلمية وعقلية في العصور القديمة أيام فلاسفة اليونان لم تمنعهم تلك العقلانية من انتشار عبادة الأوثان ومزاعم صراع الآلهة، وربما لا يُستغرب أيضًا أن تعيد شيئًا من ذلك في عصرها الحديث. فُحرم العلم في أوروبا طيلة عصورها من تعرفه على الدين الحق، ومن التطور في ظلاله، والتنعم بثماره، والتقدم في ظل تصوراته وأخلاقياته.

الفرق بين أسباب تقدم العلم وبين أسباب الانحراف به وأهمية بحثها

الفرق بين أسباب تقدم العلم وبين أسباب الانحراف به وأهمية بحثها من المهم في هذا المبحث التفريق بين التقدم العلمي وتطوره من جهة، وبين الانحراف العلمي أو الانحراف بالعلم من جهة أخرى، فلهذا أسبابه ولذاك أسبابه، وقد تشترك بعض الأسباب بحيث تكون سببًا في تقدم العلم في حال، ثم تنقلب إلى سبب في انحرافه في حال أخرى، ومن ذلك مثلًا أهمية الحرية للنشاط العلمي وتطوره وتقدمه، إلا أنه عندما يقع الغلوّ في تلك الحرية أو التعامل معها بغير مسؤولية؛ قد تتحول إلى سبب في الانحراف بالعلم بعد أن كانت سببًا في تقدمه. والبحث في أسباب انحراف العلم في غاية الأهمية لاسيّما انحرافه في الأبواب الدينية؛ لأن ذلك يسهم في خدمة العلم ذاته، وخدمة المجتمعات التي تنعم بثمار العلوم العصرية، وفيه حماية للأمم من الاستغلال السيئ من قبل مبغضي الدين لثمار العلم في دعم دعواهم. فالبحث عن أسباب انحراف العلم أو الانحراف به هو عملية تطهير للعلم من الاستغلال الآيديولوجي الذي قام به أنصار العلمانية ومبغضو الدين والملاحدة وأشباههم، وهو استغلال قد أضرّ بالبشرية ورمى بمجتمعات كثيرة في ظلام الإلحاد والعلمنة والعداء للدين وأصوله وقيمه. لا أحد يجادل في أن أوروبا شهدت في عصرها الحديث تقدمًا في علوم الدنيا بما لا مثيل له في تاريخ البشرية، ولا أحد يجادل في النفع العظيم الذي قدمته هذه العلوم للبشرية في هذه الحياة الدنيا, ولا أحد يكابر في الوقت نفسه

بأن هذه العلوم ذاتها قد أسهمت بنصيب كبير من مآسي العالم في العصر الحديث، فالعلم نفسه الذي خدم البشرية؛ هو نفسه الذي أسهم في دمارها لحظات الحرب، وما الآثار الفظيعة التي أحدثتها القنابل النووية وتجاربها المخيفة هنا وهناك من الناس ببعيدة، فمنها هذا التلوث القاتل، وهذا الدمار، وهذا الخوف والهلع، والعالم الآن يعيش في قلق من هذه الأسلحة المرعبة. ومع ما يحويه مسار العلم الحديث من خير وشرّ، من بناء ودمار، من تقدم وتأخر؛ إلا أن الناس ينسون سيئات العلم وينظرون لحسناته، ويغفلون عن إقامة التوازن الكافي بين الحسنات والسيئات، فعندما تعبث القنابل بالأجساد، والأشعة النووية بالأرض والسماء؛ ينسى الناس أنها من ثمار العلم، وينسون أن دمارها وخرابها وضحاياها هو ثمرة من ثمار العلم. وبقدر ما ينسون هذه الثمار المدمرة ينسون ما هو أهم وأخطر؛ فيتغافلون عن حقيقة خطيرة وهي أن العلم قد ينحرف بهِ أقوام عن مساره فكريًا وثقافيًا ودينيًا كما انحرف بهِ السابقون ماديًا وصنعوا منه آلاتِ دمارٍ لا مثيل لها. وهذا المسار الذي يتناساه الكثير هو ما نحاول بحثه في هذا الفصل وكشفه؛ لأننا نراه يستحق العناية والاهتمام تمامًا -وأكثر- مما يستحقه المادي، فكما أن هناك من يبحث في أسباب الانحراف بالعلم ماديًا وأسباب توظيفه في الدمار ثم يحاول معالجة ذلك؛ فنحن أيضًا من حقنا مناقشة ذلك من جهة أخرى، من جهة أسباب الانحراف بالعلم في علاقته بالدين والتصورات الدينية، فنحن نبحث مثلًا في: - عندما يوضع العلم في خدمة الانحرافات الفكرية والأيديولوجية ويصبح آلة طيِّعة في خدمتها. - عندما تخرج فرضيات ونظريات تخالف صحيح الدين مخالفة صريحة، وتتبجح دون مبالاة بالدين، بل ترى أنها الأحق والأولى مما ورد في الدين. - عندما يُستغل العلم من قبل الفئات المبغضة للدين، فتوظف العلم في صراعها مع الدين بأسلوب خبيث وماكر. - عندما يتحول العلم عند البعض إلى مذهب أو عقيدة، ويقدم على أنه البديل عن الدين.

أمثلة تبين المقصود بمفهوم الانحراف بالعلم

أمثلة تبين المقصود بمفهوم الانحراف بالعلم التاريخ القريب مليء بالأمثلة والشواهد على مثل هذا النوع من الانحراف بالعلم، إما بتصويره وكأنه بمثل لهذا المذهب أو ذاك، أو توظيفه في ما يخدم هذا المذهب أو ذاك، وسأذكر بعض الأمثلة الموضحة لمقصودي من الانحراف العلمي أو الانحراف بالعلم، والتفريق بينه وبين التقدم العلمي. بعد نجاح العلمانية في فرض وجودها ورؤيتها في المجتمع الغربي؛ قامت بتوجيه المجتمع بما يخدم تلك الرؤية، وانصرفت كثيرٌ من الفئات عن العناية بالروح إلى العناية بالجسد فقط، وأغفلت الآخرة واهتمت بالدنيا، نسيت الخالق واهتمت بالمخلوق في صورته الحسية. ثم تطور الوضع العلماني مع التصور المادي الذي ساد في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، فتحول ذلك النسيان إلى جحود وإلحاد صريح، ثم بدأت تلك الفئات في الاستدلال بكل دليل على أنه لا حياة ولا حقيقة إلا هذه المادة، وكان العلم أحد أهم ما يمكن استغلاله لإثبات صحة تلك الدعوى، ومن بين الأمثلة: المثال الأول: إنسان بِلتْداون: كانت التيارات المادية قد ادعت بأنها عالجت مشكلة الوجود المادي في ظل النظرية النيوتنية العلمية، فهم يدعون أن العلم قد أثبت أن الوجود المادي يعتمد على ذاته بقوانينه الخاصة في الحركة، ومن ثمّ لا حاجة لنا في البحث عن خالق ومدبر وحافظ لهذا الكون، وبالرغم من اصطدامهم بمشكلة حقيقية هي: كيف وجد هذا العالم! ومن وضع فيه القوة! فقد فسّر بعضهم ذلك بالتأليه السببي، ومفاده أن الله خلق العالم ثم تركه، إلا أنه كان تفسيرًا ناقصًا من أجل

الهروب من الحقيقة، وعندما وجده المتأخرون ملزمًا لهم بالاعتراف بالخالق سبحانه؛ فقد تغافلوا عن مثل هذا السؤال، واكتفوا بإعلان الإلحاد المطلق دون تقديم جواب للسؤال المهم. عندها جابهتهم مشكلة أكثر تعقيدًا لتبقى حجة الله قائمة على كل ملحد، كانت المشكلة هي ظاهرة وجود الحياة في العالم المادي وظهور أعظم الكائنات الحية وهو الإنسان، حيث تمثل تحديًا للماديين الملحدين لا يمكنهم الجواب عنه إلا بالإقرار بوجود الرب سبحانه. بقي هذا الإشكال قائمًا إلى أن جاء "داروين" بنظريته في التطور، فالحياة كما يزعم خرجت من عالم المادة صدفة، ثم تطورت إلى أن تمثلت في صورة الإنسان، وفق قوانين تشابه قوانين نيوتن في عالمه المادي، فوجدها الملحدون فرصة للزعم بأن العالم المادي وعالم الحياة لا موجد لهما إلا المادة، وأن العلم كما دلّ على وجود العالم المادي باعتمادهم الفاسد على نظرية نيوتن، فكذلك العلم الطبيعي دلّ على وجود الحياة بالاعتماد الفاسد على نظرية داروين. ومع أن الانحراف بنظرية نيوتن، أو استغلال نظرية التطور الدارونية في إثبات المادية وإنكار الربوبية والغيب والدين والروح هي صورة خبيثة من الانحراف بالعلم؛ إلا أن هناك أمثلة تفصيلية تدل إلى مدى ما يصل إليه الانحراف بالعلم، حيث كان التيار المادي مهمومًا بإثبات صحة هذه النظرية الدارونية لما تعنيه من زلزلة لكل الأديان والعقائد. ومن بين أشهر الأمثلة لهذا الانحراف قصة أحد الأدلة المكذوبة للدفاع عن المادية التطورية وروحها الإلحادية، فمن أدلتهم على وجود التطور "إنسان بلتْداون" ليكشف لنا صورة شنيعة من صور الانحراف بالعلم، ففي سنة (1912 م) أعلن أحد علماء الحفريات اكتشافه لعظمة فك وجزء من جمجمة، وكانت عظمة الفك أشبه بفك القرد بينما كانت الأسنان والجمجمة أشبه بأسنان وجمجمة الإنسان، وسميت هذه العينة بـ "إنسان بلتْداون" نسبة إلى المكان الذي اكتشُفت فيه، وزعم أن عمرها خمسمئة ألف سنة، فأخذت شعبية كبيرة وعرضت في العديد من المتاحف بوصفها دليلًا قاطعًا على تطور الإنسان، "ولأكثر من أربعين سنة كُتب الكثير من المقالات العلمية عن "إنسان بلتداون"، كما أُعِدّت له العديد من التأويلات والرسوم، وقُدّمت الحفرية بوصفها دليلًا مهمًا على تطور الإنسان،

وكُتب ما لا يقل عن خمسمئة رسالة دكتوراه حول الموضوع"، ولقيت العينة اهتمامًا كبيرًا. وفي سنة (1949 م) حاول أحد المختصين بالحفريات تجريب طريقة جديدة "اختبار الفلورين" لتحديد تاريخ الحفرية، فأجرى اختباره على العينة، وكانت النتيجة مذهلة، فقد اكتشف أن عظمة الفك لا تحتوي على الفلورين، مما يدل على أنها مدفونة في الأرض من بضع سنين، أما الجمجمة فقد احتوت على مقدار ضئيل من الفلورين التي تبين أن عمرها لا يتجاوز بضعة آلاف من السنين. وتتابع البحث حولها، وتبين أن هناك عملية تزوير لتلك العينة، ففي سنة (1953 م) "تم الكشف للجمهور عن هذا التزوير؛ إذ كانت الجمجمة تخص إنسانًا عمره نحو خمسمئة سنة، في حين كانت عظمة الفك السفلى تخص قردًا مات مؤخرًا! وقد تم ترتيب الأسنان على نحو خاص في شكل صف، ثم أُضيفت إلى الفك وتم حشو المفاصل لكي يبدو الفك شبيهًا بفك الإنسان، وبعد ذلك تم تلطيخ كل هذه القطع بثاني كرومات البوتاسيوم لإكسابها مظهرًا عتيقًا، ثم بدأت هذه اللطخ بالاختفاء عند غمسها في الحمض"، وقد كان أحد أعضاء فريق كشف هذا التزييف يستغرب أن عملية التزييف كانت "واضحة جدًا لدرجة تجعل المرء يتساءل: كيف لم يتم الانتباه إليها من قبل؟! " وكأنهم تعاموا عنها، وفي أعقاب هذه الفضيحة تمّ إخراج العينة من المتحف البريطاني بعدما عرضت لمدّة تزيد على أربعين سنة (¬1). هذا المثال عن الانحراف بالعلم له دلالاته العميقة، فهو يُظهر كيف يتعامى تيار عريض عن عملية التحقق، ويظهر كيف انصرف أعضاؤه مباشرة إلى استغلال شاهدٍ مزور واستثماره في إثبات النظرية، ومن ثمّ خدمة التصور المادي حول وجود الحياة، ويظهر حاجتهم ولو لأكذوبة ليعلقوا عليها رغباتهم، وكيف انصرفت حتى معاقل العلم الأساسية للعناية بهذا الكشف العظيم المزوّر، فكُتبت فيه المقالات المتخصصة، وأعدت حوله أطروحات علمية عليا، ثم تأتي اليد ¬

_ (¬1) المثال منقول بتصرف بسيط عن كتاب: خديعة التطور، هارون يحيى ص 36 - 46، وفي الكتاب أمثلة كثيرة من هذا النوع يمكن الرجوع إليها، وانظر مثالًا آخر لعالم آخر: "إرنست هيكل" قام بتزوير آخر، فلسفة العلوم، د. بدوي عبد الفتاح ص 96.

المثال الثاني: التولد الذاتي

التي تجتث تلك النبتة فهذا هي دون جذور، ويذهب الجهد سدى، وتنكشف الفضيحة المجلجلة. المثال الثاني: التولد الذاتي: ننتقل في هذا المثال من بلاد الغرب الرأسمالي إلى بلاد الغرب الاشتراكي، وكلاهما في الضلال سواء، حيث كان هناك احتفاء كبير بالدارونية، ولكن بعد توسيع دائرة انحرافها عدّة دركات (¬1)، ومن بين ما كان يسعى إليه علماء تلك البلاد: محاولاتهم إثبات التولد الذاتي من أجل دعم المادية، فهذا "ستالين" يكلف "أوبارين" "أن يثبت علميًا بأن الحياة نشأت تلقائيًا من المادة؛ ليدعم بذلك العقيدة الرسمية للدولة. وفعلًا أمضى أوبارين وأعضاء الأكاديمية (20) عامًا في محاولات دائبة غير مجدية"، وبعد سنين أعلن بأن جميع المحاولات باءت بالفشل، ثم في مكابرة قال: إننا يمكن أن ننجح في ذلك "بشرط أن تكون المحاولة على كوكب غير الأرض؛ وذلك نظرًا لأن ظروف الأرض الحالية لم تعد مهيأة لذلك"، في إصرار عجيب بأنه لابد أن يؤمن العالم بمسألة التولد الذاتي وإبطال عقيدة الخلق (¬2). والذي يهم الباحث في الموضوع بأن العلم قد تحول من مساره العلمي إلى مسارات أخرى، يقصد أصحابها استغلال العلم في دعم المادية والإلحاد وإبطال الدين. فها نحن أمام أمثلة استغرقت من أهلها عدّة سنين، وجهودًا مضنية، وعملًا شاقًا، وذلك كلّه من أجل استغلال العلم في دعم الرؤية العلمانية المادية، أو على الأقل هي الهدف البارز والأوضح في المثالين، ولهذا السبب ظهر الانحراف بالعلم واتسع، وأصبح العلم واحدًا من أهم النشاطات البشرية استغلالًا من قبل دعاة المذاهب الضالة. وحتى نؤكد هذا المعنى، ونكشف شيئًا من خيوطه، لنعرف الحقيقة ولنحذر مما وقع فيه أولئك الأقوام، فسأتناول في هذا الفصل أهم ما وجدته سببًا للانحراف بالعلم، وليس قصدي الاستقصاء بقدر ما أقصد التوقف مع الأبرز منها ¬

_ (¬1) انظر: سلامة موسى وأزمة الضمير العربي، د. غالي شكري ص 126. (¬2) انظر هذا المثال في كتاب: العلمانية. .، سفر الحوالي ص 342 - 343 وما بين الأقواس بنصه.

والأشهر، أعتني بالأسباب الكبرى التي يمكنها احتواء غيرها تحت مظلتها، ومما وجدته مناسبًا لهذا الفصل خمسة أسباب، قام على كل واحد منها طائفة من طوائف المجتمع الغربي. أبدؤها بدور القطبين المتضادين الكنيسة والعلمانية، لأجمع بين اثنين من أشهر الأسباب المؤثرة في مسيرة الفكر الغربي بداية تكونِهِ الحديث، ثم أقف مع تيارين كبيرين في الفكر الغربي كان لهما دور بارز في هذا الباب، وهما: المادي والوضعي، وأختمها ببحث حقيقة دور اليهود. على النحو التالي: الأول: دور الكنيسة في إفساد العلاقة بين الدين والعلم. الثاني: دور العلمانية في الانحراف بمسيرة العلم. الثالث: دور الفكر المادي في انحراف العلم. الرابع: دور المذهب التجريبي الحسي والوضعي. الخامس: دور اليهود.

ما بين الرؤية الكنسية والرؤية العلمانية للعلم وأثر ذلك في الانحراف بمسيرة العلم

ما بين الرؤية الكنسية والرؤية العلمانية للعلم وأثر ذلك في الانحراف بمسيرة العلم أقف في هذا المبحث مع أشهر الأسباب في تعكير مسيرة العلوم الحديثة وهو الموقف الكنسي من العلوم الجديدة، والصراع الكبير الذي دار داخل أوروبا، وما نتج عنه من بروز العلمانية المنتصرة في ذلك الصراع، ونظرًا لارتباط العنصرين ببعض رغم تعارضهما؛ فإنني أجمعهما في مبحث واحد مبتدئًا بالكنيسة وما تبع ذلك من ولادة العلمانية. الأول: دور الكنيسة في إفساد العلاقة بين الدين والعلم تتفق أغلب الكتابات حول تاريخ الفكر والعلم الحديثين بأن الكنيسة قد لعبت الدور الأكبر في إفساد العلاقة بين الدين والعلوم الحديثة، وأنه بسببها تحول المجتمع الغربي نحو العلمانية، وأنه بسببها أيضًا وجد الخصوم التقليديون للدين فرصتهم الثمينة في الانقضاض على الدين وإبعاده عن مسرح الحياة. وتعد هذه الفقرة من الفقرات الشائكة؛ لأن أغلب من كتب عنها هم المنتصرون، فكتبوا ما يريدون وصوروا الوضع كما يشاؤون، والمنتصر هنا هو التيار العلماني الدهري اللاديني. ومع ذلك فالحديث هنا ليس عن الدور السلبي للكنيسة في دفع المجتمع الغربي نحو اللادينية وصورة ذلك الصراع الكبير والضخم داخل أوروبا، وفي الكتب الإسلامية التي تناولت موضوع العلمانية ما يكفي، وإنما الحديث عن دورها في إفساد العلاقة بين الدين، والعلم الحديث، وأثر ذلك ليس في الغرب فقط بل في العالم الحديث كلّه.

دخول النصرانية للغرب واحتواء لاهوتها على معارف علمية

دخول النصرانية للغرب واحتواء لاهوتها على معارف علمية: كانت الديانة النصرانية مضطهدة في أوروبا الوثنية أول تعرف الأوروبيين عليها، وقد كان الناس يدخلون أفواجًا في هذا الدين الجديد سرًّا بسبب الاضطهاد الوثني إلى أن انتشر أمرهم وكثر عددهم وقوي أمرهم؛ عندها قبلته السلطات السياسية واعتنقته، لكن ذلك وقع بعد أن انحرفت المسيحية كثيرًا عن دعوة نبي الله عيسى عليه الصلاة والسلام (¬1). وقد اعتمد هذا الانحراف من قبل مجامعهم التي يعقدها كبار رجال الدين النصراني، وكان أولها شهرة وأهمها وأخطرها هو مجمع نيقية سنه 325 للميلاد، وهو المجمع الذي دعا إليه إمبراطور الرومان "قسطنطين" وذلك لمعالجة الخلاف بين النافين لألوهية عيسى عليه الصلاة والسلام وبين المدعين لذلك، فأرسل قسطنطين إلى جميع البلدان طالبًا اجتماع البطاركة والأساقفة، فاجتمع منهم ألفان وثمانية وأربعون، وكانوا على عقائد مختلفة في الموضوع، فتناظر الجميع أمام الإمبراطور ولكنه جنح إلى بولس ومن على قوله وكانت عدتهم ثمانية عشر وثلاثمئة. ورغم قلتهم فقد انحاز الإمبراطور لهم في قولهم بتأليه المسيح، وأعطاهم السلطة الدينية في مملكته، ونصرهم على غيرهم، مع أن مخالفيهم كانوا نحو ألف وسبعمئة، إلا أنه مال لهؤلاء وربما هي من بقايا الوثنية التي عرفتها أوروبا. وبعد ذلك أمر بتحريق كل ما يخالف رأي هؤلاء من كتبٍ وتحريم قراءتها (¬2). واستمرت المجامع اللاحقة في ترسيخ هذه الانحرافات، وكل مجمع يؤكد على ألوهية أحد المخلوقين إما عيسى أو أمه أو روح القدس، ومع كل مجمع يزداد فرض الانحراف بالقوة وتجريم المخالف، وتزداد سلطة الكنيسة يومًا بعد يوم. وقد بلغت الكنيسة مكانة عالية في عهد البابا "غريغوريوس" (1073 - 1085 م)، وأصبحت ذات سلطة سياسية وعسكرية فعلية تضارع سلطة الملوك والأباطرة (¬3). وتحولت المكانة التي حصلت عليها الكنيسة إلى طغيان يمارس على الجميع، وبسبب الانحراف الديني والخلقي عند رجال الكنيسة، فقد مورست ¬

_ (¬1) انظر: محاضرات في النصرانية، محمَّد أبو زهرة ص 32 - 39. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 120 - 131. (¬3) انظر: العلمانية من منظور مختلف، د. عزيز العظمة ص 22.

العداء بين الكنيسة وطوائف اجتماعية جديدة

أشكال من الطغيان لا مثيل لها، وكان أبرز ما حفظ هو قرار المجمع الثاني عشر سنة (1215 م) حول "استئصال الهراطقة، ويعنون بذلك كل من يرى رأيًا مخالفًا للكنيسة، ولو كان رأيًا في الكون أو طبائع الأشياء، ولم تكتف الكنيسة بقتل من يجهرون بآراء تخالف آراءها، بل أخذت تنقب على القلوب وتستكنه خبايا النفوس، تكشف عن سرائر الناس بما أسماه التاريخ محاكم التفتيش، التي دنست تاريخ الأديان بما ارتكبت من آثام، وما أزهقت من أرواح، وما سفكت من دماء، وما عذبت من أحياء" (¬1). وقد حظي علماء العلوم الرياضية والطبيعية بنصيب وافر من هذا الطغيان؛ فالكنيسة قد أدخلت نظريات علمية قديمة في صلب عقائدها، مما يجعل التفكير في غيرها مستحيلًا؛ لأنه يعدّ خروجًا على الدين وكفرًا به، ومصير صاحبه الحرق كما حدث لمجموعة من المصرّين على مخالفاتهم، وبهذا أقفلت الكنيسة طريق التفكير العلمي. وقد أعطت الكنيسة لأهلها صلاحيات واسعة في حق احتكار المعرفة الدينية والدنيوية، وحق تقرير ما الصحيح منها دون أن يكون معهم ما يؤهلهم لاتخاذ هذا القرار، صاحب ذلك مهزلة أخلاقية تمثلت في إقرار المجمع نفسه -الثاني عشر- صكوك الغفران (¬2) التي تمنحها الكنائس للمذنبين مقابل ما يدفعونه من مال، مع ما يمنح هذا الصك من السماح بالذنوب بطريقة غير مباشرة ما تبقى من العمر، وإعطاء مقعد محجوز سلفًا في الجنة، فتفتح الباب للانهماك في الانحراف، وتقفله أمام البحث العقلي والعلمي، وتمنح المنغمسين في الانحراف كل السماح والغفران، وتحرق من يأتي بنظرية علمية أو تحليل عقلي يخالف لاهوتها. العداء بين الكنيسة وطوائف اجتماعية جديدة: استعدَت الكنيسة أغلب تيارات المجتمع باسم الدين، مما ولّد المقاومة عند تلك التيارات لاسيّما بعد اطلاع شعوبها على الحضارة الإسلامية المجاورة لهم، وكان من أبرز صور المقاومة حركة الإصلاح الديني مع "لوثر" و"كالفن" ¬

_ (¬1) انظر: محاضرات في النصرانية ص 167. (¬2) انظر حول هذه الصكوك، العلمانية. .، سفر الحوالي ص 110، مذاهب فكرية معاصرة، محمَّد قطب ص 63، ومحاضرات في النصرانية ص 171.

وغيرهما في الجانب الديني، وحركة رواد عصر النهضة ذات المنحى العلماني الدنيوي، وحركة علمية جديدة ظهرت في علم الفلك والفيزياء والرياضيات، أعلن الجميع مبادئ وأفكارًا ونظريات تخالف الموقف الكنسي الرسمي، وسأركز على الفئة العلمية من هذه الفئات. عندما ظهرت المستجدات العلمية لم تكن الكنيسة في وضع يهيئها لدخول صراع شريف؛ لذا خسرت المعركة وسقطت سقطة مدوية لم يتحسر عليها أحد؛ وذلك أن الكنيسة من الناحية العلمية المعرفية والعملية الأخلاقية لم تكن الممثل الشريف لدخول معركة العلاقة بين الدين والعلم -مع أن الأصل ألّا تكون هناك معركة بين الدين الحق والعلم الصحيح- فالكنيسة من الناحية العلمية ذات أصول دينية ومنهجية وعلمية محرفة ومشكوك في أكثرها، والديني منها قد أصابه الزيادة أو النقص أو التحريف والتغيير، لذا كانت قيمتها المعرفية ضعيفة عند العقلاء (¬1)، فدخلت الصراع ببضاعة فاسدة وسلاح مهترئ، وهي من الناحية العملية لم تكن أحسن حالًا، إذ كانت تمارس الفساد والطغيان باسم الدين. وقد كان أصعب خسائرها في تلك المواجهة هو خسارتها للعلم الجديد أحد أخطر الأسلحة في العصر الحديث، مما مكّن خصومها -بمن فيهم الكارهون لكل دين- من الاستيلاء عليه بسهولة، ليصولوا به ويجولوا في ميدان الصراع ويقطفوا ثمار النصر بسهوله، ويوجهوا السلاح الجديد فيما بعد كيفما شاؤوا. فقد صاحب انهيار الكنيسة التدريجي صعود فئات جديدة كان من مصلحتها تحطيم الدين كله أو على الأقل تحطيم مؤسساته، وتبنت هذه الفئات العلم ورعته لينفعها في المستقبل، مما جعله يموج معها كيفما شاءت، وذلك من باب رد المعروف. فإذا كانت الكنيسة قد خذلت العلم والعلماء وأذاقتهم الويلات، بخلاف تلك الفئات التي أظهرت وقوفها إلى جانب العلماء وعلمهم؛ فقد تحمّل العلم تبعات ثقيلة فيما بعد تمثلت -بغير حق- في رد المعروف لتلك الفئات المحاربة للدين، فقدم لها بعض ما يساعدها في دعوتها. ¬

_ (¬1) اعترفت الكنيسة في القرن التاسع عشر بنقص الدقة العلمية في الإنجيل. انظر: الجفوة المفتعلة بين العلم والدين، محمد يوسف ص 18، و"الإنجيل" ليس فيه نقص، فهو وحي من عند الله، ولكن تحريف أحبارهم ورهبانهم جعله قبلة للطاعنين.

تمثيل الكنيسة للموقف الديني في الصراع بين الدين والعلم وأثره

تمثيل الكنيسة للموقف الديني في الصراع بين الدين والعلم وأثره: إن جوهر المشكلة في الصراع بين الكنيسة والعلم هو أن الكنيسة قد مثّلت الدين في هذا الصراع، فكأنها قامت نيابة عن أديان العالم بمهمة تمثيل الدين وبئس الممثل، ولكنها خرجت من ذلك الصراع خاسرة ومكروهة، وقد وجدتها التيارات الكارهة للدين فرصة لا للاعتراف بعدم صلاحية الدين النصراني فقط ولا للبحث عن الدين الحق؛ بل صوّرت تلك الحالة النصرانية أنها حالة كل دين، وسعت إلى غرس ذلك البعد في أذهان الناس وقلوبهم، واجتهدت في نشره بين الجماهير، وتحويل بغض الكنيسة واحتقارها بسبب ما فعلته إلى بغض كل دين أيًا كان هذا الدين، دون تفريق بين دين الحق وأديان الباطل. وفي المسار نفسه نجح التيار المخالف في إبراز نفسه وكأنه الحامي للعلم والحقيقة، وأنه الحريص على تقدم البشرية، وأنه البديل الحقيقي عن الكنيسة وأهلها ومن ثمّ عن الدين وأهله. وقد تَشكّل من هذا الخليط فيما بعد رؤية عامة تشربتها الأجيال الجديدة في أوروبا وأصبحت تعتقد بها، فتنظر إلى الدين كعائق أمام تقدم العلم وكنقيض له لا يمكنه التوافق مع المعارف العلمية، على أن الدين لا يملك قيمًا معرفية يمكن إثباتها، ومن لم يجرؤ على نبذ الدين مطلقًا فهو يرى على الأقل بإمكانية الانتفاع ببعض قيمه وأخلاقياته فقط. لقد كان السبب الرئيسي في وجود مثل تلك الرؤية هو انحراف الكنيسة؛ فاستثمره المبغضون للدين أفضل استثمار، وتمكنوا من فرض ما يريدون من أمورٍ ما زال العالم يعاني منها إلى اليوم، وقد كان من بين أخطر ما حققه التيار المعارض للكنيسة هو إعلان العلمانية فلسفةً جديدة للحياة تكون بديلًا عن الرؤية الكنسية الموروثة، عمدتها الاكتفاء بالنظرة الدنيوية والعناية بموقعنا في الدنيا بعيدًا عن أي غطاء ديني، ومن أراد الدين فيكون اختيارًا فرديًا لا علاقة له بحياة المجتمع، وقد قامت العلمانية فيما بعد بطبع جميع مؤسسات المجتمع بصورتها ووفق رؤيتها، بما في ذلك أهم نشاطات المجتمع الحديث وهو العلم الناشئ مع جميع مؤسساته. وهكذا تضافرت مواقف الطرفين في إفساد مسيرة العلم، فموقف الكنيسة السلبي من العلم قد نفّر العلماء منها، وموقف العلمانية المساند للعلم والرافض للدين قد جذب العلماء إلى العلمانية ليوجهوا بعد ذلك بحسب الرؤية العلمانية

المواقف الأربعة للكنيسة من العلم الحديث وما تضمنته من إشكالات

في نشاطهم العلمي. وعندما قامت الدول الأوروبية الحديثة بكياناتها السياسية الجديدة قامت على الرؤية العلمانية، وأقامت جميع مؤسساتها على هذه الرؤية بما في ذلك النشاط العلمي. المواقف الأربعة للكنيسة من العلم الحديث وما تضمنته من إشكالات: سبق في الفصل الأول التعرض لموقف الكنيسة والتيار الديني النصراني من الثورة العلمية وعلمائها المشهورين من "كوبرنيكوس" صاحب أول نظرية حديثة في العلم إلى "جاليليو" و"نيوتن"، وقد كانت تلك النظرة من خلال مسار العلماء مع كنيستهم، أما هنا فسنعكس النظر، ونبحث في موقف الكنيسة ذاتها وأثر عملها على رؤية الغرب ومقلديه للدين في علاقته بالعلم. لقد كان لأغلب المواقف التي اتخذتها الطوائف الكنسية أو المتعاطفون معهم أثرها السلبي في العلاقة بالعلم؛ لأن أغلبها انطلق من الاعتقاد بصحة الدين النصراني القائم، مع أن الواقع كان غير ذلك، لذا استمرت التوترات والتناقضات تظهر مع ظهور كل مرحلة جديدة. يذكر لنا صاحب كتاب "الجفوة المفتعلة بين العلم والدين" ما ملخصه أربعة مواقف للنصارى وهي: الأول موقف الكنيسة الرومانية الكاثوليكية التي رفضت أي نتيجة خالف فيها العلم الإنجيل. والثاني موقف طائفة ترى أنه من الخطأ الاعتقاد بأن الله يقدم الديانة كاملة؛ بل يواصل الناس وضع أصول لها بعد ظهور الجزء الأول منها، وهو موقف لأسقف الكنيسة الإنجليزية. والثالث موقف طائفة "آمنت بالإنجيل على أساس الكفر بحرفيته، فإذا قال العلم شيئًا، وقال الإنجيل خلافه، قالوا مع العلم ما قاله، وقوّلوا الإنجيل ما لم يقله، بحجة عدم الاعتداد بحرفية الإنجيل، يقول ليكونت دنيوي: "إن اللغة الرمزية القديمة للإنجيل لم تعد بحرفيتها موافقة لمتطلبات الساعة"". والرابع موقف طائفة تقول بوجود حقيقتين ولكل منهما حق الوجود، فإذا جاءت قضية من العلم وأخرى من الدين فهما صحيحتان وإن تناقضتا في الظاهر، مثل الاختلاف حول مركزية الأرض في الكون، وقد قال به بيكون وغيره (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: الجفوة المفتعلة بين العلم والدين، محمد علي يوسف ص 17 - 19.

وكلٌ من هذه المواقف الأربعة يفتح من الإشكاليات أكثر من الحلول المقدمة، فالأول تعترضه مشاكل كبيرة أحرجت كل المتعاطفين مع الكنيسة؛ لأن إصرارها قد سبب احتقار الناس لها وعدم ثقتهم فيها، فهم قد أدخلوا ضمن لاهوتهم نظريات علمية خاطئة، وصدقتها فيما بعد مجامعهم المقدسة، وأصبحت في مكانة الكتب المقدسة (¬1)، وأضحى الخروج عليها أو مخالفتها في حكم مخالفة ما أخبر الله به. ومع اتساع معارف الناس العلمية وإصرار الكنيسة على موقفها تكشّف للناس بأن الكنيسة تكذب عليهم أو تخدعهم، وتزلزلت ثقتهم فيها، وبما أنها النموذج الديني الأعلى في تلك البلاد وظهرت مع ذلك بهذه الحال؛ فمن باب أولى تعميم تلك الرؤية السلبية على كل دين؛ لأنهم يقيسون كل دين على دينهم. وبسبب هذا الموقف المتشدد والمصرّ على الخطأ؛ فقد أوحى للناس من أوحى بأن الدين وأهله يصرّون على أخطاء ويزعمون أنها حقيقة، وأن هذه حال كل دين وحال أهله المتعصبين له. وهي مشاعر نجدها مبثوثة في تاريخ الفكر الغربي المصاحب لتلك الظاهرة التصادمية بين الكنيسة والعلم. وليست المواقف اللاحقة أحسن حالًا، فإن المشكلة في الموقف الثاني تبقى أن ما يظنونه حقائق محدودة قد ظهرت في الماضي، هي مما يتعارض مع العقل والعلم، فلا يُسلّم بأن الجزء الذي يتوارثونه عن الأنبياء صحيحٌ حتى يقال باستمرار انبثاق الحقائق، وهم في ذلك لا يختلفون عن ضُلّال النصارى الأقدمين، فكل يضيف ويحرف بحسب ما يملي عليه هواه. والموقف الثالث، الموقف المزدوج (¬2)، والقول بحقيقتين، لا يمكن قبوله ما دام التعارض والتضاد قائمًا، وإن رضي به بعض الناس فهو مخالف لبدائه العقول؛ إذ لا يمكن تصور قبول رأيين متعارضين متضادين في باب واحد، ولا يمكن القول بأنهما حقيقيان وصحيحان في الوقت نفسه، ورغم التأسيس المنهجي ¬

_ (¬1) انظر: العلمانية. .، سفر الحوالي ص 148 - 149. (¬2) انظر: المرجع السابق العلمانية ص 153، ومما يذكر بأن هذا الموقف العلماني هو مما ورثه الغربيون عن الفلسفة الرشدية التي نقلت إلى أوروبا في عصر النهضة ثم تطورت فيما بعد لتصل إلى هذه الحال، انظر مثلًا: حوارات من أجل المستقبل، طه عبد الرحمن ص 111 وما بعدها.

له مع فلاسفتهم المحدثين كديكارت وبيكون وغيرهما فإن المذاهب اللاحقة قد رفضت هذه الازدواجية، وأخذت بموقف واحد هو الموقف الرافض للحقائق الدينية والقبول فقط بالعقلية والعلمية. والموقف الرابع، وهو الموقف الذي أُعجب به كثير من علمائهم هو القول برمزية ومجازية اللغة الدينية، والذي يظهر أن من بين أهم الأسباب لإعجاب العلماء به هو أن عقولهم وفطرتهم تنفر من القول الإلحادي والمادي لأصحاب الموقف الأحادي المادي الرافض لوجود حقيقتين، فهؤلاء العلماء يجدون الاعتراف بوجود الرب سبحانه وعنايته بهداية البشرية أمرًا لا يمكن إنكاره، ولكنهم يجدون موضوعات ما يعرفونه من دينهم تتعارض مع ما بين أيديهم من علوم، فوجدوا في القول بمجازية اللغة خروجًا من الإنكار التام للدين، لذا رحب الكثير منهم بالموقف العصراني لرجال الكنيسة المتمثل في اعتبار النصوص الدينية نصوصًا مجازية ورمزية، ويُفتح الباب في فهمها لكل من أراد بحسب تجاربه الشعورية، أو يتم تأويلها بما يجعلها متفقة مع العلوم الحديثة والفكر الحديث. يقول أحد علماء الفلك المعاصرين "جان دولهاي" معبرًا عن موقف بعض العلماء: "فإن الصدام الذي حصل بين رجال الدين والعلماء قد تم تطويقه الآن بعد التجديد اللاهوتي، الذي أدخلوه على الدين المسيحي لكي يتصالح مع العصر والحداثة. . وهذا من أهم الأحداث التي حصلت في هذا القرن دون أن يشعر بها أحد. . وذلك لأنه أدى إلى المصالحة بين العلم والإيمان. . وهي مصالحة تاريخية ذات أهمية قصوى"، إلى أن قال: "لقد أصبحت الكنيسة تعترف الآن بأن حقائق العلوم الفيزيائية والكيميائية ليست موجودة في التوراة والأناجيل، وإنما في المخابر العلمية. . فالكتب المقدسة هي كتب دينية بالدرجة الأولى، وليس همها أن تحتوي على معادلات الفيزياء والكيمياء والرياضيات؛ وإنما على التوجيه والهدي الإلهي. . وقد أمرنا الله بأن نعرف الكون ونستكشف قوانينه عن طريق آخر: عن طريق العلم. ." (¬1). وهذا العالم هو الذي يقول أيضًا: "وينبغي بالتالي أن نعيد تأويل النصوص الدينية لكيلا تتعارض مع النظريات العلمية التي ثبتت صحتها. . . ." (¬2)، وبقدر ما يوحي كلامه باحترامه لنصه الديني في وقت لا ¬

_ (¬1) العلم والإيمان في الغرب الحديث، هاشم صالح ص 32، 33، وهو من علماء الفلك. (¬2) المرجع السابق ص 32.

يلومه أحد على عدم الاحترام، بقدر ما يوحي بأن هناك مشكلة قائمة فعلًا تتمثل في تعارض بارز بين دينهم والعلم. منذ أن اطلع الغرب على الحضارة الإسلامية وتفتح على النظر العقلي والعلمي وهو يشعر بأزمة مع دينه ونصوصه المقدسة، وقد تمت المحاولة الأولى لتصحيح الوضع في حركة الإصلاح الديني مع "لوثر" و"كالفن" وغيرهما، لكنهما استبقيا الكثير من أصول الضلال، وإن كانا قد خففا من طغيان الكنيسة على أتباعها؛ فإنهما لم ينظفا دينهم من الانحرافات العقدية الضخمة التي لحقت به. وجاءت حركة جديدة للكنيسة عقب أزمتها في الإمساك بالمجتمع المنفلت من بين يديها فظهرت في نهايات القرن الثالث عشر/ التاسع عشر حركة إصلاحية جديدة (¬1)، هي تلك التي يتحدث عنها "دولهاي", ولكنها تبقى مع كل ذلك في ضلالها القديم، فليست المسألة فقط في حل المشكلة مع العلم عن طريق تحويل النصوص إلى كلمات رمزية ومجازية؛ وإنما الأمر هو في الدين الذي تقدمه لشعوبها باسم رب العالمين، مع أنه تركيبة ضالة صنَعَها أحبارهم ورهبانهم عبر مئات السنين. ونحن نشعر بأن هذا الرضا الذي أظهره هذا العالم وغيره عن الكنيسة وعن المصالحة بينهما لن تستمر طويلًا؛ لأن ما بني على باطل فهو باطل، ولن يبقى أبدًا. أما عندما يكون الدين هو من عند الله والوحي هو كلامه سبحانه دون نقص أو زيادة عندها لا يشعر أهله بوجود التعارض والتناقض، فلا تعارض بين المنقول الصحيح والعلوم الصحيحة, لذا لم يشعر المسلمون بهذا التعارض ما دام النص صحيحًا والمسائل العلمية صحيحة، وبعض مفكري الغرب العقلاء يعترفون بذلك، فهذا الفيلسوف الفرنسي "ألكس لوازون" يقول: "خلف محمد - صلى الله عليه وسلم - للعالم كتابًا هو آية البلاغة وسجل الأخلاق، وهو كتاب مقدس، وليس بين المسائل العلمية المكتشفة حديثًا أو المكتشفات الحديثة مسألة تتعارض مع الأسس الإسلامية، فالانسجام تام بين تعاليم القرآن والقوانين الطبيعية، مع ما نبذله من المساعي للتأليف بين النصرانية وبين القوانين الطبيعية" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: مفهوم تجديد الدين، بسطامي ص 105 وما بعدها. (¬2) الجفوة المفتعلة بين العلم والدين، محمد يوسف ص 24، نقلها عن (الدين والعلم)، أحمد عزت، ترجمة حمزة طاهر ومراجعة د. عبد الوهاب عزام دون صفحة.

حالة المعاناة من الكنيسة وظهور العلمانية

ومن المهم للمسلمين الاعتبار بما يجري في تلك الأمة من حولهم؛ لأننا نشاهد من يتبنى بعض مواقف تلك الأمة حرصًا منه بحسب زعمه على التوافق مع العصر وقبول النظريات العلمية، ولكن مواقفهم كان سببها الأساسي عدم صحة ما بين أيديهم في الأساس أو عدم الفهم السليم للصحيح منه، وهما أمران تمّ تجاوزهما لعدم قدرة الكنيسة على إيجاد سند تاريخي يوثق دينهم، وعدم وجود منهج سليم يحتكمون فيه إلى فهم ما صح منه. وانسياق بعض المسلمين في تقليد أحد مواقفهم لا يستقيم لاختلاف الحالين؛ لهذا السبب نطيل الكلام في مثل هذه الفقرات لكي تنتبه أمتنا فلا تقع فيما وقع فيه غيرها. حالة المعاناة من الكنيسة وظهور العلمانية: يلخص لنا أحد علماء أوروبا المعاصرين قصة هذا الدور -بول جورمان- فيتساءل: "هل تؤدي الاكتشافات العلمية التي حققها الإنسان في مختلف المجالات الفيزيائية والفلكية والرياضية والبيولوجية والتكنولوجية إلى فقدان الإيمان أو التشكيك بوجود الله؟ هذا ما اعتقده بعضهم في الغرب طيلة القرنين الماضيين، بل وهذا ما لا يزال يعتقده الكثير من معاصرينا اليوم، وكل ذلك يعود إلى سوء التفاهم الذي حصل بين الكنيسة المسيحية وبين الاكتشافات العلمية بدءًا من غاليليو وانتهاء بداروين. ." (¬1). ثم يؤكد دور الكنيسة فيقول: "لا ريب في أن العلماء المسيحيين المعاصرين يشعرون بالخجل تجاه ما فعلته الكنيسة سابقًا ضد العلماء واكتشافاتهم، فقد لاحقتهم طيلة العصور الوسطى وحتى أواسط العصور الحديثة، وحاكمتهم وأعدمتهم أحيانًا؛ لأنهم تجرؤوا على اكتشاف قوانين الطبيعة والكون، واعتبرت أن ذلك يمثل تحديًا للقدرة الإلهية أو تطاولًا عليها. نقول ذلك ولاسيّما أن الاكتشافات العلمية كانت تناقض ما جاء في كتب اليهود والمسيحيين عن تركيبة الكون والمادة. ولهذا السبب حارب البابا العلماء واشتبه بهم واعتبر أنهم يشكلون خطرًا على الإيمان. ولم تنته المعركة بين الطرفين إلا بعد تأويل الكتب الدينية مجازيًا لكي تستطيع التأقلم مع مكتشفات ¬

_ (¬1) العلم والإيمان في الغرب الحديث، هاشم صالح ص 43 - 44، وهو مختص بالرياضيات والميكانيك النظري، كما أنه عضو في الأكاديمية البابوية للعلوم، والتغميق من قبل الباحث.

العلم. وبمعنى أن ما تقوله هذه الكتب عن نشأة الكون وتشكل الظواهر الطبيعية لا ينبغي أن يؤخذ على حرفيته الظاهرية، وإنما ينبغي أن يقرأ على سبيل المجاز الرمزي، فالكتب الدينية ليست مختصة بالفيزياء والكيمياء والبيولوجيا والرياضيات، وإنما هدفها هداية الإنسان إلى الطريق المستقيم. . . ."، إلى أن قال: "نعم لقد عانت الشعوب الأوروبية في الماضي من محاكم التفتيش السيئة الذكر وملاحقة رجال الدين للعلماء واشتباههم بهم واضطهادهم؛ ولهذا السبب دفعت الأصولية المسيحية الثمن غاليًا فيما بعد وتخلى الناس عنها واتبعوا طريق العلم. وإذن فإن التزمت المسيحي هو الذي دفع الناس إلى الابتعاد عن الإيمان" (¬1). فهذه صورة عما يشعر به عالم من علمائهم تجاه كنيستهم، وأنها كانت السبب في سوء العلاقة، ومحاكم التفتيش التي يتحدث عنها كانت نموذجًا للطغيان المعرفي والعلمي، فهي تمنع من أي معرفة تخالف ما في لاهوتهم الضال وكتبهم المحرفة، وهي المحاكم التي أسسها البابا "أنوسنس" الرابع عام (1252 م) وبقيت تعمل لأكثر من خمسة قرون (¬2)، وتُذكر أعداد كبيرة ممن أحرقتهم أحياءً أو عذبتهم حتى عادوا إلى طريقتها الضالة. ومع أن رواد الثورة العلمية وأصحاب نظرية الفلك الجديدة كانوا من رجال الكنيسة أو من العاملين في بلاطها أو من المعتنقين للنصرانية وبحماس ظاهر؛ إلا أنهم مع ذلك كله قد عانوا منها ومن محاكمها فكيف بغيرهم، ومنهم من أحرق كـ"برونو"، ومنهم من تعرض للمحاكمات المطولة، ومنهم من تعرض للتعذيب والسجن مثل "جاليليو"، وقد سبق الحديث عن معاناتهما في الفصل الأول، وهناك معاناة من نوع آخر تعرض لها "كبلر" أحد علماء الفلك المشهورين، فرغم حبه للكنيسة وأمنيته أن يكون أحد قساوستها وأحد رجال دينها وبذل كل ما يستطيع لتحقيق ذلك الحلم؛ إلا أن ذلك لم يشفع له عند الكنيسة، فالبلاد الكاثوليكية لم تقبله لاعتناقه البروتستانتية، والمناطق التي عاش فيها: مرّة ينتصر فيها الكاثوليك على البروتستانت فيطرد منها، ومرة ينتصر أهل مذهبه فينشط، وكانت أصعب لحظات ¬

_ (¬1) العلم والإيمان في الغرب الحديث ص 55، 56. (¬2) انظر: الإيمان والتقدم العلمي، خالص جلبي وَهاني رزق ص 164 - 165، 204.

حياته تلك المحاكمة التي تعرضت لها والدته بتهمة السحر وهي كبيرة في السن, وانشغاله بمتابعة تلك المحاكمة والدفاع عن والدته، وتنقله من بلد إلى بلد، وفي أوقات المعارك بين الكاثوليك والبروتستانت، مع ما يظهر في تلك المحاكمة من دخول أهواء قوم لهم خصومات مع "كبلر" (¬1). كل هذه الصور تجعل مثل هؤلاء العلماء ينفرون من الدين بسبب نفورهم من الكنيسة، فهي لم تساند علومهم ومعارفهم ولم تسمح لهم بالاستقرار الاجتماعي، وكانت شهرة هؤلاء العلماء سببًا لملاحقتهم وإلصاق التهم بهم وزرع المشاكل في طريقهم. وهي وللأسف لا تمثل نفسها فقط بل تمثل الأديان، فهي في نظر أهلها الدين الأعلى والأصوب، فإذا كان على هذه الحال عندهم فهم يرون غيره أشد سوءًا، فأحدثت كما يقول "جلبي" "شرخًا بين الإيمان والعلم، خلّف ظلاله الكئيبة على كل الجنس البشري، على كل مساحات التفكير، على كل أحرار الفكر، على كل من يكتب بشكل وآخر، فأصبح الفكر والدين في تضاد وتناقض وتنافر وحرب. . . ."، و"قامت بخطيئة تاريخية رسمت فيها صراعًا وإشكالية، لم يتحرر منها العقل الإنساني ويتعاف حتى هذه اللحظة" (¬2). وقد أسهمت هذه الخطيئة فيما بعد في صرف النشاط العلمي بعيدًا عن الدين وخارج أسواره، ونظرًا لحاجة كل نشاط إلى روح تحركه وتصورات تظلّه وغايات توجهه، فقد ظلّ العلم يبحث عن بديل عن الدين، عندها سنحت الفرصة لتيارات مبغضة للدين في تمثيل آيديولوجيا علمانية تكون بديلًا عن الدين، تحركت في القرن الثاني عشر/ الثامن عشر، كتيار التنوير الداعي للدين الطبيعي، وهو دين أبرز ما فيه رفض النبوات، وهو الجانب السالب أو جانب النفي في ذاك الدين، ومعلوم أن الأديان إنما هي الإقرار بالنبوات، وظهر في هذه المرحلة أيضًا النشاط الكثيف والقوي للتيارات الماسونية (¬3) ممثلة دينًا جديدًا يتناغم مع الدين الطبيعي ومع أهواء فئات خبيثة خفية تريد الانتقام من الدين، وقد ولدت ¬

_ (¬1) انظر تفاصيل هذه الأحداث في: يوهانزكبلر وعلم الفلك الجديد، جيمس آر. فويلكل، ولاسيّما الفصل الخامس، تعريب محمد حسن شموط. (¬2) الإيمان والتقدم العلمي، السابق ص 163، 164. (¬3) انظر مثلًا: حول "أصحاب الدين الطبيعي" و"الماسونية" التي نشطت في هذه المرحلة كتاب عبد الرحمن بدوي، إمانويل كنت ص 76 - 79.

المثال الأول: باب المعجزات

فيما بعد في نموذج رسمي هو النموذج العلماني، وأعطت الكنيسة بفسادها فرصة ثمينة للملحدين، وفي ذلك يقول أحد الباحثين الغربيين -ليكونت دينوي-: "إن ما أضافه الإنسان إلى الديانة المسيحية، والتفسيرات التي قدمها، والتي ابتدأت منذ القرن الثالث، بالإضافة إلى عدم الاكتراث بالحقائق العلمية؛ كل ذلك قدم للماديين والملحدين أقوى الدلائل المعاضدة في كفاحهم ضد الدين" (¬1). فموقف الكنيسة الضال قد أعطى الفرصة لمثل هؤلاء الماديين في إفساد التوجه الديني عند الجماهير، أما الماديون فهم ينتظرون مثل هذه الأخطاء من ممثلي الدين ليحولوا ذلك إلى شواهد تساعدهم في تضليل الجماهير. وسأذكر مثَلين من أخطاء الكنيسة عارضت بهما الموقف العلمي الحديث ووجدها المبغضون للدين فرصة للاستثمار، والمثلان هما: الأول المعجزات التي ملئت بها كتب النصارى ورأى العلماء معارضتها للعلم وعدم اتفاقها مع قوانين الطبيعة، والثاني وهو اعتقاد الكنيسة في مركزية الأرض وأدلتها على ذلك ومعارضة العلماء لهذا الموقف، ونكتفي بالمثلين كصورة للصراع وأثره، وليس المقصود عرض أدلة كل طرف في الموضوع وبيان الأحق منهما؛ وإنما المقصود عرض أثر الكنيسة السيئ في تحويل ذلك الصراع إلى صورة سيئة نفّرت الناس من الدين ورسمت صورة فيما بعد سلبية عن كل دين. المثال الأول: باب المعجزات: طرفان ضلّا في هذا الباب: الكنيسة التي ملئت كُتُبها بأكاذيب كثيرة وجعلتها من المعجزات ليس لنبي الله عيسى عليه الصلاة والسلام فقط؛ بل لحواريّيه ومن بعدهم من القساوسة والرهبان وغيرهم، وأصبح العالم وكأنه يُشكّل بحسب رغباتهم، وكأنه ليس له نظام قد خلقه الله عليه وسنن يسير وفقها. وفي المقابل هناك التيار المنكر للمعجزات مطلقًا، وهم لفيف من المنكرين للنبوات والأديان بحجة مخالفتها للنظر العقلي ومستجدات العلم، فالعلم كما يزعمون يدل على انتظام الطبيعة واستحالة تغير هذا النظام. والمقصود هنا توضيح ما حدث من استثمارٍ لضلال الكنيسة من قبل ¬

_ (¬1) الجفوة المفتعلة بين العلم والدين، محمد علي يوسف ص 15 - 16.

مبغضي الدين لا النظر في تفاصيل الموضوع؛ لأنه سيأتي لاحقًا. فأرباب الكنيسة لا يجدون طريقًا للسيطرة على الناس إلا بادعاء المعجزات الخارقة، وعندما يجد الناس حيرة في ما يُعرض عليهم، قيل: هذا من معجزات القديسين، فكثرت المعجزات المكذوبة عند النصارى، وهناك كمّ هائل منها مقارنة بغيرها (¬1). والأسوأ من ذلك تحويل تلك المعجزات كتدليل على ألوهية عيسى عليه الصلاة والسلام (¬2)، مع أن أكثرها عند الفحص والتحليل والنقد لا تثبت عند العقلاء. وهناك نماذج عجيبة تنفر منها العقول السليمة والفطر الصحيحة, لكن أوروبا في فترة الجهل والظلام والسذاجة العقلية قد قبلت هذه الخرافات والأكاذيب (¬3). فهذا الموقف النصراني من المعجزات والتلاعب المتواصل بها قد شوّه صورة المعجزة التي تقع على أيدي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وفتح الباب للمخالفين للتكذيب بالمعجزات مطلقًا والدعوة إلى الاكتفاء بما تمدنا به الأفكار العلمية وجعلها الحكم الفصل في الموضوع (¬4). وربما كانت هذه المبالغات في ذكر المعجزات هي مما نفّر العقلاء والعلماء من الكنيسة، ومن ثم الدين عمومًا لما يرون من مهازل يقوم بها ممثلو الدين عندهم. وهذا أحد أشهر علماء الفيزياء المعاصرين "ماكس بلانك" يقول: "يجب على الإنسان -ويقصد هنا النصراني في المقام الأول- أن يقرر بإخلاص التخلي عن المعجزات التي تشكل عائقًا أمام وصول المسيحية إلى إنسان الحضارة المعاصرة؛ بسبب تعارضها مع العلم" (¬5)، ويهمنا من كلامه اعترافه بضرر كل تلك ¬

_ (¬1) انظر: المعتقدات الدينية لدى الغرب، د. عبد الراضي محمد ص 301. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 296، أو ص 442. (¬3) انظر: العلمانية، سفر الحوالي ص 105 - 110. (¬4) تعد عصمة البابوات مدخلًا لمثل هذه الأكاذيب، فكل ما جاء به هو حق وصدق لأنه معصوم، ومن ذلك ما يروونه من معجزات، ورغم الضربات التي لقيتها الكنيسة فما زال بعض باباواتها على أكاذيبهم سائرون، فهذا البابا بيوس التاسع (1846 - 1878 م) يعلن عصمته، وكأنه نبي مرسل من عند الله. انظر: العلمانية من منظور مختلف، العظمة ص 36. (¬5) المعتقدات الدينية لدى الغرب، د. عبد الراضي ص 301، وتعبيره بالإنسان هنا نوع من التعالي على غير الأوروبي، فهم يطلقون الإنسان وغالبًا ما يقصدون صورتهم وهي ما =

المثال الثاني: اعتقادات النصارى حول الأرض

المعجزات على انتشار الدين وقبوله، ومع ذلك فموقفنا يختلف عما يثبت منها للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولكن الباب إنما هو لتوضيح كيف أثرت كل تلك المكذوبات في صرف هؤلاء العلماء العقلاء عن قبول الحق. المثال الثاني: اعتقادات النصارى حول الأرض: لقد تكونت اعتقادات خاصة بالأرض في اللاهوت النصراني، وينسبونها إلى الوحي والنبوة مع أنها في حقيقتها ما هي إلا إضافات أحبارهم أو من فهمهم التي لا علاقة لها بما أوحاه الله سبحانه لأنبيائه. وقد تسببت هذه الاعتقادات بتكوين علاقة سلبية بين مفهوم الدين ومفهوم العلم، وإلصاق الخرافة بالدين بينما العقلانية مرتبطة بالعلم. فالكنيسة خلطت الحق بالباطل في هذا الباب وشوهت صورة الحقيقة بما أضافته من ضلال، والأدهى من ذلك ربط كل تلك الضلالات بأصلب المعتقدات عندهم، مما يجعل أي مخالفة لها تعد ذات خطورة كبيرة ويلقى صاحبها أقسى العقوبات. نجد ضمن معلومات الكنيسة حول الأرض بأن الله سبحانه خلق الأرض وجعلها على رأس ثور مع ما في ذلك من مخالفتها لبدائه العقول، ونفي كروية الأرض، وكون أحد المعتقدات حولها أنها مركز الكون، والتعليل لذلك بأن تجسد المسيح كان على الأرض، فالمكان الذي سار عليه ابن الرب وتمّ فيه التجسد لابد أن يكون مركز الكون، وأن يكون ثابتًا لا يتحرك (¬1)، والناس لا يشعرون بحركتها رغم ما يقوله أصحاب النظرية الجديدة من "كوبرنيكوس" و"كبلر" وغيرهما (¬2). ¬

_ = يطلق عليه في الكتابات المعاصرة (المركزية الغربية). انظر نقاش هذا المفهوم في: المركزية الغربية. .، د. عبد الله إبراهيم. (¬1) انظر: العلمانية. .، الحوالي ص 151 - 152. (¬2) اعتراضات الكنيسة والناس عمومًا آنذاك حول حركة الأرض كانت اشتباهًا حسيًا، فالجميع لا يشعر بهذه الحركة، ورغم سرعة ذلك الدوران للأرض فالأجسام تسقط إلى الأرض دون أن تتأخر نقطة سقوطها إلى نقطة خلفية بسبب الدوران، ولم تتخلف الطيور في الجو رغم سرعة دوران الأرض تحتها. وقد كانت هذه من بين الصعوبات التي قابلت "كبلر" فعسُرَ عليه إقناع الناس بها وهم لا يشعرون بتلك الظواهر. انظر: يوهانزكبلر وعلم الفلك الجديد، جيمس ص 24 - 25، 181.

واجهت الكنيسة أول نظرية علمية حديثة بمثل هذا الخليط المسمى زورًا بالتصور الديني، وهي مواجهة محسومة من البداية، وكانت لصالح النظرية العلمية، إلا أن ذلك تمّ بعد أن دفع العلماء والعقلاء ثمنًا باهظًا، وخسرت الكنيسة بعد أن خلّفت وراءها ازدراء العقلاء لموقفها وكانت مصيبة العلم أن عمم ذلك الموقف على كل دين. لقد رسمت الكنيسة صورة لا تُمحى بسهولة، صورة مفادها أن الدين لا يقبل العلم ولا يتوافق معه؛ بل هو عدوّ له، بخلاف المؤثرات الأخرى في مسيرة العلم، فهي قد قبلت العلم ولكنها انحرفت به في ظل انضمامها للجسد العلماني وتحولها إلى عضو من أعضائه، تسعد بسعادته وتتألم لألمه وتتحرك وفق غاياته. ومما عمق موقف الكنيسة تجاه العلم -وهي الممثلة للدين هناك- تلك الحلول التي قدمتها الكنيسة للخروج من المشكلة، وهي حلول مؤقتة، حبوب مسكنة ما تبرح أن يذهب مفعولها ويرجع الصراع إلى الواجهة، فهي في وقت قوتها اتخذت موقف التكفير للمخالفين وتكذيب نظرياتهم ورميهم في السجون أو إعدامهم دون أن تملك معيار الحقيقة، وعند ضعفها وانتشار التكذيب بين الناس لمقولاتها؛ فإنها تعمد إلى القول بمجازية لغة النصوص الدينية ورمزيتها، وعدم النظر إليها نظرًا حرفيًا، بل لابد من التأويل الذي يتم في كل عصر بما يناسبه أو القول عند بعض عقلائهم بمبدأ الظاهر، فالنصوص التي يفهم منها أن الشمس هي التي تدور حول الأرض تفسر بالظاهر، أي أن هذا هو ما يظهر للناظر العادي. وعندما شاعت -مثلًا- نظرية الانفجار العظيم في علم الفلك المعاصر اعتمدتها الكنيسة حتى لا تتهم بالتخلف عن ركب العلم، مع أن العلم قابل للتغير والنظريات قابلة للتطور، ولكن الكنيسة بسبب أخطائها المتتالية ركبت قطارًا لا تستطيع تغيير مساره. والحديث يطول مع مشكلة الكنيسة في العلم الحديث، والخلاصة لما سبق بأنها مشكلة ذات جذور قديمة بدأت مع دخول النصرانية لأوروبا وقيامها بخلط مكوناتها المحرفة بمعارف أوروبا الوثنية، ثم ترسخت في عصور لاحقة. ونشأت الكنيسة كمؤسسة ترعى النصرانية وتهتم بالعلم، ومع التطورات الاجتماعية وبروز معارف جديدة أدخلت نفسها في نزل مع تلك المعارف وهي غير مؤهلة لذلك، بسبب الجهل والظلم، فمعارفها مليئة بالجهل ومعاملتها للناس مليئة بالظلم. وقد

الثاني: دور العلمانية في الانحراف بمسيرة العلم

تسبب هذا النزاع في السماح لتيارات مبغضة للدين أن تتحرك بسهولة، وأن تُسرب دعوتها اللادينية إلى المجتمع الجديد، ومع وجود معارف مغلوطة في اللاهوت النصراني ووجود معاملة فاسدة أصبح الحل العلماني هو أحد الحلول المطروحة بقوة، ويكسب يومًا بعد يوم أنصاره من العلماء ومن المفكرين ومن ضحايا الكنيسة، ومن بين ما يطرحه هذا الحل العلماني الدعوة إلى إخراج العلم من الكنيسة وإبعاده عنها، ومن هنا ظهرت العلمنة كسبب ثاني في الانحراف بالعلم بعد أن نجحت في إخراجه من الكنيسة وتولّت رعايته، وهذا هو موضوع الفقرة التالية. الثاني: دور العلمانية في الانحراف بمسيرة العلم التحول نحو العلمنة في أوروبا: لقد كان تحول أوروبا والغرب نحو العلمنة عملية تاريخية كبيرة يصعب تناولها في هذا المقام، وهي عملية كانت ترجع إلى فشل الكنيسة في رسم التصور وإعطاء المعتقد الحق وفشل القيادات في إدارة المجتمع نحو التقدم والسعادة الإنسانية، ولكن البديل كان تلك الثمرة الخبيثة المسماة بالعلمانية (¬1). لقد تضافرت أحداث عدّة في دفع المجتمع الغربي نحو العلمانية، وتركز الدراسات عادة على إبراز أثر الكنيسة كأحد أهم العوامل في اندفاع الغرب نحو العلمنة، بعد أن بلغت الكنيسة ذروة الانحراف مع قمة الطغيان، وقد وجدت الطوائف المبغضة للدين فرصتها السانحة في طرح بديلها كمخرج من الأزمة القائمة في الغرب، وتصويره بأنه البديل الوحيد الممكن، وهو العلمنة لا غير، وقد كان يمكن طرح بدائل أخرى؛ إلا أن مصلحة الفئات الجديدة كانت تتحقق بالعلمانية أفضل من أي معنى آخر. وبما أن ما يعنينا في البحث هو التنقيب عن أسباب الانحراف بالعلم، فلن ¬

_ (¬1) تختلف الكتابات العربية حول المصطلح المناسب لمثل هذه الظاهرة أو المذهب، ويمكن النظر فيما قيل حول المصطلح في كتاب: جذور العلمانية، د. السيد أحمد فرج ص 106 - 167، ففي تلك الصفحات مجموعة أبحاث حول المصطلح، وسيأتي له مزيد بحث في الباب الثالث.

أ- العلاقة المشبوهة

نطيل الحديث عن العلمانية ونكتفي ببيان أثرها في مسيرة العلم الحديث، ولاسيّما بعد أن صُوّرت كسند للعلم بخلاف الكنيسة التي صورت كعدوٍ له، ووجدت فرصتها الكبيرة في استثمار العلم بل في إعادة صياغته عبر صياغتها للمجتمع ككل بحيث يتحول العلم إلى علم علماني، وهذا التحليل هو الوجه النقدي للعرض التاريخي الذي سبق في الفصل الأول. أبدأ بذكر العلاقة المشبوهة بين الكنيسة والسلطة في إرهاق الناس، واستثمار خصوم الكنيسة لذلك من أصحاب الدعوات العلمانية، ولكن الغريب أن الدراسات تُظهر فقط مشكلة الكنيسة وتسكت عن حليفتها السلطة، مع أنهما سواء في مشكلة التعامل مع العلم. يأتي بعدها تحول الطرح العلماني من فصل بين الدين والعلم إلى تحوّل العلمانية كرؤية مادية تحكم توجه العلم الجديد، وابتعاد السلطة عن الكنيسة وتحولها إلى سند للعلمنة بعد أن نجحت العلمنة في اختراقها، ومن ثم تحرك العلم بعيدًا عن الدين في الجوّ العلمي الجديد. أ- العلاقة المشبوهة: كانت العلاقة بين الكنيسة والدولة علاقة وثيقة، كل طرف يوفر الدعم للطرف الآخر، والطرفان كانا ضد الحركة العلمية الجديدة لما تمثله من تهديد لمصالحهما، ومع ذلك فأغلب الكتابات تركز على رمي التهمة على الكنيسة، وتغفل أثر الدولة والسلطات السياسية. وإذا عدنا لبداية الصراع لا نجده فقط بين الدين والعلم -على أن الدين هنا هو الكنيسة-؛ بل هو في الحقيقة بين الدولة ذات المصالح والأهواء، والكنيسة الغارقة في مصالحها وأهوائها، فتضافرت أهواء الطرفين واتحدت القوة السياسية مع الكنيسة، ومع ذلك فقد أُغفل أثر السلطة لما يعنيه ذلك من تحميل التهمة لممثلي الدين فقط. صحيح أن الكنيسة قامت فعلًا بوضع الحجج الدينية والعقلية المانعة من التفكير العلمي الحر والانفتاح العقلي المثمر، لكن لا يعني ذلك اقتناعها بما تقدم من حجج بقدر ما هي المصلحة الميكافيلية التي لجأت إليها من أجل التعاون مع السلطات في إقصاء القوى الجديدة المعارضة أساسًا للدولة وللأنظمة السياسية. لقد كانت الكنيسة الذراع الثقافية للأنظمة السياسية الفاسدة المخولة بتقديم حجج الاتهام العلمية ضد المخالفين، لاسيّما وأغلب المتأثرين بالثورة العلمية

لا يتفقون مع السلطات السياسية والقوى المتسلطة، فهذه الفئات الجديدة ترى بأن القوى السياسية والطبقات المسيطرة جاهلة وطاغية وهي غير مؤهلة لقيادة أممهم، وكانت الكنيسة ترى من مصلحتها مساندة السلطات السياسية بحجة الاستقرار والحصول على مكاسب مشتركة. هكذا حصل تواطؤ خبيث بين الأنظمة والقوى الفاسدة وبين الكنيسة الضالة، فالكنيسة تخدم النظام بتقديم أدلة تثبت ضلال التيار العلمي المعارض، لذا لا يقع غالبًا في البلاد التي يسالم العلماء فيها السلطات السياسية مجابهة للعالم، أما في البلاد التي يشتد فيها نقد العالم للنظام أو الكنيسة فإن الدولة تعطي الإذن للكنيسة بتضليل ذلك العالم. يظهر ذلك مثلًا في الفرق بين "كوبرنيكوس" و"براهي" و"كبلر" المسالمين للسلطات والكنيسة فقد كان الموقف معهم سلميًا، وبين "برونو" و"جاليليو" الثائرَين على السلطات السياسية والكنيسة والمعترضين عليها أشد الاعتراض، عندها تجندت السلطات الدينية الكنسية والسياسية ضدهما؛ فأُحرق برونو وسُجن جاليليو وختم حياته بإقامة جبرية. أما عندما تهدأ الأمور ويترك العلماء نقد السلطات السياسية أو الكنسية؛ فإن صدر السياسة والكنيسة يتسع للعلماء ونشاطهم العلمي، بل يشاركون العلماء علومهم ويدعمونهم. وهذا التواطؤ من رجال الدين النصراني مع الطغاة ومساندتهم في طغيانهم يشوه دون شك صورة الدين وأهله؛ فهم لا يمثلون دينهم فقط بل للأسف يمثلون كل دين في نظر الغربيين. وعندما تفجرت حركات الاحتجاج في أوروبا وانغمس فيها المبغضون للدين توجهت تلك الثورات ضد الطرفين؛ ضد السياسيين عسكريًا، وضد الكنيسة بالنقد والاعتراض العقلي والعلمي. والنتيجة بأن إلقاء التهمة على الكنيسة وحدها يُعد حكمًا ناقصًا؛ لأن التهمة ملقاة على كاهل القوى الموجودة من أمراء وإقطاعيين ومشاهير وأغنياء الذين استغلوا رجال الدين النصراني، كل هؤلاء قد تواطؤوا على الطغيان واستغلال شعوبهم ومحاربة كل القوى المناهضة لهم بما في ذلك الفئات الناشئة حول الأفكار والعلوم الجديدة. وهذا لا يعني التخفيف من أثر الكنيسة السيئ بقدر ما يعني النظرة المتوازنة إلى الأسباب الحقيقية في محاربة العلوم الجديدة وأثر تلك الحرب في انحراف

ب - الحل العلماني من كونه فصلا إلى كونه رؤية

مسيرة العلم، فالأنظمة والقوى الحريصة على سلطاتها ومكاسبها كانت تتعرض أكثر من الكنيسة لخطر الفئة العلمية الجديدة الناشئة، وهي فئة بقدر ما اختلفت مع الكنيسة بقدر ما اختلفت مع القوى المسيطرة على المجتمع وربما أكثر. وربما يفسر لنا هذا التحليل سبب ما نجده عند مجموعة من علمائهم المشهورين من رفض للسلطة الدينية وحاكمية الدين مع عدم رفضهم للدين ذاته، بل يرون في الدين أهمية كبيرة لحياة الناس وأرواحهم، فلو كان الدين يمثل عندهم مشكلة حقيقية ويمثل تعارضًا بينًا مع علومهم لرفضوه كله، ومع ذلك فرواد الثورة العلمية لم يرفضوه؛ ولكنهم رفضوا سلطة رجاله بعد أن عاشوا في ظل طغيانهم وتآمرهم مع القوى المسيطرة، ورفضوا سلطتهم بعد أن خذلوهم في صراعهم ضد الجهل والتخلف وساندوا خصومهم عليهم، ولا شك أن تلك كانت جناية كبيرة لرجال الدين النصراني أساءت كثيرًا في تصورات الناس حول أهمية شمولية الدين لحياة الناس. ب - الحل العلماني من كونه فصلًا إلى كونه رؤية: كان الحل للمشكلة الذي تلوكه ألسنة المثقفين والعلماء ويظهر في كتابتهم يتمثل بالفصل بين النشاط العلمي وبين السلطات السياسية والكنسية، وقد كان الحل مطروحًا قبل تبلور مصطلح العلمانية الذي عُبّر به فيما بعد عن ذلك الطرح. مصطلح الفصل مصطلح مسالم في الظاهر، فكل ما يوحي به على المستوى العلمي هو أن يتحرك العلماء في بحوثهم ومختبراتهم وتجاربهم وتحليلاتهم ونظراتهم خارج السيطرة الكنسية، كما يحدث مثلًا في الصناعات والأعمال الحرفية، ولكن يصعب تخيل هذا الموقف المحايد؛ فالعلم لا يستطيع الحركة دون أن يكون هناك تصورات تظله وأسوار تحميه وأخلاقيات تحيطه وغايات كلية توجهه. وقد وجد المبغضون للدين فرصتهم الثمينة في إعطاء هذه الأبعاد للعلم بعد أن كان الدين هو الذي يقدم للعلم تلك الأبعاد، وبدأ عملهم تدريجيًا، وبلغ ذروته في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر الميلادي في الطرح الوضعي، وله حديث في فقرة أخرى.

فتحول الحل المقترح وهو العلمنة من كونه عملية فصل مسالمة ذات منحى موضوعي في الظاهر، ليصبح مذهبًا فكريًا ورؤية بديلة عن الدين، نقف مع بعض معالمها وآثارها فيما تبقى من هذه الفقرة. ربما يحرص بعض العارضين للعلمانية على عرضها وكأنها صنو العلم، كيف لا، وهي في نظرهم التي ناصرت العلماء ووقفت في صفهم، ولكن الحقيقة غير ذلك، فالعلمانية ما هي إلا مذهب من المذاهب التي ظهرت في أوروبا، وهي كغيرها تسابق على الظفر بالسلاح الجديد والفرس السريع وهو العلم. والدليل على أنها مذهب يستغل ثمار العلم كغيرها من المذاهب أن رواد الثورة العلمية لم يكونوا من الدهريين أو المحاربين للكنيسة وإن اختلفوا معها. وربما كانت دعوة بعض العلماء إلى الفصل بين الكنيسة والعلم مرادهم منها مجرد الفصل، بخلاف دعاة العلمانية الذين يدعون للفصل مع استبدال الرؤية الدينية برؤية دنيوية. وهذه المسألة قد وصل إليها أحد العلمانيين العرب، حيث يقول بعد تحليله للمسألة: "نستنتج من ذلك أن الكنيسة لم تكن على صورة منهجية ولا كانت بالضرورة عائقًا في وجه البحث العلمي، وأن العلمانية ليست بالشأن المرتبط ضرورة بالفاعلية العلمية" (¬1)، ومما يدل على ذلك أن أغلب علماء الطبيعة كانوا أهل تدين بدينهم. العلمانية إذًا ليست موقفًا محايدًا تجاه الحياة تقصد الفصل فقط؛ بل هي رؤية للكون والحياة، ومذهب شامل ومتكامل، فالحيادية أمر مزعوم حتى في المظهر البسيط في ظل الجوّ العلماني، ولنضرب مثلًا عن صعوبة الحيادية في هذا الجوّ العلماني بجملة نجدها عادة في الكتب والوسائل الإعلامية العلمانية أو غيرها من مثل: "تعد نظرية التطور آخر ما قاله العلم عن وجود الحياة"، فاستخدام كلمات مثل: "آخر" و"العلم" رغم أن ظاهرها الحيادية والصيغة الإخبارية الموضوعية؛ إلا أنها في الجوّ العلمي العلماني محمّلة من الدماغ إلى أخمص القدم بالدعائية العلمانية لتلك النظرية، وتحمل أعلى درجات التحسين والمدح والتقويم والإيجابية؛ ذلك أن الأصل الثابت عند الناس في الغرب وأغلب بلاد العالم بأن العلم قوي ويقيني، وأنه "متقدم" و"متطور" نحو الأعلى ¬

_ (¬1) العلمانية من منظور مختلف، العظمة ص 28.

والأوثق والأصدق، فهو في خط صعود مستمر وليس خطًا متذبذبًا بين الأعلى والأسفل، هذا الأصل الثابت عند الكثير من الناس يمثل قالبًا من القوالب الصلبة والقابل للتعبئة باستمرار واستقبال النماذج المختلفة، وعندما تأتي كلمات مثل "آخر والعلم"؛ تنصرف الرؤية مباشرةً عند المتلقي إلى أن هذا يعني أنه أحسن ما وجد إلى الآن، لاسيّما مع عدم تقبل هذا القالب لأي مزاحمة دينية مهما كانت. ويكذِبُ أولئك الداعون إلى علمنة العلم عندما يزعمون بأن العلمنة ما هي إلا فصل بين الدين والعلم؛ فهي تتجاوز الفصل إلى التأطير للعلم والإحاطة به وفق رؤيتها، فهي "في واقع الأمر إعادة صياغة للمجتمع ككل عن طريق تفكيكه واستبعاد سائر العناصر المركبة التي تستعصي على القياس، العناصر الإنسانية أو الربانية، التي يتركب منها، وإعادة تركيبه على هدي المعايير العقلية والعلمية الواحدية المادية، ومن ثم يتوافق هذا الواقع الاجتماعي مع القوانين العلمية الواحدية الصارمة، ويخضع للاختبارات والإجراءات الكمية وللقياس، فهو يمحو سائر الثنائيات التي تفترض وجود أكثر من جوهر وأكثر من قانون، ويستبعد كل الخصوصيات والمنحنيات الخاصة للظاهرة، التي تتحدى القانون العام، ويرفض كل المطلقات التي تشكل تجاوزًا للقانون المادي الواحد العام وخرقًا له وتشكل عدم استمرار في الكون، وينكر كل المعايير الأخلاقية الثابتة فهي خارجة عن الظاهرة المادية موضع الدراسة، ويتعامل مع المحدود ومع ما يقاس، فاللامحدود وغير المقيس لا يمكن تطبيق النماذج الكمية عليه" (¬1). فهي إذًا جهاز خطير له آلياته في التفكيك والتركيب وإعادة التشكيل وفق رؤاها وقواعدها، وهذا يعني أنها مذهب فعّال له آلياته التنفيذية، هي مذهب ذو أوجه مختلفة كما يوضحها لنا أحد أقطاب الفكر العلماني العربي -العظمة- فلها وجه معرفي "يتمثل في نفي الأسباب الخارجية على الظواهر الطبيعية أو التاريخية"، ومثل هذا النفي يتجاوز فكرة الفصل بين العلم والدين إلى إعطاء تفسير شامل غير ديني لتلك الظواهر، ولها وجه مؤسسي "يتمثل في عزل الدين عن ¬

_ (¬1) الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، د. عبد الوهاب المسيري ص 130 - 131، والمؤلف يعبر عن العلمانية بمصطلح "الترشيد".

ج - ظهور الدولة العلمانية القومية, وأثرها في الانحراف بمسيرة العلم

السياسي. ." (¬1)، فمن وقع من العلماء -وهم كثر- في أسرها لم يسلم من هذه الأبعاد المختلفة للعلمانية، ويظهر ذلك في نجاح العلمانية في توجيهها للنشاط العلمي لكي يقدّم تفسيرًا يختلف عن التصور الديني وربما يتعارض معه. فوجه العلمانية المعرفي الكالح النازع إلى استبعاد كل ما هو خارج الطبيعة المادية قد سيطر على العلماء المحدثين؛ مما دفعهم إلى النفور من كل تفسير يُلمس منه إيجاد صلة بين ظواهر الطبيعة وعالم الغيب، وبلغ ذروته كما رأينا في الفصل الأول إلى قول أحد أبرز علماء الغرب -لابلاس- عن علاقة الرب سبحانه بنظامه الكوني المقترح بأن تلك فرضية لا حاجة إليها. ومع نفورهم من التفسيرات الدينية فهم لا يمانعون من طرح تفسيرات جديدة حتى وإن اختلفت مع التفسيرات الدينية، مثل ما يطرحونه حول وجود العالم المادي، متى وجد وكيف وجد؟ أو عن وجود الحياة في هذا العالم، متى وجدت وكيف وجدت؟ ج - ظهور الدولة العلمانية القومية, وأثرها في الانحراف بمسيرة العلم: ذهبت العلمانية خطوة أبعد بعد نجاحها في الوصول إلى السلطة بعد الثورة الفرنسية وقيام أنظمة سياسية علمانية، ومن ثمّ احتكار مؤسسات العلم والعلوم ومنع التصور الديني من الوصول إليها، ووضعها داخل أسوار قوية لا تسمح بدخول أي مفهوم ديني داخل أسوار تلك المؤسسات، فقد حرصت الأنظمة العلمانية الجديدة على علمنة العلم وعلمنة مؤسساته ومنع الدين من الاقتراب من تلك المؤسسات أو تلك المعارف، وكانت أوضح الصور في بلدين من بلدان أوروبا وهما (¬2): فرنسا معقل أول علمانية حديثة، إلا أنها سمحت بالوجود الديني على هامش المجتمع والأكثرية من العوام لا شأن لهم في مسار الحياة، والبلد الثاني الاتحاد السوفيتي الذي سار بالعلمانية إلى مداها الأقصى، فحارب الدين ورفض الاعتراف به، ودعا إلى ما أسماه بالإلحاد العلمي. أما بقية الدول الأوروبية فهي وإن لم تصادم الكنيسة بعنف كحال التجربتين الفرنسية والسوفيتية إلا أنها كانت عمليًا وبصورة أدهى تطبق العلمانية بحذافيرها. عندما قامت العلمانية قامت ضدّ الثنائية الطاغية القديمة بين الكنيسة ¬

_ (¬1) انظر: العلمانية من منظور مختلف، العظمة ص 37. (¬2) انظر: المرجع السابق، العظمة ص 37.

والسلطة السياسية لتستبدلهما بسلطتين جديدتين، فاستبدلت الكنيسة بمعرفة علمانية جديدة، واستبدلت السلطة السياسية القديمة بسلطة علمانية جديدة في ظل الدولة القومية العلمانية التي بدأت في القرن الثاني عشر/ الثامن عشر واشتهرت في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، واتخذت الخيار العلماني كأفضل الخيارات المؤطِرة لمشروعها المؤسسي. قامت الدولة القومية العلمانية بالمهمة نيابة عن العلمانية، وبدأت في إعادة صياغة المجتمع وفق المبادئ العلمانية، وكانت تعاني من عوائق أهمها: "الكنيسة والأسرة" (¬1)، فقامت بجهود كبيرة لضربهما، ونجحت في ذلك إلى حد بعيد، وجاءت مهمة علمنة الإنسان ذاته بما يعنيه من استبعاد كل بقايا الدين المؤثرة في مساره ونشاطه، فاصطدمت الدولة القومية العلمانية بصعوبة ذلك، ووجدت أن علمنته تحتاج إلى فكر يتغلغل في وجدانه، يستبطنه الفرد المقصود ثم يعيد إنتاج رؤية جديدة تتفق مع الرؤية العلمانية، فوجدت تلك الدول في فلسفات تدعي لنفسها: "العلمية والعالمية" طريقا مناسبًا لتغيير هؤلاء الناس وعلمنتهم بحسب الهدف المنشود، ومن ثم يتم استيعاب الإنسان في ظلّ علمانية مادية في عملية تدجين حقيقية تلغي إنسانية الإنسان وتنفي أي قيم عليا توجه مساره (¬2). ومما هو معلوم فإن مؤسسات العلم الحديث من معاهد ومراكز ومجامع إلى الكليات والجامعات قد نشأت جميعها في ظل الدولة القومية العلمانية، ذات الرسالة العلمانية، فتوجهت بتوجيهها؛ مما رمى بظلام كثيف من الوجهة الدينية على تلك المؤسسات وتمّ حرمانها حرمانًا تامًا من أي قبس ديني. وقد دفع هذا الوضع أصحاب الأديان الموجودة في تلك البلاد إلى فتح مدارس خاصة بهم تراعي في التعليم إبقاء الحد الأدنى من المفاهيم الدينية داخل الإطار العلمي، ولكنه يبقى محدودًا وهامشيًا (¬3)، وهو يدلّ على الإقصاء الكبير الذي حل بالدين في المجتمع الغربي، والتحول الحاد من حياة يحكمها الدين النصراني إلى حياة مادية علمانية دهرية دنيوية يجاهد فيها أصحاب التدين على إيجاد هامش صغير ¬

_ (¬1) انظر: الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، المسيري ص 135 - 136. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 135 - 146. (¬3) انظر: العلم والإيمان في الغرب الحديث، هاشم صالح ص 136.

د - التيار العلمي في ظل السيطرة العلمانية

في ظل تلك الدول. وفي البلاد التي يمثل فيها المتدينون نسبة كبيرة فأقصى ما يستطيعون فعله هو إجبار المؤسسة التعليمية على قبول أصلهم الديني في المسألة مقترنًا بالنظرية العلمية، مثل ما نجده في بعض الولايات الأمريكية من تدريس نظرية "داروين" وغيره، وتقرنه بما ورد في الإنجيل من قصة خلق الرب سبحانه لآدم وزوجه - عليه السلام - (¬1)، وهذا أقصى ما يستطيعه هؤلاء. يظهر لنا في النهاية بأن العلمانية كانت رؤية وإطارًا أسهم في انحراف العلم بما تقترحه من توجيهات بصورة خفية إلى العلماء والحركة العلمية، وإن لم تنفع تلك التوجيهات الخفية فتمارس بصورة علنية وقاسية، والتقدم العلمي لا علاقة له بالعلمانية، فالعلم أصبح يحرك ذاته بآلياته الخاصة ولكن العلمانية لها علاقة بانحراف العلم، ونحن نشاهد في بلدان علمانية يعاني فيها العلماء من طغيان تلك البلاد العلمانية عليهم، مثل موقف دولة "هتلر" من العلماء الألمان، أو ما فعلته الدولة السوفيتية والدول الشيوعية عمومًا مع علمائهم مع أنها بلاد علمانية (¬2). وهاهم علماء معاصرون في الغرب وإن اعترفوا بأن الفصل بين الكنيسة والعلم قد سمح بتطور العلم؛ إلا أنهم يفرقون بين الفصل من جهة وبين العلمانية من جهة أخرى، فينسبون للعلمانية من الصفات ما ينسبونه لموقف الكنيسة عندما كانت تمارس طغيانها، وهذا يعني بأن العلمانية إنما أثرها تمثل في إفساد مسيرة العلم، لاسيّما في علاقته بما فوق الطبيعة وبعالم الغيب والدين. د - التيار العلمي في ظل السيطرة العلمانية: كان التيار العلمي يتحرك في ظل المؤسسة الدينية الكنسية، العلماء الكبار هم من أتباع الكنيسة ومن طلابها رغم ما ظهر منهم من اعتراضات على كنيستهم، وقد توسع الخلاف بين الكنيسة وبين طلابها إلى درجة الصراع وانفصال الطلاب عن الكنيسة وهروبهم من إطارها والبحث عن مكان آخر يتحركون فيه بحرية. وقد وفرت العلمانية عبر مؤسستها الجديدة الدولة القومية ¬

_ (¬1) انظر مثلًا: الأسس الميتافيزيقية للعلم، د. حسين علي ص 28. (¬2) انظر حول ألمانيا مثلًا: فلسفة العلم، د. قنصوه ص 238، وحول السوفييت: فلسفة العلوم، د. بدوي عبد الفتاح ص 263.

1 - أثر نشأة العلم في البيئة العلمانية

العلمانية ذلك المكان، ولكن لابد للعلماء أن يتنفسوا هواء ذلك المكان وأن ينظروا إلى الأشياء من خلال النور الذي يتيحه لهم، فوقعوا بإرادتهم أو بغير إرادتهم في الاحتواء العلماني، فتوجه نشاطهم العلمي فيما بعد وفق الغايات العلمانية وتصوراتها. وتحول العلماء إلى فئة مشاركة في انحراف مسيرة العلم الآيديولوجية، وأسهموا في إفساد العلاقة بين الدين والعلم، لاسيّما بعد أن استهوى الإلحاد والمادية طائفة منهم، وبدؤوا في إنتاج علومهم ونظرياتهم وبحوثهم في ظل الرؤية العلمانية التي يتنفسون هواءها وينظرون إلى الأشياء بواسطة عدساتها، وقد رأينا نماذج من ذلك في الفصل الأول، وأذكر هنا ببعض الخلاصات المهمة حول الموضوع: 1 - أثر نشأة العلم في البيئة العلمانية: إذا كانت العلمانية ذات وجه معرفي ينزع إلى الاكتفاء بالعالم المحسوس وعالم الظواهر وعالم الدنيا، ومنع البحث عما يتجاوز ذلك؛ فقد أثر هذا في العلماء، فأضافوا إلى نشاطهم في وصف الظواهر منع أي تفسير آخر يتجاوز الظواهر بحجة عدم دخوله ضمن المقاييس الكمية العلمية، وقد استنتج بعض العلماء الفلاسفة "أن الطبيعة نظام قائم في ذاته، يعمل وفق سببية آلية لا مكان للغايات فيها، الأمر الذي يعني، في نظرهم، تجريد الطبيعة من القداسة وبطلان القول بوجود الله" (¬1). وهو أمر مرتبط بالرؤية العلمانية الداعية إلى الاكتفاء بالدنيا والطبيعة وعدم النظر لما سواها، وتبعه تصور الطبيعة أيضًا مستقلة بذاتها غير مرتبطة بعالم آخر أو بغايات أخروية ومستقبلية. وقد كان لهذا أثره الكبير على نشاط العلماء، فما يقومون به إنما حدوده هذا العالم ولا علاقة له بأي عالم آخر. 2 - قناعة التيار العلمي بأهمية الفصل بين الدين والعلم: وهي قناعة لم تكن اختيارية؛ فهم من جهة قد لقوا معاناة كبيرة من رجال الكنيسة، وهم من جهة أخرى يتحركون في فضاء علماني يفرض عليهم إقصاء ¬

_ (¬1) انظر: المقدمة في فلسفة الدين، أديب صعب ص 184 - 185 ص 196 - 197.

3 - ظهور طائفة من العلماء الماديين والملحدين وأثرهم

الدين والهروب منه وعدم السماح له من الاقتراب من نشاطهم العلمي، حتى إنك تجد من العلماء من يحذر بصورة غير مباشرة ويقول: "أيتها الفيزياء إياك والميتافيزيقا" (¬1)، في وقت كانت الميتافيزيقا عندهم آنذاك الممثل العقلاني الأعلى للدين واللاهوت الديني. ومع أن المقولة صحيحة من وجهة نظرنا لو كانت الميتافيزيقا هي فقط أوهام الفلاسفة حول المسائل اللاهوتية، ولكن الأمر غير ذلك؛ لأنهم يدخلون فيها أيضًا ما يقره الدين. وقد حرص "جاليليو" -وكذا من بعده من ممنهجي الفكر الغربى الحديث كبيكون وديكارت- على الدعوة للفصل بين الدين النصراني والعلم، ومما كان يخفيه -وإن لم يظهره- الفرار من الإطار الديني الذي يعرفونه رغم تصريحهم بالتزامهم بالعقائد، ولو كان ذلك صحيحًا لكانت مُقَدمة على غيرها ومعظمة في النفوس. وربما كان الفصل بين الدين النصراني والعلم حلًا مناسبًا لوضعهم خاصة لو لم يكن هناك تيار عريض يتربص الدوائر بمفهوم الدين ذاته وهم المبغضون للدين أساسًا، الذين أحاطوا عملية الفصل بفسادهم، فبعد إنجاز الفصل؛ جاء تأطير العلم ووضع غاياته المناسبة للرؤية العلمانية الدنيوية والرافضة لكل رؤية دينية تؤمن بوجود خالق لهذا العلم يقوم على تدبيره ويستحق من خلقه أن يعرفوه ويعبدوه، والرافضة لكل الغيبيات والغايات الأخلاقية السماوية أو الغايات الأخروية. 3 - ظهور طائفة من العلماء الماديين والملحدين وأثرهم: أيضًا مما أسهم به التيار العلمي في إفساد مسيرة العلم ظهور علماء ملحدين، فهم من جهة قد أصبحوا قدوة خطيرة للراغبين في العلوم الجديدة، ففي مرحلة من مراحل الفكر الغربي أصبح من الاعتقادات الاجتماعية المشهورة أن طريق العلم؛ يعني: الإلحاد، بصورة آلية، وهم من جهة أخرى وبشعور وقصد حوّلوا مسيرة علمهم نحو الغايات الإلحادية، وهي صورة برزت في التيارات الوضعية والتيارات المادية، وسأفرد لها فقرات خاصة. ¬

_ (¬1) انظر: معجم المصطلحات والشواهد الفلسفية، جلال الدين سعيد ص 461، 462.

الثالث: دور الفكر المادي في انحراف العلم

وخلاصة هذه الفقرة أن العلمنة بدأت كمشروع لتخفيف سلطة الكنيسة، ولكن العلم عندما انفصل عن الدين وجد نفسه دون إطار يحتويه، هنا جاءت العلمانية كإطار بديل بعد أن تشبعت بكراهية الدين وبالمادية فوجهت حركة العلم -سواء شعر العلماء بذلك أو لم يشعروا- نحو المادية ونحو الخصومة مع الدين. وقد أفرز لنا هذا الجو العلماني اتجاهات علمانية كثيرة، أهمها الاتجاه المادي والاتجاه الوضعي، وقد توليا بدورهما الانجراف بالعلم إلى أبواب خطيرة حول الدين والقيم، وحولوه إلى سند للإلحاد والمادية والدنيوية، والفقرة القادمة للمادي منهما. الثالث: دور الفكر المادي في انحراف العلم أ - ما المادية؟ مما نعتقد بأن أهم مذهب فكري أسهم في انحراف مسيرة العلم الحديث أو استغل نجاحاته في الانحراف الفكري هو الاتجاه المادي، وأنه كان أقوى الأسباب في ذلك، ساعده في تلك المهمة الشهرة التي حظي بها المذهب في العصر الحديث وقت تطور العلم، مبديًا زعمه المتواصل بأنه الممثل الشرعي الحقيقي للعلم والمتحدث باسمه، فللنظر لحقيقة هذا الأثر: المذهب المادي تيار عريض في الفكر الغربي، وعادة ما يقسم الفكر الغربي إلى قسمين: مثالي عقلاني وآخر مادي، والاتجاه المادي (¬1) مذهب يرى بأن المادة هي الحقيقة المطلقة، أزلية أبدية، "أزلية لم يخلقها أحد، ولا توجد في هذا العالم آية قوى غيبية لا تخضع لقوانين الطبيعة" (¬2)، وهي الفاعلة وحدها لا تفتقر لسواها، ويفسر أصحاب المذهب المادي كل شيء بأسباب مادية. وهي مذهب قديم، وأقدم ما حفظ منه هو ما جاء عن بعض فلاسفة اليونان مثل "ديمقريطس" و"إبيقور" وغيرهما، تنتشر في فترات من التاريخ وتضعف في ¬

_ (¬1) انظر تعريفه: المعجم الفلسفي، د. جميل صليبا 2/ 309. (¬2) أسس الفلسفة الماركسية، ق. افاناسييف ص 9، ترجمة عبد الرزاق الصافي، وقد ذكر لي أ. د. محمود مزروعة أثناء المناقشة اختلاف الماديين في تعريف المادة، وقد وصلت التعريفات إلى ثلاثة وعشرين تعريفًا، مع أن العلم الحديث لم يعرف من خصائصها سوى 7%.

أخرى، إلا أنه من المؤكد بأن المذاهب المادية قد ضعف شأنها في أوروبا بعد نجاح الفلسفات العقلية المثالية أو اعتناقها فيما بعد للنصرانية. غالبًا ما يميز أصحابها المعاصرون بين مراحل تاريخيه لها، منها ما ذكره "روجيه غارودي" بأن للفكر المادي أربع مراحل (¬1)، وهي باختصار: كانت الأولى في المادية اليونانية القديمة التي ترى بأن المادة هي الحقيقة الثابتة والجوهر الوحيد والمدبرة لكل شيء. ثم جاءت المرحلة الثانية -بعد الثورة العلمية- في القرنين الحادي عشر/ السابع عشر والثاني عشر/ الثامن عشر، وكان أهم ممثل لها "التيار المادي الفرنسي" الذي اشتهر كممثل لعصر التنوير من أمثال "ديدرو" و"دولباخ" و"لامتري" و"هيلفيتيوس" في القرن الثاني عشر/ الثامن عشر، وقد تميزوا عن أصحابهم في القرن الحادي عشر/ السابع عشر بالانفتاح على الجمهور (¬2)، وبنشرهم الفكر المادي بلغة سهلة وجذابة يتشرّبها أكثر الناس، ولعبت صالونات الماديين دورًا كبيرًا في عملية النشر كأبرز وسيلة إعلامية ودعائية في تلك المرحلة كان أشهرها صالون "دولباخ" -هولباخ- الألماني والمقيم في باريس. وقد كانت "موسوعة ديدرو"، وكتاب "الآلة الإنسانية" لـ"لامتري"، وكتاب "نظام الطبيعة" لـ"دولباخ"، أشبه بالأناجيل الجديدة للتيار المادي، وتعد المرجع المهم للمادية آنذاك. وتبعهم فيما بعد أحد أهم رموز هذه المرحلة الفيلسوف المادي الألماني فيورباخ الذي تجمّع في فكره الإلحادي أغلب خلاصات الفكر المادي، وبقدر ما جعل مهمته الدعوة للإله الجديد "المادية" بقدر ما "اعتبر نقد الدين أجلّ قضية يكرس لها حياته" (¬3)، ليؤصل رؤية جديدة لحركة الماديين؛ إذ لا يكفي إعلان المادية كدين جديد والدعوة لها، وإنما لابد من تحطيم الأديان. ومما يُلحظ بأن ألمانيا قد أخرجت كبار الملاحدة في العصر الحديث من دولباخ إلى ماركس ونيتشه. ثم كانت المرحلة الثالثة بحسب تقسيم "غارودي" هي مادية الثوريين ¬

_ (¬1) انظر: النظرية المادية في المعرفة، روجيه غارودي ص 68، ترجمة محمد عيتاني، وانظر: تمهيد للفلسفة، د. محمود زقزوق ص 173. (¬2) انظر: موجز تاريخ الفلسفة، جماعة من الأساتذة السوفيات ص 207، ترجمة وتقديم د. توفيق سلوم. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 300.

الديمقراطيين الروس وما حولها، ومن أشهرهم "تشيرنيشيفسكي"، فقد طوروا "التقاليد المادية والإلحادية والديالكتيكية في روسيا" (¬1)، وربما كانوا الطليعة التي هيأت روسيا لتكون فيما بعد موطن أهم دولة تتبنى الفكر المادي الإلحادي الصرف. أما المرحلة الرابعة -وهي الأشهر- فهي "الماركسية المادية الجدلية/ الديالكتيكية" التي أسسها "ماركس" في الأساس وبمشاركة صديقه "إنجلز"، لتصبح بعدهما أهم مذاهب القرن التاسع عشر وأغلب الرابع عشر/ العشرين، صاحبها في الوقت نفسه مذهب مادي يتشارك مع الماركسية في الطابع المادي وهو المذهب الداروني المنتسب للعلم، وتتميز الأخيرة عن المراحل الثلاث عند أصحابها كما يزعمون بأنها الوحيدة التي توصلت إلى مفهوم علمي للديالكتيك (الجدل)، فتحولت المادية كما يقولون بذلك الاكتشاف من مذهب فلسفي إلى مذهب علمي، فيقرنون ماديتهم بالعلم، بل هي العلمية الوحيدة. لقد كان لكل مرحلة من مراحل تطور المذهب المادي صورة معينة للعلاقة مع العلوم الطبيعية؛ لاسيّما وأغلب تلك العلوم موضوعها المادة، وهذه العلاقة منها ما هو اشتغال بهذه العلوم وتطويرها وهو ما لا نقصده في هذا البحث، ومنها ما كان مفسدًا لصفاء تلك العلوم ونقائها حيث لعب المعتقد الإلحادي للمذهب المادي دورًا بارزًا في الانحراف بمسيرة العلم وتوجيه العلوم في غير بابها. فمن الطبيعي عناية المذهب المادي بالعلوم المادية لأنها تخدم معبوده؛ إلا أن الاعتقاد الإلحادي لهذا التيار قد صرف عنايته بتلك العلوم -ولو على مستوى الادعاء وهو الغالب- إلى ما يخدم ذلك الاعتقاد الإلحادي. فوظف المذهب المادي العلمَ بصورة كبيرة في خدمة الإلحاد، وأظهر ارتباطًا حتميًا مزعومًا بين التقدم بالعلم وبين دعم صحة الموقف الإلحادي، فشوّه بذلك حقيقة العلم، وتأثر بذلك الكثير بمن فيهم بعض العلماء المنشغلين بهذه العلوم لدرجة أن انتشر تصورٌ في المجتمعات الغربية مفاده بأن العالِم لابد أن يكون ملحدًا، وكثرة وصايا بعض العجائز لأبنائهم محذرة من هذه العلوم لما تورثه من الإلحاد، ومن رأوه مشتغلًا بها غسلوا أيديهم من إيمانه بمعتقداتهم أو ¬

_ (¬1) انظر: الموجز السابق ص 317.

ب - التطور العلمي والتوسع في التصورات المادية

إقراره بمسلمات الدين (¬1). وبهذا حوّلوا العلم من دوره الشريف في نفع البشر، بل أهم من ذلك في هداية البشرية لمعرفة خالقها؛ إلى خدمة الدعاوى الإلحادية، وهذا التحويل وآثاره الخبيثة نجد توضيحها في الأسطر القادمة بإذن الله. ب - التطور العلمي والتوسع في التصورات المادية: منذ ظهور الثورة العلمية وما لحقها من نجاحات علمية والمذهب المادي عبر رموزه يعلن ويكرر بأنه الابن الشرعي للعلوم، ويدعي أيضًا أنه القادر في الوقت نفسه على فهمها ورعايتها وتوجيهها، ثم بدأ ينبّش في تلك العلوم باحثًا عن أدلة صدق دعواه، ولم يكتف أصحاب المادية بهذه الدعوى؛ ولكنهم أيضًا جعلوا العلم ماديًا إلحاديًا، فالعلم عندهم كما أنه رديف المادية فهو أيضًا رديف الإلحاد؛ وبقدر ما يحرصون على ربط المادية بالعلم وتعميم نتائج العلم لصالح المادية؛ بقدر ما يجعلونه في الوقت نفسه شاهدًا على بطلان الغيبيات كما يزعمون ودليلًا على عدم وجود الإله وداعمًا حقيقيًا للإلحاد، وبهذين الادعاءين الكبيرين: "أنهم الممثلون للعلم، وأن العلم على أيديهم قد أبطل الدين والربوبية والغيبيات"؛ نجحوا إلى حدٍ بعيدٍ في نشر الإلحاد، وأفسدوا بهما مسيرة العلم. عندما يكون محور اهتمام العلم مركزًا على الأمور الدينية، فإنه يكبر حجم التصور الديني في حسّ الناس وفي واقعهم، وعندما يكون محور اهتمام العلم هو الأمور الدنيوية أو المادية؛ فإنها تكبر في أعينهم، وعندما يختل التوازن بين العناية بعلوم الدين من جهة وعلوم الدنيا من جهة أخرى تقع إشكالات كبيرة، فأوروبا في عصورها الوسطى اعتنت بالدين الجديد الذي اعتنقته بعد أن خلطته بوثنياتها عن طريق اليهودي المتنصر "بولس" وغيره، فتحول دين التوحيد إلى دين تثليث، وأقامت علومًا كبيرة على هذا الدين المحرف، وخلطته بتركتها اليونانية والرومانية وغيرها من الفلسفات، ولكن لم يتحقق لأوروبا أن عاشت دينًا صحيحًا ولا قامت لها دنيا سعيدة حقيقية، وهي ترى حولها أمة جديدة ذات دين ¬

_ (¬1) ذكرت نماذج وأمثلة من ذلك في الفصل الأول ص 303.

عظيم، وأقامت عليه حضارة مادية كبيرة لا تتعارض مع دينها. ومرت الأيام فأخذت أوروبا المنهج العلمي من المسلمين، ولكنهم بسبب آلية "المسموح والممنوع" أقفلوا أبوابهم أمام النور الحقيقي وهو الإسلام، فأخذوا السلاح دون اليد التي توجهه، والجسد دون روحه، فقامت لهم نهضة علمية محورها الطبيعة المادية، وانكشف لهم عالم من خلق الله مدهش وعجيب، ففتنوا بذلك، ورأوا أن هذا العلم الدنيوي لوحده هو الحق، ومادته وهي الطبيعة المادية هي التي تستحق العناية، وأن وظيفة العلم كما يُنظّر بيكون وغيره هي السيطرة على الطبيعة. في مثل هذه الأجواء كان هناك تيار يتربص بهم، وينتظر الفرصة المناسبة للتغلغل وهو التيار المادي، الذي يرى البداية والنهاية في المادة وحدها، بيدها الخلق وعندها الحق، الفاعلة وغيرها من نتاجها. وعندما لاحظ المذهب المادي انصراف الناس إلى علوم الدنيا واهتمامهم بالمادة سواء كان ذلك في الفلك أو الفيزياء أو الكيمياء أو غيرها، ووجد أن هذه الدنيا في صورتها المادية قد كبرت في أعين الناس، عندها أظهر من جديد دعوته حول مذهبه، معلنًا بأن مادة هذه العلوم وهي المادة هي أساس كل شيء، وعليه فإن الرؤية والتصور والمنهج والعمل ينبغي أن يكون ماديًا أيضًا. وقد نجد في كثير من الكتابات حول الفكر الغربي الربط بين التقدم العلمي وميلاد التصور المادي؛ وكأن التصور المادي نتيجة حتمية للتقدم العلمي الدنيوي، ولا شك أنه تصور مغلوط؛ لأنه يجعل مصير العناية بهذه العلوم هو المصير المادي وفي مسار حتمي لا رجعة فيه، مع أن الواقع التاريخي يكشف أن اشتهار التصور المادي وقت التقدم العلمي نابع من غفلة المجتمع وانغماسه في هذه العلوم؛ مما يسّر لأصحاب المذهب المادي استثمار الفرصة وتوجيه مسار التقدم العلمي لصالح مذهبهم. فالعلوم لا ذنب لها في اشتهار المذهب المادي، وإنما الذنب للمجتمعات التي لم تجمع بين الدين الحق والعلم النافع، وتقيم التوازن السليم بين إقامة الدين وإعمار الدنيا. لقد أعلن المذهب المادي عن دعوته للمجتمع المنخرط في التطور العلمي: إنكم تعتنون بعلوم مادية؛ أي: بالعلوم التي تعتني بالمادة، والمادة هي أساس مذهبنا، فلِمَ لا تقبلون مذهبنا وهو أساس علمكم؟! مع العلم بأن الماديين

ج - صورة العلاقة بين المادية والعلم الحديث

لهم جهودهم في الجوانب المادية الصحيحة والمفيدة؛ لأن الأمور المادية قد جعلها الله سبحانه للبرّ والفاجر، المؤمن والملحد، وهم قد اعتنوا بها وقدموا فيها أعمالًا مهمة يشاركون فيها غيرهم على المستوى المادي مما ضاعف من مكانتهم (¬1)، ولكنهم يعممون تلك النجاحات على أمور الدين والغيب والقيم ويحكمونها في أمور الحياة ليطبعوا كل شيء بطابع مادي. وفي هذه النقطة بالذات يبدأ عملهم التدميري، وهو الجانب الذي نجح فيه العمل الإفسادي للاتجاه المادي مستثمرًا في ذلك بعض ما شارك فيه غيره من نجاحات مادية من باب لبس الحق بالباطل قال -تعالى-: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)} [البقرة: 42]، فكثيرًا ما يُلبس أهل الضلال الحق بالباطل، ليكون ذلك أقبل لباطلهم، مع العلم بأنهم على المستوى العلمي لم ينجحوا في إثبات صحة تطبيقات المادية على المسائل غير المادية وكل ما هنالك هو إقصاء ما لا يعجبهم ومصادرته، ولكن جانب الدعاية المادية ونشاط تياراتها قد نجح في التغطية على هذه الثغرة وتمرير دعوتهم على الكثير حتى أضحت الرؤية المادية هي "البنية الفكرية التحتية أو النموذج المعرفي الكامن للعديد من الفلسفات الحديثة" (¬2) محققة في ذلك نجاحًا كبيرًا كان له آثاره إلى اليوم على العلم من جهة وعلى المجتمعات البشرية من جهة أخرى. على هذا المنوال وجدت التيارات المادية فرصتها بعد أن برعت الحضارة الغربية في الجانب المادي لتقوم هي بتغذية الجانب المعنوي من هذه الحضارة (¬3)، لاسيّما بعد أن فقد الدين مكانته تاركًا مجاله لمثل تلك الفلسفات. ج - صورة العلاقة بين المادية والعلم الحديث: عرفنا فيما سبق بأن الاتجاه المادي قديم موجود قبل الثورة العلمية الحديثة، ولكنه بعد ظهورها بدأ يبحث عن حجج جديدة يدعم بها رؤيته المادية، ¬

_ (¬1) انظر: الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، د. عبد الوهاب المسيري ص 20، وانظر: العلم في مواجهة المادية؛ قراءة في كتاب حدود العلم لسوليفان، د. عماد الدين خليل ص 19 - 24. (¬2) الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان ص 7. (¬3) انظر: العلمانية، محمد مهدي ص 77 - 78.

مادية القرن الثامن عشر والتاسع عشر

وبما أن العلم هو الحصان الأسرع في أوروبا فلابد من امتطائه؛ عندها اتجه الماديون إلى العلم يبحثون عن أدلة تدعم ماديتهم، فيجمعون بين الشبهات العقلية والاستغلال لثمار العلم، وعندما يدعمون مذهبهم بشواهد علمية فمن ذاك الذي يستطيع الاعتراض بعدها؟! لكن رواد الثورة العلمية وعلماءها كانوا خلاف الماديين يرون علومهم لا تتعارض مع الدين، ويعلنون إيمانهم بالله سبحانه، ويقرّون بوجود حقائق دينية وغيبية غير المادية، وهذا الوضع قد عكّر الجوّ على الماديين فترة "كوبرنيكوس" و"كبلر" و"جاليليو" و"نيوتن"، فلم يظهر وقت الثورة العلمية عالم مادي المذهب يدعي بأن العلم يبطل الدين أو يصدق دعاوى المادية، بل نجد في أوائل الماديين المحدثين المصاحبين لتلك الثورة العلمية من يجمع بين تصوره المادي من جهة وبين إقراره بوجود الرب سبحانه، مثل الفيلسوف الفرنسي المادي والقسّ في الوقت نفسه "غاسندي" (1592 - 1655 م) المعاصر لـ"ديكارت" والمحيي لمادية "ديمقريطس" و"إبيقور" الذرية والمتأثر "بجاليليو" (¬1). ومع ذلك فقد حدثت تغيرات كبيرة في القرن الثاني عشر/ الثامن عشر من جهتين: فبعض العلماء مالوا نحو المادية ووظفوا علومهم في خدمة التصور المادي، وفي الوقت نفسه بدأ الماديون يتخلصون من بقايا ما يعتقدونه من الدين وفي رأس ذلك مسألة الإيمان بالله سبحانه، ليجتمع الطرفان في إبراز صورة مادية ملحدة واحدة. مادية القرن الثامن عشر والتاسع عشر: كان القرن (الثاني عشر هـ - الثامن عشر م) قرن المخاض العسير، فهو أولًا من الناحية العلمية قرن فيزياء "نيوتن" وطبيعياته التي وجد فيها الماديون الأدلة العلمية الكافية كما يزعمون للتخلص من بقايا الدين، وهو أيضًا كان عصر التنوير الثائر فكريًا واجتماعيًا على الدين في صورته الكنسية الذي خُتم بالأعمال الخبيثة لـ"فيورباخ" معلنًا الحد النهائي للعلاقة بين المادية والدين، فالمادي في نظرهم لابد أن يعرف بأن الدين بما في ذلك الإقرار بوجود الله سبحانه إنما هو وهم بشري وخرافة لا يمكن استمرارها في زمن العلم المادي الذي سيعقبه القرن ¬

_ (¬1) انظر: تاريخ الفلسفة الحديثة، كرم ص 87، وانظر: تمهيد للفلسفة، د. حمدي زقزوق ص 179.

التاسع عشر قرن المادية العلمية. وقام الماديون في هذه المرحلة بعمل جاد لتحوير فيزياء "نيوتن" على وجه يخدم الرؤية المادية، وما انقضى ذلك القرن إلا بعد أن تمّ لهم ما خططوا له، فنقلوا العلم المادي إلى المادية العلمية، تلك المادية التي ازدهرت بعد تراجع التيار المثالي وغياب فيلسوفها الألماني المشهور "هيجل" عن مسرح الفكر (¬1)، وتحول العلم المادي إلى مذهب مادي. فانتفشت المادية في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر متدثرة بالعلوم الجديدة، ولكثرة تبجحها بالعلوم أصبح من الممكن "أن يطلق المرء بصفة عامة على مادية القرن التاسع عشر اسم مادية العلوم الطبيعية؛ لأنها كانت تستند على نتائج هذه العلوم التي كانت قد تطورت تطورًا كبيرًا. . . . وطغى التفسير المادي على كل الجوانب، وأصبحت كل الحقائق تفسر تفسيرًا ماديًا. . . ." (¬2)، ولم يعد يسمى بالمذهب المادي بل يقال: المذهب العلمي أو المادية العلمية، وشاركها في القرن نفسه مذهب آخر يزعم لنفسه أيضًا العلمية وهو المذهب الوضعي، ويقصدون من كلمة الوضعي أي العلمي، كان ذلك مع الفيلسوف الفرنسي "كونت" (¬3)، وقد كان المذهب "المادي والوضعي" أهم مذاهب القرن (13 هـ - 19 م)، وقد تعزز وتأيّد تأييدًا عظيمًا بمذهب تشارلز "داروين" (¬4)، معطيًا للمادية سندًا علميًا مزعومًا وصريحًا في ماديته. وهكذا شاع بين النُّخب في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر تلك الدعوى المادية، واتسع تفسير كل شيء وفق منظور مادي، يستندون في ذلك على العلوم الحديثة ولاسيّما "فيزياء نيوتن -الكلاسيكية- ونظرية دالتون عن الذرة ثم نظرية داروين عن أصل الإنسان. وقد بدا للمراقب وكأن العلم وما يقدمه من اكتشافات مجرد وسيلة إثبات لمنظور مادي قديم" (¬5) بلغة جديدة. ¬

_ (¬1) سبق في الفصل الأول التعريف بدور "نيوتن" وأثره العلمي، وبحركة التنوير، ودور "هيجل" أهم فلاسفتهم بعد "كانط"، مع العلم بأن التيار المادي الكبير في القرن التاسع عشر هم من أتباع "هيجل" (اليسار الهيجلي). (¬2) تمهيد للفلسفة، زقزوق ص 185. (¬3) انظر: المبحث الخاص بالوضعية وأثرها في الفصل الثاني. (¬4) انظر: الفلسفة المعاصرة في أوروبا، بوشنسكي 30 - 31. (¬5) أفي الله شك. بحث في علاقة العلم بالإيمان, د. حمد المرزوقي ص 25.

د - المنهجية المادية للانحراف بالعلم

وتحولت هذه المذاهب المادية إلى تيارات عريضة في الغرب، سواء على مستوى الفكر كما في "الدارونية الاجتماعية"، أو على مستوى الفكر والمجتمع كما في "الماركسية الشيوعية" بما ظهر لها من أحزاب منتشرة في العالم، ممهدة الطريق للوصول إلى الحكم في كثير من بلدان العالم؛ ليصبح لدينا دولٌ -في القرن الرابع عشر/ العشرين- عقيدتها الأساسية تقوم على المادية، ودعوتها الأهم تتمثل في إخراج الناس من الدين والتبشير بالإلحاد تحت مظلّة العلم. وكما دعمت الثورة الفرنسية الموقف العلماني وحققت فرصة ذهبية لليهود في أن يتغلغلوا في الفكر والمجتمع الأوروبي؛ فإن الثورة البلشفية (عام 1917 م) حققت فرصة نادرة لسيطرة الماديين السياسية واستثمار تزعمهم للدول التي يحكمونها في نشر المادية، ولا يخفى بأن "ماركس" أحد أهم دعاة المادية الحديثة ومؤسس الماركسية من أصل يهودي، وأضاف ليهوديته (¬1) الصورة المادية الجديدة التي وضعها بمشاركة "إنجلز" ممثلين في ذلك الطور الأول للماركسية، إلى أن جاء "لينين" بعد ثورة (1917 م) ليحقق الطور الثاني لها. ومع أن الماركسية هي أهم ممثل للمادية في القرن الرابع عشر/ العشرين الميلادي؛ إلا أن هناك امتدادًا للفكر المادي في مذاهب أخرى قد ترفض التسمّي بالمادية مثل الوضعية الجديدة، أو نجد امتدادًا لها مع ماديين كبار مع رفضهم للصورة الماركسية، مثل أصحاب فلسفة التحليل وأهمهم الفيلسوف الإِنجليزي المعاصر راسل. د - المنهجية المادية للانحراف بالعلم: أهم دعوى يحرص الماديون على إبرازها دعوى ارتباطهم بالعلم، فهم يحققون من خلالها مجموعة مكاسب أهمها الاستناد إلى ركن شديد في إثبات دعواهم المادية، ثم يعقبها تبرير استغلالهم الخبيث لثمار العلم في مزاعمهم المادية؛ فهم يصورون مذهبهم كأنه نتيجة وثمرة للعلم، وبما أنهم أبناء العلم؛ ¬

_ (¬1) ذكر "العقاد" في كتابه (الشيوعية والإنسانية في شريعة الإِسلام) ص 133 بأن "ماركس" لم يفلت من الأوهام اليهودية على الرغم من مزاعمه المادية والعلمية. وممن بيّن دور "ماركس" اليهودي المفكر محمد قطب في كثير من كتبه، انظر: مبحث دور اليهود في الانحراف بالعلم في هذا الفصل ص 396.

أولا: آلية الربط للحصول على السند العلمي

فهم أحق الناس بخيراته ويجدون التبرير لأنفسهم في توظيفه لخدمة مبدئهم. ويمكن أن نطلق على آليتهم في الاستغلال للعلم بآلية "الربط والتعميم"، فمن خلال آلية "الربط" يبحثون عن نقاط مشتركة بين المذهب المادي وبين العلم، يؤكدون من خلالها ارتباطهم المزعوم بالعلم. وأما "التعميم" فيأتي في باب استغلال العلم -الصحيح منه والملتبس- في دعم رؤيتهم المادية بعد التحوير اللازم له، ومقصدهم من التعميم إعطاء صورة علمية مزعومة لماديتهم. وبما أن البحث يقوم على اختيار نماذج معبرة لصعوبة احتواء الكل، فسيكون النموذج المختار هو المذهب المادي في صورته الماركسية "المادية الجدلية - الديالكتيكية"؛ لأنها كانت آخر الصور شهرة، وحققت نجاحات كبيرة أوصلتها إلى تكوين دولة عُظمى كما يقال، وسأنظر لها من خلال آلية الربط والتعميم مع الأمثلة، وأثر ذلك في الانحراف بالعلم. أولًا: آلية الربط للحصول على السند العلمي: تعتمد هذه الآلية على إثبات دعوى لديهم مفادها أنهم أفضل صورة للعلم والعلمية، وأن مولد العلم الحقيقي قد تحقق في المادية الجدلية، بل إنهم أحيانًا يزعمون لأنفسهم أنهم أكثر علمية من العلماء أنفسهم. وعندما يظهر عالم من العلماء لينفي الرؤية المادية ويتجه نحو المثالية أو الدين -وما أكثرهم- ينهالون عليه بالسباب والتحقير وخيانة العلمية، خذ مثلًا ما يقوله أحد الماركسيين الفرنسيين في فترة ماركسيته "روجيه غارودي" حيث قال: "وهذه الفلسفة -أي: المادية- أمينة كل الأمانة لإرشادات العلوم" (¬1)، وقريبًا من ذلك وصْفُ أحدهم بأنها -أي المادية- "وجهة نظر تقدمية، علمية تجاه العالم. إنها تعطي لوحة صادقة عن العالم فتصوره كما هو في الواقع، وبذلك تكون حليفا أمينا للعلم. . . ." (¬2)، وحسب المثل المشهور فقد كاد المريب -الأمين- أن يقول: خذوني؛ فهذا التأكيد منهم على أنهم لا يخرجون قيد أنملة عن إرشادات العلوم هي دعوى يكذبها حالهم في كل مكان ظهروا فيه، ولكنه الحرص والمنافسة على السلاح العصري الجديد وهو العلم ولو بالادعاء. ¬

_ (¬1) النظرية المادية في المعرفة، روجيه غارودي ص 6، ترجمة محمد عيتاني. (¬2) أسس الفلسفة الماركسية، ق. افاناسييف ص 10، ترجمة عبد الرزاق الصافي.

وحسب الاستعراض الماركسي لتاريخ الفلسفة في الكتاب الجماعي "موجز تاريخ الفلسفة"؛ تجد ذلك الإسفاف في الحرص على ربط كل موقف مادي بالعلم الحديث، وبعضها يصلح لباب الفكاهة الساذجة، فقد حوّلوا الثورة العلمية مع روادها الأوائل وكأنها ثورة مادية، وما كأن العلماء وُجِدُوا إلا من أجل إثبات صحة المادية، مع أنهم كانوا ضدّ المادية غالبًا، فيقولون: "وقد أعطت نجاحات الرياضيات النظرية والعلوم الطبيعية التجريبية دفعًا قويًا لتطور الاتجاهات المادية في الفلسفة" (¬1)، هكذا وكأن النتيجة المحتمة للعلم هي المادية. وفي المسار نفسه في القرن الثاني عشر/ الثامن عشر، حيث يقولون: "ومع الأفكار العلمية الجديدة، أفكار الرياضيات والفيزياء والميكانيك والفيزيولوجيا والطب، بدأت الآراء الفلسفية المادية تشق طريقها إلى أذهان الناس" (¬2)، وكأن العلم مصيره هو المادية. وإن سألتهم عن أكبر انتصار للعلم فهو ليس ما حققه العلماء وإنما هو -بحسب رأي لينين- مادية ماركس فهي "أكبر انتصار أحرزه الفكر العلمي" (¬3). وعندما خذلتهم الفيزياء المعاصرة -فيزياء ما بعد الذرة والكم والنسبية- انبرى "لينين" ليدافع عن تلك المادية قائلًا: "إن الفيزياء المعاصرة في حالة مخاض، إنها تلد المادية الديالكتيكية" (¬4)، ويقول أيضًا في كلام يعرف كل العالم آنذاك كذبه: "أثبتت الاكتشافات الأحدث في علوم الطبيعة صحة مادية ماركس الديالكتيكية، وذلك رغم أنف الفلاسفة البرجوازيين وارتداداتهم الجديدة نحو المثالية القديمة العفنة" (¬5)، فعلى هذا الشكل الآيديولوجي الفج كانت تتم عملية الارتباط بالعلم، عملية كاذبة في حقيقتها، فهي عبارة عن عملية استغلال بشعة للعلم، وكما رأينا في الفصل الأول فرواد الثورة العلمية غير ماديين وبعضهم من رجال الكنيسة واللاهوت، بل العلماء المشاهير الذين خدموا العلم وقدموا إضافات كبيرة لصالحه؛ كان أكثرهم ¬

_ (¬1) موجز تاريخ الفلسفة، جماعة من الأساتذة السوفيات ص 142. (¬2) المرجع السابق ص 193. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 417. (¬4) أضواء على الفكر الماركسي الكلاسيكي. لينين (المادية ومذهب نقد التجربة)، إعداد توفيق سلوم ص 231. (¬5) موجز تاريخ الفلسفة ص 571.

ثانيا: آلية التعميم لاستغلال العلوم الحديثة

وأشهرهم من غير الماديين، وهذا أحد الماديين وصاحب أشهر كتاب عن تاريخ المادية يبطل مزاعم أصحابه في نهايات القرن الثالث عشر/ التاسع عشر "ألبرت لانجه" بعنوان "تاريخ المادية" وهو بحسب كلام "د. فؤاد زكريا": "موسوعة ضخمة تجمع كل ما عرف عن المادية" (¬1)، وبرغم من أنه يرى بأن المادية قد استفادت من تقدم العلوم الطبيعية "حتى إن الماديين الذين عرفهم لانجه حاولوا أن يربطوا مذهبهم بالعلم ربطًا نهائيًا، مؤكدين أنه لا مجال للبحث في أي موضوع ما عدا العلم الطبيعي، إذ لا يوجد خارج الطبيعة شيء" (¬2)؛ إلا أنه ينكر زعم الماديين بأنهم الممثل المهم أو الوحيد للعلم، ودليله "أن الكشوف والانقلابات الكبرى في العلم قد تمت على أيدي علماء لم يكونوا من ذوي النزعة المادية" (¬3)، فهذه الشهادة من أهلها كما يقال، وفيها دلالة بيّنة على أن دور الماديين لا يتجاوز الادعاء ومحاولة الالتصاق بالعلم لا ليخدموه أو يطوروه وينفعوا به البشرية؛ وإنما ليخدموا به مذهبهم المادي. ثانيًا: آلية التعميم لاستغلال العلوم الحديثة: من المهم بداية التفريق بين الاستثمار والاستغلال، فالاستثمار يوحي بموقفٍ حسن في الغالب بخلاف الاستغلال، فهو يدل على موقف خسيس ودنيء، والأصل في الاستثمار أن يقوم على النزاهة وخدمة الأغراض الحسنة؛ أما الاستغلال فيقوم على الكذب والخيانة وخدمة الأغراض السيئة. إذا علمنا ذلك -على الأقل بحسب ما أرتضيه هنا لتوضيح الفكرة- فإنه يحق لكل واحد أن ينتفع بالعلم ونجاحاته وثماره، لكن هناك من ينتفع به بصورة حسنة ولأغراض مشروعة، فهذا ما نسميه الاستثمار الحسن، وليس كل الناس بهذه الحال، وهناك أيضًا من ينتفع بالعلم على وجه سيئ ولأغراض باطلة، فهذا ما نسميه الاستغلال السيئ. ¬

_ (¬1) انظر: آفاق الفلسفة، فؤاد زكريا ص 217. (¬2) المرجع السابق ص 230. (¬3) المرجع السابق ص 232، ومن بين الكتب التي اعتنت بما يمكن تسميته التأصيل العلمي الطبيعي للمادية كتاب: ديالكتيك الطبيعة، فريدريك إنجلس، ترجمة توفيق سلوم، فرغم حرص صاحبه على ربط المادية بالعلم، إلا أن العلماء والفلاسفة الذين خدموا العلم في قائمة كتابه من الماديين قلّة، وبعض من ذكرهم يطلق عليه وصف المادية تجاوزا. انظر: قائمة الأسماء الواردة في كتابه ص 309 - 324.

فمن صور الاستثمار الحسن ما يفعله بعض المسلمين من الاستدلال على عظمة الخالق سبحانه بالاكتشافات العلمية المهمة، أو يثبت عظمة القرآن في كشفه لحقائق ما علمها الناس إلا بعد قرون. وفي المقابل فمن أبشع صور الاستغلال ما قام به الاتجاه المادي في العصر الحديث من خلال استغلاله للعلم وثماره في الدعوة للمادية والإلحاد. وعلى هذا فما قام به الاتجاه المادي نحو العلم هو الاستغلال والخداع وليس الاستثمار المشروع، انطلق في ذلك من خلال آليته المفضلة آلية "التعميم" لنتائج العلم على قضايا تدعم المذهب المادي، وهي من أعظم نقاط الانحراف بالعلم في العصر الحديث. يرى أصحاب الاتجاه المادي بأن المادية قد انبثقت من العلم، وهي في الوقت نفسه الشرط الضروري لاستمراره ونجاحه، فالمادية بزعمهم تساعد العلم على التطور وتقدم له السلاح المناسب (¬1)، لينتقلوا بعد ذلك خطوة أخرى للقيام بعمليات كبيرة من أجل استغلال هذه العلوم لصالح المادية عن طريق التعميم لنتائج العلم بما يخدم المادية، ومن أبرز صور التعميم ما قام به مؤسسا الماركسية في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر الميلادي، ثم ما قام به مجددها لينين في القرن اللاحق. نجد في الطور الأول ادعاء أصحاب "موجز تاريخ الفلسفة" الماركسيين في قولهم: "برهن مؤسسا الماركسية أنها هي الفلسفة الوحيدة المؤهلة للقيام بالتعميم الخلاق لمنجزات العلوم الطبيعية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وفي الوقت نفسه هي ضرورية -أي: الماركسية- لهذه العلوم كأساس فلسفي لطورها اللاحق" (¬2)، أتبعا هذا الإعلان بقيامهما في سبعينيات القرن التاسع عشر بعمل تطبيقي لذلك التعميم، ففي هذه المرحلة انصب اهتمامهما على تعميم معطيات العلوم الطبيعية على المادية لثلانة أسباب أعلنوها: أن الماركسية في تلك المرحلة ومع انتشارها تحتاج إلى دعم لإثبات صحة دعواها، وخير سند لذلك هو العلم. والثاني أن التطورات العلمية شارفت الكمال وبلغت درجة عالية من ¬

_ (¬1) انظر: أسس الفلسفة الماركسية ص 15. (¬2) موجز تاريخ الفلسفة ص 447 مع تصرف قليل.

النضج مما يجعلها مؤهلة للاستغلال. والثالث أن الماركسية تعاني من أعداء -إما من أصحابهم الماديين مثل الدارونيين الجدد، كـ"بوخنر" وغيره أو من ماخيين وضعيين أتباع "ماخ" أو من أعدائهم المثاليين واللاهوتيين (¬1) -, ولذا فهي محتاجة لسلاح العلم. ويتضح أن المقصود من تعميم العلم هو استخدامه كسلاح في وجه الخصوم مع ما في ذلك من القيام بكل الخدع اللازمة التي لا تستغني عنها حرب دائرة بين طرفين، وقد ينطلي ذلك على المعجبين بالمادية لظنهم أنها علمية في تصورها ومنهجها، وعلمية في حربها مع خصومها، دون الوعي بأن التعميم إنما هو صراع بكل ما يعنيه الصراع من استخدام للخداع والحيل وارتكاب كل ما يحقق الفوز وإن قبح. ولكن حدث بعد إنجاز المؤسسين لعملهما ما لم يكن في الحسبان، إذ وقعت تطورات متسارعة ذات دويّ مجلجل ظن معه المهتمون بالعلم أنهم أمام انهيار كامل لكل ما مضى وميلاد عصر جديد للعلوم الفيزيائية (¬2)، وتبع ذلك أزمة وقع فيها الماديون المعظمون لـ"ماركس"، فكيف يفعلون بتلك المقدسات الموروثة عن "ماركس"، وبقيت هذه الأزمة حتى جاء "لينين" من جديد ليمثل الطور الثاني للمادية الماركسية وليمارس عملية استغلال جديدة لثمار العلم الجديدة، ومثل البيان السابق لـ"ماركس" و"إنجلز" نجد بيانا آخر لـ"لينين" بأن: "المادية الديالكتيكية هي الفلسفة الوحيدة المؤهلة للقيام بالتعميم الفلسفي للاكتشافات الجديدة في علوم الطبيعة. . . ." (¬3)، وكما قام المؤسسان بعمل تطبيقي للاستغلال فكذلك فعل "لينين"، فبعد بروز "المثالية والدين" إلى الساحة من جديد بسبب الثورة العلمية المعاصرة التي سحبت السلاح من أيدي الماديين ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق ص 448. (¬2) سبق الحديث عنها في الفصل الأول في أثناء الحديث عن نظريتي: النسبية والكوانتم ص 237. وقد جاءت الصدمة الفيزيائية للماديين وقت نجاحهم السياسي وما تبعه من قيام المعسكر الشيوعي، فتقابل صعودهم السياسي وقوتهم المادية في الميدان مع انهيار سندهم العلمي، بل تحول سندًا لخصومهم وأصبح سيفًا مصلتًا عليهم، ورغم التطورات التي حدثت في النصف الثاني من القرن العشرين وانهيار المعسكر الشيوعي؛ فإن المذهب المادي يبقى موجودًا على مستوى الفكر ولن يعدم ورثة هنا أو هناك، ومن الخطأ ربط نجاح الأفكار دائمًا بنجاح الأنظمة السياسية. (¬3) موجز تاريخ الفلسفة ص 555.

ثالثا: نماذج من انحرافات الاتجاه المادي بالعلم "الفيزياء - الأحياء - الرياضيات"

-وهي نفسها التي يزعم الماديون أنها أعطتهم إياه- وسلمته للمثاليين وأهل الدين، حيث حدث انقلاب هائل بين العلماء تمثل في ترك الإلحاد والإقرار على الأقل بوجود الرب سبحانه. صدم الماديون بهذه المستجدات، عندها قام "لينين" ورفاقه بمهمة التصدي لها والدفاع عن الماركسية وذلك يتطلب منه إعطاء إجابات علمية جديدة في عملية تعميم -استغلال- جديدة (¬1). ومع ذلك فالعلم يتطور بسرعة ويظهر من العلماء في كل مرحلة العشرات، وحدث لهم في القرن الرابع عشر/العشرين الميلادي ميول كبيرة نحو ترك الإلحاد والاعتراف بالخالق سبحانه، وأهم ما دعاهم لذلك؛ العلوم ذاتها التي بين أيديهم وذلك بشهاداتهم أنفسهم التي رأينا جزءًا منها في الفصل الأول، وهو تطور لم يستطع التيار المادي مجاراته على مستوى التنظير الفكري أو قل الاستغلال الفكري، كالذي رأيناه مع ماديي القرن الثالث عشر/ التاسع عشر أو السنوات الأولى من القرن الرابع عشر/ العشرين، ورغم أنهم كانوا سببًا في انحراف العلم وتعكير صفوه؛ إلا أننا نرى العلم ينتقم منهم في السنين الأخيرة، ويندر أن نسمع ماديًا دون أن يكون قد خفف من ماديته، وأغلب من بقي منهم قد ترك الاستغلال للعلم بعد الفشل في إقناع الجماهير، ومن ثمّ عادوا للمجال الفكري والفلسفي؛ لأنهم يجدونه أرضًا تحتمل التعمية والتلبيس. ثالثًا: نماذج من انحرافات الاتجاه المادي بالعلم "الفيزياء - الأحياء - الرياضيات": 1 - مفهوم القانون العلمي في الفيزياء: نبدأ بنموذج من الفيزياء الحديثة، وهو نموذج يوضح بجلاء كيف يتم الانحراف بالعلم والاستغلال الخبيث له، مع أنهم يظهرون للناظر بأن عملهم ما هو إلا صورة للعلم التي قبلها كل العقلاء. وسبب الاعتماد على الفيزياء أنها أهم العلوم نجاحًا واكتمالًا في العلوم الطبيعية؛ فقد نجح جاليليو ثم نيوتن في إعطاء صورة بارعة للفيزياء فتنت أغلب المطلعين عليها، مما جعلها العلم المناسب للاستثمار أو الاستغلال، وهذا لينين أحد أبرز رموز المادية يقول: ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق ص 555، والحقيقة أن ما جاؤوا به ليس إجابات جديدة بقدر ما هي -بحسب تعبير الدكتور عماد الدين خليل- عملية مطّ للمفاهيم المادية الماركسية لكي يفسروا القرن العشرين وربما ما بعده عليها. انظر: العلم في مواجهة المادية ص 58 - 59.

كانت الفيزياء أهم العلوم الطبيعية في الصراع بين المادية والمثالية (¬1). فمن يتأمل واقع الفكر الغربي يعلم بأن الفيزياء كانت أهم العلوم في معاركهم الفكرية بما في ذلك موقفهم من الدين -ضدّه أو معه- من نيوتن إلى أينشتين. ومع ذلك فقد يُدرس هذا العلم في بلاد المسلمين دون الوعي بكل هذه الأبعاد التي خاضتها الفيزياء الحديثة والمعاصرة داخل الفكر الغربي بين تلك الأطراف المتصارعة. وقد كان أهم ما قدمته الفيزياء الحديثة للعالم هو مفهوم القانون العلمي الذي يفسر أو يعبر عن السنن الكونية، فإن تاريخ الفكر البشري لم يجهل بأن العالم يسير وفق سنن مطردة، وهو أمر جاء به الدين وأثبته، ولكن لم يستطع أحد اكتشاف قوانين تعبر عن تلك السنن ويمكن بعد ذلك تطبيقها على كل الصور المشابهة، إلى أن جاء "كبلر" ليعلن قوانينه الثلاثة التي تشرح وتفسر حركة الكواكب، وأمكن -بعد تحسينها- التنبؤ بكل حركاتها، ومن ثمّ وضعها في جداول دقيقة. تبعها فيما بعد قوانين الميكانيكا عند جاليليو إلى أن جاءت أهم الصياغات مع نيوتن (¬2). ولم تكن مثل هذه الاكتشافات لتتعارض مع الدين وما يثبته الوحي بقدر ما هي إعلان لسنة من سنن الله سبحانه في الكون برموز رياضية، وهي مدعاة حقيقية لتعظيم خالقها وموجدها وحافظها وهو الرب سبحانه، ولكن الماديين كان لهم رأي آخر؛ فهم يقولون لخصومهم المقرّين بوجود الرب سبحانه: إنكم تقرون بوجوده من أجل دعم حركة الكون وحفظه، ولكن هاهم علماء الكون والفيزياء قد اكتشفوا قوانين حركتها، وعلمنا أنها تتحرك وفق آلية واحدة، والعالم ما هو إلا مادة وحركة، والمادة يعرفها الجميع، أما الحركة فهاهي قوانين الفيزياء تفسرها تفسيرًا كاملًا، مما يعني أنها في غير حاجة لتدبير خارجي أو رعاية غيبية، وقد رأينا الصورة التي رسمها العالم والفيلسوف الفرنسي "لابلاس" في الفصل الأول. وقد كان أهم من خدم التصور الآلي من الناحية الفكرية والفلسفية ديكارت، ويعترف الماديون عادة بهذا الجميل له، حيث أخرج صورة آلية للكون مستفيدًا من الثورة العلمية في قالب فلسفي، ¬

_ (¬1) انظر: أضواء على الفكر الماركسي. لينين (المادية ومذهب نقد التجربة)، ص 217، إعداد توفيق سلوم. (¬2) سبق عرض ذلك في الفصل الأول.

يُشبه ما رسمه عن الكون بعمل آلة في مصنع ما إن تشغلها حتى تبدأ لوحدها بالعمل، بينما مشغلها يتفرج عليها وهي تعمل إلى أن يوقفها، وبقدر ما تكون الآلة متقنة وتعمل وفق قواعد محددة؛ كلما قلّ تدخل الإنسان فيها، ومن المؤسف أن المقرين بالرب سبحانه زمن هذه الأحداث جعلوا دور الخالق سبحانه لا يتجاوز دور مشغل تلك الآلة في المصنع -تعالى الله عن ذلك-، حيث صنع الآلة وفق قواعد محددة ثم تركها لوحدها وفق تلك القواعد، وعند بعضهم أنه يقوم بتصحيح بعض الشذوذات الكونية، فوجدها الماديون فرصة للاستغناء عن رب هذا هو قدره ودوره عند المقرين به، فالعالم المادي في نظر الماديين أكبر من ذلك وأعقد، فله قوانينه الخاصة التي يتحرك بواسطتها دون الحاجة لتدبير خارجي، ومن المعلوم أن هذا الموقف المادي الإلحادي قديم، والجديد هنا هو استثمار مفهوم القانون العلمي الذي عرف في العلم الحديث لدعم مذهبهم المادي، مع أن العلم ذاته في باب الفيزياء سيخذلهم فيما بعد على أيدي علماء الطبيعة أنفسهم. وما كان للدعوة المادية أن تنجح في صرف هذا الاكتشاف للقوانين العلمية إلى خدمة المادية وإعلان استقلال الطبيعة بذاتها؛ فهي برأيهم الموجدة لذاتها والفاعلة لجميع حركاتها وفق قوانينها الخاصة، ما كان لها لتنجح لولا استعداد المجتمع الأوروبي آنذاك لمثل هذا الأمر، فهو من جهة مجتمع مفتون بالعلم؛ مما جعل الكثير وفي سكرة الانبهار بالعلم يصدّقون بمثل هذه الدعوى، صاحبَ ذلك هوىً في نفوس الكثير المتمثل في رغبتهم بإضعاف سلطة الكنيسة ومنع تدخلها في حياة الناس، وشارك في إشعاله تيارات حاقدة داخل المجتمع الأوروبي ترى في انتشار المادية والإلحاد داخل أوروبا طريقًا لنجاحها وبروزها. وقد كانت الصورة النيوتنية للفيزياء أو طبيعيات نيوتن (¬1) هي أحسن صورة للعلم وجدوها لبذر صورة جديدة للمادية، وقد كانت فيزياء نيوتن وروحها الفلسفية تساعد على ذلك كما سبق أن ألمحنا إليه في الفصل الأول، وبحسب رأي لايبنتز فإن نيوتن قد صور الرب سبحانه كعامل غير بارع يُحتفظ به كي يقوم ¬

_ (¬1) انظر: تاريخ الفلسفة المعاصرة في أوروبا، بوشنسكي، ص 40، وانظر: الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، المسيري، ص 22.

بتصحيح أخطائه، ومثل هذا التصور القاصر عن حقيقة الربوبية كوّن مدخلًا مناسبًا للماديين فيما بعد للاستغناء عنه والاكتفاء بالطبيعة ذاتها. ومما ساعد في نجاح الماديين في الانحراف بهذا الكشف العلمي أن أغلب جهود اللاهوتيين والمثاليين الدينيين في باب الدين كانت منصبة على توحيد الربوبية القائم عندهم على أهمية إثبات وجود الرب بالأدلة العقلية أولًا، وإثبات خلقه للعالم ثانيًا وتدبيره للكون، وكانت أهم أدلتهم في ذلك معرضة للطعن والدحض، وتعززت المطاعن بالرؤية المادية للعلم مدعين بأن العلم ينقض تلك الأدلة على وجوده أو تدبيره للكون؛ فأما الكون فهو يتحرك لوحده بحسب زعم الماديين وفق قوانين عرفناها وفي ظل حتمية آلية صارمة لا يمكن أن تتغير، وإذا كان الأمر كذلك فلِمَ الإصرار على إدخال قوى غيبية في حركة الكون، وإذا تمّ تبرير عدم الحاجة إلى تدخل تلك القوى الغيبية؛ فما الحاجة إلى إثبات وجود عالم غيبي أصلًا؟! ويصطدم مع التصور السابق أحد أهم الأسئلة المزعجة للماديين والمعكر لصفو دعوتهم، وهو تساؤل يطفو هنا وهناك: إذا كانت آلة الكون تسير وفق قوانين حتمية صارمة مما يعني الاستغناء عن وجود قوى غيبية، ولكن كيف وجد العالم أصلًا؟ وكيف ظهرت فيه هذه الآلية التي تضبط مساره دون الحاجة لرعاية غيبية؟ فالعلم لا يستطيع -كالعقل- أن يثبت أن الكون المادي أزلي أبدي، أو أنه الموجد لذاته والمتصرف في حركته والمستغني عن غيره، وهنا يظهر أحد أخطاء الثورة العلمية الحديثة عندما رسمت صورة للكون يسير وفق قوانين مستغنيًا عن موجده وخالقه، فأغلب علمائهم يرون بأن الله سبحانه في زمنٍ ما خلق هذا العالم، وأوجد فيه قوانينه، ولكنه تركه بعد ذلك يسير وفق هذه القوانين التي أوجدها في العالم، وبحسب رأي نيوتن فإن الرب يتدخل أحيانًا لتصحيح بعض الشذوذات الكونية، وكأنهم مطلعون على الرب سبحانه ويحددون ماذا عليه أن يفعل -تعالى الله عن ذلك-. وقد بقيت هذه الصورة هي السائدة عن علماء ومفكري القرن الحادي عشر/ السابع عشر والثاني عشر/ الثامن عشر، وهي ما يطلق عليه الماديون بـ "التأليه السببي" "الإله مجرد علّة أولى للعالم، خلق الكون، لكنه لا يتدخل في مجريات الحوادث فيه" (¬1)، وسمحت فكرة "التأليه السببي" ¬

_ (¬1) موجز تاريخ الفلسفة ص 153.

2 - ظاهرة الحياة في الأحياء

بالتعايش المؤقت بين الماديين ومعارضيهم؛ ولذا تجد أحيانًا من يُعرف بأنه فيلسوف مادي على مستوى الفكر والمنهج، ولكنه مؤمن؛ أي: يقرّ فقط بالتأليه السببي؛ لأنه لا يمكن إيجاد مادة وحركة دون علّة أولى تسببت في ذلك، ومع ذلك فإن المادية لن ترضى بمثل هذا المكسب دون أن يتحقق الهدف الأعلى "الإلحاد" وبسند مزعوم من العلم. 2 - ظاهرة الحياة في الأحياء: رغم نجاح اليسار الهيجلي الخبيث، لاسيّما "فيورباخ"، في دعم الإلحاد والقول بأبدية الطبيعة وأبدية عملها؛ إلا أن من بين المسائل المستعصية التي تقابلهم فوق المسألة السابقة -كيف وجد العالم المادي؟ - المسألة التالية: هي كيف -إذًا- خرجت الحياة من المادة؟ فإذا كانت المادة لها قوانينها التي تتحرك وفقها؛ فإن خروج الحياة منها أمر لم يصدقه أحد، إلى أن جاء أهم دعم للمادية من المجال العلمي ممثلًا في نظرية داروين. ورغم اتفاق الكثير بأن هذه النظرية تحوي في المستوى العلمي كثيرًا من الثغرات؛ إلا أن الجوّ المادي في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر كان مهيأً لقبول أي شيء يدعم المادية، فهو قرن "الطبيعة" كما يقال الذي انتقل فيه المجتمع الغربي من عصر العقل والتنوير في القرن الثاني عشر/ الثامن عشر إلى عصر الطبيعة في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر (¬1)، ومصطلح "الطبيعة" مصطلح مهذب للمادية القصد منه تخفيف شناعة مصطلح المادية وتيسير قبوله (¬2). فانتشرت الدارونية بشكل ملفت، وكما وجد الماديون في فيزياء نيوتن مدخلًا للاستغلال الخبيث للقول بمادية الكون ونفي أي تدبير غيبي له؛ فقد وجدوا أيضًا في نظرية داروين الحل الأمثل لمادية الحياة ذاتها، أيضًا دعم داروين المادية بعنصر آخر أخرج المادية من تلك الصورة الثابتة التي رسمها كل الماديين قبل داروين لماديتهم ذات الوجه الواحد الكالح الثابت، فأخذوا من داروين فكرة التطور وجمّلوا بها ماديتهم، لتصبح مادية وفي الوقت نفسه تطورية، وظهرت في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر صور من المادية منها: صورة تقليدية وكان من ممثليها عالم الكيمياء "دالتون"، ومادية تطورية أدخلت مفهوم التطور على المادية، مثل: ¬

_ (¬1) انظر: مذاهب فكرية معاصرة، محمَّد قطب ص 524. (¬2) انظر: الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، المسيري ص 15.

"لامارك" و"سان هيلير" و"داروين" و"هكسلي" و"سبنسر" و"هيكل" وغيرهم (¬1)، وكان أشهرهم "داروين" ثم من بعده مدرسته "الدارونية الاجتماعية". وقد تحمس لهذه الدارونية المذهب المادي الجديد "الماركسي" وأدخلها كسند علمي لماديته. ومع أن ما أظهره الماديون هو غير الحقيقة؛ لأنهم أظهروا أثر الدارونية في إجابتها عن مصدر الحياة المادي مع إضافة مفهوم التطور عليها، لكن التساؤلات المحيرة عادت من جديد وبشكل أشدّ وأعمق: فإن المتسائلين يقولون للماديين: أنتم لم تحلّوا مشكلة كيف وجدت المادة بقوانينها؟ وإذا كانت القوانين تفسر حركة المادة الجامدة فمن يفسر لنا هذا التطور؟ من المحرك لعمليات التطور المعقدة التي يذكرها مثلًا علماء التطور؟ وكيف خرجت الحياة من مادة ميّتة؟. عندما وجد الماديون مدخلًا لهم في علم آخر يتعلق بالكائنات الحية، انتقلوا إليه أيضًا من أجل تحويله بما يخدم ماديتهم، لاسيّما واحد أهم أعلامه يميل ميلًا واضحًا للمذهب المادي، ليضعوا أيديهم من البداية على هذا العلم الجديد. ولا يختلف الماديون الماركسيون عن الماديين الوضعيين، وهو أمر يجعل بيان موقف أحدهما يكفي عن عرض الآخر. نجد في كتاب "فريدريك إنجلس" "ديالكتيك الطبيعة" عرضًا موسعًا لهذا الانحراف بالعلم تحت مسمى تطور الطبيعة التاريخي، نعرضه من خلال عرض أتباعه في كتاب: "موجز تاريخ الفلسفة"، لنرى صور هذا الاستغلال الخبيث وأثره في تشويه صورة العلم وتوظيفه فيما ليس من بابه. عندما ظهر كتاب "داروين" "أصل الأنواع" (1859 م)؛ بدأت فكرة التطور تتغلغل في أذهان العلماء والمفكرين، ولكن وبحسب أصحاب كتاب الموجز جاء مفهوم التطور عند العلماء والمفكرين ناقصًا بل مشوّهًا أحيانًا؛ والسبب في ذلك أن التساؤل الذي أسلفناه ما زال يتكرر وُيحلّ بالحلول القديمة نفسها "فأسباب تطور الطبيعة التاريخي ومصدر هذا التطور بقيت، عند اللاهوتيين والفلاسفة المثاليين والمتعاطفين معهم من علماء الطبيعة، قابعة في الظل، أو فسرت بالاستناد إلى "الدفعة الأولى" (¬2)، وهو ما يطلقون عليه "التأليه السببي". ولكن ¬

_ (¬1) انظر: مقدمة في علم الاستغراب، حسن حنفي ص 279. (¬2) موجز تاريخ الفلسفة ص 454.

الماديين سيجدون الحل المزعوم في "المادية الجدلية" (الديالكتيكية)؛ فهي مادية؛ لأنه لا يوجد إلا المادة، ولكن حركتها جدلية، مما يفسر عمليات التطور بخلاف التفسير المادي القديم القائل بحركة سرمدية واحدية. وبالادعاءات نفسها سيعالجون قضية خروج الحياة من المادة والتطور اللاحق بها من حياة محدودة في خلية إلى أن بلغت ذروتها في صورتها المعقدة في الإنسان، فيقولون عن إنجلز: بعد ظهور نظرية التطور ثابر المثاليون واللاهوتيون "على التأكيد بأن الكائنات الحية مخلوقة كلها للإله، الذي نفخ "قوة الحياة" في المادة العاطلة، الخاملة" (¬1)، وتدعمت آراء المثاليين واللاهوتيين بتجارب "باستور" التي دحضت مزاعم الماديين، فاستخدمها المثاليون كما يقول "إنجلز" في صراعهم ضد فكرة التولد الذاتي الكيميائي للحياة، حتى إن بعض الماديين حرصًا منه على سلامة المادية قال بفكرة أن الحياة أُدخلت على كوكبنا من الفضاء الكوني، أما "إنجلز" فكان يرى بأن حلّها هو في المادة ذاتها وسنكشف يومًا ما عن طريق علم الكيمياء لغز الحياة، وأنها انبثقت من المادة دون الحاجة لتدخل خارجي، وقوانين الجدل المادية تغنينا بزعمه عن التأليه السببي والقول بالدفعة الأولى الإلهية وغيرها (¬2). ولم يكتف "إنجلز" بهذا، بل قام -وكأنه عالم منغمس في مختبراته وبحوثه- بعرض آخر لنظرية التطور الدارونية حول ظهور الإنسان لكي تتوافق مع "المادية الماركسية" تحت عنوان: "دور العمل في تحول القرد إلى إنسان" (¬3)، ساردًا خطًا جديدًا من الخلية إلى الإنسان، وبصورة سخيفة ودعائية يقول أصحاب "الموجز" عن هذه المقالة بأنها: "من أهم إسهامات إنجلس في بناء صرح النظرية الديالكتيكية عن تطور الطبيعة" (¬4)، فيتحول "إنجلز" من مؤسس لمذهب فكري إلى أحد العلماء الكبار، وإن لم يدخل معاملهم ومختبراتهم ولم يمارس بحوثهم واستقراءاتهم ويعمل تجاربهم. ¬

_ (¬1) انظر: تاريخ الفلسفة ص 455. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 455 - 457. (¬3) انظر: ديالكتيك الطبيعة، فريدريك إنجلس ص 163، ترجمة توفيق سلوم. (¬4) موجز تاريخ الفلسفة ص 458.

3 - إقحام المادية في الرياضيات

3 - إقحام المادية في الرياضيات: لم يكن الوضع الاستغلالي السيئ فقط في العلوم الطبيعية "الفيزياء والكيمياء والأحياء"، وإنما تم الادعاء أيضًا على مستوى العلوم الرياضية، فقد حدث للرياضيات في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر تطورات مهمة، فأسرع إليها الماديون ينقبون فيها عمّا يدعم ماديتهم. وفي مظهر من مظاهر الاستغلال يشعرك وكأن كل علم ما ظهر إلا من أجل المادية، وكما يقول أصحاب الموجز: فقد اشتغل "ماركس" و"إنجلز" بالمسائل الفلسفية لعلم الرياضيات وما تعكسه عن عالم الواقع المادي وتمّ تسرب الديالكتيك إلى بعض فروعها، وإن كان انشغالهما بالرياضيات قبل ظهور التطورات الخاصة بالهندسة اللا إقليدية، ومع ذلك فقد عرض الماركسيون إنجازات ماركس وإنجلز وكأنها مبشر بالاكتشافات الرياضية الجديدة قبل ظهورها (¬1). وفي النهاية لم يترك المذهب المادي فرصة لاستغلال العلم إلا وسلكها؛ موظفًا كل ذلك في دعم الرؤية الإلحادية، والمقصد هنا بيان الأثر الكبير الذي قام به الماديون في إفساد مسيرة العلم الحديث بتقويله ما لم يقله وتوظيفه فيما يعكر رسالته. هـ - التوظيف المادي للعلم من أجل إلغاء الدين: من أوضح ما ميّز المذهب المادي عن بقية المذاهب الفكرية هو حربه الضروس ضد الدين، واستغلال كل صغيرة منه أو كبيرة من أجل إزالة الدين عن وجه الأرض وأنّى لهم ذلك، ومن بين ما يميّز المادية الحديثة استنادها الكاذب إلى العلم في موقفها من الدين، فصوروا العلم على أنه لا يمكنه بحال من الأحوال أن يقبل الدين، وأن انتشار العلم كما يزعمون يعني تصفية الدين ومحوه من الوجود. نلاحظ بأن أكثر المذاهب غير المذهب المادي -حتى وإن ظهر فيها الإلحاد- تُظهر نوعًا من التسامح مع الدين، فنجد العلمانية مثلًا قد سمحت ببقاء الدين في الكنيسة وترك مسألة الإيمان لاختيار الفرد، بخلاف الاتجاه المادي الذي يرى أن من واجبه إلغاء الدين تمامًا. ¬

_ (¬1) انظر: موجز تاريخ الفلسفة ص 459 - 460.

وقد قام الاتجاه الماركسي شرّ قيام بهذه المهمة؛ فهو يعلن بأن "الدين ما هو إلا عبارة عن نسيج من الأقوال الخاطئة والعجيبة، والتي يدينها العلم الطبيعي. إن العلم وحده هو الذي يسمح لنا بمعرفة الحقيقة" (¬1)، وكما يقول صاحب "أسس الفلسفة الماركسية" بأن المادية "عدو لا يعرف المهادنة للأفكار الغيبية: ففي العالم الذي لا وجود فيه لغير المادة المتحركة لا مكان لأي روح غيبية" (¬2) بما في ذلك أعظم أصل جاء به الدين وهو الإيمان بالله سبحانه، فهي لا تقبل سوى المادة وترفض الإله رفضًا تامًا (¬3). وعادة ما يضعون مقارنة جائرة القصد منها تشويه الدين، مقارنة بين الدين مع إلصاق كل الصور السلبية المتخيلة به، ثم يقابلونه بالمادية ذات الوجه العلمي، وهي مقارنة لا يخفى مقصدها على أي ناظر إليها، فنجد مثلًا في قرارات اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي: "إن العلم يساعد الإنسانية على التعمق أكثر فأكثر في القوانين الموضوعية لتطور الطبيعة. وبالعكس فإن الدين يعدم وعي الإنسان ويسلمه إلى السلبية أمام قوى الطبيعة. ." (¬4)، وقد يصح جزء من كلامهم على أديانهم المحرفة التي عرفوها لولا أننا نعلم بأن المذهب المادي ليس في قصده البحث بعد ذلك عن الدين الحق؛ لأنه لا يقرّ بدين ولا غيب ولا رب، فالمقصد إذا هو تصوير الدين بكل الأوصاف السلبية مع مدح المادية، وإعطائها وجهًا علميًا. وبعد نجاحهم في تشويه صورة الدين انتقلوا خطوة أخرى، فالدين لا يجوز التسامح معه وحاله هذه، فأخذوا عدتهم وأجلبوا بما لديهم، معلنين بأن واجبهم نحو معبودهم المادي لا يتحقق إلا بهدم الدين، فالمفكر منهم يمارس هدم الدين من خلال فكره، والعالم من خلال علمه، وهكذا بقية الفاعلين في المجتمع، ويجمع كل تلك الأدوار ويؤديها أحسن أداء تلك الأحزاب السياسية المادية والدول الناشئة على أكتافها لتمارس التنفيذ في الساحة بقوة السلطة، مع تذكيرهم المتواصل بأنهم يعملون كل ذلك باسم العلم ولصالح البشرية ليمثلوا بذلك أسوأ صور الاستغلال للعلم وأخطر دور بالانحراف به. ¬

_ (¬1) تاريخ الفلسفة المعاصرة في أوروبا، بوشنسكي ص 117. (¬2) أسس الفلسفة الماركسية، ق. افاناسييف ص 10. (¬3) انظر: الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، المسيري ص 16. (¬4) الفكر المادي في ميزان الإِسلام، د. صابر طعيمة ص 37.

وبالنظر إلى موقف النموذج الماركسي العملي من القيم والدين نجده يرى أهمية تغيير وجهة القيم والأخلاق وفلسفة الجمال والفن لتخدم ماديتهم بخلاف الدين، فلا يوجد أي تسامح معه وإنما يجب إلغاؤه تمامًا (¬1)، القيم توجّه بما يخدم المادية، وأما الدين فلا يجتمع مع المادية، فليس هناك من خيار: إما الدين أو المادية. يتحدد الواجب العملي عند الماركسيين نحو الدين بالكفاح ضدّه وذلك بواسطة الاستغلال الخبيث للعلم، ففي أحد قرارات اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي نجد: "إنه يتعين أن ينظر إلى الكفاح ضد المعتقدات الدينية في الوقت الحاضر على أنه كفاح أيديولوجي للمفهوم العلمي والمادي للعالم ضد المفهوم اللاعلمي والديني له" (¬2)، ويدعون إلى أهمية مواصلة "الدعاية العلمية الإلحادية" ومهاجمة الدين باسم العلم وبالاستناد عليه (¬3)، وبأسلوب خبيث وماكر، وهم عادة في غير حاجة لمن يدلّهم على الخبث والخسّة، ففي مجلة "العلم والدين" الماركسية -وعنوانها يُظهِر ما لا تحتوي عليه، وكان الأنسب وضع جملة شارحة العلم المادي المستغلّ في هدم الأديان- المخصصة لتحطيم الدين والشارحة للطرق المساعدة في ذلك، ومما نجده فيها: "ومكافحة الدين وروابطه لا يكون بنسف الدين ومعابده كليًا من حياة الناس. فلا يحطم الفأس ما في الضمير. ولكن مهمة الإلحاد العلمي أن تتركز الدعوة الاشتراكية على الترويج لشعار الثورة، والتركيز على خلق وعي مادي "كالدعوة إلى العلم" في نفوس الجماهير لينفروا من الدعوة الروحية التي في جعبة الأديان. وليس من الضروري أن نهزأ من قصص "الإنجيل والقرآن، والكتب الدينية التقليدية" وأن نقول بأن المواعظ والصلوات. . . . بضاعة لا تصلح إلا للأطفال. هذا النوع من الدعاية الاشتراكية ضد الأديان لا يفيد كثيرًا" (¬4)، ويلخص الدكتور "المنجد" بعض أدوار هذه المجلة -الممثلة آنذاك عن أهم التيارات المادية-: ومن ذلك أنه "يجب الدعوة إلى المادة، عن طريق الدعوة إلى العلم لإبعاد النفوس عن المبادئ ¬

_ (¬1) انظر: تاريخ الفلسفة المعاصرة في أوروبا، بوشنسكي ص 118. (¬2) الفكر المادي في ميزان الإِسلام، طعيمه ص 37. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 37 - 38. (¬4) بلشفة الإِسلام عند الماركسيين والاشتراكيين العرب، د. صلاح الدين المنجد ص 24 - 25.

الروحية" (¬1). ومما يلفت النظر في الكلام السابق بأن العلم لم يعد يوصف بالمادية بل أصبح يوصف بالإلحادية، فأصبح هناك علم إلحادي أو إلحاد علمي، فالعلم من جهة ينتج عنه الإلحاد ويوظف أيضًا لخدمة الإلحاد. ولا شك أن العلم الذي يتصورونه والموروث خاصة عن داروين وأمثاله، هو مما قد يستغلّ في الإلحاد، أما العلم الصلب والصحيح فما عُرف عن أهله مثل هذا الزعم بمن فيهم نيوتن الذي بنوا ماديتهم على طبيعياته؛ لأنه لا يرى رأيهم. ونحن عندما نعرض لمثل هذه الأمور نتذكر دعوى يرددها رواد التغريب العربي مفادها بأن العلم أمره واضح وبيّن، ولا يمكن لأحد التلاعب به أو أن يحرفه عن مساره أو أنه يقبل التوظيف الخبيث ضدّ الدين، ولكننا نرى مع أحد أهم مذاهب الفكر الغربي شهرة ذلك التوظيف الخبيث للعلم بما يخدم الإلحاد بعيدًا عن مجال منافعه الخاصة، وفي الوقت نفسه قاموا بدور كبير في ملء الجانب المعنوي منه بكل القيم المادية والإلحادية، كما رأينا مثلًا في موقف الأطراف المختلفة من القوانين العلمية، فالقانون العلمي قد قبله الجميع لكن هناك من يضيف على صورته التفسيرية للوقائع المادية إضافات آيديولوجية ومذهبية من مثل القول بأن هذه القوانين تؤكد عدم الحاجة لتدبير الخالق سبحانه، أو أن القوانين العلمية دلّت على عدم وجوده أصلًا، أو غير ذلك من الدعاوى الإلحادية، مع أنهم يرون عدم خروجهم بهذه الدعاوى عن دائرة العلم. وهذه الحال تؤكد بأن الواجب الملقى على الأمة المسلمة في عصرها الحديث أكبر من إرسال البعثات لدراسة تلك العلوم وتلقيها والعودة بها إلى بلادهم؛ لأن هذه العلوم قد ملئت بمواد غير علمية، ووظفت في صراعات فكرية ضخمة، ولم تسلم من آثارها إلى الآن، وتبرز هنا قيمة التمحيص والأخذ العاقل لمثل هذه العلوم والتحليل النقدي لها، وإعادة النظر في مشروعات أسلمة العلوم. كيف يمكن لمثل هذه العلوم أن تكون صافية وقد دخلت كل هذه الصراعات، واستثمرها مثل هؤلاء وحاولوا توجيهها لهدم الأديان والدعوة للإلحاد، انظر مثلًا إلى المهام الملحة التي صاغها "لينين" عام (1922 م) واجبًا عمليًّا يجب على كل الماديين القيام به: "التعاون الماركسي مع كل الماديين ¬

_ (¬1) المرجع السابق ص 28.

لمواجهة المثالية وهذا على المستوى الفكري، والتعاون مع ممثلي العلوم الطبيعية المعاصرة من أجل التعميم للاكتشافات الجديدة في علوم الطبيعة لما يخدم مبادئهم ويحقق مهمتهم، وهذا علة المستوى العلمي، وتطوير الديالكتيك على أساس المعطيات الجديدة للعلم -وكلامه هنا بعد الثورة الجديدة في الفيزياء- ليصل إلى المهمة الكبرى وهي "الدعاية الإلحادية" لمواجهة المثالية والبرجوازية واللاهوت" (¬1)، ويعقب أصحاب "الموجز" بالتالي: "تشكل الدعاية الإلحادية المنسجمة، والنضال ضد الآيدلوجية الغيبية، إحدى المهمات الملحة للمادية المقاتلة. وقد أشار لينين بهذه المناسبة، إلى ضرورة استخدام مؤلفات أواخر القرن الثامن عشر الإلحادية، بما فيها من حماس وحيوية وبراعة، في النضال ضد الأيدلوجية اللاهوتية" (¬2)، وهم عادة عندما يجدون مخالفهم داعيًا للإلحاد يدعمونه وإن خالفهم في تفاصيل المنهج، وقد سبق إلى مثل هذا العمل قدوة لينين وهو إنجلز، ففي أثناء حديثه عن "بوخنر" الداروني والمادي الملحد ومع ذلك لم يعجب به إنجلز ويراه ممثلًا للمادية المبتذلة، ولكن "بوخنر" يقوم بنشاط مهم في نشر الإلحاد تحت مظلّة العلمية الدارونية فيقول إنجلز: "بالإمكان أن ندعهم وشأنهم، منشغلين بعملهم -غير السيئ رغم محدوديته الضيقة- نشر الإلحاد في الأوساط الألمانية غير المثقفة،. . . ." (¬3)، فإذا وجد من ينشر الإلحاد فيمكن التغاضي عنه وإن لم يكن على المقاس الماركسي. ولكن تبقى شوكة في حلوقهم وهي ميل أغلب العلماء نحو المثالية والدين وإنكار أغلب هؤلاء العلماء لتوسيع دائرة العلوم المادية لتشمل الحياة والنفس الإنسانية والروح ودعوتهم لإبقاء العلم في ميدانه المعهود. عندها ينبري التيار المادي لإزالة آثار هذه الشوكة، إما بتوجيه أقوال هؤلاء العلماء ونتائج أعمالهم نحو المادية وتأويلها بما يتلاءم مع مذهبهم أو الاكتفاء بمدح هؤلاء العلماء بما قدموه من خدمات للمذهب المادي وذمّهم على عدم تحويل نشاطهم العلمي إلى أهواء الماديين، ومن بين الأمثلة على ذلك موقفهم من علماء الثورة العلمية الأوائل وكذا موقفهم من الأحداث الجديدة مع الثورة المعاصرة في الفيزياء وغيرها. ¬

_ (¬1) انظر: موجز تاريخ الفلسفة السابق ص 616 بتصرف. (¬2) المرجع السابق ص 616. (¬3) ديالكتيك الطبيعة، فريدريك إنجلس ص 193، ترجمة توفيق سلوم.

نجد في أثناء استرجاعهم لرواد الحركة العلمية الحديثة انزعاجهم من بقايا الدين الموجودة عند أولئك الرواد، فـ"جاليليو" مثلًا رغم ما قدمه للعلم والمادية، إلا أنه -بحسب تعبيرهم- وبسبب عدم النضج الأيدلوجي بقي عمله ناقصًا ولم يتخلص عن اعتقاده بوجود الإله، فإن في نظامه ثغرات تجعله في حاجة للاستنجاد بالإله؛ لأنه ما زال يؤمن بأن الإله قد خلق العالم في زمن معين ووضع الشمس في مركزه وأعطى الكواكب حركتها ثمّ توقف الفعل الإلهي هنا (¬1)، فحتى هذا الدور القاصر الذي جعله جاليليو للرب سبحانه يريدون حذفه. ثمّ هم يضعون "بيكون" مؤسسًا للعلم التجريبي ومنهجه ورائدًا للفلسفة المادية الحديثة، ولكنه رغم ذلك -عندهم- لم يكن منسجمًا في ماديته إلى النهاية إذ تنازل أمام الفكر المثالي باعترافه ولو شكليًا بوجود علم خاص عن الإله (¬2)، وبقيت أعماله مخلوطة في نظرهم بشوائب دينية إلى أن جاء "هوبس" فعمل على تنقية مادية "بيكون" من شوائبها الدينية (¬3)، ليسلمها القرن الثاني عشر/ الثامن عشر وقد صُفّيت من كل أثر ديني. وفي السياق نفسه كان موقفهم من العلماء المعاصرين والفلسفات العلمية المخالفة للتيار المادي، فحسب رأي الماركسيين قد "شهد القرن العشرون ظهور عدد من التيارات الفلسفية، يحاول كل منها أن يضفي على نفسه صبغة العلمية، بينما يعالج أنصاره محتوى العلم المعاصر ومنهجه معالجة مثالية محضة، ويسعون إلى إسدال الستار على محتواه المادي، والتوفيق بين هذا المحتوى ومختلف النظرات المثالية والدينية" (¬4)، مع أن بعض ما تعرضه هذه التيارات له أهميته من وجهة نظر الماركسيين إلا أن ما ينقصهم هو "استخلاص نتائج مادية من معطيات ¬

_ (¬1) انظر: موجز تاريخ الفلسفة، جماعة من السوفيات ص 152. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 156. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 170، وقد اختلفت الدراسات حول "هوبس"، فرغم أنه مادي في فلسفته ويرى إخراج الدين من الفلسفة إلا أنه يبقى على خلاف ما يزعمه التيار المادي يقرّ على الأقل بوجود الرب، انظر مثلًا: دراسة د. إمام عبد الفتاح: (توماس هوبز -فيلسوف العقلانية)، الفصل الرابع ص 395 وما بعده، وهذا الكلام إنما هو بحسب مقاييسهم للإيمان والإلحاد. (¬4) موجز تاريخ الفلسفة ص 617.

الرابع: دور المذهب التجريبي الحسي والوضعي

العلوم، الأمر الذي يفرضه تطور العلوم ذاتها. . . ." (¬1). إذًا فالوظيفة الكبرى للمذهب المادي لم تتوقف وهي توجيه العلم لهدم الأديان وإبراز الإلحاد، والاستمرار في توظيف العلم لهذه المهمة وتلبيس العلم هذا اللبوس الإلحادي. وهذا النموذج الذي اخترته ما هو إلا واحد من بين عدّة مذاهب مادية وغير مادية، ترى أنها الصورة العلمية للعلم، وأن أهم مهمّة يجب عليهم القيام بها هي إثبات صحة الإلحاد من خلال العلم ذاته، مع أن العلم ذاته والعلماء في الجملة خلاف ما يدّعيه هؤلاء الماديون. وفي النهاية يتضح لنا بأن الفكر المادي قد قام بعملية كبيرة أوهم فيها الكثير من خلال وصفه لماديته بالعلمية، وقام بأكبر عملية استغلال، بل وخيانة للعلم ذاته، حيث جعلوا من وظيفة العلم إبطال الدين والغيب وإنكار وجود الخالق سبحانه، وصوروا كل فرع من فروع العلوم الحديثة بأن غايتها الإلحاد. ورغم أن هذا المذهب قد لقي ضربة تكذبه من العلم ذاته لاسيّما من سنده القديم الفيزياء ثم أعقب ذلك الضربة الموجعة لنظامهم السياسي بعد سقوط أشهر دولة تتبنى مذهبهم، ومع ذلك فهذا المذهب قد بدأ يتشكل بصورة جديدة ويمارس نشاطه القديم تحت مسميات جديدة تتناسب مع التحولات كعادته في التشكل ليواصل مسيرته الخبيثة. ويبقى هذا المذهب أحد أسوأ المذاهب انحرافًا برسالة العلم النبيلة، وتشويها لحقيقته لأنه قد جعل من العلم سلاحه المفضل للتبشير بالمادية وإنكار الخالق سبحانه والغيب والدين. الرابع: دور المذهب التجريبي الحسي والوضعي كانت العلوم المشهورة تؤخذ ضمن الفلسفة في الفكر الغربي القديم والوسيط ولم تحقق تلك العلوم ثورتها ونجاحها إلا بعد استقلالها عن الفلسفة. بدأ استقلال العلم الحديث في الفلك والفيزياء معتمدًا على المنهج المنقول عن المسلمين، وبعد أن حقق العلم ما حقق من تطور وتقدم تبعه ظهور حركة فلسفية جديدة انفصلت عن الدين وتريد الاتصال بهذه العلوم الجديدة، وكانت إحدى ¬

_ (¬1) انظر: موجز تاريخ الفلسفة ص 617.

الاتجاه التجريبي والعلم التجريبي -وهم التسمية وحقيقة الاتجاه

منافذ العبور لذلك هي وضع فلسفات جديدة تقمص روح العلم الحديث أو المشاركة في رسم مناهج العلم، وكانت بداية ذلك مع مفكرَين مشهورَين هما "ديكارت" الفرنسي ممثل الاتجاه الفلسفي العقلاني الحديث و"بيكون" الإِنجليزي ممثل الاتجاه الفلسفي التجريبي الحديث، فافتتحا خطين فكريين جديدين في الفكر الغربي "العقلاني والتجريبي"، وقد كان للاتجاهين دورهما في خدمة العلم وتطويره مما لا ينكره أحد، وفي الوقت نفسه أسهما وفي مستويات أخرى في صياغة المناهج الجديدة المناسبة لحركة العلم والفكر الجديدة، ولكن كان للاتجاهين أيضًا الكثير من المساوئ على مسيرة العلم الحديث، وهذه المساوئ هي ما أحاول كشفه في هذا المبحث وبيان أثره على الانحراف بمسيرة العلم وعلى دوره في رسم علاقة سلبية بين العلم والدين مكتفيًا في ذلك بأهم الاتجاهين صلة بالعلم وهو الاتجاه التجريبي. ولنتذكر هنا بعض صور الانحراف بالعلم قبل بيان دور هذا الاتجاه، فيكون الانحراف بالعلم عندما يزعم المنحرفون به أنه سندهم في إبطال الدين أو إنكار الغيب أو القول بالإلحاد أو ما يدور في هذا الباب، ويكون الانحراف به أيضًا عندما يحاول البعض تطبيق مناهجه على ما لا يناسبه التطبيق من أمور الدين الغيبية، ويكون الانحراف بالعلم إذا ادُعي له الشمول والكفاية للبشر وعدم حاجة المجتمعات لغيره، ويكون الانحراف به أيضًا عندما تتولى مجموعات ملحدة الحديث باسمه وتتولى استغلال ثماره في دعم مبادئها المخفية والمعلنة، وقد قام بعض رواد الاتجاه التجريبي بكثير من هذه الأمور. الاتجاه التجريبي والعلم التجريبي -وهم التسمية وحقيقة الاتجاه: من بين الأوهام التي عرفها الفكر الغربي الحديث تلك الصلة على مستوى التسمية بين الاتجاه التجريبي والعلم التجريبي؛ إذ يُخيّل إلى البعض بما أنهما يشتركان في التجريب فهما من باب واحد، ويعني أنهما القوة والمتانة نفسها، وأن حقائقهما علمية بما فيه الكفاية، فإن الاتجاه التجريبي الحسي لم يشتهر بهذا الاسم إلا بعد النجاحات التي حققتها العلوم التجريبية، وإذا كانت نجاحات العلم قد وقعت في الدرجة الأولى بعد النجاح في استخدام المنهج التجريبي عصب العلوم الحديثة فإن الاتجاه الفلسفي التجريبي يدعي لنفسه أنه هو المؤهل

لرسم خطوات ذلك المنهج، وبيان أصوله وقواعده، ووضعه بصورة تصلح للتطبيق فيما بعد. وعندما يقوم الاتجاه التجريبي بهذه المهمة الفكرية لا يخلو من خلطها بأيدلوجيته الحسية، فاستأثر بالعلوم أو أخذ حصة الأسد منها، وأقام عليها فلسفة حسية مغالية أصبحت فيما بعد مرجعية لمن يتوهمون فيها العلمية. ترى "التجريبية" بأن المعرفة الحقيقية الموجودة في العقل هي ما طبعته الحواس فيه (¬1)، ولذا تسمى بالتجريبية الحسية مقابل "العقلية" التي ترى بأن للذهن أثرًا في تشكيل المعرفة من خلال مواده القبلية التي تتفاعل مع معطيات الحس، فيجعلون لتلك المواد القبلية دورًا في صناعة المعرفة، أما الاتجاه الحسي فلا أثر قبلي فيه وإنما العقل صفحة بيضاء تشكله الحواس وتطبع عليه المعرفة. وتبعًا لذلك يرى الاتجاه التجريبي بأن "العالم الطبيعي هو المجال الواقعي الوحيد، الذي يمكن معرفته عن طريق التجربة الحسية"؛ لأنّه الوحيد الذي يُحسّ ولا طريق لمعرفته إلا بمناهج العلم الطبيعي. والعلم الناتج عن ذلك هو العلم الحقيقي الذي يمكن التحقق منه بالتجربة الحسية. ويصبح العالم الطبيعي هو الحقيقة الوحيدة فقط فلا مكان لغيره، ولا يوجد عالم آخر غير العالم الطبيعي، والكون لا يعتمد على شيء خارج عنه (¬2). وتبرز هنا أهم الإشكاليات المنهجية في هذا الاتجاه وذلك بحصره المعرفة الوحيدة المقبولة بتلك المعرفة الناتجة فقط عن طريق الحس واشتراط وجود مماثل لها في الواقع أو أن تكون انعكاسًا لما في الواقع، فهي تُخرج قضايا الغيب من حيّز المعرفة المقبولة، كما أن مصطلحي: الحق والوحيدة المخصصين عند الاتجاه التجريبي بالمحسوسات فقط يحملان في لحمتهما استبعاد كل معرفة حقة أخرى لا تأتي عن طريق الحس. وبسبب ذلك كان الاتجاه التجريبي الحسي والوضعي فيما بعد نافرًا كل النفور من الدين والغيب والوحي؛ لعدم خضوعها لميزانهم الحسي. ومن الطبيعي أن تكون المعرفة العلمية الحديثة مرتبطة بالمحسوسات؛ لأن عالمها هو عالم الحس، ولكن مشكلة المنهج التجريبي ¬

_ (¬1) انظر: نظرية المعرفة، د. محمود زيدان ص 24. (¬2) انظر: نظرية المعرفة، د. عادل السكري ص 64 وما بين القوسين بنصه.

المؤسسون للمنهج وتصورهم للعلم

تعميمه هذه القضية على كل معرفة، فما لم تكن تجريبية حسية مصدقة من الواقع المادي فهي معرفة لا تستحق العناية. المؤسسون للمنهج وتصورهم للعلم: اشتهر هذا التيار في القرن الحادي عشر/ السابع عشر مع "بيكون" وتلميذه "هوبز" و"جون لوك"، وفي القرن الثاني عشر/ الثامن عشر مع "ديفيد هيوم"، واشتهر في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر تحت مسمى "الوضعية" و"المنفعة" عند "كونت" و"بنتام" و"مل" الأب والابن و"سبنسر"، وفي القرن الرابع عشر/ العشرين مع فلاسفة "التحليل"، وكذا أصحاب "الوضعية المنطقية". وقد اعتنوا كثيرًا برسم المنهج التجريبي وتمحيصه مع التركيز على لبّ التجريب وهو مفهوم الاستقراء ذاك الموضوع الأهم في المنهج التجريبي مقابل المنهج الاستنباطي الصوري في المنهج العقلي. كان التأسيس للمنهج التجريبي والحسي مع "بيكون" و"هوبز" و"لوك"، وضع "بيكون" الخطوط الأولية، وجاء تلميذه "هوبز" ليعزز اتجاه التجريبية نحو المادية مما جعله مقدمًا عند الماديين (¬1)، وفي المسار نفسه واصل جون لوك الطريق لاسيّما في كتابه المشهور: "مقالة في العقل البشري" وكان خلاصة مذهبه "أن معرفتنا مقصورة على التجربة الظاهرة والباطنة، فيتعين على الفلسفة أن تقنع بما يدرك بالملاحظة والاستقراء فحسب، وأن تعدل عن المسائل الميتافيزيقية وعن المناهج العقلية" (¬2)، وقد كان لمذهبه الحسي أكبر الأثر على مفكري القرن الثاني عشر/ الثامن عشر في إنجلترا وفرنسا (¬3). اهتم بالبحث في إمكانية العقل المعرفية وبحث إمكانية المعرفة عمومًا، واعتنى بما أطلق عليه فيما بعد "نظرية المعرفة" على أن هناك من يراه المؤسس الحقيقي لها (¬4)، ليتم الانتقال في التيار من صناعة المنهج إلى وضع نظرية كاملة في المعرفة. ثمّ جاء هيوم الذي يعدّ بحسب المفكر الوضعي العربي "زكي نجيب" "أول ¬

_ (¬1) انظر: تاريخ الفلسفة الحديثة، يوسف كرم ص 51، موجز تاريخ الفلسفة، مجموعة من الأساتذة السوفيات ص 166 وما بعدها. (¬2) المرجع السابق، كرم ص 150. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 152. (¬4) انظر: تمهيد للفلسفة، د. محمود زقزوق ص 116.

ما بين الميتافيزيقا والعلم عند الاتجاه التجريبي

فيلسوف وضعي بالمعنى الشامل الدقيق" (¬1)، لتتحول التجريبية معه ومع غيره تحولًا صريحًا نحو المادية، وليضع لها الصياغة الفلسفية الكاملة (¬2)، ويؤسس "العلوم بمنهج تجريبي في مقابل المنهج الهندسي عند سبينوزا. ويطبقه في شتى العلوم الإنسانية في الفلسفة والأخلاق، وعلم النفس، والدين، والتاريخ"، وذاعت شهرته بدراساته حول الدين الطبيعي (¬3). وفي هذه المرحلة كان قد اشتهر عن التجريبيين الإِنجليز قضية يظهر فيها التناقض وهي "الجمع بين الحسية المادية بما تعنيه من رفض لما ليس ماديًا مع القول بوجود الله سبحانه"، وهي ملاحظة ذكرها "يوسف كرم" عند استعراضه للتجريبيين الإِنجليز إذ يقول: "ولم يكن هذا الجمع بين الإيمان وبين المادية شاذًا عند الماديين الإِنجليز" (¬4)؛ لأن الأصل في النزعة الحسية المادية أن تؤدي للإلحاد، وهذا ما شعر به أحد أشهر فلاسفة الإِنجليز الموجود في تلك الفترة وهو "جورج باركلي"، وفي ذلك يقول "أديب صعب": "بينما احتفظ لوك بفكرة "الجوهر المادي" الذي يربط عناصر الشيء بعضها ببعض ويغدق على كل شيء هيئته وجد جورج باركلي (1685 - 1753 م) أنه لابد من التخلي عن فكرة الجوهر المادي لأنها تؤدي منطقيًا، في رأيه، إلى الإلحاد. . . ." (¬5). ما بين الميتافيزيقا والعلم عند الاتجاه التجريبي: كان أحد منافذ الاتجاه التجريبي نحو الإلحاد منفذ نقد الميتافيزيقا، ومن خلال هذا المنفذ دخل الاتجاه التجريبي ميدان العلم الحديث لينحرف بالعلم في مجال الفكر والواقع، حيث ركز الاتجاه التجريبي على تنقية العلم والفكر من الميتافيزيقا تحت دعوى حماية العلم من آثارها، ولكن نقد الميتافيزيقا أوصلهم إلى رفض الدين ذاته والنبوات والغيب. يعد مفهوم الميتافيزيقا من المفاهيم الشائكة في دائرة الفكر الغربي، وقد ¬

_ (¬1) نحو فلسفة علمية، د. زكي نجيب محمود ص 31. (¬2) انظر: مقدمة في علم الاستغراب، د. حسن حنفي ص 217. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 218. (¬4) تاريخ الفلسفة الحديثة، يوسف كرم ص 156 أثناء حديثه عن "هارتلي" و"بريستلي". (¬5) انظر: المقدمة في فلسفة الدين، أديب صعب ص 74 وكان "باركلي" مثاليًا وقسًا إنكليكانيا.

جُعل هذا المصطلح ستارًا تمّ من خلفه محاربة كل ماله صلة بالغيب بحجة اختلاطه بالميتافيزيقا التي تتنافى مع العلم والحس والتجريب. كانت البداية مع النقد الجذري الذي قام به ديفيد هيوم للميتافيزيقا، وله مقولة مشهورة أصبحت منهجًا لمن بعده، حيث يقول: "إننا إذا ما استعرضنا المكتبات مزودين بهذه المبادئ فيا لها من إبادة تلك التي نضطر إلى فعلها، فلو تناولنا بأيدينا كتابًا في اللاهوت أو في الميتافيزيقا المدرسية -مثلًا فلنسأل: هل يحتوي هذا الكتاب على تدليلات مجردة خاصة بالكم والعدد؟ لا. هل يحتوي على تدليلات تجريبية خاصة بأمور الواقع والوجود؟ لا. إذن فألق به في النار؛ لأنه يستحيل أن ينطوي على شيء غير السفسطة والوهم" (¬1). والنص واضح وبيّن في مراده، فالمعرفة الوحيدة الحقيقية والمقبولة في رأيه إما أن تكون رياضية وإما أن تكون طبيعية تجريبية، وما سواهما فسفسطة ووهم ويجب إحراقها. لقد مثل هذا الموقف الرافض لكل ما هو غير رياضي أو تجريبي أهم عمل لهيوم وكان أكثرها شهرة، وفي ذلك يقول "كانط": "منذ بداية الميتافيزيقا لم يحدث أمر حاسم لمصيرها مثل الهجوم الذي وجهه إليها ديفيد هيوم" (¬2)، وعدّها "زكي نجيب محمود" "الضربة القاتلة الأولى للتفكير الميتافيزيقي" (¬3). وأي باحث مسلم يعلم بأن اللاهوت والميتافيزيقا الفلسفية مليئة بالأوهام المخالفة لما في الوحي إن كان ما تعرضه دينيًا، أو لما في الطبيعة إن كان ما تعرضه علومًا طبيعية، إلا أن الاتجاه التجريبي في الوقت نفسه قد قام بإدخال كثير من المسلَّمات الدينية تحت مسمى الميتافيزيقا، فنُفيت من مجال المعرفة الحقة والصحيحة، وأدخلت في مجال الوجدان، وانتقص من قدرها العلمي بحجة عدم دخولها في المجال الرياضي أو الطبيعي، ولهذا نجدهم لا يقرون بالدين والنبوات والشرائع، ومن وُصف منهم بالإيمان فمقصدهم الإقرار بوجود الرب سبحانه، ومَنْ قَبِل منهم شيئًا من الدين فقبله مؤسسًا للضمير الأخلاقي فقط، وهذا هو مفهوم الدين الطبيعي عندهم. ¬

_ (¬1) الدين والميتافيزيقا في فلسفة هيوم، د. محمَّد الخشت ص 61 - 62، وانظر: موقف من الميتافيزيقا، زكي نجيب ص 25. (¬2) الأخلاق عند كنت، عبد الرحمن بدوي ص 9. (¬3) نحو فلسفة علمية ص 31.

انحصرت المعرفة الحقيقية عند "هيوم" في العلوم الرياضية وخرج ما سواها من دائرة العلم، وصوّر العلم على أنه الممثل الوحيد للحقيقة وكل ما عداه فيجب عدم قبوله، ليصل الحال بهم إلى تقديس العلم وإلغاء ما سواه حتى وإن كان دينًا، وقد وقع الاتجاه العقلي المنافس للتجريبي تحت تأثير هذه الرؤية عبر الفيلسوف الألماني المشهور كانط الذي أعلن تأثره بـ"هيوم" في الموقف من الميتافيزيقا، وكان مشروعه النقدي الكبير يدور حول الآتي: كيف يمكن أن نجعل من الميتافيزيقا علمًا يقينيًا تشبه في ذلك العلوم الرياضية والطبيعية (¬1)؟ حاول، ومع ذلك لم يصل إلى جواب، وما وصل إليه بعد مشواره الطويل هو ما سمِّيَ فيما بعد بالفلسفة النقدية التي حاول فيها الجمع بين المذهبين الكبيرين "العقلي والتجريبي"، إلا أن مشكلة الميتافيزيقا بموضوعاتها الكبيرة "الله والحرية الإنسانية وخلود الروح" (¬2) كما هي عندهم لم تجد حلّها إلا في العقل العملي الأخلاقي (¬3) في نوع من الاستسلام الضمني للموقف التجريبي الحسي. من أهم ما أورثته تجريبية القرن الحادي عشر/ السابع عشر والثاني عشر/ الثامن عشر لخلفائهم في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر وكان له أثره في مسيرة العلم، ما يلي: الدعوة إلى الاكتفاء بما يقوله العلم والاستغناء به عما سواه بما في ذلك الاستغناء عن الدين واللاهوت والميتافيزيقا، والوقوف بقوّة ضدها؛ لأن الحقيقة بحسب زعمهم لا توجد إلا في العلم، ووضعهم للمعيار الحسي بوصفه أحدَ أهم المعايير في قبول الحقائق الموجودة الواقعية. ومما أورثته أيضًا ما تزعمه لنفسها من أنها العلم نفسه، وإن كان ذلك بلغة فلسفية فكرية، وتزعم لنفسها موقفًا عمليًا أخلاقيًا يتمثل في تطهير العلم من كل ما ليس بعلم على أن معيار ما ليس بعلم هو ما لا يحس، وهذا الواجب العملي الذي تبنوه وجه مسار التيار إلى إبعاد كل معنى ديني من العلم الحديث. فانطلق الاتجاه التجريبي في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر من مجموع ¬

_ (¬1) انظر: الميتافيزيقا عند الفلاسفة المعاصرين، د. محمود رجب ص 5. (¬2) انظر: كنط وفلسفته النظرية، د. محمود زيدان ص 261. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 71 - 72.

كونت والدعوة الوضعية

هذه النتائج ليواصل المسار مبتعدًا حتى عما يسمى بالدين الطبيعي؛ إذ هم لا يرون حاجة إليه في قرن انتشر فيه الإلحاد بصورة كبيرة تحت غطاء الفكر والعلم. وظهر الانحراف في تيارين كبيرين جديدين امتدادًا لتجريبية المرحلة الماضية وهما المادي والوضعي، والوضعي هو الأقرب صلة بالتجريبية، وقد قام مشروع التيار الوضعي على استبدال الأديان القديمة بدين جديد هو العلم فقط وتخليص هذا الدين الجديد من أي بقايا دينية أو لاهوتية أو غيبية أو ميتافيزيقية أو مثالية إلى آخر القائمة، وإن كان جهدهم الأكبر قد انصب غالبًا على المفاهيم الدينية واللاهوتية، فقد كان الوضعيون كما يقول عالم الفلك الفرنسي المعاصر "دولهاي": "يعتقدون بأن العلم سوف يحل كليًا محل الفكر الديني. . كانوا متحمسين جدًا وواثقين من أنفسهم إلى حد الغرور. ." (¬1)، وكل هذا يعزز الانحراف بالعلم والفكر العلمي. كونت والدعوة الوضعية: تمت النقلة الخطيرة في الفكر التجريبي الحسي هذه المرّة من فرنسا تاركة أرضها مؤقتًا -إنجلترا- وذلك بعد وقوع الثورة الفرنسية فجاء الفيلسوف الفرنسي "أوجست كونت" ليرسم خطًا جديدًا لمسار التيار، فأعلن أنه يريد تأسيس دين جديد بعد أن حطمت الثورة كل ما سبقها من عقائد وآيديولوجيات وميتافيزيقا، وبما أن العصر هو عصر العلم، فلابد أن يكون هذا البديل علميًا (¬2). فقدم مشروعه الخاص بتصنيف العلوم، وأعلن في الوقت نفسه عن الفلسفة الوضعية، على أن الوضعية تعني العلمية. أهم المزاعم التي جاء بها "كونت" قانون المراحل الثلاث لتطور التاريخ البشري، وهو قانون عام فيما يزعم لابد أن تمّر به كل أمة من الأمم، ويراه قانونًا حتميًا في الوقت نفسه ذا مسار واحد. والحالات الثلاث هي: المرحلة اللاهوتية التي تعدّ عنده مرحلة الأديان، والمرحلة الميتافيزيقية مرحلة الفلسفات التأملية، وأخيرًا المرحلة الوضعية الممثلة لعصر العلم، وكما يقول داعية الوضعية العربي عن أثر "كونت": "وإذن فقد مضى عصر اللاهوت، وانقضى عصر الفلسفة ¬

_ (¬1) العلم والإيمان في الغرب الحديث، هاشم صالح ص 29. (¬2) انظر: منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية، محمَّد امزيان ص 45.

التأملية، وأصبح التفكير الوضعي من علم وفلسفة هو طريق النجاة" (¬1)، والمراحل الثلاث باختصار هي: المرحلة اللاهوتية، فمشاهدات الإنسان محدودة فيكملها بخياله ليصل به السير "إلى نقطة الإيمان بإله واحد على سائر الآلهة والقوى"، يعقبها مرحلة ميتافيزيقية تستبدل الإله بفكرة مجردة أو قوّة غير مشخصة تفسر كل الظواهر، على أنه يرى في المرحلة الميتافيزيقية "مرحلة انتقال مهمتها أن تفكك أوصال التفكير الروحاني الذي ساد المرحلة الأولى تمهيدًا للمرحلة العلمية التي هي نهاية الشوط"، هكذا تحددت وظيفتها في هدم المرحلة اللاهوتية لكنها لم تضع مكانها شيئًا، فساد خلالها الشك والاضطراب حتى جاءت المرحلة الوضعية "حيث حلت مشاهدات الحواس، وتجارب العلماء محل خيال اللاهوتي وحجاج الفيلسوف الميتافيزيقي" ولم يعد الإنسان "يبحث عن "علل أولى" يرد إليها الطبيعة وما فيها، بل يبحث عن "قوانين" تصور الاطراد الملحوظ في الظواهر الطبيعية؛ أي: أنه يبحث عن "العلاقات". . . ." (¬2)، وهي المرحلة الوضعية العلمية. ومع أن الاعتراضات النقدية قد وجهت لقانون المراحل الثلاث، وبينت عدم صحته، إلا أن الهدف المنشود منه قد تحقق، حيث أظهر في الوسط الفكري والثقافي بأن الدين كان يناسب مرحلة من الزمن ثم تلاشى أثره، وجاء بعده الميتافيزيقا التي تناسب مرحلة أخرى تلاشى أثرها أيضًا بمجيء عصر العلم الذي أتى بالمرحلة الوضعية، ويختلف موقفه عن هيوم الذي يرى الدين والميتافيزيقا أوهامًا، فـ "كونت" يراها صحيحة ومناسبة في وقتها ولكنها لا تصلح لعصر العلم، ولكن النتيجة واحدة مفادها بأن الدين واللاهوت والميتافيزيقا قد ولّى زمنها مع ميلاد العلم وعصره الوضعي. وعندما يقرّ "كونت" عبر منهجيته التطورية بمناسبة الدين لمرحلة معينة في الزمن، لا يعني اعتقاده بصحة الدين أو إيمانه بوجود الرب سبحانه؛ لأنه يعلن إلحاده صراحة، ولكنه يقبل بها مرحلةَ من مراحل التفكير البشري هي ما يستطيعه ¬

_ (¬1) نحو فلسفة علمية، زكي نجيب محمود ص 45. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 45 - 48، الإيمان والمعرفة الفلسفية، د. محمَّد هيكل ص 71 - 83.

البشر آنذاك. وقد رأينا في الفصل الأول دعواه إلى وضع ديانة إنسانية جديدة تقوم على العلم، لا تؤمن بدين، ولا برب، ولا بغيب، وإنما تؤمن بالعلم فقط، وقامت لها كنائس في بعض بلاد العالم. أصبح العلم عند الوضعيين دليلًا على ميلاد عصر جديد، لا يقبل هذا العصر الدين والميتافيزيقا وما في بابهما، الدين الوحيد عندهم كما يزعمون هو العلم، وهم يرون أيضًا أهمية التخلص من بقايا الدين واللاهوت والميتافيزيقا، وإلا بقي الاضطراب في العقول؛ لأن العقل الذي يريد أن يجمع بين الدين الممثل لمرحلة تاريخية سابقة، وبين العلم الممثل للعصر الوضعي لابد أن يحدث له اضطراب، والجمع بين النظام اللاهوتي والنظام الوضعي غير ممكن، وتعميم اللاهوت في عصر العلم غير ممكن أيضًا، فما بقي إلا تعميم الوضعي والتخلي عما سواه (¬1). وقد قبلت جموع غفيرة هذه الدعوة، وانتشرت الوضعية الكونتية في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، وتخيلت تلك الجموع أنها وجدت التفسير العلمي المناسب لتبرير تخليها عن الدين والاكتفاء بالعلم وآيدلوجيته الوضعية. وقد مدّت وضعية "كونت" أطرافها حتى بلغت إنجلترا أرض المذهب التجريبي وترعرعت على أيدي "جون ستيورات مل" و"هربرت سبنسر" (¬2)، وقد اشتهر الأول بوضعه تصورًا جديدًا لقواعد المنهج التجريبي الاستقرائي، واشتهر الثاني بجمعه بين الوضعية والتطورية، والجميع يزعم أنه يمثل في فلسفته وفكره روح العلم الجديدة بما في ذلك إصرارهم على رفض الدين والغيب (¬3). . . . وانتهى القرن الثالث عشر/ التاسع عشر على وضعيات كثيرة ذات صلة بوضعية كونت، ومما يجمعها اعتماد الحس في المعرفة والإلحاد في الموقف من الدين وتنقية العلم كما يقولون مما يُدخله بعض الناس إليه من أوهام لاهوتية أو ميتافيزيقية، ومنهم من تفرغ لجمع "حجج تشير إلى أن العلم يؤدي ضرورة إلى ¬

_ (¬1) انظر: منهج البحث الاجتماعي، السابق ص 45، وانظر: الإيمان والمعرفة والفلسفة، د. محمَّد حسين هيكل ص 66 وما بعدها. (¬2) انظر: نحو فلسفة علمية ص 49. (¬3) من هؤلاء من جمع بين ما ظاهره التعارض مثل الجمع بين المادية والوضعية والحسية عند "سبنسر" وبين الإقرار بأهمية الدين، انظر: موجز تاريخ الفلسفة ص 506.

الوضعية المنطقية في القرن الرابع عشر/ العشرين

نبذ الدين بتشديده على أزلية المادة وانعدام الغائية في الطبيعة" (¬1). الوضعية المنطقية في القرن الرابع عشر/ العشرين: ظهرت التجريبية الحسية في القرن الرابع عشر/ العشرين بصورة جديدة وفي مدرسة مشهورة هي الوضعية المنطقية فأما الوضعية فبنفس دلالات المصطلح في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، وأما المنطقية فلأنها جعلت مجال اهتمامها هو تحليل اللغة ذاتها، بالنظر إلى الكلام وتحليل ألفاظه وعباراته، هل هو علمي وضعي أم لا. وقد كانت إحدى أشهر فلسفات العلم، وبعض أعمالها ذات امتداد للمذهب التجريبي والوضعي السابق، وبعضها جديد يناسب المرحلة الجديدة، وهي مذهب ملحد على مستوى العقائد (¬2)، ومذهبٌ عقيدته الإلحاد لن تعدم آثار هذا الاعتقاد على فلسفته، لاسيّما وهو يجعل من نفسه تابعًا للعلم وخادمًا له بما يقدمه من تحليلات منطقية، وهو مهموم في كل ذلك باستبعاد ما يشتم منه الدين أو اللاهوت أو الميتافيزيقا. تعد "الوضعية المنطقية" إحدى فلسفات القرن الرابع عشر/ العشرين المشهورة، وهم أشهر وريث للوضعية في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، والأب الروحي لهذه الجماعة هو "إرنست ماخ" وقد كان من أهم نشاطاته الفكرية العمل "على تنقية النظريات العلمية من الميتافيزيقا"، وكان أستاذًا في جامعة فيينا، وخلَفه على كرسيه "شليك" الذي نجح في جذب مجموعة من المهتمين بالعلم وعندهم اطلاع على الفلسفة، ليشكلوا فيما بعد "جماعة فيينا"، وكان "شليك" على خط "ماخ" خاصة لجهة استبعاد الأفكار الميتافيزيقية من العلم. . . ." (¬3) وقد أصدرت الجماعة بيانًا تزعم فيه تمثيلها للعلم، وعنايتها به، لاسيّما أن أعضاء الجماعة من المتخصصين في العلوم؛ فهم أدرى الناس بهذه العلوم وهم أحق الناس برسم فلسفتها واستخراج رسالتها. عنوان البيان "فهم علمي للعالم" ذكروا فيه أن ما يجمعهم "استبعاد ¬

_ (¬1) العلمانية من منظور مختلف، د. عزيز العظمة ص 34. (¬2) انظر: موسوعة الفلسفة، د. عبد الرحمن بدوي 1/ 221. (¬3) رودولف كارناب. نهاية الوضعية المنطقية، وداد الحاج ص 41، نحو فلسفة علمية ص 60 - 63.

مبدأ التحقق

الميتافيزيقا من كل فرع من فروع المعرفة يُراد له أن يكون علمًا" (¬1)، وعرضوا العلوم الأساسية وما تحويه من إشكالات ميتافيزيقية تحتاج إلى استبعاد، وهذه العلوم هي: "الفيزياء والأحياء والسيكلوجيا والعلوم الاجتماعية" (¬2). تقوم مهمة الفلسفة العلمية عند أصحاب الوضعية المنطقية على تحليل موضوعات العلوم وقضاياها، والقضية العلمية ذات المعنى هي المعبرة عن الواقع الحسي، ومن العبث عندهم إطلاق اسم العلم على ما يتجاوز موضوعه نطاق المعطيات الحسية (¬3). والعلم بموضوعاته ومفاهيمه ونظرياته هو الخاضع لمبدئهم المشهور: "مبدأ التحقق" القائم على المطابقة بين الكلمة والمقابل الواقعي لها (¬4)، بحسب آليات ومناهج مقترحة لذلك، فما قبله المبدأ كان علميًا وما لم يقبله لم يكن علمًا، ويكون هذا المبدأ أداة التنقية المفضلة لديهم. مبدأ التحقق: وقد لقي مبدأ التحقق نقدًا شديدًا من أطراف مختلفة كان أشهرها ما قام به فيلسوف العلم المعاصر والصديق لأعضاء الحلقة "كارل بوبر" مما دفع بـ"كارناب" أحد أهم ممثلي الجماعة إلى القيام بإجراء تغييرات لهذا المبدأ بين فترة وأخرى. ومع أن "الوضعية المنطقية" قد ضعف شأنها الآن إلا أن الدور الذي قامت به كان له أثره في تعكير مسيرة العلم المعاصر، ومثّل ذاك الدور استمرارًا للانحراف بالعلم حيث كانت ترى أن أهم الواجبات الفكرية المنوطة بها هو تخليص العلم والفكر من الميتافيزيقا والأفكار الدينية واللاهوتية، وبالرغم من الاختلافات المنهجية بين أعضاء الحلقة، إلا أن ما كان يجمعهم هو الحرص على إلغاء الميتافيزيقا، وبناء منهج عام يخلص الناس من الغيبيات والدين والميتافيزيقا. وكل عاقل لا يعترض على أهمية التنقية في أي باب من الأبواب، وكما ¬

_ (¬1) المرجع السابق، وداد ص 39 وللبيان ترجمة في آخر الكتاب المذكور ص 261. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 41 - 43. (¬3) انظر: المفارقات المنهجية في فكر زكي نجيب محمود، أسامة الموسى ص 10 - 12، الأسس الميتافيزيقية للعلم، د. حسين علي ص 65. (¬4) انظر: المفارقات المنهجية السابق ص 28.

قلنا في التفريق بين مفهوم الاستثمار والاستغلال في أثناء الحديث عن التيار المادي، فإننا نفرق هنا بين التنقية النافعة ذات المقصد النبيل وبين التنقية الضارة التي قام بها هذا التيار الملحد، وكما أن هؤلاء الملاحدة قد دفعهم إلحادهم إلى الدفاع عن إلحادهم وتنقية أهم فعاليات المجتمعات المعاصرة من كل مفهوم ديني فإن الواجب على أهل الإِسلام عكس ذلك وأن يدفعهم دينهم إلى تنقية العلوم المعاصرة من أمراضها لصالحهم ولصالح المجتمعات المعاصرة. وإذا أردنا أن نعرف خطورة مرادهم من التنقية فعلينا النظر في بعض تحليلاتهم المنطقية، فمما أوصلهم إليه تحليلهم "الوضعي المنطقي" إلى أن ألفاظ: الدين، واللاهوت، والميتافيزيقا، تتصف بأمرين: أنها "تافهة" و"بدون معنى" (¬1). فإنك إن قلت كلمة مثل "الروح" فليس لها معنى عندهم، وبما أنه لا معنى لها فهي كلمة تافهة. ومن بين الكلمات التي ترى الوضعية بأنها ميتافيزيقية وغير علمية كلمة "الله" تعالى الله عن إلحاد الملحدين، فهي عندهم كلمة ميتافيزيقية لا تخضع لمعيار التحقق، ولذا فهي دون معنى ويجب استبعادها، وفي ذلك يقول برينتون عنهم: إنك "إذا قلت: "الله موجود" فإنك تكون قد صنعت قضية من النوع الذي يتعذر على الوضعيين المناطقة تصنيفها كقضية تدخل في إطار "المعرفة"، ويعتبرون هذا النوع وغيره مضيعة للوقت" (¬2). نصل الآن إلى نهاية هذا المحور، وخلاصته بأن التيار التجريبي وعبر آليات مختلفة قد أسهم بدوره في الانحراف بمسيرة العلم، تمثّل أولًا في جعل الحسّ هو المعيار للمعرفة العلمية وللحقيقة والصدق مما ضخم من دور الحسّ في المعرفة على حساب الغيب. وتمثّل ثانيًا في استبعاد الدين تمامًا من مجال الحقائق فحرموا الفكر والعلم من الصلة بالدين؛ فإن العلوم والأفكار إن انطلقت دون الدين يكون فسادها أكثر من صلاحها كما سيأتي بيانه في مباحث قادمة، كما أنهم ربطوا السعادة والتقدم بالعلوم الدنيوية والسيطرة على الطبيعة، أما الدين والفن والأدب؛ ففي سلة واحدة، سلة الوجدان وبعضها يعطينا المتعة فقط. ¬

_ (¬1) انظر: رودولف كارناب، السابق ص 90 - 90، وانظر: الأسس الميتافيزيقية للعلم ص 62. (¬2) تشكيل العقل الحديث، كرين برينتون ص 347، وانظر: مشكلة الفلسفة، د. زكريا إبراهيم ص 110.

الخامس: دور اليهود

وتمثّل أخيرًا في دور "التنقية" وهي آلية حرص من خلالها الوضعيون على استبعاد كل ما هو غيبي تحت شعار تنقية العلم، فقد كانت التنقية واحدة من وسائل الانحراف بالعلم، كما كانت آلية "الربط والتعميم" وسيلة الماديين في الانحراف بالعلم، وهما تياران متقاربان فعملية التنقية تخدم أصحاب التعميم؛ لأنها تبعد كل ما هو ديني أو مثالي من العلم ليبقي ماديًا صرفًا عندها يأتي دور الماديين لاستثماره عن طريق التعميم. الخامس: دور اليهود تتحدث أغلب الدراسات الحديثة عن دور الكنيسة في إفساد العلاقة بين الدين والعلم مع العلم بأن النصرانية لم تكن الدين الوحيد في أوروبا آنذاك وقت المستجدات العلمية في أوروبا، بل كان هناك أيضًا اليهودية واليهود، وتساؤل هذا الفقرة: يا ترى ما الدور الذي قام به اليهود في مسيرة العلم الحديث؟ وبما أن مهمة هذا الفصل هي البحث في أسباب انحراف مسيرة العلم دون البحث في أسباب تقدمه، فإن هذه المهمة تحصرني في حقيقة الجانب السلبي من أتباع هذه الديانة، ومقارنة ذلك الأثر بما قامت به الكنيسة. وحتى نحقق ذلك فنحن في حاجة لبحث طبيعة الوجود اليهودي في أوروبا النصرانية. عندما اعتنقت أوروبا الدين النصراني المحرف دخلها اليهود في ظل التشريد الذي ظلّ يلاحقهم سنين كثيرة، وكانوا ينقسمون إلى قسمين (¬1): "الإشكناز" في شمال وشرق أوروبا وكان من معاقلهم ألمانيا وما حولها، والقسم الآخر "السفارديم" في حوض البحر الأبيض المتوسط، وكان أهم مركز لهم بلاد الأندلس، أما وسط وغرب أوروبا فكان وجودهم فيها محدودًا، وفي بعض المراحل يحدث لهم إجلاء لدرجة أن كلًا من بريطانيا وفرنسا كانتا خاليتين منهم نهايات الرابع عشر الميلادي "8 هـ" (¬2)، ولكن بعد سقوط بلاد الأندلس المسلمة ¬

_ (¬1) انظر حول القسمين، الفكر الديني اليهودي. أطواره ومذاهبه، د. حسن ظاظا ص 202 - 204. (¬2) كان ذلك بعد الجلاء الكبير الذي قام به ملوك أوروبا بدايةً بملك فرنسا ثم تبعه ملك إنكلترا وقلدهم في ذلك بقية ملوك أوروبا، انظر: اليهود وراء كل جريمة، وليم كار ص 64 - 66.

بيد النصارى، وظهور محاكم التفتيش هرب أكثر السفارديم إلى داخل أوروبا أو إلى أجزاء من تركيا الحالية، أو إلى شمال أفريقيا ومصر وغيرها، ولأسباب كثيرة من بينها حاجة ملوك أوروبا للمال أُعيد الاعتبار لبعض اليهود لقدرتهم في تحصيل المال. وقد حمل الهاربون من الأندلس إلى داخل أوروبا ثروة علمية حصلوها من عيشهم داخل الحضارة الإِسلامية، وثروة مالية جمعوها من حاضرة الأندلس، وبهاتين الثروتين أسس اليهود قاعدة تغلغلهم في المجتمعات الأوروبية (¬1). وبدأت عندها أوروبا النصرانية تتعرف بصورة أوضح على اليهود مع العلم بأن الاحتكاك بين الديانتين قديم، ويكفي أن نتذكر بأن النصرانية الموجودة في أوروبا يعود أمرها إلى صياغة "بولس" اليهودي الذي تحول كما يزعم إلى النصرانية وكوّن صورة جديدة للنصرانية قبلها فيما بعد القادة الدينيون للنصرانية (¬2). ظهر اليهود على السطح الأوروبي في مرحلة المخاض الأوروبي العسير، الذي انتهى بحركة الإصلاح الديني -وهو في الحقيقة محاولة فقط لإصلاح طغيان الكنيسة، أما الدين فلم تُصلحه تلك الحركة- وقد تأثر اليهود بهذه الحركة أيضًا، فظهرت حركة إصلاح يهودية مشابهة لتلك النصرانية (¬3)، وبدأت بعدها تلك الجماعات اليهودية تنخرط في المجتمع الأوروبي، ولم تتغير الصفات المعهودة عنهم من التعالي على الآخرين كونهم يرون أنفسهم شعب الله المختار، ومن انهماكهم في جمع المال وحرصهم على المادة واستحلال استغلال الشعوب المخالفة لهم مما جعلهم مبغضين في المجتمعات التي يعيشون فيها، إلا أن المال الذي بين أيديهم قد جذب الناس إليهم. وقد كان هذا من بين أهم الأسباب للنكبات التي تحلّ بهم ما بين فترة وأخرى (¬4). في وضع كهذا فلا يتصور أن يكون لليهود أثر ظاهر في حركة المجتمع ¬

_ (¬1) انظر: الصهيونية المسيحية، محمَّد السماك ص 33. (¬2) انظر: المسيحية، د. أحمد شلبي ص 111 وما بعدها ولاسيّما ص 129، وانظر: بولس وتحريف المسيحية، هيم ماكبي، ترجمة سميرة عزمي، وهو من بين الكتب المشهورة في مناقشة هذا الموضوع. (¬3) انظر: مقدمة في علم الاستغراب، د. حسن حنفي ص 170 - 171. (¬4) انظر مثلًا: الماسونية ذلك العالم المجهول، د. صابر طعيمة ص 343 - 346.

الأحداث الثلاثة التي مكنت لليهود في الفكر الحديث

الغربي بما في ذلك تلك المستجدات على مستوى الحركة العلمية، فهم في وضع غير مستقر، وقد كان رواد الاتجاهات العلمية الجديدة من معتنقي الدين النصراني، وبعضهم من رجال الكنيسة من "كوبرنيكوس" و"كوبر" و"جاليليو" إلى "نيوتن"، ولذا سيتأخر أثرهم في العلاقة بالعلم إلى وقت لاحق عند تقبل المجتمع الأوروبي لهم فيما بعد. الأحداث الثلاثة التي مكنت لليهود في الفكر الحديث: أثناء فترة الثورة العلمية وقعت ثلاثة أحداث مهمة ساعدت في بروز اليهود كطائفة فاعلة في المجتمع الأوروبي على مستوى الفكر والعلم وحياة المجتمع الغربي، هذه الأحداث الثلاثة هي: أولًا: النقد الجذري للتوراة كتاب اليهود المحرف الذي قام به الفيلسوف اليهودي "إسبينوزا"، وثانيًا: الدعوة الجديدة التي أطلقها "موسى مندلسون" حول خروج اليهود من الجيتو، والاختلاط والتعايش مع مجتمعات البلدان التي يعيشون فيها، وأخيرًا: الثورة الفرنسية. 1 - الحدث الأول: ما قام به إسبينوزا (1632 - 1677 م) فهو أحد أشهر فلاسفة العصر الحديث، تأثر بديكارت، من أسرة مهاجرة من الأندلس بعد سقوطها، كان والده يُعدّه ليكون رجل دين، لكنه انصرف عن ذلك لدرجة أن طُرد من طائفته اليهودية، بسبب أفكاره الجديدة ونقده الشديد للتوراة. ويعدّ إلى الآن أحد الرموز التي يرجع إليها فلاسفة اليهود وعلماؤهم، فضلًا عن تأثيره في الفكر الغربي الحديث عمومًا. الشيء الجديد الذي قام به إسبينوزا وصدم أوروبا كاملة هي صورة النقد التي طبقها على كتب مقدسة عندهم، ممهدًا بذلك لمدارس النقد الديني، ونزع بذلك قداسة تلك الكتب، وأثبت بطلان نسبتها إلى موسى عليه الصلاة والسلام، وبيّن ما فيها من إضافات أو تناقض أو أخطاء في كتابه المشهور: "رسالة في اللاهوت والسياسة" (¬1). وإذا كانت الثورة العلمية قد شككت في بعض ما يرد في كتبهم المقدسة فإن عمل إسبينوزا يشكك في تلك الكتب جملة، وليس في بعض معلوماتها فقط، وقد بين تعاقب الأيدي في تشكيلها وكتابتها. ومنذ أن اعتنقت ¬

_ (¬1) قام الدكتور حسن حنفي بترجمته للعربية مع مقدمة طويلة، وراجعه د. فؤاد زكريا وصدر عن الإنجلو المصرية.

أوروبا النصرانية وتعرفت على اليهودية، إلا أنها لم تعرف في تاريخها مثل هذا النقد الذي قدمه إسبينوزا. ومن المفيد هنا أن نتذكر بأن ما أصاب فيه "إسبينوزا" لم يكن مجهولًا في البلاد الإسلامية؛ فإن أسرته قد كانت من أهل الأندلس، وكتاب "الفصل" لـ"ابن حزم" بنقده التاريخي، مما هو مبثوث في فضاء الأندلس الثقافي والعلمي (¬1)، وقد كان ذلك النقد وغيره مما يعرفه اليهود، وربما تناقله بعضهم وكوّن ذلك منطلقًا مهما للعمل الذي حققه إسبينوزا بعد إضافة المنهج الديكارتي عليه. هذا ويُعد "إسبينوزا" أحد الديكارتيين الكبار نسبة إلى "ديكارت" أحد أشهر صانعي الخط المنهجي في الفكر الغربي الحديث (¬2)، إلا أن ما أضافه على أستاذه ديكارت، وبقي ذلك ممتدًا إلى عصرنا الحاضر مذهبه في وحدة الوجود، والذي يرى فيه بأن الطبيعة هي الجوهر الوحيد، إلا أن هناك طبيعة طابعة خالقة وطبيعة مطبوعة مخلوقة، والطبيعة علّة ذاتها لا تفتقر في وجودها إلى كائن آخر، وبهذا يحلّ الإله في الطبيعة (¬3). وهذا الاعتقاد بوحدة الوجود نراه في بعض علماء أوروبا المعاصرين كعالم الفيزياء اليهودي إينشتين (¬4) الذي يعيد صلته باسبينوزا، وكذا نجده مع عالم النفس اليهودي فرويد. وكأن اليهود قد وجدوا لهم مرجعية يهودية كبيرة داخل الفكر الغربي الحديث ينتسبون إليها. ¬

_ (¬1) ممن ألمح لذلك الدكتور سفر الحوالي في مقال له بمجلة "البيان" بعنوان: مقدمة في تطور الفكر الغربي والحداثة، عدد محرم (198) (1425 هـ)، ومن بين أهم الكتب الإِسلامية في الموضوع كتاب: الفصل لابن حزم، والجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية، وهي أقدم بكثير من عمل إسبينوزا. (¬2) انظر: الفصل الأول، ويعد أحد أشهر دعاة وحدة الوجود، فقد قال بأن الجوهر الفرد الموجود في جميع الأشياء هو (الله) وعرّف هويته بالطبيعة، وهذه الحلولية قد عُرفت سابقًا مع أحد رموز الحركة الفكرية والعلمية الحديثة وهو "برونو" ثم جددها "إسبينوزا" وزاوج بينها وبين المذهب الميكانيكي الجديد، انظر: تاريخ الفكر الأوروبي الحديث، سترومبرج ص 80، ترجمة أحمد الشيباني. (¬3) انظر: موجز تاريخ الفلسفة، لجماعة من السوفيات وترجمة د. توفيق سلوم ص 171، وانظر: مذهب إسبينوزا في الطبيعة الطابعة والمطبوعة، كتاب: جورج طرابيشي: نقد نقد العقل العربي، نظرية العقل ص 208 وما بعدها. (¬4) انظر: رؤية أينشتين لليهودية ودولة اليهود، د. عفيف فراج ص 28 وما بعدها، أما فرويد فسيأتي آخر هذا المبحث.

لقد مثلت صورة "إسبينوزا" في المخيلة اليهودية الحديثة مرجعية للثورة ونبذ الماضي والدعوة للإلحاد، وتجاوز أثره إلى الفكر الغربي الحديث عمومًا، وحوّل إسبينوزا اليهود من أقلية لا شأن لها في مجال الفلسفة والفكر إلى أقلية فاعلة فكريًا، إلا أن هناك عائقًا يمنع تواصل اليهود مع غيرهم، تمثل من جهة في حرص اليهود على الاستقلال الذاتي في مجمعات خاصة بهم، وفي الوقت نفسه كانت أوروبا تبغض اليهود وتحتقرهم وتقصيهم؛ بسبب بعض أعمالهم وأخلاقهم فزاد ذلك من عزلتهم الذاتية والشعورية، إلى أن جاء موسى بن مندلسون بدعوته لفك هذه العزلة. 2 - الحدث الثاني: دور الإصلاحيين أو المجددين "موسى مندلسون" (1729 - 1786 م): ترتبط حركة الإصلاحيين بحركة قديمة تتمثل في التصوف اليهودي "الحسيديم" التي انتعشت في أوروبا "منتصف القرن الثامن عشر على يد حاخامين من المتبحرين في الطرق الصوفية السرية الباطنية "القبالة". .". وفي هذا الوقت ومع التحولات الكبيرة في العلم والفكر في أوروبا بدأ بعض الشباب اليهودي يأخذ نصيبه من العلوم الحديثة والأفكار الجديدة، ليكونوا تيارًا جديدًا أطلق عليه "الهسكالاه" أي التفهم واليقظة والنهضة. ومن داخل الهسكالاه انبثقت حركة الإصلاحيين على يد "موسى مندلسون" وكان من بين آرائه التي أسهمت في دمج بعض اليهود بالمجتمع الأوروبي: يجب على اليهود الاندماج والخروج من الجيتو، فكن يهوديًا في بيتك وإنسانًا خارج بيتك، وعُدَّ نفسك مواطنًا في البلد الذي تعيش فيه، وتحدث بلغة ذلك البلد (¬1) وقد قام أتباعه ومريدوه بتغييرات كثيرة على الشرائع والطقوس القديمة، لكي يعطوا للدين اليهودي صورة إنسانية ووطنية تساعدهم في الاندماج بغيرهم (¬2). ومع أن هذه الدعوة نجحت في دمج طوائف من اليهود باللحمة الغربية، إلا أن انتماءَها للفكر الباطني الصوفي جعل منهم فئة أقرب للإلحاد والزندقة ¬

_ (¬1) انظر: الفكر الديني اليهودي، د. حسن ظاظا ص 264 - 265، وانظر: مفهوم تجديد الدين، بسطامي سعيد ص 208 وما بعدها. (¬2) انظر: الفكر الديني اليهودي ص 266.

والانحلال والتفلت من شرائع الأديان وتلونها عند الحاجة، وكما يقول "دافيد باكان": "مهدت الساباتية في بداياتها، التي كان من المفروض أن تتحول إلى حركة إصلاح وليبرالية، ليهود الغيتو طريقًا أوليًا إلى التيارات الكبرى في الحضارة الغربية. فرض هذا الطريق على اليهود قطعًا سريعًا ودراماتيكيًا مع تراثهم القديم، ورفضًا ليهوديتهم. أما مع الهاسيدية فكان الانتقال أكثر بُطءًا وانتظامًا، مما سمح للتراث اليهودي بالتكامل مع الحضارة الغربية" (¬1)، وهكذا كان التيار اليهودي المنفتح على أوروبا مغرقًا في انحرافاته الذاتية قبل أن ينفتح على غيره؛ ليسهم بانحرافاته في توسيع دائرة الانحراف في الفكر الغربي الحديث وبنية مجتمعه، كما أن هذه التيارات المنفتحة ستكون مصدر التلقي لعلماء يهود يبرزون فيما بعد، تؤطر وجهة نظرهم للوجود والحياة والعلاقة مع العلم والفكر. 3 - الحدث الثالث: الثورة الفرنسية (1789 م): جاءت الثورة الفرنسية بعد حركة التنوير المشهورة التي أثرت في فرنسا، وفي الفكر الغربي عمومًا، وممن تأثر بحركة التنوير طائفة من اليهود مثل جماعة "الهكسالا"، واخترقهم خيار العلمنة مشاركين في ذلك الأوروبيين المتأثرين بالعلمنة. على أن العلمانية تُعدّ مدخلًا مهمًا لتغلغل اليهود في المجتمعات الأوروبية، وسيكون لهذا الجيل اليهودي العلماني دورٌ كبيرٌ في مستقبل اليهود ليس في أوروبا فقط، بل في العالم كله، مع أن هذا التيار العلماني سيفتح مشكلة شائكة داخل اليهود تمثل ذلك في انقسامهم إلى اتجاهين كبيرين (¬2)، وهما الاتجاه المتدين الرافض للعلمانية، والاتجاه العلماني الرافض لسيادة الدين والداعي إلى قيام نظام علماني لا ديني وهو الذي نجح في النهاية بعد أن ساند ¬

_ (¬1) فرويد والتراث الصوفي اليهودي، دافيد باكان ص 99، ترجمة د. طلال عتريسي، و"الساباتية" نسبة إلى "ساباتي زيفي" من مهاجري إسبانيا، له أثر في تيار الباطنية اليهودي، وله ادعاءات كثيرة، تنقل في أوروبا، وأعلن إسلامه في تركيا وعين مساعدًا للسلطان، وله أحداث أخرى، وقد انتشرت طائفته في أوروبا لاسيما في مهاجري الأندلس، انظر: المرجع نفسه، الفصل الرابع عشر ص 85، وأما "الهاسيدية" فأسسها "بال شم" أول الثامن عشر، ذات نزعة صوفية باطنية تمثل امتدادًا للحسيديم السابق ذكرهم، انظر: نفس المرجع، الفصل السادس عشر ص 96، وانظر: كتاب حسن ظاظا ص 264 مع التنبه إلى اختلاف الكتابين في ترجمة اسم المؤسس. (¬2) انظر: إشكالية الهوية في إسرائيل، د. رشاد الشامي ص 13.

الثورة الفرنسية. لقد قامت الثورة الفرنسية على شعارات "الحرية والمساواة والإخاء"، ونتج عنها إعلان وثيقة حقوق الإنسان، ونجحت في تحقيق أهدافها السياسية، وفي الوقت نفسه حققت الثورة لليهود مبتغاهم في التغلغل داخل المجتمع الغربي من خلال مبدأ المساواة وحقوق الإنسان. لقد موّل يهود فرنسا الثورة بواسطة الاستعانة بأغنيائهم من خارج فرنسا (¬1)، وأسهم مجموعة من أعضاء "الماسونية" وجمعية "بناي برث" اليهوديتين في صياغة الدستور الجديد "ففي الاجتماع الذي عقد في (23) أغسطس سنة (1789 م) لوضع الدستور الجديد كان هناك 300 عضو ماسوني أغلبهم من جمعية بناي برث اليهودية" (¬2). وبهذا أصبح لليهود حق الوجود والنشاط الحر كغيرهم من الشعب الأصلي، ثم امتدت آثار هذه الثورة إلى بقية بلدان أوروبا، في مدّ وجزر، ما بين انفتاح على اليهود وفتح المجال لهم وما بين فترات تضييق، كالذي حدث في ألمانيا بداية القرن العشرين، إلا أنه في الجملة قد أصبح لليهود شأن كبير في الغرب بكامله، وبمقارنة أحوالهم من بدايات تشردهم من الأندلس بحالهم اليوم، وهم يمثلون قوّة فاعلة في العالم، ولهم دولة معترف بها من قبل الأمم المتحدة، ندرك مدى النجاح الكبير الذي حققه اليهود لأنفسهم في العالم. ولا شك أن طائفة كهذه صنعت لنفسها وجودًا عالميًا، لابد أن يكون لها مشاركة في مسارات أخرى كالفكر والعلم والأدب والفن وغير ذلك، ومن المعلوم بأن المجموعات المتدينة فيهم لم تصنع هذا الوجود الفعلي القوي لليهود بقدر ما صنعته طوائفهم العلمانية، وبمشاركة جمعياتهم العالمية المشهورة كالماسونية وبناي برث والصهيونية والروتاري وغيرها. فإن بحثنا عن نقطة الانعطاف الحقيقية وجدناها "الثورة الفرنسية" التي كانت "حدثًا ضخمًا في حياة أوروبا دون شك، لا للأسباب التي يدرسونها للأولاد في المدارس، ولكن لأسباب أخرى أخطر وأهم. . فقد أطلقت يد اليهود لتحقيق مخططاتهم الشريرة بصورة لم تكن متاحة لهم من قبل في عهد الإقطاع. . فقد ولد من جراء الثورة ¬

_ (¬1) انظر: خطر اليهودية العالمية على الإِسلام والمسيحية، عبد الله التل ص 189 لاسيما الأسرة اليهودية الثرية "روتشيلد"، انظر: اليهود وراء كل جريمة، وليم كار، ص 85. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 153.

يهودي دون ديانة يهودية!

الفرنسية، والثورة الصناعية التي كانت الأولى تحضيرًا وتمهيدًا لها، مجتمع جديد كل الجدة عن المجتمع الإقطاعي، استطاع اليهود أن يعيثوا فيه فسادًا بكل قوتهم؛ لأنه ولد في أيديهم من اللحظة الأولى، فاستطاعوا أن يشكلوه على النحو الذي يريدون" (¬1)، وأن يتسلموا قيادة المجتمع الأوروبي مع أمثالهم، ووضعوا هذا المجتمع بين "ذراعي كماشة هائلة تعصره عصرًا وتفتت كيانه وتحيله كيانًا ممسوخًا مشوهًا بلا قوام! إحدى ذراعي الكماشة كانت نظريات "علمية! " زائفة، تحارب الدين والأخلاق والتقاليد من كل زاوية مستطاعة، تحتوى -لا شك- على شيء من الحق، ولكنها تلبس الحق بالباطل على ديدن يهود من أول التاريخ: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)} [البقرة: 42] {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)} [آل عمران: 71] وكان أبرز "الأبطال" في هذه المعركة ثلاثة من "أساطين" اليهود هم ماركس وفرويد ودركايم. ." (¬2)، حيث تفننوا في استخدام هذه النظريات العلمية في الاعتراض على الدين والقيم والأخلاق، ونشر مفاهيم جديدة خدمت الإلحاد والفساد القيمي والأخلاقي. يهودي دون ديانة يهودية! من المفارقات حول طبيعة مشاركة اليهود الأوروبيين في الفكر الحديث أنه كيف يجمع مثل هؤلاء بين يهوديتهم من جهة، وبين تمثلهم للروح العلمانية اللادينية، بل قيادة بعضهم لدعوات إلحادية صريحة! فأغلب الجمعيات اليهودية الكبرى في الغرب، التي حمت اليهود وساعدتهم على التغلغل في أوروبا هي جمعيات ظاهرة العلمنة واللادينية، ولا تحرص على العقائد اليهودية بقدر ما تظهر الحرص على حماية ودعم اليهود؛ أي: أن ما يهمها هو الانتماء لشعب اليهود لا الديانة اليهودية، وازداد ذلك مع انتشار الفكر القومي في النصف الثاني من القرن الثالث عشر/ التاسع عشر في أوروبا. وبسبب ذلك فإنك لا تستغرب وجود ملحد، ولكنه حريص على انتمائه ¬

_ (¬1) مذاهب فكرية معاصرة، محمَّد قطب ص 90. (¬2) المرجع السابق ص 91، والذراع الأخرى هي: الواقع المتفلت من الدين والقيم عن طريق مفتاح مهم هو إفساد المرأة.

اليهودي ودفاعه عن اليهود ومحاولاته استثمار أي مدخل لإضعاف خصوم اليهود من الأميين (¬1)، ويظهر ذلك في جمعياتهم العلمانية، إذ هي تسعى إلى استثمار كل فرصة لإضعاف المجتمعات الأخرى أو محاولة السيطرة عليها، وفي الوقت نفسه تدفع باليهود إلى مقدمة الصفوف، وهو أمر غير مستغرب لطائفة متماسكة نوعًا ما، وترى أن ذلك حقٌ مشروعٌ لها كغيرها من الطوائف. وقد ساعدهم على ذلك تخلي أوروبا تدريجيًا عن دينها، مما جعل اليهود يستثمرون انصراف طوائف كثيرة من المجتمع الغربي عن النصرانية؛ ليمكنوا لأنفسهم في الغرب، يضاف لذلك أن قدرات اليهود المالية غير مجهولة عبر أثريائهم المرابين والجامعين للمال بكل صوره غير المشروعة، وهو أمر يشترك فيه متدينهم وملحدهم، إذ لا يرون في ذلك بأسًا مع غير اليهود، وهم أيضًا مغرقون في المادية وأخلاق الطامعين بالدنيا لاسيّما وعقيدة اليوم الآخر عندهم ضعيفة (¬2). وقد أثارت هذه المسألة صراعًا عند اليهود، بين المتدينين منهم والعلمانيين، بدأ داخل أوروبا وما زال موجودًا في دولتهم التي أقاموها (¬3)، لاسيّما إذا كان العلمانيون هم من أقام دولتهم اليهودية، وأحد رؤساء دولتهم كان ملحدًا "بن غوريون" (¬4)، ويظهر أنه لضعف القيمة الحقيقية للمبادئ منذ القدم عند اليهود قد وجد أكثرهم المخرج من ذلك التناقض في التفريق بين الانتماء اليهودي، وهو المهم، والاعتقاد الديني الذي يسلكه اليهودي حتى وإن كان مذهبه الإلحاد، فيقدم الانتماء على الاعتقاد، وهو أمر غير مستغرب في قتلة الأنبياء، وعباد الذهب والمال أن يكونوا قابلين للتشكل بحسب الوضع الاجتماعي الذي هم فيه، ولكن يبقى المهم عندهم أن الجميع يخدم الوجود اليهودي وفي الوقت نفسه يدمر خصوم اليهود. ¬

_ (¬1) يطلقون اسم الأميين على غير اليهود كما ذكر الله ذلك عنهم في القرآن، والأمميين كما في كتبهم الحديثة. (¬2) انظر: مبحث دور اليهود في إفساد أوروبا (مذاهب فكرية معاصرة)، محمَّد قطب ص 79 وما بعدها ولاسيّما ص 166 - 177. (¬3) من أفضل من وجدته بحث هذه القضية الدكتور رشاد الشامي في كتابه: إشكالية الهوية في إسرائيل، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، برقم (224). (¬4) انظر: صراع مع الملاحدة حتى العظم، عبد الرحمن الميداني ص 218 - 219.

لقد سمح هذا المخرج لجميع أو أغلب طوائف اليهود بالنشاط والعمل من أجل خدمة الوجود اليهودي دون أن يصل ذلك إلى صدام وتشتت للجهود، ولا شك أن وجود جمعيات كبرى في العالم تخدم هذا الغرض هو مما سهل جمع مثل هذه الجهود المتناقضة لخدمة هدف واحد. ومما يلفت النظر هنا بأن أهم علماء القرن الرابع عشر/ العشرين وأشهرهم "أينشتين" كان رغم مذهبه اللاأدري تجده "يطوف الولايات المتحدة ليجمع التبرعات لإسرائيل سنة (1948 م)، والذي ظل يتحدث في إذاعات أمريكا مدة أربع سنوات داعيًا إلى فكرة الصهيونية، وركب القطار قاطعًا المسافة عبر الولايات المتحدة ليجمع التبرعات والتأييد لإسرائيل، ملقيًا الخطب ومؤثرًا في سياسة أمريكا الخارجية، وضاغطًا على رؤسائها كي يساعدوا إسرائيل، حتى رأى قومه أن يعرضوا عليه رئاسة دولتها بعد وفاة حاييم وايزمان. ." (¬1)، وهو أهم ممثل للعلوم الطبيعية في القرن الرابع عشر/ العشرين، بينما نجد "فرويد"، بمثل العلوم الاجتماعية وبرغم إعلانه لإلحاده، لا يجد نفسه كما سيأتي إلا مع جماعة التحليل النفسي اليهودية أو مع جمعية "بناي بريث" إحدى أهم جمعيات اليهود في العصر الحديث. لقد كانت النشاطات الكبرى في مجالي الفكر والعلم بيد النصارى أو من كان ذا أصل نصراني إلى منتصف القرن التاسع عشر باستثناء "إسبينوزا"، ولكن بعد ظهور نظرية "داروين" التطورية وما تحويه من إيحاءات كبيرة حول مادية الإنسان وحيوانيته، انفتح الباب واسعًا لدخول قيادات فكرية وعلمية من الأصل اليهودي، وبدأت ثمار النشاط اليهودي تؤتي أكلها في نهايات القرن التاسع عشر وأغلب القرن العشرين. فإذا نظرنا في جانب الفكر والمذاهب الفكرية فإن أشهر تيارات الفكر كانت تتكئ على قيادات يهودية، ومن أهمها الماركسية نسبة إلى "ماركس" اليهودي، وقد كان لليهود نشاط كبير في الثورات الشيوعية التي قامت على الفكر الماركسي (¬2)، وبعده بقليل نجد الفرويدية، ونجد البرغسونية نسبة إلى الفرنسي ¬

_ (¬1) النبي موسى ورسالة التوحيد، فرويد، ترجمة ودراسة د. عبد المنعم الحفني، والنص من دراسة المترجم ص 10، وانظر: رؤية آينشتين لليهودية ودولة اليهود، د. عفيف فراج، الذي خصصه لهذه القضية. (¬2) بالرجوع إلى الإحصائيات نجد مدى تغلغل اليهود في الماركسية ودولتهم الشيوعية، فماركس يهودي، وبعد نجاح الثورة البلشفية الماركسية في روسيا عام 1917 م برزت =

اليهودي "برغسون". وأما في القرن الرابع عشر/ العشرين فنجد الفمنولوجيا مع "هوسرل" والوجودية مع "سارتر" وغيرهما من اليهود، ثم تأتي مدارس معاصرة مثل مدرسة فرانكفورت النقدية وأهم شخصياتها من اليهود، وفي البنيوية وما بعدها نجد "جاك دريدا" و"ألتوسير" و"شتراوس" وغيرهم من اليهود، ونجد في فلسفة العلم "كارل بوبر" وغيره، ونجد في العلوم الطبيعية والاجتماعية قيادات كبيرة مثل "أينشتين" و"فرويد" و"دوركايم" وغيرهم، ولولا خشية المبالغة لقلنا بأنه مع نهايات القرن التاسع عشر ومنتصف العشرين كانت القيادة الفكرية بيد اليهود (¬1). ورغم تباين اتجاهاتهم وإعلان أغلبهم لموقفهم الإلحادي الصريح، ومن ثمّ كانوا رأس حربة في إنكار الدين إلا في حالات نادرة، إلا أنه مع كل ذلك تجد هذه الهوية اليهودية التي تجمعهم، تلك التي يورّثها الأبوان (¬2) ويستنشقها الطفل اليهودي من بيئته اليهودية في طفولته وشبابه، وتبقى حيّة في وجدانه سواء أعلنها أم لم يعلنها. وبما أن أثر اليهود معلوم في مجال الفكر والأدب والفن وفي مجال ¬

_ = أسماء يهودية، فالمكتب السياسي القائد للثورة مكون من "لينين" غير يهودي و"ستالين" متزوج من يهودية و"تروتسكي" و"كامينيف" و"سوكولنكوف" و"زينوفيف" كلهم يهود و"يبنوف" الروسي. وكان مجلس إدارة الحرب والثورة مكوَّنًا من ستة يهود وعشرة من جهات أخرى. وبعد عام من الثورة كانت الدوائر الروسية مكونة مما يقرب من (532) مسؤول منهم (425) من اليهود، فالحكومة مثلا مكونة من (22) وزيرًا منهم (17) من اليهود، وإدارة الحرب مكونة من (43) منهم (34) من اليهود، ولجنة الشؤون الداخلية (64) منهم (45) يهوديًا، والخارجية (17) منهم (13) يهوديًا، والتوجيه العام (53) منهم (44) يهوديًا، وإدارة الأقاليم (23) منهم (21) يهوديًا، شئون الصحافة (42) منهم (41) يهوديًا، وهكذا، وكأنك في دولة إسرائيل الأولى في العصر الحديث. انظر: خطر اليهودية العالمية على الإِسلام والمسيحية، عبد الله التل ص 194 - 196، وقد كان أغلب المؤسسين للأحزاب الشيوعية العربية من اليهود، ولها فقرة في مبحث قادم. (¬1) انظر دراسة حديثة بعنوان: المكون اليهودي في الحضارة الغربية، سعد البازعي. (¬2) نتذكر في هذا المقام حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه؛ كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء"، البخاري برقم (1358) كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات. . . .، ومسلم برقم (2658) كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة. . . .

نموذج للدور اليهودي في الانحراف بمسيرة العلم الحديث

الاقتصاد والسياسة والإعلام والسينما والمسرح، فإن مما يعنينا في هذه الفقرة: هل كان لهذا التغلغل اليهودي في الحياة الغربية أثر في الانحراف بالعلم عن مساره الطبيعي؛ لاسيّما ونحن نجد رموزًا علمية كبيرة مثل أينشتين وفرويد ودوركايم في آخرين أقل شهرة وإن كانوا ذا مكانة في مجال تخصصاتهم العلمية، هل كان لمثل هؤلاء أثر في الانحراف بالعلم كأثرهم في تطوره، وما نوعه؟ وما صورته؟ وما حجمه؟ لو كان يكفي الاعتبار بدورهم في مجالات الفكر والأدب والفن والإعلام والاقتصاد والسياسة لما أشكل علينا إثبات انحرافهم وتأثيرهم؛ لأن حجم الفساد والانحراف الذي برز منهم في تلك المجالات أوضح من أن يُشكك فيه، وهم وإن شاركوا منحرفي أوروبا من النصارى والملحدين، إلا أنهم يزيدون درجة. ولكن في ميدان العلم قد يقال عنه بأنه من العسير عبث اليهود به، وحتى نرفع مثل هذا الوهم فسأختار نموذجًا علميًا يبين أثر يهودية العالم في توجيه علمه ونظرياته -فضلًا عن توجيه نظريات سابقة عليه- بما يخدم يهوديته الدينية أو القومية، وهذا النموذج سيكون أحد أشهر شخصيات القرن الرابع عشر/ العشرين في الغرب وهو عالم النفس اليهودي فرويد. نموذج للدور اليهودي في الانحراف بمسيرة العلم الحديث: إذا كانت أوروبا الوثنية قد اعتنقت من الأديان ذات الأصل السماوي النصرانية بعد أن تحرفت على أيدي أتباعها، ثم دخلتها الديانة اليهودية المحرفة وانتشر اليهود بكثافة في كثير من بلدان أوروبا، فإن لكل أتباع دين طريقتهم في التعامل مع العلم الحديث، تمثلت أولًا مع النصارى إبّان الثورة العلمية من خلال المواجهة التاريخية بين الكنيسة وأنصار العلم الحديث مما جعل الذاكرة الغربية الحديثة تربط عادة التخلف ومعاداة العلم بالكنيسة، في وقت كان أتباع الديانة اليهودية أقلية غير فاعلة، ولكن في نهايات القرن الثالث عشر/ التاسع عشر تحولت هذه الأقلية إلى مجموعة فاعلة ولكنها لم تتصادم مع العلم، بل حاولت الانخراط فيه واستثماره على مستوى الجماعة اليهودية بما يخدم وجودهم ومصالحهم، لاسيّما في الطائفة العلمانية منهم، وهذا أحد الفوارق المهمة بين أتباع الديانتين في الغرب.

وقد جاءت المشاركة اليهودية -سواء كان الانتماء لليهودية ديانة أو هوية قومية- بعد خروج نظرية "داروين" التطورية في علم الأحياء وامتدادها إلى مجالات أوسع من مجالات النشاط الاجتماعي، مما يمكن الحديث عن وجود جوّ ثقافي وفكري وعلمي عام مختلط بروح دارونية ذات الأصل المادي والنافية لكل ما هو غيبي والتي حولت الإنسان إلى صورة حيوانية تمارس صراع البقاء للحفاظ على نوعها (¬1). وقد كان هناك ثلاثة يهود -ماركس وفرويد ودوركايم- عاشوا في هذا الجوّ الداروني، واعتنوا بإيحاءات نظريته المصادمة للدين وبنوا عليها نظرياتهم الخاصة في مجال تخصصهم واهتماماتهم، وكونوا بذلك مذاهب فكرية مشهورة ما زالت آثارها قائمة إلى اليوم. كان من أهم ما تقرره النظرية الدارونية "حيوانية الإنسان وماديته"، وشيء كهذا يعطي إيحاءات خطيرة لمن أراد توجيهها في جانب الضلال، وتلك الإيحاءات الخطيرة تجاوزت الجماهير إلى العلماء من زمن داروين إلى وقتنا الحاضر (¬2). وأهم من أظهر الإيحاءات الخطيرة واستثمرها هم اليهود، فقد أنشؤوا "منها نظريات "علمية" اقتصادية ونفسية واجتماعية. . . . إلخ موجهة كلها لمحاربة الدين والأخلاق والتقاليد. ." (¬3)، وقد كان أبرز من استثمرها من اليهود واستغلها أبشع استغلال "ثلاثة من أكبر علمائها. . قاموا بصياغة الفكر الأوروبي كله في ميدان الاقتصاد وعلم النفس والاجتماع. . أخطر ميادين ثلاثة في عالم الفكر. . على أساس معاد للدين، بل محطم لكل مفاهيمه. أولئك هم: ماركس -فرويد- ودوركايم" (¬4)، ومن أهم ما ميّز هؤلاء الثلاثة على من سبقهم بأنهم جعلوا الابتعاد عن الدين "نظرية يسندها العلم ويعطيها سند "الحقيقة العلمية" في أنظار الجماهير" عندها يصبح الابتعاد عن الدين وإهماله واجبًا يقتضيه التقدم العلمي (¬5). والتقى نشاط هؤلاء الثلاثة "عند نقطة رئيسية، متصلة ومتصاحبة: ¬

_ (¬1) انظر التعريف بالنظرية وأثرها في الفصل الأول. (¬2) انظر: الإنسان بين المادية والإِسلام، محمَّد قطب ص 17 - 19. (¬3) مذاهب فكرية معاصرة، محمَّد قطب ص 98. (¬4) التطور والثبات في حياة البشرية، محمَّد قطب ص 34، وانظر: مذاهب فكرية معاصرة ص 100 وما بعدها. (¬5) انظر: المرجع السابق ص 35.

نموذج فرويد ونظرياته في علم النفس

الحملة على الدين والأخلاق والتقاليد، ونفي القداسة عنها، وتشويه سمعتها أو التشكيك في قيمتها. والقيام بهذه الحملة باسم "العلم" والبحث العلمي" (¬1). فيتحول النشاط العلمي والنظريات العلمية معهم -من الاستثمار الأمثل لما أوجده الخالق في الدنيا ولتفسير المظاهر المختلفة في العالم المادي- إلى خدمة الإلحاد والكفر، فظهر الإلحاد والكفر باسم العلم وتحت مظلّته، فقد "كفر الناس في هذا الجيل على ضوء "العلم"! فقد أفهمتهم شياطين الأرض أن العلم ينافي الإيمان بالله. وأن العلم قد قضى على الخرافة التي كانت تملأ ضمائر الناس في العصور الوسطى: خرافة "الله"! ومن ثم كان تقدم العلم وسيلة من أخبث الوسائل في أيدي الشياطين! كلما تقدم العلم أوغلوا في إبعاد البشرية عن الله" (¬2)، فهذه صورة من الانحراف اليهودي بمسيرة العلم. نموذج فرويد ونظرياته في علم النفس: سأختار من الثلاثة السابقين أحدهم نموذجًا عن الأثر اليهودي في الانحراف بمسيرة العلم والنظريات العلمية، وهو "سيغموند فرويد"، أحد أهم المستثمرين لنظرية داروين من جهة، والواضع لنظرية في علم النفس ذات شهرة عالمية من جهة أخرى. سأبحث عن قضايا مختلفة حول هذه الشخصية أجدها مهمة، وتفيدنا في حالات كثيرة مشابهة لها وتوضح لنا مسائل كثيرة قد تثار هنا أو هناك. ولد "فرويد" لأسرة يهودية عام (1856 م)، وعاش أول حياته في المجتمع اليهودي المغلق في فيينا، وهي مدينة عاش فيها معظم حياته منذ كان عمره خمس سنوات حتى أصبح عمره (82) سنة، لينتقل بعد الحظر النازي إلى لندن وبقي فيها حتى انتحر على يد طبيبه عام (1939 م). وقد عانى أول حياته كغيره من اليهود من الاضطهاد والإقصاء في وقت بلغ الكره الأوروبي لليهود مبلغه، وظهرت المعاداة للسامية كما يُقال بأبشع صورها، وربما تكون هذه الذكريات محفورة في ذاكرة فرويد وغيره من اليهود، وبحسب قول "مارغريت" فقد "تركت خلفية فرويد اليهودية ملامح عميقة على كل من تطوره المعرفي وعلى حياته في ¬

_ (¬1) المرجع السابق ص 56. (¬2) جاهلية القرن العشرين، محمَّد قطب ص 286.

أ- من داروين إلى فرويد

المجتمع" (¬1). وقد توجه في مساره العلمي بعد تجارب شتى إلى ميدان علم النفس ليكون أحد أوائل المؤسسين لعلم النفس الحديث والمنشئ لميدان التحليل النفسي أحد أهم مذاهب علم النفس المعاصرة، وأما في ميدان النشاط الاجتماعي فقد كان أحد الناشطين في الدفاع عن المشروعات اليهودية بصورة فكرية وعلمية. أ- من داروين إلى فرويد: عاش "فرويد" في فترة انتشار الدارونية، حيث كان الجوّ السائد يتنفس الدارونية، وأحب فرويد داروين كما يقول الدكتور "الحفني" (¬2)، وأعجب بنظريته التطورية وذكر أنها جذبته بقوة، ومن المرجح فرحه بها لمخالفتها الفكر الديني، وقد تعرف عليها في أثناء دخوله جامعة فيينا في وقت كان أساتذة الأحياء يبحثون عن أدلة تؤيد نظرية التطور في كل مكان (¬3). وربما لهذا السبب كان انتشار الرأي القائل بأن "التحليل النفسي" فرع من علم الأحياء وفي ذلك يقول الدكتور "توفيق الطويل": "شاع القول في عصرنا هذا بأن علم النفس فرع من فروع علم الأحياء "البيولوجيا" وأنه يستند إلى مناهج ونظريات علم وظائف الأعضاء "والفسيولوجيا" ومن ثمّ فهو فرع من العلم الطبيعي، ويؤكد "فرويد 1929 م" بأن مناهج علم النفس هي بالضرورة مناهج علم الطبيعة، وإن ساوره الشك في قيمة التجربة في الدراسات النفسية" (¬4). فهذا الربط إما أن مقصده الارتباط بداروين بصورة غير مباشرة أو الارتباط بعلم الأحياء في نهاية القرن الثالث عشر/ التاسع عشر وعالمها آنذاك هو داروين. بعد معرفة صلة فرويد بداروين ننتقل إلى فرضية المبحث "أن فرويد لا يمثل فقط استمرارًا للصورة الدارونية، بل هو -تحت تأثير هويته اليهودية- قد مارس أثرًا خطيرًا في العلم المعاصر انحرف به عن مساره العلمي"، وهو لا ¬

_ (¬1) سيغموند فرويد مكتشف اللاشعور، مارغريت ماكنهوبت ص 18 ترجمة سامر عرار. (¬2) انظر: مقدمته لكتاب موسى والتوحيد، سيغموند فرويد ص 20. (¬3) انظر: سيغموند فرويد مكتشف اللاشعور ص 28 - 30. (¬4) قضايا من رحاب الفلسفة والعلم، د. توفيق الطويل ص 107 وهو يرد على هذا القول الشائع ويرفضه. انظر: ص 109 وما بعدها.

ب- فرويد وظاهرة "اليهودي الملحد"

يختلف كثيرًا عن اليهودي الآخر ماركس فيما قدماه لصالح اليهود تحت ستار العلم رغم التباين بينهما في الخطوات التي سارا عليها لتحقيق أهدافهما (¬1). والإشكال الذي يواجه هذه الفرضية أن أغلب علماء اليهود يعلنون إلحادهم أو على الأقل يرفضون الصورة المعروفة من أديانهم ويتخذون موقفا لاأدريًا من قضية الإيمان بالله، فمنْ ذاك الذي يشك في إلحاد "ماركس" أو "فرويد" أو "دوركايم" أو توقف "أينشتين" عن إعلان موقفه الديني وتصريحه بموقفه اللاأدري؟ فكيف يمكن الجمع بين القول بأنهم ملحدون وفي الوقت نفسه يقعون تحت تأثير هويتهم اليهودية! فلنبحث القضية من خلال نموذجنا المقترح وهو "فرويد". ب- فرويد وظاهرة "اليهودي الملحد": المقصود بالإلحاد هنا إنكار وجود الله سبحانه وما يتبع ذلك من إنكار الدين والنبوات، وبمثل هذا المعنى يصعب الجمع بين وصفين من مثل "يهودي ملحد" أو "نصراني ملحد" أو ما شابههما، ومع صعوبة ذلك، فإننا نجد ذلك ممكنًا مع بعض اليهود في العصر الحديث مما يجعلنا أمام "حالة يهودية" (¬2) بتعبير الدكتور "طلال عتريسي" تحتاج فعلًا إلى التأمل والبحث العميق. أما إلحاد فرويد فيرجع إلى الجو الفكري السائد نهايات القرن التاسع عشر المبني من الناحية العلمية على نظرية داروين، ويرجع من الناحية الفلسفية إلى أشهر منظري الإلحاد في العصر الحديث وهو "فيورباخ"، ومصدرية فيورباخ لفرويد واضحة في كتابيه: "مستقبل الوهم" و"الطوطم والتابو".ويسعى كماركس إلى تجاوز الإلحاد الذاتي الشخصي ليتحول إلى داعية للإلحاد يسعى لنشره ¬

_ (¬1) تؤكد مقالات وبحوث "فروم" -وهو العارف بماركس وفرويد- على أوجه التشابه بينهما، وذلك بعد تحليله لفكرهما، فبالرغم من اختلافهما في الظاهر إلا أنهما في الجوهر شيء واحد، ويمكننا أن نضيف على نتائج "فروم" أن بطانة هذا الجوهر الواحد هي بقايا يهودية يحاولان إخفائها. انظر مثلًا: كتاب ما وراء الأوهام، إريش فروم، ترجمة صلاح حاتم، الفصل الثاني: الأرضية المشتركة لنظريات ماركس وفرويد ص 21 وما بعدها. والفصل العاشر: المصير الآخر لنظريات ماركس وفرويد ص 135 وما بعدها، وانظر: الأخلاق عند فرويد، محمَّد العجيلي ص 37. (¬2) انظر: تقديمه لكتاب فرويد والتراث الصوفي اليهودي، دافيد باكان ص 9 ص 12.

وتعميمه وتحطيم الدين، وهذا ما كشفه أهم تلامذة فرويد ونائبه "كارل يونغ" في كتابه: "ذكرياتي عن فرويد" ومن ذكرياته: "لقد قال لي فرويد: إننا ينبغي أن نحطم كل العقائد الدينية"، وقال لي: "ينبغي أن نجعل من الجنس عقيدة" (¬1)، ولا شك أن مثل هذا الموقف المعلن قد يشكل عائقًا أمام فرضيتنا إلا إذا كان موقفه الإلحادي يخص كل الأديان، ما عدا دينه وهو ما يميل له بعض الباحثين. كان يمكن تجاهل أثر يهودية فرويد على نشاطه العلمي، لولا قضايا تجمعت في حياته كونت شواهد للشك في نشاطه العلمي ونظرياته العلمية، وزادت هذه الشواهد في الظهور بعد موته وانتشار مدرسته اليهودية، كلها تؤكد بأن فرويد كان واعيًا بيهوديته وكان يعمل من أجلها الكثير، فأفسد مسيرة العلم. ورغم ظهور دراسات عن فرويد في الغرب تناقش أثر يهوديته على نشاطه إلا أن ما ينقل إلى العالم الإِسلامي غير ذلك، وما ظهرت الدراسات النقدية باللغة العربية إلا بعد سنين من نشر الفكر الفرويدي، وربما لو تم نقل النوعين -الفكر الفرويدي مع الدراسات النقدية حوله- لخفف من وقوع الكثير تحت الآثار السلبية لنظريته، وربما أحدثت شيئًا من التوازن في التعامل مع الفكر الوافد وأوجدت شيئًا من الفهم الناقد لحركة العلم المعاصرة. لقد ذكر الدكتور طلال عتريسي مجموعة دراسات غربية تناقش مسألة الصلة بين اليهودية ومدرسة التحليل النفسي (¬2)، ومع ذلك لم يُتحدث عنها في أثناء نقل مدرسة التحليل النفسي وترجمة فرويد إلى العربية "طويت عمدًا أو جهلًا زمنًا غير يسير وأرغمت قراء العربية على الاطلاع على نهج أحادي الجانب، في ترجمة وتعليم وفهم المؤلفات الفرويدية. وقد تكون علّة هذه الأحادية خشية القلق من تبدل مألوف ظن من اعتاد عليه أنه حقيقة لا تناقش أو يقين لا يرد" (¬3)، وما زال هذا الإغفال ¬

_ (¬1) مذاهب فكرية معاصرة، محمَّد قطب ص 112. (¬2) انظر مقدمته لكتاب فرويد والتراث الصوفي اليهودي، باكان ص 7 - 8. (¬3) المرجع السابق ص 13، ومن الكتب التي ظهرت في وقت متأخر (التراث اليهودي الصهيوني والفكر الفرويدي)، د. صبري جرجس، (1970 م)، ومقدمة الدكتور عبد المنعم الحفني لكتاب فرويد (موسى والتوحيد 1978 م)، ورسالة علمية لنزيه الحسن (الجذور التوراتية للمذهب الفرويدي -دراسة جديدة لمذهب فرويد في أصوله 1988 م)، ومن بين الكتب المترجمة التي اعتمد عليها جرجس وغيره (فرويد والتراث الصوفي اليهودي، دافيد باكان، ترجمة وتقديم د. طلال عتريسي، ط 2، 2002 م)، أما أشهر من وجدته ناقشها =

ج- علاقة فرويد باليهود واليهودية

بارزًا في مكتبة علم النفس العربية، ويكفي إلقاء نظرة على الكتب العامة في علم النفس في أثناء حديثها عن المؤسسين لعلم النفس ونظرياته، فيتم الحديث عن فرويد ونظرياته والتحليل النفسي مع إغفال الحديث عن أثر يهوديته ويهودية مدرسة التحليل النفسي. ج- علاقة فرويد باليهود واليهودية: إن هذه العلاقة هي أهم ما لفت الباحثين حول أثرها في نظرياته العلمية ونشاطه العلمي، إذ هي علاقة من نوع غريب تكشف قيادة يهودية فكرية وعلمية وسياسية غير عادية. أولًا: العلاقة باليهود: العلاقات الفعلية لفرويد كانت مع اليهود، وعندما تقوم علاقة بغير اليهود، فغالبًا ما يكون هدفها مصلحة ما، مثل علاقته بتلميذه ونائبه يونغ ابن القسّ النصراني، أو علاقته بمرضاه من مشاهير أوروبا وأمريكا من أجل الحصول على الجاه أو المال. كان من أسرة يهودية تعيش في أحياء اليهود في أوروبا، وهذه محطته الأولى، ووالده حريص على قراءة التوراة. وأهم أستاذ أثر في مسيرته هو اليهودي الفرنسي "شاركو" (¬1)، وأهم صديق تحاور معه وقادته تلك المحاورات إلى إنشائه لنظريته العلمية المشهورة هو اليهودي "جوزيف" (¬2). وبعد أن قدّم نظريته العلمية في التحليل النفسي أنشأ جماعة التحليل النفسي، وهذه الجماعة كانت يهودية، رغم محاولته تطعيمها برجل نصراني مثل "يونغ" من أجل أن يتقبلها المجتمع النصراني وحتى لا تُتهم تلك الجماعة بأنها يهودية غير علمية. ولم يكتف بهذا، إذ انضم إلى أشهر منظمة يهودية هي "بناي بريث" وحافظ على اجتماعاتها، وهي المنظمة التي وجد نفسه فيها كما يقول. ومنظمة بناي ¬

_ = من المفكرين المسلمين، فهو الدكتور محمَّد قطب في كثير من كتبه ولاسيّما (الإنسان بين المادية والإِسلام)، و (التطور والثبات في حياة البشرية)، و (مذاهب فكرية معاصرة). (¬1) انظر مثلًا: سيغموند فرويد مكتشف اللاشعور ص 51 وما بعدها. (¬2) انظر: سيغموند فرويد مكتشف اللاشعور ص 72 وما بعدها.

بريث جمعية يهودية عضويتها مقصورة على أبناء اليهود، وخدمتها موجهة أساسًا لدعم الصهيونية في العالم، قامت بعمل مهم في أثناء قيام دولة إسرائيل، تُظهر الجانب الإنساني إلا أن عملها في خدمة اليهود (¬1)، فمهمتها "العمل على رفع المكانة النفسية والأخلاقية للشخصية لدى الناس الذين ينتمون إلى ديننا" (¬2)، وفي خطابه -أي: فرويد- الذي ألقاه في بناي بريث "في فيينا بمناسبة عيد ميلاده السبعين -يقول: في الأعوام التي تلت (1895 م) -: "بدا لي أنني خارج عن القانون يتهرب منه الجميع. رغبت في عزلتي هذه، بحلقة مختارة من الرجال، ذوي فكر واسع، لا يقلقون من جرأة أفكاري، ويقبلون صداقتي. فأشير عليّ بأن جمعيتكم هي المكان الذي أجد فيه مثل هؤلاء الرجال. كما كان أكثر ملاءَمة لي أنكم يهود وأنني أيضًا كذلك، قد بدا لي أن نفي هذا الأمر ليس مخجلًا وحسب، بل عملٌ أحمق أيضًا""، وفي هذه الجماعة عرض أهم أعماله قبل إخراجها مثل أفكاره حول تفسير الأحلام، وعرض أفكارًا أكثر انحرافًا عن "الله والشيطان" (¬3)، إلى غير ذلك من المحاضرات. وقد ذكر سعادته وفرحه بالدعم الذي وجده من هذه الجماعة (¬4)، مما يشعرنا بدعم يهودي لنشاط فرويد العلمي الذي لم يتقبله الناس زمن إخراجه لنظرياته. وكانت صداقاته البارزة مع يهود مشهورين مثل "أينشتين" عالم الفيزياء المشهور، و"هرتزل" مؤسس الصهيونية الحديثة والمخطط لإقامة دولة لليهود في فلسطين، فهو "منذ أيامه الأولى كان مؤيدًا للحركة الصهيونية، وعرف هرتزل شخصيًا وأعجب به كثيرًا، كما أرسل له نسخة من أحد كتبه عليها إهداء شخصي"، وكان ابنه عضوًا في منظمة صهيونية، كما كان هو -فرويد- عضوًا فخريًا فيها (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: الموسوعة الميسرة، الندوة العالمية للشباب الإِسلامي، 1/ 527 وما بعدها. (¬2) انظر مثلًا: سيغموند فرويد مكتشف اللاشعور ص 117. (¬3) انظر: فرويد والتراث الصوفي اليهودي ص 50 - 51. (¬4) انظر: سيغموند فرويد مكتشف اللاشعور ص 117 - 118، وقد ألقى فيها أهم أعماله (21 محاضرة). (¬5) الشاهد حول علاقة فرويد بالصهيونية من: فرويد والتراث الصوفي اليهودي، دافيد باكان ص 52، وانظر: صراع مع الملاحدة حتى العظم، عبد الرحمن الميداني ص 216.

ثانيا: علاقته باليهودية

أما يدل هذا الحرص الفرويدي على علاقاته اليهودية عن حالة يهودية تعمل من أجل اليهود وتتأثر في الوقت نفسه بالروح اليهودية والثقافة اليهودية رغم إعلانه لإلحاده، ومن ثم توجيه نشاطه العلمي لصالح اليهود، وهذا الأمر هو ما شجع مجموعة من الباحثين لدراسة علاقة فرويد ليس باليهود فقط، بل علاقته بالتراث اليهودي ومحاولته لنشر اليهودية بثوب عصري من خلال أعماله وجماعة التحليل النفسي وخدمة اليهودية بمثل ذلك، وهذا التحليل يوصلنا لبيت القصيد موضوع الفقرة القادمة. ثانيًا: علاقته باليهودية: رغم إلحاده الذي يصرح به إلا أن هناك أقوالًا له توحي بغير ذلك أو تجعل أمره ملتبسًا، ومن هذه الأقوال مثلًا: اعترافه بأنه تأثر بقصص الكتاب المقدس، وأنها ذات أثر دائم في توجيه اهتماماته، وذكر "جونز" كاتب سيرة فرويد: تباهيه بيهوديته عندما كتب إلى المعهد العلمي اليهودي في لندن: "إنني أعتز بيهوديتي بفخر"، وذكر جونز عنه أيضًا إحساسه المرهف بيهوديته (¬1). وقوله: "كان أهلي يهودًا، وأنا نفسي بقيت يهوديًا". ويذكر "ماكس غراف": "كنا نناقش أحيانًا، خلال الزيارات، المسألة اليهودية. كان فرويد فخورًا بانتمائه إلى الشعب اليهودي الذي أعطى التوراة للعالم" إلى أن قال: عندما استشاره في وضع ولده، فقال له فرويد: "إذا لم تدع ابنك يكبر في ظل اليهودية، فإنك ستحرمه من مصادر الطاقة التي لا يمكن لأي شيء أن يحل محلها. إن يهوديته تدفعه للصراع، وعليك أن تدع الطاقة الضرورية لهذا الصراع تنمو في ذاته. فلا تحرمه من هذه الميزة" (¬2). وقد سبب ذلك الغموض في موقفه من اليهودية اختلاف الباحثين في حقيقة إلحاده: فمنهم من يرى إلحاده زائفًا وإنما هو يهودي متمسك بيهوديته، ومن هؤلاء "شويزي": "وهي محللة من خاصة فرويد وذات معرفة به وصلة وثيقة"؛ إذ ¬

_ (¬1) انظر هذه الشواهد مع تحليلها في: الجذور التوراتية للمذهب الفرويدي ص 147 - 187 وهي موجودة أيضًا في مقدمة الدكتور الحفني لكتاب فرويد: النبي موسى ورسالة التوحيد. (¬2) فرويد والتراث الصوفي اليهودي، باكان ص 49 - 50.

د- جماعة التحليل النفسي: جماعة علمية أم جماعة يهودية!

اعتبرت "أن إلحاد فرويد لم يكن إلا إلحادًا زائفًا؛ لأنه تركه بعد ذلك متشبثًا باليهودية الصهيونية، وفيًّا لها، سائرًا في طريقها. . . ."، ويذكر الميداني عن أحد الكتاب الراصدين لمسيرة فرويد تأكيده بأنه "ليس في حياة فرويد ما يومئ بأنه قد تخلى يومًا عن يهوديته، بل إن فيها ما يؤكد تمسكه بها، واستغراقه فيها إلى درجة غير مألوفة" (¬1)، ورغم وجاهة هذا القول إلا أنني لا أميل إليه؛ وذلك أن صلة فرويد كانت بتيارات علمانية يهودية لا يعنيها كثيرًا الدين اليهودي الموروث بقدر ما يهمها الشعب اليهودي، ووضع هوية جديدة له وفق تطور العصر. ومنهم من يرى بأن فرويد كان حريصًا على يهوديته في مستوى الهوية، أما الدين اليهودي الموروث وعقائده وطقوسه المتوارثة، فقد كان ضدّه ومبغضًا له وغير مؤمن به، وكما يقول عن نفسه بأنه: "يهودي غير مؤمن" (¬2)، وهذا ما توصل إليه أحد الباحثين في الفكر الفرويدي حيث يقول: "كان لفرويد، كما سنرى فيما بعد، ميلٌ قويٌّ للهرطقة، لكنه لم يتخل عن يهوديته. أما مشاحناته مع الدين فلم تتناول إلا الأشكال الأرثوذكسية القديمة لليهودية. لقد ظن أن بإمكانه الاحتفاظ بهويته اليهودية رغم مهاجمته للأرثوذكسية" (¬3)، ولذا كان موقفه: "يجب أن نرفض العقيدة، ولكننا لا نستطيع أن نرفض الانتماء اليهودي" (¬4). وهذا القول هو الأقرب للقبول؛ لأننا نجد إنسانًا مستهترًا بالأديان ولكنه في الوقت نفسه منخرط في النشاط اليهودي العلماني القائم في أوروبا. ورجل بهذه الحال لابد -شعر أو لم يشعر- أن يوجه على الأقل جزءًا من نشاطه العلمي في خدمة مبدئه ونصرة الهوية التي ينتمي إليها، وقد كانت الذراع في ذلك هي جماعة "التحليل النفسي" اليهودية. د- جماعة التحليل النفسي: جماعة علمية أم جماعة يهودية!: عاش فرويد شبابه فترة اشتهار النظرية التطورية الدارونية كما سبق بيانه. وعندما قرر أن يسلك باب علم النفس، وأن يجعله ميدانه بدأ يفكر في تقديم ¬

_ (¬1) صراع مع الملاحدة حتى العظم، عبد الرحمن الميداني ص 218. (¬2) انظر: الجذور التوراتية للمذهب الفرويدي ص 156. (¬3) فرويد والتراث الصوفي اليهودي ص 100. (¬4) فرويد والتراث الصوفي اليهودي ص 271.

نظرية علمية في تخصصه على منوال نظريات العلوم الأخرى، وعبر محاولات ودراسات توصل إلى إخراج نظريته في ميدان علم النفس كما فعل كوبر من قبل في ميدان الفلك أو نيوتن في الطبيعة أو داروين في الأحياء وغيرهم، وهي تعد إلى اليوم من أشهر النظريات في علم النفس، ورغم ما حدث لها من تعديلات معه وبعده فهىِ ما زالت ركنًا مهمًا من علم النفس المعاصر وأصبحت أصلًا من أصول التحليل النفسي. وقد كان من أهم النتائج التي توصل إليها في نظريته بعد تأمله في الحالات المرضية المختلفة، هو دور اللاشعور في حياة الإنسان، وتأكيده أن هناك جزءًا من الإنسان هو "اللاشعور" وأنه يقوم بتأثيرات أقوى من تأثيرات الشعور، ومما أوصلته إليه تأملاته أيضًا بأن الطاقة الجنسية هي الطاقة العظمى المسيطرة على كل الطاقات والموجهة لها. يلعب الجنس في نظريته دورًا أساسيًا، بل نظريته كلها تقوم على تصوره للجنس، فالطفل يولد بطاقة جنسية تحرك جميع نشاطاته من رضاع وتبول وغير ذلك. في أثناء نمو الطفل يشعر تلقاء أمه بشهوة وكذا البنت تلقاء أبيها، ولكن الولد يجد أباه عائقًا، فيكره أباه الذي يحبه في الوقت نفسه، فيصطرعان في نفسه، فيكبت الكره في اللاشعور، واللاشعور هو موطن دفن كل الرغبات المكبوتة، ولكنها هي الموجهة لسلوك الإنسان دون وعي. ومع النمو يتقمص الابن شخصية الأب فينهى ويأمر كما يفعل به والده، فينشأ الضمير، ومنه القيم الأخلاقية، وينشأ الدين، وبقية القيم العليا. وتتركب النفس في نظريته من ثلاث طبقات: الذات السفلى الشهوانية، مخزن المكبوتات، والموجهة للسلوك دون وعي، والذات وهي الوسطى مركز الوعي وأفعال الإنسان الواعية، والذات العليا مركز الكوابت الصادرة عن الدين والأخلاق والقيم وهي لاشعورية أيضًا. . . . إلخ (¬1). ¬

_ (¬1) اكتفيت بالعرض الموجود في الكتب الفكرية، تلك التي خرجت بالنظرية من صياغتها العلمية إلى مجال الفكر والثقافة، انظر مثلًا: مذاهب فكرية معاصرة، محمَّد قطب ص 108 - 109 فهو أساس العرض، وانظر: تشكيل العقل الحديث، كرين برينتون ص 337 - 343، مع المراجع السابقة لهذا المبحث وما سبق في الفصل الأول.

وقد حدث لهذه النظرية تحديثات وتحسينات على يد صاحبها أو أتباعه أو المنشقين عنه، كما أن هذه النظرية قد طبقت في مجالات شتى -خارج المعالجة للمرضى- فدرست من خلالها الأديان والتاريخ والحضارات وطبقت في ميادين الاجتماع والسياسة والحروب وغيرها، بل طبقت في الآداب والفنون كما سبق إيضاح شيء من ذلك في الفصل الأول. ولكن أفكار فرويد لم تقبل في البداية بسهولة لاسيّما ومصدرها يهودي في بيئة نصرانية، مما دفع فرويد إلى تكوين جماعة أُعجبت بنظريته وأفكاره، أغلبهم كانوا من اليهود هي جماعة التحليل النفسي، لتقوم بالمحافظة على فكره ونشر نظرياته في المجتمع. ظهرت هذه الجماعة عام (1902 م) بعد اقتراح قدمه أحدهم إلى فرويد كانت أولًا تسمى "جمعية الأربعاء النفسية"، وفي عام (1908 م) أُعيد تنظيمها تحت مسمى "جمعية فيينا للتحليل النفسي" (¬1)، وأبرز من فيها كانوا من اليهود باستثناء "إرنست جونز" المؤرخ للجماعة ولحياة فرويد و"كارل يونغ" عالم النفس والفيلسوف المشهور، وقد "كتب جونز معلقًا على ذلك بأنهم جميعًا كانوا يهودًا يحسون بيهوديتهم بشكل حاد، وكان إيتنجتون مثلًا من أشدّ هؤلاء الحواريين إحساسًا بيهوديته. . . ." (¬2). وقد كان مجمل نشاط الجماعة يدور حول إنجاز فرويد "نظريته والتحليل النفسي"، مما جعل البعض يرى في أن التحليل النفسي "حركة فكرية تاريخية شبه دينية تقوم على النظرية السيكلوجية حاول به التنظير لأخلاق دنيوية علمانية متحررة هي في جوهرها الدين اليهودي" (¬3)، وقريبًا من هذا قول أحد أقطاب هذا المجال "أريك فروم" في كتابه "مهمة فرويد -تحليل لشخصيته وتأثيره": "لقد حاولت أن أبين أن التحليل النفسي قد تطور كحركة شبه دينية، قامت على نظرية نفسية" (¬4)، ومشبهًا نضال تلك المجموعة بزعماء حركات شبه دينية، لها مصطلحاتها واجتماعاتها السرية، تهاجم وتهادن، لا يملكون سمة ¬

_ (¬1) انظر: سيغموند فرويد مكتشف اللاشعور ص 134 - 135. (¬2) النبي موسى والتوحيد، فرويد ص 7 من مقدمة المترجم الحفني. (¬3) المرجع السابق ص 15. (¬4) مهمة فرويد. تحليل لشخصيته وتأثيره، إريك فروم ص 108 ترجمة طلال عتريسي.

حادثة انشقاق كارل يونغ

العلماء الذين يعيشون هاجس مناقشة نظرياتهم (¬1). ولذا فإن دراسة مثل هذه الجماعة أو نقدها يتطلب الرجوع إلى مصدرها وهذا ما ألمح إليه "باكان" حيث قال: "إن محاكمة التحليل النفسي بشكل سليم يجب أن تتم ضمن إطار تاريخ اليهودية وخصوصًا تاريخ الفكر الصوفي اليهودي" (¬2). وهكذا ظهرت هذه الجماعة وهذا المجال الجديد وكأنه علم يهودي، وممن شعر بذلك فرويد نفسه إذ خشي أن يُنظر إلى التحليل النفسي على أنه علم يهم اليهود، عندها "عمل بكل ما أوتي من قوة على أن يشجع غير اليهود على نشر التحليل النفسي في أوساط المجتمع"، إلا أن أشهر تلك المحاولات تمثلت في القصة المشهورة مع "كارل يونغ". حادثة انشقاق كارل يونغ: تشكل علاقة فرويد بتلميذه "يونغ" ونائبه فيما بعد حالة فريدة في تاريخ العلم، تمثل تلك العلاقة ما يشبه المعركة السياسية والعسكرية التي يبحث فيها المحارب عن ثغرة في خصومه ليدخل عليهم من خلالها، وكان يونغ هو الصيد الثمين للمحارب فرويد، وقراءة هذه العلاقة تفتح الباب لأسئلة كثيرة عن معارك النظريات العلمية عندما تكون خليطًا من الأهواء والانحرافات والعلم؛ لأنها لو كانت علمًا خالصًا واضحًا لما وجدت مشكلة من ناحية القبول. تعرّف فرويد على الطبيب النفسي السويسري والفيلسوف عام (1904 م) بعد أن أرسل له "يونغ" بحثًا طبق فيه الأفكار الفرويدية على مرض الفصام، وإن كانا لم يلتقيا إلا في عام (1907 م). في هذه الفترة ما بين (1906 و 1910 م) بدأت شهرة فرويد العالمية لكنه وجد مشكلته بأن أغلب أتباعه هم من اليهود (¬3)، وقد مثّل ذلك عائقًا من القبول التام به، فكان فرويد يبحث عن أحد الأذكياء المقبولين من النصارى الذي يأخذ بدعوته وينشرها بين قومه. قرر "فرويد" أن يكون "كارل يونغ" هو ممثله في عالم الأمميين ولم يكن قبول ذلك سهلًا بين الأتباع اليهود لاسيّما عندما قرر فرويد أن يجعل يونغ رئيسًا ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق ص 86 بتصرف قليل. (¬2) سيغموند فرويد مكتشف اللاشعور ص 23. (¬3) انظر: سيغموند فرويد مكتشف اللاشعور، ص 145 - 147.

للجمعية الدولية للتحليل النفسي، عندها احتج اليهود، فقال لهم: "إن أغلبكم يهود. وبالتالي غير قادرين على اكتساب الأصدقاء للعقيدة الجديدة: على اليهود أن يكتفوا يفتح الطريق. من الضروري أن أنسج علاقات مع الوسط العلمي؛ لأنني أتقدم في السن, وقد تعبت من الهجمات المتواصلة عليّ. جميعنا في خطر. ثم أمسك سترته، وقال: "لن يتركوا لي ما أستر به ظهري. السويسريون سينقذوننا جميعًا"" (¬1)، وكتب فرويد إلى أحدهم يدافع "عن انتساب يونغ إلى حركة التحليل النفسي بطريقة معبرة جدًا، قائلًا: "تذكر أيضًا، بأن يونغ مسيحي وابن كاهن. . . . وأكاد أقول بأن دخوله إلى ساحة التحليل النفسي أبعَدَ خطر رؤية تحول هذا العلم إلى قضية يهودية قومية" (¬2). وهكذا -وتحت إشراف فرويد وفي عملية تاريخية عسيرة- تم نقل قيادة التحليل النفسي "من أيدي يهود فيينا إلى أيدي المسيحيين السويسريين. ووفقًا لذلك سيصبح يونغ، القديس بول، للدين الجديد. . . ." (¬3)، ولم يرض أتباعه بسهوله إلا بعد مساومات على أن يرأس يونغ الجمعية الدولية ويتنازل فرويد عن جمعية فيينا لأحد اليهود المشاكسين وهو ألفريد أدلر، وتمّ اقتناع الأغلب بأهمية إنقاذ التحليل النفسي "عن طريق توظيف المزيد من الأميين غير اليهود" (¬4)، فتحقق لهم بذلك الانتشار العالمي. هذا الوضع يشعرنا أننا أمام محارب لا عالم، قائد سياسي أو ديني لا صاحب نظريات وأبحاث، كوّن نظريته ثم الجماعة التي ترعاها، ثم الدعاة من الديانات الأخرى، والخصومات الداخلية ليست حول مسائل علمية بقدر ما هي حول المكاسب في هذا الصراع، وهذه الحال أحد أهم ما لفت أنظار العقلاء حول الاشتباه بجماعة التحليل النفسي لاسيّما وهي ما زالت تخدم طائفة بعينها. ومما زاد الأمر وضوحًا ما حدث عند انشقاق "كارل يونغ" وتركه لجماعة ¬

_ (¬1) فرويد والتراث الصوفي اليهودي ص 58 - 59. (¬2) فرويد والتراث الصوفي اليهودي، من حاشية للمترجم طلال عتريسى ص 59. (¬3) مهمة فرويد. تحليل لشخصيته وتأثيره ص 86. (¬4) انظر: سيغموند فرويد مكتشف اللاشعور ص 156، وقد انشق كل من "يونغ" و"أدلر" عن أستاذهما، وكوّن كل واحد منهما مدرسة جديدة في علم النفس، وإن كانتا تدوران في فلك "فرويد".

هـ - النظرية العلمية -صورة للاستثمار اليهودي

التحليل النفسي رغم المكانة العالية التي حظي بها من قبلهم ومن قبل الأب الروحي فرويد. فقد مثّل انشقاقه مشكلة شائكة، وقد اقترح "جونز" على فرويد تكوين جمعية سرية تسهر على رعاية الجماعة، فرد عليه فرويد: "إن ما أسر خيالي في الحال، ما ذكرته بصدد مجلس سري مؤلف من خيرة أصدقائنا وأوثقهم للعناية بالتطور اللاحق للتحليل النفسي"، إلى أن قال: "يجب أن تحافظ هذه اللجنة على سرية وجودها وأعمالها. . . ." (¬1)، ولا أدري -لم- كل هذه السرية حول عمل علمي؛ إذ لو كان علميًا لجاهر أصحابه بما عندهم، وقبلوا التحدي والتمحيص من الآخرين، ككل النظريات العلمية، ولكن كل هذه الدلائل تشير على أن جماعة التحليل الفرويدية لديها ما هو أبعد من العلم، وعمومًا فقد تم "تشكيل لجنة دولية سرية مؤلفة من سبعة أشخاص -بينهم فرويد نفسه- للسهر والتأثير على مسيرة الحركة" (¬2)، وقد كانوا جميعًا من اليهود باستثناء جونز. وربما كان من بين ما أزعج "فرويد" حول المنشق "كارل يونغ" عناية "يونغ" بموضوع الدين وإعجابه به ومحاولته وضع تصور جديد عن قيمة الدين تخالف تلك التي تبناها فرويد وأعلنها ليونغ من إرادته تحطيم الأديان وجعل الجنس عقيدة جديدة مكان الدين كما ذكر ذلك "يونغ" في مذكراته (¬3)، ومع حرص فرويد على الهوية اليهودية، فهو لا يريدها للآخرين وهناك من يرى (¬4) بأن كتاب فرويد "الطوطم والتابو" هو في جزء منه يعدّ "ردًا على انبهار يونغ بالدين والإيمان الروحي". هـ - النظرية العلمية -صورة للاستثمار اليهودي: رأينا فيما سبق بأن النظرية العلمية الخاصة بمدرسة التحليل النفسي قد وُلدت برعاية يهودية خالصة، وكوّن لها مؤسسها جماعة ترعاها كانوا من اليهود، وبعد فترة الاشتهار بدأ البحث عن دعاة من خارج اليهود وكان المرشح لذلك هو كارل يونغ الذي اختلف معهم فيما بعد وانشق عنهم وقد كان من أهم نقاط ¬

_ (¬1) مهمة فرويد. تحليل لشخصيته وتأثيره ص 88. (¬2) مهمة فرويد. تحليل لشخصيته وتأثيره ص 87. (¬3) سبق ذكرها أول البحث. (¬4) انظر: سيغموند فرويد. مكتشف اللاشعور ص 176.

1 - علاقة الفرويدية باليهودية وكتبها المقدسة

الاختلاف بينهم وبينه: اعتراضه على الدور العظيم الذي جعله فرويد للجنس وعلى موقف فرويد من الدين. وكون النظرية العلمية قد جاءت من يهودي لا يضيرها، فالعلم الدنيوي قد يأتي من أي إنسان، وهو مما أعطاه الله لكل الخلق دون استثناء، فقد تظهر تلك المعارف من يهودي أو نصراني أو مشرك أو ملحد، ولكن الإشكال معها ومع غيرها من النظريات العلمية يتمثل في الآتي: هل كان ليهودية اليهودي أثر في انحراف تلك النظريات عن مسارها؟ يمكن التأكد من ذلك بالوقوف مع قضيتين؛ الأولى: بحث الصلات القائمة بين النظرية العلمية ومعتقدات صاحبها، وفي نموذجنا هذا سيكون البحث عن العلاقة بين النظرية الفرويدية والديانة اليهودية، والثانية: عن أثر النظرية أو إيحاءاتها في إفساد الدين والقيم. يتم التحليل إذًا على مستويين، مستوى التأكد من المصادر ومستوى النظر عن أثرها في إفساد الدين والإيمان والقيم، ودائمًا نذكر بأن هدف البحث هو النظر في أسباب الانحراف بالعلم وليس أسباب تقدمه؛ لأن مسيرة العلم ونظرياته تحوي هذا وذاك. 1 - علاقة الفرويدية باليهودية وكتبها المقدسة: اليهودية هي ديانة محرفة يتبع أهلها النبي موسى عليه الصلاة والسلام وكتابهم هو التوراة، ولكن اليهود بعد ذهاب نبيهم انحرفوا انحرافًا كبيرًا، وحرفوا كثيرًا في كتبهم وأضافوا عليها، وكتبهم هي: "التوراة والأسفار الملحقة والتلمود"، وببعثة نبي الإِسلام محمد - صلى الله عليه وسلم - انكشف لنا من انحرافاتهم وتحريفاتهم الشيء الكثير، على مستوى العقيدة وعلى مستوى الشريعة، وظهر انهماكهم على الدنيا والاستحلال للمحرمات لاسيّما مع الأميين، قال -تعالى-: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)} [آل عمران: 75]. وقد ابتدأ الظهور الحديث لليهود في أوروبا بالنقد القاسي الذي قام به "إسبينوزا" -كما سبق أول المبحث- مما فتح لعلاقة جديدة لليهود مع تراثهم

اليهودي لاسيّما الجيل العلماني منهم، جوهر تلك العلاقة هي في اعتبارهم التراث مرجعًا للهوية فقط، ويولد الطاقة في اليهودي دون أن يصل إلى الاعتقاد الحرفي بما فيه، وقد كان من بين هؤلاء فرويد، الذي يذكر بأن التوراة تمدّه بطاقة عجيبة، ومارس الدور نفسه الذي قام به "إسبينوزا" وإن كان بأسلوب آخر في كتابه المشهور: "موسى والتوحيد"، وكان ما يقلقه نفس ما كان يقلق إسبينوزا وهو: كيف يتلقى المجتمع اليهودي كتابه عن موسى والتوحيد، إذ قال في رسالة له: "لا داعي للتذكير، بأنني لا أحب أن أجرح مشاعر شعبي. . . ." (¬1)، وهو كتاب يثبت أن فرويد على علاقة قوية بالتراث اليهودي وإن زعم إلحاده، وفي فرويد وأمثاله يقول الدكتور "الحفني" -وهو أحد المترجمين لأعمال فرويد وأعمال يهود آخرين مثل: "ماركس" و"كامي" و"سارتر" وأعمال في علم النفس والتحليل النفسي مشهورة-: "ففرويد أو غيره من اليهود يظهر أنه علماني وموضوعي ويتصدى للظاهرة الدينية تصدي العلماء الموضوعيين، ولكنه في نفسه يضمر الإيمان باليهودية وبإله اليهود. وكان ذلك نفسه شأن كافكا وتوماس مان وغيرهما كثيرون. ومع ذلك يشجعون غيرهم على الإلحاد وانتقاد دياناتهم ومعتقداتهم" (¬2)، ومن ذلك كتاب فرويد "موسى والتوحيد" فكما يقول "الحفني" أيضًا -في الجزء الأول منه-: "يبدو فيه فرويد كما لو كان ملحدًا وعلمانيًا ومجرد دارس لليهودية، وفي الجزء الأخير يتحدث فرويد بإيمان شديد بالله ويدافع عن اليهودية في استماتة ويستخدم كل أسلحة التحليل النفسي ليحقق الغاية التي ترسّمها مسبقًا بتأليفه لهذا الكتاب" (¬3)، ويظهر "الحفني" كتاب فرويد وكأنه خدمة لدعاوى اليهودية بالتفوق على البشرية وخدمة لدعاوى الصهيونية الجديدة (¬4)، ويبقى ما يهمنا أن فرويد بدأ يستثمر مجاله العلمي لخدمة هويته اليهودية من جهة والانتقاص من الأديان الأخرى من جهة أخرى. وقد ظهرت مجموعة كتب تبحث عن أوجه التشابه بين نصوص توراتية ¬

_ (¬1) سيغموند فرويد. مكتشف اللاشعور ص 213. (¬2) النبي موسى ورسالة التوحيد، سيغموند فرويد، من مقدمة المترجم ص 13 ترجمة د. عبد المنعم الحفني. (¬3) النبي موسى ورسالة التوحيد، سيغموند فرويد، من مقدمة المترجم ص 7. (¬4) انظر: المرجع السابق ص 9.

2 - استثمار النظرية العلمية في إنكار العقائد والقيم

وأفكار فرويدية مثل كتاب "بريمير": "فرويد قارئ التوراة" الذي جمع أربعمئة نص توراتي من كتب فرويد، وأخرى تبحث عن الأصول التلمودية مثل كتاب "جيرارد": "الطفل غير الشرعي" المصادر التلمودية للتحليل النفسي" (¬1)، ومن الكتب المشهورة التي اعتمد عليها أكثر من باحث عربي كتاب "باكان": "فرويد والتراث الصوفي اليهودي" الذي بحث علاقة فرويد بالمأثور "الكابالي" وهو تيار يهودي صوفي باطني، حيث خصص القسم الخامس من كتابه عبر ثلاثة فصول ليعرض فيها "بالتفصيل بعض التشابه بين التحليل النفسي، كما وصفه فرويد، وبين المأثور الكابالي" (¬2)، ومثلها ما قام به باحث عربي "نزيه الحسن" في رسالة علمية: "الجذور التوراتية للمذهب الفرويدي -دراسة جديدة لمذهب فرويد في أصوله". 2 - استثمار النظرية العلمية في إنكار العقائد والقيم: نحن نعلم بأن التوراة والموروث العقدي اليهودي يحمل في طياته انحرافات شنيعة في قائمتها وصف الرب سبحانه بما لا يليق به، ووصف الأنبياء كذلك بما لا يليق بهم على أن منهم قتلة الأنبياء، وعدم التورع من نسبة الفاحشة إلى نبي من أنبياء الله، وقيامهم بأعمال محرمة في رأسها المعاملات المالية المحرمة وارتكاب الفواحش، والقائمة في ذلك كبيرة مما أخبرنا الله به في القرآن الكريم أو ما هو متداول في كتبهم. فمثل هذه المرجعية تؤتي ثمارها السيئة على أتباعها، وهذا ما نجده في نظرية فرويد عند تطبيقها على الدين والقيم، فهي تعتمد في التأصيل والتنظير على جزء كبير من الموروث اليهودي من جهة وعلى خلاصة الفكر الإلحادي القائم في الغرب من جهة أخرى، فصورة الدين في نظريته العلمية بكل أصوله العقدية والروحية والغيبية والعلمية والأخلاقية إنما هو وليد "العقدة الأوديبية" الناتجة عن الصراع النفسي داخل الطفل بما في ذلك الاعتقاد بوجود الله سبحانه. ويقترب تصوره للدين من تصور "فيورباخ" الإلحادي -على أن فرويد يمتن كثيرًا بالفضل لفيورباخ- فهو يرى بأن عقيدة الإيمان بالله المنتشرة بين البشر، إنما ¬

_ (¬1) انظر: مقدمة كتاب باكان (فرويد والتراث الصوفي اليهودي) لطلال عتريسي ص 7 - 8. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 200.

سببها عجز الإنسان أمام الطبيعة وخوفه منها، فيتخيل وجود رب يحميه، فحوله فرويد إلى نوع آخر هو نوع من الضمير ينشأ عند الطفل بسبب الصراع الكبير داخله، ثم حدث نوع من التخيل الواسع لإخراج هذا الضمير في صورة إله، فهو يرى "أن علاقة البشر مع الطبيعة شبيهة بعلاقة الطفل مع أبويه، إذ يعيش الأطفال تحت رحمة آبائهم الأقوياء الذين يفترض منهم حماية أطفالهم. وحينما يكبر الأطفال يحولون صلتهم مع آبائهم إلى صلة مع الله لكي يرضوا نفس الحاجات الطفولية التي كان يلبيها الآباء حينما كان الأطفال في المرحلة المبكرة يؤمنون بقدرة آبائهم. فالدين كما كان يراه فرويد بإيجاز هو وهم يعبر عن الرغبة في الحصول على حماية أبوية سرمدية" (¬1)، وقد عرض هذا الكلام في كتابه: "مستقبل الوهم" الذي يتقصّى فيه أصل الدين على أن ذلك التقصي يتم كما يدعي وفق المنهجية العلمية. وهكذا نجد كيف ترعرعت النظرية في الوسط اليهودي وتغذت في جزء منها على الموروث اليهودي، ثم بدأت تمارس دورها باسم العلم في تحطيم المعتقدات الدينية وأصبحت مقولات فرويد مرجعًا لملاحدة العصر بحجة علميتها، فقد بدأ بعض العلماء والمفكرين يكتفون في نفي الدين بالاعتماد على الحجة الفرويدية على أنها حجة علمية، وعلى سبيل المثال فهذا أحد أشهر فلاسفة العلم في القرن الرابع عشر/ العشرين وأحد أعضاء الوضعية المنطقية لا يجد مشكلة في تصريحه بإلحاده، إلا أنه عندما واجهته مشكلة -تواجهه وتواجه كل ملحد- وهي أن البشرية تقرّ بوجود الله ولا يستطيع الناس التخلص من هذا الشعور، فتجده ينظر إليها على أنها مشكلة كانت تعتني بها الفلسفات تحت مسمى مشكلة انتشار الاعتقاد بوجود الله، وأن الفلسفة كانت تجيب عليها بمثل أجوبة فيورباخ وغيره، إلا أن كارناب لا ينظر "إلى مشكلة انتشار الاعتقاد بوجود إله كمشكلة فلسفية بل كمشكلة تفسرها أبحاث فرويد التي أظهرت أن أصل تصورنا للإله يعود إلى حاجتنا إلى بديل عن الأب. . . ." (¬2). وهكذا أصبحت استدلالات بعض الملحدين المعاصرين العلمية تعتمد على نظريات فرويد، وأصبح ما يسمى علمًا ونظريات علمية يوظف في الاستدلال على الإلحاد (¬3). ¬

_ (¬1) سيغموند فرويد مكتشف اللاشعور ص 201. (¬2) انظر: رودولف كارناب. نهاية الوضعية المنطقية، وداد الحاج ص 281. (¬3) نذكّر هنا بما أوردناه أول المبحث بأن جديد "فرويد" وأمثاله من اليهود هو: ربط الإلحاد =

وعلى منوال ما حدث مع الدين والعقائد يتم أيضًا مع القيم، وأبرز نموذج قدمه فرويد بقوة تلك القيم المرتبطة بالجنس، لاسيّما مع الأثر الأساسي الذي جعله للجنس في نظريته العلمية. ومن أهم كتبه التي عرض فيها تطبيقه لنظريته العلمية على القيم كتاب "الطوطم والتابو"، وفيه يعرض قصة حدثت في أول تاريخ البشرية وما زالت آثار تلك الحادثة مؤثرة في حياة البشرية إلى اليوم -وعلى القارئ أن لا يسأل عن سنده لتلك القصة- ذلك أن الأولاد شعروا برغبة جنسية تجاه أمهم، ولكن هناك حائل وهو الأب فقتلوه، وهي أول جريمة في البشرية، ثم أحس الأولاد بالندم فقدسوا ذكرى الأب، فنشأت من ذلك عبادة الأب كأول عبادة ظهرت في البشرية، ولكن وجدوا أنهم لو تقاتلوا على الأم لهلكوا، فاتفقوا على عدم اقترابها، فنشأ بذلك أول تحريم في العلاقات الجنسية ومنه بقية المحرمات، وهكذا ظهرت العبادات والمحرمات والقيم المكونة للدين (¬1). وعادة ما يُربط بين الإباحية التي ظهرت في القرن الرابع عشر/ العشرين، وبين نظريات فرويد وذلك بسبب المكانة الخاصة للجنس في نظريته، وتم ذلك باسم العلم أيضًا وتحت طاغوت النظريات العلمية، وفي ذلك يقول "فروم": "فالحياة الجنسية لم تعد أمرًا محرّمًا، ولم يعد الحديث عن رغبات تتعلق بغشيان المحارم أو عن انحرافات جنسية يعتبر أمرًا مهولًا يدعو إلى الاستنكار. فكل هذه الموضوعات التي ما كان الإنسان العادي "العفيف" ليجرؤ على التفكير بها لم تعد الآن أمورًا محرّمة واعتبرت آخر نتائج "العلم" التي لا تثير إثارة خاصة" (¬2). وقد وجدها رواد الرأسمالية -وغالبًا ما كانوا يهودًا- فرصة للاستثمار، فهم يروجون للاستهلاك في كل شيء بما في ذلك الجنس، وزمن المحرمات والحشمة قد أسقطته النظرة العلمية، مستثمرين في ذلك كلام فرويد، فإن كبت الحاجات الجنسية يمكن أن يؤدي إلى العصاب، ولتلافيه فلابد من الانعتاق من ¬

_ = باسم العلم، وربط مهمة تحطيم الدين والعقائد باسم العلم، سواء كانت العقائد هي الحق أو كانت باطلة، فكلها يجب تحطيمها، أما الإلحاد باسم العقل والفكر والفلسفة فهو قديم. (¬1) انظر: مذاهب فكرية معاصرة، محمَّد قطب ص 109 - 110، وانظر: سيغموند فرويد مكتشف اللاشعور ص 173 - 175. (¬2) ما وراء الأوهام، إريش فروم ص 137، ترجمة صلاح حاتم.

حرمان النفس شهواتها "وهذا ما حث عليه المعلنون! وهكذا اكتسب التحليل النفسي هذه الشعبية بين الناس، بما هو "وسيلة" للحرية الجنسية التي تنشط الاستهلاك الجديد. . . ." (¬1)، وهكذا تتصاحب النظرية العلمية الداعية إلى الانفلات، والإباحية مع صعود مصاصي الدماء من الرأسماليين وفي قائمتهم أصحاب التجارات الكبيرة من اليهود. وعندما تصطدم نظريته مع ذاته أو أسرته فإنه يوقف العمل بها، فمع أنه يفضل المعاشرة الجنسية الحرة بين الشبان ويتحسر لعدم وجود وسائل فعالة لمنع الحمل، ومع ذلك فإنه عند عتبة باب منزل فرويد توقف تلك الدعوات وتمنع من الدخول للمنزل (¬2). وقد كان من بين نظرياته التي تخلى عنها نظرية الإغواء وأثرها في الهستيريا التي تصيب النساء، إذ إن من مكوناتها أن الأب في الأسرة هو الذي جلب على المريض فيما بعد الهستيريا بسبب الاعتداء الجنسي، ولكنه صُدِم عندما بدت أعراض هستيرية على شقيقاته ولم يستطع تصديق فكرة اعتداء أبيه على شقيقاته (¬3)، ووجد أنها غير مناسبة لتفسير سبب المرض وحاول البحث عن مخرج آخر لمشكلة الإغراء. مع العلم بأن التراث اليهودي حول الجنس مملوء بالفجور والإغراء وكتبهم تعج بمثل هذه القصص (¬4)، وإذا كان هذا في تراثهم الديني فإن الشأن مع ملاحدتهم يكون أبعد انحرافًا. وإذا تجاوزنا مشكلة تحطيم المحرمات وفتح باب الإباحية تحت دعوى النظريات العلمية، نجد أيضًا شخصًا ضعيف القيم وصاحب أخلاق نفعية، فعندما وجد صعوبة في الترقية في جامعة فيينا فعل ما أشار به عليه أحد أصحابه حيث قام بمعالجة زوجات وبنات وأرامل الطبقة الحاكمة والثرية، وكانت الثمرة سريعة إذ أقنعت إحدى البارونات وزارة التربية بمنح لقب الأستاذية لطبيبها (¬5). وفي فترة ¬

_ (¬1) انظر: مهمة فرويد. تحليل لشخصيته وتأثيره ص 110 - 112. (¬2) انظر مثلًا: سيغموند فرويد مكتشف اللاشعور ص 139 - 140. (¬3) انظر: سيغموند فرويد مكتشف اللاشعور ص 118. (¬4) عقد "نزيه الحسن" بابًا كاملًا في كتابه: الجذور التوراتية للمذهب الفرويدي -الباب الرابع- وتتبع في تسعة فصول النظرة الجنسية عند اليهود في كتبهم المحرفة وعلاقة ذلك بنظريات "فرويد" حول الجنس. (¬5) انظر: سيغموند فرويد مكتشف اللاشعور ص 129 - 130.

اشتداد الحرب في وقت كان يمكنه أن يشارك في تخفيف ويلاتها فيساعد المحتاجين، إلا أنه في هذه المرحلة قصر معالجته على مرضى من إنكلترا والولايات المتحدة؛ لأنهم يستطيعون تسديد رسوم العلاج بعملة لا تعاني من التضخم (¬1)، ثم هرب بعدها تاركًا خلفه بعض أهله، منهم من مات في المعسكرات النازية. أما هو فتوجه إلى لندن وبقي فيها إلى أن اشتد مرضه بسبب السرطان، فطلب من طبيبه الشخصي أن يساعده قائلًا: "الآن أصبح الأمر لا شيء إلا عذاب ولم يعد له معنى" فحقنه عدّة جرعات من المورفين حتى مات (¬2). ونتيجة هذا المبحث أو السبب، بأن مفكري اليهود وعلماءهم في العصر الحديث لاسيّما في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر وما بعده قد مارسوا دورًا سيئًا في مسيرة العلم، وانحرفوا بنظرياته نحو تحطيم الدين والقيم مستهدفين في ذلك المجتمع الأوروبي في البداية الذي أقصاهم فترة طويلة من الزمن وقد حان الانتقام من ذلك الإقصاء. وهذا النموذج يغنينا عن النظر في نموذجين كبيرين آخرين قام بهما يهوديان آخران هما "ماركس" و"دوركايم"، على أن بعض أعمالهما ستأتي في مباحث أخرى، مما يكشف أننا أمام عمل يهودي قوي ومنظم في القرنين الأخيرين في جميع الميادين، ومنها ميدان العلم والنظريات العلمية (¬3). وبموقف اليهود يصل هذا الفصل إلى نهايته، توقفت مع مجموعة من ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق ص 181. (¬2) انظر: سيغموند فرويد مكتشف اللاشعور ص 214 وقد عرض المؤلف نهايته المظلمة بشماتة. (¬3) أخرج اليهود كُتبًا عن المشكلة اليهودية لمعالجة وضعهم المعاصر، منها كتاب فرويد (موسى والتوحيد)، وكتاب ماركس وإنجلز عن المشكلة اليهودية، وهناك سارتر -من أم يهودية- بكتابه "تأملات في المشكلة اليهودية" عام (1946 م) وقت الحديث عن تقسيم دولة فلسطين، فذكر "سارتر" التهم الموجهة لليهود ودافع عنها، يقول: "إن اليهود متهمون بثلاث تهم كبرى، هي عبادة الذهب، وتعرية الجسم البشري، ونشر العقلانية المضادة للإلهام الديني"، ويقول: إنها صحيحة، ثم بدأ يقدم لها المعاذير: فأما عبادة الذهب؛ فهو قوتهم الوحيدة مع الاضطهاد والتشريد، وأما تعرية الجسد؛ فلإزالة التهمة حول قبح =

الأسباب المهمة، انحراف الكنيسة ودوره، والعلمانية ودورها، ودور الاتجاه المادي والاتجاه الوضعي، وأخيرًا الدور اليهودي، تسببت الكنيسة في ضعف ثقة النخب بالدين، وتسببت العلمانية في إبعاد العلم عن الدين ووضع رؤية جديدة له، دنيوية لا علاقة لها بالآخرة، وجاءت التيارات الفكرية لتكمل المشروع العلماني، فانساقت المادية مع الإلحاد الصريح والوضعية مع الحسية، ووجد اليهود فرصتهم في العلم. ¬

_ = أجسام اليهود؛ لأن القبح كائن في الجسم البشري، عندها يستيقن الناس أنه قبح عام، وأما الثالثة وهي أهمها فطالما بقي الدين فسيكون هناك إجحاف في حق اليهود، فإذا أزيل الدين بقي العقل والناس فيه سواء، فهو يعترف بأن تحطيم الدين مهمة تولاها اليهود ليكون لهم شأن ويعود لهم وجودهم، ولذا لا نستغرب توظيف "فرويد" وأمثاله للعلم من أجل تحطيم الدين فهو يتحرك بهذا الهاجس اليهودي. انظر كلام سارتر: مذاهب فكرية معاصرة، محمَّد قطب ص 530 - 531.

الفصل الثالث تاريخ تكون الانحرافات المصاحبة لحركة العلم الحديث في العالم الإسلامي وتأثيرها في الفكر التغريبي العربي المعاصر

الفصل الثالث تاريخ تكون الانحرافات المصاحبة لحركة العلم الحديث في العالم الإسلامي وتأثيرها في الفكر التغريبي العربي المعاصر

الفصل الثالث تاريخ تكون الانحرافات المصاحبة لحركة العلم الحديث في العالم الإِسلامي وتأثيرها في الفكر التغريبي العربي المعاصر مدخل: قرر العالم الإِسلامي بعد زمن طويل من الضعف والتخلف أن يبحث عن مخرج، ظهرت دعوات إصلاحية مشهورة ومحاولات سياسية معروفة، تنوعت مشاربها واختلفت مصائرها، منها ما نجح ومنها ما أخفق، وقد كان من بين أشهر ما استُعين به في النهوض: العلوم العصرية، ونظرًا لأن الأمة الإِسلامية -غالبًا- قد أهملت هذه العلوم وأخرجتها من دائرة التعليم سنين طويلة فقد نسيتها ونسيت أنها أبدعت فيها وعلّمتها العالم يومًا ما، مما جعلها تبحث عنها من جديد، لكن ليس في تراثها وإنما في تراث أمة أخرى حولنا. جاء طلب هذه العلوم في فترة عسيرة وخطيرة في الجهتين: جهة العالم الإِسلامي الطالب لهذه العلوم، وجهة الغرب المالك لمطلبنا. فالجهة الأولى كانت ضعيفة مما يسّر تسرب الانحرافات، وسمح بتحرك أهل الأهواء أثناء

تحقيق هذا المشروع. كما أن الجهة الثانية كانت تموج بعواصف فكرية واجتماعية خطيرة تأثر بها كل شيء في الغرب، بما في ذلك النجم الصاعد "العلوم العصرية"، وأخطر تلك العواصف: التيارات المادية والعلمانية. يبحث هذا الفصل "تاريخ تكوّن الانحرافات المصاحبة لطلبنا العلوم العصرية"؛ وذلك أن طلب العلوم العصرية كما أنه أسهم في النفع والتقدم، فقد تخلل ذلك أيضًا بعض الانحرافات الخطيرة، تأثر بها كثير من طلابها وأثّروا بها, ولأن الكثير قد لا يتصورون ارتباط الانحراف بعلوم حيادية موضوعية، نبعت أهمية البحث في تاريخ الأفكار من خلال تاريخ الأحداث لنكتشف الفرق بين العلم النافع والانحرافات التي قد ترتبط به ويقع في أسرها بعض الناس أو يجدها آخرون فرصة للطعن في دين الأمة وعقيدتها وشريعتها وهويتها. ولا شك أن الأمة لو كانت قوية في دينها وعلمها وفكرها لما وقع مثل هذه الانحرافات؛ ولكن مع ضعفنا من جهة ومع العواصف الغربية من جهة أخرى لم يتحقق لتجربتنا الحديثة في تحصيل العلوم النجاح والسلامة. ستكون فقرات هذا الفصل بإذن الله على الشكل الآتي: أولًا، الحديث عن حال العالم قبل الإِسلام، ثم حاله بعد بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - لنشاهد ذلك الانقلاب الهائل الذي حدث في العالم بظهور الإِسلام. ثم نشاهد -ثانيًا- أثر الإِسلام في توجيه أهله نحو العلم ونتائج ذلك: في ظهور "العِلم الإِسلامي" الذي أشرق بنوره على العالم كلّه، واستفادت منه البشرية، وهذا يمثل خط الصعود الإِسلامي. ولكن خط الصعود قد ضعف بسبب مؤثرات داخلية وخارجية، فهبط الخط كثيرًا عن الوضع الذي كان عليه، لنصل إلى حالة من الضعف والانحراف في العصور الأخيرة، فتأتي -الفقرة الثالثة- للنظر في هذا الضعف، وما تبع ذلك من دعوات الإصلاح التي كانت في بدايتها دينية سلفية، فانفتح الباب للأمل في إمكانية النهوض من جديد، فانطلقت التجارب المتنوعة لطلب النهوض، ومن ذلك طلب العلوم العصرية التي نتج عنها حضارة أوروبية مدهشة ومخيفة في الوقت نفسه، تحاول تلك التجارب نقلها إلى العالم الإِسلامي لعلّه يحدث لنا بسببها ما حدث للأوروبيين من تقدم وقوّة، تناقش -الفقرة الرابعة- هذه التجارب المختلفة، أقف مع أشهرها، وأبحث مشكلة فشلها من جهة، ومشكلة تسببها في دخول انحرافات فكرية من جهة أخرى؛ وذلك أن أغلب هذه التجارب

جاءت في وقت ضعفٍ شديدٍ مما مكّن لخصوم الأمة وأعدائها -في الداخل أو الخارج- من إفساد مسيرة هذه التجارب، ولاسيّما أن أغلبها قد تهاون في الإصلاح الذاتي نقطة الانطلاق الصحيحة لكل نهضة أو إصلاح، ومن تلك التجارب: تجربة الدولة العثمانية والهند الإِسلامية كبدايات مشهورة في الباب. وتأتي الفقرة الخامسة للتجارب العربية، أبدؤها بحادثة الحملة الفرنسية وأثرها، ثم التجربة المصرية، وعهد التنظيمات العثماني. والفقرة السادسة عن تجربة بعض بلاد المغرب -تونس والمغرب- مع توقف سريع في الفقرة السابعة مع التجربة الفارسية. أختم ذلك بالفقرة الثامنة حول صور تعرّف المجتمع على العلوم العصرية، وما يرتبط بها من مناهج ونظريات.

أولا: تغير العالم ببعثة الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم -

أولًا: تغير العالم ببعثة الرسول محمَّد - صلى الله عليه وسلم - كان العالم بأجمعه قبل بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعيش في ظلام دامس، يمرّ بأزمات عميقة، أحدّها وأشدّها الانحراف الديني الذي غطى وجه الأرض باستثناء بقايا قليلة من الحنفاء، ويتفرع عنه مجموعة من صور الانحرافات تطبع أغلب مجالات الحياة (¬1)، وقد كان العرب جزءًا من هذا العالم المأزوم. كانت أمَّتَا الروم وفارس أقوى الأمم آنذاك، على أن فارس تربط العرب بشرق الأرض والروم بغربها، وكانت الروم في عصرها الهيليني بروحه الثقافية المعروفة، وارثةً آنذاك فلسفات اليونان وعلومهم، وخلطتها بالدين الجديد الذي اعتنقته بعد أن تحرّف على أيدي أتباعه وهو النصرانية (¬2). أما فارس فهي ذات دين وثني تختلف صوره وأشكاله، وهي محيطة بعلوم الشرق أو على علاقة بها كفلسفات الهند والصين وعلومها. فالأديان القائمة إما كتابية محرفة -اليهودية والنصرانية- أو وثنيات كثيرة ذات جوهر واحد (¬3)، أما العلوم والمعارف والفلسفات والآداب والفنون والصناعات فقد كانت موجودة في هاتين ¬

_ (¬1) من بين الكتب المميزة التي وقفت مع هذه الفكرة كتاب: (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين) لأبي الحسن الندوي، انظر: الباب الأول منه: العصر الجاهلي. (¬2) انظر حول فكر هذه المرحلة عند الروم: مقدمة في علم الاستغراب، د. حسن حنفي ص 111 وما بعدها. (¬3) انظر: الرحيق المختوم، صفي الرحمن المباركفوري ص 27 - 33، وانظر حول حال الأمم قبل بعثة نبينا - صلى الله عليه وسلم -: الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، لابن قيم الجوزية 1/ 147 - 150، تحقيق الدكتور علي محمَّد الدخيل الله.

الإمبراطوريتين، ومع ذلك فقد كانت في وضع ضعيف أو فاسد. وكما انحرفت تلك الأمم في الجانب الديني، فقد انتقل ذلك الانحراف ليطبع الحياة الفكرية والعلمية والاجتماعية بطابعه، فحتى الحسن منها لم يسلم من آثار الانحراف الديني. وقد كان الحنفاء من بقايا أهل الكتاب يشعرون بهذا الظلام المحيط بالعالم بعد أن غاب الدين الحق، وكانت الأمم تعيش حياة صعبة بعد أن غابت عنها روح الرسالات السماوية، وانتشر الظلم والجهل في العالم، وهما رأس الشرور ومنبعا الانحراف قال -تعالى-: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)} [الأحزاب: 72] (¬1)، فالجهل في كل مكان، الجهل بمعناه الأهم وهو جهل الدين والواجب نحو الرب سبحانه، والجهل بمعناه العرفي من انحطاط في المعارف والعلوم. الظلم في كل مكان، الظلم بمعناه الأخطر وهو الوقوع في الشرك الذي غلب على العالم آنذاك، قال -تعالى-: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]، والظلم بين الناس، عندما يظلم بعضهم بعضًا، وهي حالة غلبت على أهل المعمورة، فالقوي يظلم من دونه. ويشعر من أوقف نظره عند تلك المرحلة وكأن تاريخ البشرية يسير نحو الحضيض، وأنه لا أمل من ارتفاع جديد للبشر، وأن الانحدار أمر حتمي لا مجال لتغييره، وكما ورد في الحديث قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا إن ربي أمرني أن أعلّمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا: كل مالٍ نحلته عبدًا حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب،. . ." (¬2)، يطلعنا هذا العلم السماوي على الحال السيئ للبشرية قبل بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأنه كان عامًا للعرب ¬

_ (¬1) انظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمية 14/ 38، و 11/ 256، وانظر: الأهواء والفرق والبدع عبر تاريخ الإِسلام. . . .، د. ناصر العقل ص 147 وما بعدها. (¬2) رواه مسلم برقم (2865) باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار من كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، وانظر: كلام ابن تيمية حول هذا في الفتاوي 19/ 101 وما بعدها.

والعجم، وإذا كان حال الأمم القوية من الجهل والظلم؛ فما بالك بالأمم الضعيفة ومنها حال العرب، وحال الجزيرة ذاتها حيث نجد دركات من الجهل والظلم. وإذا كان الأمل في إنقاذ البشرية مستبعدًا من الدول العظمى آنذاك، فهو أكثر استبعادًا من الأمم الضعيفة لاسيّما أهل مكة والمدينة، التي لم تكن طموحات أهلها آنذاك تتجاوز السماح لهم من قبل الإمبراطوريتين فارس والروم بممارسة البيع والشراء وتركهم في حالهم يعمهون. ولكن ربك عليم حكيم، يعلم سبحانه أين يضع رسالته ومن يصطفي من عباده للقيام بمهمة إعادة الناس للتوحيد، وتصحيح مسار التاريخ، وإعادة الأمل إلى الأمم، ورفع الجهل والظلم عنها، وجاءت دعوة الإنقاذ من أضعف الأماكن وأبعدها عن التصور، وكما قال -تعالى-: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68] (¬1)، فاختار الله سبحانه رجلًا لم يكن من المتطلعين لتلك المهمة، ولكنه هو في علم الله سبحانه صاحبها، قال -تعالى-: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86)} [القصص: 86]. وفي ربع قرن نجحت دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقامت دولة الإِسلام، وبدأت تمدّ ظلّها الوارف على كل من يدخل في الإِسلام، وجاءت مهمة مواجهة الراعين للضلال في العالم "فارس والروم"، فنجح المسلمون في وقت قصير من إقصائهما عن سيادة العالم، وانكمشت الروم إلى أوروبا وعادت الوثنية للخلف لتبقى في أقصى الشرق. وتولّت الأمة الإِسلامية منذ ذلك الوقت قيادة العالم وإدارة مسؤولية تقدمه، ويتفق عقلاء العالم بأن الأرض قد تغير حالها وحسُنَ أمرها بعد بعثة رسول الله عليه الصلاة والسلام وظهور الإِسلام وانتشاره في العالم، وأنهم أيضًا ولأكثر من عشرة قرون كانوا القوة الأشهر على مستوى العالم والأنفع له. ولا يعني ذلك سلامة كل أجزاء العالم الإِسلامي من الضعف أو الانحراف، ولا سلامة كل الفترات التاريخية منهما؛ فإن أسباب ضعف الأمة وقوتها يتجاوران ويتصارعان، وبحسب حال الأمة يميل الميزان لصالح أحدهما. ¬

_ (¬1) انظر: كلامًا جميلًا لابن القيم حول بعض المعاني لهذه الآية، زاد المعاد 1/ 42 وما بعدها.

ظهور أمة الإسلام ودورها في إنقاذ العالم

ظهور أمة الإِسلام ودورها في إنقاذ العالم: جاءت رسالة الإِسلام بالخير للبشرية، فعاد الدين الحق وظهر التوحيد في الأرض وقامت شريعة السماء في حياة الناس، ومن بين ما حملته رسالة الإِسلام واعتنت به أيما عناية: موضوع العلم، وأهمية العلم المصحوب بالعمل النافع، والدعوة للتفكر والنظر والعقل والبصيرة والتعلم وعدم التقليد (¬1)، ويأتي في أعلى درجاتها تحقيق الجانب الديني؛ فإذا صلح الدين صلح ما سواه. لهذا يصح أن يقال عن الأمة المسلمة: إنها أمة علم، وقد شعر أهل الإِسلام بذلك فتحولوا إلى أمة علم، وكوّنوا تراثًا علميًا لا مثيل له، وكان في رأس ما اهتموا به من علوم: العلوم الدينية فأبدعوا فيها إبداعًا عظيمًا، مما يجعل الأمة المسلمة قادرة في كل زمن على إيصال دين الإِسلام للناس، وهو الواجب الأهم على الأمة المسلمة. وأمة أبدعت كل ذلك الإبداع في العلوم الدينية، وخرجت من كونها أمة أمية إلى أمة العلم والعلماء لا يصعب عليها الإبداع في أي باب من أبواب العلوم؛ لأن القضية الجوهرية هي قدرة تلك الأمة على إبداع العلم ذاته، وإبداع مناهجه، وأمة تستطيع إبداع جانب من جوانب العلم لا يصعب عليها الجانب الآخر. إلا أن الأمة المسلمة كانت في أول أمرها مهمومة بتقوية وجود الإِسلام ونشر علومه بين الناس؛ ولذا كان أهم ما يُعتنى به في القرون الأولى هو تشييد العلوم الإِسلامية، أما العلوم الدنيوية فهي متروكة لحاجات الناس وحاجة الدولة المسلمة، كما أن أمرها يترك لمن يرغب الاشتغال بها دون حظر عليه، بل يُحث الراغب فيها على نفع الناس، وقد وجد أهل هذه العلوم في ظل الدولة الإِسلامية دعمًا لا مثيل له، فالإِسلام يدعو للعلم النافع ويحث أهله على تحصيل ما ينفعهم. لقد أصبح مفهوم العلم أحد أهم مكونات الأمة الإِسلامية، وقد أعطى الإِسلام للعلماء درجة عالية ومكانة رفيعة لا يصلها أحد من الناس، وقد شجع ¬

_ (¬1) انظر مثلًا حول دعوة القرآن لذلك في: القرآن والنظر العقلي، فاطمة إسماعيل، الفصل الأول والثاني، وانظر: منهجية التفكير العلمي في القرآن الكريم وتطبيقاتها التربوية، د. خليل الحدري، الفصل الأول والثاني والرابع، وانظر: التفكير فريضة إسلامية، عباس العقاد ص 3 - 25.

على التعلم وحث عليه بصور متنوعة من أساليب الترغيب والترهيب، وحمّل العلماء مسؤوليات كبيرة. يشعر المسلم بأن أول الواجبات عليه هي أمور لا تتحقق إلا بالعلم والتعلم؛ ولذا تجد بعض كتب السنة المشهورة تبدأ كتبها بأبواب عن العلم، فهذا صحيح البخاري يُفتتح بكتاب العلم بعد كتابي بدء الوحي والإيمان (¬1)، مما يجعل كل مسلم يشعر بأن أهم أعماله تنطلق من العلم والتعلم. ليس المقصود هنا بيان ما العلم الذي يُراد (¬2)، وإنما المقصود بأن العلم قد أصبح له شأن في الأمة الإِسلامية، ولمعرفة ذلك علينا أن ننظر في حال العربي في الجاهلية في مكة أو الجزيرة: ماذا كان يعني له العلم؟ وما الجهد الذي كان يبذله لتحقيق ذلك المفهوم؟ ثم نقارن ذلك بحال المسلم والبيت المسلم والأسرة المسلمة والأمة الإِسلامية، عندها نجد الفرق الكبير. فهاهي أغلب الأسر توجه أبناءها للعلم، وتحتسب فقدهم والمال المنفق عليهم في سبيل أن يكونوا علماء، ودخل العلم مشروعًا أساسيًا للأسرة المسلمة، ربما تفقد الزوجة زوجها وما معها إلا الولد فتضحي برغبتها حول بقائه قريبًا منها وتبعثه لمجالس العلم، وربما تنفق عليه كل ما تملك، وتتحمل بُعده وسفره وغيبته وغربته من أجل أن يتعلم. وإذا كان هذا في واقع الأسرة الصغيرة، فهو أيضًا حال الدولة المسلمة، وهو أيضًا الهمّ الأكبر عند ورثة الأنبياء من العلماء الذين نذروا حياتهم للعلم تعلمًا وتعليمًا. ولنقارن حال العرب قبل الإِسلام في الجزيرة حول ما قدموه من العلم بحال الأمة المسلمة بعد ذلك: كم كتابًا ورّثوه -غير تلك القصائد-؟ كم من العلماء عرف منهم؟ كم من المعاهد والحلقات العلمية؟ كم من العلوم؟ كم ¬

_ (¬1) انظر: فتح الباري. . . .، لابن حجر 1/ 170، وفي كتاب العلم ثلاثة وخمسون بابًا منها: (فضل العلم)، (العلم قبل القول والعمل)، (الفهم في العلم)، (الخروج في طلب العلم)، (كتابة العلم)، (السمر في العلم)، (حفظ العلم) وغيرها من الأبواب ذات الدلالات المهمة. (¬2) ففي التمهيد ما يبين ذلك كما أن في الفصل الخامس مزيد بيان عند ذكر الاتجاه السلفي، وقد أكد العلماء فيه أن أصل العلم المقصود هو العلم بالله، ويدخل في العلم المحمود كل علم صحيح ونافع من العلوم الدنيوية.

وكم. . . .؟؟ ثم انظر لحال هذه الأمة بعد الإِسلام، وما ذاك إلا بفضل المولى سبحانه بما منّ علينا من إرساله لهذا النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم -، وبما أنعم علينا من بركات هذا الدين العظيم. ولم تكن الأمة الإِسلامية تجد حرجًا في أن تستفيد من العلوم البشرية التي حولها إذا كانت علومًا صحيحة ونافعة، فهذا الدين الذي حوّل أهله إلى أمة علم قد شعر أهلها بقيمة العلم ومكانته فانصرفوا إليه بكل همّة وقوّة، كل فئة اهتمت بباب من أبوابه، وكان أعلاها علوم الدين، التي يُحفظ بها الدين ويفهم، فأقاموها على أحسن مثال وأتمّه، أما العلوم الدنيوية، لاسيّما تلك التي تُبنى على التراكم المعرفي، بحيث يضيف اللاحق على السابق، فما وجد المسلمون غضاضة في أخذها عن الأمم التي حولهم، فقام بعض المسلمين بطلب المعارف من أهلها وترجمتها إلى اللسان العربي، ثم أعقب حركة الترجمة والتعليم الأولى حركة التصحيح والتقويم ثم الإبداع والابتكار. صحيح أن حركة الترجمة والاستفادة مما عند الآخرين أو حركة الإبداع الذاتية لم تسلم من الأخطاء أو الانحرافات؛ فإنها كانت في بداياتها مخصصة لما ينفع الأمة وعمرانها من علوم الطب (¬1) والطبيعة والرياضة والصناعة والهندسة وغيرها (¬2)، وهي علوم مهمة لقيام العمران ولا يمنع منها الشرع، بل يحثّ على النافع منها, ولكن المترجمين وجدوا مع تلك العلوم النافعة أفكارًا وفلسفات وآدابًا وفنونًا وإلهيات فأغرت بعضهم أو ناسبت أهواءَهم، فقاموا بترجمتها ونشرها بين المسلمين، وتأثر بها الكثير وفتنوا بموادها (¬3)، فانشغلوا بها وخلطوها ¬

_ (¬1) من ذلك ما سمح به الخليفة عمر بن عبد العزيز من ترجمة وتعلم كتب الطب؛ لأنه علم نافع. انظر: نشأة الفكر الفلسفي في الإِسلام، د. علي النشار 1/ 104 - 105، وانظر: الفكر اليوناني والثقافة العربية. . . .، ديمتري غوتاس ص 73، 164، ترجمة د. نقولا زيادة، بخلاف فوضى الترجمة في زمن المأمون وغيره. (¬2) أحد أول الكتب التي عرّفت بالعلوم المعروفة ذاك الزمن، كتاب الخوارزمي (مفاتيح العلوم) الذي عرّف بكل علم وأهم مصطلحاته وموضوعاته، وجعله في مقالتين: مقالة بعلوم الشريعة، وأخرى بالعلوم البشرية، طبعة دار الكتاب العربي، تحقيق إبراهيم الأبياري. (¬3) انظر: موقف المتكلمين من الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة. .، سليمان الغصن 1/ 48 - 54.

بعلوم الإِسلام؛ فأدخلوا بعملهم هذا أعظم الضرر على الأمة الإِسلامية. ويمكن القول بأن أحد أسباب الانحراف في الدين والتخلف في الدنيا الذي وقع فيه المسلمون راجع إلى النزاع والصراع الذي حصل بسبب تلك الترجمات لما ليس من العلوم؛ لأنه لو اكتفي بترجمة العلوم الدنيوية، وانشغل بعد ذلك بعض المسلمين بتطويرها، وسلمنا من غيرها, لربما صفا الجو الثقافي وانطلقت الأمة في تقدمها, ولسلمنا بإذن الله من الصراعات الداخلية المريرة التي تسببت في بروز الانحرافات العقدية وما ترتب عنها من تأخر الأمة.

ثانيا: موجز لصورة العلوم في الحضارة الإسلامية

ثانيًا: موجز لصورة العلوم في الحضارة الإِسلامية سأعرض باختصار صورة العلم في الأمة الإِسلامية كما عرضها "ابن خلدون" في القرن الثامن الهجري عرضًا مجملًا، وهي صورة تكشف تلك النقلة الكبيرة التي أحدثها الإِسلام في أهله، وتكشف أثره في دفع الأمة المسلمة نحو العلم، وهذه المرحلة التي كتب فيها ابن خلدون قد تكون آخر مراحل تقدم العالم الإِسلامي؛ إذ حدث بعده التقهقر والضعف في وقت كانت أمة منافسة للمسلمين تحاول اكتساب معارف المسلمين وعلومهم لتزاحم أمتنا من جديد. فيقول ابن خلدون: "اعلم أن العلوم التي يخوض فيها البشر ويتداولونها في الأمصار تحصيلًا وتعليمًا هي على صنفين: صنف طبيعي للإنسان يهتدي إليه بفكره، وصنف نقلي يأخذه عمن وضعه. والأول هي العلوم الحِكْمِيّة الفلسفية، وهي التي يمكن أن يقف عليها الإنسان بطبيعة فكره، ويهتدي بمداركه البشرية إلى موضوعاتها ومسائلها وأنحاء براهينها ووجوه تعليمها، حتى يَقِفَهُ نظره وبحثه على الصواب من الخطأ فيها، من حيث هو إنسان ذو فكر"، ويدخل في هذا القسم -كما هو معلوم- العلوم الطبيعية والرياضية وغيرها، "والثاني هي العلوم النقلية الوضعية، وهي كلها مستندة إلى الخبر عن الوضع الشرعي،. . . ."، إلى أن قال: "وأصل هذه العلوم النقلية الوضعية كلها هي الشرعيات من الكتاب والسنة التي هي مشروعة لنا من الله ورسوله، وما يتعلق بذلك من العلوم التي تهيئها للإفادة. ثم يستتبع ذلك علوم اللسان العربي الذي هو لسان الملّة وبه نزل القرآن. وأصناف هذه العلوم النقلية كثيرة" (¬1). ثم قام بعرض النوعين النقلي ¬

_ (¬1) مقدمة ابن خلدون 3/ 1025 - 1026، تحقيق د. علي عبد الواحد وافي.

القسم الأول: العلوم النقلية

والعقلي؛ على أن المقصود بالعقلي هنا علوم تركها الشارع لعقول البشر يبدعون فيها بما يناسب احتياجاتهم في العمران، وكان في عرضه لتلك العلوم إنما يعرض صورة لما يُعرف غالبًا في معاهد المسلمين شرقًا وغربًا، وكأنه يعطينا وصفًا شاملًا لمنهج الدراسة في معهد من معاهد المسلمين أو جامعة من جامعاتهم آنذاك. عرّفَ بكل علم من العلوم من بدايات نشأته إلى الحال التي استقرّ عليها في عصر المؤلف، وعرض أهم كتب ذلك العلم وأهله وطرق تصنيفهم، فبدأها بالآتي: القسم الأول: العلوم النقلية: علوم القرآن من التفسير والقراءات، ثم علوم الحديث، ثم علم الفقه وما يتبعه من الفرائض (¬1) وأصول الفقه وما يتعلق به من الجدل والخلافيات (¬2)، ثم ذكر منها على طريقة كثير من المتأخرين علم الكلام (¬3)، وبرغم ملحوظاته النقدية المهمة على ذلك العلم؛ إلا أنه لم يتكلم بصورة ترضي الباحث عن علم العقيدة أو التوحيد رغم كثرة المصنفات فيه لأهل السنة والجماعة، ويظهر أن ابن خلدون كان يصف في الغالب ما يُدرس في كثير من بلاد المسلمين آنذاك، وقد كانت كتب المتكلمين، لاسيّما علماء الأشاعرة من بين أشهر الكتب التي لقيت عناية من قبل المتعلمين، إلى أن جاء النقد الموسع لها مع شيخ الإِسلام ابن تيمية في نهاية القرن السابع وأول الثامن، مما أعاد المكانة لعلم العقيدة والتوحيد كما هو عند السلف وأئمة أهل السنة والجماعة. وذكر أيضًا من العلوم التي اشتهرت في زمنه وقبله "علم التصوف" (¬4) بعلمائه وكتبهم وطرقهم، وقد ألحقه بصور من النقد الحسن والتحليل المميز، ثم تحدث عن "علم التعبير والرؤيا" (¬5) وما في بابها، وما يرتبط منها بالشرع وما ليس منه. ¬

_ (¬1) انظر: المقدمة لابن خلدون، وصفحاتها كالتالي: 3/ 1028، 1033، 1045. (¬2) انظر: المرجع السابق 3/ 1061. (¬3) انظر: المرجع السابق 3/ 1068. (¬4) انظر: المرجع السابق 3/ 1097. (¬5) انظر: المرجع السابق 3/ 1115.

القسم الثاني: العلوم الحكمية

ثم عرض وإن كان في موضع متأخر -بعد العلوم العقلية- علوم اللسان العربي: النحو واللغة والبيان والأدب، وعلماء كل باب وكتبهم (¬1). فهذه صورة موجزة عن القسم الأول؛ أي: العلوم النقلية، وكل هذه العلوم لم تكن معروفة عند العرب، وما كان معروفًا فعلى وجهٍ لا يصح أن يقال عنه علم، فانظر إلى الأثر الكبير لهذا الدين العظيم في هذه الأمة، ولا ننسى بأن كل علم من تلك العلوم تحته علوم أخرى وفروع وأقسام، ولكل نوع منها علماؤه وكتبه، ومناهجه وطرقه، ومدارسه، وهو أمر يدعو للدهشة والإعجاب. القسم الثاني: العلوم الحكمية: لقد لقي النوع السابق عناية كبيرة من قبل العلماء والباحثين في الكتابة عن تاريخه ومدارسه ومناهجه وعلمائه ومؤلفاتهم، وبما أنها غير مقصودة لنا في البحث؛ فلم أطل فيها وسأنتقل إلى العلوم العقلية، تلك التي تركها الشارع لاحتياجات الناس بعد أن وضع لها المنطلقات والأصول ورسم لها الأهداف والغايات، فننظر كيف كان حالها داخل العالم الإِسلامي، وماذا كان يُدرس منها أو يقرأ أو يبحث في المعاهد والمراكز العلمية، وذلك بحسب العرض الخلدوني في مقدمته الشهيرة. إذا أردنا أن نعرف المقصود بالعلوم العقلية؛ فلا بأس من التعرف عليها من خلال حاضرنا العلمي والتعليمي، فهناك الآن في مدارسنا وجامعاتنا علوم الشريعة، وهناك علوم اللغة، وهناك العلوم الاجتماعية، وهناك العلوم الرياضية والطبيعية من: هندسة وحساب وفيزياء وكيمياء وأحياء وعلم الأرض وعلم الفلك وعلم الطب وما في بابها. فإذا عدنا إلى الماضي فأغلب هذه العلوم باستثناء علوم الشريعة واللغة كانت داخلة في العلوم العقلية أو الحكمية، إلا أن مما أفسد مسارها قديمًا هو دخول المنطق والفلسفة والإلهيات الفاسدة والميتافيزيقا على تلك العلوم، بل وضع مثل تلك الفلسفات أساسًا لتعلم تلك العلوم، فانشغل بعض المسلمين بما لا فائدة ترجى من ورائه، وهذا كان أحد الآثار السلبية لانحراف مسيرة الترجمة لاسيّما في القرن الثالث الهجري وجزء من الرابع؛ ¬

_ (¬1) انظر: مقدمة ابن خلدون 3/ 1364.

حيث كان الجهد في الترجمة "منصبًا أكثر على الكتابات الفلسفية والإلهيات، خاصة ترجمات وشروح أرسطو" (¬1)، فتسبب هذا الانحراف بالترجمة إلى إدخال الأمة الإِسلامية في متاهات لم تتعاف منها إلى الآن. فإذا تركنا هذا الجانب، ونظرنا إلى حجم المعارف النافعة مما أخذه المسلمون عن غيرهم، وما ألحقوه عليها من تهذيب وتطوير، ثم ما أضافه المسلمون في هذا الباب من مناهج وعلوم ومكتشفات لوجدنا في ذلك عجبًا. ويمكن تلخيص بعض أدوار الحضارة الإِسلامية حول هذه العلوم في مجموعة نقاط أهمها: 1 - ترتيب تلك العلوم المترجمة وتنقيحها. 2 - إيجاد البيئة المناسبة لحركة تلك العلوم وتحولها إلى ما ينفع الناس. 3 - التطوير للمنقول والمترجم، أو الإبداعات والاكتشافات الجديدة. 4 - بداية رسم منهج جديد يساعد على تطور العلوم، وهو من أهم ما أبدعته الحضارة الإِسلامية، وقد كان من أهم المناهج "المنهج التجريبي" الذي عُرف مع كثير من علماء الطب أو الفيزياء أو الكيمياء وغيرها (¬2). مع ما صاحب ذلك من نقد علمي وعقلي للمناهج اليونانية لاسيّما المنطق الأرسطي؛ الذي ثبت فيما بعد أنه كان عائقًا في وجه تقدم العلم فضلًا عن الضرر من تطبيقه على المعارف الدينية. ولم تكن عملية استيعاب العلوم الإنسانية ثم الإبداع فيها بعملية سهلة؛ فإن التعرف على تلك العلوم، وإصلاح شأنها بما يلبي حاجات الأمة المسلمة ثم الانتقال إلى مجال التطوير والإبداع كان عملية عسيرة؛ فالمترجمون لم يكونوا عادة من الأمناء بدرجة كافية، لاسيّما مع تنوع مشاربهم الدينية، والعلوم تحتاج إلى استقرار وعمران، وهو ما لم يتركه أعداء الأمة الإِسلامية لنا، فما إن يستقرّ ¬

_ (¬1) انظر: العلوم والهندسة في الحضارة الإِسلامية، دونالدر. هيل ص 30، ترجمة د. أحمد فؤاد. (¬2) انظر: مناهج البحث عند مفكري الإِسلام واكتشاف المنهج العلمي في العالم الإِسلامي، د. علي النشار ص 329 - 334، وانظر: نشأة الفكر الفلسفي في الإِسلام، د. علي النشار 1/ 35.

وضعها في مكان حتى يظهر من أعدائها من يسعى إلى خرابها. بدأت مع التتار والمغول وختمت قبل العصر الحديث بالحروب الصليبية، ومع كل تلك الصعوبات فقد نجح المسلمون في الارتقاء بهذه العلوم ومناهجها، وإعطائها صورة جديدة عملية ونافعة (¬1). عرض ابن خلدون ما عُرف منها إلى زمنه، وعرض واقعها الموجود، وكما عرض ضمن العلوم النقلية بعض العلوم التي يحسبها أهلها من علوم الشريعة، وهي ليست كذلك وبيّن هو بنفسه ذلك؛ فكذلك هنا عرض كل ما يدخل تحت دائرة العلوم العقلية: الصحيح منها والفاسد، وإن كان يُتبع الفاسد منها بالنقد والتحذير، وهذه العلوم عددها سبعة وهي: "المنطق ثم التعاليم وهي أربعة علوم: الأرتماطيقي والهندسة والهيئة والموسيقى. ثم الطبيعيات، ثم الإلهيات"، و"لكل واحد منها فروع تتفرع عنه: فمن فروع الطبيعيات الطب، ومن فروع علم العدد علم الحساب والفرائض والمعاملات، ومن فروع الهيئة الأزياح. ." (¬2). ثم تحدث عن كل واحد منها، وتصنيف أهل الأمم السابقة فيها لاسيّما اليونان، ثم حالها بعد أن أخذها المسلمون وما أضافوه إليها وما أبدعوه فيها، وأوضح دور المنصور، ثم المأمون في جلب هذه العلوم، وبين أنهم نقلوا أيضًا ما لا نفع فيه، وبين الآثار السلبية لها، ومما قاله: "ودخل على الملة من هذه العلوم وأهلها داخلة، واستهوت الكثير من الناس بما جنحوا إليها وقلدوا آراءها، والذنب في ذلك لمن ارتكبه. {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 137] " (¬3)، ¬

_ (¬1) هناك فتن أقدم، فقد وقعت حروب الردة في السنة (11 هـ)، ثم فتن الانقسامات داخل المسلمين بسبب ظهور الأهواء والبدع، فقد ظهر في كل عصر من عصور المسلمين من الفتن والحروب ما يعطّل مسيرة الأمة، منها مثلا: ثورة الزنج (255 - 270 هـ)، والقرامطة (277 - 470 هـ)، والبويهيين (334 - 447 هـ)، الحشاشون (483 - 654 هـ)، ,والحملات الصليبية (489 - 692 هـ)، وجاء الغزو المغولي المدمر سنة (656 هـ)، انظر: موجز التاريخ الإِسلامي. . . .، أحمد العسيري ص 195 - 203. (¬2) انظر: المقدمة 3/ 1120، وقد عرّف المحقق بالمصطلحات لمن أراد معرفة معنى كل علم منها فتراجع في هوامشه، وانظر أيضًا: مفاتيح العلوم للخوارزمي، وسيأتي ذكرها نهاية هذه الفقرة. (¬3) انظر: المقدمة، ابن خلدون 3/ 1124، وانظر: نقض المنطق، ابن تيمية ص 19، تصحيح محمد الفقي.

وهذه الآثار التي يتحدث عنها علّامة المغرب هي نفس ما كشفه علماء المشرق واجتهدوا في نقده وبيان باطله وعملوا على تنقية التراث الإِسلامي وتصفيته مما خالطه من تلك الأهواء، لاسيّما شيخ الإِسلام ابن تيمية وابن القيم وأتباعهما. وفي ذلك يقول شيخ الإِسلام ابن تيمية عن دخولها مع العلوم النافعة: "فإن هذه التعاليم -من المنطق وما بعد الطبيعة وغيرها- لما اتصلت بالمسلمين وعربت كتبها مع ما عرب من كتب الطب والحساب والهيئة وغير ذلك، وكان انتشار تعريبها في دولة الخليفة أبي العباس الملقب بالمأمون؛ أخذها المسلمون فحرروها لفظًا ومعنى. لكن فيها من الباطل والضلال شيء كثير" (¬1)، وهو يريد هنا بالتعاليم -والله أعلم- تلك المناهج والإلهيات والميتافيزيقا التي لبعضها علاقة بأمور الدين، أما ما لا علاقة له بالدين "مثل مسائل الطب والحساب المحض" فهذا جائز، فغايته الانتفاع بآثارهم في أمور الدنيا (¬2)، ثم عرض شيخ الإِسلام مواقف الناس من تلك التعاليم الباطلة في ثلاثة مواقف: 1 - الفلاسفة، حيث اتبعوها وجمعوها مع ما ينتحلونه من الإِسلام. 2 - المعتزلة، لم يقصدوا اتباعها لكن تلقوا عنهم أشياء يظنون أنها جميعها توافق الإِسلام وتنصره، مع أن كثيرًا منها تخالفه وتخذله. 3 - حال كثير من أهل الحديث والفقه وغيرهم، حيث أعرضوا عنها إعراضًا مجملًا، ولم يتبع أهل هذا الموقف من القرآن والإِسلام ما يغني عن كل حقها ويدفع باطلها ولم يجاهدهم الجهاد المشروع (¬3). نؤكد هنا بأن علماء الإِسلام وأهل السنة خصوصًا لم يكن لهم اعتراض على العلوم النافعة؛ وإنما كان اعتراضهم على تلك الإلهيات الفلسفية التي تتعارض مع ميراث النبوة، ونؤكد بأن علماء المسلمين وإن قبلوا من متفلسفي المسلمين العلوم النافعة التي بين أيديهم من الطب والحساب وغيره مما هو معروف في زمنهم؛ فإنهم في المقابل قد وقفوا ضدّ انحرافاتهم العقدية وحذروا الأمة منها، وهو يوضح وسطية أهل السنة في موقفهم من المخالفين وعلومهم. ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى 9/ 265. (¬2) انظر: نقض المنطق، ص 96 - 97، بتصحيح محمَّد الفقي. (¬3) انظر: الفتاوى 9/ 266.

العلوم السبعة

والمقصود من هذه الوقفة كشف بعض الدعاوى الزائفة من قبل المتغربين في عصرنا؛ حيث يتهمون علماء الإِسلام بأنهم حاربوا العلوم وأهلها، وربما وجدوا نصًا من عالم حول أحد الفلاسفة ممن اعتنى بالعلوم المنقولة عن أمم أخرى، فما فرّقوا بين الموقف من علمهِ الذي بين يديه وبين الموقف من عقيدته التي يسعى لنشرها وينتقص في الوقت نفسه من الإِسلام؛ فإن علماء الإِسلام قبلوا علمه النافع ورفضوا فلسفته الفاسدة، وهذا ابن القيم -رحمه الله- من علماء الإِسلام الكبار مع كثرة نقده للفلاسفة وأمثالهم كابن سينا مثلًا، لا يجد مانعًا من الاستفادة من جهوده الطبية، فينقل عنه ويستفيد من معلوماته (¬1). إذًا، لم تكن الأمة الإِسلامية تجد حرجًا من الانتفاع بعلوم الأمم الأخرى، بل قامت بنقلها إلى العربية، ثم أعادت بناءها من جديد، وسأعرض الآن صورتها كما استقرت عليه بعد الترتيب ويتعلمها الكثير ضمن ما يمكن أن نطلق عليه بالمناهج التعليمية المدرسية كما عرضها ابن خلدون بصورة مجملة: العلوم السبعة: سبق أن عرفنا أن ابن خلدون حصرها في سبعة علوم هي: "المنطق، وعلوم التعاليم الأربعة: الإرتماطيقي والهندسة والهيئة والموسيقى، ثم الطبيعيات والإلهيات"، وبما أن المنهج يسبق العلوم فقد كانت البداية بالمنطق، ورغم تلميحات ابن خلدون النقدية حول المنطق، فهي لم تصل إلى النقد الجذري والنافع الذي قدمه شيخ الإِسلام ابن تيمية في أول القرن الثامن الهجري، ومن باب التذكير بما ورد في الفصل الأول؛ فإن أوروبا في القرن التاسع/ الخامس عشر وما بعده بدأت تقتنع بأن أحد أسباب تخلفها العلمي هو ثباتها على المنطق الأرسطي، فبدأت محاولات تخلصها منه ونقدها له بعد قرون من نقد شيخ الإِسلام ابن تيمية. وإذا كان ابن خلدون قد يتسامح مع المنطق لما يرى فيه من خدمة للعلوم البشرية؛ فإن ابن تيمية قد أثبت بأن تلك العلوم لم تنتفع بالمنطق، وأن حذاق أهل العلوم تقدموا بعلومهم مع جهلهم بصناعة المنطق. فإذا أخرجنا المنطق وأخرجنا معه الموسيقى والإلهيات وهي موطن نقد من ¬

_ (¬1) انظر مثلًا: الجزء الرابع من زاد المعاد. . . .، لابن قيم الجوزية؛ حيث نجد أسماء الأطباء من مئل: "ابن سينا" و"إبقراط" و"جالنيوس" و"ابن كلدة" وغيرهم.

ابن خلدون، فيبقى معنا صورة العلوم النافعة أو الصحيحة وهي: "الإرتماطيقي والهندسة والهيئة والطبيعيات". فأما الإرتماطيقي فهو علم العد أو الحساب، فهو أول أجزاء التعاليم وأثبتها، وفيها مسائل الجمع والطرح والضرب القسمة، وقد كانوا يحرصون أثناء تعلمه بعد معرفته على الآثار التربوية، لما يرون من أثرها في نشوء عقل مضيء غالبًا متدرب على الصواب، وأنه قد يغلب على صاحبه الصدق لما في الحساب من صحة المباني فيصير ذلك خلقًا للمتعلم (¬1). يقول ابن تيمية: "ففي الإدمان على معرفة ذلك تعتاد النفس العلم الصحيح والقضايا الصحيحة الصادقة والقياس المستقيم فيكون في ذلك تصحيح الذهن والإدراك، وتعود النفس أنها تعلم الحق وتقوله، لنستعين بذلك على المعرفة التي هي فوق ذلك، ولهذا يقال: إنه كان أوائل الفلاسفة، أول ما يعلمون أولادهم العلم الرياضي، وكثير من شيوخهم في آخر أمره إنما يشتغل بذلك؛ لأنه لما نظر في طرقهم وطرق من عارضهم من أهل الكلام الباطل، ولم يجد في ذلك ما هو حق؛ أخذ يشغل نفسه بالعلم الرياضي، كما كان يتحرى مثل ذلك من هو من أئمة الفلاسفة كابن واصل وغيره. وكذلك كثير من متأخري أصحابنا يشتغلون وقت بطالتهم بعلم الفرائض والحساب والجبر والمقابلة والهندسة ونحو ذلك؛ لأن فيه تفريحًا للنفس، وهو علم صحيح لا يدخل فيه غلط. وقد جاء عن عمر بن الخطاب أنه قال: إذا لهوتم فالهوا بالرمي، وإذا تحدثتم فتحدثوا بالفرائض؛ فإن حساب الفرائض علم معقول مبني على أصل مشروع، فتبقى فيه رياضة العقل وحفظ الشرع. لكن ليس هو علمًا يطلب لذاته، ولا تكمل به النفس" (¬2). فهذا هو كلام علمائنا في مثل هذا النوع، مع حرصهم على الأبعاد التربوية المهمة فيه. وبالعودة لابن خلدون: فهو يذكر من هذا العلم أيضًا الجبر والمقابلة وإبداعات الخوارزمي، وأحسن شروحاته، وإضافات العلماء عليها في المشرق والمغرب، ومنها الانتفاع به في الحياة العملية في فرع المعاملات "وهو تصريف ¬

_ (¬1) انظر: المقدمة 3/ 1125 - 1128. (¬2) مجموع الفتاوى 9/ 128 - 129.

الحساب في معاملات المدن في البياعات والمساحات والزكوات وسائر ما يعرض فيه العدد من المعاملات"، وهو يُظهر كيف يُستفاد من هذا العلم في حياتنا العملية، وذكر أحسن المؤلفات في ذلك. ومنه أيضًا الفرائض وهو علم يعرفه أهل العلم الشرعي لاتصاله بتقسيم الإرث (¬1). انتهينا من العلم الأول، والغرض فقط الإلماح إلى مدى عناية المسلمين به، وأنه أصبح أحد مكونات مفهوم العلم لديهم، وكيف صرفوه فيما ينفع من معاملاتهم أو وجهوه الوجهة التربوية. العلم الثاني علم الهندسة، فأوضح ابن خلدون أن الكتاب المترجم عن اليونان هو كتاب "أوقليدس"، وأنه أول ما ترجم في الملة أيام أبي جعفر المنصور، ونُسَخه كما يقول مختلفة باختلاف المترجمين، ولا يغفل عن التوجيه التربوي فيقول: "واعلم أن الهندسة تفيد صاحبها إضاءة في عقله واستقامة في فكره؛ لأن براهينها كلها بينة الانتظام، جلية الترتيب، لا يكاد الغلط يدخل أقيستها لترتيبها وانتظامها، فيبعد الفكر بممارستها عن الخطأ"، إلى أن قال: "وكان شيوخنا رحمهم الله يقولون: ممارسة علم الهندسة للفكر بمثابة الصابون للثوب الذي يغسل منه الأقذار وينقيه من الأوضار والأدران؛ وإنما ذلك لما أشرنا إليه من ترتيبه وانتظامه" (¬2)، ثم تحدث عن فروعها، والكتب المعتمدة في كل فرع، وأدخل فيها المناظر وإبداعات ابن الهيثم، وإن كان الآن من فروع الطبيعة (¬3). العلم الثالث علم الهيئة وهو ما يُسمى اليوم بعلم الفلك، ويذكر أن أحسن التآليف فيه كتاب المجسطي المنسوب لـ "بطليموس"، مع ما أضافه بعض المسلمين في هذا الباب (¬4)، وقد سبق الحديث عن هذا العلم في الفصل الأول. العلم الرابع الطبيعيات وما زال هذا الاسم قائمًا إلى اليوم وإن تغيرت بعض أسماء فروعه، وكانت عمدتهم في الباب إجمالًا على كتب "أرسطو"، ¬

_ (¬1) انظر: المقدمة 3/ 1128 - 1131. (¬2) المقدمة 3/ 1132 وهي في نفس المعنى المنقول عن ابن تيمية. (¬3) انظر: المرجع السابق 3/ 1124 - 1132. (¬4) انظر: المرجع السابق 3/ 1124.

خلاصة صورة التعرف الأولي علي علوم الأمم السابقة

وأعمال "ابن سينا" و"ابن رشد" حولها، حيث اجتهد الأول في عمل بعض التغييرات فيها؛ بينما حافظ الثاني على صورتها الأرسطية كما هي (¬1). ومن فروعه علم الطب (¬2) سواء المترجم عن "جالنيوس" أو كتب "الرازي" و"ابن سينا" وغيرهم، وهي التي كانت ضمن مواد التعلم في هذا الباب. ومن فروعه الفلاحة (¬3) وهي تدخل في يومنا هذا في باب الأحياء وفي أقسام الزراعة والنباتات، وهي من الأبواب التي اختلط فيها العلم بالسحر، وعلى المنوال نفسه الفرع اللاحق وهو: ومن فروعه الكيمياء (¬4) إلا أنها رغم الجوانب العلمية التي فيها كانت تختلط عند الكثير بالسحر والطلسمات؛ ولذا جعلها ابن خلدون بهذا العنوان "السحر والطلسمات". وهذا الرصد الإجمالي من ابن خلدون كما اختصرته المقصود منه -كما كُرر ذلك- بيان حال الساحة العلمية، فهي ساحة قد فتحت قلبها للعلوم النافعة، وانتشرت في الأمة الإِسلامية، وأصبحت إحدى مكونات أمة العلم، وقد جاء من الباحثين فيما بعد من تفرغ لهذه العلوم يرصد دخولها إلى العالم الإِسلامي، ثم ما لحق ذلك من تحسين أو تطوير أو إبداع أو بناء مناهج أو وضع تصورات جديدة حولها. خلاصة صورة التعرف الأولي علي علوم الأمم السابقة: يُظهر لنا العرض الموجز السابق أثر هذا الدين العظيم في تحويل أمة أمية إلى أمة علم، فبنت علومها الذاتية بنفسها، ثم انتقلت إلى العلوم النافعة في الأمم حولها لتأخذ ما تحتاجه منها، وهي صورة تختلف عند المقارنة عن صورة حديثة وقعت للأمة، ومن ذلك مثلًا: 1 - لم تبتعث الأمة آنذاك أبناءها لطلب تلك العلوم؛ وإنما طُلبت كتب العلوم ثم ترجمت، وأوجدت من يدرّسها داخل الأمة، فتفاعلت الأمة معها ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق 3/ 1141 - 1142. (¬2) انظر: المرجع السابق 3/ 1142 - 1144. (¬3) انظر: المرجع السابق 3/ 1144 - 1145. (¬4) انظر: مقدمة ابن خلدون 3/ 1147 وما بعدها.

ذاتيًا، ولا شك أن ذلك كان أسلم لأبناء الأمة، مع العلم بأن طبيعة تلك المرحلة لم تكن تسمح بفكرة الابتعاث ذاتها. 2 - أن الأمة الإِسلامية عندما أخذت علوم الأقوام الآخرين، أخذتها من موطن قوّة وعلوّ وعزّة، لذا كان بيدها أن تختار ما تريد وأن ترفض ما لا تريده، وقد منحتها قوتها أيضًا القدرة على احتواء تلك العلوم دون الانبهار بأحوال أهلها، وأعطتها أيضًا القدرة على الإبداع فيها والمجيء بما لم تصنعه الأوائل، بخلاف الأخذ الأخير، إذ كان من موطن الضعف وترتب على ذلك آثاره السلبية. 3 - كانت علوم الأمم الأخرى في حالة توقفها عن التطور، وهي مع ذلك كانت محدودة، ويغلب عليها الصورة التي وصلت إليها عند أرسطو، كمنهج ومحتوى، مع شروحات وإضافات محدودة لمن بعده، مما سهّل عملية التعرف عليها، بخلاف الاتصال الحديث، فقد كان في وقت تطورها، وهو تطور مستمر لم يتوقف إلى الآن، وفي وقت تكاثرها الذي يُصعّب من عملية احتوائها ويوقع ربما طالبها في ما تحويه من إشكالات. 4 - كان للخلط في الترجمة بين ما نفعه مؤكد وبين ما هو غير مؤكد أو ذو ضرر؛ أثره في إعاقة مسيرة الأمة، فانفتحت صراعات كان يمكن السلامة منها، وانشغلت الأمة بآثارها على حساب النافع، وهو دَرْسٌ لم تستوعبه الأمة؛ فمع عملية النقل الحديثة رجعنا للمشكلة نفسها، فترجِم الكثير من المشغل للأمة عن الأهم، أو ترجم الضار والمعيق لمسيرتها، وإلى يومنا هذا لا مقارنة مثلًا بين ترجمة الأعمال الأدبية والفنية الكثيرة مع ترجمة الأعمال العلمية النافعة.

ثالثا: الضعف والتخلف وانحسار مفهوم أمة العلم وظهور الدعوات الإصلاحية

ثالثًا: الضعف والتخلف وانحسار مفهوم أمة العلم وظهور الدعوات الإصلاحية 1 - الانكسار في خط المسار: لم تواصل الأمة الإِسلامية صعودها وتفوقها، فقد تعرضت لمشاكل ذاتية أضعفت من أمرها وتحديات خارجية أنهكت مسيرتها، وهو موضوع يطول الحديث عنه وليس مقصودنا البحث فيه (¬1)، فالكل يعرف بأن الأمة الإِسلامية قد وقعت في ضعف خطير سهّل مهمة الأعداء من الداخل والخارج، ودخلت نفق التخلف بعد أن كانت أمة العلم والمعرفة لتتحول من جديد إلى أمة يغلب على أهلها الجهل والأمية. وقد تأثرتْ كل مناشط الأمة من جراء هذا الضعف بما في ذلك العلم ذاته، سواء كان العلم الشرعي أو العلوم الدنيوية. فهذه العلوم ترتبط عادة بالأمم القوية وبحواضرها ومدنها العامرة، فإذا ضعفت وانهار عمرانها وتسلط عليها أعداؤها؛ انحسر العلم عنها إلى أن تعود للأمة قوتها وعمرانها. وقد صاحب هذا الضعف وانحسار العلم بروز قوّةٍ لأمم أخرى من حولنا، وتطورت فيها العلوم الدنيوية تطورًا كبيرًا وظهرت ثمارها في دنياهم، وأعطتهم سلاحًا يستطيعون من خلاله احتلال البلاد الأخرى. ولكن أمة الإِسلام باقية بحفظ الله لها, ولذا يظهر فيها من يستنهض أهلها ¬

_ (¬1) انظر: واقعنا المعاصر، محمَّد قطب، مبحث خط الانحراف ص 113 وما بعدها، وانظر: الأهواء والفرق والبدع عبر تاريخ الإِسلام. . . .، د. ناصر العقل، القسم الأول 2/ 11 - 96.

2 - المخاض العسير لدخول العصر الحديث

ويبث الروح فيهم من جديد، ومن أهم ما رصده لنا التاريخ من محاولات مؤثرة وأجمع عليها أغلب من كتب عن العصر الحديث، الدعوتان التجديديتان والإصلاحيتان: الأولى كانت في القرن الثامن الهجري مع شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله-، والثانية كانت أول القرن الثاني عشر الهجري مع الإِمام محمَّد بن عبد الوهاب -رحمه الله- (¬1)، وكان حاصل دعوتهما بأن ضعف الأمة وتخلّفها وانحرافها يرجع إلى تفريطها في دينها الذي قد أعطاها قوتها في زمنها الأول، وأنه لا نجاة للناس ولا سعادة في الدنيا والآخرة إلا بالعودة الصادقة إلى هذا الدين، وأن ذلك يُحتّم على الأمة تطهير الذات من البدع والانحرافات العقدية والالتزام بالاعتقاد على منهج خير القرون والعمل بما شرع الله سبحانه والانتهاء عما نهى عنه. وهم في ذلك يرون بأنه من الواجب على الأمة الأخذ بأسباب القوة والإعداد والانتفاع بالعلوم المفيدة، وإن كانت عند أعدائنا، فالحكمة ضالة المؤمن، والانتفاع بتلك العلوم من الأمور الجائزة. إلا أنهما -وذلك مما تميزًا به عن غيرهما- حذرًا من أخذ كل ما عند الأمم الأخرى، فليس كله حقًّا أو نافعًا، وعلينا الاكتفاء بما نحتاجه من العلوم النافعة لدنيانا على أن يهتم بها بعض أبناء أمتنا بما يغنينا عن الاحتياج للآخرين. وبقدر ما نفع الله بهذه الدعوة التجديدية والإصلاحية؛ إلا أن الضعف والانحراف قد كان كبيرًا، ولذا لقيت هذه الدعوة من المواقف الصادّة والرافضة الشيء الكثير، إلا أن ذلك لم يمنع من تأثرِ الكثير بها وسعيهم إلى العودة بالأمة إلى قوتها، والارتقاء بها إلى مكانتها العالية. 2 - المخاض العسير لدخول العصر الحديث: دخلت البلاد الإِسلامية عصرها الحديث باعتبارها جزءًا من الدولة العثمانية، والتي لم تكن جزءًا منها فهي تراها على الأقل الدولة الأم للعالم ¬

_ (¬1) الكتب التي تحدثت عن الشيخين ودعوتهما كثيرة جدًا، يمكن الرجوع حول شيخ الإِسلام إلى: موقف شيخ الإِسلام من الأشاعرة، د. عبد الرحمن المحمود 1/ 151 - 327، وانظر: ابن تيمية السلفي، محمَّد خليل هراس، وحول الإِمام محمَّد بن عبد الوهاب، انظر مثلًا: عقيدة الشيخ محمَّد بن عبد الوهاب وأثرها في العالم الإِسلامي، د. صالح العبود.

الإِسلامي، ولذا فالنظر في حالها يُعبّر عن حال أغلب بلاد المسلمين، ويكشف كيف بدأت جميع الولايات الإِسلامية تفكر في التحديث، ومن ذلك البحث من جديد عن العلوم الدنيوية التي فقدتها، وأهملتها في ظل التهاون العام بأمر ديننا. فكيف كانت حالنا في المرحلة التي تسبق طلب التحديث والإصلاح بما في ذلك طلب العلوم العصرية؟ صورتان أو إحداهما تعمّ العالم الإِسلامي آنذاك أجمعت عليها كتب التاريخ إما بلسان حالها أو بلسان مقالها، والصورتان هما: الانحراف والضعف؛ الانحراف في باب الدين ويتبع ذلك ما يرتبط به من تصورات وأعمال، والضعف في أبواب الدنيا من أمية وفقر وتخلف وضعف (¬1)، وإن سلم جزء من العالم الإِسلامي من إحدى الصورتين لم يسلم من الأخرى. فأما الصورة الأولى: الانحراف في الدين، فقد انتشرت البدع في بلاد المسلمين، وعلى رأسها تلك المرتبطة بالتصوف وطرقه التي لقيت دعمًا من السلطنة وانتشرت انتشارًا كبيرًا (¬2)، وارتبط بها إهمال طلب العلم وعدم الحرص عليه، كما ارتبط بها عقيدة التواكل وعدم السعي في الأرض وإهمال إعمارها، وزهّدت هذه الحال أتباعها من طلب العلم الشرعي فضلًا عن العلوم الدنيوية وعلوم العمران. ليس بإمكاننا البحث عن أسباب انتشار ظاهرة التصوف في القرون الأخيرة، إلا أن الضعف الخطير الذي دبّ في الأمة الإِسلامية ربما كان أحد أخطر الأسباب في انسحاب الكثير خلف الطرق الصوفية بما تمثله من مسهلات للخمول والكسل وعدم الحرص على بذل الجهد في طلب أسباب القوة. ومما يلفت النظر بأن التصوف قد انتشر في المناطق التي احتكت مباشرة بالحضارة الغربية، مثل عاصمة الدولة العثمانية ومصر وبلاد المغرب، وقل مثل ¬

_ (¬1) انظر مثلًا: واقعنا المعاصر، محمَّد قطب ص 165 وما بعدها، وانظر: الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين وأثرها في حياة الأمة، علي الزهراني ص 23 - 75. (¬2) انظر: الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة (1798 - 1914 م)، علي محافظة ص 16 - 20، وانظر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة، عبد الرحمن عبد الخالق ص 52 - 53 وكذا بقية فصول الكتاب لعنايتها بالتصوف في العصور الأخيرة.

3 - البحث عن مخرج لأزمتي الانحراف والتخلف

ذلك في شرق العالم الإِسلامي في الهند وما جاورها، وهي المناطق الأولى في الاحتكاك بالغرب لاسيّما مصر وتونس وتركيا، مما ولّد علاقة غير سليمة مع الحضارة الغربية، فهذه الحضارة فيها الكفر والإلحاد والانحلال، وفيها أيضًا العلوم النافعة والصناعة والتقنية والإدارة. لم يظهر من الطرق الصوفية ما يكشف لنا انتباههم لخطورة الموقف واتخاذ القرار المنهجي الصحيح؛ وإنما كان موقفهم السائد من الغرب هو رفض كل ما عنده وتزهيد الناس في ذلك، وهو لا يخرج عن الروح العامة للتصوف من عدم الحرص على العلوم ما لم تكن علوم التصوف ومن التواكل وعدم الانتباه لبذل الأسباب وإعداد العدّة والقوة (¬1). وإذا كان الكثير من أتباع الطرق الصوفية يحتقرون العلوم الشرعية أو لا يحرصون على تعلمها اكتفاءً بعلوم التصوف؛ فمن باب أولى العلوم الدنيوية وعلوم العمران، والكلام هنا عن الأغلب؛ وإلا ففيهم من كان من أهل العلم ودعا الأمة إلى طلب أسباب القوة، ولو كان من علومٍ عند الكفار إذا كانت نافعة، ولكن هذا يغلب على المتكلمين منهم -أتباع أهل الكلام- بخلاف الموغلين في التصوف (¬2). أما الصورة الثانية: فهي الضعف، فمن سلم من بدع التصوف أو ما شابهها لم يسلم من الضعف العام وما ارتبط به من انتشار الأمية والفقر والمرض والخوف، ساعد في استمرار هذه الحال ضعف الزعامات العلمية والسياسية والاجتماعية، حيث لا تحرص على رفع الأمة عما هي عليه، أو هي مشغولة بصراعات وفتن متتالية. 3 - البحث عن مخرج لأزمتي الانحراف والتخلف: يرجع مجموع ما اقتُرح من مخارج إلى اثنين: إما ديني وهو ما ركز عليه أغلب قواد الفكر الإِسلامي، أو دنيوي (¬3) وقد غلب على رجال السياسة، مع ¬

_ (¬1) انظر: البحث المميز: الانحرافات العقدية والعلمية. . . .، علي الزهراني ص 469 - 475، حول موقف الصوفية من العلم في هذه المرحلة. (¬2) من أولئك مثلًا الشيخ "حسين الجسر" في الشام، و"حسن الطويل" في مصر، و"محمود قبادو" في تونس، وسيأتي الحديث عنهم بإذن الله لاحقًا. (¬3) انظر: الاتجاهات الفكرية عند العرب. . . .، علي المحافظة ص 161.

أنهما يتكاملان في المنهج الإِسلامي الوسطي، والأول هو أساس الثاني. المخرج الأول "الديني": المخرج النظري لهذه الأزمة -أزمة الانحراف الديني والضعف الدنيوي- هو إصلاح الذات أولًا، هكذا يقول المنطق الصحيح، وقد حدث ذلك فعلًا بظهور دعوة الإِمام محمَّد بن عبد الوهاب -رحمه الله-، فقد كانت دعوته بحق أهم حدث تاريخي في العصر الحديث، ووفق الله صاحبها إلى الابتداء من الجزء المناسب في إصلاح شأن الأمة الإِسلامية، وذلك بدعوته إلى العودة للدين الصافي بعيدًا عن انحرافات المنحرفين، ذلك الدين كما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتحقق في سلف الأمة، ذلك الدين الذي بتحققه تحصل النجاة الحقيقية والقوة والتمكين. بدأ -رحمه الله- بالدعوة للتوحيد ونبذ الشرك وإحياء الإِسلام في النفوس والمجتمع، ودعا إلى التخلص من البدع والانحرافات والأمراض الدينية، ومن الطبيعي لعالم مثله ومصلح كبير أن يدرك أمراض واقعه فيبدأ بها، فنشر التوحيد وحارب بدع الشركيات والقبوريات والتصوف والتشيع وما في حكمها من الأمراض المعروفة في واقعه، ونشر العلم وحثّ على تعلمه وتعليمه. انتشر أمره في العالم الإِسلامي، وأصبح الحديث عن دعوته في كل مكان، فأما العقلاء فقد استفادوا من دعوته أمورًا، أهمها: - أهمية الابتداء بما ابتدأ به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأمر به دعاته من الصحابة وهو التوحيد ونبذ الشرك والبدع وإقامة الدين في العبادة والمعاملة والسلوك. - أن الأمة قادرة على النهوض من جديد، وهاهو النموذج أمامهم، فهو في بيئة ذات إمكانيات محدودة، ومع ذلك فقد قام التوحيد، وازدهر بين أهلها العلم، وعاد الناس للعبودية الصافية، وتخلصوا من البدع والضلالات، وتحقق لأهلها من القوة والتمكين في وقت قصير ما لم يتحقق لغيرهم. - إحياؤه لمنهج السلف الصالح ومذهبهم في الدين "عقيدة وشريعة"، فقد كان المنهج غريبًا بعد انتشار التصوف والكلام والتشيع، وانتشار القبورية والشركيات بين العوام، أما بعد دعوته -رحمه الله- فقد خرج ذاك المذهب العظيم للناس، فتعرفوا على حقيقته الغائبة عنهم وعلى أعلامه البارزين ولاسيّما شيخ الإِسلام ابن تيمية وابن القيم وعلماء كبار في القرن الثامن الهجري.

أما موقف الإِمام محمَّد بن عبد الوهاب -رحمه الله- من العلوم العصرية المعروفة في الغرب، فلم يتحدث عنها الشيخ بحسب ما اطلعت عليه من كتبه (¬1)، ولكننا إن أردنا معرفة موقفه فلنا طريقان: إما الذهاب إلى المدرسة التي نهل منها الإِمام، وهي مدرسة شيخ الإِسلام ابن تيمية، أو الذهاب إلى من جاء بعده من أتباع دعوته ممن أحيا مذهب السلف من العلماء الذين احتكوا بهذه العلوم وتعرفوا عليها وأعلنوا موقفهم منها، فعند الطرف الأول نجد التأصيل المهم للعلاقة بهذه العلوم، وعند المعاصرين نماذج من بيان الموقف مما استجد منها في حياة الناس، وهو موقف يخالف بالطبع الموقف الذي عُرف من علماء الدين من أتباع الطرق الصوفية وغيرها، على أن الحديث عن ذلك سيُؤجل إلى مبحث يتعلق بموقف الاتجاه السلفي من العلوم العصرية. أما لماذا لم يتحدث الشيخ عن العلوم العصرية والحضارة الغربية؟ فإن الشيخ -رحمه الله- بدأ بالأساس وهو الإصلاح والتجديد والدعوة للتوحيد وحماية جنابهِ ومحاربة الشركيات والبدع ومظاهر الانحراف في المجتمع، وهي دون شك المهمة العظمى التي فرط فيها أصحاب مشروعات عرفها المسلمون دعت للارتقاء بحال الأمة دون أن تعتني بهذا الجانب. أيضًا فإن موطن دعوة الشيخ -رحمه الله- كان بعيدًا عن الاحتكاك بأوروبا وحضارتها الحديثة، فلم تكن وسائل المواصلات ولا الاتصالات آنذاك متيسرة، وكانت الجزيرة لاسيّما وسطها بعيدة عن الاتصال بالغرب، وكان البناء الداخلي متواصلًا لم يكتمل حتى نبحث عن المفيد عند غيرنا إن احتجنا له، وهو ما سيظهر عند علماء أتوا بعد الشيخ أصّلوا للعلاقة المناسبة بالعلوم العصرية. إذًا لم تكن من أولويات دعوته آنذاك، ولم تكن بيئته قريبة من تلك الأمور، وقد كان من الممكن أن يُكمل المسلمون الذين هم على صلة بأوروبا ما نحتاجه مما ينقصنا في أمور الدنيا من العلوم النافعة من طب وصناعة وإدارة وغيرها، بحيث يحدث التعاون المطلوب شرعًا بين المسلمين، وتقوم فئة من ¬

_ (¬1) جُمعت مؤلفاته -رحمه الله- في اثني عشر مجلدًا (مؤلفات الشيخ الإِمام محمَّد بن عبد الوهاب)، بإشراف عبد العزيز الرومي وآخرين.

المسلمين بتحصيل ما يحتاجه الناس ونقلهِ إليهم؛ لكن الذي وقع في تاريخنا المعاصر غير ذلك. فإن المرحلة التي ظهر فيها الشيخ بدعوته الإصلاحية في الجزيرة هي المرحلة نفسها التي بدأت مصر والسلطنة العثمانية بالتعرف على علوم الغرب وطلبها، وقد كان يمكن حدوث التعاون الذي تكلمنا عنه؛ إلا أن الأهواء السياسية والبدعية قد أفسدت الأمر، وتكفل "محمَّد علي" -نيابة عن الدولة العثمانية مع طمعه في توسيع أملاك ولايته- بمحاربة الدعوة السلفية، ومحاولته القضاء على تلك الدعوة التجديدية الإصلاحية العظيمة، فخسر المسلمون بسبب ذلك الصراع شيئًا كثيرًا. ومع ذلك فقد تحقق المكسب الحقيقي ولله الحمد بإحياء مذهب السلف، فتعرّف الكثير عليه وعادوا إليه، وبدأت آثارها تظهر في كل مكان بفضل من الله سبحانه. هكذا كان المشروع الأهم والأعظم قد انطلق بفضل الله دينيًا وسلفيًا، فحرك العالم الإِسلامي بأكمله، ومثّل أصحابه أهم الصور التجديدية والإصلاحية في العصر الحديث، رغم ما تعرضت له الدعوة أول أمرها من حرب فكرية (¬1) وإعلامية وسياسية وعسكرية إلا أنها أيقظت الأمة. ويحسن التوقف مع مقولة خاطئة نجدها في الكتب الفكرية المعاصرة من الحديث عن دعوة الشيخ -رحمه الله-، ومنها قول "أحمد أمين" عن أتباع الإِمام بأنهم: "قد اهتموا بالناحية الدينية وتقوية العقيدة وبالناحية الخلقية كما صورها الدين؛ ولذلك حيث سادوا قلت السرقة والفجور وشرب الخمور وأُمِّنَ الطريق وما إلى ذلك، ولكنهم لم يمسُّوا الحياة العقلية ولم يعملوا على ترقيتها إلا في دائرة التعليم الديني، ولم ينظروا إلى مشاكل المدنية الحاضرة ومطالبها. . . ." (¬2)، ¬

_ (¬1) يمكن التأمل في ضخامة ما أثير فكريًا وإعلاميًا على دعوة الشيخ -رحمه الله- بالرجوع إلى: دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمَّد بن عبد الوهاب -عرض ونقد، عبد العزيز العبد اللطيف. (¬2) زعماء الإصلاح في العصر الحديث، أحمد أمين ص 20، وللأسف فلشهرة كتاب أحمد أمين فقد أصبح مرجعًا للبعض فينساقون في الاتهام دون انتباه، وانظر مثلًا: الفكر التربوي. . . .، د. سعيد إسماعيل ص 72، وقد قال الشيخ محمَّد عبده كلامًا قريبًا من هذا، انظر: الإِمام محمَّد عبده. . . .، د. محمَّد عمارة ص 58 - 59.

والجواب -على ما بعد لكن- بأنه لا أعظم من ترقية العقول في دائرة التعليم الديني بما يمنحها من هداية ورشد ومنهج سليم؛ ولذا لم ينشغلوا بما انشغل به غيرهم من علوم فلسفية وكلامية أرهقت المتعلمين في بلاد المسلمين دون ثمرة في الدنيا أو الدين، أما مشاكل المدنية الحاضرة ومطالبها فقد عرفنا بأن واقعهم آنذاك، الزماني والمكاني، والظروف المحيطة بهم قد أجّلت احتكاكهم بمشاكل المدنية الحاضرة، ولكنهم عندما احتكوا بها كانوا من فرسان الميدان، فأصّلوا ونظروا وبينوا الواجب والممنوع، وأجابوا عن الإشكاليات، ودعوا إلى تأصيل إسلامي حضاري للمدنية الحديثة، ولا شك أن الواجب الكفائي على الأمة المسلمة يختلف من مكان إلى آخر، وأمور المدنية الحاضرة إن كان المقصود بها الترقي بأحوال الناس المادية في الطب والصناعة والإدارة والعلوم الدنيوية النافعة، فلا أحد يختلف في أهمية توفيرها وتمكين الناس منها, ولكن هل ترك أعداء الدعوة لها المجال في فعل ذلك، فقد جيّشوا الجيوش وأثاروا عليها الفتن وألّبوا عليها الناس؛ مما عطل البناء وأشغل الدعوة في الدفاع عن نفسها من الحروب المتتابعة عليها. ومما سجله لنا التاريخ تلك الصفحة السوداء لرسل الحضارة الغربية والمدنية الحديثة -محمَّد علي وأبناؤه- حيث مارسوا القتل والإفساد في الأرض بالتواطؤ مع الإِنجليز آنذاك في الباطن وإظهار الدفاع عن الدولة العثمانية، فضربوا الدعوة السلفية وشردوا العلماء أو قتلوهم (¬1). المخرج الثاني: هو طلب إصلاح الدنيا، وكان من بين أهم ما يعنيه ذلك عند أهل تلك المرحلة: الإقبال على أوروبا التي عرفت تقدمًا كبيرًا في دنياها. ولا شك أن إصلاح دنيا الناس أمر مطلوب شرعًا، ولكن قد حدثت أخطاء في أثناء تلك المحاولات تسببت في فشل مثل تلك التجارب أو انحرافها. ¬

_ (¬1) انظر حول ذلك الدراسة المميزة: سياسة محمَّد علي باشا التوسعية في الجزيرة العربية والسودان واليونان وسوريا. قراءة جديدة (1811 - 1840 م)، الفصل الأول: ص 33 - 60، وفيه ص 52، سرور فرنسا والإِنجليز بذلك، وإبلاغ فرنسا "الباشا" عبر قنصلها أنها ممنونة مما رأته من اقتداره على نشر أعلام التمدن في البلاد الإِسلامية! وانظر: الدولة العثمانية عوامل النهوض وأسباب السقوط، د. علي الصلابي ص 398 - 399، وانظر: الانحرافات العقدية والعلمية. . . .، علي الزهراني ص 171 - 172.

وقد كان أحد أخطر ما وقعت فيه تلك التجارب هو الابتداء بطلب إصلاح الدنيا قبل إصلاح أمر الدين، فدخلوا مشاريع الاحتكاك بذات ضعيفة أمام التحديات؛ مما جعل ذلك الاحتكاك جسرًا لعبور الصحيح والفاسد إلى الأمة الإسلامية. بدأت تلك المحاولات تحت مصطلح التحديث والمدنية وغيرهما (¬1)، فطلب التحديث أصبح ملحًا في ظلّ الضعف الذي انتشر في الأمة مع ما يصاحب ذلك من تحديات تتهددها من هنا أو هناك. وقد كان المضمون الغالب لهذا المصطلح هو التحديث المادي بالاعتماد مباشرة على أوروبا بسبب ما حدث فيها من تقدم دنيوي بارز. ولكن أوروبا كانت في الوقت نفسه قد بدأت تتأهب للانقضاض على العالم الإِسلامي، مما يجعل من طلب مساعدتهم في التحديث وهم يريدون لنا الشرّ أمرًا في غاية الإشكال والخطورة. كانت الدولة العثمانية هي الممثل الأهم للعالم الإِسلامي في تلك المرحلة، وأغلب بلاد المسلمين تدين لها بالولاء ولو بالاسم كما يقال، وقد جعل ذلك المهمة عليها أكبر من غيرها، وفي الوقت نفسه هي تلاقي تحديات لا يلاقيها غيرها لكونها المسؤولة عن حماية بلاد المسلمين لاسيّما من أوروبا الطامعة، ويتبعها في المسؤولية بعض ولاياتها المهمة ذات الاحتكاك المباشر بأوروبا، وأهمها آنذاك مصر التي مثلت نقطة البداية لأطماع الأوروبيين، ثم تونس وما حولها من بلاد المغرب لقربها من دول أوروبا القوية لاسيّما فرنسا، وقد كانت إيران ذات الحكم الشيعي -أسرة القاجار- قد احتكت بأوروبا عبر صراعها المرير مع روسيا الصاعدة آنذاك، وكذا الهند الإِسلامية التي تغلغل فيها الإِنجليز عبر شركاتهم أولًا، ثم تحولت هذه الشركات إلى قوة احتلال مما جعلها على اتصال بأوروبا (¬2). لا شك أن التحديات الخارجية على هذه النقاط الخمس: عاصمة الخلافة ومصر وتونس وإيران والهند أكثر وضوحًا، وقد كانت بلاد الشام والعراق ¬

_ (¬1) انظر: أسس التقدم عند مفكري الإِسلام، د. فهمي جدعان، الفصل السادس: القيم ص 391 وما بعدها. (¬2) سيأتي الحديث عنها في فقرات قادمة بإذن الله.

والحجاز تبعًا لعاصمة الخلافة في طلبها التحديث؛ لذا فالحديث عن عاصمة الخلافة يتبعه إلى حد ما الشام والعراق والحجاز، وقد جاء وقت الحديث الموجز عن خطوات التحديث في تلك المراكز مع توجهها نحو أوروبا لطلبه، وكيف كان -تبعًا لذلك- طلبها للعلوم العصرية؟ نظرًا لأن التحديات في المقام الأول كانت عسكرية، تتمثل في تهديد الجيوش الأوروبية العصرية لما يجاورها من بلاد المسلمين، فقد بدأ التحديث لدينا أيضًا -في تلك البلدان- عسكريًا، من أجل تكوين جيش حديث مزود بأسلحة عصرية ويتّبع ترتيبًا إداريًا حديثًا يستطيع مواجهة التحدي الخارجي، ونظرًا لاستفادة الجيوش الأوروبية من ثمرات العلوم العصرية كالجغرافيا والهندسة وعلوم الصناعة الحديثة، وما اعتمدت عليه من رياضيات وفيزياء وكيمياء وغيرها، فقد ارتبط ذلك أيضًا بطموحات بعض ولاة المسلمين في إعداد جيوشهم الجديدة عبر تزويدهم بالمعارف الحديثة العلمية والعسكرية، كان هذا هو مدخل طلب العلوم العصرية من أوروبا ولم يكن من المداخل المناسبة؛ بل ربما أضرّ بحركة العلم العصري في العالم الإِسلامي؛ لأن حركة العلم الحديثة في أوروبا كانت حركة علمية مرتبطة بالمجتمع لا بالجيش، وعندما يكون العلم مؤسسة مستقلة، فإنه ينمو ويتطور ويستفيد المجتمع منه، كل جهة تأخذ ما يناسبها، أما في العالم الإِسلامي فقد كانت مؤسسات تعليم العلوم العصرية أول أمرها غالبًا ما تكون لخدمة الجيش ولم تكن للمجتمع، كانت الجامعات في أوروبا مفتوحة للجميع يدرس فيها الجميع، أما المعاهد العصرية لدينا أول نشأتها فكانت خاصة بفئة من المجتمع ولاسيّما الجيش. وبهذا تكون المؤسسات العلمية الجديدة محكومة بالخطأ والفشل، الخطأ: في مقابل الدين، لعدم ارتباطها بمعاهد المسلمين العلمية التي يُفرق فيها بين الصواب والخطأ، الجائز والممنوع، وكانت العلاقة فقط عبر استفتاء لهيئة العلماء وفي حالات معينة، ولذا نشأ العلم العصري بعيدًا عن علوم الإِسلام وأهلها مما سبب فيما بعد الخصومات بين المجالين، وسهل تسرب الانحرافات الفكرية دون أن تجد النقد الجيد. والفشل: في تجربة تحصيل العلوم العصرية؛ لأن ارتباطها بالمؤسسة العسكرية لا يهيئ لها النمو والتطور الصحيح، وتبقى معاهدها للتدريس فقط،

وما إن يتطور العلم في الغرب حتى نكون في حاجة للابتعاث من جديد أو لاستقدام الخبراء، بخلاف ما لو تكونت مؤسسة علمية مستقلة للعلوم العصرية، تتطور بذاتها ويلتحق بها عند الحاجة بعض أفراد الجيش على أن لا يتحكموا في مصيرها، في وقت ربما كان بالإمكان الإمساك بزمام هذه العلوم قبل أن يحدث فيها تلك التطورات البعيدة الشأن، مما عمق الفجوة بين المسلمين وبين غيرهم من الأمم. هكذا وقعت تجربتنا في تحصيل العلوم العصرية في مشكلتين خطيرتين، مشكلة نشأة تلك العلوم منفصلة عن العلوم الإِسلامية؛ مما سمح بتسرب الانحرافات المعارضة للدين، ومشكلة نشأتها كمؤسسة تخدم المجال العسكري فقط؛ مما عطّل تطورها الذاتي، فبقينا مرتهنين إلى الآن للغرب، وما زال الابتعاث الأداة الأهم إلى الآن في تحصيل هذه العلوم، وتعمقت المشكلة في عصرنا، حيث أصبحت الدول الغربية تفتح جامعاتها في بلداننا وتدرّس فيها ما يتلاءم مع احتياجاتهم هم لا تدريس ما يسهم في استقلالنا المعرفي في باب العلوم العصرية، ونظرًا لأن العلوم العصرية طلبت من خلال تجارب السياسيين في النهوض بالأمة؛ فسأقف مع أشهر تلك التجارب، وما لحق بها من آثار في الفقرات القادمة بإذن الله.

رابعا: تجارب الولايات الإسلامية للتحديث وطلب العلوم العصرية "المرحلة الأولى"

رابعًا: تجارب الولايات الإِسلامية للتحديث وطلب العلوم العصرية "المرحلة الأولى" نبدأ الآن في تتبع التجارب الإِسلامية في طلب العلوم العصرية وما لحق تلك التجارب من إخفاقات أو إشكالات، وأثر ذلك في الانحراف بمسيرة العلوم العصرية، حيث كان الأصل أن تساعدنا تلك العلوم في التقدم والقوة، فجاء من انحرف بها عن مجالها فوظفها بما يربك مسيرة الأمة الحديثة ويعكر صفو تجربتها، وسأقسمها لمرحلتين: تكون المرحلة الأولى خاصة بالتجارب العثمانية الأولى وبالتجربة الهندية، والثانية تكون خاصة ببقية تجارب القرن الثالث عشر الهجري. 1 - تجربة الدولة العثمانية: كانت الدولة العثمانية سباقة في طلب التحديث المادي بعد أن دبّ فيها الضعف ورأت عبر حروبها مع أوروبا التطورات الجديدة في الجيوش الأوروبية، فما سبب تلك التطورات؟ وهل يمكن الحصول عليها؟ كان مثل هذا التساؤل هو بداية الاتصال بأوروبا التي هي في الوقت نفسه العدوّ لنا والطامعة فينا. ونظرًا لارتباط تطور الجيوش الأوروبية بالعلوم الجديدة؛ فإن هذا يستدعي من الدولة العثمانية التعرف على هذه العلوم ومعرفة كيفية تحويلها إلى واقع عملي يزيد من قوة الجيش والدولة، وانطلقت تجارب السلاطين العثمانيين التي انزلقت مع الأيام نحو التغريب. ونجد أولى المحاولات ما حدث زمن السلطان أحمد الثالث (1115 -

1143 هـ / 1703 - 1730 م) في النصف الأول من القرن الثاني عشر الهجري/ الثامن عشر الميلادي، حيث بدأ الحديث عند بعض الناس عن أهمية الإصلاح للوصول إلى الوسائل التي حققت بها أوروبا قوتها، وكان "الدّاماد إبراهيم باشا الذي تولى الصدارة العظمى في عهد السلطان أحمد. . . . أول مسؤول عثماني يعترف بأهمية التعرف على أوروبة. . . ."، وأرسل السلطان مبعوثين إلى فرنسا للاطلاع على مصانعها ومنجزات الحضارة الفرنسية (¬1) وبدأت الترجمة، وفي عهد هذا السلطان أُدخلت المطبعة، "وأفتت مشيخة الإِسلام بجوازها، إلا أنه بقي طبع المصحف الشريف ممنوعًا"، وأول ما طبع كتب في التاريخ والجغرافيا وكتاب عن المغناطيس "الفيوضات المغناطيسية"، ثم أهملت أربعين سنة إلى عهد محمود الأول (¬2). كانت هذه بدايات التعرف الأولية على حضارة أوروبا الحديثة (¬3)، وهي بدايات ضعيفة، ولم تُخرج لنا رؤية واضحة حول كيفية التفاعل الإيجابي النافع مع علومهم وصناعاتهم واكتشافاتهم، ولنا أن نتخيل أمة عظيمة ودولة كبيرة ذات موقف غامض من آلة نافعة وهي المطبعة فكيف بغيرها!! هذا يكشف لنا بأن بدايات الاحتكاك لم تكن وفق رؤية مدروسة، ثم تضاعفت المشكلة بانصراف السلطنة إلى تقليد أوروبا في مظاهر سطحية (¬4) كالمباني الفارهة والقصور والعادات وترك اتخاذ القرارات المهمة حول طلب النافع من علوم وصناعات. ¬

_ (¬1) انظر: الدولة العثمانية عوامل النهوض وأسباب السقوط، د. علي الصلابي ص 343 - 344، وانظر: الدولة العثمانية. قراءة جديدة لعوامل الانحطاط، قيس عزاوي ص 44 - 45. (¬2) انظر: تاريخ الدولة العثمانية، شكيب أرسلان ص 244، وانظر: الدولة العثمانية. . . .، قيس عزاوي ص 45 - 46. (¬3) أخرج أول سفير عثماني في فرنسا كتابًا عن وصف فرنسا سنة (1730 - 1731 م)، ومنها وصفه لعلومهم ومدارسهم ومصانعهم وأسماه (جنة المشركين)، وانظر: الدولة العثمانية. . . .، قيس عزاوي ص 45، ومثله فيما بعد كتاب الطهطاوي المصري عن وصف باريس. (¬4) انظر: الدولة العثمانية. . . .، الصلابي ص 344، وإن كان للموقف من المطبعة أبعاد أخرى، منها اعتراض النُسّاخ وقد كانوا بالمئات خوفًا على ذهاب مصدر رزقهم، وقد ثارت "الإنكشارية" على السلطان فعزلته وقتلت "الصدر" وهدمت قصوره، وانظر: الدولة العثمانية. . . .، قيس عزاوي ص 45.

كان السلطان الثاني الذي انفتح على أوروبا محمود الأول (1143 - 1168 هـ / 1730 - 1754 م) فتابع مسيرة سلفه، واستقدم مستشارًا فرنسيًا في الأمور العسكرية وصناعاتها، وقد عارض ذلك طائفة الإنكشارية (¬1) التي ستصبح فيما بعد قوة معارضة مزعجة في السلطنة دون امتلاكها رؤية صحيحة فيما تعارض أو تقبل. وساد النفوذ الفرنسي زمنه "في الأستانة، إلى أن صار كلُّ شيء بيد فرنسة تقريبًا، وطلبت فرنسة تعديلات في الامتيازات الأجنبية. . . . فأجيبت إليها. ." (¬2)، فبدأ التغلغل الأوروبي في المركز السياسي للعالم الإِسلامي تحت مظلة الرغبة في التحديث لاسيّما العسكري منه. جاءت المحاولة الثالثة من السلطان سليم الثالث (1204 - 1222 هـ/ 1789 - 1807 م)، فبعد خوضه معارك داخل أوروبا ثم خسارته فيها، تعزز عنده أهمية تطوير الجيش وتحديثه على شاكلة الجيوش الأوروبية، وكانت السلطنة في أسوأ ما تكون وكان نموذج إصلاحها المتخيل هو أوروبا، فكان "مقتنعًا بوجوب إصلاحها، والأخذِ في إدارتها بالطرق العلمية الأوروبية، وكانت هذه الفكرة قد ملأت دماغه، فتجشّم مشقة إجرائها، وأنفذ كثيرًا منها" (¬3). طغى نموذج التقدم المادي الأوروبي على القيادة السياسية، ورأت الحلّ في مجاراة تلك الدول دون انتباه للإصلاح الذاتي أولًا، ودون إخراج مشروع واضح المعالم في طبيعة العلاقة بالغرب. بدأ السلطان بطلب معرفة حال أوروبا عن طريق أعوانه، وفي سنة (1791 م) طلب من اثنين وعشرين من الأعيان رفع توصيات من أجل إدخال الإصلاحات على السلطنة، كما راسل أوروبا لمزيد من المعلومات، وأبدى رغبته في استخدام مستشارين، ولاسيّما من فرنسا، وفتح سفارات في أوروبا فاطلع مجموعة من السفراء على أوروبا عن قرب (¬4)، وكلف "إبراهيم باشا" الصدر الأعظم "سعيد أفندي" بكتابة بحث عن أسباب تقدم ¬

_ (¬1) انظر: الدولة العثمانية. . . .، الصلابي ص 345. (¬2) انظر: تاريخ الدولة العثمانية، أرسلان ص 248. (¬3) المرجع السابق ص 258. (¬4) انظر: نشوء الشرق الأدنى الحديث (1792 - 1923 م)، مالكولم ياب ص 117 - 118.

الأوروبيين وسبل الأخذ عنهم (¬1). وهو بحث مهم دون شك، إلا أنه كُتب بعيدًا عن مراكز العلم الداخلية وعن مشيخة الإِسلام في السلطنة، ومع ذلك فلم تحقق هذه الجهود ثمرة واضحة، بل فتحت الباب للأجانب "مهام إرساء الأنظمة التعليمية الغربية في قلب الإمبراطورية العثمانية"، ولاسيّما الفرنسيين حيث كان يوجد منهم العشرات زمن السلطان سليم، فأقاموا المعاهد والمدارس، وأدخلوا أنظمة تعليمية جديدة، وأصبح تدريس الفرنسية إلزاميا (¬2)، ثم انقلبت "الإنكشارية" على تلك القرارات وعُزل السلطان ثم قُتل، ومما قيل في سبب عزله "أنه أدخل أساليب الفرنجة وعوائدهم إلى الجيش، ولم يقف عند الاستفادة بالتقنية الحديثة؛ مما يشكل خطرًا على عقائد الأمة. . . ." (¬3)، وحسب رأي المستشرق "مالكولم ياب": فإن صلته بفرنسا أعطت أعداءه فرصة في تصوير الإصلاحات التي أدخلها أنها من بدع الكفار (¬4). نلاحظ أنه لأكثر من مئة عام لم تحسم المشكلة، استمرت منذ (1115 هـ - 1703 م) زمن تولي السلطان أحمد الثالث إلى نهاية ولاية السلطان سليم الثالث (1222 هـ -1807 م)، وعادة ما يُلقى اللوم على "الإنكشارية"؛ وهي فرقة قوية من فرق الجيش متأثرة كثيرًا بطريقة مبتدعة تدعى "البكتاشية" خلطت بين التشيع والتصوف (¬5) , فبقي الاضطراب قائمًا، فمطالب السلطنة غير مدروسة، مع وجود فئة متحكمة كالإنكشارية ترى في نفسها الأحقية في تحديد المقبول والمرفوض وفرض مصالحها دون أن تكون أهلًا لذلك، فتُرك الموقف مما عند الغرب مضطربًا، فالرؤية الدينية عادة ما تُمثل بموقف الإنكشارية البكتاشية، ولم تخرج رؤية شرعية وثقافية واضحة حول الموقف من الغرب، ولا الموقف السياسي ¬

_ (¬1) انظر: الانحرافات العقدية والعلمية. .، الزهراني ص 876، وذكر قيس عزاوي أن مبعوث السلطان لزيارة العواصم الأوروبية "راتب أفندي"، وكتب تقريره في خمسمئة صفحة، انظر: الدولة العثمانية. . . .، له ص 47. (¬2) انظر: الدولة العثمانية. قراءة جديدة لعوامل الانحطاط، قيس عزاوي ص 51. (¬3) انظر: الدولة العثمانية، الصلابي ص 374، وانظر: الدولة العثمانية. . . .، قيس عزاوي ص 48 - 49. (¬4) انظر: نشوء الشرق الأدنى الحديث. . . . ص 118. (¬5) انظر: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة، عبد الرحمن عبد الخالق ص 657 - 679، وحول تأثيرها في الانكشارية ص 659 - 660.

2 - تجربة الهند الإسلامية

واضحًا في اختيار الأنسب للأمة. ولا أدلّ على ذلك من ذهاب أكثر من مئة عام دون الخروج بحل يحفظ للأمة دينها ويساعدها في دنياها, ولم نحصل على شيء من العلوم النافعة التي أضعناها فيما مضى، ولم تقم نهضة تحديثية حقيقية؛ بل تمكن الأعداء من الأمة وضعفت دولة المسلمين، ووصل الحال بنا أن أغرى الحليف التقليدي للسلطنة -فرنسا- لتتجرأ باحتلال قطعة مهمة من بلاد المسلمين وهي مصر. وللحديث عن بقية تجارب الدولة العثمانية موضع آخر سيأتي في فقرة المرحلة الثانية، وينتقل البحث الآن إلى تجربة أخرى شرق العالم الإِسلامي للنظر في حسناتها وعثراتها وهي تجربة الهند الإِسلامية. 2 - تجربة الهند الإِسلامية: كانت الهند الإِسلامية من كبريات البلاد الإِسلامية، وفيها آنذاك -القرن الثاني عشر والثالث عشر الهجري- ملايين المسلمين، وقد تعاقب على حكمها مجموعة من السلاطين، كان آخر دولهم الدولة المغولية (¬1) التي عرفت تسرب الأوروبيين إليها عبر شركاتهم، وكان أشهرها الشركة الإِنجليزية التي أخذت الإذن من سلطانها، ودخلت وتوسعت بدرجة كبيرة حتى امتلكت أغلب الأماكن الحساسة في الهند، لتصبح الهند دمية في يد الشركة الإِنجليزية. وقد حرص الإِنجليز آنذاك على نشر حضارتهم وثقافتهم بما يمكّن لهم من ولادة جيل جديد يتشربها فيكون خادمًا لمصالح الاستعمار بعد ذلك. شاهدت الهند هؤلاء الإِنجليز بمدارسهم ومعاهدهم وآلاتهم وشركاتهم وإدارتهم ومدنهم الخاصة داخل الهند؛ مما وسع عندهم دائرة الاحتكاك بالغرب، كان بداية تسلل الإِنجليز عبر التغلغل السلمي، حتى أصبحوا قوّة داخل الهند ففرضوا أنفسهم على تلك البلاد، فثار أهل الهند وقام المسلمون بجهاد الإِنجليز في معارك شتى، ولكن مقاومة المسلمين للإنجليز لم تكن سهلة ولاسيّما مع وجود أهل ديانات مختلفة ومذاهب متنافرة التي تُمكّن العدو من اختراق حصون المسلمين، ففشلت ثورة (1274 هـ -1857 م)، وبعدها بعام أعلنت بريطانيا تولي التاج البريطاني لحكومة الهند ونفي سلطانها "بهادور" إلى بورما، فانتهت السيادة ¬

_ (¬1) انظر: عرضًا موجزًا للدول الإِسلامية في الهند، حاضر العالم الإِسلامي. . . .، د. جميل المصري 2/ 385 - 392.

الإِسلامية على شبه القارة الهندية (¬1). وبقي الاستعمار جاثمًا على تلك البلاد حتى تاريخ الاستقلال سنة (1367 هـ -1947 م)؛ والذي يقضي بتقسيم الهند إلى: دولة هندوسية هي الهند الحالية، ودولة للمسلمين هي باكستان مع بقاء بعض المناطق دون حلّ نهائي (¬2). فخلاصة العصر الحديث للهند الإِسلامية أنها كانت أول أمرها ضمن الدولة المغولية بسلطانها الضعيف، لاسيّما بعد تغلغل الشركات الأوروبية ولاسيّما الإِنجليزية، وفي أول الربع الأخير من القرن الثالث عشر الهجري استولى الإِنجليز على تلك البلاد لتستمر هذه الحال ما يقرب من مئة سنة، فخرج المستعمر بعد أن أعطى الهندوس الغنيمة الكبرى في منتصف القرن الرابع عشر الهجري. وما نبحث عنه هو كيف كانت علاقة المسلمين في هذه البلاد بالعلوم الحديثة؟ كيف كان التعرف؟ وماذا كانت آثاره؟ وإن كان من بين الصعوبات التي تواجه بحث هذا الجزء من بلاد المسلمين هو الوجود الكبير لغير المسلمين ولاسيّما الهندوس، ولكنها كانت تجربة مهمة بسبب الوجود الأوروبي المباشر فيها، مما سرّع من الاحتكاك بالغرب وأنتج مدارس واتجاهات حول العلاقة بالحضارة الغربية عمومًا، وكان يمكن أن يستفيد منها المسلمون الذين تعرضوا لمثل تلك التجارب لاحقًا. كان الإِنجليز هم رسل الحضارة الغربية إلى الهند، وبئس الرسل، فهم قد تغلغلوا في الهند واحتكوا بأهلها وفتحوا مصانعهم وشركاتهم ومراكزهم، ورأى المسلمون نموذجًا أمام أعينهم أغرى البعض ونفّر آخرين، ولم يظهر الموقف المعتدل الوسطي إلا متأخرًا، وربما كان لمفاجأة الأحداث أثرها في خروج المواقف الضعيفة أو الناقصة أو الشاذة. كان الاستغلال المادي هو الطابع الظاهر بداية وجود الإِنجليز، ولذا لم يظهر الاحتكاك الثقافي المؤثر، ولكن توسعت طموحات الإِنجليز مع أول القرن التاسع عشر الميلادي وتوسع عملهم داخل المجتمع، فبدأت عندها الأحاديث عن الموقف من الإِنجليز، ثم اتسع إلى الحديث عن الموقف من حضارتهم؛ لأن ¬

_ (¬1) انظر: حاضر العالم الإِسلامي. . . .، د. جميل المصري، 2/ 396 - 397. (¬2) انظر: المرجع السابق 2/ 402 - 407.

الناس يرون تقدمهم وغناهم وعلومهم، وبرز -كما يقول أبو الحسن الندوي- الصراع بين الشرق والغرب بعد أن تمكنت بريطانيا من الهند زعيمة "الحضارة الغربية في الشرق، وزحفت إليها العلوم الحديثة والتنظيمات الجديدة، وما تستتبعها من آلات ومصنوعات وآراء وفلسفات" (¬1)، وبرزت مواقف بسبب هذا الصراع، أهمها موقفان (¬2): الأول: موقف من لم ير في الحضارة الغربية إلا الضلال، فأقفل بابه أمام النافع منها، مما مكّن الأعداء الداخليين من الانتفاع بها وحدهم، وتمكنهم فيما بعد من أهل الرأي الأول. والثاني: موقف من رأى الخير كلّه في الحضارة الغربية، وأن إسلامنا وحضارتنا لابد أن نكيفها مع مقتضيات الحضارة الغربية حتى نستطيع التفاعل معها، مما مكّن من انتشار الأفكار المنحرفة بين صفوف المسلمين بيسر وسهولة دون أن تجد الحسّ النقدي والموقف الواعي. وقام لأصحاب الموقفين مدارسهم وأتباعهم، وانشقت لحمة المسلمين في ذاك المكان واتسع الخلاف بينهم، وكان المستفيد الأكبر آنذاك هو المستعمر. الموقف الأول: الموقف المحافظ كان أهم ممثل للموقف الأول مجموعة من علماء الدين الذين هالهم ضياع أبناء المسلمين وانخراطهم في تيار الأفكار الوافدة؛ فدفعهم ذلك للدعوة إلى التمسك بالدين ونبذ الحضارة الوافدة مطلقًا، وكان فيهم العلماء في الحديث والتفسير والفقه وأبواب العلم الشرعي الأخرى، ولكنهم كانوا متمسكين ببعض الطرق الكلامية بحسب صورتها عند المتأخرين مع اتِّباع الكثير منهم لطرق التصوف، وربما كان لذلك أثره في عدم صفاء الموقف من الموروث الإِسلامي من جهة، ومن الوافد الغربي من جهة أخرى. أشهر ممثل لهذا الموقف هم أصحاب معهد "ديوبند"، ومن مشاهيرهم الشيخ محمَّد قاسم النانوتوي (1248 - 1298 هـ)، شارك في ثورة (1857 م)، ¬

_ (¬1) الصراع بين الفكرة الإِسلامية والفكرة الغربية، أبو الحسن الندوي ص 62. (¬2) انظر: المرجع السابق، ص 63 - 76، وانظر: أبو الأعلى المودودي -حياته وفكره العقدي، حمد الجمال ص 57 - 60.

وأسس مع آخرين معهد ديوبند سنة (1283 هـ) (¬1)، وكان للمعهد أثر كبير في حفظ علوم الإِسلام في تلك البلاد؛ وإن وقع أصحابه في الكلام والتصوف التي قلّما يسلم منها أحد في تلك المرحلة (¬2)، فدخل مع تلك العلوم العناية بالفلسفة القديمة والكلام والتصوف، ولكنها -ولاسيّما في ظلّ غياب الدولة الإِسلامية- لم تُدخل تعليمًا يساعد الناس على العيش في عصرهم ومواجهة تحدياته من العلوم النافعة الجديدة؛ مما جعلهم غرباء عن مجتمعهم. ومما نأخذه على أصحاب هذا الموقف -فضلًا عن مشكلة الكلام والتصوف- في تعاملها مع الوافد الغربي: أنها كانت تمثل المسلمين في تلك البلاد، فليست دعوة دينية فقط للاهتمام بعلوم الشريعة، بل هي تمثل المسلمين، فكان الأصل أن تجمع مع علوم الشرع ما يحتاج إليه المسلمون من علوم العصر، فلا تترك أبناء المسلمين ينخرطون في معاهد ومدارس المستعمرين والمبشرين والهندوس ليتعلموا تلك العلوم. فإن لم تستطع فلا أقلّ من بيان الموقف الصحيح المعتدل من حضارة الغرب: فتسمح بالنافع وتؤصل لكيفية أخذه، وتبين عدم معارضته لديننا كما يزعم المتغربون أو المستعمرون، بل إنها كانت في يوم من الأيام من صلب حضارتنا الإِسلامية. وإن كنا في الوقت نفسه نعلم سهولة النقد الآن لابتعادنا عن تلك المرحلة التي كانت دون شك مرحلة صعبة، ربما تفسر لنا صعوبتها السبب في وقوعهم في مثل تلك النواقص، لكنه لا ينبغي أن يكون دليلًا للبعض في تكرير الأخطاء. الموقف الثاني: موقف دعاة الانخراط في الحضارة الغربية: كان من أبرز ممثلي هذا الموقف "سيد أحمد خان" (1232 - 1315 هـ/ 1817 - 1898 م)، فقد صادق المستعمرين وعارض الثورة عليهم وانبهر بحضارتهم؛ فتحول إلى داعية لتلك الحضارة. ¬

_ (¬1) انظر: المرجعين السابقين، الأول: ص 63 - 65، والثاني: ص 57. (¬2) انظر: للتعريف بـ "الديوبندية"، الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة 1/ 304، فقد ظهر نشاطهم بعد رؤيتهم سعي الإِنجليز في تغريب المجتمع، واطلعوا على مقولة اللورد "ميكالي" الإِنجليزي (إن الفرصة من خطتنا التعليمية هو إنشاء جيل من الهند، يكون هندي النسل واللون، وأوروبي الفكر والذهن) 1/ 305.

كان المستعمر يرى عقبته الحقيقية هي في المسلمين، وألف الإِنجليزي "هانتر" كتابًا بعنوان "مسلمو الهند"، ومما فيه "أن المسلمين لم يكونوا رعية صالحة لأية حكومة ما داموا على القرآن" (¬1). فأثرت مثل هذه المواقف وغيرها في "سيد أحمد" فقام بالرد عليها, ولكن معالجته لمثل هذه الدعوات تمثلت بمزيد من الانغماس في الحضارة الغربية، فكانت معالجة سلبية انهزامية في جوهرها. أراد زيارة إنجلترا، فهندس له الإِنجليز رحلة مؤثرة إلى أوروبا، واحتُفي به احتفاءً كبيرًا أثّر فيه كثيرًا (¬2)، فعاد إلى بلاده متحمسًا لتقليد الغرب والاستكانة التامة للمستعمر، وفي بابنا حول العلاقة بالعلم الحديث قام بأمور منها: أ- إنشاء "جمعية الترجمة": وهدفها "تقريب علوم الغربيين وآدابهم من أذهان الشرقيين. فآنست تلك الجمعية تنشيطًا من الحكومة -أي: الاستعمارية- فجعلها دوق أركيل تحت حمايته فتمكنت من نقل كثير من المؤلفات الإنكليزية إلى اللسان الهندي ونشرها بين العامة" (¬3). ولم تكن الترجمة بعيدةً عن أصابع التلاعب، فلا صاحب الجمعية بخالٍ من ضبابية المنهج، ولا الحكومة الراعية لتلك الجمعية وصاحبها خالية من مصالحها ومطامعها، وقد بقيت الترجمة في كل مكان، ظهرت فيه من بلاد المسلمين متأثرة بمثل هذه الأجواء الملتبسة. ب- إنشاؤه مجلة تهذيب الأخلاق وكلية عليكرة: كان أهم ما تعرضه المجلّة هو التعريف بحضارة الغرب وأهمية تحصيل العلوم الجديدة، وإعادة تفسير النصوص وفق تلك النظريات الجديدة، وإثبات أن ¬

_ (¬1) انظر: أبو الأعلى المودودي حياته وفكره العقدي، حمد الجمال ص 59. (¬2) انظر: مفهوم تجديد الدين، بسطامي محمد ص 122، وكان أول مسلم هندي يزور إنجلترا، أشبه في ذلك بحال رفاعة الطهطاوي من مصر إلى فرنسا، انظر: الصراع بين الفكرة الإِسلامية والفكرة الغربية ص 71. (¬3) تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر، جرجي زيدان 2/ 89، وانظر في ذلك: زعماء الإصلاح في العصر الحديث، أحمد أمين ص 127.

الإِسلام والقرآن يقبل التوافق مع العلوم العصرية؛ وذلك عبر تأويله تأويلًا غير مستساغ حتى عند بعض العصرانيين (¬1). وكذا الحال عبر كليته "كلية عليكرة" المشهورة التي أراد من خلالها تعليم العلوم العصرية لمن استجاب لدعوته من المسلمين، مع العلم بأن مطلبه من العلوم العصرية بحسب اجتهاده ينحصر "بتعليم اللغة والآداب فقط، ولم يعن بتعليم الفنون والعلوم التطبيقية العملية العناية التي تستحقها، مع أنها هي ثمرة العلم الجديد اليانعة، وسر قوة الأمم الغربية وسيادتها، وهي التي يجب أن تستفاد من الغرب ويحرص على دراستها والبراعة فيها، بل إنه -سامحه الله- عارض في بعض الأحيان تعليم الصنائع والعلوم معارضة شديدة، وكتب في هذا الموضوع مقالات شديدة اللهجة، مريرة النقد"، ومن ذلك مقالة له سنة (1898 م) يقول فيها: "إن الهند نظرًا إلى حالتها الراهنة ليست في حاجة إلى تعليم الصنائع، إن الأهم المقدم هو الثقافة الفكرية" (¬2)؛ فاتجهت كليته إلى اتجاه علمي أدبي، وخرّجت خطباء وأدباء وإداريين وقضاة وموظفين كبارًا، ولم تخرج مبرزًا أو مبتكرًا في "علوم الهندسة والميكانيكا، والطبيعية والكيمياء والصناعات المفيدة، والعلوم التي كان الشعب الإِسلامي الهندي في فقر شديد إليها، وكان ذلك من أسباب تخلفه واقتصاره على الوظائف الحكومية والمراكز الإدارية المحدودة دائمًا" (¬3)، ولا شك أن هذا الاجتهاد لسيد أحمد خان يخالف ما نجده في بعض التراجم عنه من كونه داعية للعلم الحديث مطلقًا، فالذي يظهر الآن أنه ركز على الفكر وما يدور في فلكه، وربما يفسر لنا ذلك سبب كثرة ورود الاعتراض على الدين بأفكار تنتسب إلى العلم ومحاولته التأويل ليطوّع النص لمثل تلك الأفكار؛ لأنه لو ابتدأ بالنافع من علوم العصر وأخر المشتبه حتى يتبين المسلمون حقيقته؛ لخفّ الإشكال داخل المسلمين، وكان المسلمون في ميدان الفكر أحوج إلى الإصلاح الذاتي بالرجوع إلى الإِسلام في صفائه وبعيدًا عن البدع ¬

_ (¬1) انظر: مفهوم تجديد الدين، بسطامي محمد ص 123، وانظر: تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر، جرجي زيدان 2/ 90، وانظر: زعماء الإصلاح في العصر الحديث، أحمد أمين ص 130 - 131. (¬2) الصراع بين الفكرة الإِسلامية والفكرة الغربية، أبو الحسن الندوي ص 75. (¬3) انظر: المرجع السابق، الصفحة نفسها.

والمحدثات الملحقة به، ثم الانطلاق بعد ذلك في مجالات العصر المختلفة. ج- المؤتمر السنوي: حيث دعا إلى عقد مؤتمر سنوي لمسلمي الهند، وترأس خمسة منه، ويظهر في أوراق المؤتمر -بحسب ما عُرض في جريدة المؤيد المصرية- إلحاح القوم على طلب العلوم العصرية للخروج من الضعف واللحاق بركب العالم القوي المتقدم، مع مبالغة بعضهم في إعلان التبعية للغرب من مثل: "إن النور اليوم يأتي من الغرب بعد أن كان يشرق من الشرق، فيجب أن نأخذ من أوروبا علومها ومدنيتها"، إلى غيرها من المقالات (¬1). وخلاصة هذا الموقف: أنه موقف أراد أن يمثل صورة جديدة للإسلام في الهند، وجعل من صلب مشروعه: الدعوة للعلوم العصرية والحضارة الغربية الحديثة، ومن أجل استجلابها فلا بأس في منهجهم من إعادة النظر في الإِسلام ونصوصه التي تتعارض مع تلك الحضارة لتأويلها تأويلًا يسمح بأخذنا كل تلك الحضارة، ولم يفرق القوم فيما يظهر بين حسنات الحضارة الغربية وسلبياتها، وهم وإن تفوقوا على أصحاب الاتجاه الأول في التعرف على العلوم الجديدة؛ وفهم بعضها فإنهم فقدوا شخصيتهم وهويتهم، ونشأ منهم "جيل مثقف إسلامي الاسم، غربي التفكير، إنجليزي الطراز، مضطرب العقيدة في بعض الأحيان. . . ." (¬2)، وهذا ما كان يريده المستعمر آنذاك. انقضى القرن الثالث عشر/ نهايات التاسع عشر على هاتين المدرستين، مدرسة الديوبندية، ومدرسة سيد خان، كل منهما مصرّ على موقفه، فجاءت جماعة من العلماء بمحاولة لتدارك الوضع، وأسسوا جمعية "ندوة العلماء" سنة 1300 هـ -1893 م، وكان هدفها إصلاح مناهج التعليم في المعاهد الدينية؛ "حتى تجمع بين علوم الكتاب والسنة والعلوم العصرية"؛ ليتخرج منها من يجمع بين الثقافتين الجديدة والقديمة، ويتقدم إلى ميدان العلم مستنيرًا بكتاب الله وسنة رسوله، ويأخذ بالصالح من العلوم الحديثة والمعارف الجديدة (¬3)، وبحسب قول ¬

_ (¬1) انظر: زعماء الإصلاح في العصر الحديث، أحمد أمين ص 132 - 134. (¬2) الأصل بين الفكرة الإِسلامية والفكرة الغربية، أبو الحسن الندوي ص 74. (¬3) انظر: أبو الأعلى المودودي حياته وفكره العقدي، حمد الجمال ص 63 - 64.

أحد علمائها -شبلي النعماني-: لقد "أصبح من الضروري أن يطلع علماؤنا على الأبحاث الجديدة والعلوم العصرية المفيدة ليقدموا حلولًا للمعضلات الحديثة، وليردوا على الشبهات ردًا علميًا مؤسسًا على الدراسة والتحقيق" (¬1)، وهي تريد تحقيق نوع من التوازن بين التيارين السابقين وفتح رؤية جديدة، مع العلم بأن الجيل الجديد أصبح أكثر توازنًا عند نظره في الحضارة الغربية، بعد أن خفّت صدمة اللقاء بين الشرق والغرب في الهند المسلمة. ومع ذلك فقد كانت تجربة المسلمين في هذا الجزء من العالم الإِسلامي عسيرة ومؤلمة، وهي تجربة لم تحقق كل آمالها المرجوة، ولذلك أسباب داخلية وأخرى خارجة، ومن بين أهم الأسباب الخارجية: التغلغل المؤثر للمستعمر، ومن الأسباب الداخلية: التنوع المذهبي داخل المسلمين وعدم الابتداء برسم رؤية واضحة وصحيحة ونافعة للعلاقة مع الغرب ولاسيّما مع تيارات العصرنة، وقد سمح كل ذلك بانحراف التجربة وتسرب أصابع التغريب إليها فيما بعد. ¬

_ (¬1) الصراع بين الفكرة الإِسلامية والفكرة الغربية ص 67.

خامسا: تجارب الولايات الإسلامية "المرحلة الثانية"

خامسًا: تجارب الولايات الإِسلامية "المرحلة الثانية" ثلاثة شباب لعبوا أدوارًا خطيرة في العالم الإِسلامي أفسد عملهم التطور الطبيعي للعالم الإِسلامي، وتسبب في خلط مفهوم التغريب بمفهوم التحديث؛ مما سبب فيما بعد وجود صراع واختلاف داخل البلاد الإِسلامية للخلط بين التحديث النافع والتغريب الضارّ. أحدهم نصراني الأصل علماني المذهب لا يقرّ في الظاهر بأي دين، والآخران من المسلمين، وهم بحسب الترتيب التاريخي: "نابليون" ثم "محمَّد علي" ثم السلطان "محمود الثاني"، الأولان عسكريان، أحدهما جاء قائدًا للحملة الفرنسية على مصر، وهو جنرال في التاسعة والعشرين من العمر، ثم أعقب خروجه مجيء محمَّد علي وهو في الثانية والثلاثين (¬1)، أما السلطان محمود الثاني فتولى الحكم سنة (1223 هـ -1808 م) وعمره أربع وعشرون سنة (¬2). كانت حملة "نابليون" ومجيء "محمد علي" زمن السلطان العثماني "سليم الثالث" الذي فشل مشروعه التحديثي وعُزل عن الخلافة، فكان زمن الثلاثة هو زمن البحث عن التحديث، وتفاجأ المسلمون بتجرؤ دولة أوروبية على احتلال قطعة من بلدهم بعد أن كانت محصنة قرونًا أمامهم، ونظرًا للأدوار الخطيرة ¬

_ (¬1) انظر: تاريخ الفكر المصري الحديث من الحملة الفرنسية إلى عصر إسماعيل، د. لويس عوض ص 66. (¬2) انظر: الدولة العثمانية. .، د. علي الصلابي ص 375، وقد ذكر قيام ولديه (عبد المجيد مع وزيره رشيد وعبد العزيز) بإدارة التغريب الرسمي.

1 - الحملة الاستعمارية الحديثة الأولى لبلاد المسلمين "الحملة الفرنسية"

لهؤلاء الثلاثة في تعكير صورة العلاقة بما نريده من الغرب وفتح نوافذ التغريب والتفاعل السلبي مع العلوم، فسأخصص فقرة لكل واحد منهم. 1 - الحملة الاستعمارية الحديثة الأولى لبلاد المسلمين "الحملة الفرنسية": ظهرت رغبة غربية نهايات القرن الثاني عشر/ الثامن عشر في غزو بلاد المسلمين لتحقيق مصالح مادية وأيديولوجية، وساعده في ذلك تقدمه الدنيوي وقوته الحربية، مع ما لاحظه من ضعف في الدولة الحامية لبلاد المسلمين -الدولة العثمانية- بعد معاركه الأخيرة معها، مما أطمع الدول الأوروبية في تركة هذه الدولة العظيمة، وصارت كل دولة أوروبية تتحفز للاستئثار بقطعة منها (¬1)، وإن كانت الرغبة يُخطط لها من فترة أقدم من ذلك (¬2). قام "نابليون" قائد الحملة الفرنسية بأول مغامرة، وعلينا أن نتذكر بأن هذه الحملة بنت الثورة الفرنسية الشهيرة التي مهد لها عصر التنوير ودعاته والجمعيات المختلفة وأهمها الجمعيات الماسونية، وهذه الحملة كانت موجهة لخدمة مصالح الجمهورية العلمانية الجديدة، ومحمّلة بأفكار تلك الثورة وعلى رأسها الموقف الرافض للدين والاستهانة به بل محاربته فكريًا وثقافيًا، مع دعوى ومزاعم الإقبال على العلم والعقلانية والإنسانية، فإن الثورة التي أعلنت وثيقة حقوق الإنسان هي التي أرسلت جنودها لاحتلال بلد مسلم لاستغلال أهله ونهب خيراته وإضعاف شأنه، وقد كان قائد الحملة هو من شارك بفعالية في الثورة الفرنسية؛ مما حوّله إلى بطل من أبطالها وكُلّف بأصعب مهمة كانت أوروبا تحلم بها وهي احتلال قطعة من بلاد المسلمين. ونظرًا لمبالغة التغريبيين في دور هذه الحملة الإنساني والمعرفي على المسلمين، وأنها كانت وراء يقظتنا العلمية وتحولنا إلى العلوم الحديثة والنهضة الفكرية، وأنها بحسب الكثير من غُلاتهم ذات هدف إنساني وتطويري، نظرًا لمثل هذه الدعاوى نقف بعض الشيء مع رسول الحضارة الغربية إلى الشرق الإِسلامي، لنتأمل فيها تأمل العاقل الذي يُذكّر الناس بالحقائق ويزيل الكثير من الأوهام حولها. ¬

_ (¬1) انظر: تاريخ الدولة العثمانية، أرسلان ص 259 - 260. (¬2) انظر: حاضر العالم الإِسلامي. . . .، د. جميل المصري 1/ 79 وما بعدها.

الحملة العلمية المصاحبة لجيش بونابرت ومجمعها العلمي

على أن وقفتنا تركز أكثر ما تركز على ما جلبته الحملة من العلوم الحديثة إلى العالم الإِسلامي، فهل كان لذلك أثر إيجابي أم سلبي؟ مع العلم بأن ما جلبه المستعمر من نظامه التعليمي بعلومه الحديثة سيناقش من جهة الآثار في الفصل القادم، لوجود ظاهرة استعمارية خطيرة عصفت بالمسلمين، بما في ذلك ما أدارته من تعليم استمر في بعض بلاد المسلمين لأكثر من قرن ونصف. الحملة العلمية المصاحبة لجيش بونابرت ومجمعها العلمي: وقعت الثورة الفرنسية التي حولت فرنسا لدولة علمانية سنة (1789 م)، وبعدها بسنوات قليلة قررت فرنسا احتلال مصر، فجهزت جيشها ورسمت خطتها وشنت غارتها، ووقع ذلك سنة (1798 م) (¬1)، وكانت الحملة تختلف عن حروب فرنسا مع جيرانها في أوروبا واحتلالها لأجزاء منها، فهي حملة معلمنة من جهة، وفي الوقت نفسه يوجد فيها مجموعة من العلماء على خلاف الحملات الصليبية القديمة التي يصحبهم فيها رجال دينهم (¬2) لعمليات التنصير، وإذا كان غياب الدين ولو ظاهرًا من الحملة مفسرًا بسبب الانتشاء العلماني مع الثورة الفرنسية العلمانية؛ فإن استبدالهم رجال الدين بالبعثة العلمية أو بفريق العلماء المتخصصين في العلوم الحديثة هو الغريب في الحملة، وسبب الغرابة أنها أول مغامرة لهم داخل البلاد الإِسلامية، والعادة جلب قيادات إدارية وسياسية وكذا طبية وخدمات لا علماء، على الأقلّ حتى يستقرّ الوضع لمجيء العلماء. والذي يظهر أن هذه المغامرة قد دُرست جيدًا وخطط لها كثيرًا (¬3)، وأن ¬

_ (¬1) انظر: التاريخ المعاصر -أوروبا من الثورة الفرنسية إلى الحرب العالمية الثانية، د. عبد العزيز نوار وصاحبه، حول الثورة الفرنسية: ص 17 - 70، واحتلال مصر: ص 77 - 80. (¬2) كان "بونابرت" ذا نزعة علمانية، ويميل إلى موقف مفكري التنوير من الدين، ولكنه بسبب وضعه السياسي كان ميكافيليًا نحو الدين، فأظهر في خطابه للمسلمين في مصر أنه مسلم في نوع من الاستخفاف بوعي المسلمين، وتصالح مع الكنيسة عندما نُصب قائدًا لفرنسا، وربما يفسر هذا سماحه بوجود قس واحد ضمن الحملة. انظر: بونابرت في مصر ص 181، ج. كرستوفر هيرولد ترجمة فؤاد أندراوس، مراجعة د. محمَّد أنيس. (¬3) أقامت الجمعية اللبنانية للدراسات والبحوث التاريخية مؤتمرًا بعنوان (حملة بونابرت =

هناك عملًا مُلحًّا ينبغي الابتداء به منذ أول الوصول، واستغلال الوقت قبل تغير الأوضاع، وهو احتمال وارد تؤكده مجريات الأحداث، ويحرص بعض التغريبيين على وصف هؤلاء العلماء بأنهم أصحاب رسالة علمية إنسانية وإن كانوا ضمن حملة عسكرية -وكأن لسان مقاله أنه لا ذنب لهم، فما وجدوا فرصة للوصول إلا بهذه الطريقة- وهذا يدفعنا إلى الوقوف مع الحملة العلمية. يذكر باحث فرنسي بعض أسرار هذه البعثة العلمية وعلاقتها بأحلام "بونابرت"، فقد كان بونابرت يحلم بصنع إمبراطورية في مصر، فإن لم؛ فلا أقلّ من مستعمرة ذهبية لفرنسا, ولتحقيق هذا الهدف فلم تكن اللجنة العلمية أقل أهمية من الجيش (¬1)، فالحلم الأكبر أو الأصغر يحتاج إلى علماء لتحقيق هدفه. أنشأ بونابرت لهذه المجموعة العلمية "المجمع العلمي المصري"، وجعله على غرار "المجمع العلمي الفرنسي، واختار لهم أفضل الأماكن عنوة من أهلها، واغتصب للعلماء أفضل المنازل، حتى إن أحدهم قال: "إن بيوتنا تتيح لنا راحة أكثر مما تجده في اللوفر (¬2)، وترفًا يعادل على الأقل ترف اللوفر"، وكوّنوا مجتمعًا علميًا مصغرًا من مكتبة ومختبرات وكل ما يخدم عملهم. قُسم المجمع إلى أربع شعب (¬3)، الأولى: شعبة الرياضيات؛ وكان فيها مع ¬

_ = على مصر وبلاد الشام: بداية استعمار أم بداية نهضة) سنة (1998 م)، وذلك بمناسبة مرور مائتي سنة على تلك الحملة، شارك فيها جامعات عربية وغربية وهيئات دولية، وقد أوضحت بعض الأوراق حلم "بونابرت" في إقامة إمبراطورية تخلف الدولة العثمانية، وأنه قد خطط لها كثيرًا ودرست جيدًا، ولكن فشلت كل تلك المشروعات. انظر عرضًا لأوراق هذا المؤتمر، مجلة الكلمة (تقارير ومتابعات)، عدد 22، السنة السادسة شتاء (1999 م - 1420 هـ). (¬1) انظر: بونابرت في مصر، كرستوفر. . ص 188. (¬2) المرجع السابق ص 182. (¬3) لمزيد من معرفة تاريخه يمكن الرجوع لموقعه على الشبكة بعنوان: (L, Instiut d,Egypte)، وفيه أن المجمع توقف بعد خروج الفرنسيين (1801 م) لأكثر من ثمانية وخمسين عامًا، ثم وقعت جهود من إنشاء جمعيات مهدت لعودة المجمع منها: جهود قنصل بريطانيا الذي أسس سنة (1836 م) (الجمعية المصرية)، وتضم فرنسيين وألمانا وأكثرهم إنجليز. وفي (1842 م) بتعاون بين الإنجليزي "هنري" والفرنسي "بريس"؛ أقيمت (الجمعية الأدبية الفرنسية). وفي سنة (1859 م) افتتح (المجمع العلمي) في الإسكندرية بدعم "محمَّد علي" وكذا "جومار" (وهو أحد أعضاء المجمع أيام حملة بونابرت، ثم المشرف على المبتعثين =

الرياضيين الفلكي والمهندس البحري، والثانية: شعبة الطبيعة؛ وكان فيها مع علماء الطبيعة الجراح والحشري والكيميائي والنباتي والمهندس، والثالثة: شعبة الاقتصاد السياسي، والرابعة: شعبة الآداب والفنون؛ وفيها الشاعر واللغوي والملحن والمعماري والرسام، والقسيس (¬1)، فتكشف هذه الشعب والتخصصات والمتخصصين بأن حلمهم كان كبيرًا، وأن البقاء كان يراد له أن يكون طويلًا، وأن "بونابرت" يحلم بما يخلد حملته، "ومصر تصلح معملًا تجريبيًا لتحقيق هذه الغايات". وهذه التخصصات المتنوعة تساعده في "ارتياد كل جانب من جوانب هذا البلد الأسطوري"، وكان أصرح من عبر عن أهم أهداف المجمع هو رئيسه "مونج" حول تهيئة مصر للاستعمار وليس المقصود نهضتها، فقد كتب لزوجته "أنه لو استوطن مصر 20،000 أسرة فرنسية ليشتغل أفرادها بالمشروعات التجارية والمؤسسات الصناعية. . . . إلخ؛ لغدا هذا البلد أجمل مستعمراتنا وألمعها وأفضلها موقعًا" (¬2)، وقارن كلام رئيس المجمع بكلام جرجي زيدان عنهم حيث قال: "وكان في جملة تلك الحملة جماعة من العلماء الذين اشتهروا في العلم، ولا تزال أسماؤهم مشهورة في سائر أنحاء العالم، جاء بهم بونابرت إتمامًا لمعدات الاستعمار ظنًا منه بطول مكثه واستعماره الديار المصرية. وقد بحثت هذه الجمعية في الآثار المصرية وتربة البلاد وحللوها ودرسوا طبائع الحيوان والنبات فيها"، ثم أعقبه بقوله: "وكان في عزمهم أن ينشروا لواء العلم بين أهلها لو لم تفاجئهم طوارئ الحدثان بالانسحاب إلى ديارهم بعد ثلاث سنوات. . . ." (¬3)، ومثل هذه الدعوى تكرر دائمًا بما ظاهره تبرئة العلماء من كونهم عملاء لا علماء؛ لذا نجد بعضهم يقبل بسبب مهارته في الرياضيات أن يعمل جابيًا للأموال التي تؤخذ من أثرياء مصر والمماليك وغيرهم دون حق (¬4). وإن منهم من تفرغ لخدمة الصناعة الحربية وتقديم ما يساعد الجيش في ¬

_ = من مصر إلى فرنسا)، وأدخل فيه بعض المسلمين، وفي سنة (1880 م) نقل إلى القاهرة. (¬1) انظر: بونابرت في مصر، كرستوفر. . ص 181. (¬2) المرجع السابق ص 179، وقد تحقق لهم شيء من ذلك في استعمارهم اللاحق بداية بالجزائر وما بعدها من بلاد. (¬3) تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر 2/ 8. (¬4) انظر: بونابرت في مصر ص 177.

حربه على المسلمين؛ أي: أنهم يصنعون للجيش آلات الموت والتدمير، ومع ذلك تغفله تلك المراجع التغريبية بخلاف بعض بني جنسهم، حيث وصف فعل هؤلاء العلماء "كرستوفر" بـ "الحمير العلميين" للجيش الفرنسي (¬1). هكذا ظهر المجمع أنه لخدمة الحملة لا لخدمة المسلمين، فلماذا لا تصرح تلك الكتابات التغريبية بأن هذه البعثة العلمية، ما كانت إلا أداة في يد الاستعمار إن لم يكونوا من رواد الاستعمار، وحتى إنجازهم الذي تتسابق بمدحه أقلامهم وهو كتاب: "وصف مصر" بأجزائه العشرة من النصوص وأربعة عشر مجلدًا من اللوحات في ثلاثة أعوام، فإن مثل هذا الكتاب الذي ظهر في فترة ازدهار الاستشراق الاستعماري يجعله موطن اشتباه، هل هو دراسة علمية خالصة لوجه العلم، أو هو كتاب يفحص تلك المستعمرة المأمولة لمعرفة جوانب القوة والضعف فيها؟! لابد في هذا المقام أن نفرق بين نوعين من الأثر، نوع يركز عليه دعاة التغريب وكثير من كتاب نصارى العرب: وهو أن الحملة كانت خيرًا على هذه الأمة، وأنها قصدت نفعنا، وأنها أيقظتنا بما فرضته علينا من منافع ودراستنا من علوم وأفكار، فهذا النوع هو من تعاطف القوم مع بني جنسهم، أو مع من هم على هواهم وشاكلتهم (¬2)، وإلا فالاستعمار ما كان هدفه يومًا إنقاذ أمة وترقيتها. وأما النوع الآخر من الأثر: فهو صدمة المسلمين بجرأة بلد كافر يُقْدِم على احتلالهم؛ ثم يجدون عدّتهم المادية في مواجهته ضعيفة، ويجدونه قد تقدم ماديًا في قوته العسكرية والصناعية والدنيوية، وأنّ خلْف هذا التقدم أسبابًا بذلوها ترجع في أغلبها إلى الاستثمار للعلوم الرياضية والطبيعية، هذه الصدمة ورؤية حال القوم المحتلين لبلادهم أيقظت في الأمة جوانب التحدي والقوة، وهذه حال الأمم القوية وإن هزمت في معارك عسكرية؛ فإنها لا تستسلم بسهولة، بل تحاول تصحيح وضعها، أما الأمم الضعيفة فإنها تسحق أو تتلاشى في أحشاء الغالب. ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق، الصفحة نفسها. (¬2) ككلام "جرجي زيدان" السابق، ومثله محاولات التشويه لحقائق التاريخ في كتاب "لويس عوض" تاريخ الفكر المصري الحديث من الحملة المصرية إلى عصر إسماعيل، وممن كشف زيفها الدكتور محمَّد كشك في كتابه: (ودخل الخيل الأزهر).

مواقف جديدة لبعض شيوخ الأزهر من العلوم العصرية

فهذا القسم هو الذي تؤيده حقائق التاريخ الحديث، فالأمة الإِسلامية آلمها جُرأة دولة باقتحام أسوارها متسلحة بأسلحة جديدة، عندها وجدت أن واجبها ليس الاستسلام، وإنما البحث عن سبب ضعفنا، وتحصيل أسباب قوتنا بأنفسنا دون انتظارها من عدونا، فلن يرضى أبدًا ذلك العدو بمنحنا أسباب قوتنا. وأسباب قوتنا منها ما هو داخلي وهو الأهم، ومنها ما هو بتحصيل الأسباب المادية، ومن ذلك اقتباسها وأخذها من تلك الأمم وإن كانت عدوّة لنا، مع أن هذه العلوم كانت من صلب حضارتنا وأبدع فيها المسلمون يومًا ما، فهم لا يأخذون شيئًا غريبًا عنهم؛ بل يعيدون النظر في جزء من حضارتهم فرطوا فيه وأهملوه نتيجة الضعف العام الذي أصاب الأمة، والضعف قد يصيب الأمم، إلا أن أمة الإِسلام وإن ضعفت فعندها مصدر قوتها ولديها إمكانية العودة إلى الصدارة من جديد. مواقف جديدة لبعض شيوخ الأزهر من العلوم العصرية: وفي هذا الإطار يمكننا إدخال بعض مواقف فضلاء ذلك العصر مثل المؤرخ المشهور "عبد الرحمن الجبرتي"، وكذا الشيخ "حسن العطار" أحد شيوخ الأزهر وغيرهما، ممن عاصر تلك الحملة واطلع على ما عند القوم من ترتيب جيد للعلوم المادية وما بني عليها من ثمار صناعية مختلفة، ومن ثم حرصهم على حث المسلمين في تحصيلها، أو حرصهم بأنفسهم على التعرف عليها، وسنقف مع هذين العلمين، لنرى حقيقة علاقتهما بالحملة الفرنسية لاسيّما البعثة العلمية. أما موقفهما من الحملة فهو موقف كل مسلم، حيث يراها احتلالًا يجب إزالته، وأن أهلها يقصدون إضعاف الأمة ونشر مفاسدهم بين المسلمين مع نهب خيرات البلاد، وهذا خلاف مواقف الكثير من نصارى العرب والقبط ممن يراها فرصة لطرد المسلمين أو إضعاف سلطتهم. بقي النظر في طريقة تعرفهم على النشاط العلمي داخل الحملة ودورهما في حثّ المسلمين على تحصيل العلم النافع منها. أ - عبد الرحمن الجبرتي: حرص الشيخ "الجبرتي" -كأي مؤرخ- على وصف ما شاهده في المجمع العلمي وصفًا دقيقًا بحسب الظاهر منه، ولا شك أن هذا الوصف يغري كل من

اطلع على كتابه بمعرفة ما عند القوم، فمن ذلك وصفه لمكتبة المجمع, ففيها جملة كبيرة من كتبهم، وذكر اجتماعهم اليومي قبل الظهر بساعتين، فيتصفحون ويراجعون ويكتبون حتى أسافلهم من العساكر، ثم يصف موقفهم ممن يزورهم من المسلمين بأن من يريد الفرجة لا يمنعونه الدخول إلى أعز أماكنهم، ويتلقونه بالبشاشة والضحك وإظهار السرور بمجيئه إليهم، وخصوصًا إذا رأوا فيه قابلية أو معرفة أو تطلعًا للنظر في المعارف؛ بذلوا له مودتهم ومحبتهم، وذكر أنه زارهم مرارًا وأطلعوه على ما عندهم من كتب وخرائط، ومن ذلك كتب إسلامية مترجمة بلغتهم مثل كتاب البردة للبوصيري، ثم ذكر الأقسام الموجودة فبدأ بـ "توت" الفلكي وأدواته العجيبة، ثم قسم خاص بالمصورين يصوّرون الحيوانات والنباتات وغيرها؛ وذلك تبعًا لترتيب العلوم الجديدة: الجيولوجيا والأحياء وغيرها. ثم قسم أفردوه للمهندسين وصناع الدقائق، ثم قسم "الحكيم رويا" الكيميائي بآلاته ومساحيقه وقدوره العظيمة، ثم وصف بعض العمليات الكيميائية التي أجريت أمامه واندهش منها الحضور (¬1) ولاسيّما تجربة إصدار التيار الكهربائي. لا شك أن هذه الزيارات من قبل بعض المشايخ قد تفيدهم في معرفة حقيقة الغزاة، بخلاف من زعم أنهم حصّلوا منها معارف، فهذه غير ممكنة إلا بتعلم، وسماح الفرنسيين بتلك الزيارات ربما كان هدفها استمالة الأعيان والمشاهير لاسيّما وهم يطلعون الزوار على أمور الغاية منها في الظاهر الفرجة على دهشة المتفرجين، وفي ذلك يقول الفرنسي "كريستوفر": "لقد توقع الفرنسيون بالغرور المعهود في الغربيين أن يستجيب الشيوخ لعجائب الصناعة بدهشة صبيانية كدهشة الشعوب المتوحشة. ولعله لم يخطر لهؤلاء الصناعيين أنهم هم السذج الأقل بصرًا بشؤون الدنيا من الشيوخ الذين لم يبد عليهم التأثر بما شهدوا. لقد تأثر الشيوخ ما في ذلك ريب، ولقد أعجبوا، إن كان بين الجبرتي وبينهم شبه ولو قليل، بهذا الانقطاع للعلم، أكثر من إعجابهم بعرض الألاعيب والحيل الرخيصة، ولكنهم أبوا الخضوع لسيطرة الغريب. وبعد قرن من الزمان تعلمت آسيا وأفريقيا كل هذه الحيل ونفضت عنها هذه السيطرة. فأي ¬

_ (¬1) انظر: مشاهدات الجبرتي في تاريخه 2/ 164 - 166.

ب- حسن العطار

الرجلين كان أكثر سذاجة؟ أهذا الشرقي الذي لم يسمع من قبل بالكهرباء، أم الأوروبي الذي ظن أن اكتشاف الكهرباء يعطيه حقًا أبديًا في السيادة على غيره" (¬1). ربما كان سبب تهاون المسلمين في العلوم المادية ذلك الضعف الذي نزل بهم، مما جعلهم يركزون على العلوم النظرية لسهولتها بخلاف العلوم المادية، فهي تحتاج إلى مال ومعامل ومعاهد ومصانع وأدوات واستقرار، وهو ما فقدته الأمة نتيجة أحداث داخلية وخارجية، ثم طال الأمد علينا إلى أن نسينا هذه العلوم، ونسينا أنها كانت معلومة ومألوفة في الحضارة الإِسلامية، حتى بدأت الأطماع الغربية تطوف بحمانا معتمدين على ثمرات العلوم بعد أن حولوها إلى منافع صناعية ومدنية دنيوية، وربما كان هذا أهم ما رصده الجبرتي ودوّنه في تاريخه ونبّه المسلمين إليه وإن كان ذلك بصورة غير مباشرة، كما أن ما دونه في تاريخه يُعد النموذج الأول في اطِّلاع الجمهور على حال هذه العلوم بعد أن كانت معرفتها محصورة في دوائر عليا في السلطة العثمانية؛ لأن كتاب التاريخ يقرؤه طلاب العلم والعلماء ويتداولون حكاياته وأحداثه. ب- حسن العطار: الشخصية الأخرى التي نراها استفادت من الحملة الفرنسية بالمعنى الثاني للاستفادة -أي: أنه يعلم بأنهم أعداء يمتلكون قوّة يجب علينا تحصيلها لإعادة قوة أمتنا والوقوف أمام هذا العدو الغاشم- هو الشيخ "حسن العطار" (1180 - 1250 هـ/ 1766 - 1835 م) صاحب الجبرتي وشيخ الأزهر (1246 - 1250 هـ)، كان مهتمًا بالفلك والطب مع تحصيله للعلم الشرعي قبل مجيء الفرنسيين، ثم اتصل بهم "إبان الحملة ليعلم أحدهم اللغة العربية، فكان يستفيد منهم الفنون المستعملة في بلادهم فيما يقول علي مبارك. ." (¬2)، وقد كان له "ولع بقراءة الكتب المترجمة عن اللغات الأوروبية، خاصة في علمي التاريخ والجغرافيا حتى اشتهر عنه ذلك"، وفيها يقول: "وقع في زمننا أن جلبت كتب من بلاد الإفرنج، ¬

_ (¬1) بونابرت في مصر ص 184 - 185. (¬2) أعلام الفكر الإِسلامي في العصر الحديث، أحمد تيمور ص 28، وانظر: أسس التقدم عند مفكري الإِسلام، فهمي جدعان ص 116.

وترجمت باللغة التركية والعربية، وفيها أعمال كثيرة وأفعال دقيقة أطَّلعنا على بعضها، وقد تتحول تلك الأعمال بواسطة الأصول الهندسية والعلوم الطبيعية من القوة إلى الفعل. ." (¬1)، وبعدها تحول من المُحصّل إلى المعلم، فاهتم بالتعليم وحث الأزهريين على إدراك حقيقة واقعهم الثقافي والعلمي، ورأى "ضرورة إدخالهم المواد الممنوعة كالفلسفة والأدب والجغرافيا والتاريخ والعلوم الطبيعية"، ونبههم إلى ضرورة إقلاعهم عن أساليبهم في التدريس، وقام بنفسه بتدريس الجغرافيا والتاريخ, وكتب في المنطق والفلك والطب والطبيعة والكيمياء والهندسة، مع إعلانه إعجابه بتحويل الفرنسيين علومهم إلى عمل (¬2)، وهو الذي كان فيما بعد صاحب فكرة إرسال تلميذه المشهور رفاعة الطهطاوي في البعثة العلمية إلى فرنسا. يمثل "العطار" أول نموذج واضح لرجل من علماء الأزهر والعارف بعلوم الشريعة وأحد أساتذتها، وفي الوقت نفسه على معرفة ببعض العلوم الأخرى كالفلك والطب كما هي في تراثنا ليضيف إلى ذلك اطلاعه على ما حدث لتلك العلوم في أوروبا ويدعو إلى تحصيلها والانتفاع بها، والأمر في الجملة لا غبار عليه بل هو الأفضل لمن قدر على ذلك، فإن تاريخ المسلمين ما فتئ يحفظ لنا من علماء الشريعة من كان عنده إلمام واطلاع وثقافة بالعلوم الأخرى كالفلك والطب والحساب وما في بابها، فهذا "الرازي" أحد علماء الأشاعرة المشهورين الذي جمع إلى معرفته بالتفسير وأبواب شرعية أخرى؛ اطلاعه على ما عُرف في زمانه من علوم، وهذا "ابن تيمية" و"ابن القيم"، أبرز أعلام أهل السنة في القرون الأخيرة، مع كونهما من أهل الاجتهاد والإمامة في الدين؛ فلديهما أيضًا اطلاع واسع على كثير من علوم عصرهم، ويكفي النظر لفهرس فتاوى شيخ الإِسلام ابن تيمية لنعرف مدى معرفته بمناهج تلك العلوم وأهلها وكتبهم وتقديمه بعض مسائلهم، وكذا بالنظر في جزء من كتاب زاد المعاد لابن القيم المتعلق بالطب لنرى كيف جمع مع الطب النبوي ما هو معروف في زمانه من المسائل الطبية من "جالينوس" إلى طبيب العرب "ابن كلدة"، إلى طبيب فلاسفة المسلمين "ابن سينا"، ¬

_ (¬1) المرجع السابق ص 30 - 32. (¬2) انظر: المرجع السابق المعطيات نفسها.

مما هو ممكن حدًّا أدنى لعالم في الشريعة مثله، فلم تمنعه إمامته في علوم الشرع من اطلاعه على كتب الطب وتصنيفه في ذلك الباب وترتيبه لمسائل طبية مع بيان ما دل عليه الشرع في كل باب وما قاله الأطباء فيها. فدعوة الشيخ "العطار" إلى الاهتمام بمثل هذه العلوم وممارسته لذلك بنفسه دعوة صحيحة وإن كان فيها ما ينقصها، وربما يشفع له البدايات في الأمر، فإن أهم ما ينقصها هو عدم وضع تصور إسلامي حول هذه العلوم بعد أن تغير حالها عما كانت عند المسلمين، فإن أوروبا بعد أن نقلتها عن المسلمين قد أحدثت فيها أمورًا خطيرة، زاد خطرها بعد ظاهرة العلمانية والمادية في القرن الثاني عشر/ الثامن عشر وما بعده، كما أنه كان ينقصها التفكير في الأولويات، ماذا نقدم وماذا نؤخر، فإن العناية بعلومهم في التاريخ ليس في أهمية العناية بالطب مثلًا أو العلوم ذات النفع الصناعي والرقي المادي، وقس على هذا غيره. لم تظهر مشكلة في زمن العطار بين الدين والعلوم التي تعرّفَ عليها في الكتب المترجمة، وبقي السائد إلى زمنه أن السابق إلى تحصيل هذه العلوم العصرية هو أحد المتخصصين في علوم الشريعة، فما علم عن غيرهم ذاك الاهتمام، فجمع بين علم الشريعة وبين علوم العصر دون أن تظهر مشكلة في ذلك. وربما لو بقي التطور ذاتيًا وعلى هذه الوتيرة نفسها، وبهذا النموذج نفسه الذي مثله العطار؛ لما وقعت كثير من مشاكل مزعومة بين الدين والعلوم العصرية، ولكن التطور بعد ذلك قد تدخلت فيه أطراف أخرى أعاقت هذا النمو الطبيعي، أخطرها جهود الغربيين في فتح مدارس لهم بعيدًا عن علماء الشريعة يُدرّس فيها تلك العلوم بما اختلط بها من فلسفات ومذاهب وأيديولوجيات، ويأتي بعدها ما حدث للمبتعثين الأوائل من صدمة، وربما أخطر من ذلك تمكن بعض التيارات العلمانية الناشطة في أوروبا من التغلغل داخل المجتمع الإِسلامي، وأشهرها في تلك المرحلة -وقت الحملة وبعدها لما يقرب من قرن- "الجمعيات الماسونية" التي ما زالت تشعر بنشوة انتصارها في أوروبا، فتسرب بعض أعضائها عبر الحملة، ثم انتشرت وبقيت إلى سقوط الدولة العثمانية. وأقل منها شهرة "مجموعة السان السيميون" أتباع "سان سيمون" المفكر الفرنسي الاشتراكي، وهو شخص عاش أزمة المجتمع الفرنسي بعد أن ضُربت الكنيسة، والأزمة العنيفة التي عصفت بكل من كان يدين بدينها، فدعا إلى وضع العلم

2 - ولاية محمد علي باشا، ثم أولاده من بعده

مكان الدين، وكانت الحملة الفرنسية مفتاح دخولهم إلى أهم بلاد المسلمين آنذاك وهي مصر، وقد دخل بقية الماسون وأتباع سيمون بقوة في إدارة الدولة الجديدة دولة محمَّد علي باشا فيما بعد، وكذا مع أحفاده من بعده وتوجيه بعض من يستطيعون من نخبها، فضلًا عن استثمارهم للأقليات الدينية الموجودة، فهذه التطورات المختلفة انحرفت بمقترحات الشيخين فيما بعد، وأفسدت المسار الصحيح للأمة. 2 - ولاية محمَّد علي باشا، ثم أولاده من بعده: فشل الشاب العسكري الأول في جزء كبير من مهمته، وهو نابليون، إذ لقي مقاومة جهادية داخلية رغم كثرة ادعاءاته عن إسلامه وحرصه على ادعاء رفع الظلم عن المسلمين ورفع الجهل عنهم، وفي الوقت نفسه فإن الأوضاع في فرنسا لم تستقر بعد الثورة ولا في أوروبا عمومًا؛ مما أضعف رغبتهم في البقاء في مصر، فانهزموا من مصر سنة (1801 م)؛ أي: بداية القرن التاسع عشر، وبقيت الأوضاع في مصر مضطربة إلى أن جاء الشاب العسكري الثاني قائد فرقة ألبانية شاركت في محاربة الفرنسيين وبقيت ترابط هناك. تضافرت مجموعة أحداث، منها ما يرجع إلى شخصية محمَّد علي، ومنها ما يرجع إلى أوضاع مصر آنذاك، ومنها ربما ما هو مجهول، لتهيئ لمحمد علي الحصول على ولاية مصر من السلطان العثماني سليم الثالث، وكان من بين من تحمس له علماء الأزهر وكثير من وجهاء مصر وكان من شروطهم أن يحكم فيهم بشرع الله ويمنع الظلم ويحفظ الأمن ويقيم العدل (¬1). وقد كان يملك مجموعة عسكرية مهمة "الألبانية" ساندته في عمله، وقابلته القوة الأساسية في مصر وهم "المماليك"، الصالح منهم والطالح، فدبر لهم مكيدة، فجمعهم وقتلهم فيها (¬2)، فتخلّص عند ذلك من مجموعة قد تنافسه على طلب السلطة أو تعارض مشروعاته، وقد سببت هذه الحادثة الرعب في مصر من محمَّد علي وجيشه، وضعفت مقاومة الناس له في الحق أو غيره، وأخطر ما في الأمر هو إهماله لشأن الأزهر وعلمائه رغم أنهم كانوا أول من سانده للوصول ¬

_ (¬1) انظر: قصة تولّيه مصر، تاريخ الجبرتي 3/ 43 وما بعدها. (¬2) انظر: المرجع السابق 3/ 224 وما بعدها.

إلى الولاية، وسيكون لهذا الإهمال أثره فيما بعد على كثير من أحداث مصر وربما العالم الإِسلامي. يعد "محمَّد علي" أول والٍ مسلم يتجه إلى الغرب بقوة من أجل طلب ما عندهم خارج السلاطين العثمانيين، وأتبع تلك الرغبة بعمل جاد رغم ضبابية الغاية المرجوة، والذي يظهر أن شهوة الزعامة كانت أقوى من مقصد إنقاذ الأمة ورفع التخلف عنها وإخراجها من الضعف الذي هي فيه، فإن الهدف المعلن من توجهه للغرب هو بناء جيش قوي يحمي حكمه ويساعده في توسيع مملكته، حتى وإن كان على حساب السلطنة التي يدين لها بالولاء، كما حدث من رغبته في التوسع ليضم بلاد الشام إلى ولايته ثم قيامه بذلك، ثم حصل ما حصل مما هو مدون في التاريخ فعاد ليكتفي بمصر. وتبقى تجربة محمَّد علي إحدى أشهر التجارب في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، وكانت نموذجًا للقسم العربي من العالم الإِسلامي، ولكنها كانت في الوقت نفسه -بسبب ما حوته من مشاكل- تجربة مربكة لمسيرة العالم الإِسلامي الحديثة، وتسببت في توتير العلاقة بين الدين والعلوم العصرية، وما زالت آثار تلك التجربة -للأسف- حاضرة في مجتمعنا المعاصر، وتبقى الوقفة هدفها استفادة الدروس والعبر من التاريخ القريب حول هذه المسألة الشائكة. عمل "محمَّد علي" على مجموعة مستويات، منها ما هو من نشاطه ونشاط دولته، ومنها ما كان تدخلًا سافرًا من أطراف أجنبية وجدت منفذًا خطيرًا لها في مصر، وكان من أبرزها: ظهور فكرة الابتعاث لتحصيل العلوم الحديثة وفنون الصناعات والمدنية، وبناء تعليم جديد مستقل ومنفصل عن التعليم الموجود، وظاهرة فتح الباب لغير المسلمين في إدارة البلاد وإدارة التعليم الجديد وإدارة الجيش والنشاط التجاري، وحرية الحركة والنشاط، واستغلال ضعف المسلمين وفقرهم لتحقيق مصالحهم، وافتتاح المدارس الصناعية، وانتشار واسع للتعليم الأجنبي الموجه أساسًا لأبناء الطوائف الأخرى، كما أن تلك الدولة عرفت المطبعة والترجمة والصحافة، كما أن هناك بعثات رسمية؛ فهناك رحلات خاصة قام بها البعض إلى الغرب خارج دائرة الابتعاث العلمي، وعرفت تلك المرحلة نفوذًا غربيًا عبر بعض تياراته الخطيرة الجديدة، وكان أشهرها حضورًا الماسونية والسيمونية.

أدوات محمد علي في تحصيل العلوم العصرية

ومن خلال هذه الشبكة المعقدة تم استقبال الوافد الغربي بما فيه العلوم الجديدة والصناعات وأمور المدنية، ومن الطبيعي لوضعٍ معقد كهذا أن يُفسِد مسيرة حضور العلوم العصرية في بلاد المسلمين ولاسيّما في مثل هذه التجربة التي استبعدت إلى حد كبير أي تدخل من قبل أشهر مؤسسة علمية آنذاك وهي الجامع الأزهر. أدوات محمَّد علي في تحصيل العلوم العصرية: سنقف الآن مع الأدوات التي استعان بها محمَّد علي في تحصيل العلوم الحديثة من أجل تكوين دولة أو ولاية قوية تسند حكمه، وهذه الأدوات أصبحت نموذجًا فيما بعد لكثير من التجارب في بلاد المسلمين بما في ذلك مركز الخلافة، وأهم الأدوات ما يأتي: أ- الاستعانة بالأجانب. ب- مشروع الابتعاث لأوروبا. ج- فتح المدارس الفنية غير المعهودة في بلاد المسلمين آنذاك إلا في النادر. د- المدارس الأجنبية "مدارس الإرساليات". هـ - مشروع الترجمة. و- المطبعة وما ارتبط بها من ظهور صحافة علمية وفكرية. لقد كانت هذه المنافذ من أشهر ما سلكه "محمَّد علي" لطلب المدنية الغربية أو استفاد منها, ولنتذكر هنا بأن هذه المنافذ جاءت بعد قضائه على المماليك وإقصائه للأزهر وعلمائه، ومما طلب عبر هذه المنافذ العلوم الحديثة بما يترتب عليها من إدارة وصناعة ومدنية. أ- الإستعانة بالأجانب: من أخطر الظواهر التي عُرفت في زمن "محمَّد علي"؛ فتحه الباب لغير المسلمين ممن هم داخل البلاد الإِسلامية أو من الأوروبيين، وقدّمهم -وكذا بعض أبنائه- على المسلمين، بل إنه في أحيان كثيرة يفتح صدره لهم بينما يمارس الظلم والطغيان على المسلمين (¬1). وعندما استولى ابنه "إبراهيم" على ¬

_ (¬1) يذكر المؤرخ "الجبرتي" عن "محمَّد علي" أنه: (فتح بابه للنصارى من الأروم، والأرمن، =

بلاد الشام؛ قمع أهل الدين وفتح الباب للنصارى ومكنهم من المسلمين واستعان بهم (¬1)، واستمرت هذه الحال مع أبناء محمَّد علي حتى تمكن المستعمر فيما بعد من احتلال بلاد المسلمين. وإذا كان الأجانب قد فشلوا في مشروعهم النابليوني؛ فقد وجدوا في ولاية محمَّد علي وأبنائه ما يعوّض ذلك الفشل، فما فقدوه برحيل بونابرت عوّضه محمَّد علي، حتى بعض أعضاء حملة بونابرت من خبراء وضباط قد وجدوها فرصة لمواصلة الدور، وكان منهم على سبيل المثال "جومار" عضو المجمع العلمي والجغرافي المعروف والمشرف على الكتاب الذي أخرجه الفريق العلمي حول مصر المصاحب لحملة بونابرت، الذي أصبح المشرف على مبتعثي محمَّد علي إلى فرنسا (¬2)، وأحد مستشاريه في التعليم. وكذا أحد ضباط جيش بونابرت الذي فقد عمله في غزوات بونابرت بعد عزل بونابرت ليجد فرصته في تأسيس جيش محمَّد علي الجديد (¬3)، وهكذا تغلغل الأجانب في هذه الدولة الناشئة. صحيح أن "محمَّد علي" القادم من ألبانيا -وهي جزء من القارة الأوروبية- على علم بما في أوروبا من تقدم دنيوي ومادي حيث كان قريبًا من تلك البلاد، ولكن الغريب من أحد الولاة المسلمين فتحه الباب على مصراعيه -وبهذه الطريقة المحزنة- للأجانب ليتمكنوا من بلاد المسلمين رغم حساسية الوضع، وتَهيُّؤ الغرب لمعركة خطيرة مع الأمة الإِسلامية. لقد كان من بين الأمور المعلنة حول استعانته بهم وفتحه الباب لهم أنهم أهل الحضارة المادية، وكان الأجنبي أيضًا يسوق نفسه عند "محمَّد علي" عبر إغرائه ببناء دولته على نمط دول أوروبا، ومن ذلك وعده بنشر العلوم الحديثة في ربوع مصر، ولكن إذا صح بأن هؤلاء الأجانب على دراية بالعلوم الحديثة؛ فإن ¬

_ = فترأسوا بذلك، وعلت أسافلهم، كما أنه كان يحب السيطرة والتسلط، ولا يأنس لمن يعارضه) عن الصلابي، الدولة العثمانية. . ص 385، عن تاريخ الجبرتي 4/ 150. (¬1) عند احتلاله للشام فتح الباب على مصراعيه للبعثات التبشيرية، وكان عام (1834 م) عام تحول خطير؛ حيث برز جهد النصارى من أوروبا وأمريكا، وانتشرت مدارسهم ومطابعهم. انظر: الدولة العثمانية. .، الصلابي ص 410. (¬2) انظر: تخليص الإبريز في تلخيص باريز، رفاعة الطهطاوي ص 390. (¬3) انظر: تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر، جرجي زيدان 1/ 232 ومما بعدها.

ب- مشروع الابتعاث لأوروبا

طريقة طلبها كانت سيئة للغاية، وهذا مما يجعل تجربة محمَّد علي تجربة مشبوهة أو تثار حولها الأسئلة. كان هذا المسلك السيئ واحدًا من طرق تعرفنا على العلوم الحديثة، حيث كان يقدمها لنا من كان يريد الانقضاض علينا واحتلالنا. ومن وقت قصير خرج ذاك العدوّ من تجربة فاشلة مؤلمة لكنه يريد أن يعوضها بمثل هذا التغلغل الخطير تحت مظلة تسويق العلوم الحديثة. لا يمكن بأية حال أن نتوقع من هؤلاء الأجانب تحمسًا منهم لنفع المسلمين أو إعطائهم ما يرفع من شأن المسلمين ويزيد من قوتهم، وكان يمكن أن يُقال بأننا سنأخذ منهم ما ينفعنا -فهم أشبه بالأجير- لولا ما حدث من تمكينهم في إدارة الوضع في مقابل الإقصاء الواضح لمن لا يعجبه من أهل الإِسلام. كان الأسلوب في تعريف المسلمين بعلوم العصر مستفزًا للغاية، فكيف يمكن تقبل مثل هذا المسلك؟! وكيف يستساغ من العامة فضلًا عن العلماء؟! فرق بين جلب الأجانب وأخذ ما عندهم من علم نافع أو صناعة أو حرفة أو مهارة، وبين أن يمكنوا كل هذا التمكين بينما يُبعد أهل الدين والعلم الشرعي، وقد كان هذا من أسباب تعكر العلاقة مع العلوم الجديدة؛ فقد شعر البعض أننا أخذناها بمهانة وذلة، ووضعت عند أطراف منفصلين عن جسد الأمة، أو وضعت عند من فقدوا هويتهم. قد يقول البعض -وما أكثر ما نقرؤه- بأن هؤلاء الأجانب نشروا معارف انتفع بها الناس، فهذا مستشار التعليم "كلوت" الذي نشر التعليم في مصر وأسس مدارس طبية (¬1). . . .، فكيف ننكر أثره وأثر من جاء به؟! وهؤلاء لا يفرقون بين الاستفادة مما عند الكافر وبين أن يمكنوا من المسلمين، فتغافلوا عن التساؤل: هل كانت الطرق مقفلة إلا من هذه الطريقة؟ وهل كان الأمر يستحق هذه الخسائر الفادحة من كرامة المسلمين؟ من الصعب محاكمة التاريخ, ولكن هذا الكلام يقال لما نشاهده من تضليل فكري سائد في كثير من الكتابات المعاصرة. ب- مشروع الابتعاث لأوروبا: أشهر قرار اتخذ في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر لتحصيل العلوم ¬

_ (¬1) انظر: تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر، جرجي زيدان 2/ 7 وما بعدها.

العصرية وأدوات صناعة المدينة الحديثة هو قرار أو مشروع الابتعاث، والذي يظهر أن مثل هذا العمل لم يحدث في تاريخ الأمة الإِسلامية، فالمعهود هو إرسال شخص أو أن يتحمس أحد الناس لطلب ما عند الأمم الأخرى من علوم فيذهب إليهم، أو طلب أحد الماهرين من أبناء تلك الأمم ليعلم بعض أبناء المسلمين مثل هذه العلوم، أو نقل كتبهم ودراستها دراسة ذاتية، أما أن يتم إرسال طلبة يدرسون في مدارس الأمم الأخرى، ثم يعودون لنقل ما درسوه؛ فما اشتهر إلا مع هذه التجربة التي قام بها محمَّد علي، وقد سار على هذه الطريقة فيما بعد مركز الخلافة (¬1)، ثم أغلب ولاة المسلمين في ذلك القرن، واستمر هذا في القرن اللاحق بعد سقوط دولة الخلافة والوقوع في فخّ الاستعمار، واستمر أيضًا مع ولادة دول ما بعد الاستعمار، حيث يعدّ الابتعاث -وإلى الآن- السياسة المتبعة في تحصيل العلوم والصنائع والفنون من الغرب. لقد أصبح مصطلح "الابتعاث" مكونًا من مكونات التعليم في العالم الإِسلامي، ولا تجد إلى الآن مؤسسة تعليمية إلا وفيها إدارة خاصة للعناية بالابتعاث، ومع أننا لما يقرب من قرنين نبتعث؛ إلا أن ذلك لم يحقق لنا الاستقلال المعرفي، ربما لأننا لم نراجع مثل هذا المصطلح، ولم نبحث عن إمكانية التخلص منه والبحث عن طريق آخر للخروج من مأزق التبعية المعرفية. بعد أربعة أعوام من تولي "محمَّد علي" السلطة أرسل البعثة الأولى إلى إيطاليا سنة (1809 م) لدراسة العلوم العسكرية وبناء السفن والطباعة وفنون الهندسة، تحولت بعد ذلك البعثات إلى فرنسا، وكانت بعثة سنة (1826 م) أشهرها بسبب شهرة واعظ البعثة الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي"، وتختلف التقديرات حول نوعية التخصصات؛ إلا أن العلوم العسكرية أخذت حصة الأسد، أما العلوم العصرية الحديثة فهي وإن كان أغلب المبتعثين يطلعون عليها إلا أن هناك قلة (¬2) تخصصت فيها. ¬

_ (¬1) بدأت بعثات محمَّد علي (1809 م)، بينما كانت أول بعثة من الدولة العثمانية زمن محمود الثاني سنة (1827 م) مكونة من (150) طالبًا، انظر: نهضة مصر. . . .، أنور عبد الملك ص 129، 133. (¬2) انظر: رفاعة الطهطاوي. . . .، د. محمَّد عمارة ص 47 - 49، وحول حصر البعثات وإحصائيات حول التخصصات زمن محمَّد علي، انظر: نهضة مصر. . . .، أنور عبد الملك =

ويعتبر مجموع هؤلاء المبتعثين أول طائفة من المسلمين تنظر بتوسع في "العلم" بصورته التي وصل إليها في الغرب، ولاسيّما أن مفهوم العلم قد تغير عندهم، وفي ذلك يقول أحد أشهر المبتعثين رفاعة الطهطاوي: "ولا نتوهم أن علماء الفرنسيس هم القسوس؛ لأن القسوس إنما هم علماء في الدين فقط، وقد يوجد من القسوس من هو عالم أيضًا، وأما من يطلق عليه اسم العالم فهو من له معرفة في العلوم العقلية. ." (¬1)، فإن مفهوم العلم يطلق عادة على العلوم الدنيوية، بينما ضَعُف إطلاقه عندهم على العلوم الدينية. كان هؤلاء الشباب نواة المسلمين الأولى في التعرف على العلوم العصرية؛ لأن الأمر قبلهم كان محصورًا في الملّيين من يهود ونصارى الذين يتولون أمور الطب والحساب والصنائع، وهذه المجموعة قد وصلت أوروبا ولاسيّما فرنسا وهي تموج بأوضاع مثيرة أخطرها تحديد الموقف من الدين؛ إذ كانت آنذاك فترة القرار العلماني المتطرف النازع لرفض الدين تمامًا وتأسيس مستقبل جديد لا علاقة له بالدين، وغير المتطرف منهم يسمح بوجود الدين كمؤسسة على هامش المجتمع لبعض الأفراد الذين لا يستغنون عنها، وأخطر ما في ذلك: التوجه إلى تأسيس العلوم منفصلة عن الدين، بل توظف كثيرًا في ضرب المفاهيم الدينية، ففي هذا الجو الصاخب رمي بهؤلاء الشباب في أتون تلك المعركة التي حيرت أهلها فكيف بغيرهم!! فهل يستطيع هؤلاء الشباب استخلاص النافع من علوم الغرب وعدم التأثر بظاهرة العلمنة العلمية (¬2)؟ لا نريد أن نُحمّل أولئك المبتعثين وحدهم ضعف الثمرة المرجوة وظهور بعض المشاكل المرتبطة بهم؛ فإنهم رغم كل ما يقال قد اجتهدوا رغم ضعف إمكانياتهم وصعوبة مغامرتهم في تلقي ما استطاعوا من معارف ونقلها بحسب المستطاع إلى بلادهم، ولكن الذي يتحمل التبعة أكثر من غيره هو صاحب المشروع وصاحب سياسة الابتعاث، فإن الابتعاث لم يوضع في صلب رؤية واضحة المعالم يُقصد بها تقدم الأمة الإِسلامية ولو في ذاك الجزء من بلاد ¬

_ = ص 129 - 132، وانظر: دولة محمَّد علي والغرب -الاستحواذ والاستقلال، حسن الضيقة ص 231 - 232. (¬1) تخليص الإبريز في تلخيص باريز، رفاعة الطهطاوي ص 258. (¬2) انظر: واقعنا المعاصر، محمَّد قطب ص 207 - 210.

ج- إنشاء المدارس الفنية في مختلف التخصصات

المسلمين، فهنالك فرق بين من يريد تأسيس حكم خاص وقوى لمصالح ذاتية، وبين من يريد النهوض بالأمة وإحيائها ورفع الضعف عنها، يتأثر كثيرًا مشروع الابتعاث باختلاف الرؤيتين أو المقصدين؛ فالمشروع الأول تذهب ثمرته سريعًا لارتباطه بهوى الأشخاص، أما الثاني فيبقى؛ لأن الأمة قائمة وباقية بأمر الله سبحانه. ج- إنشاء المدارس الفنية في مختلف التخصصات: كان هذا العمل من أهم ما قام به "محمَّد علي" لإيجاد موظفين ومتخصصين في شؤون ولايته، ورغم مهنية أغلب هذه المدارس؛ إلا أنها تلامس بعض العلوم الحديثة، وقد كان المدرسون فيها هم غالبًا من النصارى وكان أغلب أهدافها خدمة الجيش الجديد الذي أنشأه. وقد يمكن أن تكون هذه المدارس نواة مشروع صناعي وتقني لا يخدم مصر وحسب بل العالم الإِسلامي فيما بعد لولا أن هذه المدارس قد ارتبطت كغيرها بالمصالح الشخصية لا بمصالح الأمة؛ لذا كانت عرضة للتقلب والتغير والإقفال. كانت هذه المدارس بعيدة عن مشاكل العلوم العصرية؛ لأن ما يُطلب فيها هو العلم العملي لوحده دون العلم النظري ونظرياته؛ فالنظري ميدانه الدوائر العلمية والجامعات والمعاهد المتخصصة في العلوم وهذا أقرب إلى مؤسسة شبيهة بالأزهر، أما العملي فيُكتفى فيه غالبًا بأخذ الجانب التطبيقي من العلوم القابلة للتوظيف المادي. فالتركيز على هذا الجانب العملي الوظيفي كان سيبعدنا عن المشاكل المرتبطة بالعلم النظري ونظرياته، كما ظهرت في أوروبا من نظريات الفلك إلى "نيوتن"؛ أي: إلى الفترة التي وقع فيها الاحتكاك الأول مع الغرب، ويُؤخر بحثنا فيها حتى نستطيع تحصيل المهم والنافع البيّن نفعه، ويتمكن البعض من تحصيل الأدوات المعرفية والمنهجية التي تساعدنا في التعامل الجيد مع الجانب النظري منها. إلا أن هذا الجانب لم يسلم من المعوقات التي وأدته وأفرغته من ثمرته؛ فإن "محمَّد علي" فتح باب المعاهد الصناعية وبدأ في فتح بعض المشروعات الصناعية، وفي الوقت نفسه فتح السوق أمام الصناعات الأجنبية؛ مما أعاق تطور

د- المدارس الأجنبية "مدارس الإرساليات"

مثل هذا المجال (¬1). ليس المقصود تقييم هذه التجربة بقدر ما هو بيان صورة من صور البحث عن العلوم العصرية ذات الثمرة في دنيا الناس، وأنها كانت من الأفكار المهمة آنذاك ولكنها فشلت في تحقيق هدفها، وهي وإن فشلت في تحقيق حركة علمية تطبيقية نافعة؛ فإنها فتحت الباب لفكرة "المدرسة الفنية"؛ وهي التي كانت غائبة في أكثر بلاد المسلمين فترة الضعف والتخلف، ولقد انتشرت هذه "المدرسة" في كثير من بلاد المسلمين فيما بعد، واحتوت على مواد علمية جديدة يدرسها الطالب ما كانت معهودة من قبل، ولكن هذه "المدرسة" رغم ما قدمته فهي دون المقصود والمرجو منها، كما أن طلابها لم يكونوا مؤهلين للتعامل الإيجابي مع العلوم الجديدة، كما أن اختراق أهل الأهواء قد أثّر فيها (¬2). د- المدارس الأجنبية "مدارس الإرساليات": كان من بين الأدوات التي استفاد منها "محمَّد علي" مدارس الإرساليات التي انتشرت في زمنه؛ حيث شهدت هذه المرحلة التاريخية عناية الغربيين بالملل الموجودة داخل العالم الإِسلامي ولاسيّما اليهود والنصارى، ولذلك صلة بما يخطط له في الغرب آنذاك للانقضاض على العالم الإِسلامي بإيجاد قوة داخلية تساعدهم عند تنفيذ المهمة، وقد لاقى هذا النشاط قبولًا من قبل "محمَّد علي" وغيره (¬3)، وغالب ذلك نتيجة ضعف واضحة في ولاة ذلك العصر مع آمال مبنية على وعود غربية من جراء السماح لمثل هذه الأمور. فتكونت مثلًا الإرساليات الغربية وبدأت تجوب العالم الإِسلامي، ولصعوبة تنصير المسلمين فقد توجه أكثرها لتقوية بني ملتهم ليكونوا هم من يقوم بتلك المهمة، وكان من بين عملهم فتح مدارس حديثة بمناهج مختلفة لم يعهدها هؤلاء ¬

_ (¬1) انظر: المعالجة المميزة لهذه المدارس في: دولة محمَّد علي والغرب. الاستحواذ والاستقلال، حسن الضيقة ص 233 - 251. (¬2) سيأتي ذكر نموذج من مدرسي هذه المدارس وأثرهم في الفصل القادم بإذن الله. (¬3) انظر: الأزهر ومشاريع تطويره، مخلص الصيادي ص 35، حول سماح "محمَّد علي" للمدارس التبشيرية في مصر وكذا ابنه "إبراهيم" في الشام، وانظر: الدولة العثمانية. . . .، د. علي الصلابي ص 410.

اليهود أو النصارى من قبل، حيث عملت المدارس بطريقة مقاربة لما في الغرب، وأدخلت مواد جديدة كان من أهمها العلوم الحديثة، ووجدت دعمًا ماليًا وماديًا وعلميًا من قبل قوى غربية مختلفة؛ مما هيأها للنجاح ولاسيّما مع وجود سماح ودعم من قبل الوالي المسلم (¬1). لقد مثل هذا التعليم المجاور للمسلمين خطورة على التطور الحديث للعالم الإِسلامي، فالمسلمون يرون هذه المدارس حولهم وفيها علوم جديدة، ويحصل المتخرج منها على وظائف مهمة في الدولة أو المجتمع، ولاسيّما من كان منهم يتعلم لغة أخرى أو يدرس الطب أو الحساب فيجد فرصته. ولكن هذه المدارس الأجنبية قد غرس مؤسسوها فيها مشاكلهم المعهودة في أوروبا "الصراع بين الدين والعلم بخلفيته في الغرب"، فكانت المشكلة تظهر أولًا في طلابها، ثم تخرج من خلالها إلى المجتمع المسلم الذي يعيشون فيه. أيضًا فقد كانت هذه المدارس نواة مهمة للعلوم العصرية، ولكن أهلها يختلفون عن المجتمع الذي يعيشون فيه من جهة دينهم وقيمهم، فقامت مشكلة شائكة استمرت سنين، فهل يدرس فيها أبناء المسلمين أم لا؟ هناك من ضَعُف أمام الإغراءات وأرسل أبناءه إليها بحجة الحصول على العلوم الجديدة، ولكن تلك المدارس كانت دينية في المقام الأول، فيقع التلميذ المسلم في بحر متلاطم من المصائب؛ فإما أن يمسخ هويته ويندمج في تلك البيئة وينسلخ عن أمته، أو يبقى مشتتًا متمزقًا بين إسلامه وبين دين غيره. قد يعتذر البعض بأن "محمَّد علي" والخليفة العثماني "محمود الثاني" صاحب التنظيمات وكذا باي تونس ما كان بوسعهم إلا السماح للملّيين بفتح مدارسهم وحصولهم على دعم مباشر من إخوانهم اليهود والنصارى في الغرب، وهو وإن كان عذرًا غير مقبول ولكن لِمَ سُمح لهم بتصدير مشاكلهم إلى المسلمين؟ ولِمَ لم تظهر "المدرسة الإِسلامية" التي يُصاغ فيها التلميذ المسلم وفق ¬

_ (¬1) من أوسع ما وجدته من المراجع تغطية لهذا الموضوع مصرِّحًا بكثير من أهداف تلك المدارس كتاب: (التربية في الشرق الأوسط العربي)، د. ماثيوز وَد. متى عقراوي، ترجمة د. أمير بقطر، صدر عن (مجلس التعليم الأمريكي بواشنطن)، انظر حول مصر، الفصل السابع ص 135.

هـ - مشروع الترجمة

إسلامه ويكتسب فيها من المعارف ما يحتاجه أو تحتاجه أمته؟ لِمَ بقيت مدارس الإرساليات هي قبلة الأذكياء من أبناء المسلمين ولم يوفر لهم بيئة مأمونة يتلقون فيها هذه المعارف الجديدة دون اصطناع لمشاكل لا حقيقة لها بين الدين والعلوم النافعة؟ لقد استفاد "محمَّد علي" من مدارس العلوم العصرية التي كانت للملّيين والإرساليات فمكّن خريجيها من العمل في دولته، ولكن ذلك يسّر لهم القيام بمناشطهم فيما بعد. وللأسف بقيت هذه العلوم المهمة لفترة طويلة داخل مدارسهم، وبسبب بقاء هذه العلوم داخل مدارس النصارى في وقت كانت تلك المدارس دينية تبشيرية صرفة جعلها موضع إشكال للمسلمين، وكان من الطبيعي ألا يتقبل الكثير من المسلمين هذه العلوم بسبب ما أحيط بها من أوضاع. هـ - مشروع الترجمة: لم تحتج الأمة إلى الترجمة من قرون، لقد كانت أمة عالمة وتُصدر العلم لغيرها، إذ إن الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- قد سمح بترجمة النافع في زمنه من كتب الطب، وتوسع بعض الولاة بعده في ترجمة ما لا نفع فيه أو ما ضرره أكثر من نفعه، ولكن الأمة توقفت عن الترجمة بعد ذلك. شعرت الدولة العثمانية بضعفها في حروبها الأخيرة مما دفعها للتفكير في تحصيل بعض ما عند الأوروبيين، وكانت "الترجمة" من المنافذ أو الأدوات المهمة التي تستخدمها أغلب الأمم في نقل معرفة تحتاجها ولكنها بغير لسانها، وكذا بدأ التفكير في ذلك مع والي مصر الجديد والدوافع هنا أكثر؛ إذ قد شاهد بعض أهل مصر ما مع الحملة الفرنسية من أدوات وعلوم، ومن هنا بدأ التفكير في الترجمة ليُفتتح عصرها الحديث. ولا شك أن "محمَّد علي" قد انتبه لأهمية "الترجمة" أو نبّه لها، وهي عمل مشروع لتحصيل النافع من العلوم عند الأمم الأخرى، ولكن الظروف المحيطة بهذا المشروع قد انحرفت بمساره وأضعفت من أثره النافع وحولته في كثير من الأحيان إلى أداة هدم. ذكر الدكتور "سعيد إسماعيل" بأن "محمَّد علي" اتجه أولًا إلى استخدام الأجانب، بيد أنه وجد ذلك مكلفًا "بالإضافة إلى عدم وثوقه بالكثير منهم،

وخاصة وقد كشفت الوقائع عن أن بعضهم كان من الأفاقين الجهلة مدعي العلم"؛ فانتقل إلى الترجمة، فنشأت حركة ترجمة، لاسيّما ترجمة "الكتب المدرسية"، وكان الاعتماد في الترجمة على مجموعة من الشوام -وأغلبهم من النصارى- ثم شاركهم بعد ذلك بعض خريجي الأزهر العائدين من بعثات أوروبا (¬1). عرف عصر محمَّد علي طلبًا لكتب العلوم الحديثة، وكان هناك جمع لها من إستانبول وأوروبا، وكان هناك حث على ترجمتها وتوفيرها، وكثر عند ذلك المترجمون (¬2)، وقد عرفت الترجمة منعطفًا مهمًا مع عودة المبتعث رفاعة الطهطاوي بخاصة، الذي جعل من الترجمة مشروعًا له وهدفًا من أهدافه، حيث قام بنفسه على مشروع الترجمة وأسس معهدًا لتخريج المترجمين، وأنشأ "قلم الترجمة" سنة (1841 م) بوصفه مجمعًا متخصصًا في الترجمة (¬3)، وقسمه إلى أربعة أقسام: "قسم لترجمة الرياضيات، وقسم لترجمة العلوم الطبية والطبيعية، وقسم لترجمة العلوم الاجتماعية، وقسم للترجمة التركية". تعدّ المؤسستان اللتان أقامهما "رفاعة": "مدرسة الألسن" و"قلم الترجمة"؛ من أهم المؤسسات في تحصيل العلوم العصرية بكل أقسامها المعروفة في أوروبا، فاتسعت دائرة تعرّف المجتمع على العلوم الحديثة وزاد عدد العارفين بها, لا شك أنهما مشروعان مهمان؛ فالأول يمكّن الطالب من امتلاك لغة الآخرين، والثاني يمارس العارف بلغة الآخرين عمله في ترجمة ما تحتاجه الأمة، وعلى هذا فالنقطة الحساسة هي الترجمة؛ لأن ما يترجم سيصبح مادة دراسة أو قراءة لكثير من الناس وقطعًا سينشغل بها الكثير، وسيكون فيها المفيد والمؤثر، والمفيد لا اعتراض عليه ولكن التوقف هو مع المؤثر: ما هو؟ وما أثره؟ إنها المعادلة الصعبة، وإذا لم يُنتبه لها فربما يفقد المشروع مساره ولاسيّما ¬

_ (¬1) انظر له: الأزهر على مسرح السياسة المصرية. . . . ص 165 باختصار. (¬2) انظر: نهضة مصر. . . .، أنور عبد الملك ص 142. (¬3) انظر: رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث، د. محمَّد عمارة ص 68 - 73.

و- المطبعة وما ارتبط بها من ظهور الصحافة العلمية والفكرية

عندما يقع الانبهار بالمادة المترجمة غير النافعة فتؤثر في المجتمع وتعطل الاهتمام بالمفيد، مع العلم بأن المفيد قد يكون عسيرًا وغير محبوب للنفوس، وعلى سبيل المثال فإن النفوس تستريح إلى الآداب والفنون وتستلذ بها، وربما تتأثر بها بخلاف العلوم الرياضية والهندسية والفيزيائية، فهي صعبة وعسيرة ولا تجلب المتعة إلا لقليل من الناس ولكنها هي المفيدة، أما الأولى فهي ممتعة ومؤثرة ولكنها تشغل أمتنا عن المهم، وربما تؤثر فيهم وتنشئ فيهم من الشبهات ما يعطل المسار الصحيح للأمة. والسؤال: هل سلمت تلك التجربة من الانزلاق في خطر المؤثر واكتفت بالمفيد؟ الباحث يعرف أنها تجربة خلطت هذا بذاك، فترجمت المفيد ولكنها لم تواصل فيه، وفتحت بابها لمشاكل المؤثر (¬1)، وللأسف فهو ما نجح في باب الترجمة إلى اليوم، وإلى اليوم يندر أن تجد كتابًا طبيًا مترجمًا، بينما ما إن تنزل رواية غربية؛ إلا وتترجم للعربية. و- المطبعة وما ارتبط بها من ظهور الصحافة العلمية والفكرية: أول من عرّف أهل مصر بالمطبعة هو "نابليون" الذي جلب معه مطبعة تنشر بياناته، ولا شك أن بلدًا فيها مثل الأزهر قد تأخرت كثيرًا في الاستفادة من المطبعة، وقد خرج نابليون وجاء بعده محمَّد علي وكان من أهم مشروعاته إيجاد المطبعة. تُيسر المطبعة انتشار الكتاب، ومن ثم انتشار المعرفة، وإذا عرفنا حركة المدارس والترجمة عرفنا أيضًا أهمية وجود المطبعة, ولكن كانت الصحافة من أهم ما ارتبط بالمطبعة، فإذا كان جمهور الكتاب محدودًا؛ فإن الصحافة لعامة الجمهور فتكون دائرتها أوسع. كانت الصحيفة الرسمية والوحيدة هي: "الوقائع المصرية"، وما كانت تهتم بالأمور العلمية، أما أول صحيفة رسمية توجهت لهذا المجال فهي مجلة: "روضة المدارس"، ففي سنة (1287 هـ -1870 م) قرر "ديوان المدارس" وناظره "علي مبارك" إصدار مجلة فكرية وثقافية وأدبية يرأسها "رفاعة الطهطاوي"، قسمها الطهطاوي إلى أقسام، ويرأس كل قسم أكبر المتخصصين فيه، ومن أولئك: ¬

_ (¬1) هناك نقد شديد ورد في مجلة المنار عن الترجمة وفشلها، انظر: آثار محمَّد علي في مصر، مجلة المنار 5/ 175 (سنة 1320 هـ -1902 م).

خلاصة التجربة

1 - صالح مجدي المتخصص في ترجمة الرياضيات والعلوم الهندسية والعسكرية. 2 - محمود الفلكي أبرز علماء الفلك يومئذ. 3 - إسماعيل الفلكي، ناظر الرصدخانة، وناظر مدرسة المهندسخانة في عصر إسماعيل. 4 - عبد الله فكري، أديب وشاعر. 5 - محمَّد قدري، قانوني. 6 - محمَّد ندا، الكيماوي، والأستاذ بمدارس الطب وغيرها، وصاحب الترجمات العديدة في الزراعة وعلم الحيوان. 7 - محمَّد بدر، الطبيب، وغيرهم من مشاهير ذلك العصر (¬1). تعتبر هذه المجلة إذًا أول نافذة للجمهور القارئ على العلوم العصرية، وإن كان القراء آنذاك هم من النخبة، إلا أنها أخرجت الأفكار الجديدة والعلوم العصرية من دائرة المدارس الخاصة إلى عموم القراء، فيلتقي الجمهور على صفحاتها بمسائل كثيرة ما عهدوها من قبل، ومن ذلك صورة مبسطة لبعض المعارف الجديدة التي تعرّفَ عليها كتاب المجلة في الغرب، ومن ذلك مثلًا (¬2): "حقائق الأخبار في أوصاف البحار"، و"المباحث البينات فيما يتعلق بالنبات"، و"بهجة المطالب في علم الكواكب"، وهكذا. خلاصة التجربة: لقد ظهرت في عهد "محمَّد علي" وأبنائه حركة معقدة في طلب العلوم العصرية، ومحاولة لزراعتها من جديد داخل ولاية مصر وإيجاد المتخصصين فيها والمدارس الخاصة بها، وظهرت أدوات تحصيلها وكان أهمها الابتعاث والترجمة، وأدوات تنشرها وكان أهمها المدارس والتأليف والأعمال المترجمة والصحافة، وهكذا بدأت تدخل مواد جديدة، فبعد أن كانت المواد المعهودة هي ¬

_ (¬1) انظر حول المجلة: رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث، د. محمَّد عماره ص 100 - 103. (¬2) انظر: رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث ص 102.

3 - السلاطين الشباب في الدولة العثمانية ومغامرات الإصلاح

التفسير والحديث وعلم الكلام والفقه وغيرها من علوم الملة؛ بدأت تظهر مواد أخرى كالفلك والكيمياء والحساب والهندسة والفيزياء والأحياء والطب والصيدلة وغيرها وتنافس العلوم الشرعية، ولكن سلك كل قسم منهما طريقه بعيدًا عن الآخر، فقد اصطُنعت بعض العداوات بينهما، بعضها نشأ بسبب الجهل، وبعضها نشأ بسبب مقاصد خطيرة أدخلها الأعداء، وهذه العلاقة وآثارها نتركها للفصل القادم. استمرت هذه المنافذ والأدوات في طلب العلوم العصرية في عهد أبناء محمَّد علي، وربما هيأ الاستقرار لهذه الأسرة مواصلة طريق والدهم من إبراهيم الذي تولى الأمر بعد مرض أبيه، ثم عباس الأول، ثم سعيد، ثم إسماعيل إبراهيم، ثم محمَّد بن إسماعيل (¬1). وفي عهده وقعت الثورة العرابية وما صاحب ذلك من احتلال الإِنجليز لمصر سنة (1882 م)، وبهذا الاحتلال الخطير يدخل العالم مرحلة جديدة هي بداية الاستعمار الأوروبي للعالم الإِسلامي وإسقاط الخلافة. ولا يختلف أحد في خطورة التجربة وضخامتها ولكنها كانت تجربة بعيدة عن ضمير الأمة؛ فسمحت منافذه لطلب العلوم العصرية بتغلغل الأعداء في مراكز العلم والثقافة ووسائلها الحديثة، وزاد الأمر سوءًا إبعاد الأزهر وغيره من مؤسسات الأمة عن المشاركة الفعلية في هذه التجربة، فكانت رغم ضخامتها محمّلة بأخطاء صاحبها. 3 - السلاطين الشباب في الدولة العثمانية ومغامرات الإصلاح: كانت الدولة العثمانية تمر بمنعطف حاسم في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، وقد عرفت الدولة ما بين "سليم الثالث" و"عبد الحميد" مجموعة من السلاطين الشباب الذين خاضوا معركة عسيرة ما بين التحديث والتغريب، وسبّب اختلاط الأمر بينهما مشاكل كثيرة، وربما كان لصغر سنهم أثر في تحكم بعض الوزراء في توجيه دفة المجتمع نحو التغريب بدل الإصلاح والتحديث والتجديد. والسلاطين هم: "محمود الثاني" (1223 - 1255 هـ / 1808 - 1839 م)، "عبد المجيد الأول" (1225 - 1277 هـ / 1839 - 1860 م)، "عبد العزيز" ¬

_ (¬1) انظر فيهم مثلًا: تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع، جرجي زيدان 1/ 19 - 84.

1 - السلطان محمود الثاني

(1277 - 1293 هـ / 1861 - 1876 م)، وثلاثةُ أشهرٍ لـ "مراد الخامس" (¬1)، الأول تولى الحكم وعمره (24) سنة وفي زمنه وقع الصراع مع الدعوة السلفية في نجد، والثاني تولى الحكم وعمره ست عشرة سنة وهو أول سلطان يُضفي على حركة تغريب الدولة صفة الرسمية وعرف ذلك بفرمان التنظيمات، وأما عبد العزيز ومراد فيُذكر عنهما انتماؤهما للماسونية، وقد وقعا في فتن ذهبا ضحيتها، وما استقرت الأمور إلا بمجيء السلطان عبد الحميد، وإن كانت الأمور في عهده قد تعقدت فوقع الاستعمار وحدث انقلاب الاتحاديين وسقطت دولة الخلافة (¬2). ورغم كثرة المتغيرات التي وقعت زمنهم وآثارها الكبيرة على العالم الإِسلامي؛ إلا أن ما يهمنا في هذا المقام أمران: موقفهم من العلوم العصرية، والثاني الأحداث الفكرية التي أسهمت في بروز تيارات فكرية أساءت التعامل مع هذه العلوم، على أن الثاني سيوضع في الفصل القادم. يعدّ طلب العلوم العصرية من أكثر الأمور التي حرص هؤلاء السلاطين على طلبها، وقامت من أجلها أحداث كبيرة ونزاعات مشهورة؛ مما يدل على ضخامة الحدث، وتعقد المشكلة، مما يدعو إلى استغرابنا نحن الذين نعيش في ثلاثينيات القرن الخامس عشر الهجري. 1 - السلطان محمود الثاني: كما قام محمَّد علي بالقضاء على المماليك وتقليص أثر الأزهر وعلمائه؛ كذلك افتتح السلطان محمود عهده بالقضاء على الإنكشارية -القوة العسكرية الأساسية في السلطنة- ثم تحول إلى العلماء فقلص سلطة شيخ الإِسلام (¬3) وولّى الصدارة العظمى "البيرقدار"، الذي بدأ عمله بالقضاء على أعوان الخليفة السابق. وكعادة أغلب الولاة في العصر الحديث يتصدر إنشاء جيش جديد المهمات ¬

_ (¬1) انظر للتعريف بهم: الدولة العثمانية. . . .، د. علي الصلابي ص 375 - 440، وانظر: تاريخ الدولة العثمانية، أرسلان ص 267 - 303. (¬2) انظر: المرجعين السابقين، نفس الصفحات. (¬3) انظر: نشوء الشرق الأدنى الحديث، (1792 م-1923 م)، مالكولم ياب ص 123 - 124 ترجمة خالد الجبيلي.

الأخرى، فأعلن "البيرقدار" عزم السلطان تأسيس جيش جديد، يضارع الجيوش الأوروبية "في تعليمه ومعداته" وأن السلطان أمره بإصلاحه "واتباع الطرق العصرية الأوروبية، التي أفتى العلماء بوجوب اتباعها" (¬1). بدأ العمل على إنشاء جيش جديد، وأفراد هذا الجيش هم في الغالب من يحتك بالعلوم العصرية، وكان يدربه ضباط أوروبيون، وأضاف السلطان محمود إلى مدارس الهندسة البحرية والعسكرية "مدرسة طبية لتخريج أطباء عسكريين، ومدرسة موسيقية لتأهيل الفرق الموسيقية العسكرية. . . . ومدرسة للعلوم العسكرية. . . . وكانت الفرنسية لغة التدريب في هذه المدارس وكان القائمون عليها مدربين فرنسيين" (¬2)، فدخلت العلوم الجديدة بلغة جديدة تختلف عن لغة العلم في البلاد؛ فـ "للمرة الأولى تم تشجيع العثمانيين المسلمين على تعلم اللغات الأوروبية" (¬3)، وبدأ بعد ذلك الابتعاث إلى أوروبا من سنة (1827 م)، وافتتح مكتب الترجمة سنة (1833 م) (¬4)، وربما حملت مجموعة هذه الأعمال مؤرخًا غربيًا "توينبي" إلى القول بأن ما وقع في عصر محمود الثاني: أول تأثير غربي حقيقي على تركيا (¬5). وقد نبه باحث على هذه المرحلة بأن جمود العلماء وعدم اجتهادهم بما يناسب المرحلة؛ قد أعطى السياسيين والتغريبيين حجة في تشتيت أثرهم وتحجيمه، فهم وقفوا ضد العلوم النافعة التي تزيد من قوة الجيش والدولة "بحجة أنها من علوم الكفار" دون تفريق بين ما هو نافع يجوز أخذه وما هو ضار يجب رفضه، فاتجه القادة إلى الغرب بعيدًا عن العلماء، فأفلت الزمام من أيديهم، واستولى عليه "دعاة التغريب بسبب موقفهم الجامد والرافض لهذه العلوم" (¬6). وربما يصدق هذا على طائفة من العلماء مرتبطة بالتصوف، وهي تُزهّد أصلًا في ¬

_ (¬1) انظر: تاريخ الدولة العثمانية، أرسلان ص 268. (¬2) نشوء الشرق الأدنى الحديث. . . . ص 125، مع بعض الاختصار. (¬3) المرجع السابق ص 125. (¬4) انظر: المرجع السابق ص 126. (¬5) انظر: الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر. .، علي الزهراني ص 886. (¬6) انظر: الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر ص 880 - 881.

2 - السلطان عبد المجيد

علوم الشرع المعهودة فضلًا عن علوم العصر، ولكن الذي يظهر بأن الأمر أعقد من ذلك، فإن اختلاط التحديث بالتغريب (¬1) وغموض الأهداف عند دعاة طلب العلوم الجديدة؛ قد أوجد موقفًا متحفظًا عند العلماء والقادة الدينيين، ولاسيّما مع ارتفاع أصوات دعاة التغريب ودعوتهم إلى ما هو أوسع من الحصول على علوم نافعة وصناعة متقدمة؛ ليتجاوزوا ذلك إلى طلب أفكار وقيم وقوانين ورؤية جديدة عن الحياة، وقد برزت بوضوح في عهد السلطان عبد المجيد. 2 - السلطان عبد المجيد: تولى الحكم في سن صغير -عمره ست عشرة سنة- بعد وفاة أبيه مما مكن بعض الوزراء من التأثير عليه؛ وكان أشهرهم "مصطفى رشيد باشا"، وقد عاش "رشيد" في أوروبا وتأثر بها (¬2)، وكان السلطان عبد المجيد "خاضعًا لتأثير" هذا الوزير "الذي وجد في الغرب مثله وفي الماسونية فلسفته. ورشيد باشا هو الذي أعدّ الجيل التالي له من الوزراء ورجال الدولة، وبمساعدته أسهم هؤلاء في دفع عجلة التغريب التي بدأها. ." (¬3)، لذا كان عبد المجيد يُعدّ "أول سلطان في آل عثمان يُضفي على حركة تغريب الدولة العثمانية صفة الرسمية، إذ إنه أمر بتبني الدولة لهذه الحركة وأمر بإصدار فرمانَيْ التنظيمات عامي (1854 و 1856 م)، وبهما بدأ في الدولة العثمانية ما سمّي بعهد التنظيمات، وهو اصطلاح؛ يعني: تنظيم شؤون الدولة وفق المنهج الغربي. . . ." (¬4)، وبذلك يفتح لإدارة الدولة وفق منظور غربي في الأساس، فلننظر إلى التعليم: لقد أظهر أصحاب التنظيمات حرصًا على وضع التعليم؛ "ففي (1838 م) ذكر مجلس "الشؤون الناجعة" أن اكتساب العلوم والمهارات يتصدر جميع الأهداف والطموحات الأخرى للدولة"، وأن الدين أهميته عظيمة للآخرة، أما ¬

_ (¬1) في لفتة ممتازة لـ "قيس عزاوي" ذكر بأن إعلان التنظيمات هو الاعتراف بالاستسلام الحضاري للغرب وأنه جاء بعد أن أنجزت المراحل السابقة عملية تغريب النخبة. انظر كتابه: الدولة العثمانية. . . . ص 17. (¬2) انظر: الدولة العثمانية. . . .، د. الصلابي ص 416 - 418. (¬3) من مقدمه الدكتور محمَّد حرب لمذكرات السلطان عبد الحميد ص 17. (¬4) المصدر السابق.

العلوم فهي تسهل وصول الإنسان إلى درجة الكمال في الدنيا، ولهذا "أقروا بالحاجة إلى توفير تعليم عصري للمسلمين؛ لتمكينهم من اللحاق بركب التعليم المسيحي الذي كان يدرس في مدارس الطوائف، التي أعيد تنظيمها، وفي مدارس البعثات التبشيرية الأخرى. وقد أدركوا الرغبة لإيجاد نظام عام للتعليم العلماني من أجل إنجاح الهدف الرامي إلى الجامعة العثمانية. وقد أدى إنشاء وزارة التعليم عام (1847 م) إلى سحب التعليم من هيمنة رجال الدين. .". وبحسب رأي "مالكولم" فقد كان "ما أنجزته التنظيمات في مجال التعليم محدودًا جدًا" (¬1)، وعلينا أن نتخيل دولة عظيمة كالدولة العثمانية ينحط بها الضعف لدرجة أنها تأمل في تعليم يوازي تعليم أقليات ضعيفة تحت سيادتها. لأكثر من خمسين سنة، فترة ولاية محمود الثاني وابنه عبد المجيد؛ وقعت متغيرات خطيرة على مستوى دولة الخلافة، أهمها الاختراق الغربي الواضح لدولة الخلافة، فأصبحت المؤسسات الجديدة معتمدة إلى حد بعيد على الخبير الأجنبي أو الفكر الأجنبي، ويفقد بذلك مركز الخلافة استقلاله الحقيقي ويبقى رهينة للغرب، ليس على المستوى المالي والصناعي والمادي فحسب، بل العلمي والفكري أيضًا، وكان ذلك مما مهد للتيارات الفكرية الجديدة من الظهور والتأثير، وأسهم في عودة القوة للأقليات الدينية وربط إدارتها بالخارج مع فتح أبواب الدولة للإرساليات الدينية والعلمانية بالدخول إلى دولة الخلافة، وعندما صدر فرمان التنظيمات (1839 م) فرح به المنصِّرون، وبعد أيام من صدوره كانت الإرسالية الأولى تغادر مرسيلية (¬2) باتجاه العاصمة العثمانية، والأسوأ من ذلك أن قادتها -وهم يدعون للنصرانية- يروجون لمقولة: إن القرآن يحرم التعليم، وبذلك يربطون التعليم العصري بالكنيسة فقط (¬3). لقد كان الأمر خطيرًا؛ أي: وجود قوى غير إسلامية أو تغريبية تقود مسيرة المجتمع في جميع مجالاته، وكان من أخطرها قيادتهم لمؤسسة العلم العصري ¬

_ (¬1) نشوء الشرق الأدنى الحديث. . . .، مالكولم ص 130، وذكر "أرسلان" بأنه افتتح في عهده جامعة باسم دار الفنون، انظر كتابه: تاريخ الدولة العثمانية ص 294. (¬2) الدولة العثمانية. .، د. الصلابي ص 422. (¬3) انظر: المرجع السابق، الصفحة نفسها، وانظر: الدولة العثمانية. . . .، قيس عزاوي ص 60 - 61.

3 - السلطان عبد العزيز

ذاتها ورسم صورة العلاقة بالعلوم الحديثة، فالدولة قد ربطت إصلاحاتها الجديدة بإصلاح التعليم، فهي ترى أن سبب ضعف الدولة راجع إلى ضعف المؤسسة العلمية، وأن قوتها ستكون عبر التركيز على نوع معين من التعليم هو المعروف في أوروبا الذي تسبب بقوتها، وفي الوقت نفسه سيتولى إدارة هذا "العلم" طلبًا ونشرًا وبناءً من هم أصلًا من أعداء الأمة أو أصحاب ميول تغريبية، فالنتائج المتوقعة لا تخفى على المتأمل. وكون هذه التجربة وقعت باللغة التركية؛ فإن ذلك أبعدها نسبيًا -ولا سيّما في التفاصيل- عن الجزء العربي من العالم الإِسلامي، ولذا كانت التجربة المصرية أقرب في التأثير على هذا الجزء من العالم الإِسلامي؛ لأنها كانت غالبًا باللغة العربية، ولكن مجمل الصورة أثرت كثيرًا على مستقبل العالم الإِسلامي السياسي والعلمي؛ لارتباط أغلب بلاد المسلمين بالدولة العثمانية. وسيظهر تيار سياسي وفكري خطير في مقر السلطنة، وسيؤثر في الدولة العثمانية وفي البلاد التي ظهر فيها في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، وهذا التيار هو التيار الماسوني الذي نجح تحت الضغط الغربي من فتح محافله في مقر السلطنة وفي الشام ومصر، وقد كان لهذا التيار شأنه في عهد الإصلاحات المذكورة فترة محمود الثاني وابنه عبد المجيد، وظهر على السطح زمن السلطان عبد العزيز. 3 - السلطان عبد العزيز: سبق أن رأينا نجاح أوروبا في التدخل وفرض مطالبها ومن ذلك دعوى الإصلاح بالصورة التي تريدها، وقد كان لها منافذ خطيرة أشهرها اليهود والنصارى الموجودون في الدولة، ولاسيّما الجزء الأوروبي من الدولة العثمانية، فدخل الغرب من خلالهم، كما أن اليهود الذين هربوا من الأندلس في أثناء سيطرة النصارى عليها وسلبها من المسلمين، قد أقام أكثرهم في منطقة سالونيك، وهناك تكونت جمعيات يهودية وأخطرها الماسونية، وبعض من أسلم منهم بقي مرتبطًا في الباطن بهذا الدين، ومنهم الوزير المشهور مدحت باشا (¬1) ¬

_ (¬1) انظر: الدولة العثمانية. . . .، د. الصلابي ص 437 ص 444.

الذي أصبح الصدر الأعظم زمن السلطان عبد العزيز بن محمود الثاني الذي تولى السلطنة بعد موت أخيه. استمر الوضع السابق مع السلطان عبد العزيز، وفي ميدان التعليم أسست مدرسة ثانوية (1285 هـ - 1868 م) هي "غلطة سراي" جميع موادها باللغة الفرنسية مع اللغة التركية، الغاية منها: "تخريج طائفة من الشباب القادر على حمل عبء الوظائف العامة"، وكان طلابها من مختلف الديانات وإن كان أكثرهم من المسلمين (¬1) ويُهيئ هؤلاء لقيادة الدولة. وقد وقعت في زمنه حادثة مشهورة في دار الفنون -الجامعة- فقد أقيم حفل وألقى فيه جمال الدين الأفغاني كلمة أثارت اللغط حوله وحول دار الفنون، وحول هذه الجامعة وفي سياق الحديث عن قصة الأفغاني يقول أحد الماركسيين: "وقد كانت في تركيا مدارس عليا تدرس فيها العلوم والتكنولوجيا، ولكن هذه المدارس كالعادة كانت معاهد فنية بحتة تفصل العلم عن الفكر والقيم الاجتماعية؛ ولذا فقد كان ميلاد هذه الجامعة غصة في حلوق المحافظين الأتراك الذين كانت تعبر عنهم "هيئة كبار العلماء" بقيادة شيخ الإِسلام حسن أفندي فهمي"، فصورها على أنها النموذج الأكاديمي الجديد الذي يحذو حذو النماذج الغربية، وقد أُغلقت الجامعة بعد هذه الحادثة (¬2). وفي ميدان التيارات الفكرية والمذاهب السياسية والعمل الحربي؛ ظهرت "تركيا الفتاة"، ولم تكن بعيدة عن الجمعيات الماسونية السالفة، وتزعمت بقوة دعوة التغريب "تتألف من مجموعة صغيرة من الشباب جلهم من رجال الدولة الذين درسوا اللغات الأوروبية" (¬3)، وقد كان لهذه الجمعية أثر كبير في مستقبل الدولة العثمانية والعالم الإِسلامي فيما بعد، وقبل مقتل الخليفة بعام أعلنت الدولة سنة (1875 م) إفلاسها (¬4)، وبرزت مشكلة الديون الكبيرة، وأسهم ذلك مع ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق ص 435 - 436. (¬2) انظر: تاريخ الفكر المصري الحديث (عصر إسماعيل. .)، د. ويس عوض 1/ 54. (¬3) نشوء الشرق الأدنى الحديث. .، مالكولم ص 134. (¬4) انظر: المرجع السابق ص 136، وقد ذكر عنه "أرسلان" أنه كان مسرفًا، وذكر أنه أول سلطان زار أوروبا، وذكر من الغرائب أنه لم يحج أحد من السلاطين، وذكر لهم تبريرات. انظر: تاريخ الدولة العثمانية ص 298.

أسباب أخرى في توفير قاعدة أساسية لتدخل أوروبا وإرغام الدولة على اعتماد خطة تحت إشراف أوروبي، فإذا كانت هذه حال الدولة الأم في العالم الإِسلامي فكيف هي الحال بغيرها؟! خُتمت مرحلة السلاطين الشباب ببروز تيار التغريب، وقد كان سنده الخلفي الداخلي من اليهود داخل السلطنة وعلى مقربة من العاصمة، وكان أهم ممثل لتيار التغريب هو "تركيا الفتاة"، وأهم سند خلفي يهودي منظم آنذاك هم "الماسون"، وقد نجح هؤلاء -في ظروف غامضة- في إقصاء السلطان عبد العزيز ثم قتله، والمجيء بمراد الخامس ابن عبد المجيد الأكبر وهو ممن انخرط في الماسونية، وكان بسببهم قد تشبع بالأفكار العلمانية والفلسفة الغربية، ولكن حكمه لم يطل؛ فبعد ثلاثة أشهر أصيب بمرض عقلي فأقيل (¬1)، لندخل في عهد ولاية عبد الحميد الطويلة والخطيرة في الوقت نفسه. وعند الرجوع إلى هذه المرحلة التي تسمى أحيانًا فترة الإصلاح وعهد التنظيمات؛ نجد نتيجة محزنة للغاية، كان أخطرها: تدخل الغرب، وقوة الأقليات وسعيها للانتقام، وتمكن تياراتها من التغلغل والتأثير، وبروز تيار التغريب بقوة، وقد وقع العلم والتعليم فريسة لهذه المستجدات، فضُرب التعليم الديني، وانهمكت الدولة في طلب العلوم العصرية، مع أن أغلب ذلك كان مزاعم لا حقيقة لها؛ حيث لم يظهر هناك ما يثبت حصول الدولة على معارف نافعة تَبِعها تقدم دنيوي كما حصل في تجربة موازية لتجربتنا وهي تجربة اليابان مثلًا أو تجربة الروس، وإنما الذي حدث هو تقليد أعمى في المظاهر والفنون والآداب والأفكار، وعن هذه الإصلاحات يتحدث رجل قريب من تلك المرحلة وخبير بها -الشيخ محمَّد رشيد رضا- فيقول: "وأما رجال السياسة والإدارة فكانوا مفتونين بتقليد الإفرنج في معيشتهم وحريتهم وظواهر نظمهم، وإنما كانوا يقلدونهم فيما يسهل فيه التقليد كتقليد الطفل لمن يعظم في عينه من الرجال، وتقليد الأصاغر لمن فوقهم من الأكابر، كالأزياء والعادات وشكل المدارس والدواوين، وقد ترجموا أكثر القوانين فلم يقيموا منها شيئًا، وأما العلوم والفنون ¬

_ (¬1) حول (مراد) انظر: الدولة العثمانية. . . .، الصلابي ص 439 - 440، وانظر كلام السلطان عبد الحميد عن أخيه مراد في مذكراته: ص 62.

والصناعات وطرق الثروة والنظم المالية فلم يتقنوا منها شيئًا" (¬1). لقد طغى النموذج الغربي على مفهوم الإصلاح والتحديث؛ مما جعله يتحول إلى عملية تغريب، وأوصلهم في النهاية إلى استبدال الإنكشارية بنظام عسكري جديد على نمط الجيوش الأوروبية، وأبعدت الشريعة رويدًا رويدًا وطبق مكانها القوانين، "كما أن نظام التعليم الحديث حورب ثم ألغي نظام المعارف الإِسلامي" (¬2)، وهي نهايات أليمة. لم تكن هذه التجربة خاصة بعاصمة الدولة العثمانية؛ بل هي كذلك ممتدة بآثارها إلى البلاد التي تحت ولايتها المباشرة وأشهرها بلاد الشام "فلسطين والأردن وسوريا ولبنان" وكذا العراق، فضلًا عن أن هذه البلاد لم يُعرف عنها تجارب من قبل ولاتها، وإنما جاءت صلتها بالعلوم العصرية من خلال المدارس الأهلية ولاسيّما مدارس الإرساليات التنصيرية، فلم تكن تجربة قمنا نحن بها وإنما غيرنا قام بها, لذا سنؤجلها للفصل القادم بإذن الله، أما هنا فيكفي التذكير بأن تجربة الشام لم تخرج عن تجربة الدولة العثمانية. ¬

_ (¬1) تاريخ الأستاذ الإمام 1/ 415 عن كتاب: الانحرافات العقدية والعلمية. . . . ص 883 - 884. (¬2) انظر: الدولة العثمانية. قراءة جديدة لعوامل الانحطاط، قيس عزاوي ص 44.

سادسا: تجربة بلاد المغرب

سادسًا: تجربة بلاد المغرب رأينا فيما سبق بأن القرن الثالث عشر/ التاسع عشر هو نقطة تحول في العالم الإِسلامي، وقد كان من أهم مرتكزات هذا التحول طلب العلوم العصرية على حالها في أوروبا، وتتبعت باختصار حال طلبها في أهم أجزاء العالم الإِسلامي: مركز الخلافة وبلاد الهند وولاية مصر زمن محمَّد علي وأبنائه من بعده، كانت الهند أهم جزء اشتبك في هذه القضية في الشرق الأقصى من العالم الإِسلامي، وكانت مصر أهم جزء عربي، ومن الطبيعي أن يكون مركز الخلافة أول الجهات أو أكثرها اهتمامًا بهذه القضية، إلا أن تجربة مركز الخلافة كانت باللغة التركية؛ مما أعاق انتفاع غير الأتراك بها ولاسيّما أهل اللسان العربي، وقيل مثل ذلك في التجربة الهندية إضافة إلى بعدها عن المراكز الحضارية التاريخية للعالم الإِسلامي. والآن نتأمل في جزء مهم من العالم الإِسلامي دخل أيضًا في هذه المعركة وهي بلاد المغرب، وقد كانت في الغالب رغم تبعيتها للدولة العثمانية تتمتع بحكم شبه ذاتي، وكان من الطبيعي أن تكون هذه البلاد أول من يحتك بأوروبا بسبب جغرافيتها، والطريف في علاقة هذا الجزء من العالم الإِسلامي بأوروبا: أنه كان من زمن قريب مقصد الأوروبيين في طلب العلم، وإذا بنا بعد زمن نصل من الضعف لدرجة مذلة ومهينة عند طلبها منهم. لم يستطع هذا الجزء من العالم الإِسلامي طلب ما يحتاجه من أوروبا طلب الند من الند أو القوي من القوي وإنما جاء في وقت صعب، وجاء طلبها من ضعيف خائف من غدرة القوي، بينما أوروبا آنذاك تتأهب لاستعمار البلاد

الإِسلامية، وما أخّرها إلا اختلافهم الشديد حول الغنيمة، وقد أسهم بُعدها عن مقرّ الخلافة في سهولة اختراقها واحتلالها، وعندما احتلت فرنسا الجزائر سنة (1830 م) لم تستطع الدولة العثمانية فعل الكثير، فما كان باستطاعتها فعل شيء، وكانت الحال أصعب فيما بعد. كانت تونس والمغرب من الحواضر الإِسلامية المهمة، وكان في تونس جامع الزيتونة وفي المغرب جامع القرويين يلتحق بهما طلبة العلم، ويتخرج منهما العلماء فضلًا عن مراكز أخرى هنا أو هناك، وقد كان الجامعان أشبه بالجامعتين، ولكنهما كغيرهما من جوامع المسلمين العلمية قد أخرجت الكثير من العلوم من دائرة اهتمامها في وقت الضعف الذي خيّم على العالم الإِسلامي، ومن ذلك العلوم الدنيوية النافعة، ولكن بالقرب منهما يرون بوضوح ثمار هذه العلوم في حياة الناس من تطور طبي وصناعي وعمراني وحربي. ولوجود الجامعين (الجامعتين) في تونس والمغرب؛ فسنركز عليهما أكثر من غيرهما، مع أن كل ذلك يرد على سبيل الاختصار بما يكفي لإبراز صورة طلب هذه العلوم، وما يكفي لإبراز أهم المشكلات التي ارتبطت بهذا الحدث. بعد فقد المسلمين لبلاد الأندلس وقعت قطيعة بين أوروبا وبلاد المغرب رغم تقاربهما، بدأت أوروبا تستمتع بالمكاسب، وطورت نفسها دنيويًا بما حصلت عليه من علوم من بلاد المسلمين، بينما كان فقد الأندلس فترة انحدار وضعف لبلاد المغرب كغالب العالم الإِسلامي، وبدأ الاتصال يعود عبر التجار والرحّالة، وكثرت كتب الرحلات من قبل المغاربة حول ما رأوه في أوروبا، وكان الوجود اليهودي في المغرب نافذة للعلاقة بالغرب، حيث كان سفرهم للغرب أيسر من سفر المسلمين، كما أن أوروبا اتخذت من هؤلاء اليهود فرصة للتدخل في بلاد المغرب. عند ذلك بدأ التفكير عند بعض الولاة بطلب بعض هذه العلوم من أوروبا، كل بحسب استطاعته وقدرته على المناورة والحركة مع دول تتأهب لاحتلال بلاد المسلمين، وقد مرّ ذلك بمراحل: أولها ما قبل الاستعمار، حيث كان الولاة يطلبون ما يدعم سلطتهم، فظهرت محاولتهم أولًا لإعداد جيش عصري وإنشاء مدارس حديثة تلبي احتياجات الجيش والولاية، وتمّ ذلك في فترة تدخّل غربي خطير وإن لم يكن هناك احتلال فعلي إلا أنه أشبه بالاحتلال، وثاني هذه

1 - تجربة تونس

المحاولات كانت في فترة الاستعمار الذي بدأ بالجزائر سنة (1830 م) ثم تونس ثم المغرب وهكذا، وثالث هذه المراحل جاءت بعد الاستعمار. يمثل احتلال الجزائر سنة (1830 م) مرحلة حساسة في بلاد المغرب، حيث أوجدت الخوف الشديد من مصير الجزائر ومن ثم قناعة النخب بأن الحلّ هو في بناء دولة قوية تستطيع مواجهة أطماع أوروبا (¬1)، وكان من صور القوة المتخيلة: الحصول على العلوم والمعارف الحديثة المعروفة في أوروبا لما يترتب عليها من أمور صناعية وعمرانية، أما الجزائر فقد أُوقف خط تطورها الذاتي وتمّ إنهاكها من قبل المحتل وفُرض عليها سياسة الفرنسة، فلننظر ماذا وقع في هذه البلاد؟ وكيف خاضت التجربة من خلال تجربتي تونس والمغرب؟ 1 - تجربة تونس: منذ احتلال الجزائر دخلت تونس طورًا جديدًا من الاتصال مع الغرب ولاسيّما فرنسا، وبدا أثر ذلك في كثير من المظاهر العامة، كما بدا واضحًا في الوجود الأجنبي المكثف "الذين صبغوا الحياة العامة بالعادات الغربية"، وبرز التدخل الأجنبي كحقيقة لا يمكن تجاهلها (¬2). وقد كانت تونس ولاية عثمانية إلا أنها كانت في شبه استقلال لاسيّما مع الحكام "المراديين"، ويُسمى الوالي فيها "الباي" المرتبط عادة بالسلطة العثمانية (¬3)، وكان أشهر الولاة الذين عاصروا فترة التحولات: المشير أحمد باشا (¬4)، حيث كان في زمن محمود الثاني صاحب النشاط التحديثي في السلطنة، وفي زمن محمَّد علي صاحب النشاط البارز في مصر، وكان في الوقت نفسه ¬

_ (¬1) انظر الدراسة المميزة: الحركات الوطنية والاستعمار في المغرب العربي، د. امحمد مالكي، ولاسيّما الفصل الثالث والرابع والخامس. (¬2) انظر: الشيخ عبد العزيز الثعالبي ودوره في الإصلاح الإِسلامي، مسعودة مسعود ص 18. (¬3) انظر: خير الدين التونسي وكتابه أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك تحقيق ودراسة، د. معن زيادة ص 12، من كلام المحقق. (¬4) أحمد بن مصطفى (1221 - 1271 هـ) (1806 - 1855 م) أبو العباس، باي تونس، وهو التاسع من رجال الأسرة الحاكمة، أقره السلطان محمود الثاني بعد أبيه، زار أوروبا سنة 1262 فاقتبس أساليب حديثة أدخلها على جيشه. . . .، انظر: الأعلام، الزركلي 1/ 257 - 258.

أ- المدرسة الحربية والصادقية

معجبًا بأوروبا ونابليون فاتجه نحو فرنسا (¬1). وكانت هموم أغلب الولاة آنذاك تبدأ من الجيش، بإعداد جيش عصري حاصل على المعارف الحديثة ولابد من ضباط جدد على الطراز الأوروبي، وقد كان من أبرز منافذ تونس على العلوم العصرية: المدرسة الحربية، ثم ما قام به وزير تونس المشهور خير الدين. أ- المدرسة الحربية والصادقية: كان باي تونس يريد إنشاء جيش عصري على معرفة بالأمور الحديثة، فقرر إنشاء مدرسة حربية بـ "باردو" سنة (1840 م) التي عرفت بمدرسة باردو "المدرسة الحربية" (¬2)، أما من جهة الإدارة والمدربين: فقد أشرف عليها أول الأمر كولونيل إيطالي وكان مدربًا للجيش التركي، ثم القبطان كامبنون الذي سيصبح وزيرًا للحربية الفرنسية فيما بعد، وجلب إليها مدرسين من إيطاليا وإنجلترا وفرنسا (¬3)، وكان إلى جانب هؤلاء الشيخ محمود قبادو (1812 - 1871 م) ليدرس الطلاب التربية الإِسلامية واللغة العربية، يتميز بحثّهِ الطلاب على تحصيل العلوم الجديدة، مع أنه متصوف مشهور (¬4). أما من جهة المحتوى فقد كانت أول "مؤسسة تعليمية درست إلى جانب العلوم الحربية، علومًا أخرى: كالرياضيات والهندسة، والجغرافيا، كما درست اللغتين الفرنسية والإيطالية. . . ." (¬5). وبعد أكثر من ثلاثين سنة من مدرسة "باردو" أسس "خير الدين التونسي" "المدرسة الصادقية" سنة (1874 م) لتتولى تدريس علومٍ عصرية خارج المدرسة الحربية لتنشئة الشباب التونسي للمهن الحرة، واشتمل "برنامج التعليم فيها ¬

_ (¬1) انظر: أعلام تونسيون، الصادق الزمرلي ص 63، وقد رافقه في الزيارة "أحمد بن أبي الضياف" وأخرج كتابًا عن الرحلة، فوصف حضارة فرنسا ومما وصفه: التعليم والعلوم، انظر: المرجع نفسه ص 74 وما بعدها، والزيارة كانت سنة (1262 هـ - 1846 م)، وانظر: الدولة العثمانية. . . .، قيس عزاوي ص 54 - 55. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 63. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 63 - 64. وانظر: الشيخ عبد العزيز الثعالبي ودوره في الإصلاح الإِسلامي ص 19. (¬4) انظر: المرجع السابق (أعلام تونسيون) ص 64، وقصته مع التصوف ص 64 - 68. (¬5) الشيخ عبد العزيز الثعالبي ودوره في الإصلاح الإِسلامي ص 22، وانظر: ص 19.

فضلًا عن العربية على: الرياضيات والعلوم والتاريخ والجغرافيا، واللغات: الفرنسية والإيطالية والتركية، أما مدة الدراسة فيها فكانت سبع سنوات، يرسل بعدها المتفوقون من الطلبة إلى مدرسة "سان لويس" بباريس لاستكمال تخصصهم" (¬1)، وكانت هيئة التدريس فيها "مؤلفة من نخبة من الأساتذة الأوروبيين" (¬2). اطلع أهل تونس على العلوم العصرية من خلال هاتين المدرستين: "المدرسة الحربية"، و"الصادقية"، مع منافذ أخرى، ولكن السيطرة في هذه المدارس كانت للأوروبيين، ورغم أهمية التجربة إلا أن المتوقع في مثل هذه الحال هو عرض العلوم بالروح التي تعرض عليها في أوروبا ولاسيّما أوروبا ما بعد عصر التنوير وما بعد الثورة الفرنسية. ولا ننسى بأن تونس تحتوي على الجامع الشهير والمركز العلمي الكبير "جامع الزيتونة" (¬3) الذي كان يدرس العلوم الإِسلامية على طريقة كثير من المعاهد الإِسلامية آنذاك ولاسيّما الجامع الأزهر في مصر، وإن كان هذا الجامع يعاني مما يعاني منه التعليم الإِسلامي في عصوره المتأخرة من غلبة العلوم الكلامية والتعصبات المذهبية التي تعطل نفعه وتضعف ثمرته. ونجد في هذه التجربة كما في التجربة المصرية والعثمانية: أن نقطة الانطلاق في طلب العلوم العصرية ابتدأت من خارج المركز العلمي المعهود "جامع الزيتونة" مكونة بذلك نقطة علمية منافسة للعلم التقليدي، وهي نقطة ستكبر إلى درجة قضائها على المركز العلمي الإِسلامي، كما أن هذه النقطة الجديدة كانت من البداية تحت إدارة غربية مباشرة، وكانت أيضًا مهتمة بالجيش مع أن اطلاع الجيش على العلوم العصرية لا يجعل من ذلك فرصة لتطور هذه العلوم واستنباتها النبات الصحيح. ¬

_ (¬1) الشيخ عبد العزيز الثعالبي ودوره في الإصلاح الإِسلامي ص 23. (¬2) انظر: خير الدين التونسي وكتابه أقوم المسالك. . ص 21، و"الصادقية" نسبة إلى "باي تونس" آنذاك "محمَّد الصادق". (¬3) انظر: جامع الزيتونة ومدارس العلم في العهدين الحفصي والتركي من سنة (603 هـ - 1206 م) إلى سنة (1117 هـ -1705 م)، الظاهر المعموري، ولاسيّما الباب الثاني، الفصل الأول: جامع الزيتونة ص 45 وما بعدها.

ب- خير الدين التونسي

ب- خير الدين التونسي: وكما عرفت التجربة المصرية مجموعة من المفكرين والمنظرين للعلاقة بالغرب ودعوتهم للحصول على ما عنده من معارف وعلوم ونظم من أمثال: العطار والطهطاوي وغيرهما؛ فقد عرفت تونس أمثال هؤلاء وكان أشهرهم خير الدين التونسي المعاصر للطهطاوي الذي قام بأدوار مهمة في التجربة التونسية، وبعدها الدكتور فهمي جدعان (¬1) "أكثر نضجًا" من تجربة الطهطاوي وأقرب إلى المحيط العربي الإِسلامي. التحق خير الدين التونسي بالمدرسة الحربية بـ "باردو" سنة (1840 م) (¬2)؛ أي: بالمدرسة التي يطلع فيها الطلاب على العلوم العصرية ويختلطون فيها بالأجانب، وقد تولى في حياته الكثير من المناصب وانشغل في كثير من أعماله بكيفية إحراز التقدم والقوة بالصورة التي أحرزتها أوروبا (¬3)، وقد سبق أن من بين أعماله مدرسة الصادقية. استقال من منصبه سنة (1864 م) إثر وشايات حوله، زار بعدها عددًا من الدول الأوروبية، وألف بعدها كتابه المشهور: "أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك" (¬4)، وقدمه بمقدمة شهيرة يرى البعض بأنها أهم ما فيه (¬5)، وكان كتابه سنة (1867 م)؛ أي: بعد ثلاث وثلاثين سنة من كتاب الطهطاوي: "تخليص الإبريز" (¬6)، إلا أن كتاب الطهطاوي جاء في بداية تجربته ومرحلة الشباب، أما كتاب خير الدين فجاء بعد تجربة طويلة، وإن كانت عناصر الكتابين متقاربة في الأفكار. من بين ما عرضه في كتابه: - مطلب ذَكَر فيه من اشتهر من الأوروبيين بالمعارف والاختراعات، وفيه ¬

_ (¬1) انظر كتابه: أسس التقدم عند مفكري الإِسلام ص 123. (¬2) انظر: أعلام تونسيون، الصادق الزمرلي ص 98 - 99. (¬3) انظر: أسس التقدم. . . . ص 123 ص 129 وما بعدها. (¬4) انظر: أعلام تونسيون ص 99 - 100. (¬5) انظر: خير الدين التونسي وكتابه أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك تحقيق ودراسة، د. معن زيادة، ص 30 - 32. (¬6) كانت طبعته الأولى سنة (1250 هـ -1834 م)، انظر حول كتاب رفاعة: مقدمة المحققين لكتابه ص 36.

2 - تجربة المغرب

عرضٌ موجز للتطور الفكري والعلمي والصناعي والأدبي من القرن الثالث عشر الميلادي إلى التاسع عشر (¬1). - تلخيص للمكتشفات والمخترعات، حيث ذكر أهم ما اكتشفوه أو اخترعوه من القرن الرابع عشر الميلادي إلى عصر المؤلف (¬2). - مطلب ترتيب التعلم والتعليم بفرنسا، وفيه عرض مراحل التعليم الثلاث، ومواد كل مرحلة، ثم ذكر التخصصات الخمسة للطبقة الثالثة، وذكر أحوال الأكاديميات وسائر منابر التعلم، وأعقبها بأحوال المكتبات عندهم (¬3). فعرض صورة العلوم والمعارف في تاريخه الحديث، ثم توقف مع نموذج خاص للدراسة وهو النموذج الفرنسي، بعد ذلك بزمن تولى منصب رئيس الوزراء (1873 - 1877 م) وأسس سنة (1874 م) مدرسة الصادقية (¬4)، ربما ليحقق شيئًا من رغبته. ولم يواصل مشواره هناك؛ فقد رحل بطلب من السلطنة إلى مقرها في تركيا سنة (1878 م)، وتولى فيها الصدارة العظمى، ولكن بعد رحيله بأربع سنوات احتلت فرنسا أرض تونس، وبهذا لم تحقق كل تلك الإصلاحات حلم تونس في القوة والمنعة والتقدم. 2 - تجربة المغرب: كانت المغرب مستقلة عن الدولة العثمانية بخلاف بلاد المغرب الأخرى، ويحكمها أسرة "بني فلال" منذ (1644 م)، وكان أولهم "الرشيد" (¬5)، ثم أخوه "إسماعيل بن الحسن" (1672 - 1727 م) لفترة حكم طويلة، ضبطا فيها الأوضاع، وفي الوقت نفسه عزلا المغرب عن تطورات أوروبا بسبب خوفهما ¬

_ (¬1) انظر: خير الدين التونسي وكتابة. . . . ص 209 وما بعدها، وفيها عرض نظرية الفلك ومشاكلها ص 213. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 224 وما بعدها. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 231 وما بعدها. (¬4) انظر: الحركات الوطنية والاستعمار في المغرب العربي، د. أمحمَّد مالكي ص 97 - 99. (¬5) انظر: تاريخ الشعوب الإِسلامية، بروكلمان ص 630 - 631، وذكر وفاة إسماعيل سنة (1729 م)، وفي المرجع التالي تاريخ آخر اعتمدته، وانظر: سيرته: الأعلام، الزركلي 1/ 324.

منها فيما يظهر بخلاف من سبقهما على حكم الغرب مثل "عبد الملك" وأخيه "أحمد المنصور" (1578 - 1603 م)، ويُعد أحمد أول من فكر في الاستفادة من أوروبا ووظف الكثير من الإسبانيين في جيشه الجديد، ولكن الفوضى التي حدثت بعد المنصور ثم وصول إسماعيل للحكم؛ جعله يوقف هذه العلاقة خوفًا من آثارها، واستمر ذلك لأكثر من مئة سنة، وكذلك الحال مع "محمَّد بن عبد الله ابن إسماعيل" (1757 - 1790 م) ليواصل حذره في العلاقة بأوروبا، وهو الذي عاصر التقلبات الكبيرة داخل أوروبا وما ختمت به من الثورة الفرنسية (¬1). وقعت مستجدات خطيرة بعد وفاة محمَّد تُنبئ عن مؤشرات خطيرة حول توجه أوروبا ولاسيّما فرنسا وإسبانيا لاحتلال بعض بلاد المغرب، ومنها حملة نابليون على مصر سنة (1798 م)، ثم احتلال الجزائر سنة (1830 م)، ولكن الحدث الذي وضع المغرب مكشوفًا للأعداء وضعيفًا أمامهم هي معركة "إيسلي" سنة (1844 م)، حيث انتصر الجيش الفرنسي بعدده القليل وبأدواته الحديثة وجيشه العصري على الجيش المغربي غير المنظم وصاحب الأدوات التقليدية، وأعقبها هزيمة أخرى في تطوان مع الإسبان سنة (1860 م)، وهنا يقع السؤال والبحث عن الحل (¬2)؟ لقد رأينا بأن أغلب الدوافع وأهمها لأغلب التجارب التحديثية جاءت بعد انكسار عسكري، كان ذلك في التجربة المصرية أمام حملة نابليون، والتجربة العثمانية أمام الروس وجيوش أوروبا، والتجربة الهندية أمام الإِنجليز، والتجربة التونسية بمشاهدة ما حدث لجيرانهم، وهنا المغرب أمام فرنسا وإسبانيا. قاد هذه المرحلة من الناحية السياسية السلطان "محمَّد الرابع بن عبد الرحمن" (1859 - 1874 م) وابنه "الحسن" (1874 - 1894 م) (¬3)، واتجهت ¬

_ (¬1) انظر: قصة المواجهة بين المغرب والغرب، د. عبد الكريم الغلاب ص 142 - 172، وهو الذي ذكر وفاة إسماعيل سنة (1727 م)، وعن تجربة "عبد الملك" و"أحمد"، انظر: ص 142 - 143، 149، وعن توقف مئة سنة ص 163، وانظر: العقل والنقل في الفكر الإصلاحي المغربي (1757 - 1912 م)، حسن الحجوي ص 35 وما بعدها، وترجمة "محمَّد بن عبد الله"، انظرها في الأعلام، الزركلي 6/ 241. (¬2) انظر: العقل والنقل. . . .، حسن الحجوي ص 43 وما بعدها، 78 وما بعدها. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 42 - 48.

الأنظار إلى التجارب الإِسلامية في الإصلاح والتحديث ولاسيّما تجربة محمَّد علي في مصر، وذلك أن المغرب فيها المقومات نفسها وتواجه التحديات نفسها، وعندها مركز علمي مهم وهو جامع القرويين، فكيف كانت التجربة المغربية في البحث عن أساليب التحديث بما في ذلك طلب العلوم العصرية؟ لم تنقطع العلاقة بين السلطة وجامع القرويين كما حدث في التجربة المصرية بين السلطة والأزهر، ولكن جامع القرويين لم يستطع معالجة مشكلة "العلوم العصرية" كحال الأزهر والزيتونة، فهذه المراكز العلمية المهمة لم تستطع استنبات العلوم العصرية التي تحتاجها الأمة وتعتمد عليها الدولة في إعداد العدّة وبناء القوة ونفع الناس، وقد كانت الموانع ذاتية وخارجية، فإن تلك الجوامع العلمية لم تكن تخلو من معوقات التقدم، من جهة المناهج المنتشرة فيها وطرق التدريس، وكذا علماؤها الذين جمعوا بين علوم الكلام والتصوف مع العلوم الشرعية الأصيلة، تسببت هذه التناقضات في إعاقة أثرها الحقيقي في إنتاج المعرفة النافعة في الدين والدنيا. كما أن هناك معوقات خارجية منها ما يتعلق بالسلطة كما رأينا في التجربة المصرية أو ما يتعلق بالعلاقة مع الغرب ذاته، فأوروبا لا يمكن أن تعطينا علمًا ينفعنا ويزيد من قوتنا؛ لأن في ذلك من التهديد لها مستقبلًا، وفيه من تخفيف قوتها وسلطتها وتفوقها وهو أمر يمكن فهمه وعدم استغرابه. فهذه المعوقات الذاتية والخارجية منعت انطلاقة جامع القرويين وغيره، مع العلم بأن جامع القرويين لم يكن يجهل العلوم المادية النافعة، ففي ترجمة أحد طلابه "ابن السنوسي المتوفى سنة 1276 هـ" الذي قدم إليه لأخذ العلم عن رجاله، حيث وصف العلوم التي تدرس فيه ذلك العهد، "وذكر منها علم الفرائض والحساب والإسطرلابَيْن وصناعتهما، والرياضيات والهندسة والهيئة، والطبيعية، والأرثماطيقي، وأصول قواعد الموسيقى، والمساحة والتعديل والتقويم وعلم الأحكام والينس "بكسر النون" والوقف والقواعد الجفرية، وأصول الزايرجية، والبسط والتكسير، والجبر والمقابلة، وغيرها" (¬1)، وكان هذا في عهد السلطان ¬

_ (¬1) جامع القرويين المسجد والجامعة بمدينة فاس موسوعة لتاريخها المعماري والفكري، د. عبد الهادي التازي 3/ 726، وذكر الدكتور بأن بعضها فيها تداخل وبعضها غير واضح، =

أ- تنبيه النخبة بأهمية العلوم العصرية

المولى سليمان، وفي هذه الفترة زار مؤرخ إسباني مدينة فاس وأعجب بحيويتها العلمية، وذكر عنها أنها تحاكي "أثينا أوروبا" وأن باستطاعة "المرء أن ينظر على أنها "أثينا" إفريقيا، لكثرة أساتذتها، وكثرة الذين ينتسبون إلى العلم فيها، وبالتالي لوفرة مدارسها التي تكتظ بالطلبة" (¬1). والذي يظهر أن هذه المعرفة النظرية لم تتحول إلى واقع عملي تطبيقي يستفيد منه المجتمع، ولذا لم يظهر الطب والصناعة والإدارة والتنظيم الذي هو ثمرة مثل هذه المعارف، كما أن فيها ما لا نفع فيه. تشارك المغرب التجارب الأخرى في تجربة التحديث، ولكنها كانت في وضع أصعب وأخطر، فإذا كانت الجزائر الولاية العثمانية قد تم احتلالها ولم تستطع الدولة العثمانية مساعدتها؛ فمن باب أولى لدولة في آخر جزء من غرب العالم الإِسلامي أن تكون أكثر تعرضًا للخطر، ومن ثمّ عليها المسارعة في الاستعداد للمواجهة الصعبة. كحال التجارب السابقة التي ركزت على الإصلاح والتحديث المادي. كانت الطرق المقترحة لتحصيل العلوم العصرية والأنظمة الحديثة إما بجلب بعض الأجانب أو بالابتعاث، وكانت فرنسا في أغلب التجارب هي صاحبة الحظ الأوفر في هذا الباب. أ- تنبيه النخبة بأهمية العلوم العصرية: شعر الكثير أن من بين أسباب الهزيمة أمام فرنسا وإسبانيا في "إيسلي وتطوان" هو تخلف الجيوش المغربية مقابل تقدم الجيوش الأوروبية، فالجيوش الأوروبية تملك من النظام والإدارة وكذا من الأسلحة ما يجعلها متفوقة ماديًا على الجيش المغربي، وأن هذا النظام وهذه الأسلحة راجعة إلى التقدم العلمي الذي عرفته أوروبا (¬2)، لذا فطريق النهضة يكون من باب العلوم والمعارف، وأن ¬

_ = ولكن مقصوده كما هو مقصودي أن العلوم المادية كانت تؤخذ على شكلٍ ما، وإلا ففي ما ذُكر شيء من العلوم غير نافعة. (¬1) انظر: المرجع السابق 3/ 726 - 727، ومما يذكر لهذا السلطان أنه قد تأثر بدعوة الإِمام محمَّد بن عبد الوهاب والاتجاه السلفي عمومًا، فأزال الكثير من البدع واجتهد في إحياء السنة، انظر مثلًا: الخطاب الإصلاحي في المغرب التكوين والمصادر، عبد الإله بلقزيز ص 50 - 56. (¬2) انظر: الخطاب الإصلاحي في المغرب. . . .، بلقزيز ص 69 - 74.

ب- إصلاح التعليم أو توسيع دائرته

هناك تلازمًا بين القوة والعلم، فإنهم -أي: الأوروبيين- عند طلبهم للقوة "هرعوا إلى تدريس العلوم الرياضية والطبيعية، أدتهم إلى الاختراعات الوقتية والمستنبطات الصناعية. حتى قال بعض علمائهم: الجاهل الآن كالأعزل في القرون الماضية. فمن كان الآن أكثر علمًا، كان أشد قوة" (¬1)، ومثل هذه النبرة تفيد أن هناك تحولًا في مفهوم العلم (¬2) أو توسيعًا لدائرته ليشمل العلوم الإنسانية التي تساعد الناس في دنياهم من طب وصناعة وإدارة وغيرها, ولاسيّما "العلوم الرياضية والطبيعية". كانت أخبار هذه العلوم الجديدة وثمارها الدنيوية تصلهم عن طريق الأجانب الذين يصلون للمغرب أو عبر الأقليات الدينية التي تجد رعاية خاصة من الأوروبيين من اليهود والنصارى، وأهم من ذلك عن طريق الرحلات الاستكشافية من بعض المغاربة لبلاد أوروبا، ومنها مثلًا رحلة ابن الصفار الدبلوماسية لبلاد فرنسا سنة (1845 م)؛ أي: بعد عشر سنوات تقريبًا من صدور كتاب الطهطاوي: "تخليص الإبريز" (¬3)، وقد وصف ابن الصفار المجتمع العلمي والثقافي في فرنسا ولكنه ليس كوصف الطهطاوي؛ لأن الطهطاوي كان أطول مكوثًا وأكثر اطلاعًا، ومع ذلك فقد كشف ابن الصفار وغيره من أهل الرحلات حال التعليم والعلوم والمدارس والكليات والمعاهد والمختبرات (¬4). ب- إصلاح التعليم أو توسيع دائرته: عندما شعر أهل المغرب بحاجتهم لعلوم أخرى تساعدهم في التقدم الدنيوي وتعطيهم قوة يواجهوا بها أعداءهم شرعوا في العمل على تحصيلها وتعليمها، وكان ذلك واضحًا مع "محمد الرابع ابن عبد الرحمن" (1859 - ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق ص 75، وصاحب النص -كما في المرجع- هو أبو عبد الله (الأعرج) محمد بن محمد السليماني مؤرخ مغربي (1280 - 1344 هـ) (1863 - 1925 م)، وانظر: الأعلام، الزركلي 7/ 79. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 76. (¬3) وصل الطهطاوي فرنسا سنة (1241 هـ- 1826 م)، وأخرج كتابه بعد انتهاء البعثة، ط 1، سنة (1250 هـ - 1834 م)، انظر: مقدمة التحقيق لكتابه: تخليص الإبريز في تلخيص باريز. (¬4) انظر: الخطاب الإصلاحي في المغرب. . . . ص 91 - 93، وحول الرحلة ص 80 وما بعدها.

1874 م) وابنه "الحسن الأول" (1874 - 1894 م)، وفي ذلك يقول الدكتور عبد الهادي التازي: "ولقد فتحت الأحداث عيون المغرب على بعض الحقائق التي كان عليه أن يعرفها فقد توالت الأطماع في الأرض المغربية"، إلى أن قال: "وكل ذلك كان يقتضي أن نتعرف عن كثب أولئك الذين يحاولون السطو علينا، ولن يتم ذلك إلا عن طريق المدرسة. لم تكن الرحلات العلمية، ولا البعثات السياسية المغربية التي ظلت تنتقل من الخارج، كافية وحدها لتنقل بواطن الأمور ودواخلها. ولذلك أصبح من المتحتم أن تتطور البلاد بالتفتح على الخارج، وكان من الحكمة أن تتم التجربة الأولى بالبعثات إلى مصر. . . ."، فوجه السلطان محمد الرابع طائفة لتلقي العلوم الرياضية، ثم "وجد السلطان المولى الحسن نفسه أمام أعباء جدّ ثقال في أعقاب الكبوة التي حلت بالمغرب بسطو إسبانية على تطوان، فكان يشعر أتمّ الشعور بضرورة الدفع بالبلاد إلى الأمام. وقد اقتفى الملك الحسن الأول خطوات والده في توجيه البعثات إلى الخارج، وأعرب عن رغبته لبعض رؤساء البعثات الأجنبية المعتمدة بالمغرب، وكان أن توجهت بعثة مهمة من الشباب إلى إنكلترة وفرنسة وإيطالية وإسبانية" (¬1)، ويقول ابن زيدان عبد الرحمن عن عمل السلطان الحسن الأول: "ولما نظر إلى الأمم الراقية وما أفادها العلم الرياضي والطبيعي من القوة والسلطان والشفوف على الأقران في معترك الحياة؛ أراد أن يزج ببلاده في ذلك الميدان الواسع، فعضد إرسال الشبان المتخرجين من مدرسة والده، وتوجهوا لعواصم أوروبا لتتميم دروسهم، فعين لكل فريق رجلًا من أهل الدين والعلم لمرافقتهم وصيانتهم، وأجرى عليهم النفقات الكافية. ولما زاولوا دروسهم وملؤوا بكل نافع حقائبهم، يمّموا بلادهم ليثبتوا فيها ما ينفع مستقبلهم. فلم يعدموا معاكسًا وقف سبيلهم، وحرم البلاد والعباد ما كان يرجى من فوائد معارفهم بفتح المدارس وسلوك هذا السبيل كما سلكه أهل اليابان لذلك العهد الذي رافقوهم في دروسهم. فكانت النتيجة أن تقدم اليابانيون وتأخرنا. ولله في خلقه شؤون" (¬2). ¬

_ (¬1) جامع القرويين. . . .، د. عبد الهادي التازي 3/ 731 - 732، مع بعض الاختصار. (¬2) الخطاب الإصلاحي في المغرب. . . . ص 112 - 113، انظر: العقل والنقل. . . .، حسن الحجوي، حول البعثات ص 17 - 18.

ويتفق الكثير على فشل التجربة مع الاختلاف في الأسباب، فهناك من يرى السبب يرجع إلى نخبة من الفقهاء ورجال المخزن ناهضوا التحديث العلمي، أو أنه تم إغفال المبتعثين ورمي بهم في زاوية الإهمال (¬1)، أو أن ذلك بسبب الضغط الخارجي وهو أقرب للتصور، وفي ذلك يقول عبد الكريم غلاب: "وكثير من هؤلاء الطلبة تخصصوا في الفنون العسكرية. وكثير منهم عادوا إلى المغرب مهندسين وأطباء وضباطًا عسكريين. ثم واجهتهم بوادر الحماية ونهاية عهد الاستقلال فضاعوا في ثنايا النظام الجديد" (¬2). وأما تحفظ بعض العلماء تجاه أوروبا فإن الاتصال قديمًا كان "اتصال الند بنده والنظير بنظيره، وإنه أمسى هذه الأيام مشوبًا بنوع من الخطر الذي يهدد البلاد"، وقد استشعر العلماء هذه الحالة، وقد "كانوا في حيرة، فالجميع كانوا يخافون من الغزو الأجنبي في أي مظهر كان، ويرون بعين الشك كل بادرة من بوادر الأجنبي، فإذا طلب منا مواد خفنا أن يكون فيها عنصر يكسبه قوة علينا! وإذا اقترح الأجنبي إنشاء القطار أو التلغراف شككنا في مقاصده. وهكذا فمن شدّة الغيرة على استقلال البلاد كان بعض العلماء يتمسكون بسياسة إغلاق الباب، في حين كان فيه آخرون يرون أن الحفاظ على الاستقلال يقتضي التفتح على الدنيا" (¬3). وهكذا لحقت التجربة المغربية أخواتها في حظها من الفشل كحال مصر وتونس والسلطنة وغيرها، وختمت باحتلال الأجنبي لبلاد المسلمين وتعطيل كل تلك الجهود التحديثية. ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق ص 113. (¬2) قصة المواجهة بين المغرب والغرب، عبد الكريم غلاب ص 190. (¬3) جامع القرويين. . . . 3/ 733 - 734.

سابعا: تجربة فارس

سابعًا: تجربة فارس كانت فارس من بين بلاد العالم الإسلامي التي سعت إلى الاتصال بالحضارة الأوروبية وطلب العلوم العصرية، وتختلف فارس عن غيرها من بلاد المسلمين بانتشار المذهب الشيعي بين أهلها, لذا كان أغلب ولاتها على هذا المذهب وفي نزاع مستمر مع بقية العالم الإسلامي السني. وكانت فارس -المنحصرة في إيران حاليًا- قد احتكت بأوروبا الصاعدة ماديًا واطلعت على أحوالهم وعرفت أمورهم، وكانت نقطة صراع بين أقطاب أوروبية متنافسة ولاسيّما روسيا وبريطانيا وفرنسا، وكان أوسع صراع وقع لفارس مع الغرب هو مع روسيا سواء القيصرية أو الماركسية، وبسبب هذا الاحتكاك انفتحت النخب السياسية والثقافية على أوروبا؛ وإن كانت لم تعدم المعارضة الشديدة من قبل المراجع الشيعية الدينية في قم والنجف وغيرهما. وقد توالت أسر مختلفة على الحكم في تلك المنطقة آخرها الأسرة القاجارية، وكان أشهرهم "ناصر الدين شاه ابن محمد شاه" (1830 - 1896 م)، وقد تولى الحكم وعمره ست عشرة سنة و (1848 م) (¬1)، مما يذكرنا بمغامرات الحكام الشباب من نابليون إلى محمد علي إلى السلاطين العثمانيين الذين قادوا مغامرات التحديث، وهو الذي عرف عصره بظهور فرقة باطنية جديدة "البابية" وكان لهم صراع طويل معها، واحتك بجمال الدين الأفغاني صاحب المشروعات الإصلاحية الغامضة (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: تاريخ الشعوب الإسلامية، بروكلمان ص 664. (¬2) انظر: المرجع السابق، حول البابية: ص 665 - 669، وحول جمال الدين الأفغاني: ص 673 - 674.

تكوين نظام علمي موازي للنظام القديم

بدأ تقليد أوروبا في نظام الجند، وكان ذلك قبل ناصر الدين، حيث سمع فتح علي شاه بنظام الجند الفرنساوي على ما وضعه بونابرت، فبعث إلى فرنسا واستقدم أحد مشاهير قوادها ومعه عشرون ضابطًا فدربوا الجند على النظام الفرنسي سنة (1228 هـ - 1813 م)، أما طلب العلوم العصرية فكان في عصر ناصر الدين. تكوين نظام علمي موازي للنظام القديم: كان النظام العلمي القديم يقوم على دروس الفقهاء في المساجد والجوامع، وكان يتركز على العقائد الشيعية والفقه الشيعي، وهؤلاء هم علماء العلوم الدينية، وإلى جانبهم "الحكماء" نسبة إلى الحكمة؛ أي: الفلسفة وكانوا كثرًا في تلك المرحلة (¬1). ومع الاحتكاك بالغرب توجه الرأي إلى إنشاء مركز علمي تُدرس فيه العلوم العصرية، قام المشروع على الابتعاث -كما في التجربة المصرية- على أن يقوم المبتعثون بعد عودتهم بتأسيس هذا المركز الجديد. كانت أول بعثة سنة (1270 هـ- 1854 م)، حيث أرسل "ناصر الدين" أربعين شابًا إلى فرنسا لدراسة الطب والرياضيات والطبيعيات، وبعد عودة البعثة سنة (1277 هـ) أنشئت مدارس على النمط الأوروبي في طهران وتبريز، وتسمى مدارس طهران بـ "دار الفنون" وفيها سبع مدارس: مدرسة الطب، المهندسخانة، الميكانيك، المعادن "الطبيعيات"، الصنائع، المبتديان، التجهيزية. ومثلها مدرسة كبيرة في تبريز تُدرس فيها العلوم العصرية واللغات، وكانت جميعها تحت رئاسة عالم فرنسي، وأكثر أساتذتها ورؤسائها من متخرجي مدارس فرنسا (¬2). أقام مدرسة سماها دار الترجمة لترجمة الكتب العلمية من اللغات الأجنبية (¬3)، كما أن فارس عرفت المطبعة مبكرًا مما أسهم في حركة الطباعة والتأليف (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر، جرجي زيدان 1/ 203. (¬2) انظر: المرجع السابق 2/ 198 - 199. (¬3) انظر: المرجع السابق 2/ 199. (¬4) انظر: المرجع السابق 2/ 201.

والتجربة الفارسية ككثير من التجارب في العالم الإِسلامي كان مصيرها الفشل ولاسيّما مع وقوع إيران في دائرة صراع استعماري -كغيرها من بلاد المسلمين- بين روسيا وبريطانيا مع فتن داخلية حولتها إلى بلاد ضعيفة، ثم جاء التدخل الأجنبي بسبب مشكلة ظاهرة الديون التي استغلت للتدخل الأجنبي في كثير من بلاد المسلمين لرغبة الاحتلال التي كانت أبعد من طلب المستحقات المالية، حيث ظهر بوجهه الكالح كصراع ديني وثقافي يراد منه تعميم النموذج الغربي على شرط أن تكون البلاد الإسلامية تابعة لذلك النموذج.

ثامنا: تعرف المجتمع الإسلامي على العلوم العصرية ونظرياتها

ثامنًا: تعرّف المجتمع الإسلامي على العلوم العصرية ونظرياتها كان اتصال المجتمع أولًا بالعلوم البحتة؛ ففي أغلب المعاهد الجديدة يدرس الطلاب العلوم الرياضية أو الطبيعية أو الصناعية أو التقنية أو غيرها دون اتصال بأبعادها الفكرية والفلسفية ومشاكلها التي عُرفت في أوروبا في أثناء الصراع بين الكنيسة والعلم الحديث، ولا يمنع ذلك أن يسمع الطلاب من أساتذتهم بعض الأخبار؛ ولكن ذلك سيكون على هامش الدراسة ولن يكون من صلبها؛ لأن مثل هذه النظريات وأبعادها إنما تدرس في الدراسات العليا، وهذه لم تكن موجودة، وأول ما وجد من المعاهد العليا لمثل هذه العلوم هو ما فتحه المنصرون في بلاد الشام وأشهرها: "الكلية اليسوعية السورية" -الجامعة الأمريكية لاحقًا-، ثم "دار الفنون" في إستانبول التي أشرف على فتحها دعاة التحديث والتنظيمات في تركيا, ولكنها لم تستمر طويلًا إذ أقفلت بعدما أثارته من مشكلات، وبقيت معاهد المسلمين التاريخية محصنة من دخول مثل هذه النظريات حتى من جهة معرفة حقيقتها، ومن ثمّ إمكانية التعامل النقدي معها. ولكن هذه النظريات إن لم تدخل عن طريق المؤسسات العلمية؛ فقد وجدت طريقها عبر منفذ آخر وهو الصحافة -المولود الجديد في القرن الثالث عشر- فبعد أن ظهرت المطبعة وانتشرت في المدن الكبيرة جاء ميلاد الصحافة لتستحوذ على النخب المثقفة كونها بلا منافس آنذاك، وقد استولى على أغلبها من لا صلة لهم بالأمة إلا صلة العداوة، فنشروا تلك المشكلة -النظريات العلمية ومشاكلها- التي عرفتها أوروبا داخل المجتمع الإسلامي. كما أن النشاط الأوروبي داخل

1 - طرق تعرف المجتمع على العلوم العصرية وما ارتبط بها من مشكلات

العالم الإسلامي قد نجح في تكوين تيار من اليهود والنصارى، وبعض من تأثر بهم من المسلمين يتبنى الرؤية العلمانية الجديدة في أوروبا بكل أبعادها، ومن ذلك ما له صلة بالعلوم العصرية، وقد اجتهد هذا التيار في نشر مثل هذه المشاكل داخل العالم الإسلامي عبر كل وسيلة يتمكن منها. نقف الآن وقفة مختصرة مع أشهر الطرق التي تعرف المجتمع من خلالها على المشكلات المرتبطة بحركة العلم داخل أوروبا، ومع أول النظريات التي أحدثت المشاكل داخل النخب الإسلامية، وكان أول النظريات نظريتي "الفلك والتطور"، ونذكر هنا بأن ما يعرض في هذا القسم إنما هو الجانب التاريخي لنشاهد كيف عاش المجتمع المسلم هذه التجربة علّنا نكتشف ما يفيدنا في التعامل المعاصر مع مثل هذه الظواهر، وسأجعلها بإذن الله في فقرتين: الفقرة الأولى: طرق تعرف المجتمع على العلوم العصرية وما ارتبط بها من مشكلات. الفقرة الثانية: تاريخ دخول النظريات المشكلة للعالم الإسلامي. 1 - طُرق تعرف المجتمع على العلوم العصرية وما ارتبط بها من مشكلات: طريق تعرّف المجتمع على العلوم العصرية يختلف عن طريق تعرف الدولة ونخبها كما أنه جاء متأخرًا، فالدولة العثمانية مثلًا كان بعض أجزائها من قارة أوروبا، فهي تسيطر على البلقان واليونان وغيرها من البلاد الأوروبية؛ مما يعني اطلاعها على ما في أوروبا، أيضًا عبر اتصالهم ببعض السفراء والتجار الأوروبيين، ولكنها لم تتخذ القرار المناسب في كيفية التعامل مع العلوم العصرية التي طورها الأوروبيون، أما المجتمع -ففي وقت لا اتصال فيه مع أوروبا- لم يكن قادرًا على معرفة ما يحدث فيها، بمن في ذلك علماؤهم ومفكروهم وعقلاؤهم، ولكن حدثت أمور أدخلت المجتمع في صلب التفكير بهذه المستجدات والاطلاع عليها (¬1)، وأهمها الصور الآتية: الصورة الأولى: حملة نابليون على مصر، فهذه الحملة وإن نجح المسلمون في مقاومتها عسكريًا إلا أن فيهم من ضَعُف أمامها فكريًا؛ إذ كانت ¬

_ (¬1) سأكتفي هنا بالعرض الإجمالي لهذه الصورة لارتباطها بالعرض التاريخي، وسيأتي التحليل النقدي لها في الفصل الرابع بإذن الله.

طريقة علماء الحملة أذكى من طرق نابليون، وإذا كان ما حرك الولاة في البلاد الإِسلامية هو نابليون بسياسته وإدارته وجيشه؛ فإن ما حرك علماء المسلمين وأذكياءهم هو حال علماء الحملة بعلومهم ومختبراتهم وصناعاتهم، لذا كانت حوارات العلماء حول هذه الحملة هو كيفية التخلص منها عسكريًا من جهة، وكيفية التعرف على ما عند علماء الحملة من علوم مكنتهم وزادت من قوتهم من جهة أخرى، وهذه كانت أهم نقطة اتصال لأهم شريحة من المجتمع الإسلامي بالعلوم العصرية، ولكن لم يُترك لها الأمر في تحديد الطريق المناسب لإدخال هذه العلوم إلى بلاد المسلمين، فبقي الأمر بينهم يدور على وصف ما شاهدوه من عجائب هذه العلوم، والذي يظهر أن الولاة آنذاك لم يكونوا حريصين على الانطلاق من هؤلاء المشايخ المحبين لمثل هذه العلوم؛ لذا أبعدوا الأزهر عن مثل هذا الباب، وحتى البعثة المشهورة التي عرفت بالطهطاوي وهو من الشيوخ المتخرجين من الأزهر إنما أُدخل في البعثة كإمام لها, ولكنه بعد أن فاق مجموعته وعاد -وهو العارف بالأزهر وعلومه- قام بعمل نقطة الوصل بين المجتمع وهذه العلوم العصرية لاسيّما في النخبة المهمة وهم الأزهريون. هكذا كانت نقاط التعرف الأولى للمجتمع عبر احتكاك بعض الفضلاء بعلماء الحملة من جهة ولسماعهم أحاديث المبتعثين العائدين أو اطلاعهم على كتاباتهم من جهة أخرى ولاسيّما في نخب مصر وزوارها لاسيّما من قاصدي مجاورة الأزهر. الصورة الثانية: مدارس الأقليات: وهي المدارس النصرانية واليهودية الجديدة المفتوحة للأقليات في بلاد المسلمين، إذ حدث توجه كبير في الغرب -توافق مع مرحلة التهيؤ الاستعماري- تمثّل في حملة واسعة لتعليم إخوانهم العلوم العصرية، وللأسف فقد بقيت هذه المدارس لسنوات تُخرّج الماهرين بالعلوم العصرية ليتسلموا الوظائف المهمة عند أغلب الولاة المسلمين لسنين كثيرة، بينما أهمل هؤلاء الولاة فتح ما يحتاجونه من مدارس للمجتمع ليتخرج منها من يسد حاجتنا في تلك الأبواب (¬1)، وكان ظهور تلك المدارس وقت توجّه الغرب بإرسال الإرساليات الهائلة إلى بلاد المسلمين بعد أن جاءتهم الفرصة، ¬

_ (¬1) كانت المدارس التي فتحها "محمد علي" في مصر تخدم الجيش فقط أو الوظائف المهمة لسلطته، كما أنه لم يوجد منها معاهد عليا كالكليات التابعة للإرساليات.

وجَمعت مدارسهم بين تعليم الدين النصراني والعلوم العصرية، فكانت طريقًا آخر لتعرف المجتمع الإسلامي على تلك العلوم، وبسبب تأخر الأنظمة السياسية في معالجة الوضع؛ فقد انخرط كثير من أبناء المسلمين في تلك المدارس بعد أن وجدوا أن الوظائف والمراكز المهمة يتولاها الخريجون منها. الصورة الثالثة: مدارس الولاة: بعض ما فتحه الولاة من مدارس في مصر والأستانة وتونس وإيران تهتم بالعلوم العصرية، عيبها أنها كانت في الغالب موجهة لخدمة الجيش، ولكنها لا شك قد كانت منفذًا لتعرف -ولو بنسبة قليلة- بعض المجتمع على هذه العلوم، وقد كان بعض معلمي الأزهر يُدرّسون بعض المواد في تلك المدارس الجديدة، مما يعني اطلاعهم على مثل هذه العلوم. وكان الأصل أن تكون هذه المدارس المنفذ الجيد لاطلاع المجتمع على حقيقة هذه المعارف وعلى ما نحتاجه منها، وأن تكون نواة تطور تلك العلوم؛ ولكن ربما بسبب ارتهانها لخدمة الجيش؛ صيرها ذلك الحال مدرسة عسكرية؛ مما قلّل من انفتاحها على المجتمع وأبعدها عنه، لذا لم تكن موطنًا اختياريًا لطلبة العلوم ولا كانت قادرة على تطوير العلوم (¬1). الصورة الرابعة: الصحافة الأهلية: لاسيّما في الربع الأول من القرن الرابع عشر تقريبًا/ الربع الأخير من التاسع عشر، ولاسيّما تلك التي يحررها النصارى الشوام في مصر، فقد كانت بطبيعتها موجهة للرأي العام، يقرؤها الجميع بخلاف الكتب العلمية وما في بابها، وكان أشهرها آنذاك: "المقتطف" و"الهلال"، حيث كانت الأولى تركز على العلوم الطبيعية، بينما الثانية تركز على الفكر والعلوم الاجتماعية والإنسانية، في وقت كانت الصحافة هي الوسيلة الوحيدة المتاحة أمام الجمهور المتعلم، فلا يوجد آنذاك وسائل أخرى تنافسها مما يجعلها ذات مكانة في المجتمع، كما أن المشغلات للناس كانت قليلة مما يزيد من تأثير تلك الوسائل. ¬

_ (¬1) عرضت مجلة المنار مقالًا نقديًا عن (آثار محمد علي في مصر)، ومما فيه عن مدارسه: (كانوا يختطفون تلامذة المدارس من الطرق وأفناء القرى -الأفناء: الناس المجهولون- كما يختطفون عساكر الجيش، فهل هذا مما يحبب القوم في العلم ويرغبهم في إرسال أولادهم إلى المدارس؟ لا بل كان يخوفهم من المدرسة كما كان يخيفهم من الجيش)، مجلة المنار 5/ 175، سنة (1320 هـ -1902 م).

2 - تاريخ دخول النظريات العلمية ذات الإشكالات للعالم الإسلامي

ومما يميز هذا المعبر هو انفتاحه على الجميع، فالجميع يطالع الصحافة ويقرأ ما فيها، ويزيد من شعبيتها وعمق تأثيرها أنها الوحيدة في الساحة، ولكن الخطير فيها أن أصحابها هم من الفئة النصرانية المصنوعة في مدارس الإرساليات الغربية للتأثير من الداخل في الأمة الإسلامية، وربما كان سبب قوتها واستمرارها الطويل هو ما تتلقاه من دعم غربي، ودعم مالي وسياسي، ودعم معنوي من خلال إمدادها بالمعلومات والمعارف والأفكار. الصورة الخامسة: المنتدبون من العالم الإسلامي إلى أوروبا لتحصيل العلوم العصرية ودخول جامعاتها ومعاهدها والنظر فيها والتعرف عليها, ليُطلع العالم الإسلامي عند العودة على ما حصّله، وقد كان هؤلاء المندوبون إما دبلوماسيين أو رحالة أو -وهو الأهم- طلابًا مبتعثين لتحصيل تلك العلوم، وهم بقدر ما نجحوا في إطلاع المجتمع على أن هذه العلوم قد حدث لها تطوير كبير في أوروبا بعد أن أهملها المسلمون، ولكنهم لم ينجحوا في تكوين نواة علمية إسلامية تسهم في استقلالنا المعرفي. كانت هذه المعابر هي صور تعرفنا -أو إعادة اهتمامنا- بالعلوم الرياضية والطبيعية والاجتماعية، ولكن هذه المعابر قد نشأت في ظروف غير طبيعية للمسلمين، لاسيّما مع ما أسلفنا من الحديث عن الابتداع في الدين والضعف الدنيوي وعدم الانطلاق من نقطة صحيحة، فقد وقع من تلك المعابر آثار خطيرة على الأمة الإِسلامية، حيث اكتسب كل معبر من ظروفه المحيطة به ما يعكر مساره -لاسيّما في ظل غياب الإصلاح الديني- وتحولَ إلى طريق يسمح بتسرب الانحرافات في أثناء طلب النافع من العلوم العصرية. يمكن إهمال الحديث عن تلك المعابر بعد أن تجاوزنا تاريخيًا تلك المرحلة لولا أن هذه المعابر ما زالت تواصل دورها إلى الآن وبالإشكالات نفسها، وفيما يظهر للمتأمل في حال أمتنا أن ذلك باق إلى سنين قادمة، مما يعني أهمية تحليل تلك المعابر ومراجعة حقيقة دورها في تعريفنا بعلوم العصر، وكيف نستطع عبر الاستفادة من التاريخ إصلاح الوضع الحالي من جهة ونقد الصور التغريبية أو السلبية من جهة أخرى. 2 - تاريخ دخول النظريات العلمية ذات الإشكالات للعالم الإسلامي: أول ما كان يصل المجتمع من النظريات العلمية هو من العموميات، مع

العلم أنه حتى داخل أوروبا لم يصل انتشار التعليم فيها درجةً تحقق استيعاب المجتمع لها، ومن هنا استمرّ الصراع داخل فرنسا إلى نهايات القرن التاسع عشر، والحال أعقد داخل العالم الإسلامي، فالمحيطون بشيء من هذه العلوم قلّة بل إن أهل العلم الشرعي قلّة فكيف بغيره من العلوم؟! لذا كانت تثار مثل هذه القضايا دون أن يكون هناك واقع ثقافي حقيقي لفهمها والتعامل الحسن معها، وهذا ما سمح بتضخيم القضايا دون أن تكون عن علم يقيني بالشرع والعلوم العصرية. وصلت أشياء كثيرة من قضايا العلوم العصرية، وهناك قصص كثيرة تدار حول موقف علماء الدين منها، ووصفهم لكثير من المخترعات أنها من السحر وعمل الشياطين، ويصرّ التيار التغريبي على إظهارها وكأنها تمثل موقف علماء الشرع، والحقيقة أنها كانت تمثل مواقف فردية لبعض من تدين مع جهل بالعلم الشرعي، وأمرهم مشهور في تاريخ المسلمين، وربما تكون لهم شهرة وأتباع ولكنهم لا يُحسبون على علماء الشريعة، ومن ذلك مثلًا ما يتكرر في كتابات تغريبية عن تحريم وسائل الاتصال الحديثة وغيرها من قبل بعض علماء الدين، فإذا جاء الباحث لينظر من هم علماء الدين فلا يجد عالمًا، وإنما قد يجد أحد شيوخ الصوفية أو بعض المقلدين المتعصبين دون فقه حقيقي في الدين؛ ولكن أهل التغريب يصرّون على إظهار ذلك على أنه موقف علماء الشريعة، بينما هي حالات فردية لغير المحسوبين على العلم الشرعي، وما عرف عن عالم حقيقي في الشرع مثل هذه المزاعم (¬1). فلنترك الأمور الصناعية التقنية وما يدار حولها، مع أن الكثير منها دخل إلى العالم الإسلامي في وقت متأخر، ولننتقل إلى النظريات العلمية التي كانت أسبق في الحضور، كما أن ما تثيره من مشاكل أوضح؛ لكونها تحمل في طياتها رؤى فلسفية وثقافية تختلط بالجانب العلمي منها، وهذا ما يجعلها مثار إشكال، ومن ثمّ لا يستغرب أن نجد من يحترز منها أو يحتاط في موقفه منها، فهذا هو عين العلم والعقل في مثل هذه الأبواب بخلاف من ظنّ أن العلم هو في تقليد كل ما جاء من الغرب بحجة انتسابه للعلم. ¬

_ (¬1) ستأتي مناقشة ذلك بإذن الله في الفصل الخامس في المبحث الأول منه.

قد يكون هناك مسائل كثيرة اطّلع عليها المسلمون في القرن الثالث عشر، إلا أن أهم ما اطلع عليه المسلمون من نظريات مؤثرة في الوسط الاجتماعي -وإلى الآن آثارها قائمة- نظريتان، هما: "نظرية الفلك، ونظرية التطور"، وسنرى الآن باختصار كيف وقع ذلك التعرف للمجتمع: النظرية الأولى: نظرية الفلك الحديثة: فمن أهم العموميات التي تناولها الناس واختلفوا حولها ثلاثة أشياء: كروية الأرض، ودورانها حول نفسها، ودورانها حول الشمس، لا أن الشمس هي التي تدور حول الأرض. هذه العموميات هي من نتائج نظرية يقبع خلفها كثير من الحسابات الرياضية والرصد الفلكي الدقيق والاستنباطات العقلية؛ مما لا يسع لغير المتخصص إدراكها بخلاف العموميات، ولذا فإن اعتراضات كثير من المعترضين هي على النتائج العامة وليست على الأدلة وطرق التحقق والاستنباط، ومن هنا كانت الاعتراضات ضعيفة لأنها لا تواجه العلم ذاته وإنما تواجه بعض نتائجه، والحقيقة أن المعترضين آنذاك ليس باستطاعتهم منافسة أهل النظرية الحديثة لما يتطلبه من معرفة رياضية عميقة ورصد طويل وحسابات فلكية معقدة وممارسة فلكية طويلة تؤهل للاستقراء والاستنباط، فكانت الساحة غير متكافئة، وقد كان السائد في البلدان الإسلامية التي احتكت أولًا بهذه النظرية أن الأرض مسطحة مع وجود القول بكرويتها عند آخرين، وأنها ثابتة، وأن الشمس تدور حولها, ولا شك أن دخول النظرية الحديثة على مثل هذا الجوّ السائد سيصنع توترًا شديدًا في المجتمع ما لم ينجح أهل العلم في رفع الإشكال؛ لأن السائد هنا يرتبط باعتقاد ديني، فكثير من الكتب الكلامية تتناول هذه المسألة كما أن بعض علماء التفسير قد أدخلوا بعض الآراء الفلكية القديمة أثناء مرورهم على الآيات الكونية مما حولها إلى مسألة دينية خبرية. يعود السبب في أسبقية دخول نظرية الفلك إلى كونها أوّل النظريات شهرة في أوروبا وحدث بسببها صراع مشهور، كما أنها تدخل في مادة الجغرافيا وقد كانت من أول ما اهتُم به في العالم الإسلامي؛ وذلك أن التعليم العصري طُلب أول ما طُلب لتكوين الجيش الحديث، ومن أهم ما يحتاجه الجيش هو دراسة جُغرافيّةِ العالم. وتبدأ كتب الجغرافيا عادة بدراسة الأرض، من جهة: كرويتها

وأدلة ذلك، وحركتها ثم بقية التفاصيل، أضف إلى ذلك أن علم الفلك كان من أشهر العلوم الحكمية في التراث الإسلامي؛ مما يجعله أقرب إلى الفهم عند غالبية المثقفين المسلمين وأمثالهم عندما يعاد الاهتمام ببعض قضاياه. نقف الآن مع الصور الواضحة المشهورة حول دخول النظرية، وقد كان أولها ما ذكره "الطهطاوي" في كتابه: "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" في المقالة الثانية، الفصل الأول: [في مدة إقامتنا في مدينة مرسيليا]، فبمناسبة حديثه عنها استطرد لذكر مجادلات بين علماء المغرب ومحاورات منها ما دار حول كروية الأرض وحركتها بين الشيخين: "محمد المناعي التونسي" و"محمد البيرم"، فالمناعي كان يرى بسط الأرض وبيرم يرى كرويتها، ثم قال: "وممن قال من علماء المغرب بأن الأرض مستديرة، وأنها سائرة، العلامة الشيخ مختار الكنتاوي بأرض أزوات، بقرب بلاد "تمبكتو". . . . وقد ألف كتابًا وسماه: "النزهة"، جمع فيه جملة علوم، فذكر بالمناسبة علم الهيئة، فتكلم على كروية الأرض، وعلى سيرها، ووضح ذلك، فتلخص من كلامه أن الأرض كرة، ولا يضر اعتقاد تحركها أو سكونها" (¬1). ولكن هذا الحوار الذي ذكره الطهطاوي كان موجودًا في التراث الإسلامي وقبل الاطلاع على مستجدات علم الفلك، والذي يظهر أن الطهطاوي كان يستحضرها وهو على علم بالمستجدات الفلكية، فيكون ذلك تمهيدًا لما يعرضه، فقد ذكر في كتابه ما يدرسه المبتعثون من علوم وفنون في فرنسا، ومن ذلك الجغرافيا فقال: "فقد تقدم منها نبذة في مقدمة الكتاب، وإنما ينبغي لنا هنا أن نذكر أقسامها، فنقول: إنه تارة ينظر إلى الأرض من جهة سكونها أو تحركها، أو نسبتها لما عداها من الأجرام الفلكية، فتسمى الجغرافيا الرياضية أو علم هيئة الدنيا"، ثم تحدث عن أربعة أقسام أخرى ثم قال: "غير أنه ينبغي لنا هنا الكلام على مسألة من مسائل علم الجغرافيا الرياضية التي هي علم الهيئة، فنقول: الإفرنج قسموا الكواكب الفلكية إلى ثوابت إلى سيارة، وإلى سيارة السيارة، وإلى ذوات الذنب، وعدوا الشمس من الثوابت، والأرض من السيارة، والقمر من سيارة السيارة؛ أي: التابعة في السير للكواكب السيارة، وهذا المذهب يسمى عندهم مذهب "كبرنيق النيمساوي"، وقد كشف المتأخرون ¬

_ (¬1) تخليص الإبريز في تلخيص باريز، رفاعة الطهطاوي ص 115 - 116.

منهم عدة كواكب سيارة لم يظفر بها المتقدمون، لفقد الآلات عندهم، ووجودها لهؤلاء الإفرنج، فبذلك بلغت السيارات المعروفة عندهم أحد عشر، غير الشمس والقمر، فإن الأولى من الثوابت على رأيهم، والثانى من سيارة السيارة، ولنذكرها لك على حسب قربها من الشمس، فنقول هي: عطارد، والزهرة، والأرض، والمريخ"، وبعد تعدادها قال: "وهذه الكواكب الجديدة لا يمكن رصد دورانها على نفسها إلا بصعوبة، لصغر بعضها في رأي العين، وبعد البعض الآخر، بل لا يمكن رصد ما عدا "أورانوس" إلا بالنظارات الفلكية، ولهذا سميت عند الإفرنج بالسيارات النظارية، ويؤمل الإفرنج كشف غيرها من السيارات" (¬1)، وقد ذكر أنه سيتفرغ لترجمة التاريخ والجغرافيا من الفرنسية إلى العربية: "وبالجملة فقد تكفلنا بترجمة علمي التاريخ والجغرافيا بمصر السعيدة بمشيئته تعالى" (¬2). وإذا كان قد عرّف بالنظرية فإنه في الوقت نفسه كان منتبهًا إلى مشكلاتها أو مشكلات الفكر الأوروبي عمومًا التي ترتبط به، ففي الفصل الثالث عشر عن تقدم أهل باريس في العلوم والفنون والصنائع. . . . يقول: "وأما أغلب العلوم والفنون النظرية فإنها معروفة لهم غاية المعرفة، ولكن لهم بعض اعتقادات فلسفية، خارجة عن قانون العقل، بالنسبة لغيرهم من الأمم، غير أنهم يموهونها، ويقوونها، حتى يظهر للإنسان صدقها وصحتها، كما في علم الهيئة مثلًا، فإنهم محققون فيه وأعلم ممن عداهم بسبب معرفتهم بأسرار الآلات المعروفة من قديم الزمان، والمخترعة له. ومن المعلوم أن المعرفة بأسرار الآلات أقوى معين على الصناعات، غير أن لهم في العلوم الحكمية حشوات ضلالية مخالفة لسائر الكتب السماوية، ويقيمون على ذلك أدلة يعسر على الإنسان ردها، وسيأتي لنا كثير من بدعهم، وننبه عليها في محالها إن شاء الله تعالى" (¬3)، وقد ذكر محققو (¬4) كتابه بأنه حذف ¬

_ (¬1) تخليص الإبريز في تلخيص باريز، رفاعة الطهطاوي ص 372 - 374. (¬2) المرجع السابق ص 375. (¬3) تخليص الإبريز في تلخيص باريز، رفاعة الطهطاوي ص 255 - 256. (¬4) هم: (مهدي علام، أنور لوقا، أحمد بدوي)، انظر: مقدمتهم للكتاب السابق ص 40 - 41.

"كالقول بدوران الأرض ونحوه" جملة كانت بعد قوله: "السماوية" حيث كانت في المخطوط قبل تسليمه للمطبعة، ومما حذفه أيضًا بحسب زعم محققي الكتاب نص له علاقة بالنظرية: "وقال بعض علماء الإفرنج: إن القول بدوران الأرض واستدارتها لا يخالف ما وردت به الكتب السماوية، وذلك لأن الكتب السماوية قد ذكرت هذه الأشياء في معرض ونحوه جريًا على ما يظهر للعامة لا تدقيقًا فلسفيًا، مثلًا: ورد في الشرع أن الله تعالى وقف الشمس، فالمراد بوقف الشمس تأخير غيابها عن الأعين وهذا يحصل بتوقيف الأرض، وإنما أوقع الله الوقوف على الشمس؛ لأنها هي التي يظهر في رأي الأعين سيرها. انتهى. فظاهر كلامه أنه ارتكب غاية التأويل" (¬1). قد يتعرض الطهطاوي لمثل هذه الأمور في الكتب التي ترجمها, ولكن تلك الكتب المترجمة بطبيعتها تكون محدودة الاطلاع، يدرسها فقط طلاب المدارس الجديدة، أما هذا الكتاب فهو للجمهور، وقد حظي الكتاب وكاتبه بشهرة كبيرة داخل مصر وخارجها، فصاغ في كتابه باختصار الحركة الفكرية والعلمية والاجتماعية في باريس، فإذا جاءت مسألة حساسة توقف معها، ومنها وقفاته مع نظرية الفلك الجديدة لارتباطها بأحد العلوم المفضلة عنده وهو الجغرافيا، كما أن ذلك يدل على أصداء المشكلة داخل العالم الإسلامي ومحاولته ملامستها من بعيد. وبما أن الكتاب هو كتاب تعريف ورحلات؛ فمن غير المتوقع أن نجد فيه معالجة للمشكلة، لذا اكتفى الطهطاوي بالإجابات المجملة، وقد كان يفترض في من جاء بعده البدء في رسم الرؤية حول الموقف من هذه المشكلات، وهو ما لم يظهر بالشكل الكافي والمقنع. ومع مثل هذه الآراء الجديدة التي ولدت في البداية على شكل نقل أخبار؛ جاء الإرباك للواقع العلمي والثقافي والفكري في العالم الإسلام في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، وربما هي تواصل في القرن الخامس عشر الهجري، وذلك أن المعالجة الحقيقية تؤجل عادة كلما ظهر مثل هذا الإشكال، أو يتولاها من ليس من المؤهلين في العلمين. كانت الطبعة الأولى من كتاب الطهطاوي سنة (1250 هـ-1834 م)؛ أي: ¬

_ (¬1) المرجع السابق ص 41 - 42، ويظهر وجود سقط في جملة (في معرض ونحوه. .).

منتصف القرن الثالث عشر، وبعد ما يقرب من ثلاثين سنة جاء كتاب آخر حظي بشهرة قريبة من كتاب الطهطاوي، وهو كتاب "خير الدين التونسي" "أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك" سنة (1283 هـ-1867 م)، ونجد عنده أيضًا أصداء هذه النظرية وإن كان بأسلوب التعريف بأحوال الممالك، ففي [مطلب ذكر من اشتهر من الأوروبيين بالمعارف والاختراعات]، يقول: "وأما أهل شمال أوروبا فلم يشتهروا إلى ذلك الوقت بشيء من أعمال الفكر، غير أن منهم من لا تنكر منته على العرفان، مثل كبرنيك من أهل بولونيا، المولود سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة وألف، وهو الذي حرر القول بأن الشمس في مركز العالم، وأن الأرض والكواكب تدور حولها. قيل: وليس هو أول قائل بذلك، وإنما الأول فيلولاوس أحد تلامذة فيثاغورس، وذلك قبل وجود كبرنيك المذكور بألفي عام، لكن وقع الانفصال على أن كبرنيك هو الذي ينبغي أن تنسب إليه مزية الابتكار لهذا القول، وإن انتفع في الاهتداء إليه بقول فيلولاوس المذكور. ومن حرر الدليل على تلك الدعوى، بما يقرب من المشاهدة، غليلاو الطلياني، وأعانه على ذلك ما اخترعه مسيوس من أهل هولاند من آلة البلور التي تكبر الأشياء، فكانت مرآته تكبر الشيء مائة وستين مرة زيادة على مقدار حجمه، ثم تهذبت تلك الآلة حتى صارت تكبره من ألفين إلى ثلاثة آلاف وأكثر. ولم تزل تلك الدعوى تترجح عند أهل أوروبا إلى أن صارت مسلمة لديهم" (¬1). كانت هذه من الصور الأولية لطرح النظرية عبر كتابين للجمهور وإن كانت غير مفروضة عليهم وإنما وردت على سبيل التعريف، ولكن ستتحول عبر الصحافة -التي يتولاها غالبًا النصارى- إلى مشكلة داخل الساحة الإسلامية، قامت الصحافة بالإثارة المتكررة للموضوع عارضة ذلك في إطارٍ مشكل يختلف عن عرض الطهطاوي والتونسي، فقد عرضت ذلك قضيةً تحتك بالمجال الديني، ومن ثمّ تفتح مناقشة مشكلة العلاقة بين الدين والعلم من خلال نظرية الفلك. فبعد تسع سنوات تقريبًا من كتاب التونسي فتحت مجلة المقتطف جدلًا واسعًا حول الموضوع، بدأ ذلك سنة (1292 هـ-1876 م)، بدأ كمناقشات بين طائفة النصارى، بين الفريق المؤيد لنظرية بطليموس والآخر الرافض لها والمدافع عن ¬

_ (¬1) أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك، خير الدين التونسي ص 213 - 214.

النظرية الحديثة، وقد كان صراعًا حادًا استُثمرت فيه كل الأدلة، ومن الطبيعي أن يطّلع المسلمون على هذا الصراع ففيهم جمهور لهذه المجلة، وجاءت مشاركتهم الرسمية من أعلى المستويات في مصر، الإدارية والفكرية، حيث اطلع وزير المعارف على الموضوع، فكلف عالمًا شهيرًا في الوزارة هو عبد الله بك فكري، لتكون إحدى أولى المشاركات العامة الجماهيرية التي تحاول إعطاء رؤية إسلامية حول الموقف من هذه النظرية، والذي يظهر بأن هذه الرؤية هي ما استقر عليه الرأي في الأوساط الجديدة، التي درست في الغرب ونظرت في اجتهادات دينية سابقة -لاسيّما الإمام الغزالي- وأخرجتها للطلاب الذين يدرسون مثل هذه الأمور أو أخرجتها للوسط الثقافي عمومًا، كما أن المشاركة الإسلامية ليست من مصر فقط، بل أثبت صاحب المقال استفادته أيضًا من كتاب ظهر بالتركية وأنه على الرأي نفسه. والمقال يكشف لنا أبعاد دخول النظرية بين المسلمين أو بين أهل الكتاب، والذي يظهر أنها لم تثر إشكالًا كبيرًا بين المسلمين مثل الذي أثارته داخل طائفة النصارى، وذلك عبر ما رصدته لنا صحافة تلك المرحلة، بل إن المقتطف بإدارتها النصرانية العلمانية قد أخذت المشاركة الإسلامية كدليل على تقبل الإسلام للعلم، فاستثمروها في الرد على طائفة منهم (¬1). عندما اتسع الأمر وتحولت النظرية إلى مشكلة بسبب ما فعلته الصحافة؛ جاءت مشاركات علماء ومفكرين مسلمين حول الموضوع، وقد كان لجهودهم أثر كبير في تخفيف حدّة المشكلة، كما أنها قرّبت الموضوع من البيئة العلمية الشرعية في البلاد العربية من العالم الإسلامي، من ذلك مثلًا كتابات الشيخ "الألوسي" من العراق (¬2)، و"القاسمي" (¬3) و"الجسر" من الشام (¬4)، و"محمد رشيد ¬

_ (¬1) سيأتي لاحقًا بإذن الله تفاصيل دور الصحافة حول هذا الموضوع في الفصل الرابع. (¬2) من كتبه: (ما دلّ عليه القرآن مما يعضد الهيأة الجديدة)، وترجم: (رسالة في الهيأة باللغة الفارسية لعلي القوشجي)، انظر: مؤلفاته، محمود شكري الألوسي. سيرته ودراساته اللغوية، للعلامة محمد بهجة الأثري ص 108 وما بعدها. (¬3) انظر: دلائل التوحيد، الشيخ محمد القاسمي ص 214 - 218. (¬4) صاحب الكتابين المشهورين: (الرسالة الحميدية)، و (الحصون الحميدية)، انظر: الحصون الحميدية ص 154 وما بعدها.

رضا" في مصر (¬1)، و"الحجوي" في المغرب (¬2)، أو غيرهم، فضلًا عن كتابات "الأفغاني" (¬3) و"محمد عبده" في مصر (¬4). وقد استقرّ الوضع بعد ذلك على تدريس هذه النظرية في كل البلاد الإسلامية، حيث يدرسها الطالب ضمن التعليم الأولي ضمن كثير من المواد الحديثة وأهمها مادة الجغرافيا (¬5). النظرية الثانية: نظرية التطور الدارونية: وهي تختلف كثيرًا عن النظرية الأولى، فهي في الغرب قد تجاوزت مجال العلم لتصل إلى الفكر والحياة بعامة، ولاسيّما بعد استثمار التيارات المادية لهذه النظرية في صراعها ضدّ الدين ودفاعها عن الإلحاد، مما يجعلها في نظر كثير من البشر نظرية إلحادية أو تكاد، كما أنها نظرية لا تمثل ثمرة واضحة للدول الباحثة عن النهضة والتقدم، فهي تحوي في طياتها ما يتعارض مع الدين، كما أنها لا تحوي ثمرة دنيوية، ومع ذلك جاء من حمل هذه النظرية ورمى بها في الساحة الإسلامية، فأشغلت الفكر الإسلامي ما يقرب من نصف قرن، وبشكل أكثر حدّة مقارنة بنظرية الفلك السابقة. والفرق بين النظريتين، أن الأولى جاء التعريف بها من قبل علماء ومفكرين مسلمين، بخلاف نظرية التطور فقد انطلقت من دائرة نصرانية علمانية، بدأت من داخل كليتهم التبشيرية الأمريكية، ثم عبر صحافتهم، ثم من خلال رموزهم الفكرية ولاسيّما تلك المتأثرة بالتيارات المادية الأوروبية من دارونية وماركسية. ¬

_ (¬1) ورد الكثير من فتاويه في مجلة "المنار" حول هذه النظرية ومشكلاتها؛ مما يدل على اتساع المشكلة، ومن ذلك مثلًا ما نجده في الأعداد التالية: المنار 6/ 671، سنة (1312 هـ - 1903 م)، والمنار 7/ 258، سنة (1322 هـ -1904 م)، والمنار 12/ 260، سنة (1327 هـ -1909 م)، وغيرها. (¬2) انظر: الفكر الإصلاحي في عهد الحماية (محمد بن الحسن الحجوي نموذجًا)، آسية بنعدادة ص 70 ص 227. (¬3) انظر: الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة. . . .، علي المحافظة ص 75. (¬4) انظر: الفكر التربوي العربي الحديث، د. سعيد إسماعيل ص 89 - 90. (¬5) انظر مثلًا: كتاب الجغرافيا (الجغرافيا الطبيعية) لطلاب المرحلة المتوسطة، الصف الأول المتوسط، التابع لوزارة التربية والتعليم في المملكة العربية السعودية، الوحدة الأولى والثانية، طبعة (1425 - 1426 هـ)، حيث اعتمدت النظرية الحديثة في الفلك، بما في ذلك ما ذُكر سابقًا من القضايا الثلاث.

جاءت (¬1) شرارة الموضوع من كلمة ألقاها أحد أساتذة الكلية في خريجي سنة (1882 م)، أشاد فيها بداروين ونظريته، وعرضتها مجلة المقتطف، فبدأ الصراع داخل النصارى: تيار يؤيد وآخر يعارض، ثم تدخل المسلمون عبر بعض كتابهم. وفي هذه المرحلة أيضًا كانت الهند الكبرى قد سبق إليها من تعرف على هذا المذهب وتأثر به وسعى لنشره في الأجيال الجديدة، مما جعل المفكر المشهور جمال الدين الأفغاني يؤلف كتابه المشهور: "الرد على الدهريين"، ترجمه محمد عبده عن الفارسية بمساعدة من له معرفة بتلك اللغة سنة (1884 م)، وقد ذكر في مقدمته أثر تلك النظرية على أناس في المشرق الإسلامي وإلحاد البعض مما جعله يؤلف في الرد عليهم؛ أي: أنها نظرية تجاوزت حدود العلم مما دفع الأفغاني للكتابة عن أهمية الدين وأنه لا غنى للعالم عنه مع نقده بحسب استطاعته لتلك النظرية (¬2). وقد نشأ تيار فكري نصراني الأصل ماركسي المذهب يتبنى هذه النظرية داخل مصر، وحظي بدعم وحماية من المستعمر، من أبرزهم "شبلي شميل" و"سلامة موسى"، نشر الأول مقالاته في المقتطف، وألف كتابه "فلسفة النشوء والارتقاء"، ثم "كتاب شرح بخنر على مذهب دارون"، كما أنه أصدر مجلة الشفاء فضلًا عن كتابته في صحافة مصر ولبنان آنذاك (¬3). أما "سلامة موسى" الذي انتصر لهذه النظرية ومذهبها فقد ألَّف فيها "نظرية التطور وأصل الإنسان" سنة (1928 م)، وفي السنة التالية أصدر مجلته "المجلة الجديدة" التي بقيت حوالي أربع عشرة سنة، فضلًا عن نشاطه الصحفي والفكري (¬4)، ولا شك أن بقاءها في هذا الإطار النصراني الماركسي جعلها تفقد كل صلة لها بالعلم وتحولت معهم إلى أداة لمحاربة الإسلام. لم تدخل هذه النظرية نطاق التعليم إلا في وقت متأخر ولاسيّما في البلاد ¬

_ (¬1) من بين من اهتم بتتبع هذه النظرية وأبعادها الفكرية في العالم العربي الدكتور عبد الله العمر في كتابه: فكرة التطور في الفلسفة المعاصرة، وانظر: الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة. . . .، علي المحافظة ص 238 - 243. (¬2) انظر: زعماء الإصلاح في العصر الحديث، أحمد أمين ص 76 - 80. (¬3) سيأتي الحديث عن دوره والنظرية في فقرات قادمة، وانظر حول هذه المعلومة: الفلسفة النشوئية وأبعادها الاجتماعية. . . .، د. محمود المسلماني ص 241. (¬4) انظر: سلامة موسى بين النهضة والتطوير، د. مجدي عبد الحافظ ص 26 وما بعدها.

التي يتحكم بها الاستعمار ضمن التعليم العالي، ولكنها كانت على عكس ذلك في الساحة الفكرية حيث كان السجال حولها كبيرًا، يمكن تصور ذلك من خلال الاطلاع على صحافة تلك المرحلة "انظر مثلًا: المقتطف والمجلة الجديدة من جهة، والمنار من جهة أخرى"، حيث نجد إنشغال عامة المفكرين بهذه النظرية. نظريات تعرف عليها المسلمون في القرن الرابع عشر/ العشرون: تعد "نظرية الفلك والتطورية الدارونية" أشهر ما ظهر من نظريات في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، وقد استمرتا في القرن اللاحق مع تحول كبير عرفه القرن الجديد؛ فهناك مستجدات كبيرة، منها: وقوع أغلب بلاد المسلمين في قبضة الاستعمار، ومن ثمّ توجيه النشاط العلمي والثقافي والفكري والاجتماعي وفق منظور غربي، كما أن المستعمر سعى إلى صناعة تيارات فكرية متغربة تساعده في المهمة أو تقوم بها بعد خروجه. ومع هذه المستجدات انهمرت على الساحة الإسلامية الكثير من الأفكار والمذاهب الغربية، ومن التحولات البارزة في الصعيد العلمي فتح الباب لكل النظريات في جميع الأبواب العلمية وغير العلمية، كما أنه انفتح الباب لنظريات علوم الاجتماع، وأهمها في تلك المرحلة: نظريات علم الاجتماع ونظريات علم النفس ونظريات اللغة، أما في العلوم الطبيعية فقد بدأت النظريات توغل في العلمية مما جعلها بعيدة عن المجتمع باستثناء النظرية النسبية، بما نجده من صدى لها في الكتابات العربية عن فلسفة العلم، بينما شهدت نظريات العلوم الاجتماعية شهرة كبيرة في القرن الرابع عشر الهجري، وكان أشهرها نظريات "دوركايم" و"ماركس" و"ماكس فيبر" في علم الاجتماع (¬1)، و"فرويد" في علم النفس (¬2)، و"سوسير" في اللغة، وبعضها نشأ عنها مذاهب عالمية كالماركسية نسبة إلى ماركس والبنيوية المعتمدة على أفكار سوسير (¬3)، فضلًا عن مذاهب فلسفية تدّعي ارتباطها بالعلم مثل الوضعية المنطقية وفلسفة التحليل (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: علماء الاجتماع وموقفهم من الإسلام، أحمد خضر. (¬2) انظر: الإنسان بين المادية والإسلام، محمد قطب ص 9، 19 وما بعدها. (¬3) انظر: الخروج من التيه، د. عبد العزيز حمودة ص 52 وما بعدها. (¬4) حول الماركسية والوضعية والتحليلية، انظر: الفصلين الأول والثاني من هذا البحث.

كل هذه وغيرها مما ظهر في بلاد المسلمين نتيجة الاحتكاك المكثّف بالغرب ولاسيّما في ظل الاستعمار وما تبعه من تطور كبير في المواصلات والاتصالات. وقد مكّن الاستعمار للتيارات التغريبية في البلاد الإسلامية، ونظرًا لتبعيتها الفكرية للغرب فقد نشطت في بثّ ما يتعارض مع الإسلام، كان ذلك في أثناء وجود الاستعمار، وازداد بعد خروجه في إثر تمكنها من مفاصل الدول الوليدة ولاسيّما من مؤسسات التعليم والثقافة والإعلام والاتصال الحديثة، وقد كان يغلب على تلك التيارات التغريبية الاستغلال الخبيث للعلم ونظرياته ومناهجه في عدائها للدين وطعنها في هوية الأمة الإسلامية، ولكن في المقابل قد شهد القرن الرابع عشر الهجري حيوية إسلامية كبيرة، تمثل ذلك في دعوات إصلاحية استوعب أصحابها العلوم العصرية؛ مما جعلهم قادرين ولله الحمد على ردّ هجمات التغريبيين خاسئة حسيرة. هكذا ظهرت معالم التجارب تاريخيًا، وما بقي لنا الآن إلا البحث في الأسباب التي انحرفت بمسيرة العلم الحديث وفتحت الباب نحو توظيفه فيما يتعارض مع هوية الأمة ودينها ولاسيّما من قبل المتغربين بتياراتهم المختلفة.

الفصل الرابع أسباب دخول الانحرافات المصاحبة لحركة العلم الحديث إلى البلاد الإسلامية

الفصل الرابع أسباب دخول الانحرافات المصاحبة لحركة العلم الحديث إلى البلاد الإسلامية

الفصل الرابع أسباب دخول الانحرافات المصاحبة لحركة العلم الحديث إلى البلاد الإسلامية سبق التفريق في الفصل الثاني بين أسباب تقدم العلوم وأسباب الانحراف بها، وأنهما يرتبطان عادة بالتطورات الثقافية في الحضارات البشرية، فهناك أسباب تحقق أهدافًا سامية وهناك أخرى تهوي في دركات مظلمة لوجود أهواء مذمومة علِقت بأهلها، ومع ذلك فإنه في هذا المبحث قد تختلف الحال بين الانحراف في البيئة الغربية عنه في البيئة الإسلامية، ومن بين أبرز الاختلافات أنهم في الغرب صنعوا تلك الانحرافات، بينما قلّدها بعض المسلمين في الشرق، فهناك إنتاج وهنا تقليد، مع ما يصاحب ذلك من عُقد يصعب حلّها مع المقلد، فإن المُنتِج يعرف حدود مُنتَجه، ويسهل عليه تغييره وتصحيحه, بخلاف المقلد الذي يُقفل عقله عن النقد لشعوره بالعجز والضعف أمام من قلدهم والانبهار بهم (¬1). وقطعًا هناك مجموعة كبيرة من المبتعثين لتعلم تلك العلوم ¬

_ (¬1) لقد ساد التقليد حتى في طوائف من المنتسبين للشريعة وأوجبوه، ومع ذلك فقد نهى عنه المحققون من العلماء، وفرقوا بينه وبين الاتباع، وبينوا خطورة التقليد وآثاره، فكيف إذا =

وهدفهم نقلها لبلادهم، ويشكرون على تلك التضحيات والجهود والتعب والمشقة والسهر والمعاناة، عندما نتكلم على تلك الثلة التي غامرت نيابة عن العالم الإسلامي، فإنه لا يسع الباحث إلا تذكر الصعوبات والمعاناة التي واجهوها، ولكن قدَرهم أنهم كانوا في وقتٍ صعب، وعكّر تلك المسيرة أن بعضهم قد اخترقه التغريب والبعض حول جهده ليكون أداةً لمشاريع لا تخدم تقدم الأمة أو قوتها ورقيها. ولا شك أننا بعد سنوات من جهدهم نجد العلوم النافعة منتشرة في الأمة، وأصبحت معروفة غير مستغرَبة، وهو أمر ليس بالسهل لمن تأمل البدايات والصعوبات التي قابلت تلك التجربة حتى وصلت إلى الحال التي نراها. وبما أن هدف البحث هو النظر في مجال الانحراف بالعلم وكشف من جعله أداة في الصراع مع الدين، فسأحاول تحليل التجربة التاريخية الحديثة للبحث في أسباب الانحراف بالعلم من أجل الوعي بها والانتباه لخطرها. قد تختلف صور تحليل الموضوع ورصد الأسباب، وقد رأيت من الأنسب في تحليل إشكالية البحث وكشف أسباب الانحراف بالعلم ورصد البيئة الفكرية والاجتماعية المنتجة لذلك، أن تكون من خلال الأسباب الآتية: 1 - ضعف مؤسسات الأمة العلمية. ¬

_ = كان التقليد لأمة كافرة وحضارة علمانية مادية انتشر فيها الإلحاد، انظر مثلًا: أعلام الموقعين، لابن القيم، فصل التقليد وأقسامه، وانظر: جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر، باب فساد التلقيد، وانظر كلام الشنقيطي: أضواء البيان، [سورة محمد: 24] 7/ 430 - 477، وانظر: فتاوى ابن تيمية، أصول الفقه، فصل في التقليد الذي حرمه الله، 19/ 260 وما بعدها، وانظر فيه أيضًا: مسألة في الاجتهاد والاستدلال والتقليد والاتباع، 20/ 15 وما بعدها، وغالب الجزئين: 19 و 20 من الفتاوى، فضلًا عن كلام الشوكاني في: إرشاد الفحول، ومن تأمل في كتاب شيخ الإسلام: اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، عرف مشكلة التشبه والتقليد، وسبب حرص الإسلام على تميز أهله وتشدده في النهي عن التشبه بالأمم الأخرى. . . .، وانظر الفصل المميز الذي عقده ابن خلدون في مقدمته بعنوان: الفصل الثالث والعشرون في أن المغلوب مولع أبدًا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده 2/ 510، وانظر: تحليل معاصر لجزء من المشكلة عند مالك بن نبي، وهي: القابلية للاستعمار في أغلب كتبه، انظر مثلًا: شروط النهضة ص 145 وما بعدها.

2 - ضعف المدرسة الحديثة ومشكلة مدارس الأقليات. 3 - دور الصحافة "نشأتها وتمكن النصارى منها وتوجيههم التغريبي لها". 4 - دور التيارات الفكرية الوافدة وتنظيماتها كالماسونية والسيمونية. 5 - دور الاستعمار. 6 - أثر مشاركة التيار التغريبي في البيئة الثقافية الجديدة. فقد أسهم "ضعف المؤسسة العلمية الداخلية" في إعطاء مساحة خطيرة للمخالف بحيث يتحرك فيها بأهدافه وأهوائه، وتعود أهمية تحليله للوعي بالمشكلة الذاتية وكيفية تجاوزها. أما "المدرسة العصرية" التي اهتمت بالعلوم الجديدة فقد كانت ضعيفة في تحقيق الاحتياج ومقاومة الانحراف، فما سبب ضعفها عن مقاومة الانحراف بالعلم، بل مشاركتها أحيانًا في ذلك؟ أما وسيلة الرأي العام "الصحافة" ولاسيّما تلك التي كان لها دور في التعريف بالعلوم العصرية، فسنبحث عن دورها الخطير في تعميم المشكلة. ثم ننظر بعدها في دور أول التيارات الفكرية ظهورًا وتنظيماتها الاجتماعية التي استثمرت مدخل العلم العصري، وأشهرها "الماسونية والسيمونية"، وما تبعها من ظهور تيارات فكرية تغريبية علمانية. ويأتي "الاستعمار" الذي حلّ بالمسلمين كأخطر الأحداث التي وقعت بالمسلمين ودوره في المشكلة، ومنه إلى الأخير من الأسباب وهو "البيئة الجديدة أو الجو الثقافي الجديد" الذي كان أرضًا خصبة لنمو ظاهرة الانحراف بالعلم.

أولا: ضعف مؤسسات الأمة العلمية

أولًا: ضعف مؤسسات الأمة العلمية ألمّ بالأمة الإسلامية في عصورها الأخيرة ضعف شديد، عمق منه انتشار التصوف والإرجاء وغيرهما، ومدّ هذا الضعف بأطرافه إلى جميع المؤسسات بما في ذلك أهمها وهو الجانب العلمي (¬1) بعلمائه وعلومه ومعاهده. وعندما ضعف الجانب العلمي لم يستطع تلبية احتياجات الأمة كما كانت حاله قديمًا فترة قوته، وتتسع احتياجات الأمة يومًا بعد يوم الاحتياجات الدينية والدنيوية، وفي مقابل هذا الاتساع جاء تخلّف الجانب العلمي، وضعْف أمره فلم يستطع سدّ ذلك العجز وتلبية الحاجة فضلًا عن قيادة الأمة كما هو المأمول من أهل العلم. ويغلب على المؤسسة الضعيفة الخوف من الاعتداء والهروب من مواجهة الصعوبات، وقد تلجأ إلى حيل مختلفة لعدم القيام بالواجب، وقد كان هذا حال الجانب العلمي في عصور المسلمين الأخيرة. وزاد من سوء الموقف انتشار التصوف (¬2) والإرجاء والكلام والتقليد والتعصب المذهبي بين كثير من العلماء وداخل المحاضن العلمية (¬3). وقد عُرض في الفصل السابق كيف ضَعُفَ حال ¬

_ (¬1) لقد اخترقت المؤسسات العلمية من جهتين: (الكلام) و (التصوف)، أخذ الأول حيزًا كبيرًا من مجال النظر، والثاني من مجال العمل، وأثقلا خط سير الأمة، فأحدهما بالنظر فيما لا حاجة له مما يرهق العقل دون ثمرة فضلًا عما نبع عنه من شرور، والثاني بالعمل فيما لا نفع منه مما يرهق حياة الأمة دون أن تكون على منهج سليم. (¬2) انظر: وفيات الأعلام في: تاريخ الجبرتي، تجد أكثرهم على هذه الحال، وانظر: الأزهر في ألف عام، د. بيارد دودج ص 58 وما بعدها ترجمة، د. حسين فوزي. (¬3) ذلك أن ضعف الجانب العلمي له صلة بالضعف العام، وهو ضعف أساسه عقدي ديني، وقد فتح ذاك الضعف الباب لمجموعة أسباب تضافرت لتأخيرنا دينيًا ودنيويًا، وإلا فكل =

الاحتياجات المعرفية الجديدة وعدم قدرة المؤسسات التعليمية على تلبيتها

العلوم الشرعية داخل المؤسسات التعليمية، ورأينا كيف أدى هذا الضعف إلى إخراج العلوم الدنيوية النافعة للأمة من إطار العلم والتعلم، فأهمل تعلمها وتحصيلها والانتفاع بها إلا من حالات فردية لا أثر لها. تُركز هذه الفقرة على المشكلة الذاتية التي فتحت الباب للمتغربين وأمثالهم ليفرضوا رؤيتهم على جزء من حركة العلم الحديث ويوجهوه بما يخدم أهدافهم، تركز على الخلل الموجود فينا، وتسبب في فتح المجال لهم؛ لأنهم يفرحون بكل فرصة يجدونها. وسنلاحظ بأن الخلل الذاتي له خطره مما سمح باتساع المشكلة وعقّد فيما بعد من قيمة المعالجات المطروحة. الاحتياجات المعرفية الجديدة وعدم قدرة المؤسسات التعليمية على تلبيتها: مع بزوغ العصر الحديث ظهرت احتياجات خطيرة لم تكن المؤسسات العلمية الموجودة قادرة على تلبيتها: سواء كان ذلك على مستوى الأمة في تحسين معايشها الحياتية، من صناعة أو عمارة أو طب أو غيرها، أو على مستوى التحديات الخارجية من خلال تلك التهديدات الخطيرة التي بدأت تطلّ بشرورها على المسلمين وتحتاج إلى قوّة مختلفة تمام الاختلاف عما كُنّا نعهده ونعرفه. ظهرت المؤسسات التعليمية ضعيفة وعاجزة أمام هذه التحديات، وقد فتح هذا الضعف الباب لمجموعة مشكلات: منها أن المجال أصبح مفتوحًا للقوى الخطيرة ذات الأهداف المشبوهة أن تدخل الساحة وتوجه المسار لصالحها بحجة سدّ النقص عند المسلمين، ومن ذلك انتشار المدارس الأجنبية ومدرسيها داخل العالم الإسلامي وتوجيههم العلم وفق أهدافهم، ومن آثار ذلك تلك الازدواجية التي ما زال التعليم يعاني منها في كثير من بلاد المسلمين بين تعليمين، ذاتي وأجنبي. ومنها صناعة مشكلات نظرية ومنهجية في أثناء الاحتكاك بالتعليم الغازي لبلاد المسلمين أثّرت كثيرًا في مستقبل العلاقة بين العلوم الدينية والدنيوية، وذلك ¬

_ = أمة لا تُعرض عن نفع مادي وتطور دنيوي، والأصل الرغبة في ذلك، ولكنه الضعف العام والانحراف عن مقاصد الإسلام وغاياته الذي حرمهم من إقامة دينهم ودنياهم على الوجه المشروع.

نموذج الأزهر

أن المؤسسات الإسلامية لم تكن في حجم التحدي، فأخرجت مواقف دفاعية أو تبنت سياسة الهروب من المشكلة دون مواجهتها، فجاء اللاحق وأتمّ المشوار، فاتسع الخرق على الراقع. نموذج الأزهر: عُرفت المؤسسات العلمية داخل المساجد الكبيرة أو بجوارها، مثل الحرمين: "مكة والمدينة" أو الجامع الأموي بدمشق أو جامع القرويين بالمغرب أو جامع الزيتونة بتونس أو جامع محمد الفاتح في مركز الدولة العثمانية في إستانبول، وغيرها. ويبقى من أشهرها وأهمها في العصور الأخيرة جامع الأزهر بمصر؛ والذي كان من أهم مؤسسات التعليم الإسلامية، حافظ علوم المسلمين ووجهة طالبي العلم من كل مكان. والطريف في هذا البحث أن مشروع طلب العلوم العصرية انطلقت من أرض الأزهر، مما يجعله نموذجًا ممتازًا للدارسة والبحث والتحليل، فضلًا عن كونه مركزًا عربيًا إسلاميًا عاصر المشكلة بخلاف التجارب الأخرى الإسلامية، فقد كانت غير عربية، مثل مركز السلطنة العثمانية أو تجربة المسلمين في الهند أو التجربة الفارسية في إيران. والغرض من بحث هذه الفقرة التأمل في المشكلات المرتبطة بالعلوم العصرية: كيف ولدت؟ وكيف ظهرت المعالجات في مؤسساتنا الإسلامية؟ وما جوانب القوة والضعف فيها؟ حتى نستفيد منها لمستقبل أمرنا، وهي وقفة عسيرة على النفس؛ لأنها وقفة مع مؤسسة عزيزة على النفس، ومع ذلك فهو أمر مهم. برغم الضعف الذي أصاب مؤسسات المسلمين العلمية، بما في ذلك أشهرها "الأزهر"، وعدم قدرته على قيادة الأمة وتقديم الحلول، إلا أن ذلك لا ينسينا الحسنات الكثيرة لهذا المعلم البارز، ولعل من أهمها لمن يقرأ في تاريخه ما يأتي: - أنه من بين أهم المؤسسات العلمية التي نجحت في الحفاظ على وجودها رغم كل الأحداث التي عصفت بالمسلمين. - أنه من أعظم الحصون التي حفظت لنا علوم الشريعة، من تفسير وحديث بعلومهما العظيمة، ومن فقه وعلومه، واللغة العربية وعلومها، وغيرها من العلوم

قصة الوالي العثماني مع الأزهر ودلالاتها

الإسلامية، والأزهر إلى اليوم هو أحد أهم مراكز العالم العلمية في هذه العلوم. - أن علماءه كانوا عبر السنين سندًا للعامة والفقراء -بعد الله -سبحانه وتعالي-- من ظلم الولاة وأمثالهم، وما إن يتجاوز الولاة ومن تحت إمرتهم الحدود ويتضرر العامة بذلك حتى يلجؤوا إلى علماء الأزهر، فيذهبون بأنفسهم لينكروا على ذاك الوالي ويرفعوا المظالم عن الناس. كما أنه كان مركزًا لانطلاقة الجهاد ومدافعة الأعداء (¬1). ولكن الأزهر رغم مكانته الشامخة لم يسلم من آثار الضعف والتخلف التي نزلت بأرض المسلمين، وكان أمل الأمة في مثل هذه المؤسسات أن ترفع الضعف عن نفسها وعن غيرها، ومع ذلك فالضعف كان أثقل وطأة، والمؤسسات العلمية مشغولة بأمور لم تكن هي الأنسب بمقامها، وهذا ما نحاول استبصاره الآن. قصة الوالي العثماني مع الأزهر ودلالاتها: يذكر المؤرخ المشهور "عبد الرحمن الجبرتي" قصة طالما ترددت في الكتابات المعاصرة وإن كنتُ قد استنبطت منها ما لم تُركز عليه تلك الكتابات، ففي حوادث سنة (1162 هـ)؛ أي: قبل الحملة الفرنسية على مصر بخمسين سنة "كانت 1212 هـ" -أنه تم تولية "أحمد باشا" على مصر، فوصل القلعة بالقاهرة غرة المحرم سنة (1162 هـ) (¬2)، "وكان من أرباب الفضائل، وله رغبة في العلوم الرياضية، ولما وصل إلى مصر واستقر بالقلعة وقابله صدور العلماء في ذلك الوقت، وهم الشيخ عبد الله الشبراوي شيخ جامع الأزهر، والشيخ سالم النفراوي، والشيخ سليمان المنصوري، فتكلم معهم وناقشهم وباحثهم، ثم تكلم معهم في الرياضيات، فأحجموا، وقالوا: لا نعرف هذه العلوم، فتعجب وسكت". وكان الشيخ الشبراوي ممن يتردد على الوالي، وفي إحدى الجلسات قال له الباشا: "المسموع عندنا بالديار الرومية أن مصر منبع الفضائل والعلوم، وكنت في غاية الشوق إلى المجيء إليها، فلما جئتها وجدتها كما قيل: تسمع ¬

_ (¬1) انظر مثلًا: ودخل الخيل الأزهر، محمد جلال كشك، وانظر: جهود الأزهر في الرد على التيارات الفكرية المنحرفة. . . .، د. صلاح العادلى. (¬2) انظر: تاريخ الجبرتي 1/ 194.

بالمعيدي خير من أن تراه. فقال له الشيخ: هي يا مولانا كما سمعتم معدن العلوم والمعارف. فقال: وأين هي وأنتم أعظم علمائها، وقد سألتكم عن مطلوبي من العلوم، فلم أجد عندكم منها شيئًا، وغاية تحصيلكم الفقه والمعقول والوسائل، ونبذتم المقاصد؟! فقال له: نحن لسنا أعظم علمائها، وإنما نحن المتصدرون لخدمتهم وقضاء حوائجهم عند أرباب الدولة والحكام، وغالب أهل الأزهر لا يشتغلون بشيء من العلوم الرياضية إلا بقدر الحاجة الموصلة لعلم الفرائض والمواريث، كعلم الحساب والغبار. فقال له: وعلم الوقت واستقبال القبلة وأوقات الصوم والأهلة وغير ذلك؟ فقال: نعم معرفة ذلك من فروض الكفاية، إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وهذه العلوم تحتاج إلى لوازم وشروط وآلات وصناعات وأمور ذوقية، كرقة الطبيعة وحسن الوضع والخط والرسم والتشكيل والأمور العطاردية، وأهل الأزهر بخلاف ذلك، غالبهم فقراء وأخلاط مجتمعة من القرى والآفاق فيندر فيهم القابلية لذلك، فقال: وأين البعض؟ فقال موجودون في بيوتهم يسعى إليهم" (¬1). يقول الجبرتي: إن الشيخ دلّ الوالي على والد المؤرخ، فأرسل له الوالي وسرّ برؤيته، وكان يتردد إليه يومين في الأسبوع السبت والأربعاء، وكان الوالي يقول: "لو لم أغنم من مصر إلا اجتماعي بهذا الأستاذ لكفاني"، وتلقى على يديه بعض الأمور الرياضية (¬2). [وقفات مع الحدث]: وهنا مع هذا النص المهم بعض الوقفات: أولها: مكانة الأزهر ومصر حتى في مركز الخلافة، وهذا يؤهل الأزهر وما حوله ليكون النموذج المناسب للبحث، فالوالي يقول: "المسموع عندنا. . . . إلخ". ثانيها: الانفصال بين السلطة والمؤسسة العلمية. تعمل المؤسسة العلمية -الأزهر هنا- بعيدًا عن السلطة، فصحيح أن شيخ الأزهر يأتي التصديق على تعيينه من قبل الوالي بعد عملية الترشيح التي يقوم بها ¬

_ (¬1) انظر: تاريخ الجبرتي 1/ 195. (¬2) انظر: المرجع السابق 1/ 196.

أهل الأزهر، إلا أن الأزهر يستقل بعد ذلك بعمله، ويواصل عمله في التعليم وتخريج من يقوم بالقضاء والفتيا والإمامة والخطابة وما في بابها، وكل ذلك دون تدخل ظاهر من الوالي، ولاسيّما أن الولاة في تلك المرحلة يتمّ تغييرهم سريعًا. ولا شك أن أي مؤسسة علمية ترغب في الاستقلال عن أهواء السياسة والسياسيين حتى تستطيع القيام بدورها العلمي أحسن قيام، ولكن الاستقلال إذا لم يصحبه دعم ورعاية من قبل السلطة ومن قبل قيادات المجتمع يتحول إلى مشكلة من جهة إمكانيات المؤسسة العلمية؛ لأن المؤسسة العلمية لا يمكنها القيام بنفسها إلا في ظل دعم معنوي ومادي كبير، ولاسيّما في تلك المجالات الدنيوية التي تحتاج إلى تجريب وأدوات وأماكن خاصة، وهذه كلها تتطلب الكثير من الدعم. قد لا يحرص الوالي على دعم الأزهر؛ لأن بقاءه في الولاية محدود بزمن قصير، والأزهر اكتفى بحاله التي هو عليها، في خدمة جانب من العلوم على الضعف الذي لحق بها. وإذا جاء أحد الولاة ممن له رغبة في العلوم والمعارف فلا يتجاوز ذلك حد الرغبة الشخصية والاستمتاع الذاتي كما حصل من الوالي السالف الذكر، فبعد أن حصل على مطلوبه الشخصي لم يتجاوزه إلى تحقيق حاجة الأمة، وهو نوع من الأنانية وعدم استشعار المسؤولية، وهذا من والٍ مدحه الجبرتي فكيف بغيره، كما أن الأخطر أن الوالي جعل علاقته بالمؤسسة العلمية علاقة مصالح، محتاجًا إلى دعمها فقط وضبطها للجمهور، وهذا مما أضعف مثل تلك المؤسسات. ثالثها: عدم تجاهل المؤسسة العلمية أهمية بعض العلوم الدنيوية فالوالي هنا كان محبًا للعلوم الرياضية فسأل عنها, ولكن هناك علوم في الأهمية نفسها وربما أكثر لم يسأل عنها، مثل الطب والعلوم الطبيعية النافعة في الصناعة وغيرها، مما يدل بأن ما يبحث عنه هو ما يلبي حاجته لا ما ينفع الأمة، وقد لفت شيخ الأزهر انتباه الوالي بأسلوب لطيف إلى أمور: أ- أنه بيّن حكم تعلمها، وجعلها من فروض الكفاية؛ أي: أن المؤسسة التعليمية لا تمنعها، بل هي تراها من الواجبات على الأمة، إذا قام بها البعض وتحقق وجودها سقط الوجوب والإثم، ويبقى عندئذ في دائرة الإباحة، فكيف

يصح قول من يتهم المؤسسات الإسلامية برفضها لمثل هذه العلوم ومنع تعلمها أو تحريم تعلمها؟! ولكن إذا كان ذلك من فروض الكفايات فلماذا لم تظهر في الأزهر؟! هنا ننتقل إلى الأمر الآخر الذي لفت شيخ الأزهر الوالي إليه. ب- أنه بيّن سبب غيابها عن الأزهر، وذلك يعود إلى الضعف المادي، والأزهر لا يستطيع القيام بذلك، فهذه العلوم تحتاج "لوازم وشروطًا وآلات وصناعات"، وهذه تحتاج إلى الدعم المالي الذي يوفر تلك الأمور، وهي إلى يومنا هذا مكلفة للغاية، وكذلك الباحث أو المشتغل فيها يحتاج إلى المال لتطوير مهاراته وشراء ما يحتاجه لتكرير تجاربه التي قد تفشل مرارًا حتى يصل إلى مراده، ولكن طلاب الأزهر أغلبهم من الفقراء، فلا يمكنهم القيام بهذه الأمور، بخلاف الجبرتي (¬1) الذي تعرّف عليه الوالي؛ فقد كان محبًا لمثل هذه العلوم، وكان ثريًا بحيث يستطيع توفير ما يحتاجه بنفسه. وكان يمكن أن يكون هذا التنبيه من شيخ الأزهر للوالي دافعًا لقيام الوالي بواجبه نحو فروض الكفايات، ولكن أيامه محدودة كغيره، ولذا كانت المسؤولية أكبر على المؤسسة العلمية -الأزهر-؛ لأنه مؤسسة مستقرة الحال ومن شأنها العناية بمثل هذا الأمر، وقد يكون اعتذار شيخ الأزهر أشبه بالحيلة النفسية؛ للخروج من المساءلة بأعذار ترفع الحرج عن الأزهر، وإن كان الباحث المدقق لا يُغفل الأثر السياسي وخطره في عدم تحقق فروض الكفايات، ومن خلال المقارنة بتاريخ الأمة القديم أو بالمقارنة بغيرنا من الأمم كما حدث في أوروبا الحديثة نجد الصلة البارزة في باب العلوم الدنيوية بين السلطة والمؤسسات العلمية، حيث نجد الدعم السخي والحث والجوائز والتشجيع والحماية والرعاية من قبل السلطة للمؤسسات العلمية والعلماء، والعتب هنا على مؤسسة كالأزهر، أنه كان قائمًا بنفسه وعنده بعض الأوقاف، مما يجعله قادرًا على تحقيق شيء من الأمر. ومع ذلك فعلينا أن نتذكر بأن "العلوم الدنيوية" مرتبطة في تلك المرحلة بحاجات الدولة، والدولة قد دخلها الضعف والتخلف، بخلاف "العلوم الدينية"؛ فهي مرتبطة بهوية الأمة وواجبها العالمي، ولذا سيبقى هذا الدين محفوظًا بأمر الله سبحانه، ويظهر كل فترة من يجدد للأمة أمر دينها، وعلى هذا فإن مساءلة الأزهر ¬

_ (¬1) انظر: ترجمته في كتاب ابنه عبد الرحمن، تاريخ عجائب الآثار 1/ 308 وما بعده.

مشكلات ذاتية للمؤسسات العلمية الإسلامية

تنصب أولًا عن أثره في حفظ العلوم الدينية، أما العلوم الدنيوية، فتُسأل عنها الدولة ويُعاتب الأزهر في تأخره عن إعطاء التصور والرؤية حول العلاقة بالعلوم العصرية الموجودة في أوروبا، وتأخره عن وضع المعالجة الشاملة القوية للمشاكل الناجمة عن إدخال مثل تلك العلوم أو المتوقعة. والرؤية الشاملة لا يعبر عنها بفتوى فقط، كما أن باب طلب العلوم النافعة ليس محصورًا بباب إعداد القوة الحربية، بل هناك أبواب أخرى يحتاجها المجتمع المسلم كالطب وأنواع من الصناعات والهندسة والإدارة وبناء المدن وأدوات ذلك وغيرها, ولا يكتفي في المعالجة الصحيحة للمشكلات برمي المشكلة على حلول قديمة قدمت ما يناسب عصرها من علماء مجددين وأئمة في الدين، إلا إذا تشابهت الحاجات، فعلى مثل هذا النقص كان يأتي العتب على الأزهر وغيره. ولذا عندما تأخر الأزهر وغيره عن تقديم المعالجات الشاملة للمشكلات جاءت الإجابات من خارجه، وتُرك المجال لغير علماء الشرع ليتحدثوا في مثل هذه الأمور. مشكلات ذاتية للمؤسسات العلمية الإِسلامية: يوصلنا التحليل السابق إلى نتائج مهمة في سياق المشكلة، فالأزهر كمؤسسة علمية لم يكن يعترض على العلوم الطبيعية والرياضية النافعة، بل يرى أنها من فروض الكفايات، ولكنه في الوقت نفسه لم يحقق هذا الفرض الكفائي بما يحوله إلى علم نافع للناس في حياتهم الدنيوية، ويعتذر الأزهر بضعف دعم السلطة له، أي: أنه أحال مشكلته إلى السلطة، والذي يظهر بأن هناك مشكلة أعمق لم يذكرها الشيخ، تتمثل بنوع العلم السائد في الأزهر وأثره في أهله وفي المجتمع فيما بعد، فمع اختراق التصوف والكلام والتقليد والتعصب المذهبي والجمود العلمي لحقل العلوم الدينية، امتد أثره إلى حقل العلوم الدنيوية رغم الاعتراف بأنها من فروض الكفايات، وهذا ما أجده أكثر ضررًا على المؤسسة العلمية؛ إذ انشغلت بعلوم التصوف والكلام، وظهر التعصب المذهبي مما عطل العلم النافع الديني والدنيوي. فلم يُفَرق مثلًا بين النصوص التي تذمّ الدنيا والانشغال بها، وبين واجب القيام بتحقيق العلم الدنيوي النافع الذي يُحسّن من حياة الناس، وكذا يصنع منهم قوة أمام أعدائهم، ففي الجانب الأول -مما يُحسن حياة الناس- مثل علوم

الاحتلال الفرنسي ثم ولاية محمد علي وآثار ذلك على الأزهر

الطب والعمران والمدنية من بناء وطرق ومستشفيات وزراعة وصناعة وغيرها، وفي الجانب الثاني مثل الإدارة والصناعة الحربية، وما تعتمد عليه من معارف رياضية وفيزيائية وكيمائية، فكان المتسرب إلى الأذهان أن هذه العلوم هي من الدنيا المذمومة، فتُهمل عند الكثير، ولا يُحرص في المؤسسات العلمية على تحصيلها, ولا يدفع بعض الناس لمعرفتها وتعلمها، وقد كانت هذه من المفاهيم الخاطئة التي تسربت من خلال انتشار التصوف والجهل وإهمال علوم الدين بصورتها النقية كما هي عليه في عهد السلف الصالح (¬1). أي: أنه يمكن التسليم مع نص الجبرتي بأن السبب الظاهر حول ضعف الأزهر في تحقيق علوم الكفايات هو ضعف الدعم المادي، وما يُضاف إليه هنا هو السبب الخفي وهو عميق الجذور في المؤسسات العلمية المتأخرة، وهو تسرب مفاهيم غير صحيحة إلى روح تلك المؤسسات أسهمت فيما بعد، ولو بشكل خفي وغير مباشر في ضعفنا في المجالين الديني والدنيوي. الاحتلال الفرنسي ثم ولاية محمَّد علي وآثار ذلك على الأزهر: وقع الدرس الأقسى للأزهر -كنموذج لمؤسسة علمية- بعد خمسين سنة بالاحتلال الفرنسي سنة (1212 هـ -1898 م)، فقد أُدخل الأزهر بالقوة في إدارات سلطة الاحتلال، وكان الديوان الذي أقامه بونابرت مُشكّلًا من قيادات المجتمع وأهمهم علماء الأزهر، وكانوا يحضرون الاجتماعات واتصلوا في الوقت نفسه بعلماء الحملة، منهم حسن العطار الذي تولى مشيخة الأزهر فيما بعد ومنهم المؤرخ الجبرتي الذي جُعل مفتيًا للمذهب الحنفي فيما بعد، فضلًا عن علماء آخرين وإن لم يُذكر احتكاكهم المباشر بعلماء الحملة الفرنسية. ولا شك أن الأزهر قام بأعمال بطولية في مواجهة الاحتلال بحسب استطاعته، فهو في النهاية مؤسسة غير عسكرية، ومع ذلك قاد المقاومة والجهاد مما عرّضه لأكثر من مرّة للضرب بالمدافع والاقتحام من قبل جيوش المحتل (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين. . .، علي الزهراني ص 629 - 651 مع بقية الباب الثاني. (¬2) انظر: الكتاب المميز ودخل الخيل الأزهر، محمَّد جلال كشك، ففيه وصف لمقاومة الأزهر ودوره البطولي.

من الطبيعي خلال الاحتلال أن يتفرغ الأزهر لدفع هذه النازلة، وقد كشف الله سبحانه الغمة عن الأمة بعد معاناة لما يقرب من خمس سنوات، وقد شارك الأزهر في دفعها، بل كان المحرك لها، وبعد خروج المحتل تدخلُ مصر في دوامة من الصراعات، التي لم تهدأ إلا بعد أن قام مجموعة من علماء الأزهر بتشجيع "محمد علي"، وحثه أن يمسك بزمام الأمر على أن يحكم بالشرع ويقيم العدل ويرفع أسباب الفتن، وتوصل محمَّد علي عبر الأزهر إلى ولاية مصر، فاستقر الأمر لهذا الوالي (¬1)، ولكن تلك الولاية فتحت شهية محمَّد علي نحو السلطة والتوسع، وقد نجح في ذلك (¬2) وتحول الأمر في مصر إليه وإلى أبنائه من بعده. بالرغم من الدور الحسن للأزهر في وصول الوالي إلى ولايته وتمكنه من الحكم، إلا أنه لم يرد الجميل، فبعد أن تمكن الوالي من الحكم قام بإقصاء الأزهر عن مكانته العلمية، وذلك بإيجاد تعليم آخر منافس للمؤسسة القديمة، يُدرِّس فيها الأجانب ويحصل الخريجون منها على أعلى المناصب وأعلى المكاسب، واتسعت هذه الحال مع الأيام، فالتعليم الجديد يتسع على حساب التعليم القديم ويقتطع رويدًا رويدًا من أرض التعليم القديم مساحات أوسع (¬3)، وقد وجد الوالي أن سلطته تتعزز بالتعليم الجديد ولاسيّما أنه انصرف إلى ما يخدم الجيش، فالطب والهندسة والإدارة ترجع في النهاية لخدمة جيشه الذي يعطيه السلطة والنفوذ والقوة، فلم يكن تعليمًا يخرج الأمة من ضعفها. فنشأ التعليم الحديث بعيدًا عن التعليم القديم ومستقلًا عنه وبإدارة أجنبية، مع العلم أن هناك مشاركة أزهرية، فالطلاب للمعاهد الجديدة من أذكياء الأزهر وهناك بعض الأساتذة من الأزهر، ولكن هذه المشاركة تقتصر على التغذية فقط بالطلاب والمعلمين في بعض المواد دون أن تكون الصلة صلة معرفية وعلمية توجيهية (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: خبر وصوله للسلطة، تاريخ الجبرتي 3/ 43 وما بعدها. (¬2) انظر: نحو شهيته في التوسع، الدراسة التالية: سياسة محمَّد علي باشا التوسعية. . . .، د. سليمان الغنام. (¬3) انظر: الأزهر على مسرح السياسة المصرية، دراسة في تطور العلاقة بين التربية والسياسة، د. سعيد إسماعيل ص 162 - 163. (¬4) انظر: المقال المميز في مجلة المنار، آثار محمَّد علي في مصر 5/ 175 سنة (1320 هـ - 1920 م).

وقد تحولت هذه التجربة -وللأسف- إلى نموذج يحتذى في أغلب المتطلعين للصدارة في العالم الإِسلامي، حيث قام كل والٍ بإيجاد نموذج تعليمي مواز ومنافس للتعليم القديم (¬1) مع أنهما كانا في الحضارة الإِسلامية صنوان لا يفترقان، فعلوم الدنيا هي من العلوم المطلوبة شرعًا إذا احتاجتها الأمة فلِمَ تُفصل عن معاهد المسلمين العريقة بحيث يتحكم فيها الأجانب لفترة طويلة من الزمن؟! المهم بأن هذا النموذج السائد قد أضرّ بالعِلْمين وبمؤسستيهما مع الزمن: أما التعليم الجديد وعلومه، فقد أضرّها نموّها داخل المحيط العسكري ولأهداف عسكرية، فخرجت بذلك عن دائرة المؤسسات العلمية بما تعنيه تلك المؤسسات من توفر التصور والمناهج والعلماء والبحوث والمكتبات والحركة العلمية، وما يصاحب ذلك من نُموّ علمي ومعرفي يخدم العلم ذاته، فلم تنمُ كعلم وإنما كانت معاهد للوظائف لا للعلوم، بخلاف الأزهر فهو معهد للعلم، حتى وإن لم يجد الخريج من الأزهر وظيفة، فالمهم هو العلم: تعليمه ونشره وتحصيله ويأتي ما سوى ذلك تبعًا، ولذا كان طلاب العلم يأتون إليه من شرق الأرض وغربها دون أن تكون عندهم آمال سوى العلم ذاته. أيضًا تضررت العلوم الحديثة قيميًا، فكل علم لا يتحرك إلا في أجواء قيمية وثقافية وتصورية، وهذه القيم من روح الإِسلام، فهو الذي يعطيها الجانب المعنوي ويغذيها بالروح ويعطيها الأطر العامة والتصورات الكلية، ولكن هذه العلوم قد ارتبطت من جهة بالأجانب: إدارة وتدريسًا، وارتبطت بحضارة تنزع للمادية والعلمانية داخل التصور الغربي الحديث، ومن هذا الخليط نشأت مثل هذه العلوم بعيدًا عن المؤسسات العلمية الإِسلامية، ونشأت جسمًا غريبًا داخل جسد الأمة، مما صعّب تقبله وفتح الشبهات حوله والريبة فيه والخوف منه. أما التعليم القديم، فقد أضرته التجربة -أو النموذج الجديد- بعملية الإقصاء له وإهماله ووضع منافس له يستقطب الطلاب، ويستحوذ عليهم ويحولهم مع الأيام إلى منافسين للعلم المورث، بل رافضين له ونابذين، مع أن الأصل هو وجود التعاون والتكامل بين العلوم الدينية والدنيوية. ¬

_ (¬1) مما يقال بأن السلطان العثماني محمود الثاني قلده في ذلك فما بالك بغيره، انظر: الفصل السابق ص 507.

بوادر الاختلاف داخل الأزهر ومطلب التحديث

أيضًا تسببت هذه الحالة في إهمال المؤسسات العلمية الإِسلامية لطلب العلوم الدنيوية بحجة وجود معاهد خاصة بها، وإهمال اقتراح الرؤى والتصورات حول العلاقة بين علوم الأمة وبين العلوم الجديدة الموجودة في تلك المعاهد، إن غياب الرؤية يتضح من كثرة التأكيدات التي نجدها عند متزعمي تدريس العلوم الجديدة مثل "الطهطاوي" و"خير الدين التونسي" (¬1) وغيرهما، فهم يكثرون من الأدلة والتوضيح وذكر التجارب الإِسلامية وتكرير أقوال علماء سابقين في كونها من فروض الكفايات وغير ذلك. وقد كان الأولى أن يقدم الأزهر مثل هذه الأمور، فتخرج مؤلفات ومواقف توضح الحق في الباب والتصور الإِسلامي في الموضوع، فذاك آنذاك هو فريضة الوقت، ومما يؤسف له أننا لا نجد من ذلك شيئًا مشهورًا، ورغم طول الفترة الزمنية فلم يخرج شيء حول هذا الموضوع من داخل الأزهر، لم تقدم الرؤية ولم يظهر تبنيه لبعض المشروعات حول التأصيل الإِسلامي للموقف من هذه العلوم وماذا نفعل مع هذه العلوم بعد أن حدث لها ما حدث داخل الحضارة الأوروبية الحديثة، ولم يناقش بجدية هل يمكن فتح أقسام خاصة داخل الأزهر لبحثها وإيجاد المتخصص الأزهري فيها؟ على الأقل في الجانب النظري منها، إذا كان أهله يعتذرون بعدم الإمكانيات في جانبها العملي. ولم ينجح العطار والطهطاوي -وغيرهما- رغم كونهما من أهل الأزهر، ومن المتحمسين في الوقت نفسه للعلوم الموجودة في أوروبا، لم ينجحا في معالجة العلاقة بين الجديد والقديم، ولم ينجحا في إقناع الأزهر -المؤسسة العلمية الكبرى في العالم الإِسلامي- في تبني هذه العلوم والقيام على شأنها، أو على الأقل قيام الأزهر بوضع مخطط عام وتصور واضح حول موقف الأمة من هذه العلوم، كيف نأخذها؟ ولماذا نترك الأجانب يتولون تدريسها؟ ولماذا نتركها لهم ولأهل ملتهم ويتخلى المسلمون عن مهمتهم؟ إلى غير ذلك من الأسئلة. بوادر الاختلاف داخل الأزهر ومطلب التحديث: بدأت معالم الاختلاف داخل الأزهر، ففي الربع الأخير من القرن الرابع ¬

_ (¬1) انظر: رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث، د. محمَّد عمارة ص 375 وما بعدها، وانظر: خير الدين التونسي وكتابه أقوم المسالك. . . .، تحقيق ودراسة د. معن زيادة.

عشر/ النصف الثاني من التاسع عشر "كان بالأزهر يومئذ حزبان: شرعي محافظ. . وحزب صوفي أقل في محافظته من الشرعيين. . وحضر محمَّد عبده دروس كل من الحزبين، فسمع من الحزب الشرعي المحافظ دروس المشايخ: عليش، والرفاعي، والجيزاوي، والطرابلسي، والبحراوي. . ولكنه انتمى إلى الحزب الصوفي، وكان رائده الشيخ حسن رضوان. . . . وكان من هذا الحزب الشيخ حسن الطويل، والشيخ محمَّد البسيوني" (¬1)، وسيتحول الأمر بحسب رأي "العقاد" إلى "صراع خفي بين طلاب الإصلاح المجددين وبين شيعة الجمود والتقليد من المحافظين على القديم" (¬2)، وسيظهر أن أهم أسباب هذا الصراع هو الموقف من علوم الأزهر من جهة، فهل هي كلها تستحق التقدير، والموقف من العلوم العصرية من جهة أخرى، لماذا تبقى بعيدة عن الأزهر. لقد ابتعد النموذج الجديد الذي وضعه محمَّد علي عن أهدافه (¬3)، فذاك التعليم الموازي للأزهر والمعارض له أحيانًا قد انحرف مساره كثيرًا مع التحكم الأجنبي وتدخل أهواء السلطة، ومن أيام محمَّد علي إلى حفيده إسماعيل باشا وهناك طموح في إيجاد مجتمع على شاكلة المجتمعات الأوروبية، وظهرت بارزة عند إسماعيل في رغبته تحويل مصر إلى قطعة من أوروبا، ففتح الباب للأجانب من اليهود والنصارى بشكل لا مثيل له، وارتفع شأنهم، وتولوا من المناصب أعلاها، واستأثروا بإدارة التعليم وتوجيهه مستغلين طموحات الوالي في تغريب المجتمع (¬4). وبرغم ما حدث للتعليم مع الأجانب فلم يتحرك الأزهر الحركة المرجوة منه، بأن يتولى هو التعليم ويحاول سحبه منهم أو يوجد المشروع البديل، وربما لم يكن في مقدوره فعل ذلك وهو في الأصل واقع في مشكلاته الخاصة التي تُعطّل قيامه بالدور المطلوب. سأعرض الآن شهادة لأحد من عاصر تلك المرحلة وعاش معاناتها وهو "أحمد تيمور باشا"، فيذكر معاناته بين المؤسستين، المؤسسة الأزهرية والمؤسسة ¬

_ (¬1) الإِمام محمَّد عبده مجدد الدنيا بتجديد الدين، د. محمَّد عمارة ص 27. (¬2) انظر: محمَّد عبده، عباس العقاد ص 134، وانظر: أعلام الفكر الإِسلامي في العصر الحديث، أحمد تيمور ص 148 - 150. (¬3) انظر: واقعنا المعاصر، د. محمَّد قطب ص 208 وما بعدها. (¬4) انظر فقرة: المدارس والمدرس الأجنبي من هذا الفصل ص 588.

العصرية، فيقول: "فإني كنت خرجت من المدارس بعد تلقي ما يتلقى بها من العلوم المعروفة وأنا في سن العشرين. وقد علق بالعقيدة شيء من آثار التربية بهذه المدارس". مما يدلّ على نشاطها الذي يتجاوز تقديم العلوم والمعارف إلى هدمها العقائد والدين، ثم يقول: "إلا أني كنت مولعًا منذ الصغر بالإِسلام ومحاسنه، والمطالعة في السيرة النبوية، ومناقب الأصحاب والخلفاء الراشدين، فكان ينشرح صدري لأشياء، وينقبض من أشياء تعرض لي فيها شبهات، ثم كنت أعرض ما يظهر لي من مكارم الشريعة ومقاصدها على ما عليه الناس من البدع والمحدثات التي تمسكوا بها، وجعلوها من الأصول الدينية، فأجد التناقض والتصادم". يعترف "تيمور" بأنه وإن تأثر بدراسته، إلا أن تربيته الخاصة وحبه للإسلام وجهده الذاتي حماه بفضل الله من الابتعاد عن الدين، ولكنه في المقابل يشاهد في مجتمعه مظاهر يزعم أصحابها أنها من الدين، وفي مثل هذا الوضع فالمرجع لتوضيح الأمر هو الأزهر الذي يقابل تلك المدرسة التي أثّرت فيه، وهذا هو الأصل أن يعالج تلك المظاهر السلبية في المجتمع، فيقول: "فصرت أتردد على كثير من كبار علماء الأزهر وغيرهم، لعلي أجد عندهم مفرجًا، فأراهم أحرص من العامة على هذه الخزعبلات، حتى كدت أحكم بأنها من الدين، وأن الأمر دائر بين شيئين، فإما أن يكون الدين دين خرافات وخزعبلات تنفر منها الطباع السليمة، وإما أن يكون ما نراه حقًا، ولكن يمنعنا من قبوله إلحاد تأصل في النفس" (¬1). يكشف هذا الاعتراف عن عمق الأزمة التي عاشها بعض أبناء تلك المرحلة بين جهتين، جهة تشكك في العقيدة، وأخرى تحرص على الخزعبلات، ويقف الشاب حائرًا بينهما، وأبقاه حبه للإسلام داخل دائرة الدين وأوصلته الحيرة والتناقضات التي أمامه إلى حالة من اختلاط المفاهيم، إما أن الدين خزعبلات ¬

_ (¬1) أعلام الفكر الإِسلامي في العصر الحديث، أحمد تيمور باشا ص 100 - 101، وانظر: المقال المميز في مجلة "المنار" بعنوان: المدارس الوطنية في الديار المصرية 1/ 256 سنة (1316 هـ -1898 م)، وفيه يقول: (ومدارس الحكومة المصرية لا أثر فيها للصبغة الدينية، بل قيل: إن الوليد يدخلها بدين ويخرج منها مارقًا والعياذ بالله. . . .).

وربما هذا ما تحرص على زرعه المدارس الأخرى، وإما أن هذه الخزعبلات هي الدين فعلًا، ولكن الإلحاد المتسرب إلى النفس منع من الراحة إليها والاطمئنان بها. وإذا كان هذا الشاب الباحث عن الحقيقة والباذل لأسبابها قد وفق بأمثال الشيخ "حسن الطويل" (1250 - 1315 هـ) حيث كان من العلماء الذين خرجوا عن التقليد والتعصب وفتح قلبه وعقله للحق (¬1)، وعنه يقول تلميذه -ذاك الشاب المحتار-: "وكان -رحمه الله- سني العقيدة، صوفي المشرب، لا يحيد عن الشرع قيد إصبع، آخذًا بمذهب الإِمام ابن تيمية بمسألة الاستغاثة بالقبور والاستشفاء بالموتى، منكرًا على المبتدعة أشد إنكار. آية من آيات الله في معرفة التفسير وحل مشكلات الكتاب المبين، متضلعًا من الحديث، متحصنًا بالشريعة في كل علم يقرؤه من كلام أو حكمة أو تصوف أو رياضيات أو طبيعيات"، إلى أن قال: "ومع انحراف علماء الأزهر عنه؛ لإنكاره عليهم بدعهم وما درجوا عليه، فإنهم كانوا مقرّين بفضله، وكثيرًا ما كانوا يحتاجون إليه في معرفة أسرار الشريعة، وحل مشكلاتها، والرد على الطاعنين عليها من أرباب النِّحَل الأخرى والمرتدين" (¬2). فعند هذا الشيخ -العالم بالشريعة العارف بالعلوم الرياضية والطبيعية والمطلع على الأفكار والفلسفات- وجد الشاب حاجته، وما يروي غليله، وما يعالج ما اعتلج بصدره من خواطر حول العلاقة بين المدرستين وأهلها وموضوعاتها. لم يتحرر حسن الطويل من كل أحمال تركة العصور المتأخرة، ورغم اتصاله وانتفاعه بتراث ابن تيمية فإنه بقي على صلة بالتصوف والكلام وبعض ما يُثقل السائر الثائر، وهذا مما يجعل مادته مهدئة لما ينتاب أنفس الشباب دون أن تكون العلاج الناجع. بقيت أوضاع الأزهر على هذه الحال حتى جاء الزلزال الثاني لأرض مصر وهو الاحتلال البريطاني، حيث كان الأول مع الاحتلال الفرنسي وكان الثاني وهو الأطول مع الاحتلال البريطاني، وحسب كلام العقاد (¬3): فإن سلطات الاحتلال قد سحبت كل الإدارات من الباشا، وما أبقت له إلا المؤسسات الدينية ¬

_ (¬1) انظر ترجمته في المرجع السابق: أعلام الفكر الإِسلامي في العصر الحديث ص 93. (¬2) المرجع السابق ص 98. (¬3) انظر كتابه: (محمَّد عبده) ص 134 - 135.

حتى لا تثير حساسية الناس ومنها الأزهر، بينما تصرفت في بقية الإدارات تحت دعوى إصلاحها وتحديثها وتطويرها، وعندما لم يجد الباشا إلا تلك الوسائل الدينية وحتى لا يكون متخلفًا عن دعوات التحديث، فقد أراد أن يمارس سلطته عليها, ولكنه أراد -مع من حوله- مدخلًا مناسبًا وحيلة يحتالون بها، فكانت هذه الواقعة المهمة: تم الاتفاق "على استفتاء شيخ الجامع الأزهر، ومفتي الديار المصرية، في مسألة العلوم التي يجوز تدريسها في الجامع، ولا تعتبر العناية بها في أماكن العبادة مخالفةً للتقاليد الإِسلامية، وكلفوا عالمًا تونسيًا فاضلًا -هو الأستاذ محمَّد بيرم أشهر علماء جامع الزيتونة في عصره- أن يتوجه بهذا الاستفتاء إلى الشيخ محمَّد الإنبابي (¬1) شيخ الجامع يومذاك (1305 هـ -1887 م) فكتب إليه بعد تمهيد وجيز: ". . ما قولكم رضي الله عنكم: هل يجوز تعلم المسلمين للعلوم الرياضية، مثل: الهندسة والحساب والهيئة والطبيعيات، وتركيب الأجزاء المعبر عنها بالكيمياء، وغيرها من سائر المعارف، لاسيّما ما ينبني عليه منها في زيادة القوة في الأمة بما تجاري به الأمم المعاصرين لها في كل ما يشمله الأمر بالاستعداد؟ بل هل يجب بعض تلك العلوم على طائفة من الأمة بمعنى أن يكون واجبًا وجوبًا كفائيًا على نحو التفصيل الذي ذكره فيها الإِمام حجة الإِسلام الغزالي في إحياء العلوم ونقله علماء الحنفية أيضًا وأقروه، وإذا كان الحكم فيها كذلك فهل يجوز قراءتها مثل ما تجوز قراءة العلوم الآلية من نحو وغيره الرائجة الآن بالجامع الأزهر والزيتونة والقرويين. . أفيدوا الجواب لا زلتم مقصدًا لأولي الألباب"" (¬2). وقعت هذه الفتوى بعد ما يقرب من قرن ونصف من الحادثة المشهورة التي وقعت بين الوالي المحب لعلم الرياضيات وبين شيخ الأزهر، وسبق فيها إقرار ¬

_ (¬1) بحسب دراسة أزهرية حديثة بأنه كان من آثار الأفغاني والكواكبي وعبده يقظة في الفكر المصري (وكان من صدى ذلك التمهيد لإصلاح التأخر العلمي في عهد شيخه الرافض للتجديد -الشيخ الإنبابي- بحيلة وهي: إرسال استفتاء. . . .)، انظر: جهود الأزهر في الرد على التيارات الفكرية المنحرفة. . . .، د. صلاح العادلي ص 36. (¬2) محمَّد عبده، عباس العقاد ص 135 - 136.

شيخ الأزهر بكلام الغزالي والأعذار التي قدمها, ولكن هاهي السنين تمضي ومع ذلك لم تعالج المشكلة، ويبقى السؤال يتكرر، إما للجهل بالحكم أو للتعجب من عدم بذل المطلوب في تحقيق فروض الكفايات -لا بمعنى وجود من يعلمها وإنما وجود ثمرتها في الأمة، فالنقص حاصل والحاجة ملحّة ومع ذلك لم يقم الأزهر بدوره المطلوب- مما يجعل السؤال يتكرر والفتوى تتكرر، ومع ذلك فالحال كما هي عليه في الوقت الذي غزتنا فيه المدارس الأجنبية والتعليم الأجنبي ثم احتلنا الأجنبي ذاته، والمعالجة لا تتجاوز تكرير الفتوى دون عمل واقعي يصدقها، فلننظر إلى الجواب: ذكر "العقاد" بأن الشيخ الأنبابي كان يعلم مصدر الاستفتاء، فلم يهمله كما أشار عليه بعض أعوانه، وكتب في جوابه ما يأتي: ". . . . يجوز تعلم العلوم الرياضية مثل الحساب والهندسة، والجغرافيا؛ لأنه لا تعرض فيها لشيء من الأمور الدينية، بل يجب منها ما تتوقف عليه مصلحة دينية أو دنيوية وجوبًا كفائيًا، كما يجب علم الطب لذلك -كما أفاده الغزالي في مواضع من الإحياء- وأن ما زاد على الواجب من تلك العلوم مما يحصل به زيادة في القدر الواجب، فتعلمه فضيلة"، إلى هنا الفتوى عما لا يتعرض منها للدين، ثم جاء الكلام عما له تعرض بالدين، وهما "علم الهيئة والطبيعيات"، فقال الشيخ: "ولا يدخل في علم الهيئة الباحث عن أشكال الأفلاك والكواكب وسيرها علم التنجيم، المسمى بعلم أحكام النجوم -وهو الباحث عن الاستدلال بالتشكلات الفلكية على الحوادث السفلية- فإنه حرام كما قال الغزالي، وعلل ذلك بما محصله أنه يخشى من ممارسته نسبة التأثير للكواكب، والتعرض للأخبار بالمغيبات، مع كون الناظر قد يخطئ لخفاء بعض الشروط". ففرق الشيخ بين نوعين في علم الهيئة: نوع يدخل في الدراسات الطبيعية العلمية وآخر له صلة بالأمور الدينية، ولاسيّما مسألة الغيب، والملاحظ هنا أنه ينقل تصوره عن هذا العلم كما كان معهودًا في القرن الخامس الهجري. ثم انتقل في فتواه إلى العلم الثاني المُشْكل وهو الطبيعيات، فقال: "وأما الطبيعيات -وهي الباحثة عن صفات الأجسام وخواصها وكيفية استحالتها وتغيرها، كما في الإحياء في الباب الثاني من كتاب العلم- فإن كان ذلك البحث عن طريق أهل الشرع فلا مانع منها كما أفاده العلامة شهاب الدين أحمد بن

حجر الهيتمي في جزء الفتاوى الجامع للمسائل المنتشرة، بل لها حينئذٍ أهمية بحسب أهمية ثمرتها، كالوقوف على خواص المعدن والنبات المحصل للتمكن في علم الطب، وكمعرفة عمل الآلات النافعة في مصلحة العباد، وإن كان على طريقة الفلاسفة فالاشتغال بها حرام؛ لأنه يؤدي للوقوع في العقائد المخالفة للشرع كما أفاده العلامة المذكور. نعم يظهر تجويزه لكامل القريحة الممارس للكتاب والسنة للأمن عليه مما ذكرنا، قياسًا على المنطق المختلط بالفلسفة على ما هو المعتمد فيه من أقوال ثلاثة، ثانيها: الجواز مطلقًا، ونسبه الملوي في شرح السلم للجمهور، وثالثها: المنع مطلقًا، ونسبه صاحب السلم لابن الصلاح والنووي. قال الملوي: ووافقهما على ذلك كثير من العلماء. . . ."، إلى آخر الفتوى (¬1). اعتمد الشيخ في فتواه في باب الطبيعيات على عَلَم من علماء المسلمين في القرن العاشر، ولا شك أن الهيئة التي يتكلم عليها الغزالي في القرن الخامس أو الطبيعيات التي يتكلم عليها ابن حجر الهيتمي (¬2) في القرن العاشر قد تغيرت كثيرًا عمّا هو معهود في عصريهما، ومن الواضح أن التصور السائد عنها أنها علوم نظرية، والنافع منها محدود، بينما هي في حقيقتها وبعد التحولات الكبيرة التي عصفت بها قد أصبح لها فوائدها العملية وأصبحت عصب الحياة المادية، كما أن الإشكال يبقى قائمًا، فإذا كانت الطبيعيات مثار الجدل رغم أهميتها فلِمَ لم يتبن الأزهر أو غيره من المؤسسات العلمية الإِسلامية مثل هذه العلوم بحيث تكون تحت مظلته، فيؤخذ نافعها وتصفى من الملحقات المضرّة بها، أو يتبنى مشروع تصفيتها؟! إن ظهور هذه الفتوى المفصلة في وقت متأخر مع النقص الحاصل فيها، ليدل على أن الأزهر -فضلًا عن بقية معاهد المسلمين- قد سوّف كثيرًا في إخراج رؤية كاملة نابعة عن تشاور بين العلماء وتمحيص للموقف ودراسة متأنية للقضية، ثم تخرج تلك الرؤية بحيث تقطع الاضطراب، فإذا كانت المحاولات ¬

_ (¬1) الفتوى عرضها العقاد في كتابه: (محمَّد عبده) ص 136 - 137. (¬2) هو أحمد بن محمَّد بن حجر الهيتمي المصري (909 - 974 هـ) (1504 - 1567 م)، تلقى العلم في الأزهر، ومات بمكة، وله تصانيف كثيرة. انظر: الأعلام، خير الدين الزركلي 1/ 234.

في إعادة الاهتمام بالعلوم الدنيوية تعود لعشرات السنين، ومعاهد الأجانب تغزو بلاد المسلمين، وتجتذب أبناءهم، ومع ذلك لم يُحسم الأمر إلى تلك المرحلة، بل دخلنا القرن الرابع عشر -إذْ كانت الفتوى المشهورة سنة (1305 هـ) والحال على ما هي عليه. وقد فتح هذا التأخر والتسويف المجال لغيرنا، فملؤوا الفراغ بما يريدون حتى إذا جئنا بعد ذلك احتجنا إلى سنين لإزالة الترسبات الفاسدة المرتبطة بالعلوم العصرية. بعد أسبوعين من فتوى شيخ الأزهر صدرت الموافقة عليها من مفتي الديار المصرية، فقال: "إن ما أفاده حضرة الأستاذ شيخ الإِسلام موافق لمذهبنا، وما استظهره من أن الخلاف البخاري في علم المنطق يجري في علم الطبيعة أيضًا وجيه، والله -سبحانه وتعالى- أعلم" (¬1). نلاحظ ذاك التخوف في الخطاب الأزهري، فهو لم ينجح في تجاوز عقبة الخوف، وهي عقدة ترجع أحيانًا إلى الجهل بالشيء، ويتضح هنا في أن الحكم على هذه العلوم يستند إلى رؤية عرضها الغزالي -رحمه الله- في القرن الخامس، وما جاء بعده مما يعتمد عليه الأزهر هو فتاوى تعتمد أساسًا على مشروع الغزالي الذي ذكره في "إحياء علوم الدين" و"مقاصد الفلاسفة" و"المنقذ من الضلال" وغيرها. ولكن موقف الغزالي ومشروعه يتعلق بما عاصره وعرفه من علوم وأفكار وفلسفات، بينما هي قد تغيرت كثيرًا في القرون الأخيرة، وأصبح للعلوم الطبيعية والرياضية شأن مختلف في حياة الأمم، وتحول جزء كبير منها إلى محيط العلم وتخففت من الأبعاد الفلسفية في التطبيقات المباشرة، وما يتصل بالجانب الأيديولوجي والثقافي المصاحب لتلك العلوم فهو مما يتجاوز الجانب التطبيقي منها، وهنا كان من المهم لمؤسسات المسلمين العلمية الأخذ بزمام المبادرة لمعالجته، فَتُحقق الفرض الكفائي الذي تنص عليه فتاوى علماء تلك المؤسسات بأن يتم تحصيل تلك العلوم تحت إشرافها ويتم تطويرها في محيط ثقافي يختلف عن الأوروبي الذي تطورت فيه. ¬

_ (¬1) محمَّد عبده، عباس العقاد ص 137، وانظر: جهود الأزهر في الرد على التيارات الفكرية المنحرفة. . . .، د. صلاح العادلي ص 36، وهو حنفي المذهب بينما شيخ الأزهر كان شافعيًا.

أثر جمال الدين الأفغاني

أثر جمال الدين الأفغاني: وبينما الأزهر على هذه الحال، وكذا النشاط الديني والعلمي والفكري في مصر، إذ اقتحمها من زلزل واقعها، وقال مسارها الفكري وأحدث صدمة كبيرة داخل الأزهر، ذاك الشخص هو جمال الدين الأفغاني، ومع أن إقامته في مصر لم تكمل عشر سنوات، إلا أنه كان من بين أهم الشخصيات الإِسلامية أثرًا في تلك المرحلة، وأخطرها على مسيرة الفكر الإِسلامي فيما بعد. وقد كان الشباب الجدد يلتفون حول حسن الطويل لعلّه يخفف عنهم ما ألمّ بهم، ويحقق لهم ما يبحثون عنه، ولكن بعد مجيء الأفغاني تحولوا إليه فأدهشتهم دروسه وفهمه وعقله (¬1)، فوجدوه ملمًا بالتراث الإِسلامي، وجدوا عنده فوق ما عندهم مع أنهم طلاب الأزهر، وكذا وجدوه مطلعًا على الأفكار الجديدة: يجيد فهمها وتحليلها ونقدها, ولكن الرجل كان أميل إلى الفلسفة، وربما كان لهذا أثره في الأتباع، ولاسيّما الظن بأن طريق التعامل مع الواقع، ومع الأفكار الوافدة ومع التحديث ومع النهضة، هو أن يكون الشخص فيلسوفًا، أما علماء الدين والشريعة، فليسوا على قدرة في ذلك، مع أن تاريخ الإِسلام القريب منهم يثبت أن علمًا في الشريعة وإمامًا في الدين -كابن تيمية- أقدر على فهم العلوم والفلسفات والمناهج وتحليلها ونقدها وقيادة الأمة في المجال العلمي والفكري. والخطير أن الجيل الجديد زهد في الأزهر وفقد الأمل فيه، وكان الأمر أوضح ما يكون وأشدّ مع تلميذه الأشهر وهو الشيخ "محمد عبده". ومنذ مجيء الأفغاني ثم بروزه مع تلميذه الشيخ محمَّد عبده كرموز تقود الفكر الإِسلامي في كثير من بلدان العالم الإِسلامي، بدأ بعض طلاب العلم يدرسون خارج الأزهر، يأخذون عن الأفغاني وعبده وأمثالهما، مما صرف الأذكياء عن الأزهر، وهذا الشيخ محمَّد رشيد رضا يترك بلاده ويطلب أرض مصر لا ليلتحق بالأزهر، بل ليلتحق بحلقة الأفغاني، وعندما لم يجده تحول إلى تلميذه الشيخ محمَّد عبده (¬2)، ومع كل هذه المستجدات فلم يتحرك الأزهر ¬

_ (¬1) انظر قول أحدهم (الشيخ محمَّد عبده) في: زعماء الإصلاح في العصر الحديث، أحمد أمين ص 65. (¬2) انظر: السيد رشيد رضا. . . .، شكيب أرسلان ص 127 وما بعدها.

ليتبنى معالجة أوضاعه، ولاسيّما في مواجهة الأفكار الغازية. عندما تأخر الأزهر -فضلًا عن غيره- عن المواجهة الفكرية والعلمية حول الموقف من العلوم الدنيوية رغم اتساع دائرة الاعتناء بها، ومع الضعف في اتخاذ الموقف الصحيح والضعف في بيان الموقف الصحيح والمناسب، عندما لم ينجح الأزهر في ذلك تولى إدارة الموقف رجل من خارجه، جاء ليستقطب في تسع سنوات خيرة الشباب، واستطاع أن يفرض رؤية جديدة وتصورًا جديدًا أذهل الشباب آنذاك، حملهم على اتِّباعه فيما أصاب وفيما أخطأ، وذاك الرجل هو جمال الدين الأفغاني. يتميز الأفغاني عن علماء الأزهر بإدراكه لطبيعة التحدي وإن لم ينجح في تقديم العلاج، فهو الذي ردّ على الدهريين والماديين والدارونيين، وهو الذي رد على رينان، وهو الذي تكلم على العلاقة بين الدين والعلم بصورة أوسع مدركًا لتفاصيل المشكلات القائمة بينهما والتحديات الناجمة عن احتكاكهما، لقد تجاوز التردد في الفتوى أو الاعتماد على رؤية الغزالي؛ لأن العلوم والأفكار والفلسفات قد تغيرت كثيرًا. كما أنه تجاوز مشكلة الموقف السلبي، فإذا كانت الفتاوى السابقة لا تتعدى تجويز البعض، وتحريم البعض، والتوقف في البعض، لكنها لم تتجاوز ذلك إلى المشكلات التي تعصف بعقول المتعلمين والمطلعين على الأفكار الجديدة، فكانت حال أحدهم تتذبذب بين الاستسلام لتلك الأفكار أو رفضها مع حيرة في العقل وصراع في الصدر، فجاء الأفغاني وتعامل مع مشكلاتهم ولمس أوجاعهم، فنظر ونقد، وكشف لهم الصحيح منها وغير الصحيح -بحسب اجتهاده- ودفع بمن حوله إلى تجاوز مسألة التعلم إلى التفاعل والنقد، بل الهجوم على تلك الأفكار التي تخالف الدين ولا سند لها من عقل أو علم. وقد نجح "الأفغاني" في استقطاب خيرة الشباب آنذاك والذين كان لهم شأن لا يُجهل في العالم الإِسلامي، وكان أميزهم الشيخ "محمد عبده"، الذي تولى إكمال مسيرة شيخه، فحاول معالجة التوتر الحاصل في نفوس الأجيال حول العلاقة بين الدين والعلم في أثناء تفسيره للقرآن وغيره، ورد على الهجوم الكاسح الذي اتهم المسلمين، بل اتهم الإِسلام بأنه عدو العلم والعلماء، فردّ على "فرح أنطون" وردّ على "هانوتو"، وقام بجهود كثيرة لإصلاح الأزهر.

وقد أُعجب الكثير من المسلمين بهذه المدرسة الناشئة بسبب مواجهتها للمشكلات الثقافية النازلة، واستقطبت أغلب العلماء والمفكرين والقيادات الإِسلامية في مصر والشام وبلاد المغرب فضلًا عن بلاد غير عربية كالهند ومسلمي جنوب شرق آسيا، وقد كان للشيخ "محمَّد رشيد رضا" أثره المشهود في إبراز هذه المدرسة عبر مجلته المشهورة "المنار" حيث كان لسان حالهم الإعلامي أول القرن الرابع عشر، وأصبحت البديل عن الأزهر على الأقل في باب التعامل مع العصر ومع الوافد الفكري والثقافي والعلمي. وكل متأمل لتاريخ الفتن والمشكلات التي تعصف بالأمة يلاحظ وجود تيار يتحاشى المواجهة؛ ويعود السبب غالبًا إلى عدم القدرة، وهو وإن آثر السلامة، إلا أنه فشل في معالجة المشكلة مما جعل المصطلين بنارها يفقدون ثقتهم بمثل هؤلاء ويبحثون عن غيرهم، عندها يظهر تيار آخر يواجه المشكلة، وهو مشكور على شجاعته ومبادرته، والمهم بعد ذلك التأكد من سلامة موقفه؛ لأنه في الغالب لا تأتي المواجهة بشكل سليم أو كامل، فأي معركة قد يصاحبها في بدايتها بعض الأخطاء، فلا يصح من اللاحق متابعة السابق في ذلك. ومن ذلك حال هذه المدرسة "مدرسة الأفغاني ومحمد عبده"، فإن المسلمين وإن فرحوا بها في وقتها, ولقيت الترحيب والإشادة من أغلب قيادات الفكر الإِسلامي، فإنها تحتاج إلى فحص وتحليل، فنستثمر مواقفها الإيجابية ونتجاوز أخطاءها، وقد ظهر لكثير من أهل العلم والفكر فيما بعد بأن هذه المدرسة قد وقعت في أخطاء جسيمة في التصور والمنهج والتطبيق، وأن واجب من بعدهم يتحقق بتجاوز تلك الأخطاء، وسنتعرف عليها في الفصل القادم بإذن الله. نعود إلى وضع المؤسسات العلمية مع ظهور الهزة التي أحدثتها المدرسة الجديدة والتي يطلق عليها البعض فيما بعد بالمدرسة العصرانية، حيث كانت العلاقة بينها وبين الأزهر علاقة متوترة؛ فإن المدرسة قد شكلت مرتكزًا جديدًا للعلم والفكر، ومصدرًا آخر غير الأزهر، ومع أن الشيخ محمَّد عبده كان يُدرّس في الأزهر، ألا أنه كان يتخذه كموقع للعمل دون انتماء حقيقي للأزهر (¬1)، ومع ¬

_ (¬1) له كلام شديد عن الأزهر ذكره محمَّد رشيد رضا في ترجمة الشيخ، انظر: ملخص سيرة الأستاذ الإِمام، مجلة المنار 8/ 379 سنة (1323 هـ -1905 م).

بروز أحداث سياسية دخلت على المنطقة سواء داخل الأسرة الخديوية أو مع وجود تيارات متنافسة أو مع ظاهرة الاستعمار المتحكم فعلًا بإدارة البلاد تحول معها الأزهر إلى إحدى الساحات للمعارك، داخل الأزهر بين التيارين القديم والجديد، أو بين الأزهر وبين المؤسسات العلمية الجديدة المنافسة له ومنها دار العلوم التي تُدرس فيها العلوم العصرية فضلًا عن علوم الشريعة واللغة، أو بين الأزهر والسياسة سواء كانت السياسة الخديوية أو سياسة المستعمر، فمثل هذه الأحداث جعلت التوتر هو سيد المعالجة، والمعالجات النابعة عن صراعات لا تكون عادة مكتملة أو سليمة لخضوعها لمشكلة الصراع والمساومات (¬1). ربما لم يكن ما جذب الناس إلى مدرسة الأفغاني هو مقدرتهم العلمية؛ فإن في الأزهر مِنَ المتبحرين في علوم الشريعة واللغة مَنْ هو أكثر منهم علمًا، ولكن ما جذب الناس لهم هو مقدرتهم على مواجهة المشكلات وخوض غمار التحديات، وتسكين اضطراب الشباب وتهدئة عقولهم بعد أن أصابها ما أصابها، مع ما يحملون من دعوة إلى إصلاح أحوال المسلمين واقتناعهم وإقناعهم للآخرين بقدرتنا على ذلك، ولكنهم شكلوا بذلك خطًا منافسًا للأزهر، وإن كان سينجح فيما بعد في اقتحام الأزهر وكثير من مؤسسات العلم الإِسلامي كجامع الزيتونة وجامع القرويين وقيادات علمية وفكرية في الشام وغيرها. فإذا كان الأزهر قد تحاشى مواجهة المشكلة واكتفى بتكرير الفتوى، فإن مدرسة "الأفغاني". واجهت المشكلة، ولكنها كانت مواجهة ناقصة من جهة وخاطئة في بعض جوانبها من جهة أخرى. فهي وإن أثبتت قدرتنا على التفاعل الحضاري ومواجهة العالم المغازي لنا بفكره وعلمه وثقافته وحضارته، فإنها -وربما بسبب ظهورها وسط المشكلات- قد أُخذ عليها المبالغة في استخدام التأويل من أجل إثبات التوافق بين الدين والعلوم الجديدة، مما حولها في نظر الناقدين إلى مدرسة تحاول تطويع النصوص لمستجدات العصر الفكرية والعلمية. وخلاصة التطورات حول ما سبق أنه أصبح هناك مصدران للتوجيه، مصدر ¬

_ (¬1) هناك كتب عن الأزهر وعلاقته بتلك الصراعات، منها: الأزهر على مسرح السياسة المصرية، دراسة في تطور العلاقة بين التربية والسياسة، د. سعيد إسماعيل، الأزهر. . . . فوللرس، ترجمة عبد الحميد وصاحبيه، الأزهر في ألف عام، د. بيارد دودج، ترجمة د. حسين فوزي، الأزهر ومشاريع تطويره، مخلص الصيادي.

قديم مُمثل في الأزهر، وموقف جديد على هامشه، ولكنه الأكثر شعبية عند الجيل الجديد، فتشكل موقفان: أ- موقف محافظ في الأزهر، اكتفى بالمنع، ولم ينتبه لمشكلات المجتمع الذي يغرق في شبهات الأفكار الوافدة دون أن يسعى لكشفها وبيان حقيقتها. ب- موقف مدرسة "الأفغاني وعبده"، حيث واجه أصحابه مشكلات المجتمع وسعوا لتخفيف آثار الشبهات على عقول المثقفين، ولكن الوسيلة المستخدمة كانت ضعيفة؛ لأنها تخفي في طياتها إعلان الاستسلام أمام الشبهات والعبور فوقها بواسطة جسر التأويل، بينما القوة الحقيقية تتمثل في البعد عن منهج التأويل الذي هو بمعنى العدول عن المعنى الظاهر إلى معنى غير ظاهر لقرينة ما، وإثبات الحقائق كما هي، فالحق إذا ثبت فلا حاجة إلى تأويل؛ لأن التأويل إنما هو لمعالجة التعارض والحقائق لا تتعارض. الطريق الثالث: جاءت بوادر طريق ثالث يحاول معالجة مشكلة العلاقة بالأفكار والعلوم الجديدة ويسعى لإنشاء مؤسسات علمية تخدم ذلك، تمثل في أول القرن الرابع عشر الهجري مع أصحاب المنهج السلفي، وهم وإن كانوا موجودين قبل هذه المرحلة، إلا أن موطن شهرتهم لم يحتك بهذه المشكلات، فلم يبرز لنا موقفه منها في القرن الثاني عشر والثالث عشر الهجري، بينما لم يوجد شخصيات علمية سلفية مشهورة في مناطق الاحتكاك بالحضارة الغربية. بدأ الاتجاه السلفي يظهر في بلدان الاحتكاك بالحضارة الغربية نهاية القرن الثالث عشر وأول الرابع عشر الهجري، وقد كان لدعوة الشيخ "محمد بن عبد الوهاب" أثرها، كما كان لإخراج كتب شيخ الإِسلام "ابن تيمية" آثار كبيرة على نفوس وعقول نخبة من أهل العلم في العلم الإِسلامي، برز منهم مجموعة في مناطق الاحتكاك فكانوا أصحاب موقف جديد في التعامل مع الوافد الغربي، ظهر ذلك في أعلام من أمثال الشيخ "جمال الدين القاسمي" في الشام والشيخ "الألوسي" من العراق والشيخ "محمد رشيد رضا" في مصر في المرحلة الأخيرة من حياته، وغيرهم ممن تأثر بهم وسار في ركبهم. وقد اجتهد هؤلاء العلماء في نشر العلم الشرعي والدعوة للإصلاح الإِسلامي، كما أن لبعضهم جهوده في مناصحة الأزهر ودعوته للإصلاح، كما

أن هؤلاء العلماء قد اطلعوا على العلوم الوافدة ودرسوها واطلعوا على المشكلات المثارة فشاركوا في علاجها بمنهجية جديدة تبتعد عن طريقة أهل الموقف الأول المحافظ السلبي أو الموقف الثاني المتساهل في إعمال منهجية التأويل، وليس الآن موطن بيان طريقتهم فموضعها الفصل القادم بإذن الله، ولكن جاء ذكرهم هنا لننظر إلى مشكلة المؤسسات العلمية. فإذا كان الأزهر قد أصرّ على موقف سلبي إلى حدٍ ما فإن مدرسة محمد عبده قد نجحت في اقتحام الأزهر وفرض إصلاحات عليه، منها إدخال بعض العلوم العصرية فيه، كما أن أصحاب المنهج السلفي أو المتأثرين بعلمائه، ولاسيّما شيخ الإِسلام ابن تيمية قد حاول أحدهم وهو الشيخ محمد رشيد رضا تأسيس مدرسة جديدة لم تستطع التخلص من الجو المحيط بها، إلا أنها حاولت قدر الاستطاعة تجاوز أكثره. وهكذا سار الوضع أغلب القرن الرابع عشر الهجري في مراكز العلم الإِسلامي، فإذا كان نموذج محمد عبده قد نجح في الأزهر، وكذا في كثير من المعاهد التاريخية المشهودة كالقرويين والزيتونة وكذا مدارس الشام فنجد الشيخ "الحجوي" في جامع القرويين (¬1)، والشيخ "الطاهر بن عاشور" في الزيتونة (¬2)، وغيرهما، والحق يقال بأن هؤلاء، وإن كان "الأفغاني وعبده" مرجعية مهمة لأغلبهم؛ إلا أنهم قد أضافوا إلى ذلك تأثرهم واستفادتهم من أعلام سلفيين، ولاسيّما شيخ الإِسلام ابن تيمية وكذا ابن القيم وغيرهما، مما جعل طلاب تلك المعاهد يألفون منهج أعلام السلفيين ويستفيدون من علمهم وكتبهم ومنهجهم بعد أن كانت كتب ابن تيمية من المزهود فيها وغالب ذلك من جهلهم بهذا العالم (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: الفكر الإصلاحي في عهد الحماية (محمد بن الحسن الحجوي نموذجًا)، آسية بنعدادة. (¬2) انظر: شيخ الجامع الأعظم محمد الطاهر ابن عاشور حياته وآثاره، د. بلقاسم الغالي، الباب الأول. (¬3) انظر لقصةٍ طريفة ذكرها الشيخ "محمد الباني" مع عالم الشام في وقته الشيخ "بكري العطار" عندما احتال عليه بقراءة كتاب ابن تيمية: رفع الملام عن الأئمة الأعلام، وما إن قرأ عليه صفحات حتى شغف به وأمر الباني بابتياع نسخة منه وأخذ يطريه ويرشد تلامذته إلى اقتنائه مع أنه كان قبل ذلك لا يحب الاطلاع على كتب ابن تيمية، فانظر: انقلابه =

نقف الآن مع النموذج الجديد المعروض لمعالجة مشكلة التعليم، وهو نموذج مدرسة الشيخ محمد رشيد رضا، فالشيخ قد سبق له أن درس في مدرسة الشيخ حسين الجسر "المدرسة الوطنية الإِسلامية" (¬1)، التي تجمع بين العلوم الشرعية وبعض المعارف العصرية فتؤهل طلابها لمواجهة عصرهم، كما أنه رأى مدارس ومعاهد وكليات الإرساليات في الشام وخطورتها وما تعطيه لطلابها من معارف (¬2) تمكنهم من النفوذ داخل المجتمع الإسلامي، كما أن الشيخ كان مقتنعًا بضعف معاهد المسلمين العلمية وعدم قدرتها على أداء الواجب، وهو في الوقت نفسه كان مقتنعًا بأهمية العناية بالتعليم وإيجاد مؤسسات جديدة تخدمه للارتقاء بالأمة (¬3). كشَفَ خطورة المدارس الأجنبية ونقَدَ وضع التعليم في الأزهر أو التعليم في المدارس الأميرية أو في نظارة المعارف أو في المدارس الأهلية، تناول ذلك في كثير من أعداد مجلته المنار، ثم تحول من النقد إلى البناء، ليحاول إنشاء جمعية ومدرسة تابعة لها تتبنى النهضة العلمية. ¬

_ = بعد الاطلاع على كتيب صغير لشيخ الإِسلام، انظر: علماء الشام كما عرفتهم، محمد الباني ص 78 - 79. (¬1) انظر كلامه عن نفسه في كتاب الأمير شكيب أرسلان: السيد رشيد رضا أو إخاء أربعين سنة ص 35 وفيه: (ثم دخلت المدرسة الوطنية الإِسلامية. . . . وتدرس فيها العلوم العربية والشرعية والمنطق والرياضيات والفلسفة الطبيعية، وكان أستاذنا العلامة الشيخ حسين الجسر الأزهري هو المدير لها بعد أن كان هو الذي سعى لتأسيسها؛ لأن رأيه أن الأمة الإسلامية لا تصلح وترقى إلا بالجمع بين علوم الدين وعلوم الدنيا على الطريقة العصرية الأوروبية مع التربية الإسلامية الوطنية تجاه التربية الأجنبية في مدارس الدول الأوروبية والأمريكانية، ولكن الحكومة العثمانية لم تقبل أن تعدها من المدارس الدينية التي يعفى طلابها من الخدمة العسكرية، فكان ذلك سببًا لإلغائها، فحرمت مدينة طرابلس وملحقاتها من فوائدها بجهل الدولة وغباوتها. وتفرق طلبتها. . . .) ص 35 - 36. (¬2) انظر مثلًا: مقالته: (المدرسة الكلية الأميريكانية في بيروت)، مجلة المنار 6/ 566 سنة (1321 هـ-1903 م)، وانظر: مقالته: (المسلمون في مدارس الجمعيات النصرانية. . . .)، مجلة المنار 12/ 18 سنة (1327 هـ -1909 م). (¬3) انظر: المقالات التالية: (العلم والجهل)، مجلة المنار 3/ 553 سنة (1318 هـ - 1900 م)، (التعليم في مدارس الحكومة) 3/ 687 سنة (1318 هـ - 1900 م)، (المدارس الوطنية في الديار المصرية) 1/ 256 سنة (1316 هـ - 1898 م)، وترتيب المقالات بحسب أهميتها.

دار الدعوة والإرشاد والمشاريع الجديدة

بدأت محاولته في مصر ولم تنجح وكذا في عهد السلطان عبد الحميد، ثم بعد انقلاب الاتحاديين تحمس لعرض المشروع على وزارتهم قبل أن تنكشف حقيقتهم للعالم الإسلامي، ثم عاد إلى مصر -بعد عام كامل من المحاولات داخل إستانبول فشلت في النهاية- عاد إليها، وتفاجأ بقبول الحكومة لمشروعه فبدأ فيه (¬1)، ولا شك أن هذه المقاومة من قبل السلطة لفتح مدارس نافعة تدلّ على عمق الأزمة وخطورتها. دار الدعوة والإرشاد والمشاريع الجديدة: أسس الشيخ "محمد رضا" وبعض فضلاء عصره "جماعة الدعوة والإرشاد" وكان أهم مقاصدها إنشاء "دار الدعوة والإرشاد" مدرسةً أو كلية من أجل تخريج علماء قادرين على الدعوة إلى الإسلام والدفاع عنه، كانت مدتها ست سنوات، ووضعت مناهجها، وقد كان يجمع فيها بين العلوم الإسلامية والعلوم العصرية، وافتتحت رسميًا سنة (1912 م)، وبعد معاناة تتصاعد يومًا بعد يوم توقفت تلك المدرسة، ولاسيّما مع دخول مصر أحداث الحرب العالمية الأولى، وقد حاول بعد ذلك إعادتها ولم يتيسر له (¬2). عرض الشيخ العلوم والفنون التى ستدرس في "دار الدعوة والإرشاد"، والأهم من ذلك طريقة تدريس كل علم منها، فالمواد أكثرها مما هو معلوم في الأزهر، ولكن الطريقة التى ستعرض بها والروح التي تتخللها مختلفة، كما أن هناك شروطًا تحدد نوعية الطالب وأخرى تحدد الأستاذ، واهتم الشيخ بأن تُدرَّس بعيدًا عن المذهبية المتعصبة والتعقيد في الألفاظ أو المعاني، فهناك: "التجويد، والتفسير، والحديث، وأصول الحديث والمصطلح، والتوحيد، والكلام، والفقه، والفرائض، وحكمة التشريع، وأصول الفقه، وعلم الأخلاق والتصوف والتربية العلمية والعملية، وعلم الإرشاد والدعوة والدعاة والمرشدون، وتاريخ الإسلام ودوله، والتاريخ العام قديمه وحديثه وتاريخ الأديان، والملل والنحل والجمعيات الدينية، وتقويم البلدان. .، وحفظ الصحة، والاقتصاد -أو- تدبير الثروة، ¬

_ (¬1) انظر حول المدرسة: محمد رشيد رضا ودوره في الحياة الفكرية والسياسية، د. أحمد الشوابكة ص 119 - 123. (¬2) انظر: محمد رشيد رضا ودوره في الحياة الفكرية والسياسية ص 123 - 128.

وأصول القوانين وحقوق الدولة وضروب النظام، والمنطق، والمناظرة وآداب البحث، وعلم النفس والحكمة العقلية، وعلم سنن الاجتماع، وعلوم سنن الكائنات في المواليد وسائر الموجودات والعلوم الرياضية، واللغة العربية وفنونها وتاريخ آدابها، وفقه اللغة ومفرداتها وأساليبها، والنحو والصرف والعروض، والمعاني والبيان والبديع، والإنشاء والشعر والخطابة، وآداب اللغة العربية وتاريخها، والمطالعة والحفظ، والإملاء والخط والرسم، واللغات" (¬1). ومن الملاحظ بأن أغلب المواد هي مما يدرس في الأزهر وغيره إلا أن طريقة عرضها تختلف إلى حد ما عما هو معهود، ونعرض مثالًا على ذلك إحدى المواد (1) وهي مادة التفسير (¬2)، فقد قسمها الشيخ إلى ثلاثة أقسام: قسم يؤخذ في جميع سنين الدراسة بحيث يتم التفسير فيه "على طريقة الوعظ والخطابة بلغة فصيحة"، فهو يفيد الطالب لذاته ويمكنه أيضًا من إيصال معاني الآيات إلى الناس. والقسم الثاني لصنف المرشدين: يأخذون التفسير كاملًا باختصار وسهولة، مع اجتناب اصطلاحات العلوم والفنون العربية والشرعية، ويتوخى فيه فهم الآيات كما يعطيه أسلوب اللغة، ويفسر القرآن بعضه ببعض ويصحح المأثور "وينبه فيه على أجوبة الشبهات عن بعض الآيات التي يعترض عليها المبطلون، أو يشتبه فيها الجاهلون من غير شرح للشبهة، بحيث إذا أوردت على الطالب يفطن لجوابها وإلا بقي غافلًا عنها"، ولا شك أن هذه الطريقة مفيدة في تركيزها على إدراك معنى الآيات بعيدًا عن كل ما ألحق بها مع إدراك بعض الأجوبة المساعدة للمتعلم للرد على أصحاب الشبهات أو إجابة صاحب الاشتباه. والقسم الثالث لصنف الدعاة: فيقرأ فيها "تفسير الآيات التي ترد عليها الشبهات، ويجادل فيها الكافرون أو أصحاب المقالات، مع شرح الشبهات المتعلقة بالعلوم الكونية والفلسفة والتاريخ والقوانين ومجادلة أهل الأديان، والجواب عنها بطريق المناظرة" وفيه الجديد عما هو معهود في زمن الشيخ؛ لأنه ¬

_ (¬1) انظر: مجلة المنار: "العلوم والفنون التي تدرس في دار الدعوة والإرشاد وطريقة تدريس كل علم منها في قسم الدعاة والمرشدين)، المجلد 14/ 801 سنة (1329 هـ -1911 م). (¬2) انظر: المرجع السابق.

انتبه لمشكلات عصره وآثارِها على عقليات المثقفين والمتعلمين، ولاسيّما تلك المتعلقة بالعلوم والفلسفة والاجتماعيات، وإن كان قد أُخذ على هذه الطريقة فيما بعد أنها تضعنا عادة في موقف الدفاع، وهي طريقة تجاوزها الفكر الإسلامي فيما بعد إلى اتخاذ طريقة الهجوم وربما القسم الأخير يؤدي إليها: ففي هذا القسم يُقرأ تفسير "الآيات الدالة على ما امتاز به الإسلام على جميع الأديان، وبيان حقائق العلوم التي لم تكن معروفة في زمن التنزيل، ولاسيّما للعرب سواء كان ذلك في علوم الكون أو علوم الاجتماع والشرائع والآداب"، فقد أدخل في هذا القسم عرض حقائق العلوم التي كشفها البشر وهداهم الله إليها ومع ذلك فنجد في الآيات ما يدل عليها، أو بيان عدم وجود التعارض بين الحقائق الشرعية وحقائق العلوم المختلفة، ولكن ليس على سبيل التنظير بالقواعد بل عبر التطبيق العملي، ولا شك أن الشيخ كان يستحضر أزمة عصره وزمنه على تلك العقول الحائرة التي لم تجد جوابًا في تعليم الأزهر، وفي الوقت نفسه تزلزلهم تلك المدارس المختلفة التي لا تعتني بالدين، بل كما يقول الشيخ عنها: "يدخلها الطالب بدين ويخرج منها بدين". نجد هذا واضحًا أيضًا في (2) الكلام (¬1) وهو العلم الذي يقصد به الشيخ "علم حماية العقائد الإِسلامية والدفاع عنها ورد ما يورده الملاحدة والمبتدعة من الشبهات عليها والتحريف فيها، بالدلائل الحقيقية، والإلزامية وقد تجدد في هذا العصر شبهات لم تكن معروفة في عصر المتكلمين السابقين، وبطل كثير من تلك الشبهات التي كانت رائجة في عصرهم، المستنبطة من العلوم اليونانية وغيرها، فتجب العناية في هذا العلم بما يحتاج في هذا الزمن على الطريقة التي ترجى فائدتها فيه". ثم ذكر الجزء المخصص للدعاة فقال: "يتوسع لهذا الصنف في رد ¬

_ (¬1) انظر: مجلة المنار، المجلد 14/ 801 سنة (1329 هـ -1911 م)، ويلاحظ هنا أنه فصل بين علم التوحيد وعلم الكلام، والشيخ كأكثر أهل عصره يعتبر "علم الكلام" مادة أساسية، إلا أن الشيخ عرض هذا العلم بصورة جديدة تجعله أقرب إلى نقد المذاهب المخالفة، كما أن تأثره فيما بعد بمنهج شيخ الإسلام ابن تيمية جعله يبتعد عن سلبيات علم الكلام، ولم يسلم من ملاحظات بيّنها تامر متولي في بحثه: (منهج الشيخ محمد رشيد رضا في العقيدة)، وانظر: السيد رشيد رضا. . . .، أرسلان ص 37.

الشبهات المتولدة من العلوم الرائجة في هذا العصر؛ كالفلسفة والهيئة والتاريخ والقوانين أو غيرها على النحو الذي ذكر في الكلام على التفسير". وكذا الحال في مادة (3) حكمة التشريع، وهي مادة ذات فكرة مميزة في عصرنا لكثرة ما أثاره المبطلون من شبهات حول الشريعة. وكذا في تقويم البلدان والأهداف المرجوة من تعلمها، أو حفظ الصحة أو الاقتصاد أو القانون والعلاقات الدولية، فكلها مما له أهمية في عصرنا، ولاسيّما لعلماء الأمة والمتصدرين لقيادتها. وكذا انتباهه لصياغة إسلامية لعلمي النفس والاجتماع وكذا لعلمي الرياضة والطبيعيات، وإدخال كل ذلك ضمن مواد الدراسة حتى تصاغ في "دائرة ثقافة إسلامية بعد تصفيتها من أوشال الثقافة الغربية. كما اهتم الشيخ باللغة كونها أداة من أهم أدوات التعلم وبإصلاحها يتم إصلاح التعلم؛ ولذا نجد كثافة في مواد اللغة والأدب، وكذا لغة القطر الذي سيذهب إليه الداعية، وكذا تعلم اللغات الأوروبية. فنحن أمام أول مشروع تعليمي ضخم في وقته، وكان يمكن أن يواصل مشواره ويتحسن مع الأيام ويكمل نقصه ويصحح خطأه، ولكن هذا المشروع حُوصر وحرم من النجاح (¬1) بخلاف الدعم الذي تجده مدارس المنصرين والمتغربين، لدرجة أنه في فترة من الفترات أنفق الوالي المسلم على مدارسهم ما حيّر كُتّاب التاريخ كما رأينا في بعض الحالات المزرية من تاريخنا المعاصر في الفصل السابق، بينما نجد المدارس الإِسلامية تُحرم من أجواء النجاح وشروط البقاء كمدرسة الشيخ الجسر في الشام أو مدرسة الشيخ محمد رشيد رضا في مصر (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: محمد رشيد رضا ودوره في الحياة الفكرية والسياسية ص 125 - 127. (¬2) لقد تخرج من هذه الكلية التي لم يتجاوز عمرها السنين الخمس نخبة كان لهم دورهم وأثرهم في القرن الرابع عشر، فكان منهم الشيخ "أمين الحسيني" القيادة الدينية والسياسية المشهورة في فلسطين، والشيخ "يوسف ياسين" المستشار للملك عبد العزيز، والعامل في كثير من المهام التي أنيطت به في عهده، ومنهم الشيخ "عبد الرزاق المليح" في الهند، عمل في الصحافة وله مؤلفات، [انظر: محمد رشيد رضا ودوره في الحياة الفكرية والسياسية ص 127، وانظر: منهج الشيخ محمد رشيد رضا في العقيدة، تامر محمد ص 91]، والشيخ "محمد حامد الفقي" مؤسس الجماعة المشهورة في مصر وهي جماعة =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = أنصار السنة المحمدية [وهي جماعة مشهورة في مصر والسودان وغيرهما، وكان لأصحابها دور كبير في نشر السنة ومواجهة البدع، وقد شارك أفاضل أعضائها في النهضة العلمية للملكة العربية السعودية ومنهم مؤسسها الشيخ "محمد حامد الفقي"، والشيخ "عبد الرزاق عفيفي" الذي درس بدار التوحيد -الطائف، ومعهد عنيزة ودرَسَ عليه الشيخ محمد بن صالح العثيمين بعض المواد، ثم درّس بمعهد الرياض ثم مشاركته بتأسيس كليتي الشريعة واللغة العربية بالرياض وتدريسه فيهما، وشارك في إعداد مناهج المعهد العالي للقضاء وإدارته والتدريس فيه، ثم تولى منصب نائب رئيس اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، واختير عضوًا في هيئة كبار العلماء إلى غير ذلك من أعماله، وممن تولى رئاستها الشيخ "عبد الرحمن الوكيل" وعمل أستاذًا للعقيدة بقسم الدراسات العليا بكلية الشريعة بمكة إلى وفاته، وكذا الشيخ "محمد خليل هراس" الذي كان نائبًا لرئيس الجماعة في فترة من فتراتها ثم درّس بنفس الكلية السابقة، وأنشأ فرع العقيدة بقسم الدراسات العليا وترأسه إلى وفاته، ومن أعلامها الشيخ المحدث "أحمد محمد شاكر" وقد كان من شيوخه الشيخ "محمد رشيد رضا" وإن لم يدخل معهده، صاحب المؤلفات والتحقيقات المعروفة عند طلاب العلم، وكان من أعلام الجماعة الشيخ "محمد عبد الظاهر أبو السمح" وهو ممن درّس التجويد في معهد الشيخ محمد رشيد رضا وتعلم منه في الوقت نفسه، ثم أصبح إمامًا وخطيبًا ومدرسًا بالمسجد الحرام وأسس دار الحديث بمكة على غرار دار الدعوة والإرشاد للشيخ محمد رشيد رضا، ومنهم الشيخ "محمد علي بن علي عبد الرحيم" الذي دَرَس في معهد الشيخ محمد رشيد ولازمه إلى وفاته ثم أصبح عضوًا في جماعة أنصار السنة المحمدية وترأسها فترة، وكان من المصاحبين للشيخ عبد الرزاق عفيفي في المشاركة ببناء نهضة بلدنا العلمية فشارك في تأسيس المدارس والمناهج، ومما عرف عنه اهتمامه بعلم الجغرافيا وكان نابغًا فيها حتى قيل: إنه فاق المتخصصين فيها، فعمل في السعودية ما يقرب من ثلاثة وعشرين عامًا]، [نظرًا لأثر الشيخ محمد رشيد في أغلب مؤسسي أنصار الجماعة وكون بعضهم ممن درس في دار الدعوة والإرشاد، فقد عرضت أشهر شخصياتهم في مصر من خلال الدراسة الجميلة عن هذه الجماعة للدكتور أحمد الطاهر، جماعة أنصار السنة المحمدية. . . . ص 157 - 293]، وكان من مدرسة الشيخ محمد رشيد رضا أيضًا الشيخ "محمد بهجت البيطار" السوري وعند زيارته لمكة سنة (1345 هـ) استبقاه الملك عبد العزيز وجعله مديرًا للمعهد العلمي السعودي ثم ولاه القضاء ثم استعفى منه، فواصل التدريس في الحرم، ثم دُعي لإنشاء دار التوحيد بالطائف وبقي سنين في السعودية، وكان عارفًا باللغة الفرنسية مع إجادته للعربية فضلًا عن العلوم الشرعية، [انظر: منهج الشيخ محمد رشيد في العقيدة ص 91، وانظر: علماء الشام في القرن العشرين. . . .، محمد الناصر ص 166]، والشيخ "محمد عبد الرزاق حمزة" الذي أصبح من أئمة الحرم المكي فيما بعد، وغيرهم، [انظر: المرجع السابق، منهج. . . . ص 91 - 92].

وقد كان كل واحد من طلاب هذه المدرسة التي لم يتجاوز عمرها أربع سنوات إمامًا في مجاله ورمزًا وعلمًا في الباب الذي عمل فيه، فكيف لو استمرت هذه الكلية وتطورت وقويت! وكيف لو كان مثل هذا المشروع عامًا في كل بلد مسلم وليس مشروع رجل واحد! يوصلنا هذا المبحث إلى نتيجة حزينة، فالمؤسسات العلمية الإسلامية لم تنجح في مواجهة التحدي العلمي الحضاري، فما كان منها في نقاط الاحتكاك بالوافد الأوروبي لم يستطع عرض مشروع النجاة وقيادة الحركة العلمية نحو شاطئ الأمان، وكان الأزهر أعظم معاهد المسلمين في العصور الأخيرة وأمل المسلمين ولكنه ضعف -أو أُضعف بالأصح- عن تحقيق أثره، وتأخر حتى جاء من يفرض عليه وعلى غيره ما لا يريده، بل وضعت المؤسسات العلمية المنافسة وأصبح لها الصدارة في المجتمعات المعاصرة، وما أعظمها من خسارة خسرها العالم الإِسلامي عندما نشأ التعليم الحديث بعيدًا عن المؤسسات التاريخية الإسلامية العريقة، وقد ضاعف من المأساة أن مراكز معاهد المسلمين التاريخية صُدمت باحتلال بلدانها لتدخل في صراع ديني وثقافي وعلمي رهيب مع سياسة المستعمر الذي كان من أهدافه تحطيم هذه المؤسسات، وعندما خرج المستعمر كان المؤمل أن تسترجع تلك المؤسسات العلمية مكانتها التاريخية ولكن العالم الإسلامي وقع فريسة تجارب لسياسات تغريبية كان من أبرز ضحاياها مؤسسات التعليم الإسلامية. كما أن التجارب اليتيمة لإيجاد تعليم يلبي حاجة الأمة ويعيد لها شيئًا من كرامتها تمت محاصرته وإضعاف شروط بقائه فوُئِد سريعًا. ومع ذلك فهناك محاولات جادة عبر الجامعات الإسلامية المعاصرة لتجاوز آثار تلك المرحلة التاريخية الحرجة، من جهة التأصيل الإسلامي للعلوم العصرية أو من جهة العناية بها وهي وإن كانت في أول الطريق، إلا أن الأمل معقود بها وبأهلها لتحقق لنا الإصلاح المنشود والاستقلال العلمي والمعرفي.

ثانيا: المدرسة الحديثة ومدارس الأقليات

ثانيًا: المدرسة الحديثة ومدارس الأقليات كان من أهم أهداف "المدرسة الحديثة" التي ظهرت في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر هو طلب العلوم العصرية، حتى إنها -تلك العلوم- تكاد تكون الهدف الأساسي وعند البعض الوحيد. لقد عُرض الكثير من التجارب في الفصل السابق، تجربة الدولة العثمانية ووالي مصر وتجارب الهند والمغرب وغيرها. كانت بداية التجارب بفتح معاهد متخصصة لدراسة تلك العلوم، أغلبها كان بإدارة الأجانب، ولاسيّما الفرنسيين، وصاحب ذلك انتشار نموذج مواز لمدارس الولاة يهتم بهذه العلوم، وهو "المدارس الأجنبية" التي غزت البلاد الإسلامية آنذاك مع الإرساليات التنصيرية، حيث كانت المدرسة والعيادة والمطبعة والصحافة من أهم ما استثمرته تلك الإرساليات أول دخولها الحديث إلى بلاد المسلمين، وشارك الإرساليات قوى غربية لا دينية تطمح في احتلال بلاد المسلمين؛ لأن الدول الغربية (¬1) ما طمعت في الاستيلاء على بلد إلا وسبقت إليها بافتتاح المدارس، فتُهيئ الجيل الجديد لقبول الاستعمار، فالدخول بغطاء المدرسة وتعليم العلوم العصرية يخفف المعارضة لها ويُسهل قبول المجتمع بها. وُلدت "المدرسة الحديثة" والتى ستصبح النموذج الأهم للتعليم في ظل ظروف صعبة، إما ولاة يطمعون بالقوة والسلطة وأوكلوا أمرها للأجانب، أو مدارس الإرساليات وطلائع الاستعمار بإدارة أجنبية مستقلة تمامًا، النموذج الأول ¬

_ (¬1) انظر: الفكر التربوي العربي الحديث، د. سعيد إسماعيل ص 43.

مشروع طموح للحصول على السلطة وليس مشروع إنقاذ أمة، والثاني مشروع تنصير أو احتلال يرغب في اختراق الأمة عبر التعليم ليهيئها لقبول دين آخر أو قبول سلطة أخرى (¬1)، فلا يُستغرب في مثل هذه الظروف أن تقدم العلوم العصرية بصورة سلبية وبما يتلاءم مع أهداف مؤسسيها. عاشت "المدرسة الحديثة" -بعد ولادتها- أطوارًا مختلفة، ففي طورها الأول كان الأجنبي يتحكم بإدارتها والتدريس فيها ويزرع ما يريد فيها في ظل ضعفنا في تجارب الولاة العثمانيين، وفي طور لاحق كانت المدرسة تحت إدارة المستعمر مباشرة -بعد الاحتلال الواسع لبلاد المسلمين- ووضع أشخاصًا على هرم السلطة التعليمية لتوجيه "المدرسة" وما يتبعها وفق أغراضه، وعندما انقشع الاستعمار عن بلاد المسلمين نشأت خلفه تيارات فكرية استولت على السلطة ذات توجه تغريبي واضح، نحو الشرق الشيوعي أو الغرب الرأسمالي، ووجهت تبعًا لذلك "المدرسة"، فكانت المدرسة في جميع هذه الأطوار مشتتة المسار بين تحقيق رسالتها الشريفة وبين تحقيق أهواء موجهيها. وبما أنها المسؤول الأول عن تعليم العلوم العصرية ومناهجها ونظرياتها وفلسفتها وتطبيقاتها؛ فهي بحاجة لأن ننظر في قيمة دورها، حيث كان المؤمل أن تفتح لنا "المدرسة العصرية" أبواب التقدم والتطور والنهضة فهل حققت ذلك؟ وهل نجحت تلك المدرسة في استيعاب الجديد من العلوم دون أن تصنع إشكالات مع المجتمع وثقافته؟ بما أن هناك مشكلة ظهرت في العلوم العصرية حيث ظهر من يحاول إقناع ¬

_ (¬1) يقول "أرسلان" عن الحرب التي قامت بها هذه المدارس الأوروبية: (فمن جهة الحرب العلمية فمدارسها ومكاتبها حتى مستشفياتها في الشرق كلها مواقد إثارة على الدولة -أي: العثمانية، الباحث- ومنافخ نار، يخرج منها التلاميذ كارهين كل شيء عثماني، بل كل شيء إسلامي، وما شذ عن ذلك فيكون من متانة تربية الأولاد، وتأثير والديهم فيهم في البيت، لا من توقي أساتذة تلك المدارس الطعن في دينهم ودولتهم، بل هم يطعنون ما يطعنون في أهل الإسلام، ويشوهون ما يشوهون من محاسنه. . . . وإذا عاتبتهم على صنيعهم هذا قالوا لك: إنما نريد أن نعلم الناشئة الحقائق، فكيف تريد أن يخرج من تخرج من هاتيك المدارس، لا جرم أنه يخرج حربًا على دولته وملته. . . .)، إلى العرب: بيان للأمة العربية عن حزب اللامركزية، الأمير شكيب إرسلان، وهو يصور الصراع عشية الحرب العالمية الأولى، وهو ملحق بكتابه تاريخ الدولة العثمانية ص 538.

الفصل والانفصال: الفصل بين المجالين الديني والدنيوي، والانفصال عن هوية الأمة

المجتمع بأنها تدل على ما يضاد الدين أو يغير من حقائقه، فلابد من تحليل أثر "المدرسة الحديثة" المسؤولة عن تعلم هذه العلوم فنبحث طريقتها في التعامل مع هذه المشكلة. الفصل والانفصال: الفصل بين المجالين الديني والدنيوي، والانفصال عن هوية الأمة: تبرز أولى المشاكل وضوحًا وأخطرها طوال دراسة هذه العلوم وهي مشكلة الفصل، فإذا تجاوزنا مشكلة الفشل في تحقيق استقلال معرفي في هذه العلوم إلى الآن فضلًا على المنافسة فيها، إذا تجاوزنا ذلك إلى إحدى المشاكل التي رافقت المدرسة من ولادتها وتكرّست مع الأيام فسنجدها واضحة في عملية الفصل بين العلوم العصرية وبين العلوم الشرعية، وما ترتب على ذلك مع الزمن من قطيعة وربما تصادم ما زلنا نعاني منه إلى اليوم (¬1). وقد بدأ الفصل بينهما كعملية إدارية وفنية، ولكنه تحول فيما بعد إلى عملية ثقافية خطيرة، فقد وصل الأمر في بعض الأماكن وبعض الفترات التاريخية المعاصرة إلى إهمال العلوم الشرعية وانتقاصها ونسب ضعفنا وتخلفنا إليها، ومن ثم تقليص حجمها في التعليم وتقليص مكانتها في المجتمع، والاستهانة بقيمتها العلمية والعملية حتى في المجال الديني، وتقديم النظريات العلمية وما ينتسب للعلم على الأصول الدينية عند توهم التعارض وغير ذلك مما نتج عن عملية الفصل. ربما كان للاحتكاك بالغرب وطلب العلم الحديث منه الأثر الأخطر؛ فقد كان الاحتكاك الأول بفرنسا، وهي التي نجحت فيها الثورة العلمانية، فخُصصت المدرسة للعلوم المادية الدنيوية والاجتماعية والإنسانية بشرط إخراج الدين منها ليتبع الكنيسة والأسرة، وقد تم تأسيس المدرسة العصرية في البلاد الإسلامية عبر الاستعانة بفرنسا، فنشأت تحت تأثيرهم بعلمانية مقنعة؛ لأن المدارس الأولى كانت معاهد للعلوم النافعة من طب وهندسة وما في بابها، وهي علوم تنفع صاحبها ولا تضر بدينه، ولكن وجد بعد ذلك أنه لابد من دراسة سابقة لعلوم ¬

_ (¬1) انظر: غزو في الصميم، عبد الرحمن الميداني ص 208.

أخرى: "رياضية وطبيعية واجتماعية" فظهرت المدرسة التي تهتم بتحقيق الحد المطلوب منها، وكان أغلب مدرسيها آنذاك من الأجانب ومن غير المسلمين، وهؤلاء إن سلموا من قصد التأثير السلبي في المسلمين فلن يسلموا من اختراق العلمنة والمذاهب المادية الجديدة لأدمغتهم وأثر ذلك في هوية المدرسة التي يؤسسونها. لقد أوجدت المدرسة الحديثة مشكلة الازدواجية عند الطالب والمجتمع المتعلم دون إرث تاريخي يمكن من خلاله فهم مشكلة وجود الازدواجية وتخفيف تبعاتها كما حدث مثلًا في فرنسا العلمانية في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، فهي ذات إرث في المشكلة تعود إلى القرن العاشر/ السادس عشر منذ الصراع المشهور بين نظرية الفلك الجديدة والمجتمع، أما في بلاد المسلمين فالأمر يختلف حيث أُقحمت العلوم الجديدة عبر المدرسة دون تصفيتها من جهة مما ليس علمًا ودون مواءمتها من جهة أخرى مع ثقافة المجتمع، فولدت الازدواجية والانفصال والانقسام بين تعليمين ومدرستين. أصبح الطالب يتلقى صورتين عن العالم من حوله، صورة من مجتمعه عبر الوسائل التقليدية وصورة من المدرسة الأجنبية، قيمٌ من هنا وقيمٌ من هناك، حقائق من هنا وحقائق من هناك، وحتى عندما أُدخلت مواد من تراثنا وعلومنا، فهي لم تدخل دائمًا بقناعة تامة بها بقدر ما كانت تحت ظروف سياسية، والدليل على ذلك تلك المعاناة (¬1) التي تلحق بها عادة من تقليص حجم وقتها ووضعها في أوقات غير عملية وعدم العناية بمناهجها ومدرسيها مقارنة بمواد العلوم الأخرى. لم تؤخذ العلوم الجديدة وتدرس بروح التكامل مع علوم الأمة، بدأ الفصل فنيًا بين علوم الدين وعلوم الدنيا، ولكنه تحول إلى تقسيم ثقافي واجتماعي، وإلا فالمسلم لا يعرف هذه القسمة في أثناء التطبيق؛ لأن كل علم نافع يدخل عنده في طلب الأجر وقصد الآخرة وابتغاء وجه الله سبحانه، فهو وسيلة للفهم والانتفاع، ولكن المدرسة العصرية فصلت بينهما فصلًا يتجاوز العمل الفني ليرسخ عند الطالب والمجتمع قضايا أخرى، فتحول الفصل من فني إلى الفصل ¬

_ (¬1) انظر حول هذه المعاناة: واقعنا المعاصر، محمد قطب ص 217 وما بعدها.

بين عالمين مستقلين وربما متصادمين مما يجعل الطالب مجبرًا على الاختيار إما هذا أو هذا، وتقديم أحدهما على الآخر. وهذا التقسيم هو السائد إلى الآن بما يوحي به من خلفيات، فنجد مثلًا التقسيم في المدرسة بين "علمي وأدبي" ويدخل في العلمي مواد العلوم المختلفة من رياضية وطبيعية واجتماعية، بينما الأدبي يدخل فيها الدين واللغة، وهناك كليات العلوم والكليات العلمية وهناك الكليات الأدبية، وترسّخ في وعي الأفراد والمجتمع ما هو أوسع من التقسيم الفني: ترسخت أمور على مستوى التصور ومستوى النفع، ففي مستوى التصور -وهو المهم للبحث- نجد المسائل العلمية تقبل دون جدال حتى وإن كانت من باب الفرضيات والنظريات بينما الدينية لا تؤخذ بمثل تلك الروح، وفي مستوى الانتفاع يعدّ الدارس في الكليات العلمية من المحظوظين، ويتميز بقبول اجتماعي وتجده مفتخرًا بهذا المكان، والمستقبل الوظيفي واعد بخلاف الدارس لعلوم الأمة، مع أن العلم في المجال الإسلامي لا يعرف هذه القسمة، فكل علم صحيح ونافع تقبله الأمة ويصبح جزءًا من العلم الممدوح والمطلوب، ويمدح صاحبه، ولكن المدرسة بسبب ولادتها الخاطئة قد فصمت هذه العلاقة الحسنة بين المجالين وقدمت أحدهما على الآخر. قد يعتذر البعض للمدرسة الحديثة بأنها ولدت في ظروف صعبة، ولكن السؤال: لِمَ أُبقي على هذه المشاكل كل هذه السنين؟ هل المراد بقاء المشكلة دون حل ليبقى التوتر، أم أن الحل كان عسيرًا على أمتنا كل هذه السنين؟ الأقرب مع "المدرسة الأجنبية" ثم "الاستعمار" ثم "أحزاب تغريبية تولت السلطة وإدارة التعليم" أن الهدف كان إبقاء المشكلة قصد إبعاد العلوم الإسلامية، علينا فقط مراجعة دور الاستعمار في مصر أو بلاد المغرب أو الشام، أو مراجعة الأحزاب العلمانية، مثل: "تركيا الفتاة" و"جماعة الاتحاد والترقي" التي وصلت للسلطة في مقر الخلافة، وعند مراجعة هذه الأحوال وأشباهها نعلم بأن المدرسة حُرمت من الحل الإسلامي قصد تغريب المجتمع عبر أهم المؤسسات الاجتماعية وهي "المدرسة" (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: حاضر العالم الإسلامي. . . .، د. جميل المصري 1/ 194 وما بعدها، وانظر: واقعنا المعاصر، محمد قطب ص 217 وما بعدها.

وقد يعتذر البعض للمدرسة الحديثة بعذر شائع طالما كُرر هنا وهناك، بأن سبب الإصرار على الفصل والعناية بالعلوم العصرية بعيدًا عن النظام التعليمي الإِسلامي هو جمود علماء الشريعة، وإصرارهم على أقوال لا يقبلها العلم. ويُردّ على هذه الدعوى الكاذبة بأن علماء الإسلام في كل تاريخهم ما اعترضوا على علم نافع وصحيح (¬1)، وإن وجد بعض من اشتبه عليه الأمر في هذه العلوم أو أُلْبِس عليه أو أخطأ، فإن الصحيح عبر تحليل المشكلة أن هؤلاء المعترضين لم يكونوا السبب في صناعة الفصل وإنشاء مدرسة عصرية للعلوم الجديدة لا ترتبط بالأمة، وإنما كانوا ذريعة لمآرب أخرى، فإن وضع المدرسة الحديثة أعقد من ذلك بكثير: إذ كيف يتصور وجود انسجام بين علماء الشريعة وبين مدرسة وضعها الأجنبي عبر إرسالياته أو عبر نفوذه السياسي ثم رعاها الاستعمار بعد احتلاله لبلاد المسلمين ثم بعد استيلاء مذاهب تغريبية على السلطة والتعليم؟ إن الوعي بمدرسة تُدار بهذه الصورة لا يمكن أن تلقى القبول عند الأمة إلا بعد تحويلها إلى مشروع للأمة وليس مشروعًا للأجنبي وأتباعه، ويصح التوقف مع العذر لو كانت المدرسة مشروعًا للأمة، ثم جاء بعض أبنائها ليعترض عليها، أما وهي مشروعٌ يبحث عن المصالح الشخصية أو مشروعٌ يرغب في اختراق الأمة فلا يمكن اعتبار ذلك العذر حقيقيًا، ويؤكد ذلك أن المدارس الإسلامية التي تبناها بعض فضلاء الأمة وجمعوا فيها بين العلم الموروث والعلم العصري تمَّ حصارها حتى أُقفلت، مثل مدرسة الشيخ حسين الجسر في بلاد الشام أو مشروع الشيخ محمد رشيد رضا في مصر، والحصار هنا بحرمانها من شروط الاستمرار وله صور وأشكال مختلفة، وقد كان يمكن لهذا النموذج أن يعالج الإشكال الناتج عن الفصل ويقضي على الازدواجية ويجعل العلوم في ذهن الطالب -وكذا تصور المجتمع- ذات طابع تكاملي، ولكن المشروع في ظل الأهواء الأجنبية حُرِم من الاستمرار، وبقيت المدرسة المغروسة بأيدي أجنبية دون حرص لمعالجة المشكلة. ¬

_ (¬1) سيأتي بإذن الله بيان موقف العلماء في الفصل الخامس، التمهيد مع المبحث الأول، ص.

إذًا فقد كرّست المدرسة الحديثة الفصل بين العلم الموروث بما فيه العلم الشرعي وبين العلوم الحديثة، كرستها على مستوى الإدارة ثم على مستوى المفهوم والثقافة والمصطلحات، فاتسعت الهوّة بينهما، فيما كان الأصل حدوث التعاون والتكامل بينهما، وقد تحول الفصل مع الأيام إلى عداء واستبعاد، فاستبعدت المدرسة في بعض فتراتها العلوم الإسلامية وعرضت ما ينافيها ورفعت من شأن العصري على حساب العلوم الإسلامية. كانت المدرسة الحديثة منفصلة عن الأمة الإسلامية، عن همومها وآمالها، عن ثقافتها وموروثها، فلم تكن مشروع الأمة، بل كانت مشروع سلطة عند البعض ومشروعات تنصير أو اختراق عند آخرين، وفي كل الأحوال تولى إدارتها الأجنبي غالبًا، وعندما برزت حكومات مستقلة كادت المدرسة أن تتحول إلى مشروع تغريب، ولهذه الأسباب لم تراع المدرسة أول أمرها ثقافة الأمة ولم تهتم بمعالجة المشكلات المتوقعة من علومها ومعارفها ومناهجها، واستمرت في تقديم العلوم العصرية بخلفياتها الحضارية الغربية دون مراعاة لهوية الأمة (¬1)، وإن كان هناك بعض الجهات أخف من غيرها. والكتاب المدرسي (¬2) حاله كحال المدرس الأجنبي أو الإدارة الأجنبية، لقد كان طموح المبتعثين الأوائل اختيار بعض كتب الأوروبيين وترجمتها، وتكوّن منها ومن عمل بعض الغربيين التابعين لمدارس التنصير الكتاب المدرسي، وهؤلاء لم ينتبهوا إلى اختلاف البيئات الدينية والثقافية، فلم تراع عند وضع الكتب المدرسية. لقد كان السائد في فرنسا بعد الثورة العلمانية والاجتماعية مذاهب علمانية ومادية تُؤلَف في ظلها الكتب المدرسية؛ ولذا تتوافق كتبهم المدرسية مع المبادئ والتصورات السائدة في بيئتهم، وكمثال فعندما نقرأ كتاب ربنا سبحانه حول الآيات الكونية من تعاقب الليل والنهار والحرّ والبرد والفصول وحركات النجوم والكواكب وأحوال الأرض وما يحيط بها من مطر وريح وغير ذلك، نجد كل ذلك مرتبطًا بالإيمان بالله سبحانه، فهذه الأمور يُغفِلها الكتاب ¬

_ (¬1) انظر: المد الإسلامي. . . .، أنور الجندي، مبحث تحديات في وجه التعليم والتربية والثقافة ص 341 وما بعدها. (¬2) انظر الدراسة المميزة: غزو في الصميم، عبد الرحمن الميداني، وعن الكتاب ص 61.

المدرسي في الغرب؛ لأنه قد فصل بين العلم والدين، بين العلم والإيمان (¬1)، وعزز في ظل تنامي المذاهب المادية الاستقلال التام للطبيعة بأمورها والاكتفاء في أحسن أحوالهم بما يطلقون عليه: "التأليه السببي" القائل بأن الله أوجد هذا العلم بقوانينه التي يتطور ويتحرك في ظلها ثم تركه، وبهذا يكون الكتاب المدرسي عندهم متوافقًا مع المبادئ والتصورات والرؤى السائدة عندهم، وإن كان أهل الدين منهم يعارضون ذلك ويحاولون في المدارس التابعة للكنيسة تخفيف تلك الرؤى المادية الحسية الوضعية. عندما وضع الكتاب المدرسي في بلاد المسلمين وقع في أسر تقليد الكتاب المدرسي هناك؛ لأنه في الغالب ما هو إلا ترجمة عن ذلك الكتاب، ويكفي دليلًا على ذلك استعراض أي كتاب مدرسي في عدد من مناهج التعليم في البلاد الإسلامية لتجد ذلك الاختفاء -أو الظهور على استحياء- لكل ما يدل على تدبير الله سبحانه لهذا الكون وكل ما فيه، واختفاء بيان غاية مهمة من معرفة أسرار هذا الكون وهي زيادة المعرفة بالله سبحانه وما يلزم من ذلك من تحقيق التوحيد والعبادة له سبحانه، واستثمار هذه العلوم فيما يرضيه ويعود بالنفع على الأمة (¬2)، ولكن لا يعني أن المدرسة لم تحقق النفع في العلوم العصرية فما يقول ذلك باحث موضوعي، نعم لم تنجح نجاح مثيلاتها في الغرب في باب العلوم العصرية في تحقيق استقلال علمي والارتقاء بالعلم إلى باب المنافسة، ولكن المقصود أن المدرسة العصرية منذ نشأتها لم تمنع مشكلة الانحراف بالعلم ¬

_ (¬1) انظر: غزو في الصميم، عبد الرحمن الميداني ص 196 وما بعدها. (¬2) انظر: حاضر العالم الإسلامي. . . .، د. جميل المصري 1/ 196، وانظر: اليقظة الإسلامية في مواجهة التغريب، أنور الجندي، مبحث تعريب التعليم والجامعة والتربية ص 189 وما بعدها، وانظر: غزو في الصميم بكامله، عبد الرحمن الميداني، وانظر: واقعنا المعاصر، محمد قطب، حول مناهج التعليم زمن الاحتلال ص 217 - 234، وانظر: الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، محمد حسين، ولاسيّما فصل (قديم وجديد) 2/ 190 وما بعدها، وانظر له أيضًا: حصوننا مهددة من داخلها، فصل (في مناهج اللغة والدين) ص 161 وما بعدها، وانظر: الغزو الفكري في المناهج الدراسية (أولًا) في العقيدة. . . .، علي لبن، وانظر: الجهد المميز من جهة رصدها في موسوعة أنور الجندي ومن المعلوم أنه قد اختلف الحال في السنين الأخيرة بعد بروز الصحوة ودورها المهم في تصحيح المسار التعليمي.

دور مدارس الأقليات

الحديث وكان الأصل لو كانت قوية برؤية ورسالة تتفق مع هويتنا لمُنع ذلك الانحراف أو خفف منه، ولذا أجدها مشارِكة في الانحراف بالعلم بما تطبعه في عقول طلابها من أخطاء ارتبطت بالتيارات العلمانية ولا علاقة لها بالعلم في ذاته. دور مدارس الأقليات: عُرض فيما سبق تجارب العالم الإسلامي في طلب العلوم العصرية وفتح مدارسها في "مقر الخلافة - مصر - الهند - بلاد المغرب - فارس" ولم أتطرق للشام والعراق (¬1)؛ لأنهما كانا تحت النفوذ العثماني المباشر، ولذا كان ولاتها غير مستقلين كما هو الحال في مصر وغيرها، وكانت تجربة مركز السلطنة تغني عنهما، ولم تُشتهر تجارب خاصة تولاها ولاتها (¬2). ولكن بلاد الشام شهدت أمرًا آخر كان واضحًا فيها مقارنة بغيرها ألا وهو النشاط التنصيري، فبعد أن شعر الغرب بضعف العالم الإسلامي وإمكانية اختراقه تجهزت الإرساليات النصرانية لدخول الشرق من أجل نشر النصرانية بين أهلها، وكان القرن الثالث عشر/ التاسع عشر أشهر فترات نشاطها الحديث، فضغطت الدول الأوروبية على الدولة العثمانية حول الأقليات الدينية من يهود ونصارى فحصلوا على امتيازات خطيرة جعلتهم أحيانًا في وضع أفضل مما عليه المسلمون، بل ناسب ذلك أحيانًا أهواء بعض الولاة، فقدمهم وأخر المسلمين كما حصل مع إبراهيم باشا في بلاد الشام. ومع فشل الإرساليات في تحقيق هدفها بين المسلمين فقد تحولت للنصارى، كل طائفة في أوروبا تتنافس على أتباعها في العالم الإسلامي، فيمدونهم بالمال والدعم ويستعينون بهم في أمور التجارة والصلة بالمسلمين ويفتحون لهم أبواب أوروبا وينشئون لهم الكنائس والمدارس في موطن سكنهم. ¬

_ (¬1) مما يُذكر عن العراق تجربة واليها "داود باشا" (1816 - 1831 م) حيث شابه بعض أعمال "محمد علي" ولكنها ضعيفة، انظر: نشوء الشرق الأدنى الحديث. . . .، مالكولم ص 160 - 161. (¬2) انظر: الفكر التربوي العربي الحديث، د. سعيد إسماعيل ص 188، وانظر: الاتجاهات الفكرية عند العرب. . . .، د. علي محافظة ص 211.

ولوجود طائفة لا بأس بها على سواحل الشام فقد انصب نشاط الإرساليات الأوروبية والأمريكية إلى تلك الجهة، وتنافست الإرساليات في بناء الكنائس والمكتبات والمستشفيات والمدارس، وهو نشاط واسع وخطير وفي حاجة إلى دراسة مستقلة، وأكتفي هنا بما له علاقة بمشكلة الاضطراب حول العلوم العصرية، وقد كان ذلك من خلال مدارسهم الكثيرة. لقد شكل وجود الأقليات الدينية "اليهودية والنصرانية" داخل الدولة العثمانية عامل جذب للقوى الغربية المختلفة (¬1)، ومع الضعف الشديد للدولة العثمانية مارس الغربيون ضغوطهم عليها من أجل رعايتهم لأهل الملل داخل الدولة العثمانية بسبب الروابط الدينية والثقافية التي بينهم، ووصل الأمر أنه بحلول عام (1914 م) "كان هناك سبع عشرة ملة معترفًا بها من قبل الحكومة العثمانية تقع كلها تحت الحماية الأجنبية"، كما أن هذه الملل ذاتها بدأت تعرف الانقسام الداخلي، فمنذ ستينات القرن التاسع عشر بدأت تلوح تحديات لكبار رجال الدين في تلك الأقليات ظهرت بين صفوف صغار رجال الدين والعلمانيين منهم (¬2)، وسيكون للانقسام الداخلي وما يصحب ذلك من رعاية أوروبية للطرفين أثره فيهم وفي المجتمع المحيط بهم، ولاسيّما عندما يتخذهم الغرب جسرًا لاختراق الأمة الإسلامية. حظيت سوريا بعناية أكبر (¬3) ومما مهد لذلك حكم محمد علي لسوريا، إذ ¬

_ (¬1) انظر: نشوء الشرق الأدنى الحديث. . . .، مالكولم ص 188، 220. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 129. (¬3) كان يطلق على المنطقة التي تضم كلًا من سوريا الحالية ولبنان وفلسطين والأردن اسم سوريا في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر. انظر: المرجع السابق ص 147، وكان دخول "إبراهيم باشا" واحتلاله لسوريا سنة (1832 - 1834 م)، وقد قسم "جرجي زيدان" نهضة الشام إلى ثلاثة أطوار، ومن الملاحظ أنه ركز فقط على نهضة النصارى، والأطوار هي: 1 - من دخول "إبراهيم باشا" إلى حادثة (1860 م)، وقد خرج إبراهيم سنة (1840 م)، فجعل هذه المرحلة بداية النهضة، وذكر التفات إبراهيم إلى نصارى الشام على الخصوص ضد السنة الموالين للدولة العثمانية، وذكر أنه في هذه المرحلة تدفق المبشرون على المنطقة. 2 - بعد حوادث (1860 م) حيث تدخل الغرب لإنقاذ مبشريه ونشطوا في ذلك (فابتنوا المدارس الكبرى وألفوا الجمعيات وطبعوا الكتب في العلوم الحديثة وغيرها، فنشأت =

لم يعتمد حكمه هناك على المسلمين السنة بسبب بقاء صلتهم في الغالب بالسلطة العثمانية، ومن أجل ذلك استخدم النصارى واليهود بصورة خاصة، ولم يكن توظيفهم آنذاك شيئًا جديدًا وإنما "الجديد في الأمر يتمثل في درجة توظيف أفرادها والمميزات التي منحت لهذه الأقليات"، وهي أمور ظاهرها السياسة ولكنها مكنت لهذه الأقليات في الدولة المسلمة (¬1)، وقد أخذ النصارى عند ذلك يُحسّنون من أوضاعهم من خلال التعلم الذي جعلهم مؤهلين لملء الوظائف التي تحتاج إلى مهارات خاصة (¬2)، ولم يكن حركة من تلك الأقليات فقط إذ صاحبها الرعاية المتصاعدة من قبل الأوروبيين لمثل هذه الأقليات. يتحدث أيضًا "مالكولم" عن بلاد الشام في الفترة (1880 - 1914 م) فيقول: "أما بالنسبة للنصارى فقد أتيحت لهم فرص جديدة في التعليم في المدارس التبشيرية التي أنشئت لأول مرة خلال الاحتلال المصري لسورية، ثم تنامت حتى أصبحت تشكل شبكة ضخمة" (¬3)، وتعبيره بشبكة ضخمة يدل على حركة منظمة لتعليم النصارى تعليمًا قويًا في الشام، قامت به عدد من دول الغرب عبر تنافس كبير بينهم، وإذا علمنا بأن دول غربية قوية بكنائسها ودولها تتنافس على تعليم طائفة صغيرة، فالنتيجة هي وجود مجموعة قوية قادرة على اختراق ¬

_ = طائفة من الأطباء والعلماء والكتاب. . . . وأصبحت بيروت مبعث العلوم العصرية ومنشأ رجال الصحافة وكتاب الأدب والسياسة. وفي هذا الطور نبغ مؤسسو هذه النهضة. .)، ومع وصول "إسماعيل" للسلطة في مصر رغب (الناس) (النصارى) بالنزوح لمصر. . وانتهى هذا الطور بحوادث عرابي. 3 - (الطور الثالث يبدأ بالاحتلال الإنكليزي بمصر لتكاثر الوفود من أدباء السوريين في أثنائه. . . . وكان لهم شأن كبير في الحركة العلمية والمالية والصحافية، وكانت الهجرة في أول الأمر قاصرة على المسيحيين ثم تطرقت إلى المسلمين. .). انظر: تراجم مشاهير الشرق القرن التاسع عشر 2/ 166 - 168. (¬1) نفس ما فعل والده في مصر عندما أصبح واليًا عليها حيث (فتح بابه للنصارى من الأروم، والأرمن، فترأسوا بذلك، وعلت أسافلهم). انظر: عجائب الآثار للجبرتي 4/ 150 [حوادث شهر ذي الحجة، سنة (1227 هـ)]، عن الصلابي ص 385، وانظر: نشوء الشرق الأدنى الحديث ص 168. (¬2) انظر: نشوء الشرق الأدنى الحديث ص 147 - 157 وبخاصة ص 151، وانظر: الدولة العثمانية، د. علي الصلابي ص 140. (¬3) نشوء الشرق الأدنى ص 224.

النهضة الإسلامية الناشئة والمشاركة في إدارتها، ومن ثم توجيهها بما يخدم أهدافهم. ثم يتحدث الكاتب عن أثر كل جهة غربية، فالإرساليات التبشيرية الكاثوليكية الفرنسية تركز على تعليم المسيحيين الكاثوليك والروم والموارنة، وفي عام (1914 م) بلغ عدد مدارسها ما يقرب من (500) مدرسة في وقت يندر فيه وجود المدرسة في بعض بلاد المسلمين، وقد أنشؤوا بعدها جامعتهم (جامعة القديس يوسف) سنة (1875 م). وفي مقابل الكاثوليك كانت للإرساليات التبشيرية البروتستانتية البريطانية والألمانية ولاسيّما الأمريكية جهودٌ مماثلة، مع حرصها على تأهيل المعلمين المسيحيين لاستخدامهم يومًا ما في تنصير المسلمين، ثم تحولوا عن هدفهم هذا إلى التعليم عمومًا وفتحوا ما يمكن أن يقال عنه: أول تعليم عالي في البلاد الإسلامية وهو الكلية البروتستانتية السورية سنة (1866 م) نواة الجامعة الأمريكية فيما بعد. وجاءت مدارس طائفة ثالثة وهم الأرثوذكس عبر الرعاية الروسية لتؤسس شبكة واسعة من المدارس (¬1). طائفة صغيرة يخترقها التعليم الأوروبي الحديث بخلفياته الغريبة وأهمها العلمنة والرؤى المذهبية الجديدة وفي قائمتها المادية، فتمتلك الأقليات من خلال التعليم قوة داخل العالم الإسلامي تؤهلها للمشاركة والتأثير، ولكن هذه الطائفة أصيبت بانقسام بين القدامى والجدد عبر اختراق العلمنة ومذاهبها للجيل الجديد منهم. وقد أعقب هذه المدارس التبشيرية ولادة التعليم العالي ولاسيّما الكلية البروتستانتية السورية -الجامعة الأمريكية حاليًا- التي حصلت على دعم غربي كبير كونها تمثل أداة صناعة لبني جلدتهم وأداة اختراق مهمة لذلك العالم المغلق أمامهم عبر وسيلة سلمية، ومما يشهد لذلك أن مجموعة كبيرة من قيادات التيارات الفكرية العلمانية تخرجت من هذه الكلية. وقد يُستغرب كيف تكون كلية ذات أساس ديني تبشيري مرتعًا لتيارات عُرف عنها معاداة الدين في الغرب! ويزول الاستغراب إذا علمنا التواطؤ الموجود بين التيارات الغربية المختلفة حول ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق ص 225.

أهمية اختراق العالم الإسلامي، ولذا كانت القوى السياسية العلمانية توفر الغطاء اللازم لعمل المبشرين علّه يخدمهم في عملهم، وهكذا العكس، ويزول الاستغراب أيضًا إذا علمنا أن القوى العلمانية الغربية وجدت في الكلية فرصة للحركة، فاخترقتها حتى وإن لم يرغب قادة التنصير منهم في ذلك الاختراق. جُمعت تبرعات إنشاء الكلية البروتستانتية في أمريكا، وفي أثناء وجود فان ديك (¬1) -أحد أهم قادة التنصير في الشام- في أمريكا ليتولى طباعة "كتابهم المقدس" بعد أن تمت ترجمته للعربية على يديه وأصحابه، عُرض عليه إدارة تلك الكلية فوافق، وعاد ليباشر تأسيسها مع مبشر آخر صديق له (يوحنا ورتبات، 1827 - 1908 م) (¬2)، ووضعا وحدهما نظامها ودروسها، وقاما بتأليف الكتب العلمية وتدريسها في الباثولوجيا والكيمياء والفلك والتشريح والفسيولوجيا وغيرها (¬3). وقد سبب هذا الاختراق الغربي -العلمي والفكري والسياسي- لنصارى الشام انقسامًا فيما بينهم من جهة، ودخول أفكار جديدة عليهم من جهة أخرى، ولاسيّما في طائفة المتعلمين منهم، وأخطرها ما كان ضد الدين؛ لأنهم حملوا تلك الأفكار ضد دينهم أولًا، ثم تعمم ذلك ليكون ضد دين الإسلام، ومن هذه الأفكار ما كان منتسبًا لتيارات "التنوير" و"الوضعية" و"المادية" الأوروبية مثل: "الماسونية" و"فولتير" و"كونت" إلى "الدارونية"، وفيها ما يمثل زعزعة فكرية، ولاسيّما أفكار "فولتير" و"رينان" (¬4) أصحاب الحملة القوية على الكنيسة والفكر الديني ممن عرفوا في تلك المرحلة، وفيها ما يمثل نشاطًا ميدانيًا مثل الماسونية. ¬

_ (¬1) أهم وأشهر المنصرين الأمريكان في القرن التاسع عشر في بلاد الشام، انظر: ترجمته في المرجع السابق، جرجي زيدان 2/ 52. (¬2) مُنصّر أصله من أرمينيا وصل الشام وارتبط بالمنصرين، درس الطب حيث وجده طريقًا أفضل للتنصير، وحثه (فان ديك) على السفر لأمريكا للدراسة وفي أثناء عودته شارك صاحبه في الكلية، انظر ترجمته: المرجع السابق 2/ 310. (¬3) انظر: تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر، جرجي زيدان 2/ 58 - 59، وانظر: الفكر التربوي العربي الحديث، د. سعيد إسماعيل ص 188 - 189. (¬4) انظر مثلًا: العلمانية من منظور مختلف، د. نذير العظمة ص 181 - 182، وانظر: الأثر الفكري لـ"فولتير" وغيره، تراجم مشاهير الشرق، جرجي زيدان 2/ 213 - 216، وهناك فقرة عن "رينان" جعلْتُها في الصحافة، أما "الماسونية" فلها فقرة خاصة أيضًا بشواهدها.

وقد كانت المدارس والكليات وما اتصل بها من مطابع وجمعيات وصحافة موطن تسرب تلك الأفكار والنشاطات، وأصبح أفرادها مادة ممتازة للنشاط في مصر كأهم مركز إسلامي آنذاك بعد هجرتهم إليها، ولاسيّما فترة حكم إسماعيل باشا. يقول أصحاب التقرير الأمريكي عن التربية في الشرق الأوسط عن أثر المدارس: "لقد قامت المدارس الأجنبية بدور هام في حياة كل من سوريا ولبنان وفلسطين الثقافية في خلال ثلاثة أرباع جيل مضى، وكذلك في مصر إلى درجة محدودة. . . . وقد كانت المدارس الأجنبية طيلة هذه الفترة، ولاسيّما قبل قيام التعليم العام في تلك البلدان، في الطليعة فيما يختص بنشر التعليم في كل من الحضر والريف. . . . ورغم أن أثرها كان بالغًا في الأقليات على الأخص من مسيحيين ويهود، فإنها فضلًا عن ذلك قد امتد أثرها إلى المسلمين إلى حد كبير. فإلى سنة (1920 م) لم يكن هناك تعليم عال في سوريا وفلسطين والعراق، سوى الجامعة الأمريكية ببيروت، وجامعة سان جوزيف الفرنسية، ببيروت أيضًا. وقد عنيت الرسالات الأجنبية عناية خاصة بتعليم البنات، بل كثيرًا ما آثرتها على تعليم البنين،. . . . وفضلًا عن ذلك فإن عددًا كبيرًا من زعماء البلدان العربية في السياسة والأعمال والطب، من خريجي المعاهد الأجنبية. وحتى الحركة الوطنية، يمكن أن يقال: إن إذكاء روح الحماسة فيها، يرجع إلى حد كبير إلى بعض المدارس الأجنبية المتصفة بحرية الرأي. وفي مقدمة زعماء الحركة الوطنية في تلك البلدان تخرجوا في الجامعة الأمريكية ببيروت، وقد حازت المدارس الأجنبية في العالم العربي منذ عهد طويل شهرة واسعة ومركزًا ممتازًا" (¬1). ثم ذكر التقرير بعض سهام النقد التي وجهت إلى تلك المدارس وهي باختصار: ا- إجبار الكثير من تلك المدارس طلابها من غير النصارى على حضور الدروس الدينية والعبادات الخاصة بهم. ¬

_ (¬1) أُعد التقرير لصالح مجلس التعليم الأمريكي بواشنطن عن (التربية في الشرق الأوسط العربي) في (مصر والعراق وفلسطين وشرق الأردن وسوريا ولبنان)، وركز على النصف الأول من القرن العشرين مع خلفيات في القرون السابقة لمؤلفيه، د. متى عقراوي، وترجمة د. أمير بقطر، وهذا النص ص 732.

2 - تقوم تلك المدارس بزرع الولاء لبلدان أجنبية على حساب الولاء للوطن، وتصبح ميول الطالب إلى بلد "المدرسة الإرسالية" ويتعلق بها. 3 - فرّقت الشباب إلى جماعات، تُكنّ كل مجموعة الولاء لبلد أوروبي مثلًا، ويحدث التحزب ثم التنازع بينهم، ففرقوا الأمة، وأصبح كل فريق يدعو للولاء لبلد ما أو منهج أو طريقة. 4 - كانت المدارس الأجنبية مستقلة تمامًا وتعمل ما تشاء، وذلك أنها في فترة الحكم العثماني محمية بنظام "الامتيازات الأجنبية" بل كانت متمتعة بقوانينها الذاتية إلى حد كبير (¬1). كانت مدارس الأقليات والمدارس الأجنبية عمومًا أحد أهم مراكز تحصيل العلوم العصرية، لقد صيغ فيها المنهج والمواد وطريقة العرض والعلاقة بين العلم والدين، وجاء المدرس الأجنبي بخلفياته العلمية والثقافية وبأهوائه الدينية والسياسية، فشكلت بذلك النموذج الجديد بكل مكوناته الذي سيتصدر كنموذج للتعليم في البلاد الإسلامية، فانتقل ذلك النموذج بحسناته وسيئاته إلى "المدرسة الوطنية" الحديثة. يظهر الغياب الكامل لدور الدولة نحو التعليم العصري في بلاد الشام، والبعض يعيد السبب إلى عدم استقرار الوضع السياسي -الإداري فيها، إذ ما إن يُنصب والٍ عليها إلا ويعقب ذلك قرار سريع بتغييره، وهو سبب مفهوم في ظل الأوضاع الإدارية المزرية التي عرفتها الولايات العثمانية آنذاك، ومع هذا الغياب جاء البديل الخطير عبر المدارس الأجنبية بأهوائها المختلفة. ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق ص 732 - 734، وقد كان هذا النظام العجيب (الحماية والامتياز) من بين أخطر الأدوات التي اخترق بها الغرب العالم الإسلامي، فقد كان ظاهره إعطاء امتياز خاص للأجانب داخل البلاد الإسلامية، وحماية خاصة اتسعت لتشمل الأقليات التي يعملون داخلها، فيعملون دون رقيب أو حسيب، وما كان يعكرها إلا تنافس الغربيين فقط، وقد أصبح نظام الحماية هو السائد في كل مكان يتحركون فيه، ومن ذلك ما ذكره "عبد الكريم غلاب" عن حاله في مركزٍ آخر من العالم الإسلامي (المغرب) حيث شبهه بتكوين دول داخل الدولة، وقد يفعل الرجل جريمة ولكن لصلته بقنصل أو أجنبي فيكرمه بالحماية فتمنع الدولة من ملاحقته، انظر كتابه: قصة المواجهة بين المغرب والغرب ص 76 - 78 - 84، 116 - 122.

ولم تكن الحال أحسن في الولايات الأكثر استقرارًا، مثل مصر في ظل حكم محمد علي وأبنائه، فقد كان لطول حكمه وتعاونه مع الغرب وتحالفه معهم، ثم نجاحه في توريث الحكم في أبنائه، كان لكل ذلك أثرٌ كبيرٌ في الاستقرار، ومن ثم إمكاننا رؤية عملية التحديث دون انقطاع ورؤية آثارها. ومع ذلك فلم يكن الحال بأحسن في نظام التعليم الحديث فيها؛ إذ سيطر الأجانب على إدارته والتدريس فيه ووضع المناهج واستثماره بما يخدم مصالحهم، وبما أنه خدم طائفة النصارى أكثر من غيرهم، فإننا نجد ثناءً كبيرًا من قبل الكتاب النصارى على دور محمد علي وأبنائه باستثناء عباس باشا الأول (¬1)، وهذا ما لم يكن يوافق عليه قادة الفكر الإِسلامي المشهورون في تلك البلاد كالأفغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا، إذ انتقدوا بشدة ذلك التعليم (¬2). كان التعليم في ولاية مصر يخضع في الغالب لإدارة "ديوان المدارس" الذي أنشئ في سنة (1836 م) وناظره الأول "مصطفى مختار" وأعضاء الديوان هم: "كلوت بك" مدير مدرسة الطب، والكولونيل "كياني بك"، و"يعقوب أرتين بك" مدير مدرسة الإدارة، و"أسطفان أفندي" مدرسة الإدارة، "فاران" مدير مدرسة الفرسان، "هيكيكان" مدرسة المهندسخانة، "رفاعة الطهطاوي" مدير مدرسة الألسن، "بيومي أفندي" مدرسة المهندسخانة، "لامبير" مدير مدرسة المناجم، "هامون" مدير مدرسة الطب البيطري، "دورول" سكرتيرًا، وكان أربعة منهم أدخلوا الديوان بطلب الوالي "مختار وأرتين وأسطفان ورفاعة"، ويبدو -بحسب كتاب أنور- أن فكرة الديوان ترجع إلى تأثير كل من "السيمونيين" و"المبتعثين العائدين من أوروبا" (¬3)، وقد كان "كلوت بك" (¬4) الدينمو الأساسي ¬

_ (¬1) تختلف الآراء حول "عباس" هل كان معيقًا لمسيرة التعليم أو معيقًا للتغريب، ولا شك أنه أعاق التغريب ولكن ماذا فعل للتعليم؟ انظر مثلًا: الانحرافات العقدية والعلمية. . . .، علي الزهراني ص 187، وانظر: نهضة مصر. . . .، د. أنور عبد الملك ص 161. (¬2) سبقت شواهد في الفقرة السابقة. (¬3) انظر: (حول الديوان) نهضة مصر. . . .، د. أنور عبد الملك ص 155 - 156، والنص السابق باختصارٍ منه، وانظر: نشوء الشرق. . . .، مالكولم ص 151، وانظر: الانحرافات العقدية والعلمية. . . .، الزهراني ص 177. (¬4) انظر حول دوره: تراجم مشاهير الشرق. . . .، جرجي زيدان 2/ 7، وانظر: المرجع السابق، نهضة مصر ص 160 حاشية رقم (16).

في صياغة التعليم الموازي الجديد للنظام القديم المتمثل في الأزهر، وقد كان طلاب هذا النوع يُخطفون من أسرهم ويُدخلون مدارس أشبه بمعسكرات الاعتقال أو الجندية الشديدة فينفر الناس منها (¬1)، بخلاف الأزهر ومدارسه، فمع ضعفه إلا أن النفوس تشتاق للدراسة فيه وتفتخر الأسر بوجود أبنائها في حلقاته. طلبت الحكومة الفرنسية من "بيليسييه" منتصف القرن التاسع عشر (1849 م) أن يعطيها دراسة عن حال مصر ولاسيّما بعد الانتكاسة التي وقعت لتجربة محمد علي بسبب العدوان الأوروبي عليه في أثناء محاولته التوسع، فذكر انهيار التعليم وتدهوره، ولكن العجب هو ما ذكره من أسباب ومنها: 1 - ضعف المكانة التي أعطيت للفرنسيين في التعليم العالي. 2 - عدم ترقي الطلاب الفلاحين بسبب بقاء اتصالهم بغير المتعلمين من ذوويهم. 3 - أن استظهار القرآن في سن مبكرة قد أفسد عقول التلاميذ (¬2). بمثل هذا المكر تُكتب التقارير، والمقصود بالتعليم هنا "العلوم الحديثة" حيث جعل أسباب الضعف هو ما يريد الوصول إليه من أهداف أو يريده الاستعمار، فمرادهم تمكين أكثر للأجانب في إدارة التعليم، وعزل تام للفئة الدارسة عن مجتمعها، وإبعادها تمامًا عن مصدر دينها وعقيدتها وقوتها وهو القرآن الكريم، ومن غير المستغرب تغرب هذه التجارب ما دامت تتحرك بإدارة أجنبية، وبرغبات دينية أو سياسية تتعارض تمامًا مع دين الأمة ونظامها، ومن الطبيعي أيضًا أن ينجح على مستوى الفكر في غرس بعض أفكار العدو من خلال مدارسه الخاصة أو المدارس التي أوكلت إليه من مدارس المسلمين. جاءت مرحلة خطيرة من جهة تمكين الأجانب ومدارسهم من أرض مصر زمن الوالي سعيد ثم إسماعيل، في ظاهرة تُعد من أغرب الظواهر في تاريخ الأمة الإِسلامية -ولاسيّما زمن سعيد- وكأن هناك قناعة بعدم قدرتنا على فتح المدارس، وأن الأولى تركها للأجانب، فيذكر صاحب كتاب نهضة مصر بأنه ¬

_ (¬1) انظر: مجلة المنار، آثار محمد علي 5/ 175 سنة (1320 هـ - 1902 م). (¬2) انظر: نهضة مصر. . . . ص 161.

"مع مجيء سعيد كان قيام مدارس البعثات الأجنبية يمثل أكبر ظاهرة سائدة في السياسة التعليمية. ولم يحاول الحاكم الجديد المنفتح على النفوذ الفرنسي أن يفعل شيئًا لإعادة فتح المدارس الابتدائية والإعدادية، مفضلًا ترك هذه المهمة للمدارس الأجنبية"، إلى أن قال: "وكانت المدارس الأجنبية في ذلك العقد تتكون من نوعين من المؤسسات"، ثم ذكر مدارس كل نوع من النوعين: 1 - مدارس الجاليات والطوائف الأجنبية من نصرانية ويهودية، وما يعود لدول لها أتباع في مصر، وقد بدأ ظهورها من زمن محمد علي واستمرت مع أبنائه. 2 - مدارس البعثات الدينية الأجنبية، وهذه بدأت من سوريا التى سبق وجودهم فيها، فبعد أن حصلوا على موافقة محمد علي فتحوا مدارسهم في مصر، وتحول التنافس بين كنائس أوروبا إلى مصر ما بين الكاثوليك الفرنسيين والبروتستانت البريطانيين، "وبينما كانت المدارس الدينية الفرنسية تتمتع بمساندة حكوماتها المباشرة، وخاصة "جيزو"، استهدفت المدارس البروتستانتية الأنجلو -أمريكية تحويل الأقباط إلى بروتستانت وكانوا يعتمدون في ذلك على أموال المنظمات التبشيرية"، وكان الهدف التنصيري لهذه المدارس هو الهدف الأول، واهتمت بالنصارى واليهود (¬1). والعجيب أن هذه المدارس قد حظيت بدعم من قبل الوالي أكثر من دعمه لمدارس المسلمين، لدرجة أن عددًا من المدارس الأوروبية استمرت بفضل المساعدات الأميرية، وأن المبالغ التي صرفها الوالي لمدارس "الفرير" وغيرها تفوق على الأرجح ما صرفه على ميزانية التعليم العمومي خلال حكمه كله، فضلًا عن المباني الحكومية التي تنازل عنها لصالح أعمالهم. لقد نفض يديه فعلًا من مسئولياته كوالي فيما يتعلق بالتعليم العمومي (¬2)، ولا ندري كيف يتحول بعضهم إلى مُحسن للأجانب والأعداء، بينما هو مسيء ومتجاهل وربما طاغية على أهل ولايته وملَّته. ¬

_ (¬1) انظر: نهضة مصر. . . . ص 163 - 165. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 165، وانظر: الانحرافات العقدية والعلمية. . . .، الزهراني ص 187 - 188.

تعدّ فترة ولاية إسماعيل مشهورة في تاريخ مصر الحديث، فمن جهة طغت عليه رغبة في تحويل مصر إلى قطعة أوروبية (¬1)، في محاولة استئصال لها من جغرافية الشرق وإلحاقها بالغرب، وإذا كان الوالي بمثل هذا التفكير فمن الطبيعي أن يفتح صدره للوجود الأجنبي بكل مؤسساته ومنها التعليم، وقد وقع الكثير من ذلك لدرجة أن كاتبًا متسامحًا مثل شكيب أرسلان (¬2) يتحدث عن نفوذ للأجانب لا يتصوره العقل، وأن أهل البلد أصبحوا كالعبيد للأجانب. ومع ذلك فقد عرفت هذه المرحلة رجلًا مهتمًا بالتعليم وتطويره أعقل من رجل السياسة صاحب الأوهام وهو "علي مبارك"، الذي اعتمد عليه إسماعيل كما اعتمد جده ومن بعده على الطهطاوي ولكن ذلك لم يعطل نشاط المدارس الأجنبية فقد استمر وضعها (¬3) على حاله وربما أقوى. قام "علي مبارك" بإعادة تشكيل التعليم الحكومي، وخفف من عسكرته السابقة، وفتح المدارس المختلفة، وأدخل بعض المواد الحديثة، واهتم بالمدارس العليا التي كانت نواة الجامعة المصرية فيما بعد، وقد كان من أهم مشروعاته "دار العلوم" التي أسست سنة (1871 م) هدفها إعداد المعلمين بعد تخرجهم من الأزهر، وأدخل فيها الأدب العربي والفلك والطبيعة والعمارة والميكانيكا والتاريخ العام والفقه على مذهب أبي حنيفة وعلم النبات وغيرها (¬4)، ولا شك أن جهود علي مبارك رغم المآخذ التي عليها أفضل من ترك الساحة للمدارس الأجنبية التي فرضت نفسها وأوجدت لها حماية أجنبية وأتباعًا لا يتخلون عنها. ومع ذلك فقد أثرت تلك النماذج الأجنبية على التعليم في مصر وغيرها، أثرت في تكوين مدرسة جديدة تختلف عن "المدرسة المعروفة" عند المسلمين، ولاسيّما في عصور الضعف الأخيرة، حيث كانت مهمة المدرسة الموروثة لا تتجاوز تعليم قراءة القرآن بأساليب غير مناسبة مع القراءة والكتابة والحساب، ثم ¬

_ (¬1) انظر: الفصل السابق ص 567. (¬2) انظر: الشاهد ص 615. (¬3) حول المدارس الأجنبية انظر: نهضة مصر. . . . ص 170 - 171. (¬4) انظر: نهضة مصر. . . .، 166 - 170، ولاسيّما ص 169.

يخرج منها الطالب ليلتحق بحلق العلم وقليل من يفعل ذلك، بينما الدولة الحديثة تريد الجيش العصري والأطباء والمهندسين والإداريين والصناع وغيرهم، وكان النموذج المقترح لذلك هو المدرسة الأجنبية، ولاسيّما أن خريجيها هم من يتولى المناصب العليا في دولة محمد علي وبنيه، فأُخِذَت نموذجًا يُحتذى مع تعديلات لم تؤثر في جوهرها، وبتعبير -ربما يكون صحيحًا- لأصحاب التقرير الأمريكي عن التربية في الشرق الأوسط "ولذا جاز لنا القول: إن التقدم التعليمي في العالم العربي يدل على الانسلاخ من الماضي والاتجاه إلى ناحية جديدة" (¬1)، وكان ذلك عبر تأسيس المدارس الحديثة المغايرة للمدارس القديمة، وذكروا أن من العوامل التي دفعت إلى هذا الاتجاه "تأثير الأجانب من أفراد وجماعات، في الشرق الأدنى والعالم العربي. فمجلس التعليم الأول الذي أنشأ في سنة (1837 م)، كان يتألف برمته إما من أعضاء أجانب من موظفي الحكومة المصرية، أو من طلبة مصريين ممن تلقوا علومهم من الخارج، لاسيّما فرنسا. وعقب ذلك تعيين مفتش أجنبي ظل في وظيفته زهاء العشرين عامًا، وبعد الاحتلال البريطاني قام البريطانيون بدور هام في وضع السياسات التعليمية إلى سنة (1922 م)، أما في غير مصر من الأقطار العربية، وعلى الأخص سوريا ولبنان وفلسطين، فقد سبقت مدارس الرسالات الأجنبية، أية مدارس منظمة حديثة حكومية أنشأها الأتراك. وقد أصبحت هذه المدارس بطبيعة الحال نموذجًا تنسج على منواله المدارس الحكومية والأهلية بعد ذلك" (¬2). وكذا كان النظام العثماني الذي تأسس في النصف الثاني من القرن التاسع عشر متأثرًا بالطابع الغربي، ولما دخل الانتداب -الاحتلال- إلى سوريا ولبنان وفلسطين، أصبحت اليد العليا في رسم خطط التعليم للبريطانيين والفرنسيين، ثم بعدها في العراق (1915 م) وضعت بريطانيا أساس النظام التعليمي في العراق (¬3). لو كان التعليم الأجنبي داخل الأقليات الدينية فقط في ظل حقوقهم لما كان هناك إشكال، ولكن التعليم الأجنبي الموجه أولًا للأقليات الدينية أصبح هو ¬

_ (¬1) انظر: التربية في الشرق الأوسط العربي ص 703. (¬2) المرجع السابق ص 703. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 703.

التعليم المرغوب فيه عند ولاة المسلمين، وخريجو تلك المدارس هم المؤهلون لمناصب الدولة وأعمالها المختلفة، بخلاف الأزهر ومؤسساته فالمتخرجون منه يُؤهلون لأعمال خاصة بالمجتمع من إمامة مسجد أو خطيبه أو عاقد أنكحة أو فقيه للإفتاء أو مدرس للعلوم الإسلامية أو اللغوية، فتوجهت الدولة أولًا لخريجي المدارس الأجنبية فولّتهم الأعمال الخطيرة، ثم قامت في مرحلة تالية بتأسيس مدرسة تابعة للدولة على النموذج الأجنبي نفسه ومنعزلة في الوقت نفسه عن النموذج الإسلامي، بل منافسة له ومتصارعة معه. فنشأ التوتر من البداية بين نموذجين، واتسع ذلك ليشمل المدرس هنا وهناك، والمنهج هنا وهناك، والرؤية هنا وهناك، والنتائج هنا وهناك، فالمدرس في الأجنبية للأجنبي بخلاف الإسلامية فهو من أهل العلم الشرعي، والمنهج في الأجنبية ما بين علوم لغوية أو عصرية من رياضة وطبيعة واجتماع والإسلامية كما هي على العلوم الشرعية واللغوية، والرؤية في الأجنبية ما بين هوى التنصير وهوى العلمنة بحسب إدارتها وملكيتها فهي إما عائدة للكنائس أو لتيارات علمانية والرؤية في الإسلامية لا تخرج عن الإسلام، والنتائج في الأجنبية أن خريجيها يحصلون على أفضل الوظائف والتقدير الاجتماعي والاحتفاء الرسمي بينما الإسلامية لا وظائف لهم إلا ما هو معلوم من قبل ولا يمثل وظيفة حقيقية فهي أقرب لعمل التطوع ولا تقدير اجتماعي إلا للنخبة منهم ممن برز في العلم الشرعي وقليل ما هم. وقد كان يمكن تلافي هذه الازدواجية وهذا التوازي غير المعتدل مما يؤدي إلى التصادم كثيرًا، وبالرغم من الأفكار الداعية للتقريب بين المدرستين التي رفعها الطهطاوي في المرحلة الأولى أو علي مبارك في كتابه: "علم الدين" في المرحلة الثانية إلا أن ذلك التقارب لم يقع، أو لم يُرَد له أن يقع، حتى حَلّ ما حل ببلاد المسلمين من الاحتلال الخطير -الذي بدأ بالجزائر وتونس ثم مصر، ثم عم العالم الإسلامي بعد الحرب العالمية الأولى-؛ ليصبح التعارض حقيقة، وتظهر محاولات خطيرة صريحة جادة إلى حسمه لصالح التعليم الوافد برؤيته ومنهجه وأهدافه على حساب دين الأمة وهويتها وتاريخها. وخلاصة القول: إن مدارس الأقليات الموازية للمدرسة الإسلامية قد أسهمت بنشاطها في الانحراف بمسيرة العلم العصري؛ حيث تم اختراقها من

التيارات العلمانية الغربية، ولاسيّما مع موجة الاستعمار، ثم تحولت إلى نموذج يحتذى أول نهضتنا الحديثة، وسارت بالجنب مع التعليم الوطني، وما زالت إلى اليوم منافسًا خطيرًا للتعليم الوطني في البلاد الإسلامية، وأغلب رموز الفكر التغريبي قد مرّوا بها، ولا يعني أنها لا تقدم علومًا نافعة ولكن ذلك كان ثانويًا مقارنة بما تفعله من أثر تغريبي خطير في المجتمع المسلم، فضلًا عما تقوم به من تطبيق الرؤية العلمانية على العلوم العصرية بعد اختراقها من تيارات الفكر العلمانية الغربية، وهي بهذا قد أسهمت في توسيع البيئة القابلة للانحراف بالعلم، ولاسيّما أن العلوم النافعة لم تقدمها بقوة تقديم العلوم القابلة للأدلجة والانحراف. لقد ظهر من العرض السابق أن المدرسة العصرية "الإسلامية أو مدرسة الأقليات" التي تهتم بالعلوم العصرية قد وقعت في مشكلات ولاسيّما في جانب الرؤية العامة والإطار المعرفي الموجّه لها؛ ويرجع ذلك في الغالب إلى تحكم الأجنبي بإدارتها ووضع محتواها، وهو رجل من اثنين: إما أنه من رجال التنصير أو أنه من رجال العلمنة، وبسبب ذلك غابت المدرسة العصرية الإسلامية، التي تأخذ رؤيتها وتصورها من الإسلام وتختار من المحتوى العصري: النافع المفيد الصحيح، وسيكون لذلك أثره في العلاقة بين الدين والعلوم العصرية.

ثالثا: دور الصحافة (نشأتها وتمكن النصارى منها وتوجيههم التغريبي لها)

ثالثًا: دور الصحافة (نشأتها وتمكن النصارى منها وتوجيههم التغريبي لها) لعبت ثلاثة عناصر دورًا خطيرًا في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، وهي: "المحافل الماسونية، والمدارس الأجنبية، والصحافة"، حيث شاركت في توجيه الأفكار وصناعة المشاكل، ومن ذلك أثرها في إفساد مسيرة العلوم العصرية في مجتمعنا الإسلامي، بسبب ما بثته فيها مما لا يخدم التطور العلمي الصحيح. كانت الصحافة من أخطر أدوات التعبير والتأثير في تلك المرحلة (13/ 19) كونها تتمتع بجاذبية خاصة، فهي الوسيلة الإعلامية الوحيدة آنذاك دون منافس، فلا إذاعة ولا شاشة، وكانت المنفذ إلى النخبة والجمهور، ومن الطبيعي أن تنشر ما يريده أصحابها. والصحافة بنت المطبعة، وعندما جُلبت المطبعة إلى البلاد الإسلامية بدأت مشروعات الصحافة، وقد ظهرت أول ما ظهرت في بلاد الشام وفي مصر، أما في مصر فكانت أول ما ظهرت في أثناء حملة "بونابرت" على مصر، وأما في الشام فكانت عبر الإرساليات التنصيرية ولاسيّما الأمريكية (¬1). وعندما نجح "محمد علي" في تثبيت سلطته في مصر وابتعث من ابتعث -ومنهم "الطهطاوي" الذي تحدث في كتابه عن صحافة باريس- واهتم بالمطبعة، أُسست عندها صحيفة رسمية تولى الإشراف عليها فيما بعد رفاعة ¬

_ (¬1) انظر: الاتجاهات الفكرية عند العرب. . . .، علي المحافظة ص 28، الإسلام والحضارة الغربية، د. محمد حسين ص 54.

الطهطاوي (¬1)، بعدها بدأت الصحافة في حضورها على السطح الثقافي. أما في الشام فمن المعلوم أن الإرسالية الأمريكية نقلت مطبعتها من مالطة إلى بيروت من أجل نشر كتبهم الدينية، ثم تطور الأمر إلى ظهور المطابع بإدارة نصارى تلك البلاد، وما تبع ذلك من ظهور صحافة يديرونها وتنتشر بينهم وبين المسلمين (¬2). وبما أن الصحافة منها الخاص بالأخبار والمعلومات ومنها ما هو خاص بالفكر والرأي، وغالبًا ما تخلط هذا بذاك، فإنها لابد ستنشر شيئًا من المعارف الجديدة والآراء والأفكار المصاحبة لها. وقد كان من بين ما اعتنت به حركة الصحافة آنذاك تعريف المجتمع بالعلوم العصرية وبعض ما ارتبط بها، ثم تحول التعريف إلى تأثير في بعض القراء وبدأت تبرز المذاهب والأفكار الجديدة، ثم ما لبثت أن اتسع تأثيرها ليصل لجمهور القراء الذين يمثلون آنذاك قادة المجتمع والنخبة المهمة فيه. أبحثُ في هذه الفقرة عن الأثر السلبي للصحافة بداية ظهورها في طرحها للعلوم العصرية وآثار ذلك في: الانحراف بمسيرة تلك العلوم، أو إعاقة نمو النافع منها نموًا صحيحًا مفيدًا للأمة. وتختلف (المدرسة) عن (الصحيفة) بأن (المدرسة) خاصة بفئة معينة من المجتمع، أمّا (الصحيفة) فهي موجهة لكل قارئ، مما يعني أن فعل الصحيفة أوسع من أثر المدرسة، وإن كانت المدرسة ربما أعمق، كما أن الصحيفة آنذاك كانت تُطلب ويُعتنى بها من قبل النخب المتنوعة، وقد لا يتأتى ذلك في المدرسة. أما (المحافل) فهي أداة استقطاب للنوعيات المميزة وإدارتهم وتوجيههم فيما بعد بما يخدم أهداف الماسونية. لا يكاد يقع اختلاف بين الباحثين بأن القرن الثالث عشر/ التاسع عشر قد شهد طلبًا واضحًا للنهضة والتحديث، وأن عمدة ذلك يتأكد في طلب العلوم العصرية ذات الثمرات المدنية المشهودة، عبر الابتعاث أو طلب المدرسين الأجانب وفتح المدارس الخاصة بذلك، وأن ذلك أعاد الاعتبار لمثل هذه ¬

_ (¬1) انظر: رفاعة الطهطاوي. . . .، د. محمد عمارة ص 75 - 82. (¬2) تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر، جرجي زيدان 2/ 35، في أثناء حديثه عن بطرس البستاني.

العلوم، ولكنها بقيت بعيدة عن الجمهور لاسيّما والمدارس محدودة العدد وكذا المبتعثين، فجاءت الصحافة الناشئة لتعمم هذه الفكرة، ولكنها بسبب انحيازها لاتجاه معين وفكر معين أوقعت قرائها في شَرَك أهوائها، وبدل أن تكون أداة نهضة للأمة تحولت إلى أداة إشكال وتوتر. كانت فترة ازدهار الصحافة في الربع الأخير من القرن التاسع عشر وأول العشرين (13 - 14 هـ) إلى بداية الحرب العالمية الأولى، ولاسيّما في ظلّ غياب منافس إعلامي لها، حيث صاحب تطور الطباعة تطور الصحافة وظهرت الصحف والمجلات لأول مرة في العالم الإسلامي، وقد كان للصحفيين السوريين نشاطًا قياديًا في كل من سوريا ومصر وأوروبا، ومن خلال صحفهم "تسربت الأفكار الأوروبية الجديدة إلى القراء العرب" (¬1)، وفي مصر مثلًا -الأشهر في هذا الميدان وقبل الاحتلال البريطاني- كان يوجد فيها سنة (1879 م) "ست عشرة صحيفة، عشر منها تصدر باللغة العربية" وبحسب رأي "مالكولم" فقد "كان الكثير منهم متأثرًا بالأفكار الفرنسية بصورة كبيرة: إذ كانت المدارس والصحف الفرنسية قوية في مصر، كما انتقل العديد من الكتاب الذين بدؤوا مهنتهم في مصر إلى باريس فيما بعد، حيث كانت تسود الآراء والأفكار المعادية لبريطانيا"، ومما يميزها الحضور البارز للمهاجرين الشوام (¬2) ولاسيّما النصارى. جاءت الصحافة بعد أن بدأت تجارب التحديث في بعض البلدان الإسلامية وكان أشهرها تجربة والي مصر محمد علي، ومن ذلك فتح المدارس المتخصصة في تحصيل العلوم العصرية، وأصبحت مصر نموذج التجارب الأخرى ومدارسها ربما تتلقى طلبًا من هنا أو هناك للالتحاق بها، ولكن هذه العلوم بقيت محصورة في فئة وبعيدة عن عموم المجتمع، وكان هناك نوع من القطيعة بين الأزهر -وهو المركز العلمي الأقرب للناس- وبين هذا المركز الجديد للعلم، وقد كان من المفترض أن تلعب الصحافة دورًا مهمًا في ردم الفجوة بين الأزهر كنموذج وبين مؤسسات العلوم العصرية، وبين المجتمع عمومًا وبين ما أُدخل عليه دون تهيئة مناسبة من مدارس ومدرسين أجانب أو طلب العلم في بلاد الكفار، وكان يمكن ¬

_ (¬1) انظر: نشوء الشرق الأدنى الحديث. . . .، مالكولم ياب ص 226. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 243.

ظروف نشأة الصحافة وأثر ذلك على الانحراف بمسيرة العلم الحديث

أن تُعرّف المجتمع بالنافع، وتقدم مشروعات لمعالجة الإشكال الناجم عن سوء الفهم، هكذا يفترض في صحافة أمة تحاول النهوض بعد مرحلة ضعف خطيرة. ولكن بالرجوع إلى أشهر مجلات تلك المرحلة أو صحفها نجد أنها رغم أهميتها وخطورة دورها تاهت عن الواجب التنويري والتثقيفي الذي كان يمكن أن تقدمه للأمة، وأنها بدل أن تعالج المشكلات فاقمت منها، وأن ذلك ازداد حدّة -ولا غرابة- مع ما حصل من الاحتلال الغربي لبلاد المسلمين، فانساق الكثير من صحف ذلك الزمان مع رغبات المستعمر وتنفيذ مشروعاته، ثم ازداد الأمر سوءًا مع بروز التيارات الفكرية المتغربة والأحزاب العلمانية، ولكن ضرورات البحث تجعلني أقف مع بداية الإشكال بذكر النماذج الموضحة له، وآثارها حول "الانحراف بالعلوم العصرية بدل الاستفادة منها" مع الإلماح لما جاء بعدها مواصلًا المسار نفسه، فنحلل هذا الموقف ونكشف القضية المهمة في هذا المبحث بالذات، وهي أن مشكلة الانحراف بالعلم كان يمكن أن تبقى محصورة في نطاق النخبة وتعالج بصورة أيسر، إلا أن جزءًا من صحافة العصر عممت المشكلة، وكونت جمهورًا ورأيًا عامًا، كان له آثاره السلبية على مجريات الأمور فيما بعد. ظروف نشأة الصحافة وأثر ذلك على الانحراف بمسيرة العلم الحديث: من بين أشهر النماذج الصحفية لتلك المرحلة: "المقتطف" و"الجامعة" و"الهلال" بما تمثله من تركيز على الجوانب الفكرية والعلمية والأدبية الحديثة مما هو شائع آنذاك في أوروبا، وهنا يظهر سؤال: ما السبب في أن أغلب صحف تلك المرحلة بإشراف النصارى ولاسيّما الشوام؟ وما الذي أعطاها القدرة للحديث عن كثير من الأمور -من بينها العلوم العصرية من مناهج ومعارف ونظريات- وهي في غير مقدور أهل تلك المرحلة؟ إن فهْم هذه الأمور يساعد على فهم أثر الصحافة في نشر تصور معين عن "العلوم العصرية" أسهم في تعكير الجوّ الثقافي، وفتح المجال لثغرات خطيرة نعاني منها إلى اليوم. أما حول إشراف نصارى الشام على الصحافة، فالافتراض العام أن الإرساليات التي ركزت العمل في بلاد الشام نجحت في صناعة جيل يتولى إدارة الصحافة فيما بعد، فإن تلك الإرساليات التنصيرية كانت تعي أهمية "المدرسة"

و"الصحيفة"، وكان من بين أول المتأثرين بها "بطرس البستاني" بعد أن ترك منصبه ليعتنق مذهب إحدى المدارس النصرانية (¬1)، فاعتنى بفتح أول مدرسة تقدم إلى جانب العلوم العربية العلوم العصرية، وأتبع ذلك بفتح أول صحيفة أهلية، وتوالت على يده صحف أخرى (¬2)، وما كان ذلك سيتم بسهولة لولا الدعم المعنوي والمادي والثقافي الذي سيتلقاه من تلك الإرساليات، ومن المعلوم أن رواد الصحافة فيما بعد كـ"الأهرام" و"المقطم" و"المقتطف" و"الهلال" وغيرها كانوا من خريجي معاهد هذه الإرساليات، وهو دعم طبيعي لا يستغرب في ظل ضعف الأمة وغفلتها، بل بتسامح بعض الولاة مع تلك الظاهرة تحت الضغط الأجنبي (¬3)، وقد كانت رغبة "إسماعيل" والي مصر أن يحولها قطعة من أوروبا، ولذا فتح الباب للأجانب بشكل كبير، فدخلوا بكل قواهم ووجدت صحافتهم آنذاك دعمًا قويًا (¬4). ولم يطل الأمر إذ فُجع المسلمون باحتلال مصر الذي قد سبق شبحه إلى الهند والجزائر، ثم وقع بمصر وتونس، وهكذا دواليك، وبدل أن يكون الدعم بصورة خفية عبر الإرساليات أصبح ظاهرًا عبر الاحتلال المباشر. ولم تكن هذه الحال مع الصحافة الإسلامية، فهي لا تجد الدعم المادي ولا الثقافي ولا السياسي، وتواجه معاناة في الاستمرار باستثناء القليل منها مثل: "المؤيد" و"المنار" وغيرهما. إذا عرفنا على الإجمال سبب اشتهار صحافة الشوام النصارى، بما حصلوا عليه من إعداد مكنهم من النشاط ومن دعم مكنهم من مواصلة مشروعهم، فيبقى ¬

_ (¬1) انظر: تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر، جرجي زيدان 2/ 37، ترك المارونية واعتنق البروتستانتية، انظر: العرب النصارى، حسين العويدات ص 193، رواد النهضة الأدبية، اليازجي ص 92. (¬2) انظر: المرجع السابق 1/ 37 - 39، وسيأتي مزيد كلام عن دوره في مبحث علمنة العلم. (¬3) سبق ورود أمثلة مع "محمد علي" وابنه "إبراهيم" وحفيده "إسماعيل". (¬4) انظر نصًا معبرًا عن النفوذ الأجنبي في عصر إسماعيل في كتاب: تاريخ الدولة العثمانية لشكيب أرسلان ص 305، بأنه بلغ (مبلغًا لا يكاد يتصوره العقل، فإن إسماعيل وضع نصب عينيه إدخال مصر في المدنية العصرية الأوروبية، وظنّ أن من لوازم هذا المبدأ ترغيب الأوروبيين في السكنى بمصر، وتمييزهم على الأهالي في كل شيء، فانتهى الأمر بان أصبح الأهالي في حكم العبيد للأجانب).

أن هذه الصحافة في غالبها قد اعتنت بالجانب العلمي الحديث، ولاسيّما "المقتطف" ذات الصيت الذائع آنذاك، وهي تنشر ذلك بين المسلمين، فما الذي أهلها لهذا العمل؟ ثم أليس من الأصح شكرها على هذا العمل ولاسيّما أنها تنشره بين الناس عامة فلم تخص به طائفتها! أما الذي أهلها لذلك فهو الدراسة -التي حصل عليها مشرفو تلك الصحافة- في مدارس الإرساليات، وقطعًا لم يكن هدف الإرساليات نشر تلك العلوم للمسلمين، فإن هدفهم الأساسي هو نشر النصرانية، وإضعاف أي قوة تعيق تقدم النصارى، هذا ما يقوله منطق العقل وحقائق التاريخ البعيدة والقريبة. فهل أصحاب هذه المجلات قد تنكروا لتلك الإرساليات بعد أن علمتهم وتحولوا إلى خدمة ونفع المسلمين؟ أهذا ممكن! يمكن أن يكون عملهم ذلك طلبًا للمال من خلال العمل التجاري الإعلامي، ويمكن أن يكون ذلك حبًا في الشهرة والجاه، وهي احتمالات واردة، ولكن يضعفها أن السياق التاريخي يجبرنا على افتراضات أخرى، فقد بدأ الأمر بإرساليات، ففتحت مدارسها وأنشأت مطبعة في وقت تغلي قدور المطامع الأوروبية بأهلها، وما أخرهم إلا بقايا خوف من دولة الخلافة ونزاع حول الغنائم. أعقب ما حصلوه في مدارس تلك الإرساليات انتقالهم إلى مركز إسلامي مهم، وما إن بدأ نشاطهم فيه حتى وقع الاحتلال البغيض لذاك المركز سنة (1882 م) ومن تلك الفترة وهم في قوة ونفوذ. قد يستعرض مستعرض مجلاتهم آنذاك "المقتطف والهلال و. ." فلا يشعر فيها بوضوح قصد خدمة النصرانية -وقد استعرضت بنفسي مجلدات تلك المجلات- ويجد المستعرض لها تظاهرها بالموضوعية وقصد عموم النفع، ولكن أليس من الطبيعي أن تجتهد في إخفاء الأغراض الخاصة إن كانت ذات مقاصد معينة وتُسرب ما تريد بأسلوب غير مباشر؟ هل يمكن أن تستمر تلك الصحافة لو صرحت بمقاصد تنصيرية أو تغريبية أو استعمارية كما حدث من صحف ظهرت فيما بعد؛ خلعت غطاء الحياء وأعلنت أهدافها علانية فترة الاستعمار الصريح وبروز التيارات الفكرية التغريبية؟ ومع اعتقادي بأن تلك الصحافة كانت مشاركة في لعبة كبيرة ضد المسلمين إلا أنها كانت في الوقت نفسه منبرًا استفاد منه الكثير حول المعارف الجديدة،

وهو أمر لم يكن يمنعه الشرع ولا يعارضه العقل، فالمنفعة الدنيوية وإن جاءت من كافر أخذناها منه إذا لم نجدها عند غيره، ولكنها في الوقت نفسه صنعت في أثناء تقديمها هذه المعارف بعض المشكلات الخطيرة في وقتٍ كانت لوحدها تتربع على منصة الإعلام. يذكر المفكر والمؤرخ الأردني، "د. علي المحافظة" إقبال خريجي المعاهد والجامعات الغربية من العرب على إصدار مجلات "تعنى بالعلوم بشكل عام والعلوم التطبيقية أو التجريبية منها بوجه خاص. ولعل أقدم هذه المجلات وأكثرها أهمية وشهرة هي مجلة "المقتطف" التي أصدرها عام (1876 م) في بيروت السيدان يعقوب صروف ونمر فارس. وقد أفردت أبوابًا دائمة للزراعة والصناعة والهندسة والطب والمسائل الرياضية". إلى أن قال: "واعتادت المجلة أن تستعرض مختلف الصناعات المتطورة في أوروبا وتلك المنتشرة في البلاد العربية. وبقيت المجلة في بيروت حتى عام (1884 م) إذ نقلت بعد ذلك إلى القاهرة". ثم قال: "ويلي مجلة المقتطف في الشهرة مجلة "الهلال" التي أصدرها جرجي زيدان في القاهرة عام (1892 م). وكانت تتولى نقل الكثير من الأخبار والمكتشفات العلمية. واعتادت مجلة المشرق التي كان يصدرها منذ عام (1898 م) الآباء اليسوعيون في بيروت، أن تنشر ملخصًا للمنجزات العلمية والمخترعات كل عام"، ثم تكلم على أخرى ظهرت بعد (1900 م) وأغلبها لنصارى (¬1). وفي السياق نفسه يذكر الباحث الإسلامي المشهور، "د. محمد حسين" عن "كرومر" -الحاكم الاستعماري في مصر- بأن نصارى الشام كانوا ممن أعان السياسة الاستعمارية في تحقيق أهدافها، ثم تكلم على كونهم أسبق إلى تأسيس الصحف، منها اليومية الخبرية كـ"الأهرام" و"المقطم"، ومنها الأدبي والعلمي الذي "ينشر أخبار التطورات الحضارية والثقافية الغربية في العلوم والمخترعات، وفي المذاهب الاجتماعية، وفي الأدب والفلسفة والفن" مثل "المقتطف" ¬

_ (¬1) انظر كتابه: الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة (1798 - 1914 م) ص 212 - 213 مع بعض الاختصار.

و"الهلال"، "وهذا النوع الأخير الذي تمثله هاتان الصحيفتان هو الذي يعنينا في هذا المكان؛ لأن أصحابه هم الذين تزعموا الدعوة إلى العلمانية والتحررية في الفكر العربي الحديث. وخطورة هذه الصحف لا ترجع إلى ما كانت تذيعه من آراء فحسب، ولكن أهميتها الكبرى ترجع إلى أنها كانت مركزًا لتنشئة الجيل التالي من الصحفيين على هذه المبادئ العلمانية، وهو الجيل الذي ربى بدوره جيلًا آخر، جاءت وتجيء من بعده أجيال على شاكلته، فلم نبلغ منتصف القرن العشرين، حتى كانت الصحافة كُلها في أيدي العلمانيين" (¬1). وفي موطن آخر ذكر بأن مؤسسيها وغيرها ممن تعلم في الكلية البروتستانتية السورية، الجامعة الأمريكية فيما بعد، ثم قال: "واهتمت مجلة "المقتطف" بالعلوم الطبيعية وبالكشوف العلمية والصناعية الحديثة، بينما اتجهت "الهلال" إلى الدراسات الإنسانية، من أخلاق واجتماع وتاريخ ولغة وأدب وآثار"، واشتركتا في نشر روح علمانية بصورتها "التي سادت أوروبا في القرن التاسع عشر، التي تعتبر العلم بمعناه الغربي الحديث الذي يقوم على التجربة وعلى منطق البحث العقلي، لونًا من العبادة التي تستحق أن يُكرّس لها الإنسان عمره، والتي يجب أن تقوم مقام الدين في التمييز بين الخير والشر، بناءً على نُظُم إنسانية "عالمية" يلتقي عندها أفراد البشر جميعًا، بإقرار العقل لما تتضمنه من الأفكار ومن المبادئ الخلقية. وقد تجنبت المجلتان كل ما يتصل اتصالًا مباشرًا بالسياسة المحلية أو الدين، ولكنهما كانتا تسيران على تخطيط ثابت مدروس تَخْفى آثارُه على غير المدقق البصير، وتعملان في بطءٍ دَؤوب على الوصول إلى أهدافهما. فكان كلُّ ما ينشرانه يُقِرّ في أذهان القراء وُيعمِّق في وعيهم تصورًا جديدًا للحق: ما هو؟ وكيف ينبغي أن نبحث عنه؟ وماذا يجب على القارئ العربي أن يعرف لكي يصل إليه؟ هذا التصور الجديد يقوم على أن العلوم أساس الحضارة "الصحيحة" وأن العلوم والمذاهب التي تتضمنها الحضارة الغربية ذات قيمة عالمية"، وأنه يمكن إيجاد نظم اجتماعية تستند إليها، وأن النظم والتصورات القديمة "التي تقوم على الإيمان وعلى الدين، أو ما يسمونه "الميتافيزيقا" أو "العقلية الغيبية"، ليست إلا طورًا من أطوار البشرية في طفولتها الأولى، لا تلبث ¬

_ (¬1) من كتابه: الإسلام والحضارة الغربية ص 54 - 55 مع بعض الاختصار.

أن تتخطاه، حين تستقل بنفسها وتستغني بعقلها" (¬1). ولطول هذا النص ما يبرره؛ لأنه يكشف لنا مجموعة قضايا حول دور الصحافة، ولاسيّما النصراني منها في خدمة أهداف الاستعمار، وفي نشر تصور علماني عن العلم، وفي تربية أجيال متعاقبة تسير على الخط نفسه وتُوسِع فيه، وتوزيع الأدوار: فاعتنت إحداهما بالعلوم الطبيعية والرياضية والصناعات، والأخرى بالعلوم الاجتماعية والإنسانية، ووضعها العلم بديلًا عن الدين في التقويم، ووضع تصور جديد عن مفهوم الحق، وأن مكان البحث عنه في العلم لا في الدين، وإمكانية إقامة الحياة على العلم والاستغناء عن الدين. وهي قضايا خطيرة تفرغت تلك الصحف والمجلات لسنين طويلة تغرسها وترعاها في وقت -كما ذكر مرارًا- كانت الوحيدة في الميدان مع ما تحظى به من قبول وبما تتمتع به من جاذبية. يقول أحد كتاب مجلة "المقتطف": "أما قصورنا في المعرفة فهو في اقتصارنا على العلوم اللغوية والمعارف الدينية في نقص طرق التحصيل. . . . فهذه العلوم وحدها لا تغنينا في جيلنا فتيلًا، ولا نباع بها شروى نقير، فهذا عصر العلوم الطبيعية والرياضية، أسس الصناعة والزراعة والتجارة والاكتشافات. فما يمنعنا، يا أبناء الشرق، اتخاذ هذه الفنون اليوم من الغربيين؟ " (¬2)، ولا أحد في الحقيقة يمنعنا، ولولا أن هناك ملابسات سلبية أثّرت في طلبها لم يظهر من يمنعها، على أن هذه الدعوة -وهو ما نريد الانتباه إليه- تركز على دعوة المجتمع إلى عصر جديد، هو "عصر العلوم الطبيعية والرياضية" وعدم الاقتصار على "العلوم اللغوية والمعارف الدينية" التي لا تغني فتيلًا ولا تساوي نقيرًا بحسب رأيه، فإذا كانت هذه المفاضلة هي ما يثار، فإن القارئ سيتوجه بعقله وقلبه إلى العلوم النافعة، وهو يوهم القارئ بأن هذه العلوم ذاتها لم تنفع الأمة، مع أن تاريخنا ما قام إلا بجعلها في صلب مشروعنا الحضاري ثم تأتي العلوم الأخرى مكملة ومتممة. والآن أعرض بعض الأمثلة من مجلات تلك المرحلة، وما أثارته من مشاكل: ¬

_ (¬1) الإسلام والحضارة الغربية ص 58 - 59، مع بعض اختصار، وقد ذكر اعتماده على كتاب ألبرت الحوراني الذي صدر سنة (1962 م) (Arabic Thought In The Liberal Age). (¬2) متري قندلفت، المقتطف، ج 11 ت 2، 1879 ص 304، نقلًا عن: الاتجاهات الفكرية عند العرب. .، المحافظة ص 201.

النموذج الأول، مجلة المقتطف -النظريات الجديدة

النموذج الأول، مجلة المقتطف -النظريات الجديدة: صدرت المجلة أولًا في بيروت، ويطلعنا أصحابها في مقدمتهم القصيرة حول بعض القضايا ومنها: - بيان أهمية الجريدة في تسهيل الوصول إلى العلم والصناعة. - وبيان مصدر الدعم "وقد أصبحنا مديونين لأساتيذ المدرسة الكلية السورية بالمساعدات التي وعدنا بها". - وبيان هدفها: "ترغب الطلاب في إحراز العلم وإتقان الصناعة. . . . لشدة افتقارنا إليهما كليهما". - وأوضحت منهج العرض وأنه يقوم على تسهيل تلك المعارف حتى يمكن تحصيلها. - وبنص غامض ذكرت العلاقة مع الديني والسياسي: "ولما كانت مواضيعنا لا تتداخل في المباحث الدينية ولا السياسية إلا من باب العلم فكل ما يرد إلينا خارجًا عن هذا الباب غير مقبول" (¬1). فأما السياسة فنتجاوز الكلام عنها، ولكن لكثير من المباحث العلمية علاقة بأصول دينية، قد لا يكون هناك كبير إشكال في الإطار النصراني؛ لأن المجلة ومصدر دعمها كلية الإرساليات الأمريكية ذات إطار نصراني، ولكن القوم كانوا على ثقافة جيدة بمحيطهم الإسلامي، فللنص وجهان: إما أنه لن يقبل ما يتعارض مع الدين، أو أنه يعرض الرأي العلمي دون قصد النظر إلى الجانب الديني منه حتى وإن وقع الاختلاف بينهما وهو الأقرب من خلال التأمل في موضوعاتها، فإنه باستعراض المجلدات الأولى، ولاسيّما ما كان قبل عملها في ظل الاحتلال، نجدها تعرض مسائل علمية وصناعية بحتة كما يقال، وهي مما لا يثير الإشكال، ويطلبها من أرادها ولو من باب العلم بالشيء، مثل موضوع "عمل الزجاج" وهو أول موضوع في أول عدد (¬2)، ولكن ¬

_ (¬1) انظر: مقدمة العدد الأول لمجلة المقتطف ص 1، السنة الأولى سنة (1876 م). (¬2) انظر: مجلة المقتطف 1/ 3، وألفت الانتباه هنا إلى أن طبعة المجلة قديمة، فقمت بوضع بعض علامات الترقيم ليفهم النص؛ وذلك لاستشهادي بعدد من نصوصها.

هناك موضوعات غيرها كانت مثيرة للجدل، وهي عادة ما تكون موضع الاهتمام والأكثر قراءة ومتابعة. إلا أن المجلة تُظهر انتباهها لمشكلة العلاقة المتوترة بين الدين والعلوم العصرية، فهم من خلال اطلاعهم على وضعها في الغرب يعرفون تلك المشكلة، ولاسيّما أن من بين أهم المستهدفين طائفتهم النصرانية، وهذه الطائفة متخوفة من بعض أبنائها الذين اتبعوا طوائف أخرى غير مذهبهم، أو تغلغلت فيهم دعوات المذاهب الفكرية العلمانية، وإذا كان أهلها يعيشون هذه الأجواء فإن للمسلمين الحق في كونهم أكثر تحفظًا عندما تأتي المبادرة من مجموعة نصرانية تريد الانتشار عن طريق المعرفة والعلم بين المسلمين بواسطة الصحافة. من باب الأمثلة على انتباههم لطائفتهم ما نراه عندما تتحدث المجلة عن عقائد علماء أوروبيين، فأبطال المجلة هم علماء أوروبا الجدد في الفلك والفيزياء والكيمياء والأحياء وغيرها، وأصحاب المجلة لا يرون رموز العلم وأهله إلا هؤلاء، ولا يستغرب من مجلة متخصصة في الموضوع، ولكن عندما تعرض مواقف مختلفة من حياة هؤلاء العلماء، فإن القارئ السلبي قد يعدّها كلها صحيحة، ومن ذلك مثلًا مواقف هؤلاء العلماء من الدين، فما الاختيارات الدينية والمذهبية والأيديولوجية لهؤلاء العلماء؟ مع أن هذه الاختيارات قد تكون نموذج القدوة للقارئين والمحبين لمثل هذه العلوم، ولا شك أن الجانب الإيجابي منها سيكون حسن الأثر على القارئ، والخطورة هو من السلبي فيها؛ لأن العالم في العلوم الطبيعية والرياضية والاجتماعية لا يعني أن يكون عالمًا في الأمور الدينية فضلًا عن أن يكون قدوة فيها. من بين أشهر من عرضوه من علماء أوروبا: "نيوتن"، فعندما يعرضون موقفه الديني، فهم يعرضونه أولًا لطائفتهم ثم للمسلمين، فيقولون عنه: "وكان لاهوتيًا فاضلًا طويل الباع في المعارف الدينية كتب فيها كتبًا وشروحًا وتفاسير، وكتب أيضًا في وجوب الاعتقاد بوجود الله ضد الكفرة" (¬1)، وقالوا في وصفه: "كان تقيًا ورعًا كثير المطالعة في الكتب المنزلة، حتى اقتصر عليها في آخر أيامه، وجعل أكثر أحاديثه فيها"، وقالوا في معتقده: "والظاهر أنهُ لم يكن يعتقد ¬

_ (¬1) مجلة المقتطف 1/ 151.

المثال الأول: نظرية الفلك الجديدة ومسألة دوران الأرض

بالثالوث في اللاهوت، وقال بعضهم: بل كان يعتقد به" (¬1). وهكذا يُعرّفون بمثل هؤلاء العلماء مع مراعاة حساسية ما يخالف مذهب أتباع المجلة. ولكن إن كان العالم المحتفى به ممن أعلن الإلحاد، أو أظهر موقفًا لا مباليًا من الدين، مثل "داروين"، فإنهم يُبرزون وسيلة أخرى للخروج من المشكلة بقولهم: إن الدين شأن شخصي بين العبد وربه، وسواء أعلن الإلحاد أو الإقرار فما علاقة ذلك بعلمه (¬2)؟ والآن أذكر مثالين من بين ما طرحته مجلة المقتطف، عن نظريتين علميتين، وآثار ذلك. المثال الأول: نظرية الفلك الجديدة ومسألة دوران الأرض: من بين معالم النظرية الجديدة في الفلك إثبات دوران الأرض، وهي مسألة لم يكن يترتب عليها آنذاك كبير أثر، وليس لديهم آنذاك سوى تقليد علماء أوروبا، فلم يكن بين المسلمين ولا نصارى العرب من كان عالمًا في الفلك حتى يكون في منزلة الندّ لهم فيكشف لنا عن يقين المسائل المختلف حولها في تلك النظرية، ولم تكن المسألة بتلك الأهمية حتى يتكلم عليها علماء الإسلام، فتركت لأهل الفلك، وأغلبهم قديمًا يقلد اليونان في ذلك، مع أنه قد ذُكر في بعض كتب العقائد الإسلامية الكلامية كروية الأرض وحركتها (¬3)، وكان السائد عند النصارى هو ثبات الأرض، هذا هو ظاهر النصوص التي بين أيديهم، مع أن في النصوص الإسلامية ما يحتمل ذلك، ومعلوم أن الظاهر ليس بقطعي الدلالة وإن كان الصحيح منه قطعي الثبوت، ومن ثم يبقى النص على ظاهره ما لم يثبت خلاف ذلك بدليل قطعي، عندها نذهب إلى القطعي، وسيأتي لذلك مزيد كلام لاحقًا بإذن الله. ففي مثل هذا السياق الثقافي والتاريخي لم تكن الأمة مستعجلة على هذه المعرفة، فهناك ما هو أولى منها وأصح وأنفع، والأمة لا تملك من علماء الفلك من يستطيع الفصل في المسائل، والأجواء التي تُستقبل فيها مثل هذه المعلومات ¬

_ (¬1) المرجع السابق 1/ 152. (¬2) المرجع السابق 7/ 292 السنة السابعة، سنة (1882 م). (¬3) انظر: المواقف في علم الكلام، عبد الرحمن الإيجي ص 219 - 220، وانظر: جواهر العلوم والآداب. . . .، طنطاوي جوهري ص 115 - 126.

ليست مناسبة للتعامل السليم معها، فقد توجد أطراف توظف هذه المعلومات ضد الدين بحجة التعارض بين الدين والعلم. لقد كان عرض الموضوع في البداية مسألة نصرانية، أي: بين النصارى في بلاد الشام بعد أن فُتحت المدارس التنصيرية في تلك البلاد ودُرِّست فيها العلوم الحديثة، واطلعوا على النظرية الجديدة في الفلك وإثباتها لدوران الأرض، فكتبت مجلة "الجنان" ما يدل على ثبات الأرض، فأخرجت المقتطف رأيها المعارض، ولاسيّما أن "المقتطف" كانت أقرب إلى الصحافة العلمانية، فكتبت المقتطف في الجزء الأول حول الموضوع بعنوان "دوران الأرض" وقالت: "لولا كثرة السائلين، ولجاجة الطالبين، وتعهدنا لحضرة الجمهور بالإجابة عن كل ما نُسأل عنه بقصد الفائدة، ما تركنا الإجابة عن بعض المسائل الصناعية في هذا الجزء، ولا تكلفنا الآن الكتابة في إثبات موضوع قد صار أشهر من نارٍ على علم، وأوضح من الصبح لذي عينين، وقد أجمع عليه سائر علماء المشرق والمغرب، وتحققت صحته لكل ذي عقل سليم يطالع ويفهم. ولما كان الأمر كذلك فقد دعتنا الحال إلى وضع مقالة مختصرة في دوران الأرض لمجرد الفائدة، وإجابة لطلب السائلين. وأما الذين طلبوا منا الرد على الأمالي الفلكية التي صدرت في الجزء العشرين من الجنان لهذه السنة فنرجوهم أن يعفونا من ذلك. وهل يُردُّ في علمٍ على من يجهلهُ كل الجهل" (¬1)، ثم ساقوا القول القديم بثباتها والقول الجديد والأدلة المختصرة على صحته، والتوقف مع الاعتراض التاريخي الذي اعترض به على "كوبرنيكوس" كطيران الطيور وغيره (¬2). افتتحت المجلة بهذا المقال معركة طويلة شكلت نموذجًا لكثير من المعارك فيما بعد حول قضايا لا يمكن الفصل فيها، وعمدة المجلة هو فقط الإحالة على النتائج المعروفة آنذاك في أوروبا، فكانت تمثل إشغال المجتمع دون أن تظهر الثمرة الواضحة، ولا أن تثبت مناسبة عرض هذه القضايا في تلك الأوقات، ¬

_ (¬1) مجلة المقتطف 1/ 141. (¬2) انظر: المرجع السابق 1/ 141 - 143، وقد ذكر "الأيجي" في القرن الثامن الهجري بعضها: مثل أنه عند افتراض دورانها ثم رمى أحدهم حجرًا، فلو كانت تدور لسقط الحجر في نقطة غير موازية بسبب حركة الأرض، ثم نقضه، انظر: المواقف ص 220.

وهم من ألمح إلى أنهم تركوا المهم مثل "المسائل الصناعية" والانشغال بموضوع ليس من عرضه في ذاك الوقت كبير فائدة، مع أنه لو عرض بموضوعية وعلمية دون استفزاز للقارئ واصطناع المشاكل لما وقع من عرض هذه القضايا مشاكل واختلاف، فإذا كان الموضوع "أشهر من نار على علم، وأوضح من الصبح لذي عينين، وقد أجمع عليه سائر علماء المشرق والمغرب، وتحققت صحته لكل ذي عقل سليم يطالع ويفهم"، فهل يستحق كل هذا الصراع والإشكال؟ لا شك أن في المقال مبالغة في موضوع القضية، فإن الاعتراضات ما زالت تظهر هنا وهناك، فهناك من لم يتقبلها، وحال بلاد المسلمين آنذاك لم يكن يُمكّنهم من إثبات صحة هذه المسألة أو نفيها، وليست الإحالة على الغرب آنذاك في مثل هذه المسائل بحجة لإثبات المسائل، وقد كان المطلعون على الغرب عادة ما يعرضونها بصيغة التمريض (¬1) ويكلون علم ذلك إلى رب العالمين حتى يظهر في المسلمين من نثق بعلمه وصدقه وعدالته. كان يمكن أن تكون مسألة يسيرة لولا ما نجده من نصوص دينية ظاهرها -ونركز على مسألة الظاهر- يتعارض مع هذه المسألة العلمية الفلكية، فإن تعظيم المسلم لكلام الله سبحانه وما أُخبرنا به هو فوق كل ما يقوله البشر، فلا يجوز التهاون في خبر السماء لقولٍ جاءنا ما لم يكن لدينا من العلماء العدول الثقات من يوضح حقيقته، هكذا كانت حال أهل العلم في الجملة آنذاك، وهنا بالذات تظهر حساسية إبراز مثل هذه المسائل من قوم دون أن يكون لديهم أو لدينا من يستطيع الجزم بصحته أو خطئه. نعود الآن إلى وضع هذه المسألة في أعداد المجلد الأول من مجلة المقتطف لنتلمس طبيعة الإشكال الذي أوجدته هذه المجلة حول الموضوع، ففي مقال "العلوم الطبيعية" افتتحت ببيان أهميتها، ثم قالت: "يزعم البعض أن العلوم الطبيعية مضرة تشكك في ما أوحي به في الكتب المنزلة وينكرون منافعها، ويزعم غيرهم أنها تشكك في الدين ويقرون بمنافعها، وغيرهم أنها صادقة نافعة ويكذبون الوحي لأجلها، ويقول الباقون: إنها مصداق الوحي، بهجة العقول، ¬

_ (¬1) انظر: أسلوب حديث الكُتّاب المسلمين عن دخول نظرية الفلك الجديدة في الفصل الثالث.

ومعدن الرفاهة، وهؤلاء لا ريب هم المصيبون" (¬1). فهذه أربعة اتجاهات رأى أصحاب المقال وجودها حول الموقف من العلوم الطبيعية مع ترجيح أحدها، وناقشت المقالة بقية المواقف، وعرضت الاتجاه الثاني عرضًا حسنًا: بأن هذه العلوم إذا ثبت نفعها فلا يمكن أن تعارض الدين، وأن المعارضة وقعت بسبب خطأ ما، ثم تكلموا بمثال عما يُعترض به وهو مسألة دوران الأرض "فإذا قيل: كيف لا يكون ذلك والعلم يثبت دوران الأرض حول الشمس، وثبوت الشمس غير متحركة، مع أن الوحي يذكر دوران الشمس، وثبوت الأرض صريحًا، قائلًا شرقت الشمس وغربت، والأرض مؤسسة، ونحو ذلك من العبارات؟ " (¬2)، فأصبحت المسألة نموذجًا -والمشكلة هنا أن أصحاب المقال يخاطبون فئتين: أهل ملتهم والمسلمين، بخلاف الوضع في أوروبا- وقد أجاب المقال عن السؤال: بأن الوحي خاطب الناس بما كانوا يعرفونه ويفهمونه من كون الأرض ثابتة والشمس تدور حولها، وهو جواب لا يستقيم إلا بعد إثبات الدعوى، فإن القول بأن العلوم الطبيعية مطلقًا تعارض الدين فيه خطأ، ولكن ليس كل ما في العلوم الطبيعية صحيحًا، فما زالت تلك العلوم تتقدم، ويُثبت اللاحق أخطاء وقعت عند من سبقه، فلا يكون التعارض إلا بين علمين كُملا وليس بين الوحي الكامل والعلم البشري المتغير والمتطور. كما أن القول بأن الأدلة صريحة يحتاج إلى إثبات من أهل العلم. كما أن القول بدوران الأرض يحتاج إلى إثبات؛ لأن النصوص في هذا الباب لم تكن نصًا قطعيَّ الدلالة، كما يقول أهل الأصول، وإلا لانتهى الأمر، وما جاز لنا تقديم مثل هذه الأقوال. وليس المقصود المناقشة فلها موطنها، وإنما المراد أن المجلة بدأت تقدم المثال، ثم هي تتطوع في طرح المعالجات، وعندما تكون المعالجات خاطئة في أصل بنائها أو طريقة عملها، ثم تصبح نموذجًا يحتذى ومنهجًا يسلك يُصبح للأمر خطورته المنهجية، وهذا ما أحاول فحصه هنا. ¬

_ (¬1) مجلة المقتطف 1/ 169. (¬2) مجلة المقتطف 1/ 170 - 171 مع العلم بأن المقال في جملته من أجود ما ذكرته المجلة في الموضوع، ولكن المقصد كيف أصبحت مسألة "دوران الأرض" نموذجًا يتكرر عند طرح مشكلة النظريات العلمية الجديدة وصلتها بالدين، مع أن تحليل المثال قد يكشف خطأ الاستدلال عندهم.

أعقبت المجلة المقال السابق عن "العلوم الطبيعية" برسالة من أحد رجال الدين النصارى حول موضوع دوران الأرض، مما يدل على أن الموضوع كان دائرًا في الجملة بين طائفة النصارى، ومما ذكره "أن إنكار دوران الأرض كان تبرهن عنهُ كما أظن سنة (1872 م) بجريدة الجنان بأعداد متتابعة"، إلى أن قال: "إنه لأمر معلوم أن جميع سكان سورية على نوع ما هي مؤمنة بالكتب الشريفة المنزلة، ويعتقد بما انطوت عليه، وأنها وحدها المعصومة، وأن الأقوال التي يخترعها البشر الساقطون منافية لها هي منبوذة، ومعًا يقرون أنه سبحانه من صفاته المقدسة: القدرة والحكمة، وبها صنع ما صنع وخلق ما أوجد بلفظة كن متجليًا وممجدًا بأعماله المقدسة بنوع تعجز جميع العلماء والفلاسفة والحكماء عن إدراك أقل شيء من مخلوقاته علا ذكره. رابعًا: أن الكتب المقدسة المحتوية العقائد والوصايا والنصائح التي توصلنا للخلاص، فمن التاريخ المقرر فيها نتعلم بأكثر إيضاح عن الطبيعة بأقسامها وعناصرها، وعن الأرض ما يأتي. . . ." (¬1)، ثم سرد عشرة أدلة مما بين أيديهم من كتبهم على ثبات الأرض ودوران الشمس حولها، ثم قال: "وأخيرًا أظن الصواب أن هذه البينات الواضحة المقررة بكتاب الوحي الإلهي الشريف هي كفاية لتسليم المعتصمين عنها بثبوت الأرض وعدم دورانها"، وبيّن صاحب المقال بأن هناك كتابًا في الموضوع يؤيد مقالته لسليم الحموي الدمشقي، ثم بين أن المعتصمين بالكتب المقدسة لا ينكرون المعارف الجديدة، "وإنما ينكرون عليهم كل تعليم يضاد الكتاب الشريف"، ثم ألمح إلى أنه من المستحيل أن يأتي في الأيام الأخيرة بقول صحيح على دوران الأرض مع أن كتابهم قد بيَّن حقيقتها، وأن أهل الإيمان يصبرون على اعتقادهم مع رمي غيرهم لهم بالجهل (¬2). وقد ردّت المجلة: "نقول: إذا كان دوران الأرض يناقض ما في الكتب المنزلة فكيف يا ترى يعتقد بصحتهما كليهما جمهور اللاهوتيين والعلماء والبسطاء على اختلاف مللهم وطوائفهم" (¬3). ¬

_ (¬1) مجلة المقتطف 1/ 171 - 172، ولعله يقصد من سكان سوريا النصارى منهم. (¬2) المرجع السابق 1/ 173. (¬3) المرجع السابق 1/ 174.

لا شك أن هذا الحوار بما فيه من معلومات يدل على أن المشكلة قد كبرت داخل الإطار النصراني العربي في بلاد الشام، وأن إثارتها قد صنع مشكلة شائكة، فبعض رجال الدين عندهم يؤكد ثبات الأرض معتمدًا على نصوص من كتبهم، فمن صدق بالعلوم الحديثة واقتنع بها، فسيقع في إشكال مع الوحي الذي بين أيديهم، وقد يصل به الأمر إلى التكذيب بالوحي، أو الاعتقاد بأن الوحي لا يحوي شيئًا عن هذه المسألة، ومن كان جاهلًا بحال العلوم الحديثة، فسيقع في حيرة، فهو يثق في أهل الدين ويثق في العلوم العصرية، فلِمَ هذا التعارض! وإن كانت المشكلة كما قلنا بين النصارى، فإن شررها سيمتد إلى المسلمين، فإن هذه الحوارات والمجادلات بين طوائف النصارى حول المسألة قد دفعت بمشكلة توهم التعارض بين "الدين والعلوم الحديثة" إلى الواجهة، صحيح أن أدلة النصارى تواجهها عقبة الصحة أولًا ثم النص ثانيًا، مع العلم بأن بعض ما استدلوا به هو مما علمنا بصحته لورود ما يؤكده في شرعنا، ففي هذه الحال هل دلالة هذا النص الصحيح قطعية أم ظاهرة؟ وهل الظاهر له معارض؟ وهل ما فهموا من النص صحيح أم لا؟ والذي يعنينا هنا أن مثل هذا الحوار أوجد مشكلة جديدة في مجتمعنا المسلم -غير ما سبق أول الحديث- وهو الاختلاف حول قضية: هل هناك تعارض بين الوحي والعلوم العصرية؟ ولا شك أن إدخال الظني من العلوم العصرية أو العلوم التي لا حاجة لنا بها آنذاك أو لا نجد من نثق فيه فيبين لنا صحتها، كل ذلك وغيره أسهم في إبراز مشكلة توهم التعارض، وإلا لو اكتفت الأمة في أول نهضتها باليقيني النافع، وأخرت غيره، حتى تملك تلك العلوم وتكون قادرة على صناعتها وليس نقلها فقط لربما انشغل الناس بالنافع، وبقي لنا وقت للإبداع العلمي والصناعي. نعود مرة أخرى لتفاعلات المسألة، فبعد ردِّ جاء المجلة عاود (¬1) رجل الدين النصراني السابق مكاتبة المجلة حول قول من قال: "إن ثبوت الأرض وعدم دورانها هو مغلوط وفاسد دينًا وعلمًا"، ويظهر أن بعض هذه الردود جاءت ¬

_ (¬1) كانت المقالة الأولى في العدد الثامن سنة (1876 م)، انظر: المجلة 1/ 174، والمقالة الثانية في العدد الثاني عشر سنة (1877 م)، انظر: 1/ 167.

صدى المشكلة عند بعض المسلمين

من مسلمين يرون أن مسألة دوران الأرض لا يوجد في الدين ما يعارضها، لذا ابتدأ الرجل مقاله بذكر الآيات القرآنية التي يظن أنها تؤكد ثبوت الأرض وعدم دورانها (¬1)، وعلينا أن نفرق بين ثبوت الأرض فلا تضطرب كما يحدث في الزلازل وبين مسألة دورانها؛ لأن المثبت لدورانها يجد ثباتها مع الدوران أكثر دلالة على قدرة الخالق سبحانه، فمع أنها تدور، فإنها ثابتة لا يشعر الناس بتلك الحركة، فمن نعم الله على الخلق أن ألقى فيها من الرواسي ما يحفظها فلا تميد. والشاهد بأنه استدل بآيات سيأتي بيان المنهج الصحيح حولها (¬2)، وما يهمنا هنا تحريك المشكلة وأبعادها وآثارها، حيث أتبع صاحب المقال مقالة جديدة بأدلة أخرى من كتبهم، ثم ختم فقال: "وأخيرًا لكوني خادمًا أحقر في كنيسة المسيح المقدسة، وبحسب وظيفتي أجد ذاتي ملتزمًا أن أوضح لأبناء كنيستي ذلك، حيث يوجد كثيرون منهم مشتركين بجريدة المقتطف وآثار الأدهار وغيرهما؛ لكي لا يعتبروا ما يجدونه مدونًا على غير مطابقة الوحي والتعليم القويم. . . ." (¬3)، وهكذا تحولت من مسألة علمية يبحثها علماء الفلك كما ذكرت المجلة أول أعدادها إلى مسألة دينية، فهناك من يقول: الأرض ثابتة ولا تدور دينًا وعلمًا، وهناك من يقول: إن الأرض تدور دينًا وعلمًا، ولا شك أن الحق في أحدهما، والأخطر هنا أن يُجعل هذا التعارض بين الدين والعلم، بل ظهر أن هناك تعارضًا بين رأيين دينيين، وإن كانت كما رأينا في الجملة ما زالت مسألة تخص النصارى وأنها تحولت من قضية سهلة إلى مشكلة معقدة لها أبعادها الخطيرة. صدى المشكلة عند بعض المسلمين: من الطبيعي في مجلة تستأثر بالساحة الصحفية في المجال العلمي أن يطلع ¬

_ (¬1) انظر: مجلة المقتطف 1/ 265. (¬2) يمكن الرجوع لكتاب خرج من أحد علماء الإسلام قريبًا من تلك الفترة (1339 هـ) وهو العلامة السيد محمود شكري الألوسي: ما دلَّ عليه القرآن مما يعضد الهيئة الجديدة القويمة البرهان، حيث استعرض آيات القرآن التي تتحدث عن الهيئة وفسرها، من سورة البقرة إلى الطلاق، ثم جمع في فصل ختامي ما تبقى من الآيات التى سبق مثيلها. (¬3) مجلة المقتطف 1/ 266.

عليها المسلمون آنذاك، وأن يصل صدى صراع كتابها النصارى إلى المسلمين، ومن ثمّ مشاركة بعضهم في الموضوع، ففي العدد العاشر نجد مقالًا بعنوان: "العلوم الطبيعية والنصوص الشرعية"، وفي مقدمتها أن وزير المعارف في مصر اطلع على مقال يزعم صاحبه ثبات الأرض، فأنكر ذلك وطلب من عالم شهير في الوزارة هو عبد الله بك فكري أن يكتب حول الموضوع، فوصلت رسالته للمجلة "في مقارنة مباحث الهيئة بالوارد في النصوص الشرعية"، فبادرت المجلة باقتطاف "بعض ثمارها إظهارًا لموافقة علم الهيئة لدين المسلمين، وإجابة لما طلبه منا كثيرون"، فبدأ بكلام الغزالي من كتابه: تهافت الفلاسفة، حول إثبات كروية الأرض وإمكانية معرفة وقت الكسوف والخسوف بالحساب، وأنه لا يعارض إقامة الصلاة الخاصة بهما حتى وإن علم وقته، ثم ذكر منهج الغزالي ليدخل منه إلى المسائل المعاصرة (¬1) ليصل إلى مسألة "فما الذي تصنعهُ إذا عارض مسألة من هذه الهيئة نص شرعي لا يمكنك تأويله لعدم احتماله" (¬2)؟ وقد عرض الجواب منقولًا من حوار بين فقيه وصاحب الهيئة من كتاب أصله بالتركية، وكان جواب صاحب الهيئة "فأقول: إذا تعارضت مسألة فلكية ونص شرعي، فهذه المسألة الفلكية بحسب القضية العقلية لا تخلو من أحد أمرين: إما أن تكون مثبتة بالدلائل القطعية إما لا، فإن كان الثاني، أي كانت هذه المسألة مذكورة في كلامهم دعوى من غير دليل ولا يقوم عليها برهان صحيح وحجة قاطعة، فلا حاجة بنا حينئذٍ إلى التأويل، إذ لا ضرورة بنا إلى تقليد كل ما قيل بدليل ومن غير دليل لمجرد كون قائله أثبت بعض ما قاله بدلائل قطعية وبراهين مسلمة لا تبقى معها شبهة، فإن عارضها شيء من الظواهر يقبل التأويل بما تطابقه المسألة، ويحتمل الحمل على ما أثبتته الأدلة، قلنا بذلك التأويل وعلى الله قصد السبيل. وأما إن عارض تلك المسألة القطعية بالفرض والتقدير والتسليم الجدلي نص شرعي لا نعلم له تأويلًا، فوضنا علمه إلى الله -سبحانه وتعالى- حتى يعلمنا تأويله، وعلمنا أن عدم وقوفنا على تأويله إنما جاء من قصور أذهاننا عن المضاء في فهمه. ." (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: مجلة المقتطف 1/ 217 - 218. (¬2) المرجع السابق 1/ 219. (¬3) مجلة المقتطف 1/ 219 - 220.

وهذا الجواب مقتبس في الجملة من الغزالي قديمًا أو من كتاب ظهر باللغة التركية في مقرّ السلطنة، وركز فيه على المنهج عند التعارض ولم يتكلم على المسألة، وربما أنه تكلم ولم تُعرض في المجلة (¬1)، ولكنه يكشف عن ظاهرة جديدة في المجتمع الإِسلامي، فقد كان طلب التحديث في بدايته دون مشاكل، فهناك دراسة للطب والهندسة والصناعة وغيرها ولم تظهر مشكلة التعارض، وبعد إثارة مسائل من مشاكل العلوم الحديثة التي لا يترتب على تجاهلها أو تأخيرها تأخر في النهضة أو التحديث، ولاسيّما في مسائل من النظريات العلمية الحديثة ظهرت إشكالية توهم التعارض. ولكن بعد أن أثار النصارى في مدارسهم وفي صحافتهم هذه المشاكل، ثم تصارعوا حولها ثم صدروها إلى الوسط الإِسلامي بدأ العرض الإسلامي حول الموضوع، ولكن المعالجات الإِسلامية في الموضوع اختلفت لوجود ذاك الاختلاف بين المسلمين أنفسهم، فمنهم من رجع لطريقة المتكلمين ومنهجهم، ومنهم من وقف مع ما ظهر له من النصوص، ولا يشترط أن يكون ما ظهر له هو الحق أو الصواب ورفض مطلقًا كل ما جاء في العلوم العصرية، ومنهم من استسلم للعلوم العصرية بكل ما فيها وتغافل عن الدين سالكًا موقفًا علمانيًا، وتأخر ظهور الموقف السلفي؛ وذلك أن المناطق التي وقعت تحت دائرة الاحتكاك كانت محتواه من مناهج كلامية أو طرق صوفية. يفترض الجواب الذي عرضه المشارك المسلم وجود مشكلة، ولم يتساءل عمن أوجدها في بيئتنا المعاصرة، ولِمَ أوجدها؟ وهل ما قُدّم يستحق الوقوف؟ ولِمَ لم نقف مع العلوم النافعة والمفيدة؟ وهكذا نشعر أن هناك من جرنا إلى معركة لم نكن في حاجة لدخولها، وربما تسببت في تأخير طلبنا للنفع وتعكير صفو النافع. كان يمكننا تجاهل ذلك أول الأمر، ولكن بعد أن تشبع الرأي العام المثقف بمثل تلك القضايا وانتشرت الأفكار المشككة والمشتبهة، أصبح لابد لنا من معالجة الشبهة. قد لا نلقي بكل اللوم على من أثار ما كان حظه التأخير أو التجاهل، ¬

_ (¬1) ألمح "طنطاوي جوهري" لهذا الكتاب التركي في كتابه: جواهر العلوم والآداب. . . . ص 118 عن الفلكي "عبد الله فكري".

المثال الثاني: داروين ونظرية التطور

فليس العيب فيه فقط، بل العيب فينا عندما انسقنا إلى كل تلك المشكلات حتى كبر حالها داخل الأمة، وظهر خطرها وأصبح من الواجب النظر فيها والانشغال بها، ولله الأمر من قبل ومن بعد. المثال الثاني: داروين ونظرية التطور: رأينا في المثال السابق ما أثارته المجلة وتردد في أعدادها لسنتَي (1876 - 1877 م)، فبعد أن عرّفت بعَلَم أوروبي مشهور "نيوتن" تكلمت عن نظرية الفلك الجديدة، وما نتج عن ذلك من مشاكل حول العلم الحديث، وسنرى هنا مثالًا آخر لطريقة تعريفها بشخصية أخرى، ثم نظرية تبحث عن كيفية ظهور الحياة والإنسان، التي عُرفت بنظرية التطور الدارونية، وقد كان ذلك سنة الاحتلال الإِنجليزي لمصر، وما مثّله ذلك من دعم معنوي ومادي للنصارى، نجد ذلك في أعداد السنة السابعة (1882 م)، وهذه المسألة كغيرها مما أثارته المجلة لم يكن مفيدًا في سياق التحديث والنهضة، فقد انشغلت الأمة لما يقرب من نصف قرن بهذه النظرية ومسائلها، وكثرت المقالات والتآليف حولها من جميع الأطراف، من النصارى فيما بينهم وكذا من المسلمين، وتحولت المسألة من بحث في نطاق العلوم الطبيعية إلى خلاف ديني حاد، وكما افتتح الاحتلال الإِنجليزي مرحلة خطيرة من عمق العالم الإِسلامي، فإن المجلة في ظل هذه الأجواء فتحت مشكلة تحت ستار العلم العصري، وكما أسلفنا كان يمكن تجاهلها أو تأجيلها. نجد في افتتاحية السنة السابعة ما يذكرنا بالافتتاحية الأولى، وفيها أن حجم الجريدة أصبح أكبر، وأنهم اتفقوا مع جمعية من كبار الجمعيات الأوروبية أن تمدهم بالصور والأشكال اللازمة للإيضاح، والتذكير بأنها "لا ترغب إلا في نشر المعارف، والحث على إحياء الصناعة والزراعة والإسراع إلى ما به ارتقاء الأمة العربية وصلاح حال الهيئة الاجتماعية" (¬1)، ثم تفتتح بمقال مطول عن سيرة "شارلس دارون" ومدحته المجلة، وقارنته في كثير من المسائل بـ"نيوتن"، ومن ذلك: "ولم يقم في الناس غير نيوتن رجل كدارون استلم زمام الأذهان وحوّل إليه الأبصار وقال البشر للبحث في كل مبحث شاءه. . . . ولم يمتلك رجل الآراء ¬

_ (¬1) انظر: مجلة المقتطف 7/ 1.

بسطوة علمه كما امتلكها ولا شاهد شيوع مذهبه واستعظام آرائه كما شاهد، فإن الكتب التي ألفت له وعليه في كل أنحاء العالم تعدُّ بالمئات والألوف، وعدد الذين انحازوا إلى مذهبه في الارتقاء والتسلسل يكاد يعم العلماء. . ولا عتاب ولا ملامة إن أطنب أهل العلم بالثناء عليه فإنه أهل لأطيب الثناء" (¬1)، ثم أعقب هذا الكلام بما سيكون مفتاحًا لمشكلة طويلة، وهو الانتقال من حيز العلم الطبيعي إلى حيز الدين، وما يترتب على ذلك من إشكالات "نقول هذا ونحن على يقين أن قولنا لا يرضي بعض القراء لإنكارهم على دارون رأيهُ في تسلسل الإنسان من بعض أنواع القرود المنقرضة. فجوابنا على ذلك أننا لم نتعرض في هذه المقالة لانتقاد رأيه هذا، ولم نثن عليه هنا إلا لخدمتهِ العلم في كل ما قرّرهُ وحققه. . . ."، إلى أن قالوا: "وأما رأيه المشار إليه فلا ينكر أن كثيرين ينفرون منه بدعوى مخالفته للدين، ولكن آخرين لا يرون فيه هذه المخالفة حال كونهم من مشاهير علماء اللاهوت والفلسفة" (¬2)، وذكر من هؤلاء قول واعظ كنيسة وستمنستر "وأن مبدأ الانتخاب ليس غريبًا مخالفًا للديانة المسيحية على الإطلاق"، وقول واعظ كنيسة القديس "بولس" ببلاد الإنكليز: "لما شاع كتاب دارون في أصل الأنواع وكتابهُ في تسلسل الإنسان زعم أهل الدين أنهما مضادان للدين قطعًا، ولكنهم لما درسوهما بالإمعان غيّروا زعمهم هذا تغييرًا عظيمًا"، ونقلوا قول فيلسوف لاهوتي أمريكي، ثم قالوا: "وقس على ذلك أقوالًا عديدة لو شئنا سردها لضاق بنا المقام. والخلاصة أن العلماء الطبيعيين يوافقون دارون في أمر النشوء والارتقاء بالإجمال، وإن كان بعضهم يخالفونه عند البسط والتفصيل، وأما غيرهم فمنهم من يوافقه ومنهم من يخالفه. وعلى كل وجهٍ فالثناء على أهل الفضل واجب، والإطراء برافعي العلم غير محظور" (¬3). هكذا عرضوا الإشكالية المتوقعة من البداية وكأنها ضمن سيرة عالم تحرص المجلة عادة على التعريف بهم، فنظريتهُ إنما تعرض في أثناء عرض سيرته، مع معرفتهم أن الكثير ينفر منها، والسبب ما يراه الكثير من وجود ¬

_ (¬1) المرجع السابق 7/ 5 - 6. (¬2) المرجع السابق 7/ 6. (¬3) مجلة المقتطف 7/ 6.

معارضة مع الدين، وإن كان سياق المقال يُظهر أن قصدهم بالدين هنا هو الدين النصراني، ولذا كانت استدلالاتهم من رجال الكنيسة حتى يردوا على مخالفيهم من بني جلدتهم أو يبثوا الشعور في نفوس القراء بوجود قبول ديني لهذا القول. ولكن هذه المشكلة الجديدة التي عرضتها المجلة وعرّفت المجتمع بها لا تبقى في حدود الطائفة النصرانية، ومن الواضح أنها ليست مشكلة علمية بحتة، وإلا لما وقع توهم التعارض مع الدين، أما وقد عُرِضَ أمرها وأن هناك من يرى فيها ما يعارض الدين فسيُفتح من جديد باب الإشكال عن العلاقة بين الدين والعلوم العصرية، والمجلة ستواصل بالتدريج عرض ما تريده، فبعد أن عرّفت بالنظرية المزعجة عبر التعريف بعالمها ستنتقل فيما بعد إلى عرض النظرية ذاتها، فكانت أول مقالات العدد الثاني من السنة السابعة وتصدرت تكملته أيضًا أول العدد الثالث من السنة نفسها بعنوان "المذهب الداروني"، أقف الآن مع أبرز قسمات هذا العرض، ولعله الأول من نوعه، وهو يبرز المشكلات المتوقعة التي ستكون مدار النقاشات فيما بعد لسنين؛ لهذا أذكره بطوله: 1 - بدأت المجلة مقالها بالتقديم المعتاد، أن هذا المقال جاء إنجازًا لوعد سابق وهدفه "ليحيط القارئ علمًا بخلاصة أشهر مذاهب هذه الأيام وأعجب مبتكرات هذا الزمان" (¬1). 2 - ذكّرت بمنهجها المعتاد: "فذكرنا الأمور كما ذكرها أهلها، ولم نتعرّض لإقرارها ولا لنقضها إلا بما يرد معنا في سياق الكلام مما أقرها العلم أو نقضها به" (¬2). 3 - ذكرت أن المذهب جديد "منذ نيف وعشرين سنة" وأن صاحبه "العلّامة دارون" ومضمونه "أن كل ما على الأرض من نبات وحيوان، سواءٌ كان عائشًا أو منقرضًا، قد تسلسل بعضهُ من بعض بحيث لم يكن للحيوانات كلها إلا أصل واحد أو بضعة أصول، وللنباتات كلها كذلك في بادئ خلقها"، وذكَرَت أن الجمهور في الغرب على خلافه "بل كانوا يستخفون به كما يستخف به كثيرون اليوم" (¬3). ¬

_ (¬1) مجلة المقتطف 7/ 65. (¬2) المرجع السابق 7/ 65. (¬3) المرجع السابق 7/ 65 - 66.

4 - ذكَرَت المذاهب حول أصل الحيوان والنبات في الأرض، وأن الشائع منها اثنان: الأول: مذهب الخلق المستقل، أنها خلقت بأنواعها، وتوالى كل نوع كما هو. الثاني: مذهب التسلسل أو المذهب الداروني، "أن كل المخلوقات الحية قد تسلسلت من أصل واحد أو من بضعة أصول، وأن أنواعها لم تخلق مستقلة بل تفرع بعضها على بعض". 5 - وذكرت موقف العلماء المختصين من المذهبين، فالأول كان "مذهب جمهور العلماء لعهدٍ قريب فلما زادوا معرفة بطبائع الحيوانات والنباتات العائشة، وتوسعوا علمًا بآثار المخلوقات البائدة، ترددوا فيه وانحاز الفريق الأكبر منهم إلى المذهب الثاني" (¬1). 6 - تحدثت المجلة عن أثر علم الأحافير الناشئ في القول بمذهب التسلسل وما أثاره لامارك الفرنسي، والنواقص التي وقع فيها (¬2). 7 - عرضت أول المحْدَثين طرحًا للموضوع وهو الفرنسي "لامارك" في "الفلسفة الحيوانية"، وخلاصته أن كل ما على الأرض من حيوان أو نبات قد تسلسل بعضه من بعض من أصل واحد، اختلفت ذُريات هذا الأصل إما بتغير جزء فيها أو بزيادة جزء عليها أو بإنقاص جزء منها، وجعل البواعث على ذلك ثلاثة: إما تأثير المعيشة، أو إلقاح شكل منها لشكل يختلف عنه، أو عوائدها الموجبة استعمال بعض أجزائها أو إهماله. وذكروا عنه مذهبه أن "كل موجود إنما وُجد بمشيئة بارئ الأشياء ولكن من الذي يقول: أنا أضع لمشيئته حكمًا، فلا تجري إلا عليه. . . . ترى ألا تستطيع قدرته غير المحدودة، أن تبدع للكائنات نظامًا تتوالى عليه" (¬3)، وذكروا أن من المآخذ على قوله ومذهبه أنه لم يبيّن كيف يمكن إذا حدث تغير وطرأ نوع جديد: لم حافظ على نوعه ولم يتغير؟ (¬4). ¬

_ (¬1) المرجع السابق 7/ 66. (¬2) مجلة المقتطف 7/ 69 - 72. (¬3) المرجع السابق 7/ 70. (¬4) انظر: المرجع السابق 7/ 72، 121.

8 - ألمحت إلى قضية هي مثار اهتمام من الماديين وهي: "التولد الذاتي"، فالمذهب المادي يرغب في جعل فكرة التطور ذات أصل مادي، حتى يثبُتِ مذهبهم المادي، وألمحوا أن مذهب دارون لا يقتضي ذلك، وذكروا "أن علماء هذه الأيام قد أفرغوا جهدهم ليتحققوا ما إذا كانت المخلوقات الحية تتولد من مخلوقات غير حية، فثبت من تجارب أعظم المحققين منهم أن الحي لا يتولد إلا من حي خلافًا لما ذهب إليه لامارك من أن الحي يتولد من غير الحي" (¬1). 9 - ذكر أصحاب المقالة أن الحل جاء به داروين عبر "ناموس الانتخاب الطبيعي" ومداره على قضيتين: - الأولى: أن كل الكائنات الحية تتكاثر تكاثرًا عظيمًا في زمان قصير، ولكن يموت الكثير منها ولا يبقى إلا المخلوقات التي تفوق غيرها بالصفات المناسبة للمعيشة وإختلاف النسل. - الثانية: أن الأولاد يرثون خصائص أولادهم، ومع الأجيال يمتاز الأبناء (¬2). وللتقريب فهو يرى أن ما يفعله الإنسان في الحيوانات الداجنة حتى يصل إلى بعض الخصائص المهمة، كإدرار الحليب أو كثرة البيض أو اللحم، هو ما يقع في الطبيعة على كل حيوان ونبات، فكما أن الإنسان ينتخب الصفات التي يريد بقاءها في النسل هكذا تنتخب الطبيعة الاختلافات التي تصلح لتطويل معيشة الجسم الحي وبقائه وتمكنها فيه حتى تصير ثابتة في طبيعته (¬3). 10 - كان هناك مشارك لداروين اسمه "وولس" إلا أنه كان يرى الإنسان كائنًا مختلفًا عن الحيوانات والنباتات، أما داروين فكان يرى كما في "أصل الأنواع" أن كل حيوانات الأرض قد تسلسلت من أربعة آباء أو خمسة على الكثير ومثلها نباتات الأرض، وأن أصل الإنسان يرجع إلى بعض القرود المنقرضة (¬4). الخاتمة -لهذا المقال الطويل- فيها توقف حول موقف داروين من الإنسان ¬

_ (¬1) المرجع السابق 7/ 72. (¬2) انظر: مجلة المقتطف 7/ 121 - 122. (¬3) انظر: المرجع السابق 7/ 123 - 124. (¬4) انظر: المرجع السابق 7/ 125 - 126.

ولاسيّما مسألة نفس الإنسان، فإنه "إذا نظر فيها بطريق العلم لا غير كانت من أعوص المسائل وأغمضها، ولا يستطيع العاقل القطع في الحكم عليها اعتمادًا على مذهب من مذاهب أهل العلم والفلسفة. ."، إلى أن قالوا: "إن الحق بين مذاهبهم ضائع والصحيح مجهول، فالحكيم يعتصم بما أنزل الله عليه ويقبل من العلم الحق الجلي" (¬1)، وهي أصدق ما قالوه بعد هذا المقال الطويل، وهذه اللفتة القصيرة لو التُزم بها ما وقع الانحراف بالعلم والابتداع في الدين، ولكن هذه الجملة الخاتمة لم تمنع أناسًا جاءوا بعد ذلك فأخذوا من مذهب داروين ماديته وباطله وتركوا ما ينفع الناس كما سنرى لاحقًا. كان هذا مجمل الصورة التي عرضته المجلة عن نظرية "داروين"، وعرّفت المجتمع بها، ورغم أهمية خاتمة المقال إلا أن المتتبع للمقال بطوله يجد ما يخالف تلك الخاتمة، فهي عرضت النظرية بصورة المادح المؤيد، وقذفت بمشكلة ثانية تحت مسمى العلم، وعلينا أن نتخيل تلك المرحلة وشعور الجمهور نحو هذه النظرية، فهم يعلمون أن أبناءهم يذهبون لدراسة العلوم العصرية في أوروبا، ويوجد أيضًا بعض المدرسين الأجانب في مدارس خاصة، فإذا كان هذا العلم يقول: إن أصل الإنسان يرجع إلى قرد، فإن هذا يعني وجود مشكلة كبيرة في علوم أوروبا، ويقفز إلى أذهان الكثير فساد علومهم جملة ومن ثم تقع ردّة الفعل المفسَرة من قبل المجتمع، بل من قبل علماء الشريعة، والملفت في الأمر أن صاحب النظرية إنجليزي، وفي العام نفسه التي تعرف فيها أهل الشام ومصر على النظرية احتل الإِنجليز أرض مصر. ومما عرضته المجلة حول الموضوع خطبة ألقاها أستاذ في "الكلية السورية الإنجيلية" على الطلاب المتخرجين، وفي كلمته تحدث بمثال عن العلم الحقيقي ومثّل بداروين، وكان ذلك سنة (1881 م)، فاعترض كاتب أمريكي عليه، وهذا يكشف أنها كانت في البداية فيما بين النصارى، وهو "جيمس أنس" الأمريكاني (¬2)، فقال: "فقد لاح لي أنه ذكر مستر دارون كمثال لرجال العلم، وذكر مذاهبه على أسلوب يظهر منه أنها تستحق الاعتبار، ولم يحاول ¬

_ (¬1) مجلة المقتطف 7/ 127. (¬2) انظر: المرجع السابق 7/ 233.

إظهار فسادها ونقصها ولا كونها محسوبة عند كثير من أكبر علماء عصرنا سخيفة وخالية من الدليل"، إلى أن قال: "وأن أُظهر لقراء جريدتكم إقرار دارون نفسهِ بكونهِ لا يؤمن بالوحي، شافعًا ذلك بشهادة بعض العلماء الأفاضل على أن المذهب الداروني خالٍ من الثبت العلمي" (¬1)، ثم استطرد في بيان إنكاره للوحي بقول داروين: "أما من جهتي فأنا لا أعتقد بأنه هبط وحي على الإطلاق" (¬2)، ثم ذكر شهادات علماء ذلك العصر ضدّ داروين (¬3)، ورد على من قال: إن هناك الكثير أيده من أهل الدين بأنه قد عُرض مذهب دارون العلمي على "المجمع السنوي لكنيسة المشيخة في أمريكا، "فأجمع أهل ذلك المجمع على رفضه بصوت واحد وهم خمس مائة من القسوس والأساتيذ والكتاب وطلبة العلم وغيرهم، ولم يكن منهم من يؤيده. ولا يؤخذ من ذلك أنهم لا يحبون العلم الصحيح، ولا أنهم يخافون أن يناقض العلمُ الكتاب المقدس؛ لأنه لا ريب في أنهم من أوّل الناس في إباحة الأبحاث العلمية والاعتراف بتقدم هذا العصر. ." (¬4). وجاء جواب صاحب الخطبة على "جيمس" ببيان قصده من كلمته وطريقة تعامله مع طلابه، ومما قاله: "أما من جهة الذين قرؤوا العلم عليّ من شبان المشرق، وتفرقوا في جهات سورية ومصر كلها فلا حاجة بي أن أزيد على ما قلتهُ في خطبتي كلمةً واحدة لإيضاح مرادي، إذ كلهم يعلمون أني عندما أبحث في أعمال الله وأجد أن إله الطبيعة هو إله الوحي، أشعر في نفسي كمن هبط عليه الوحي. وأن أعظم سروري هو البحث في عجائب الطبيعة وجمالها بقصد معرفة الدلائل على أن الله إله الوحي حاضر وعامل فيها. وكلهم يعرفون أن تعليمي لهم إنما لخصته في هذه العبارة من خطبتي وهي: "ليكن كل ما يزيدنا معرفة وعلمًا آية آتية من الله عن طريق أعماله كما أتتنا آيات أقواله عن طريق وحيه. الله واحد، وهو المهبط الوحي والخالق الطبيعة، أيناقض قوله عمله -أيخشى من عمله على قوله. ولعلّ حضرة المنتقد الشهير لا ينكر ذلك، ولكن ¬

_ (¬1) مجلة المقتطف 7/ 233 - 234. (¬2) المرجع السابق 7/ 234. (¬3) المرجع السابق 7/ 234 - 235. (¬4) المرجع السابق 7/ 236.

يقول: إنه لا يوافقني على ذكر دارون مثالًا على رجال العلم. ." (¬1). يحيل هذا النص مشكلة النظرية من باب العلم إلى العلاقة بين "خبر الوحي" و"معلومات العلوم الطبيعية"، ولكن لا تصح تلك المساواة؛ فإن الوحي قد اختار له المولى سبحانه أفضل خلقه من الملائكة والبشر، والرب هو المتكلم به سبحانه، أما "معلومات العلوم الطبيعية" فهي اجتهاد بشري لا ضامن للصواب فيه، فكيف يُقارن بالوحي؟ لا شك أن الأمر بالنظر في مخلوقات الله قد كثر وروده في الوحي، وهو يدل على أن من نظر في الكون قاده النظر السليم إلى الإيمان بالوحي والإيمان بالله سبحانه، فلا تناقض بين قوله وعمله فله الخلق سبحانه وله الأمر، والاعتراض هنا أنه كيف توضع اكتشافات علماء الطبيعة بموازاة حقائق الوحي؛ لأن هذا العمل يؤدي إلى افتراض المساواة، وعند افتراض المساواة فإن وقَعَ ما يوهم التعارض وقع القارئ لهما في إشكال، فماذا يعمل جراء ذلك؟ نحن لدينا يقين بالوحي، فالله سبحانه اختار أعظم ملائكته، وأوصله لأعظم خلقه من البشر، أما معلومات العلوم الطبيعية، فأهلها إنما كشفوها بمناهج تجريبية عمدتها الاستقراء الناقص، فكيف إذا اجتمع بذلك أهواء قوم مالوا بالعلوم في اتجاهات لا دينية ولو زعموا الموضوعية والمنهجية والعلمية. نعلم علم اليقين أن الحق واحد، وأن ما في الطبيعة من خلق الله سبحانه لا يتعارض مع الوحي، فهذا كلامه وهذا خلقه، ولكن هناك فرق بين الطبيعة ذاتها وما فيها من سنن وآيات كونية، وبين ما يعلنه العلماء من نظريات وقوانين كشفوها، وعندما توضع تلك المقابلة بما تعنيه من مساواة بين ما في الوحي وما في مكتشفات علماء الطبيعة فهي مقابلة ظالمة وباطلة، فكيف تُقام بين الوحي الحق وبين ظنيات البشر وجهودهم بما يعتريها من نقص وضعف وأهواء. كانت المجلة تركز على تقديم المشكلة بهذا الأسلوب؛ أي: أن الوحي من عند الله والطبيعة من خلق الله، فلا يمكن أن يقع هناك تعارض، فيشعر أصحابها بأنهم قد عالجوا المشكلة بينما هم قد وضعوا لغمًا ربما عن غير قصد، فالذي يظهر بأنهم يحترمون على الأقل أهل ملتهم ويظهرون تعظيمهم لدينهم ولا يريدون ¬

_ (¬1) مجلة المقتطف 7/ 287 - 288.

الظهور بمن يكذب بأمور الدين (¬1)، ومن أجل ذلك ركّزوا على هذا القالب الذي يرون فيه معالجة كافية للمشكلة، وقد أصبح أحد القوالب السائدة فيما بعد، وهو قالب قديم ومعروف وله أشكال مختلفة، ولكن القالب قد افترض أن حقيقة الطبيعة قد كشفها علماء الطبيعة وبهذا يكون ما كشفوه مقابلًا لما نجده في الوحي، وما يبقى بعد ذلك إلا توضيح أحدهما بالآخر أو التوفيق بينهما عند التعارض، وهو تسويق سريع -غير مقبول- لكل ما جاء من دائرة العلوم العصرية وإعطائها جميعًا درجة واحدة من الصحة، ما دام أنها تنتمي لدائرة العلم. يكون القالب السابق صحيحًا إذا كان لدينا القطع التام بصحة الوحي ودلالاته القطعية، والقطع التام بصحة المسألة العلمية ودلالتها القطعية، فإذا تحقق فيهما ذاك فهي مما ينطبق عليه القالب. جاء في هذا السياق مشاركة تؤيد أستاذ الكلية السورية اليسوعية من "يوسف حائك" من الإسكندرية، ومما قال: "فنحن نعلم أن كثيرين من الفلاسفة كفرة، ولم تزل أعمالهم واكتشافاتهم واختراعاتهم مستغرقة عظيم الاعتبار، وعائدة عليهم بجليل الثناء، فلا يمكننا إلا أن نجاهر بها، ولا نستطيع إفسادها فإن المذهب العلمي هو غير المذهب الديني، على أن الدين الحقيقي لا يناقض العلم كما أشار حضرة المعترض؛ فما العلم سوى تبيان النواميس التي أجرى الله الكون عليها. ويتفق الفلاسفة من معطلة ومعتقدين بالله بالبحث عن الحقائق، ويختلفون بأن هؤلاء يعترفون أن واضع النواميس هو الله -عزّ وجلّ- وأولئك ينكرون ذلك، فلا حرج إذًا إذا مثّل المؤمن بآراء الكفرة العلمية في جلسةٍ علمية" (¬2)، فهي تؤكد التقابل بين "مذهب علمي" وآخر "ديني"، يختلفان ولكن لا يتناقضان. وما نؤكده هنا هو أنها امتداد لمشكلة مجتمعات أخرى، مجتمع انحرف فيه الدين عندهم عبر قرون ونشأ العلم الحديث من ثلاثة قرون مما يجعل التقابل مُفَسرًا، ومن الطبيعي امتداد المشكلة داخل الطائفة النصرانية العربية لسبقها إلى دراسة هذه العلوم واشتراكهم مع أوروبا في الإطار الديني والثقافي العام، ولكن ¬

_ (¬1) جاء في سؤال من قارئ للمجلة: (على أي شيء ترتكز الكرة الأرضية بشرط أن لا يخالف ذلك الديانة المسيحية؟) فكان الجواب: (معاذ الله أن نناقض الديانة المسيحية في شيء. .)، المقتطف 1/ 255 - 256. (¬2) مجلة المقتطف 7/ 291.

النموذج الثاني: مجلة الجامعة العثمانية "الجامعة" لفرح أنطون -الإطار العلماني

المشكلة في إطارها الغربي -وقت الاتصال بهم- وصلت إلى مرحلة حسم التقابل لصالح أحدهما وهو العلم ومذاهبه وتياراته. نجد في هذين النموذجين "مسائل من نظرية الفلك الجديدة" و"نظرية داروين" طريقة الصحافة -وربما أثرها- في تقديم النظريات العلمية الجديدة، ونشرها بين المجتمع عمومًا وتعريف الرأي العام بها، كنا نريد أن نعرضها كما هي، وكما عرفوها، ولذا أطلت في النصوص، ففي ذلك الوقت لم يكن للناس سوى الصحافة، ومن التتبع التاريخي أن هذه النظريات لم تظهر للمجتمع إلا من خلال الصحافة، فحتى المدارس والمعاهد والمؤلفين لم يكونوا قد عرضوا هذه الموضوعات بوضوح كعرض الصحافة، وكان أجرأ عرض لها هو عبر الصحافة النصرانية. وقد كان من آثار الطرح: إبراز رؤية جديدة حول مسائل علمية ذات بعد علماني، وإبراز مشكلة التعارض بين الدين والعلم، وتأسيس طريقة لحلّ مشكلة التعارض بحسب ما يرونه. النموذج الثاني: مجلة الجامعة العثمانية "الجامعة" لفرح أنطون -الإطار العلماني: تمثل مجلة "الجامعة" نموذجًا آخر لتقديم مشكلة العلاقة بالعلم ومناهجه ونظرياته الحديثة، فإذا كانت المقتطف تركز على النظريات العلمية الطبيعية، فإن مجلة "الجامعة" تركز على المنهج والفلسفة وفلسفة العلم والنظرة العلمية والعلمنة، وقد جاءت في ظلّ أوضاع مؤلمة للعالم الإِسلامي حيث كانت مصر تحت الاحتلال الإِنجليزي لتصدر "الجامعة العثمانية" كمجلة "سياسية علمية أدبية تهذيبية" سنة (1317 هـ - 1899 م)، وبقدر ما أسهمت في تعريف المجتمع القارئ آنذاك ببعض المعارف المفيدة بقدر ما كانت تتحرك في إطارها "النصراني - التغريبي" في بلاد المسلمين. وتختلف مجلة "الجامعة" عن "المقتطف" أن المقتطف تخصصت في الموضوعات العلمية والصناعية أما الجامعة وإن وجد فيها شيء من ذلك، إلا أن أخطر ما ركزت عليه هو صورة العلاقة بين الدين والعلم؛ لأنها جاءت في وقت لم تتحدد فيه صورة العلم الحديث داخل المجتمع المسلم: ما هو؟ وما العلاقة بينه وبين الدين؟ وما العلاقة بين مؤسساته ومناهجه وبين مؤسسات المجتمع القديمة ومناهج التعليم الموروثة؟ كانت المرحلة مرحلة مخاض عسير، كيف يتحدد وجود "العلم العصري" داخل المجتمع المسلم، ذاك العلم المنتشر في بلاد أوروبا؟ كان الموقف ضبابيًا

من العلم العصري، فغالبه تحت إدارة الأجانب: المدرسة مدرستهم، والأستاذ منهم، والطلاب فقط من عندنا، وهذا العلم الجديد قد نما وازدهر بين فئة غلب عليهم في أوروبا النزعات المادية والعلمانية المعادية للدين، فكيف سيكون حاله عندنا؟ جهات العلم الشرعي كالأزهر وغيره لم تعلن موقفها المناسب من هذه العلوم، وبقي الرأي العام ينتظر من يصنع له الرؤية حول هذه العلوم، كان الفراغ قائمًا وينتظر من يملؤه. زعم البعض أن علماء الشريعة رفضوا هذه العلوم مما عمق الفراغ ولم يظهر جواب حول حقيقة هذا الزعم ولا موقف عام من المؤسسات العلمية الشرعية حول هذه العلوم. تولّت الصحافة سدّ هذا الفراغ عند الجمهور القارئ آنذاك، وكان عدد القراء في ازدياد، ونظرًا لأن أغلب صحافة ذاك العصر بإدارة نصرانية متغربة، فقد ملأت ذاك الفراغ بما يتوافق مع توجهها، فجاءت "المقتطف" و"الجامعة" و"الهلال" و"الضياء" وغيرها لتضع الجواب حول الموقف من هذه العلوم وعن علاقتها بالدين، وتأخر ظهور الصحافة الإِسلامية -على ندرتها كالمنار وغيرها- ليستغل هؤلاء النصارى المتغربون فراغ الساحة فيضعوا الأجوبة التي يريدون، ويبذروا بذور المشاكل التي صنعت لنا مجموعة من القضايا ما زلنا نعاني منها إلى اليوم، وكانت مجلة الجامعة ممن أسهم في ذلك. يُلخص د. "حسن حنفي" دور فرح أنطون المتأثر بدارون ورينان والذي "جعل العلم أساس بناء الفرد والمجتمع باعتبار أن الدين بدائي بطبيعته وعاجز عن مسايرة تطور الإنسان. وكان ينشر آرائه في مجلة "الجامعة" التي كانت تصدر في القاهرة"، إلى أن قال: "وقد حاول من قبل شبلي شميل تأصيل نظرية التطور في القرآن"، وذكر دعوته المتواصلة إلى العلمانية (¬1)، وهو أمر ظاهر لمن كانت مرجعيته آنذاك الثقافة الفرنسية العلمانية الصاعدة. كانت المجلة -وصاحبها- أهم النوافذ على ثقافة تيار سائد في الفكر الفرنسي، فهناك الكثير من المبتعثين إلى فرنسا، ولكن ذلك كان محصورًا في النخبة والمتعلمين ولم يصل إلى الجمهور، فقامت المجلة بمثل هذا الدور. وكانت الفكرة السائدة في أوروبا عمومًا، وفرنسا خاصة ذات الثورة العلمانية ¬

_ (¬1) هموم الفكر والوطن -الفكر العربي المعاصر، د. حسن حنفي 2/ 437 - 438.

عن العلم أنه البديل عن الدين في وضع التصورات وإدارة الحياة العامة والفردية، ومن هنا فلابد من التوجه إلى العلم والعلمانية، وفرنسا آنذاك تموج بتيارات علمانية وإلحادية خلفًا لتيار التنوير في القرن الثاني عشر/ الثامن عشر، من أمثال أتباع "سان سيمون" وأتباع "كونت" -أشهر فلاسفتهم آنذاك- وأتباع مفكريهم كـ"رينان" وغيره، كانت تيارات ضد الدين وتزعم أنها رُسل الروح العلمانية والعلمية الجديدة، وقد كان فرح أنطون من المتأثرين بهذه الأجواء، ومن المقلدين لها ولا يمنع أن تجد فيه فرنسا أداة لنشر ثقافة التبعية لها بين أوساط المسلمين ونصارى المنطقة، ولاسيّما أنها ترى منافستها اللدودة تحتل مصر. كانت أخطر الأفكار انتشارًا في فرنسا مع التيار الوضعي هو الزعم بالعداء التام بين الدين والعلم، وأن العلم يمثل مرحلة من التطور الإنساني الذي لا رجعة عنه، وهناك فئات مادية وملحدة تريد تحطيم الدين وتلتصق بالعلم -كما رأينا في الفصلين الأولين- من أجل نشر دعواها، وقد نشطت الكنيسة في فرنسا في مقاومة هذا التيار الوضعي، ولاسيّما في مجال التعليم وكذا في الدفاع عن عقائدها بربطها بالعلوم الطبيعية؛ لأن هذه العلوم قد جعلتها الوضعية الفرنسية دليلًا على فساد الدين (¬1)، وهذا الصراع الحاد قد خفّ في النصف الثاني من القرن العشرين (14 هـ) (¬2)، ولكنه كان قويًا في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر لحظة تتلمذ "فرح أنطون" وغيره على الثقافة الفرنسية، فنقل ذاك الصراع من فرنسا -بين التيار الوضعي والكنيسة- إلى العالم الإِسلامي، وصُوّر على أنه صراع بين الدين والعلم، كما حاول الناقل إقناع من يقرأ له أن سبب تأخر المسلمين راجع إلى بقاء الدين الموجه الأعلى للحياة (¬3)، ومن ثمّ لابد من استبداله بالعلم ويبقى الدين مفصولًا عن حياة المجتمع كشأن فردي، وأن يكون ¬

_ (¬1) حول هذا الصراع بين الوضعية الفرنسية والكنيسة انظر: العلمانية من منظور مختلف، د. عزيز العظمة ص 35 - 36. (¬2) نقل "هاشم صالح" في كتابه: العلم والإيمان. .، شهادات علماء في العلوم الحديثة عن مصالحة كبيرة بين العلم والدين داخل فرنسا، وسقوط تلك الدعوى الوضعية، وقد سبق ذكر بعضها. (¬3) انظر: النهضة والسقوط في الفكري المصري الحديث، د. غالي شكري ص 177.

التعليم في المدارس معزولًا عن الدين تمامًا كما هو حال المدارس الفرنسية (¬1). لم تكن حركة مجلة "الجامعة" مثل حركة "المقتطف"، فالجامعة تركز على فلسفة العلم وعلمانيته والدعوة لإحلاله محل الدين ونشر دعوات التيار الوضعي الفرنسي، وهي بهذا العمل تؤسس لنوع من الوضعية العربية المقلدة للنموذج الفرنسي، ومن بين النماذج التي غطت الكثير من أعداد المجلة التي حاول من خلالها نشر هذه الأفكار ما يأتي: 1 - عرض "أنطون" في مجلته رواية له بعنوان "الدين والعلم والمال" وذكر عنها أنها جاءت نتيجة مطالعة ثلاث سنوات في الجرائد والمجلات الفرنسية، وصور فيها ثلاث مدن بأهلها، مدينة الدين ومدينة العلم ومدينة المال، وما جرى بين سكانها من النزاع، ودعاوى كل فريق منهم على خصمه، وكيف انتهت مشكلتهم بالحل العلماني التي هي اليوم أكبر المشاكل عند كل الأمم والشغل لفلاسفة العمران ورؤساء الحكومات، وفيها بروز واضح لأفكار "كونت" و"ماركس" و"داروين" (¬2). 2 - أفسحت المجلة صدرها لـ"رينان"، صاحب الحملة النقدية الكبيرة على الكنيسة والمسيحية، وجعلها نموذجًا للتناقض بين الدين والعلم، وألقى محاضرته المشهورة عن علاقة الإِسلام بالعلم، منتقصًا من شأن الإِسلام أيضًا ولكن ليس من منطلق فكري مستقل، وإنما من خطاب استشراقي علماني وضعي ضد الإِسلام، وهو خطاب "يقدس الحضارة الهيللينية القائمة على عبادة العقل والحرية والجمال، بينما كان يمتهن الحضارة العربية الإِسلامية خاصة والسامية عامة، بوصفها عاكسة لجبرية كسولة، وإيمانية مغلقة، وعدم تسامح، وامتهان للفنون، ومناهضة للتفكير العلمي والفلسفي، ويذهب في هذا الاتجاه -مع بعض الترددات- إرنست رينان" (¬3)، وهو في نقده للإسلام لا يختلف عن نقده لدينه؛ لأن موقفه الوضعي يجعله منتقدًا لكل دين وربما يكون أكثر تطرفًا مع الإِسلام ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق ص 178. (¬2) انظر: مجلد السنة الرابعة من مجلة "الجامعة"، العدد الخامس ص 296، سنة (1321 هـ - 1903 م). (¬3) الإِسلام والعلم بين الأفغاني ورينان، د. محمَّد الخشت ص 14.

تحت ضغط هذه الرؤية الاستشراقية، وإن كان يعترف أحيانًا بموقف خاص تجاه الإِسلام فهو يراه على خلاف المسيحية أن له أصوله الواضحة التي يمكن الرجوع إليها، كما أنه يعترف أحيانًا بما يحدثه الإِسلام من انفعال به لدرجة أنه "ما من مرة دخل إلى جامع إلا وتأسف؛ لأنه ليس مسلمًا" (¬1)، ومع ذلك فموقفه من الدين عمومًا ومن الإِسلام أيضًا، ولاسيّما عندما يكون الحديث عن المقدس الجديد "العلم" يتحول لصالح الوضعية والعلمانية. وإذا كانت المجلة أفسحت لـ"رينان" كناقد للمسيحية حيث ترجمت أجزاء من كتابه: "حياة المسيح" في عدة أعداد، إلا أن رينان يؤصل في ذلك لإثبات التناقض بين الدين والعلم عبر تطبيقه أدوات يُراد تعميمها على كل دين، وهي أدوات وضعية غير موضوعية تنتمي لتيار الوضعية؛ ولذا رفضتها الأطراف الأخرى. ومن ذلك إنكار المعجزات بحجة أن دراسته للمسيحية تثبت عدم صحتها، وهو تعميم خاطئ، فكون المسيحية قد امتلأت بالأكاذيب حول معجزات مزعومة، ووجود مثل ذلك في الأديان الأخرى: أرضية أو محرفة، فليس كل ذلك كافيًا للتعميم. وقد جاء الرد اليتيم والمشهور من قبل "جمال الدين الأفغاني" ليكون الرد الإِسلامي الوحيد على حملة "رينان"، ورغم الاختلاف حول جودة رد الأفغاني إلا أنه الأول من نوعه الذي أيقظ ذاك السكون الطويل، حيث كانت الكتب والمجلات والمقولات تنتشر بين المسلمين دون أن يتجرأ أحد على نقدها (¬2)، فكان صوت الأفغاني من أوائل الأصوات الإِسلامية في ردّ طعون المستشرقين والغربيين. وقد يكون رد الأفغاني على رينان مما أثار حفيظة فرح أنطون، فأنشأ بعض المقالات في نقد الأفغاني، ومنها تعجبه من هجوم الأفغاني على الطبائعيين مع أن أكثرهم من أهل العلوم (¬3)، وكأن انتسابهم للعلم يعفيهم من نقد المفكرين والنقاد. ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق ص 28 - 29. (¬2) انظر: زعماء الإصلاح في العصر الحديث، أحمد أمين ص 86 - 93. (¬3) انظر: مقاله عن (فلسفة جمال الدين الأفغاني) في ثلاثة أعداد من مجلة الجامعة، السنة =

3 - من بين المعارك التي وقعت في تلك المرحلة ما أثاره السياسي والمفكر الفرنسي "هانوتو" حيث كتب مقالًا عن الإِسلام بمناسبة سياسة فرنسا في المستعمرات الإِسلامية، وتعرض فيه للمقارنة بين المدنية النصرانية والمدنية الإِسلامية (¬1)، معليًا من شأن الأولى ومنتقصًا من شأن الثانية، ومما أثاره كغيره من فرنسيي تلك المرحلة: أن الإِسلام ضدّ المدنية والعلوم مُرجعًا ذلك إلى العقيدة الإِسلامية، ويتواصل الطعن في الإِسلام والمسلمين مع التركيز على إبراز مقولة أن الإِسلام ضدّ المدنية والعلوم النافعة، وربما يشعر بعض المسلمين من جراء الضعف والتخلف الذي هم فيه بصحة هذه المقولة، فينساقوا مع دعاوى التغريب والاستعمار. جاء أحد الردود المشهورة آنذاك من قبل الشيخ محمَّد عبده وفرِح به المثقفون المسلمون آنذاك؛ لما فيه من إيقاظ العقول المخدَرة بتلك الشبهات، فتعود ثقة الناس بدينهم وتراثهم وحضارتهم وبإمكانياتهم الذاتية للنهوض من جديد، لقد أعطى ردّ محمَّد عبده شحنة مهمة للمسلمين، وهي أهم ما في الرد، أما تفاصيل الرد وسلامته وصحته العلمية والمنهجية فذاك موطن خلاف بين المطلعين عليه (¬2). ولكن "مجلة الجامعة" رغم حذرها من التعامل مع محمَّد عبده كانت تسير خارج السياق بسبب تبعيتها للثقافة الفرنسية الوضعية والاستعمارية فأخرجت مقالًا لكاتب بعنوان: "المسيو هانوتو والإِسلام"، وقالت: إنه "لكاتب فاضل ونستلفت إلى هذه المقالة أنظار جميع القراء" (¬3)، وعرضت فيه دفاعًا عن هانوتو تحت دعوى التوازن، وأن له حسنات وسيئات ولكنه عاقل ومعتدل و. . . .، وأي عاقل يستهتر بحضارة أمة ويصورها كأنها ظاهرة تاريخية بشرية متخلفة! وأي معتدل وهو يبرر قيام الاستعمار بجريمته كأنه حق لفرنسا في مقاومة التوسع المنافس لها من قبل إنجلترا وغيرها! ¬

_ = الخامسة (1324 هـ - 1906 م)، العدد الرابع ص 145، والعدد الخامس ص 196، والعدد السادس ص 238. (¬1) انظر: زعماء الإصلاح في العصر الحديث ص 332. (¬2) انظر كلام "هانوتو" ورد الشيخ "محمَّد عبده" في كتاب: (الإِسلام دين العلم والمدنية) للشيخ محمَّد عبده، كلام هانوتو: ص 49 - 87، والرد عليه: ص 88 إلى آخر الكتاب. (¬3) انظر: زعماء الإصلاح في العصر الحديث ص 332.

4 - عرضت "مجلة الجامعة" في السياق نفسه مقالات عن ابن رشد تؤكد فيها الرؤية العامة حول موقف الإِسلام من العلم، الرؤية المصنوعة في معاهد الاستشراق والاستعمار والتيارات الوضعية والمادية العلمانية التي تريد إقناع المسلمين أن دينهم عدو للعلم والمدنية، وأنه لا حل لهم إلا بإبعاد الإِسلام عن شؤون حياتهم، فكانت المقالة عن ابن رشد تخدم هذه الفكرة (¬1)، تنبه لها البعض وعرض ذلك على الشيخ محمَّد عبده فوضع ردًا عرضته المجلة تحت عنوان "رد إمام جليل" (¬2)، وجاءت مناقشة له في عدد آخر (¬3). ومما ذكره "فرح أنطون" في هذا الباب "أن تمكن العلم والفلسفة من التغلب على الاضطهاد المسيحي في أوروبا وعدم تمكنها من التغلب على الاضطهاد الإِسلامي دليل واقعي على أن النصرانية كانت أكثر تسامحًا مع الفلسفة" (¬4)، فقد لمح الشيخ "محمد عبده" ما يخفيه هذا النص وغيره ورد برده المهم آنذاك، وانتفع الناس بذلك كثيرًا، وقد رصدت مجلة المنار عددًا كبيرًا من الردود التي استفادت من كلام الشيخ محمَّد عبده وأيدته وشكرته، يقول "محمَّد رشيد رضا": "لقد كان لنشره من التأثير في عالم العلم والدين، ما لم نره لكلام أحد من الكاتبين، طارت به اغتباطًا قلوب المسلمين، ولم يبخسه حقه فضلاء المسيحيين" (¬5). وختم كلامه بأن فرح أنطون توقف بعد ذلك بمدّة عن إصدار مجلته، ليؤلف كتابًا في فلسفة ابن رشد للرد على الشيخ محمَّد عبده، ولكن ذلك الكتاب لم يحظ بقبول بعد النقد الذي قامت به مجلته (¬6). ¬

_ (¬1) مقالته عن ابن راشد، مجلة الجامعة، السنة الثالثة (1320 هـ -1902 م)، العدد الثامن ص 517. (¬2) انظر: المرجع السابق، العدد التاسع ص 626. (¬3) انظر: المرجع السابق، العدد الثاني ص 51. (¬4) الإِسلام دين العلم والمدنية، الشيخ محمَّد عبده ص 185، وانظر: زعماء الإصلاح في العصر الحديث، أحمد أمين ص 332. (¬5) المرجع السابق، الإِسلام دين العلم. . . . ص 221، وللأسف فإن عداء المحقق (د. عاطف العراقي) للفكر الإِسلامي جعله في تحقيقه للكتاب يتكلم عن كل شيء إلا عن دور الشيخ "محمَّد رشيد رضا" الذي أخرج هذا الكتاب، وما جهد العراقي إلا تطويله بمقدمات لا جديد فيها يستحق الذكر. (¬6) انظر: الإِسلام دين العلم والمدنية ص 222 - 223.

رغم هذه الخاتمة الصعبة للمجلة واختفائها، إلا أنها زمن حضورها أثارت قضايا خطيرة، ومما خفف من أثرها تغير الأحوال النسبي في العالم الإِسلامي، حيث برزت نماذج إسلامية دخلت الصراع فخففت من انتفاشة الصحافة العلمانية التغريبية ذات الإدارة النصرانية، ومع اختلافي المنهجي مع طريقة الشيخ محمَّد عبده كما سيظهر في الفصل الخامس إلا أنه لا يسعنا إلا شكره على هذا الجهاد الذي قام به ضدّ المدّ التغريبي النصراني، والجهاد واجب على الجميع عندما يقتحم العدوّ بلاد المسلمين أو عقولهم، ولكل مجاهد حظه من الشكر وإن كان بعض المجاهدين قد يصيب ويخطئ، كما أن بيان خطر هذه المجلة لا يعني فراغها من المفيد والنافع ولكن الذي أثار الواقع الثقافي هو تلك المواد السيئة حول الإسلام. لقد كانت الصحافة المشهورة آنذاك بيد اليهود والنصارى، وللأسف، فمنهم من حصل على الدعم من قبل المسلمين، فتمكنوا من نشر ما يريدون، وهناك عدد آخر من النماذج الخطيرة، ولكن كونها تدور في ذلك "المقتطف" و"الجامعة" فإنني خشية الإطالة أكتفي بهما، وإلا فهناك مجلة "الهلال" وهي رغم مصاحبتها للمقتطف فهي ما زالت تصدر إلى الآن، وهناك مجلة "الضياء" لإبراهيم اليازجي في مجلداتها الثمانية (1898 - 1906 م)، وعدد آخر من المجلات يصدر لفترات زمنية -تطول أو تقصر- ثم تُقفل أو تختفي. ثم بدأ في الربع الثاني من القرن الرابع عشر/ النصف الأول من القرن العشرين مجلات أخرى جديدة لقيادات فكرية مشهورة، منها ما كان للنصارى وكان من أشهرها مجلة "المجلة الجديدة" لسلامة موسى (1929 - 1942 م)، ومنها ما كان للمتغربين من المسلمين مثل مجلة "العصور" لإسماعيل مظهر (1927 - 1931 م)، وبدأت مدن أخرى تعرف الصحافة، فظهرت من دمشق مجلة "الطليعة" سنة (1935 م) كأول مجلة ذات توجه اشتراكي ماركسي (¬1)، وغيرها، ولكن المذكورة كانت تزعم في دعواتها التغريبية والعلمانية والإلحادية استنادها إلى العلم الحديث. كما أن فترة الاستعمار ساعدت على ميلاد تيارات فكرية تغريبية أهمها ¬

_ (¬1) انظر: العلمانية من منظور مختلف، د. نذير العظمة ص 232 - 233.

الليبرالي والقومي والماركسي والاشتراكي، وبعضها تكوّن لها أحزاب كبيرة في العالم الإِسلامي، وأوكل لها الاستعمار قيادة كثير من البلاد الإِسلامية بعد رحيله، وكان لهذه التيارات الفكرية وأحزابها السياسية مجلّاتها المختلفة التي وظفتها في خدمة رسالتها التغريبية، ومن ذلك انحرافها الكبير بالعلم الحديث ومناهجه ونظرياته والاستغلال الأيديولوجي القبيح للعلم بما يخدم أصولهم الفكرية التغريبية ويحقق رغبتهم في مسخ هوية الأمة، بدأ الانحراف بالعلم عبر الصحافة داخل صحافة نصرانية وبين النصارى أنفسهم، ثم تحول ذلك إلى الصحافة عمومًا، منه ما يتوجه للمسلمين ومنه ما يتوجه إلى غيرهم، ثم أصبح من أبناء المسلمين من سلك طريق التغريب، وأنشأ صحافة تتوجه للرأي العام وتمارس دورها في الانحراف بالعلم. ماذا فعلت الصحافة النصرانية التغريبية؟ أطلتُ الحديث عن الصحافة؛ لأنها -إلى حدٍ ما- تعدّ مرآة التيارات الناشطة آنذاك، فتُصور لنا طبيعة الموضوعات التي كان يتداولها أولئك القوم، والتفاعل الناتج عنها، فاكتسبت من ذلك أهميتها في آية دراسة تحاول تحليل مرحلة أو قضية فكرية، كما أنها منبر التوجيه والتأثير في المجتمع، فإن لم تؤثر فهي تُعبّر عن رغبات قوم يمارسون دورهم من أهم منفذ جماهيري أتيح في العصر الحديث وهو الصحافة، وتعطي للبحث صورة شبه كاملة عن المشاكل المرتبطة بظهور العلوم العصرية والنظريات العلمية والمذاهب المصاحبة لها، إنها إلى حدٍ كبير تعطي تصورًا جيدًا عن واقع المجتمع آنذاك في طريقة تفاعله مع هذه العلوم ونظرياته. فتحت الظروف التاريخية المعاصرة الفرصة للنصارى أن يمتلكوا الصحافة الأهلية الناجحة، ومنها تلك الصحافة الموجهة لرعاية المعارف العصرية والأفكار والآداب والفنون الحديثة، وأصبحت بذلك النافذة الشعبية الوحيدة السهلة للوصول إلى تلك المعارف. ومن الطبيعي لصحافة يديرها النصارى أن تظهر رغباتهم من خلالها وتُبث أفكارهم فيها، وبسبب اختراق المذاهب العلمانية لأكثر مؤسسي تلك الصحف، فقد تحولوا إلى أبواق دعائية تنشر -بحسب الظروف- ما يمكن نشره من تلك المذاهب.

كانت فترة احتكاك مثقفي النصارى العرب بالغرب فترة ظهور المذاهب الوضعية والمادية ونجاح العلمانية في فرنسا بالذات، فانعكس ذلك في صحافة النصارى العرب بشكل أو آخر، وكان من أخطرها الموقف من العلوم الحديثة ومناهجها ونظرياتها، ولاسيّما أن ما انشغل به المسلمون واعتنوا بطلبه من الغرب آنذاك هو العلوم الحديثة والصناعات، فجاءت هذه الصحافة ولاسيّما ما ذُكر من نماذج، وكأنها تلبي رغبة المجتمع آنذاك في طلبه لمثل هذه العلوم، ولكن تغطيتها للحديث قد اعتراها ما أفسد مسيرة العلوم وتسبب -مع غيره- في إفساد تصور العلوم الحديثة والانحراف في التعامل معها، يوضحه الآتي: 1 - فمن ذلك التحول من العلوم إلى النظريات والأفكار والتصورات: كانت بداية التحديث وطلب النهضة في البلاد الإِسلامية محصورة في إصلاح الجيش وطلب العلوم البحتة وبعض الأمور الصناعية، ومثل هذه الأمور تبقى محايدة لا تُحدث آثارًا مباشرة في المجتمع وثقافته، ولا تصطدم مع ثقافة الأمم المختلفة، ولكن الصحافة ذات الاهتمام العلمي حولت الأنظار إلى مسائل مرتبطة بالحركة العلمية الحديثة ونابعة من ثقافات الأمم الأخرى، ولاسيّما في مجال النظريات والمناهج والتصورات وفلسفة العلوم، ومن الطبيعي هنا أن يقع الاختلاف وربما الاصطدام. كانت المعاهد المنتشرة لتدريس العلوم الحديثة والصناعات بعيدة إلى حد ما عن هذه المشكلات، مهمومة ببعض الأمور النافعة، لكن جاء اليوم من يقول: إن ما يدرسه هؤلاء ليس كل العلم، بل ربما تركوا ما هو أهم منه مثل فلسفة العلوم ذاتها، هذا بعض ما توحي به الصحافة، ولكن القراء قد يظنون أن هذه الأمور الخطيرة هي العلم الحديث، فيقع الخلاف، وتنشغل الأمة عن الأهم، وتنشغل النخبة بالأمور المشتبهة ويتركون النافع، فإذا علمنا أن المشتغلين بالعلوم الحديثة النافعة هم قلة، وجاء ما يعطل مسيرتهم من إدخال الاختلاف حول قضايا لا يضرّ تأخيرها ويضر تقديمها، فكم من حوارات وردود، وما سبّبَ كل ذلك من اضطراب اجتماعي وما تبعه من إجراءات سياسية. ربما يعود الإشكال إلى ارتباط الصحافة العلمية أول أمرها بطائفة نصرانية تخالف في دينها وثقافتها المجتمع الذي تعيش فيه، لذا لم يكن يهمها ما ترمي به المجتمع المسلم عبر وسائلها الإعلامية، ولاسيّما مع ارتفاع الحرج عندهم في

ظل الامتيازات التي حصلوا عليها في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر ثم الحماية الأجنبية المباشرة مع الاحتلال الغربي لبلاد المسلمين. علينا أن نتخيل عظيم الجرم الذي فعلته صحافة النصارى بإشغال الأمة لأكثر من ربع قرن بنظرية التطور في وقت كنا في بداية التحديث المادي والعلمي، فعطّلت المسار الصحيح لنهوض الأمة بالحوار والجدل الطويل حول هذه النظرية، ثم بعد ذلك لم نخرج بشيء، بل اختفت تمامًا في منتصف القرن الرابع عشر/ العشرين، مع اختفاء الدارونية على المستوى الغربي. قد يقول قائل: وما المشكلة في تعرّفنا على النظريات والمناهج العلمية، ولاسيّما أن لها أثرًا في تطور العلم؟ والجواب أنه لا توجد مشكلة في ذلك إذا بقيت داخل دائرة العلوم البحتة، أما إذا كانت النظريات تختلف مع ثقافة الأمة أو مع أصول دينية، فلابد من التوقف معها قبل جلبها، ولنتأمل في طبيعة ذلك الاختلاف: ما حدوده؟ وما آثاره؟ وليتحاور حولها أولًا نخبة من علماء الشرع وعلماء العلوم العصرية حتى لا نُدخل على أمتنا ما يؤثر على عقيدتها ويثير التوتر الاجتماعي فيعيق التطور السليم والتقدم النافع. ويختلف هذا عن موقف الصحافة النصرانية التغريبية، إذ ركّزت على ما هو موطن إشكال وربما يصطدم مع أصول دينية، فيفتحون بذلك الخلاف الضارّ داخل الأمة. ولاسيّما أن واقعنا يختلف آنذاك عن واقع المجتمعات الأوروبية، فإن أوروبا إن ظهر فيها الجديد من النظريات فعندها من العلماء المختصين في الأبواب العلمية المختلفة ما يمكنهم من نقد النظريات وتحليلها وكشف نقاط الضعف والقوة فيها بخلاف نشرها في العالم الإِسلامي، فلا يوجد آنذاك من المختصين والعلماء من يستطيع نقدها علميًا، ولا توجد المختبرات ولا البحوث العلمية ولا الدراسات السابقة ولا المعامل ولا أدوات التحقق، مما يجعلنا إما أن نقبلها ونسلم بها أو نرفضها، والقبول والرفض لم يُبن عن تحقق علمي. ويزداد الأمر أهمية في تلك النظريات التي تفتح خلفها أبوابًا في غاية الإشكال، فلم يكن من الحكمة والحال هذه أن نُقبِل على هذا النوع من النظريات، إما لعدم فائدتها المباشرة وغيرها أولى وما تثيره من ضرر أكثر مما تفتحه من نفع إن كان فيها نفع، أو لعدم قدرتنا العلمية والمادية من التعامل الإيجابي مع مثل تلك النظريات الجديدة.

2 - ومما أثارته الصحافة بسبب عرض ما لا نحتاجه: أن الجمهور المثقف القارئ بعد اطلاعهم على هذه المعلومات التي شعروا من خلالها بوجود التعارض مع ما يعرفونه من دينهم عادوا -كما هو المتوقع، والأصل- إلى علمائهم الشرعيين يسألونهم عن هذه الأمور. والمتوقع -وربما وقع منه الكثير- أن يكون الجواب بترك تلك الضلالات، لكن دون إثبات كونها خاطئة بالأسلوب العلمي نفسه، والذي صيغت به تلك النظريات، أو التوقف عن الجواب أو محاولة إيجاد صورة يتم فيها الجمع بين الأمرين، والأخير قد جذب البعض ولكنه لا يصح إلا من طرف لديه معرفة جيدة بالشرع، وأخرى لحقيقة تلك النظريات. وهي مسألة ستأتي في الفصل الخامس، ولكن المقصود أنها أثارت مشكلة يصعب على أهل العلم الشرعي في تلك البيئات التي ظهرت فيها أن يجيبوا بالجواب الشافي، ولذلك أثره في زيادة الحيرة والاضطراب والاختلاف داخل المجتمع. 3 - ومما أثارته الصحافة بسبب العرض المُشكْل في هذا الباب: أنها وفّرت منفذًا وأوجدت فرصة للطاعنين في الإِسلام والمبغضين له، وقد كان قبل ذلك يتم عن طريق تأليف الكتب أو عبر المدارس أو اللقاءات، أما بعد ظهور الصحافة فقد تحول القوم إليها بما توفره من إمكانيات لا توجد في غيرها، وقد ظهر منها الشيء الكثير في النصف الثاني من القرن الثالث عشر/ التاسع عشر حيث كانت أغلب الصحف بيد اليهود أو النصارى فوفر نشر مثل هذه النظريات فرصة لدعاة التشكيك في الإِسلام وفي الدين. 4 - ومما أثارته الصحافة أيضًا أنها صنعت رموزًا جديدة وأخفت الرموز الذاتية. لم يكن هناك إلا صحافتهم، وأبطالها هم علماء أوروبا وأدباؤها وشعراؤها وفلاسفتها وسياسيوها وقوادها الحربيون و. . . . مع التركيز على العلماء الأوروبيين في الصحافة العلمية. هكذا اختفت أسماء أعلام الإِسلام من الصحافة وبرزت أسماء أخرى، ولاسيّما وسط الجمهور القارئ المثقف، ولا يخفى ما في ذلك من توجيه الرؤوس إلى قيادات جديدة، ورموز جديدة، تكون موضع القدوة ومصدر التلقي، كما أن ذاك التركيز يحول العناية من العلم إلى العالِم، والعالم ليس كل ما عنده علم، فعنده المواقف الدينية والثقافية والسياسية وغير ذلك. والذي يعنينا الآن أن الصحافة آنذاك رسمت "نموذجًا" جديدًا يتخيله

الذهن عن العالِم، فقد كان العالم في الموروث الثقافي هو العالم بالشريعة والعلوم الإِسلامية في المقام الأول، أما ما تريد الصحافة ترسيخه فهو أن العالم هو النموذج الأوروبي المعروض في صفحاتها وهو الذي يستحق الاسم. 5 - ومما أثارته الصحافة أيضًا تركيزها على وضع تصور علماني عن العلوم العصرية، سواءً بالفصل بينها وبين الدين وعلومه، أو جعل مظلتها هي تصورات علمانية تتحرك في ظلها تلك العلوم، ومن ذلك: أن هذه العلوم الجديدة قادرة على مساعدة الناس، وإغنائهم عن غيرها من العلوم. عندما كان طلب العلوم محصورًا في النافع منها لم يظهر إشكال في المجتمع، ولكن عندما دخلت النظريات وفلسفات العلم نبتت مشاكل، وكان الحل التغريبي المطروح لها هو العلمانية، وكانوا يصورون العلمانية على أنها فقط أداة فصل بين نظامين، مع أنها في حقيقتها محاولة إحلال نظام جديد غربي مكان الإِسلام وإن كان ذلك بالتدريج، وقد اتضح ذلك بجلاء في صحافة النصارى وقت الاستعمار، حيث تحول خطابها من التلميح وغير المباشر إلى التصريح والمباشر. 6 - ومما أثارته الصحافة أيضًا، أنها زرعت المشكلة وأرادت أن تعرض الحل، وذاك الحل المقترح قُدِّم وفق رؤية نصرانية بسبب إدارة النصارى لتلك الصحف، وبسبب إثارة المشاكل أولًا داخل النصارى حيث كانت المشكلة "نصرانية - نصرانية"، ولكن الصحافة بسبب جماهيريتها قد يتحول ما تطرحه إلى ما يشبه رؤية عامة لجميع القراء، ويترسخ مع الأيام في أذهان القراء مع التكرير، ولاسيّما إذا غاب منهج المعارضة النقدية، وأنى له ذلك في ظل غياب صحافة إسلامية في مكانة الصحافة النصرانية. ومما أوحت به من مشاكل ومناهج للمعالجة: أن هناك تعارضًا بين الدين والعلم، وأن المنهج الأنسب هو القائم على تصور الدين أنه يخاطب الناس بما يفهمونه في عصرهم وإن كان خلاف الحقيقة، وأن الحل بعد ذلك يكون في تأويل النصوص الدينية أو الأصول الدينية، وإن كان التصور والمنهج غير جديد فإن الجديد هو المشاكل والمسائل المعروضة. 7 - ومما أوحت به الصحافة لجمهور واسع من المسلمين أن العلوم العصرية الحديثة علوم فاسدة وتدعو إلى الإلحاد والكفر وتُعارض الدين؛ لأن الصحافة التغريبية ركزت على عرض نظريات حولها إشكاليات وشبهات،

وعرضتها على أنها من العلم المعتبر في بيئة يُعد فيها المدركون لحقيقة هذه الأمور قلّة، فكونت رأيًا معارضًا عند بعض المسلمين يرفض أصحابه هذه العلوم مطلقًا، وانتشر هذا القول بين عدد من المتدينين خوفًا على دينهم، وما كان موقفهم بصحيح، إلا أن مما يفسر مثل هذا الموقف هو اشتباههم في دعاة هذا العلم من المتغربين بسبب ما ينشرونه في صحفهم، وقد كان حال الفئة القليلة المتدينة الرافضة للعلوم مطلقًا أيسر في المعالجة، فإن علماء الإِسلام قد بيّنوا لهم الحق، مما جعلهم يتركون مثل هذه المعارضة المطلقة للعلوم العصرية، وسيأتي شيء من حال الرافضين ورد العلماء عليهم في الفصل الخامس بإذن الله.

رابعا: التيارات الفكرية الوافدة وتنظيماتها كالماسونية والسيمونية

رابعًا: التيارات الفكرية الوافدة وتنظيماتها كالماسونية والسيمونية عرفنا أن القرن الثالث عشر/ التاسع عشر كان فترة الاهتمام بطلب العلوم العصرية، والأمر الذي يحلله البحث أن تلك المرحلة نشأت فيها مجموعة من المشاكل حول العلاقة بالعلم الحديث العصري ونحن نريد تجاوزها -لاستمرارها إلى اليوم، ولاسيّما من قبل التيار التغريبي- وعلى هذا، فمن المهم النظر في تيارات تلك المرحلة التي أسهمت بصناعة تلك المشكلات، ولاسيّما الماسونية والسيمونية. [1] الدور الماسوني: بالعودة إلى تلك المرحلة نجد أن أبرز التنظيمات الفكرية الناشطة هي "الماسونية" وربما تشبه في نشاطها ما فعلته التيارات المعاصرة في القرن الرابع عشر/ العشرين مثل الماركسية -التي انتشرت أحزابها ومؤسساتها وربما حكوماتها، وانتشر مفكروها وصحفها وأدبها وإعلامها بشكل يناسب الإمكانيات المتاحة في القرن (14/ 20)، وهكذا كانت الماسونية في تلك المرحلة تشبه إلى حد ما دور الماركسية في مرحلتنا المعاصرة وربما بصورة أخطر، إذ كانت المهمات المحددة في تلك المرحلة هي التخلص من الدولة العثمانية وتأسيس مجتمعات جديدة تتقبل السيطرة الغربية بكل تياراتها وسياساتها وأطماعها، تختلف في التفاصيل والآليات، ولكنها ترجع في النهاية إلى هذين الإطارين، وقد أسهمت الماسونية آنذاك بالشيء الكبير لدرجة افتخارهم بإسقاط الدولة

العثمانية، ففي احتفال للماسون قال أحد المتحدثين: "انظروا إلى إخوانكم الماسونيين في "سالونيك" الذين قاموا بالحركة الدستورية التي قلبت نظام الحكم العثماني في آخر عهد السلطان عبد الحميد، دون أن تسيل قطرة دم واحدة. أجل فبمثل هذا الشعب الماسوني تفخر الماسونية ويعظم شأن وسائلها السلمية السليمة" (¬1)، فتم التخلص من الدولة العثمانية وإن كان الأمر ليس للماسون وحدهم ولكنهم في ظلّ ظروف عصيبة بالأمة لعبوا لعبتهم الخطيرة وقطفوا الثمرة، ومن تمام الخبث كلفوا أحد اليهود الماسونيين (¬2) بإبلاع السلطان عبد الحميد خبر عزله ونقله إلى الإقامة الجبرية في سالونيك مقرَّ اليهود والماسون المهم آنذاك. ولا يهمنا من الحدث السياسي الخطير -السالف الذكر- إلا بما يدل على اتساع دائرة الماسون وقوة أمرهم في مرحلة الإصلاح والتحديث والنهضة الحديثة، ومن ثم إسهام القوم في تلويث مسيرتها بما يخدم مصالحهم وأهواءهم، ولاسيّما على المستوى الفكري ومن ذلك طلب العلوم العصرية وما صاحب ذلك من مشكلات، فلننظر إلى طبيعة تلك المشكلات. تعدّ الماسونية ذات نشأة غامضة، حتى في ظهورها الحديث داخل أوروبا، إلا أنها في أوروبا قد أظهرت دعاوى جذبت الناس إليها، ولاسيّما النخب بشتى تخصصاتهم، ومن تلك الدعاوى محاربة الظلم والاستبداد السياسي والديني والدفاع عن الحرية والعدل، ولكن تحت هذا الغطاء كانت تختفي عقائد سرية لا يعرفها إلا القليل، وتنسب إلى زندقات باطنية قديمة وحديثة ذات صلة باليهودية (¬3). ولكن مع انتساب النخب المثقفة والتجارية والسياسية إليها جعلها ذات قوة ¬

_ (¬1) الأفعى اليهودية في معاقل الإِسلام، د. عبد الله التل ص 79 عن المؤامرة الكبرى ص 74 - 75. (¬2) انظر: الأفعى اليهودية في معاقل الإِسلام ص 75 - 76، وانظر: مقدمة مذكرات السلطان عبد الحميد، د. محمَّد حرب ص 21 - 22 وكلام السلطان ص 209 - 215، وانظر: الدور السياسي ليهود الدونمة في تركيا، د. أحمد النعيمي ص 121، وانظر: حقيقة يهود الدونمة في تركيا، د. هدى درويش ص 34. (¬3) انظر: خطر اليهود العالمية. . . .، عبد الله التل ص 143 - 152، وانظر: الماسونية ذلك العالم المجهول، د. صابر طعيمة ص 143، وانظر: تاريخ الفكر المصري الحديث (عصر إسماعيل)، د. لويس عوض ص 289 - 290.

خطيرة داخل المجتمعات الغربية، وقد بدأ عصرها الذهبي الحديث من إنجلترا (¬1)، ثم تُصدر من هناك إلى جرمانيا وفرنسا، وشارك فيها رموز فكرية مثل "بيكون" (¬2) فيلسوف التجريب وداعية المنهج التجريبي في أوروبا الحديثة، وكذا "فولتير" (¬3) أحد أهم شخصيات الفكر الفرنسي والأوروبي في عصر التنوير، كما أن أخطر ثورة أوروبية قدمت النموذج العلماني، وهي الثورة الفرنسية كان لهم نفوذ كبير فيها لدرجة أن هناك من ينسب لها الثورة. من المهم هنا أن نذكر أن المحافل الماسونية بعد تحولها إلى الدولة الماسونية الرمزية ضمت إليها العلماء المشاهير، ولاسيّما مع نقمتهم على الأنظمة الموروثة: الدينية والاجتماعية والسياسية، فقد كان المؤسس الحديث للماسونية "ديزاغليه" (¬4) من مشاهير الفلاسفة الطبيعيين، وعضوًا في المجمع العلمي الملكي الإنكليزي، وهو أعلى هيئة علمية تجمع العلماء آنذاك. وبرزت بعد ذلك كتيار محب للعلم بعد تمسحها بالعلم والعلوم الجديدة، وكمنبر من منابر التبشير بالعلم الحديث لدرجة أن هناك من يقول عنها: "وظاهر الحال -والحديث هنا عن الظاهر- يدل على أن الماسونية أصلًا كانت ثورة فكرية نشأت للتوفيق بين العلم والدين منذ أن زلزل كوبرنيك وجاليليو وبيكون عالم العلم والدين جميعًا؛ أي: كانت أصلًا ثورة المثقفين المطحونين الرافضين للكثلكة ولحركات الإصلاح الديني والبروتستانتية معًا، فهي تمثل محاولة العقل البشري أن يجد طريقًا ثالثًا بين غيبيات الدين وعقلانية العلم العاجز عن تقديم الحلول لأهم القضايا التي يطرحها الإيمان الغيبي. فهي نوع من الديانة الشخصية لغير القادرين على التحرر من الأديان، أو لعلها نوع من الفيثاغورية الجديدة. ففي الفيثاغورية اختلطت قوانين الرياضيات بالحكمة الدينية" (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق، التل ص 143 وما بعدها، وانظر: تاريخ الماسونية، جرجي زيدان ص 116. (¬2) انظر: تاريخ الفكر المصري الحديث. .، د. لويس عوض ص 290 - 291. (¬3) انظر: تاريخ الماسونية، جرجي زيدان ص 104، وحول الثورة الفرنسية، انظر: الفصلين الأول والثاني من هذا البحث. (¬4) انظر: المرجع السابق ص 70. (¬5) انظر: الفكر المصري الحديث. . . . ص 291.

يبين النص السابق كيف تُسوّق الماسونية نفسها داخل المجتمع الأوروبي ثم الأماكن التي تنتشر فيها؛ لأن حقيقة الماسونية أنها لم تحاول التوفيق المزعوم بقدر ما استثمرت العلم في التخلص من الدين، ولاسيّما أنه ظهر التفكير في صناعة أديان جديدة داخل أوروبا بعد الأحداث الدامية بين الكنيسة والمجتمع، وعندما كان العلم الحديث هو الأبرز حضورًا آنذاك والأكثر نجاحًا تسلقه أصحاب التوجهات الخفية والعلنية، وزعموا تقديم أديان جديدة، كما نجده مع "الماسونية" ونجده عند "الوضعية الكونتية" (¬1) وغيرها. وقد كانت ضمن ما يُسمّى بالدين الربوبي الذي ظهر في القرن الثاني عشر/ الثامن عشر مع دعاة التنوير، الداعي إلى الإيمان بالرب على أنه وجود مطلق غامض هو سر وجود العالم مع الكفر بالنبوات والأديان وما يتعلق بها من إثبات الغيب واليوم الآخر (¬2). وقد اتخذتها الماسونية وغيرها مطية مناسبة لإنكار الأديان -هذا إذا استثنينا علاقتها بالدين اليهودي لكون غالبية أهلها من اليهود- فهي فيما يظهر تيار ملحد لا يعترف حتى باليهودية وإن خدمت اليهود، وقد كان الشيء الوحيد الذي يقرّون به هو "مهندس الكون العظيم" (¬3)، ويزعمون أن مقصودهم بالمهندس؛ أي: الرب، وشبهوه بالمهندس لإعجابهم بالهندسة وربما لذلك صلة قديمة بالفيثاغوريين الرياضيين. ولكن حتى هذا الاعتقاد لم يعد مسلمًا به حيث بدأت محافل مشهورة ترى عدم اشتراط إيمان العضو به، ثم إن تلك المحافل تشددت وطلبت منع الإيمان به، ليظهر أن غايتها هو الإلحاد (¬4)، وقد وقفت منها الكنسية الكاثوليكية موقفًا شديدًا وبسبب قربها منهم فقد كشفت الكثير عنهم (¬5). والذي يعنينا أن هذا التنظيم السري كان له أثر خطير من القرن السابع عشر ¬

_ (¬1) انظر: حول الوضعية الفصل الأول ص 205، 209 والثاني ص 389 من هذا الباب. (¬2) انظر مثلًا: تاريخ الفكر الأوروبي الحديث، سترومبرج ص 117 وما بعدها ترجمة د. أحمد الشيباني، وانظر: الماسونية ذلك العالم المجهول، د. صابر طعيمه ص 312. (¬3) انظر: العلمانية من منظور مختلف، د. نذير العظمة ص 96 - 97، وانظر: تاريخ الماسونية، جرجي زيدان ص 127. (¬4) انظر: المعطيات السابقة نفسها. (¬5) انظر: العلمانية من منظور مختلف ص 97، وانظر: الماسونية ذلك العالم المجهول ص 308 وما بعدها، وانظر: تاريخ الفكر المصري الحديث (عصر إسماعيل) ص 290.

إلى التاسع عشر داخل أوروبا (11 - 13 هـ)، وأنه أقرب إلى الإلحاد مع صلة يهودية واضحة، وأنه يتمسح بدعوات ثقافية واجتماعية على رأسها العلم والعقل والحرية والمساواة والإخاء وهذا للتسويق، ولكن المشكلة هي انتساب بعض العلماء والمفكرين الأوروبيين المشاهير إليها، مما جعلها أكثر جاذبية للمتغربين من العالم الإِسلامي، وسوقت نفسها داخل العالم الإِسلامي بمثل تلك الشعارات وكانت في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر من أبرز اللاعبين داخل العالم الإسلامي. فبهذه الخلفية العجيبة وبهذه التركة الثقيلة الخبيثة وبهذا الدعم الواسع دخلت إلى العالم الإِسلامي، وكان أول دخول لها سجلته لنا الوثائق التاريخية بوضوح مع الحملة الفرنسية. افتتح "كليبر" أحد قواد الحملة الفرنسية على مصر المحفل الماسوني الأول فيها، حيث كان هناك مجموعة منهم ضمن الجيش (¬1)، فالجيش هو ابن الثورة الفرنسية التي دخلها الماسون بقوة، ولكن أمر المحفل اختفى بعد خروج الحملة، ومع اختفائه إلا أن بعض أعضائه فيما يظهر اشتغلوا في الخفاء حتى جاء ذاك التسامح الخطير من قبل محمَّد علي وأبنائه من بعده، ولاسيّما في عهد إسماعيل فظهرت محافلهم ونشاطها (¬2)، أما الدولة العثمانية فقد كانت سالونيك تعج بطائفة يهودية كبيرة وكانت الماسونية تعشش هناك بكل سهولة (¬3)، وكذا الحال في بلاد الشام، ولاسيّما داخل الطائفة النصرانية، ¬

_ (¬1) انظر: تاريخ الماسونية ص 145. (¬2) انظر: تاريخ الفكر المصري الحديث. . . .، ص 286 ويقول الماسوني المشهور "جرجي زيدان" في كتابه: تاريخ الماسونية "الحمد لله أن الماسونية ما انفكت منذ نشأتها متمتعة بحماية ولاة النعم، حيث أقامت وما ذلك إلا لثقته بصحة مبادئها ولعلمهم بإخلاصها للأمة والوطن والدولة وعلى الخصوص الماسونية الرمزية. . . ."، إلى أن قال: "ومن الرجال العظام الذين شرفوا هذه العشيرة بحمايتهم ورعوه بعين عنايتهم سمو الخديوي السابق إسماعيل باشا الأفخم"، ثم تحدث عن مثول أستاذهم الأعظم بين يدي الخديوي وتقديمه واجب العبودية، ثم قال: "فتعهد الأستاذ الأعظم بالشرف أن الماسونية لا تسير إلا كما اشترط سموه. وعلى ذلك تم التعاضد بين الحكومة المدنية والدولة الماسونية وأصبحت القوتان يدًا واحدة في ترقية شأن الأمة ورفع منار الفضيلة" ص 151، هكذا الحديث عن دولتين، دولة داخل دولة، وانظر حول محافلهم في مصر الكتاب نفسه ص 143 - 164. (¬3) انظر مثلًا: تاريخ الماسونية، جرجي زيدان، وهو ماسوني مشهور ص 139 - 143.

فتأسس أول محفل في بيروت سنة (1862 م) (¬1). وهكذا أصبحت المحافل الماسونية ظاهرة من ظواهر تلك المرحلة، لدرجة أن مجموعة من المشاهير وبعض الفضلاء وبعض المنتمين للعلم الشرعي انخرطوا فيها، وربما يعود السبب في ذلك إلى شهرة المحافل ونجاحها في بث دعايتها بين النخب من جهة، وإلى دور خطير لعبه جمال الدين الأفغاني في ذلك حيث دفع أصحابه إلى الاشتراك فيها أو محاولتهم تأسيس محفل خاص بهم على شاكلتها، ولا شك أن ذلك شكّل وصمة عار فيما بعد للتيار العصراني الذي قاده الأفغاني ومحمد عبده وطاهر الجزائري والأمير عبد القادر الجزائري (¬2) وغيرهم، ولاسيّما بعد أن تكشّفت حقيقة تلك المحافل، ووصل الأمر إلى أن بعض الرموز السياسية الكبيرة دخلت ضمن هذه المحافل، كأحد السلاطين العثمانيين (¬3) وبعض الأمراء من أسرة محمَّد علي (¬4)، ودخلها شخصيات مشهورة من جميع أطياف المجتمع، ولاسيّما جيل النخبة منهم، وذاك يكفي لجعلها قادرة على قيادة المجتمع ما دام أن قادته السياسيين والاجتماعيين داخل إطار المحافل الماسونية. وإذا كان التنظيم الماسوني أو دولة الماسون (¬5) بهذه الشهرة، وبهذه القدرة ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق ص 135، وذلك بعد أحداث (1860 م) التي فتحت المجال لوجود أوروبي مكثف. (¬2) إن مشاركة هذه القلة الإِسلامية تحتاج إلى دراسة خاصة لا يتسع لها المقام، وإذا كنت أرى الآن بعين عصري خطأهم الفادح، فإن الحال ذاك الوقت لم يكن يساعدهم على الوعي بكل أبعاد تلك التيارات ولاسيّما مع التسامح السياسي معها، وضغط جمال الدين الأفغاني على أتباعه بالمشاركة فيها. (¬3) وصلت "الماسونية" إلى السلطة زمن السلطان "عبد الحميد" عبر وزيره "رشيد باشا" المتأثر بها، ثم مع السلطان "مراد" الذي لم يطل حكمه وكان عضوًا في الماسونية، انظر حول "رشيد": مقدمة د. محمَّد حرب لمذكرات السلطان عبد الحميد ص 17، وحول "مراد". انظر: المذكرات ص 62 ص 115. (¬4) كالأمير "توفيق" والأمير "حليم"، فلكل واحد منهما مشاركة في محفل، انظر: تاريخ الفكر المصري الحديث. . . . (عصر إسماعيل)، د. لويس عوض ص 292. (¬5) يقول الماسوني "جرجي زيدان" عن الاتفاق بين رئيسهم ووالي مصر: (وعلى ذلك تم التعاضد بين الحكومة المدنية والدولة الماسونية، وأصبحت القوتان يدًا واحدة في ترقية شأن الأمة ورفع منار الفضيلة) ص 151، وانظر: ص 150 - 154 عن (الدولة الماسونية المصرية) وغيرها. وفي تقرير عرضته مجلة "المقتطف" ذات صلة بالماسونية سنة =

على اجتذاب البارزين والمشاهير وقيادات المجتمع في تلك الفترة -فترة التحديث والنهضة وفترة الاهتمام بالعلوم العصرية- فإنه يأتي وقت البحث عن أثرها في الفكر الحديث عمومًا وطلب العلوم العصرية خصوصًا؛ إذ في الغالب ما يرتبط التأثير بالشهرة. لا نستغرب من سرعة انتشارها وتوسعها وجذبها لشخصيات مهمة في ظل دعم قوي مالي وسياسي وتنظيم محكم مع ضعف داخل الأمة الإِسلامية، ولكن لماذا تتحرك داخل العالم الإِسلامي؟ يأتي تحركها في ظل الرغبة الغربية بكل خلفياتها "اليهودية والنصرانية والعلمانية" للتوسع ولاسيّما داخل منطقة "الرجل المريض" ذات الأهمية الكبيرة بالنسبة لهم، فأوجدت هذا الإطار داخل العالم الإِسلامي ليكون أداة مناسبة، وفي ذلك يتساءل "لويس عوض": هل كان أثرها في مصر مثل أثرها في أوروبا عندما آزرت مثلًا حركات التحرير؟ ثم ذكر أنها ربما كانت ملاذًا للهاربين من أوروبا، ولكن ذلك "لا يفسر "تسابق" المحافل الأوروبية في إنشاء فروع لها في مصر، كتسابق الجاليات والدول الأوروبية في إنشاء المدارس الأجنبية أو الصحف الأجنبية في مصر، بل تسابقها في توجيه التعليم المصري أو السيطرة على الآثار المصرية. وهذا التسابق لا يكون إلا حيث تكون الرغبة في تجنيد المثقفين وتعبئة الرأي العام. وهذا هو الوجه الثقافي للسيطرة الاقتصادية والسياسية" (¬1)، وفي موضع سابق يقول: "فمن الثابت أن هذه المحافل الماسونية المتعددة، لم تكن إلا جمعيات سرية أنشأتها الدول الأوروبية في مصر في تسابقها الاستعماري لتجنيد المثقفين المصريين وأصحاب النفوذ في مصر" (¬2). ¬

_ = (1883 م) عن الماسونية: أن عدد نواديها في العالم (138065)، وعدد أعضائها (17159643)، وفي أفريقيا مع مصر عددهم (82320)، وأن نفقات سنة (1880 م) ما يقرب من أربعة مليار ونصف فرنك، وتُعقِّب المجلة: (فعلى هذا النحو يكون برنامج الماسونية أعظم من جمهورية فرنسا الذي هو أعظم ما في الدنيا)، انظر: المقتطف، المجلد الثامن/ 755 سنة (1883 م). (¬1) تاريخ الفكر المصري الحديث (عصر إسماعيل) ص 291 - 292. (¬2) تاريخ الفكر المصري الحديث ص 19، وانظر: فتوى الشيخ "محمَّد رشيد رضا" التي بين حقيقة دورها هذا في مجلة المنار جـ 14/ 178 سنة (1329 هـ -1911 م)، وانظر: 15/ 32 سنة (1330 هـ - 1912 م)، وانظر: 29/ 268 سنة (1347 هـ - 1928 م).

فهناك أعداد يمكن توظيفهم لتنفيذ الأهداف الأوروبية "اليهودية النصرانية العلمانية" ولكن ما الإطار الأنسب الذي يوحد حركتهم ويوظفها لصالح المشروع الغربي؟ كان أنسب الأطر "المحافل الماسونية" بحيث تتخذ من الجانب الاجتماعي والثقافي مدخلًا لجمع هؤلاء القابلين للتوظيف في الإطاحة بالأمة، فهي كما يقول الشيخ محمَّد رشيد رضا مؤسسة من قبل اليهود والنصارى وقيادتها لليهود ودخلت إلى العالم الإِسلامي تحت مسميات اجتماعية وأدبية وغايتها في النهاية دينية "ضد الإِسلام" وسياسية "ضد الخلافة" (¬1)، وسنجد أن العلمانيين العرب يفرحون بهذا الإطار؛ لأنه وحّد بينهم وبين اليهود والنصارى في التخلص من الواقع الإِسلامي القائم (¬2). دور المحافل الماسونية: نلحظ أن تلك المحافل ركزت عنايتها بالجانب الثقافي ليقوم غيرها بالجوانب الأخرى، وبحسب كلام لويس السابق، فقد اهتمت بما يأتي: 1 - إنشاء المدارس. 2 - الصحف، ونعلم أن المشهور منها كانت لأناس ضمن المحافل مثل الهلال والمقتطف وغيرها. 3 - الاهتمام بتوجيه التعليم في مصر. 4 - الاهتمام بالآثار المصرية، وقد بدأ ذلك من حملة نابليون حيث كان من ضمن علماء الحملة من تفرغ للآثار، لا لأهداف علمية وإنما لأهداف سياسية وثقافية. سأكتفي هنا بالوقوف مع الجانب العلمي لبحث بعض مشاركتهم الخطيرة في توجيهه والتأثير عليه لكونه الأهم في البحث، مع الاكتفاء بنموذج بارز في تلك المرحلة، في النقاط التالية: 1 - مشاركة أعضاء المحافل في المدارس المهتمة بالعلوم الحديثة: كانت مدرسة "المهندسخانة" أهم المعاهد التي يتعرف فيها الطلاب على ¬

_ (¬1) انظر: فتواه السابقة في المرجع السابق، مجلة المنار. (¬2) مثل: نذير العظمة، انظر: العلمانية من منظور مختلف ص 54 - 95.

العلوم العصرية "الرياضية والطبيعية" بطلابها في الهندسة والحقوق والإدارة والعلوم العسكرية (¬1)، وفي أثناء تولي إسماعيل لحكم مصر سنة (1863 م) عُين أحد اليهود الماسونيين "يعقوب صنوع" مدرسًا للغات فيها، وبقي ست سنوات (¬2). و"يعقوب صنوع" من الطائفة اليهودية في مصر، والكثير منهم كان يتمتع بالحماية الأجنبية، وكان والده مقربا من الأمير "أحمد يكن"، أعجب هذا الأمير بيعقوب، وابتعثه على حسابه إلى إيطاليا وعمره ثلاث عشرة سنة ليتعلم الفنون والآداب، فوصل الفتى إيطاليا وقت ازدهار الماسونية فيها مع "إيطاليا الفتاة -ماتزيني" فتأثر بها (¬3). دخل على طلابه في إحدى أهم المدارس آنذاك بهذه الخلفية، ثم أسس محفلًا ماسونيًا (التقدم)، فأُبعد عن المدرسة، ثم أُغلق (محفل التقدم) ليؤسس محفلًا آخر تحت اسم "جمعية محبي العلم"، ونلاحظ هنا التمسح بمسألة "العلم"، وغايتها كما يقول: "نشر الثقافة العصرية والوعي الاجتماعي والسياسي بين الشباب المتعلم، دون تمييز بسبب الدين أو الجنس أو اللغة"؛ فالفئة المستهدفة هي الفئة المتعلمة، وكان أكثر الفئات إقبالًا على المحفلين "الطلاب والضباط"، وكان المحفل يعقد أربعة اجتماعات أسبوعيًا، يدار على صورة محاضرات غالبًا ما يلقيها صنوع، وكانت موضوعاتها حول التاريخ والسياسة والأدب والتعليم وثقافة العصر، وكما يقول "صنوع": "وكنا باستمرار نروج لنظريات المفكرين الأحرار الغربيين"، مع التركيز على تاريخ فرنسا وإيطاليا، ولاسيّما فترة الثورة الفرنسية وفترة إيطاليا الفتاة مع ماتزيني، وهي مراحل ينشط فيها الماسون في الغرب (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: تاريخ الفكر المصري الحديث (عصر إسماعيل) ص 274. (¬2) انظر: المرجع السابق. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 272 - 273 والغريب كيف يهتم هؤلاء بأبناء أعدائهم ويتركون الاعتناء بأبناء المسلمين. (¬4) انظر: تاريخ الفكر المصري الحديث (عصر إسماعيل) ص 285 - 286، وقد أسس أيضًا مسرحًا، حَضَر بعض مسرحياته الوالي نفسه، وقد ترك ما يقرب من ثلاثين مسرحية، انظر: المرجع نفسه ص 276.

قد يقال: إن إهمال المسلمين تعلم العلوم الحديثة مبكرًا فتح الباب للماسونيين باختراق التعليم ومدارسه وطلابه، ومن ثم استغلال العلم الحديث من قبل أولئك للدخول على الأمة، وهو قول صحيح في الجملة، فإن الضعف الذي عرفته الأمة في عصورها المتأخرة وتولية الولاة لغير المسلمين وتقديمهم على المسلمين في التعليم والإدارة وغيرها مكّن الأعداء من تعليمنا ومدارسنا ومن ثم توجيهها إلى ما يريدون، وحتى إذا انتبه المسلمون لحقيقة دور الأعداء، فإنه يأتي بعد أن ترسّب في التعليم ما نحتاج إلى زمن حتى نُزيله. 2 - نشاط الماسونيين في "علمنة التعليم" وفي إقصاء العلوم الإسلامية عن الصدارة في المجتمع: ألمحت الفقرة السابقة عن عناية المحافل الماسونية بشأن التعليم، وهو تعليم من نوع خاص، ذاك التعليم العلماني، الذي يُطرد منه كل ما له صلة بالدين، سواء كان داخل العلوم البشرية أو حتى تدريس مواد دينية مع المواد الأخرى. جاءت البداية بالدعوة لفتح مدارس علمانية لا دينية لكي يدخلها كل الناس، ثم توسع الأمر إلى علمنة المؤسسة التعليمية وتقديم العلوم البشرية وتأخير العلوم الإِسلامية بحجة أنها دينية، ثم علمنة العلم ذاته بالدعوة إلى جعل العلم خاليًا من كل تصور ديني. يبتدئ العصر الحديث للدولة الماسونية من إنكلترا سنة (1717 م)، وسميت منذ تلك المرحلة "الماسونية الرمزية" وانتقل عملها كما يقولون إلى بناء "الفضيلة والعلم" حيث كان إعلان انطلاقتهم الحديثة بقيادة "ديزاغليه"، أحدِ علماءِ الطبيعة وعضو في المجمع العلمي الملكي الإنكليزي (¬1)، وربما بعد النجاحات الكبيرة العلمية التي قادها مجموعة من العلماء توجهت الماسونية إلى تلك العلوم لتتخذها مطية تحقق من خلالها أهدافها. يقول "هانز" في كتابه عن التعليم المقارن: "منذ إنشاء المحفل الماسوني الأعظم في بريطانيا سنة (1717 م)، كشفت الماسونية تعاونها مع الجمعيات السرية الأخرى من أجل محاربة التعليم الديني. وأسهمت الماسونية في تأسيس مدارس ثانوية على أسس علمانية، تهدف إلى القضاء على نفوذ الكنيسة على ¬

_ (¬1) قد سبق، انظر: تاريخ الماسونية ص 69 - 70.

التعليم، وسرت تعاليم محافل الماسون البريطانية إلى جميع المحافل في أوروبا من أجل تشجيع التعليم العلماني. وكانت الخطة تعتمد على إنشاء معاهد خاصة في بادئ الأمر إلى أن تتمكن الحكومات من فرض العلمانية على مدارسها الرسمية" (¬1)، ثم ذكر أول مدرسة فتحت على أسس علمانية مع مؤسسها الماسوني، والصراع الذي قام على أثرها بين الكنيسة وأصحاب المدرسة، ثم انتقلت العدوى إلى فرنسا، حيث قام بعض أتباع الماسونية بمهاجمة سلطة الكنيسة على التعليم وطلبوا بتعليم علماني، ثم انتشر الأمر في بقية البلدان الأوروبية، ثم وصل ذلك إلى المحافل في أمريكا (¬2). وفي سنة (1870 م)؛ أي: بعد ما يقرب من قرن ونصف من تأسيس محفل بريطانيا، تمّ تأسيس محفل مهم في باريس ليتولى توجيه محافل العالم، وينتقل ثقل المحافل إلى فرنسا، "وكان هدفه الأول فصل الدين عن التعليم ونشر العلمانية. وتبادل حكام أوروبا وأمريكا وقادة القارتين النصح والتوجيه من أجل تحقيق أهداف الماسونية في خلق أنظمة التعليم الحديثة العلمانية" (¬3). وإذا كان عملهم داخل أوروبا وأمريكا يحقق لهم نفوذ اليهود والملحدين واللادينيين إلى المؤسسة العلمية لكونهم المقصَين عنها في تلك المرحلة، واستغلوا أخطاء الكنيسة مع العلماء الجدد لإقصاء الدين عن التعليم، فإنه أيضًا يحقق لهم المقاصد نفسها داخل العالم الإِسلامي ولكن بطريقة أخرى؛ لأن العالم الإِسلامي لم يعرف مشكلة كتلك التي وقعت بين الكنيسة والعلماء، فمن عُرف داخل المسلمين بالعلم في العلوم البشرية لم يُعترض عليه، حتى وإن كان يهوديًا أو نصرانيًا من أهل الذمة، بل يؤخذ علمه النافع ويستفاد منه، فما كان هناك مجالٌ للاستغلال حتى ينفذ منها هؤلاء إلى مقاصدهم كما حدث في أوروبا، ولكن وجود مدارس علمانية له أهميته في مشروعاتهم؛ لأن ذلك يسمح بوجود المدرس اليهودي أو النصراني أو الملحد، ويسمح بوجود المنهج غير الإِسلامي، ثم يسمح بوجود تعليم غير إسلامي. ¬

_ (¬1) نقلًا عن الماسونية ذلك العلم المجهول، د. صابر طعيمه ص 137 - 138. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 138. (¬3) الماسونية ذلك العلم المجهول ص 138 - 139.

ولقد رأينا نموذج "المدرس الماسوني" الذي يتولى التدريس في مدرسة من أهم المدارس الحديثة في البلاد الإِسلامية في تلك المرحلة، ولكن النظام العلماني سيتولى فرضه جماعة ناشطة اخترقها الماسونيون إن لم يكونوا هم من أنشأها، وهي "تركيا الفتاة" التي يُذكِّرنا اسمها قطعًا بإيطاليا الفتاة إحدى التنظيمات الماسونية البارزة في أوروبا، ثم تحولها إلى "جمعية الاتحاد والترقي" وهي التي نجحت في إسقاط نظام الخلافة، ثم نجحت فيما بعد في فرض "تعليم علماني" وإقصاء قاسٍ لكل تعليم ديني عن مسرح الحياة، بعملية تصفية دنسة قام بها أعضاء تلك الجمعية، والتي ما زال أهل تركيا، بل البلاد التي كانت تحت الحكم العثماني يعانون من آثارها إلى اليوم. سبق في الفصل الثالث شيء من تجارب الإصلاح والتحديث مع سلاطين شباب في الدولة العثمانية في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر التي أفرزت عهد التنظيمات، ومن ثم نخبة كبيرة من أبناء التنظيمات احتكت بأوروبا أو اطلعت على التطورات الحادثة فيها، وتأثرهم بالجو العام الغربي، ولاسيّما الثورة الفرنسية ونتائجها وكذا الحركة القومية الإيطالية التي قادها "ماتزيني"، ولأنه لابد من بداية حتى وإن خفيت تفاصيلها الخلفية فهي باجتماع ستة من الشباب العثماني المثقف ليخرجوا بفكرة تكوين جمعية سرية على نمط جمعية "إيطاليا الفتاة" (¬1)، وكان منهم الأديب والمفكر "نامق كامل" من أسرة عريقة وذو شهرة واسعة في تلك المرحلة، عمل في الترجمة والصحافة ولاسيّما جريدة "تصوير أفكار" المشهورة، ترجم كتب رواد التنوير الفرنسي وغيرهم مثل "روسو" و"مونتسكيو" وكذا "باكون" و"فلني" و"كوندرس" (¬2)، الذي ذهب فيما بعد إلى فرنسا ليكوّن مع غيره منظمة أسموها "جمعية العثمانيين الجدد" لتكون أول تنظيم "عثماني" معارض للسلطان ويدعو إلى إصلاحات جذرية لإيقاف انحطاط الدولة العثمانية (¬3). وقد كان الرمز السياسي الداعم أو القائد للعثمانيين الجدد هو "مدحت ¬

_ (¬1) انظر: الدولة العثمانية عوامل النهوض وأسباب السقوط، د. علي الصلابي ص 500. (¬2) انظر: تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر، جرجي زيدان 2/ 115 - 121. (¬3) انظر: تاريخ الدولة العثمانية. . . . ص 501.

باشا" الذي تولى مناصب كبيرة في الدولة العثمانية منها مقام الصدارة العظمى، والاثنان بحسب كلام "العظمة" من أبرز الأعضاء الترك في المحافل الماسونية "مدحت باشا صاحب الدستور العثماني ونامق كامل رائد العثمانيين الشباب" (¬1). انتشرت أفكار العثمانيين الجدد أو الشباب أو تركيا الفتاة، وفي عام (1889 م) تأسست منظمة طلابية في المدرسة العسكرية الطبية في إستانبول، وكان مؤسسها متأثرًا بالمحافل الإيطالية أُسميت جمعية "الاتحاد العثماني" وسرى تأثيرها إلى مختلف المدارس العليا، ونلاحظ هنا أن النشاط داخل منطقة التعليم الحديث (¬2). وقد كان "أحمد رضا بك" من القريبين لهذه الجمعية، وكان داخل إدارة التعليم حتى وصل إلى منصب مدير إدارة المعارف في منطقة بورصة، سافر إلى باريس وأعلن معارضته من هناك. وقد رأى أصحاب هذه الجمعيات أهمية توحيد نشاطهم تحت مسمى جديد هو "جمعية الاتحاد والترقي"، على أن يكون "أحمد رضا" هو الممثل للجناح المدني، وتغلغلت هذه الجمعية في الجيش والمدنيين، واستطاعت سنة (1908 م) بفرض نفسها على السلطان (¬3)، ومن تلك المرحلة بدأ حكم "الاتحاديين" إلى سنة (1920 م) عندما نُصب "كمال أتاتورك" رئيسًا للجمهورية التركية ليبدأ العهد "الكمالي" من (1920 - 1938 م) (¬4). ويهمنا الآن انقلاب (1908 م)؛ لأنه كان نقطة فاصلة اشترك فيها الماسون بفاعلية كبيرة لدرجة أن الحكومة البريطانية آنذاك عدّت أصحاب الانقلاب من الاتحاديين مجموعة من الماسون واليهود الذين شاركوا في مؤامرة لفرض مجموعة من الأفكار على الإمبراطورية (¬5)، وذلك أن الأقليات الدينية قد تم إعدادها جيدًا عبر الرعاية الغربية لها وأصبحت ذات قوة تمكنها من العمل بسهولة داخل الأمة المسلمة، وربما كان الشباب العثمانيون الجدد متحمسين للنهوض بالدولة، وربما ¬

_ (¬1) انظر: العلمانية من منظور مختلف، د. نذير العظمة ص 96. (¬2) انظر: تاريخ الدولة العثمانية ص 503. (¬3) انظر: تاريخ الدولة العثمانية ص 503 - 504. (¬4) انظر: العرب والأتراك: الانبعاث والتحديث من العثمنة إلى العلمنة، د. سيار الجميل ص 101 - 115. (¬5) انظر: نشوء الشرق الأدنى الحديث. . . .، مالكلولم ص 206، وانظر: ص 105.

لو عرفوا موجهًا وقيادة إسلامية قوية لكان المسار مختلفًا. ولكن هذا الحماس قابله قيادات تغريبية خطيرة فتحت المجال لدخول الماسون واليهود وبقية الأقليات إلى هذا التجمع الناشئ، ومن ثم استغلاله بما يناسب أهدافهم، ويذكر الشوابكة أن اليهود وجدوا في الاتحاد والترقي منفذًا مناسبًا فتقربوا من أعضائها وهيؤوا لها سبل العمل بما وفروه لها من مال ومكان، بل تمكنوا من إيصال عناصر يهودية إلى عضويتها، وقد كان الكثير من اجتماعاتهم تتم في مقر المحافل الماسونية؛ لأنها كانت محمية بنظام الحماية فلا تتعرض لها الدولة (¬1). وقد كتب الشيخ "محمَّد رشيد رضا" المصاحب لتلك المرحلة بعد أن كان متعاطفًا مع الاتحاديين، ثم انقلب عليهم عندما تكشّف له حالهم -فذكر أن الماسون قد تنفسوا بعد انقلاب (1908 م) وأسسوا شرقًا عثمانيًا (¬2)، أستاذه الأعظم وزير الداخلية "طلعت باشا"، وذكر أن زعماء الاتحاد والترقي أصحاب الانقلاب "هم من شيعة الماسون، وهم مجتهدون في نشرها بين رجال الحكومة وضباط الجيش" (¬3)، وقد ذكر أحد قادتهم أثر المساعدات المالية والمعنوية التي تلقوها من الجمعية الماسونية الإيطالية في نجاح الانقلاب. وقد تأكد فيما بعد حقيقة الأثر الماسوني باعتراف قيادات مهمة في الاتحاد والترقي، بأنهم وقعوا تحت تأثير الماسونية والصهيونية، ومن ذلك حوار "أنور باشا" مع "جمال باشا" أن ذنبهم أنهم لم يعرفوا قدْر السلطان عبد الحميد وأنهم أصبحوا "آلة بيد الصهيونية، واستثمرتنا الماسونية العالمية، نحن بذلنا جهودنا للصهيونية، فهذا ذنبنا الحقيقي"، ويقول قائدهم العسكري: "لقد وقعنا في شرك اليهود، عندما نفذنا رغبات اليهود عن طريق الماسونيين لقاء صفيحتين من الليرات الذهبية" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر كتابه: حركة الجامعة الإِسلامية ص 308 - 309، وانظر: ص 110 - 111. (¬2) انظر كتابه: المؤامرة الكبرى على بلاد الشام. . . .، محمد الخالدي ص 75. (¬3) انظر: المرجع السابق، ص 103. (¬4) انظر: الدولة العثمانية. . . .، د. الصلابي ص 513، عن اليهود والدولة العثمانية، أحمد النعيمي ص 228 - 229، وانظر حول دور "تركيا الفتاة" و"جمعية الاتحاد والترقي": الدور السياسي ليهود الدونمة في تركيا ص 173 وما بعدها، حقيقة يهود الدونمة في تركيا ص 36 وما بعدها، تركيا اليهودية، د. سليمان المدني ص 119.

مكّن انقلاب (1908 م) للاتحاديين، ومن ثمّ لكل التيارات الخفية والعلنية التي كانت خلفها ومعها، وبدأت مرحلة حاسمة دولية خطيرة، وكان منها العاصفة الخطيرة التي وقعت في تركيا بعد انتصار تيار التغريب داخل الاتحاديين والدعوة إلى الطورانية أو القومية التركية على حساب الإِسلام، والعجيب أن المُنَظّرين الكبار لهذا الأمر كانوا من اليهود (¬1). وتفترض هذه الحال الجديدة اقتلاع تركيا من الأمة الإِسلامية، وهنا يأتي دور القضاء على التعليم الإِسلامي، وتأسيس تعليم علماني يخدم الهدف الخطير في تأسيس مجتمع جديد غير مرتبط بالأمة الإِسلامية، وهذا سيكون من مهمة دولة "الاتحاديين"، ثم دولة "الكماليين"، والتي ستصبح نموذجًا يُتغنى به في كثير من البلدان الإِسلامية، وتتم المحاولات المختلفة إلى الاحتذاء به وتقليده، ليكون أول نموذج علماني يصل في تطرفه أحيانًا مراحل لم تصلها علمانية أوروبا، ويكون أول نموذج وطني كما يُقال؛ لأنه من وضع جمعية وطنية بخلاف التعليم في مصر وتونس والجزائر والهند المحتلة فهو من قبل الإِنجليز والفرنسيين، فإنه إن وجد تعليم علماني تغريبي فهو تحت الاحتلال، أما النموذج التركي فهو في الظاهر من وضع الوطنيين لا المستعمرين. وسيأتي حزب إسلامي بعد ما يقرب من ستين سنة "حزب النظام الوطني" ليكون من عناصر برنامجه حول التعليم "أن نظام التعليم في تركيا فاسد، وضعته شرذمة من الحاقدين، من الصليبيين واليهود، بشكل لا يناسب الأمة فهو يسقط من حسابه كل قيمة معنوية أو أخلاقية أو دينية، غايته فصل تركيا عن ماضيها الإِسلامي، وسلخها عن دينها وقيمها، وبهذه الطريقة يستطيعون أن يقتلوا الجيل ويدمروا البلاد، لقد مرَّت خمسون سنة، ونحن نسمع أن تركيا جزءٌ من أوروبة، وأن النهضة لابدّ أن تقوم على أنقاض الدين كما حصل في الغرب متناسين أن الإِسلام يختلف عن الكنيسة، ودولة القس. ." (¬2)، ففي هذه الشكوى نجد حجم ما فعله المتغربون المنتفعون من الماسونية في إفساد التعليم". ¬

_ (¬1) حول دور اليهود في تأصيل الطورانية انظر: محمَّد رشيد رضا ودوره في الحياة الفكرية والسياسية، د. أحمد الشوابكة ص 201. (¬2) تاريخ الدولة العثمانية، الصلابي ص 534.

وقفة مع مشروع الانقلابيين في تركيا حول التعليم: كان "أحمد رضا" من المشاركين في المحافل الماسونية، وكان مديرًا للمعارف، وفي الوقت نفسه متأثرًا بفيلسوف أوروبي بارز هو فيلسوف الوضعية في (13 هـ - 19 م) "كونت"، ومذهب "كونت" يقوم على أن تاريخ البشرية يمر بثلاث مراحل: دينية ثم ميتافيزيقية ثم علمية، ولذا يعتبر أحد فلاسفة العلم، وأحد دعاة الاكتفاء بالعلم وإلغاء الدين، وعند إقامة أحمد في باريس كتب كتابات يدافع فيها عن الإِسلام (¬1)، ولكنه تأثر في الوقت نفسه بـ"كونت" وربما كان لذلك آثاره في غلوه العلماني فيما بعد، فبعد الانقلاب (1908 م) كان أول رئيس، وفي ذلك يقول "رامزور" في كتابه "تركيا الفتاة وثورة 1908 م": "إن أحمد رضا باعتباره مؤيدًا طيبًا للفلسفة الوضعية، لم يكن مسلمًا صالحًا؛ لأن أوغست كونت -زعيم الفلسفة الوضعية- لم يكتف فقط بإعادة تنظيم العالم لأتباعه، بل وضع لهم أيضًا تعاليم خاصة بالدين؛ أي: أوجد لهم دينًا جديدًا تشبث به أحمد رضا ودافع عنه ودفع إليه" (¬2)، وذكر "شوابكة" بأنه رفض أن يلفظ كلمة "الله" المندرجة في القانون الأساسي عند أدائه اليمين القانوني في المجلس بتأثير مبادئه الوضعية المادية (¬3). فمثل هذا القيادي المهم وتحت تأثر تصوره حول العلم سيسعى قطعًا مع رفاقه إلى تحول ذلك التصور إلى مشروع، وقد استغرق منهم سنوات مع "الاتحاديين" و"الكماليين"، وقد كان "كمال أتاتورك" يرى (¬4) "أن الروح الإِسلامية تعوق المتقدم" الذي هو شعار جماعة "الاتحاد والترقي"، وقام بأعمال منها: ¬

_ (¬1) انظر: أسس التقدم عند مفكري الإِسلام، فهمي جدعان ص 173، وأما "كونت" فقد سبق الحديث عنه في الفصلين الأولين. (¬2) حركة الجامعة الإِسلامية، أحمد شوابكة ص 309. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 310 وهو الذي أدخل كلمة "الترقي" في اسم الجمعية (الاتحاد والترقي) تحت تأثير فكرة التقدم الكونتية، انظر: تاريخ الدولة العثمانية. . . .، الصلابي ص 504. (¬4) أنشأ حزب الشعب الجمهوري، الحزب الوحيد (1923 - 1950 م) كان ذا آيديولوجيا يراها د. علي مقلد (تركية طورانية ملحدة. فهو من جهة يشبه الحزب الراديكالي الاشتراكي في فرنسا من حيث معاداته للدين. وتبرز هذه الصفة بعنف في كل بلد كل مؤسساته قائمة على الدين. . . .)، انظر كلامه الحسن حول الطورانية: الموسوعة الفلسفية العربية 2/ 829 والشاهد في صفحة 837.

1 - (1922 م) إعلان الجمهورية وإلغاء السلطنة. 2 - (1344 هـ - 1924 م) إلغاء الخلافة والمشيخة ووزارتي الأوقاف والشؤون الشرعية والمدارس الدينية، وهذه بالذات يظهر فيها إلغاء العلم الشرعي وإلغاء وظائفه وإداراته. 3 - (1925 م) إلغاء الصوفية وكل متعلقاتها وأغلقت المساجد ثم حدد عددها فيما بعد. 4 - نفس السنة أراد فرض شخصية جديدة للمسلم التركي، فجاء قانون الأزياء والقبعة واتخاذ التقويم الغربي. 5 - (1345 هـ - 1926 م) اتخاذ القانون المدني السويسري. 6 - (1347 هـ - 1928 م) ألغى من الدستور عبارات تنفيذ الأحكام الشرعية، ودين الدولة الإِسلام، وتعديل شكل اليمين من الحلف بالله إلى الحلف بالشرف. 7 - أهملت الحكومة التعليم الديني كليةً في المدارس الخاصة، ثم تمَّ إلغاؤه، وقُلل طلبة الشريعة في جامعة إستانبول ثم أغلقت (1352 هـ - 1933 م) (¬1). وكما شكلت دولة محمَّد علي نموذجًا للتحديث في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، فقد شكلت دولة "الاتحاديين - الكماليين" نموذجًا جديدًا للمتغربين في القرن الرابع عشر/ العشرين في بلاد كثيرة من بلاد المسلمين، إلا أن الاستعمار الغربي كان له رأيه أيضًا في تلك البلاد، إذ أراد إدارتها إدارة مباشرة، حيث كان من نتائج الحرب العالمية الأولى إكمال تجزئة العالم الإِسلامي وإكمال اقتسام المناطق المهمة فيه بين قوى الاستعمار الغربية. وقد شكلت تركيا الفتاة نموذجًا لغيرها، إما بالاسم نفسه أو تحت أسماء أخرى، بدأت السلسلة بإيطاليا الفتاة إلى تركيا الفتاة ومنها إلى "العربية الفتاة" و"مصر الفتاة" و"تونس الفتاة" و "الجزائر الفتاة" (¬2)، هكذا في قائمة من الفتيات ¬

_ (¬1) انظر: محمَّد رشيد رضا. . . .، الشوابكة ص 208، وانظر: تاريخ الدولة العثمانية. . . .، الصلابي ص 525 - 527. (¬2) "تونس الفتاة" سنة (1907 م) و"الجزائر الفتاة" سنة (1912 م)، انظر: نشوء الشرق الأدنى الحديث. . . .، مالكولم ص 271.

[2] أتباع سان سيمون

والجمعيات المختلفة ما بين النافع المخلص وما بين المدسوس داخل الأمة يعمل لمصالح أطراف خفية أو علنية وهو الأكثر، ويبقى الجميع -بمن فيهم المخلص- في ظل الانبهار بالتجربة الغربية أُسارى لتلك التجربة، ولاسيّما فيما له علاقة بالتعليم والقانون والتشريع والحياة الاجتماعية. وقد انخرط الكثير منهم في مناشط التعليم في أثناء القرن الرابع عشر/ العشرين بأكمله تحت مظلة ذلك التأثير والانبهار، وربما العمالة عند بعضهم، كما كُوّن نظام تعليمي يعاني من داخله ذلك الانشقاق بين علوم الأمة والعلوم العصرية، انشقاق على مستوى التصور وعلى مستوى التطبيق، وما كان هذا ينبغي في ميدان العلم؛ لأن العلم لا يعرف الانقسام، الأصل فيه الصواب والنفع، ولكن مع ميلاد تلك التيارات المشبوهة في البداية، ثم التيارات المتغربة تحول العلم إلى أداة في الصراع يستخدمه هؤلاء وهؤلاء، مما تسبب في الانحراف بالعلم ونظرياته ومناهجه ومسائله عن مساره الحقيقي. [2] أتباع سان سيمون (¬1): لقد نجح "سان سيمون" في إيجاد أتباع يحملون أفكاره ويسعون في نشرها، ومما يهمنا في هذا المبحث أن سيمون وأتباعه ممن ربطوا دعوتهم بالعلم الحديث، في محاولة منهم لتمثيله على المستوى الفلسفي والاجتماعي وتوجيه العلم الجديد بما يخدم فكرتهم الاشتراكية، لقد وضع العلم في صلب مذهبه وجعل العلماء في مكانة عالية، فهو يقول في أحد رسائله: "إن الحل الوحيد لتحقيق سعادة الإنسان هو القضاء على النظام الاجتماعي القديم، وأن يتولى العلماء والفنانون -المنتخبون- إدارة شؤون العالم. ودعا مجلسهم باسم "مجلس نيوتن" نسبة إلى عالم الفيزياء البريطاني الذي قال عنه: "إن الله قد وضع نيوتن بجانبه وعهد إليه بمهمة تنظيم البشر" (¬2)، وسيتطور هذا الفكر مع أتباعه، ولاسيّما سكرتيره "كونت" الذي أصبح فيما بعد رائد الفلسفة الوضعية التي ترى أحقيتها في تمثيل العلم. لقد انطلق أتباع "سيمون" إلى أنحاء متفرقة من البلاد الإِسلامية، إلى سوريا ¬

_ (¬1) راجع الفصل الأول حول بعض آرائه. (¬2) النهضة والسقوط في الفكر المصري الحديث، د. غالي شكري ص 163.

ولبنان وفلسطين والحجاز، والذي يظهر أنهم لم ينجحوا بقدر ما نجحوا في مصر التي أتاحت لهم فرص النجاح أكثر من غيرها؛ وذلك أن مشروعات "محمَّد علي" قد اجتذبت جماعات أوروبية مختلفة (¬1)، وكل جماعة تحاول تطبيق أفكارها على ما يرونه أرضًا بكرًا تصلح للتجريب، وكان منهم أتباع سيمون. ورغم وجود بعضهم مع الحملة الفرنسية إلا أن نشاطهم الفعلي ابتدأ في عهد محمَّد علي، فعن طريق القنصل الفرنسي في الإسكندرية وصلوا إلى محمَّد علي وكان القنصل مهندسًا مشهورًا ومتعاطفًا مع السيمونيين (¬2). كان بينهم عشرة مهندسين وتسعة أطباء وثلاثة زراعيين وبعض الأدباء والرسامين والنحاتين والمحامين وغيرهم (¬3)، تحدوهم رغبة في نشر تعاليم أستاذهم، ووجدوا في دولة محمَّد علي فرصتهم، وكان من أفكار أستاذهم أهمية تكوين "الدولة الصناعية التي يقودها العلم الحديث"، والانتقال بمجتمع تلك الدولة من "النظام الإقطاعي اللاهوتي إلى النظام الصناعي العلمي"، وإذا كان الاعتقاد والإيمان قوة شاملة في الماضي، فيجب في المستقبل أن تحل المعرفة محل ذلك، وأن تتحد الصناعة والمعرفة لتحكما العالم (¬4). اهتم هؤلاء بالتصنيع والتعليم والمشروعات العمرانية وذلك أن اشتراكية سيمون يتطلب الوصول إليها مثل هذه الإعدادات والتجهيزات (¬5)، فتحركوا في كل جهة أتاحها لهم "محمَّد علي" في المشروعات العمرانية والهندسية أو بالتعليم في معاهده المتخصصة، وفي ذلك يقول "قيس عزاوي": "توافد أتباع سان سيمون الفرنسيون المطرودن من إستانبول إلى مصر لكي ينظموا وزارة التعليم العام" (¬6)، ومع الاختلاف حول حجم الدور الذي لعبه أمثال هؤلاء إلا أن هناك من يرى أن الاشتراكيات التي ظهرت فيما بعد داخل العالم الإِسلامي لا يستبعد ¬

_ (¬1) انظر: مقالة: "السان سيمونيون كرواد لعصر النهضة في مصر"، د. رفيق سكري، مجلة الفكر العربي، عدد 39 - 40/ ص 150 - 155 سنة 1985 م، بيروت. (¬2) انظر: المرجع السابق، وانظر: النهضة والسقوط. . ص 163. (¬3) انظر: المرجعين السابقين، المعطيات نفسها. (¬4) انظر: المجلة السابقة ص 151. (¬5) انظر: المرجع السابق ص 151 - 152. (¬6) الدولة العثمانية، قراءة جديدة لعوامل الانحطاط، قيس عزاوي ص 56.

ارتباطها بهم (¬1)، وهناك من يذكر أسماء مشهورة في الواقع المصري آنذاك على أنها كانت ذات صلة بالسيمونيين ومتأثرة بهم (¬2). ومع الإقرار أن مشاركاتهم خدمت الجانب الدنيوي في مصر مما يجوز أخذه عن غير المسلمين، إلا أن القوم لم يكونوا فقط أصحاب مساعدات مادية بقدر ما كانت تختفي خلف تلك الانجازات المادية أهداف فكرية يراد بحسب الممكن زراعتها في تربة مصر، وربما من أخطرها إعطاء العلم المادي والصناعة المكانة المميزة في حياة البشر حتى على حساب الدين، بل إن المشروع الفكري لهم يتضمن إقصاء الدين وإحلال العلم العصري مكانه، وقد كان تصورهم أن وجود العلم والصناعة سيقضي حتمًا على الإقطاع والدين والميتافيزيقا، فلا يشترط إعلان العداء للدين، بل يكفي نشر الصناعة والعلم وذلك العمل كفيل بإزاحة الدين عن المجتمع. لقد كانت هذه الفكرة من سيئات التيارات الفكرية الحديثة في أوروبا، ولاسيما تلك التي ظهرت في القرن الثاني عشر/ الثامن عشر، حيث تؤكد أن سعادة البشرية هي في العلم والصناعة والتقدم المادي، وأن العناية بها سيكفل لتلك المجتمعات التخلص من الدين، وسيكون العلم بديلًا عن الدين ويلبي الحاجات الإنسانية التي كان يقدمها الدين، وقد نمت هذه الفكرة بعد انتصار الثورة الفرنسية وفرض العلمانية، ثم انتفاشة التيارات المادية والوضعية، ولكن هذه المقولة بدأت تفقد بريقها وأنصارها في القرن الرابع عشر/ العشرين نتيجة أحداث سياسية مخيفة وكشوفات علمية جديدة، وتطورات فكرية تؤكد أن البشرية لا تستطيع العيش دون دين وإن تقدمت ماديًا وعلميًا (¬3). ومن مصائب العالم الإِسلامي أنه وقت طلبه التحديث والنهضة احتك بأوروبا وقت انتشار مثل هذه الأفكار وتحمس دعاتها لنشرها في كل مكان يستطيعون الوصول إليه، وكان أشهرها في تلك المرحلة، ولاسيما داخل العالم الإِسلامي أتباع "سان سيمون"، فكان لدخولهم على خط نهضتنا ومحاولتنا الإصلاح والتحديث أثرها على مشروعات العالم الإِسلامي؛ لأن من يقوم بتلك ¬

_ (¬1) انظر: النهضة والسقوط. . . . ص 163. (¬2) انظر: المجلة السابقة (الفكر العربي) ص 152 - 153. (¬3) انظر: الفصل الأول ص 303.

المشروعات في تلك المرحلة قلّة، فمن تمكن من توجيه تلك القلة تمكن من بذر ما يشاء داخل مشروعاتنا، وكان يمكن قيام مشروع التحديث دون الارتطام بتلك الفكرة السيمونية وأمثالها، ولكن ذلك يتطلب من المسلمين قوة دينية وعلمية وفكرية وسياسية تجعلهم قادرين على توجيه دفة التحديث بما يناسب هويتنا، وهو ما كنا نفتقده في تلك المرحلة، مما سمح لناشطي التيارات الفكرية بوضعنا ضمن حقل تجاربهم، وضمن مجال دعوتهم. مما سبق يظهر دور الماسونية والسيمونية في الانحراف بمسيرة العلوم العصرية، حيث كان لهم مشاركة مهمة أول دخولها للعالم الإِسلامي، ومن أخطر ما أسهموا به تعميق مشكلة علمنة العلوم العصرية، وتحويلها لأداة في مشروعاتهم الفكرية، وأخطر تلك المشروعات هدم الدين أو إقصاؤه وإهمال العناية به. فيتحول العلم معهم من علم نافع للأمة إلى علم خطير عليها، وزاد من السوء قلة من يدير وضع العلم العصري، وقد يسر لهم ذلك إمكانية التوجيه والتأثير.

خامسا: دور الاستعمار

خامسًا: دور الاستعمار يُعد الاستعمار من أخطر الأحداث التي عصفت بالعالم الإِسلامي في عصره الحديث، بدأت بوادره من الدول القوية داخل أوروبا كإنجلترا وفرنسا وهولندا، وأتت أولى محاولاتهم مع الهند المسلمة من قبل الإِنجليز ثم عدن، أما فرنسا فبدأت مغامرتها في مصر ثم توجهت لبلاد المغرب لتبدأ بالجزائر ثم تواصل من هناك. وتقوم إنجلترا وفرنسا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بالاستعداد الجدي للاستيلاء على بلدان العالم الإِسلامي، وكان افتتاح ذلك باحتلال مصر سنة (1882 م) ليصل في نهاية الحرب العالمية الأولى باقتسام بلاد العالم الإِسلامي بين الدولتين الكبيرتين بريطانيا وفرنسا، والمؤسف أن المسلمين قد ساعدوا البريطانيين في ضرب الدولة العثمانية، ثم ساعدوهم في احتلال فلسطين التي قد كانت من نصيب اليهود بحسب وعد "بلفور" (¬1). لن يمرّ هذا الحدث الخطير دون آثار، فقد طال مكثه في بعض بلدان المسلمين لأكثر من قرن، هو صاحب الأمر والنهي، ولكن هذه الأمة فيها خير، وقوة ولن ترضى كغيرها بالاستعمار عندها بدأت معارك التحرير وجهاد المحتلين لتكون هي الشغل الشاغل لقيادات المجتمع الإِسلامي، وتعطلت بقية المهام الأخرى أو تأجلت إلى التحرير واستعادة السيادة الإِسلامية على البلاد المسلوبة. ¬

_ (¬1) انظر: عن الاستعمار الحديث: حاضر العالم الإسلامي. . . .، د. جميل المصري 1/ 87، وما بعدها، وحول مساعدة المستعمرين وفقدان فلسطين، انظر: المؤامرة الكبري على بلاد الشام. .، محمَّد الخالدي ص 182 وما بعدها، وانظر: موسوعة أنور الجندي 3/ 289.

أقف الآن مع جزء خطير من الأدوار التي لعبها المستعمر، بتحليل حقيقة أثره في إدارة المؤسسات العلمية وإدارة التعليم داخل المستعمرات، وكذا إدارة الجانب الثقافي عمومًا من فكر وأدب وفنون وإعلام، على أن ما يهمنا في كل ذلك هو ما زرعه المستعمر من مشكلات حول العلوم العصرية. نبدأ ببعض المعالم الأساسية حول حال المستعمر، ولاسيما في الجانب العلمي، وهي تكشف لنا كيف تحرك من خلال العلم العصري ومؤسساته داخل البلاد المحتلة وأثر ذلك على العالم الإِسلامي، ومن أهم هذه المعالم ما يأتي: أولًا: أن الدول الاستعمارية هي المالكة في ذاك الوقت للعلوم الحديثة، بعد أن طورتها ووظفتها في بناء مدنيتها الحديثة، فهل ستُهدي المسلمين هذه العلوم بما في ذلك من احتمال حصول المسلمين على القوة، أم أنها ستحرمهم منها وتركز على نشر ما لا نفع فيه إلا إثارة المتعة، والوجدان وبلبلة الأذهان وإشغالها بمذاهب وأفكار وآداب وفنون تفسد الشعوب أو تخدرها أو تعطلها عن رسالتها ومهمتها في الوجود؟ ثانيًا: تدرك الدول الاستعمارية مكانة المؤسسة العلمية في صناعة الشعوب وخروج القيادات العلمية والفكرية والاجتماعية، فكيف ستدير التعليم؟ وما المشكلات التي بذرها الاستعمار في التعليم؟ وما نوع التعليم الذي سيديره؟ وكيف ستوضع العلوم العصرية داخل هذا التعليم؟ وكيف ستكون العلاقة مع التعليم الإِسلامي؟ ثالثًا: كانت أول محاولة جدية لاختراق العالم الإِسلامي واحتلال جزء منه مع الحملة الفرنسية على أرض مصر، وكان يصحب هذه الحملة العسكرية "حملة علمية" مكونة من علماء في أهم التخصصات الحديثة، بكتبهم ومختبراتهم وأدواتهم فأسسوا حيًا علميًا متكاملًا داخل القاهرة، فما سرّ هذا التحول في الفكر الاستعماري؟ وما وجهة هؤلاء العلماء وما مذهبهم؟ رابعًا: يؤثّر في المستعمِرين نظام فكري جديد اقتحم أرجاء أوروبا، كما أن هذا الجيل تدفعه رغبة جامحة للاستيلاء والغزو والبحث عن الغنائم بسبب نظام مادي جديد اقتحم حياة الأوروبيين، وكلا النظامين له ارتباط بالتطورات العلمية، فأول جيش استعماري تمثل في حملة نابليون، وهي حملة جاءت بعد الثورة الفرنسية التي انبثق عنها نظام فكري جديد يقوم على علمنة الحياة وإعطاء

السيادة للتيارات غير الدينية وإقصاء الدين عن مجالات الحياة، هذا من جهة النظام الفكري، أما من جهة النظام المادي: فإن الثورة العلمية نتج عنها ثورة صناعية ضخمة داخل أوروبا، وهي في حاجة إلى مواد خام وإلى أسواق. فأصبح الاستعمار طريقًا للتبشير بالنظام الفكري الجديد وإبعاد أي قوة يُخشى منها على هذا النظام من جهة، ومن جهة أخرى أصبح آلة لفتح أسواق جديدة أو للاستيلاء على ثروات الشعوب الأخرى ولاسيما العالم الإِسلامي. ومع أن الجيوش الاستعمارية كانت جيوشًا علمانية غالبًا، إلا أن المخيال الاجتماعي الأوروبي بذكريات الحروب الصليبية ورفع الصليب وتحطيم الهلال ما زالت تعشش في أدمغة هذه الجيوش، فهناك رواسب دينية عميقة تحرك هذه الجيوش الاستعمارية العلمانية، ويكفي أن ننظر إلى سياسة السماح، بل الدعم للمنصرين بالحركة داخل البلاد الإِسلامية رغم المضايقة التي تواجه الكنائس داخل كثير من بلدان أوروبا، والأخطر من ذلك أن تولى هؤلاء المنصرون إدارة التعليم الحديث داخل البلاد الإِسلامية، فكيف سيكون أثر هذا التنوع داخل الجيش الاستعماري ما بين تيارات فكرية تسعى لنشر أفكارها والتبشير بها وما بين رأسماليين يبحثون عن المكاسب وإنعاش تجارتهم وشركاتهم ومصانعهم، وما بين منصرين يجوبون العالم الإِسلامي: يفتحون المدارس والمستشفيات كغطاء لعملهم التنصيري؟ وكيف سيكون أثر كل ذلك على الحياة العلمية داخل العالم الإسلامي؟ لا يشترط أن نحدد الإجابات عن كل التساؤلات السابقة، إذ المهم فيها كشف حقيقة الاستعمار في الجانب العلمي، ولاسيما أن بعض الأسئلة قد تدلّ العاقل إلى الأجوبة، ولكن لابد من النظر إلى ما له علاقة بإفساد مسيرة العلوم الحديثة داخل العالم الإِسلامي. كان الفكر الاستعماري يعي طبيعة التحديات التي ستواجهه، وكان يعلم أن هناك مقاومة ستولد ضدّه وأن خلفها ما يغذيها ويمدّها بعناصر القوة، وأهم ذلك الدين، لذا حرص الاستعمار عن طريق الغزو الفكري ضرب الدين عبر مؤسسات التعليم وعبر العلوم وعبر الأفكار والآداب والفنون، ويمكن القول دون مبالغة أن الاستعمار قد حرص على تفريغ كل عنصر نافع معه من مواده الحسنة، واستبقى منها ما يساعده في ضرب الإِسلام ذاته، وقد كان يستند في غزوه على معرفة

واسعة بعناصر القوة داخل المسلمين أمدّهم بها جيوش جرارة من المستشرقين وتركة كبيرة تراكمت عبر قرون حول الإِسلام بشكل مشوّه وخطير. عندما دخل الاستعمار بلاد المسلمين واستقرّ أمره بدأ يمارس أدواره التفتيتية للمجتمع، ومنها قيامه على شؤون التعليم، فقسم التعليم إلى قسمين محدثًا بذلك أخطر شرخ في منظومة التعليم وصانعًا بذلك ازدواجية -وإن تقبلتها أمم أخرى- يصعب تقبلها داخل النظام الإِسلامي: القسم الأول: التعليم الإِسلامي - الشرعي، فجعله تحت إدارة المسلمين مع التدخل في شؤونه عند الحاجة، ووضع على رئاسته من يتوافق مع هوى المحتل، فضلًا عن حرمانه من شروط حيويته ونشاطه وقوته واستمراره. القسم الثاني: تعليم حديث تُدرس فيه تخصصات حديثه تشابه في الظاهر النظام الغربي وتختلف عنه في الباطن، فهذا النوع تحت إدارة المحتل مباشرة، الإدارة والأساتذة والمناهج وكل شيء، ورمى الاستعمار بثقله في هذا النوع، مؤملًا من ذلك أن يصنع جيلًا يوالي الغرب ويقبل التبعية له ويقوم بالنيابة عن المحتل في إدارة الحياة بما يمليه عليه أسياده. لا شك أن الاستعمار قد حقق الكثير في القسمين، في ضغطه على الأول وفي أمنياته من الثاني، ولكن في الوقت نفسه كان في الأمة من سار على عكس رغبات الاستعمار، فجاهد بعضهم في حماية التعليم الإِسلامي مما يُخطَط له، وخرج من القسم الثاني من انقلب على الاستعمار وإن درس في مدارسه وتغذى بتربيته، وربك حكيم عليم ولطيف بهذه الأمة، فخرج من تلك المدارس الاستعمارية من انقلب عليها، وعاد إلى أمته مستلهِمًا الدين في نشاطه وحركته ومقاومته، فانقلب السحر على الساحر. لقد شاهدنا التجربة الاستعمارية الأولى الحديثة في المغامرة الفرنسية على مصر، ورأينا أن "بونابرت" قد اصطحب معه "حملة علمية" في ظاهرةٍ لم تكن تعهدها الجيوش الغازية المحتلة، واطلعنا على الحي الخاص بهم في القاهرة بعد أن طَرَدوا أهله، وجعلوه مقرًا لتلك الحملة العلمية، فأنشأت مكتبتها ومجمعها العلمي وصالات البحث وغرف المختبرات العلمية ومنازل الفريق العلمي، كل هذه المؤشرات تدل على حرص الجيوش الاستعمارية على استثمار الجانب العلمي الجديد. وإن كانت الحملة قد فشلت وخرجت من مصر، إلا أنها عادت

إلى الجزائر بعد ثلاثين سنة (1830 م) لتحتلها وتبقى فيها فترة احتلال طويلة لتكون نقطة انطلاق لبقية المغرب، أما مصر فقد جاءها البريطانيون سنة (1882 م) ليتخذوها مركزًا لنشاطهم في القسم العربي من العالم الإِسلامي، وتكون مع فرنسا أخطر دولتين استعماريتين في العصر الحديث، وكانت الدولتان تعيان أهمية السيطرة على التعليم، لهذا جعلته مركز عنايتها في أثناء الاستعمار، وسنرى الآن أن الاستعمار قد صنع نظامًا تعليميًا خطيرًا ما زالت الأمة تعاني منه إلى اليوم. يذكر "ساطع الحصري" وهو أحد القريبين من مجال التعليم آنذاك بأننا إذا أردنا أن نعرف حقيقة التعليم الاستعماري فعلينا معرفة غايته، حيث "اعتاد علماء الاجتماع أن يقسموا المستعمرات إلى ثلاثة أنواع أساسية: (أ) مستعمرات الاتجار، (ب) مستعمرات الاستغلال، (ج) مستعمرات الاستيطان" يركز الأول على احتلال منفذٍ على بلدٍ ما قصد التجارة، فيكون منفذهم على هذا البلد في أبواب التجارة واحتكارها، لكنهم بعد ذلك يتوسعون قصد السيطرة على ثروات البلاد فيدخلون إلى مركزها وهذا هو "الاستغلال"، وعندما يعجبهم الوضع يتحولون إلى فكرة الاستيطان في هذا البلد فيهيئون البلد بما يجعله مناسبًا لاستقطاب بني جنسهم إليه والتمتع بثرواته وقيادته (¬1). مثال الاتجار ما حدث مع الصين، ومثال الاستغلال ما حدث مع الهند، ومثال الاستيطان ما حدث مع الجزائر. لا تهتم دول الاستعمار بالتعليم في الحالة الأولى بخلاف الحالتين الأخيرتين، ففي مستعمرات الاستغلال تحرص على وضع تعليم ينتج لها الأيدي العاملة في مصانعها وشركاتها وكل مؤسساتها الاستغلالية، أما الثاني فيزيد على الأول بإيجاد مجتمع يقبل بهذه الجرثومة التي اخترقت هذا الجسد، وهي التي أطلق عليها "مالك بن بني": "القابلية للاستعمار" (¬2)، وحللها في مجموعة من كتبه بعد أن عايشها في الجزائر. كان المنظرون للاستعمار يعرفون أهمية التعليم وخطورة التعليم الإِسلامي، ولذا اهتموا بإقصاء الإِسلامي وصناعة تعليم يخدمهم، يقول "اللورد لويد" في ¬

_ (¬1) انظر: أحاديث في التربية والاجتماع، ساطع الحصري ص 83 - 85. (¬2) انظر له مثلًا: شروط النهضة ص 143 وما بعدها.

كتابه "مصر منذ أيام كرومر": "إن التعليم الوطني عندما قدم الإِنجليز كان في قبضة الجامعة الأزهرية الشديدة التمسك بالدين، والتي كانت أساليبها الجافة تقف حاجزًا في طريق أي إصلاح تعليمي، وكان الطلبة الذين يتخرجون من هذه الجامعة يحملون معهم قدرًا عظيمًا من غرور التعصب الديني، فليس من العسير أن يتصور لنا أي تقدم طالما ظل الأزهر متمسكًا بأساليبه هذه، ولكن إذا بدا أن مثل هذه الخطوة غير متيسر تحقيقها، فعندئذ يصبح الأمل محصورًا في إيجاد التعليم اللاديني الذي ينافس الأزهر حتى يتاح له الانتشار والنجاح" (¬1). وعلينا أن ندرك أن كتابات منظري الاستعماري تُصاغ بأسلوب مؤدب؛ لأنها تُكتب للغرب، فيحاولون أن يُظهِروا عملهم الاستعماري بصورة حسنة، من ذلك ما نجده هنا من مزاعم مثل: "الإصلاح التعليمي" و"التقدم" وربط التأخر بالأزهر، وربط التقدم بالتعليم العلماني، فإن هذا الخطاب موجه لبني جلدتهم، وبينهم اتجاهات متنافرة فضلًا عن المنافسة بين دول أوروبا؛ ولذا يحاول كل فريق إظهار رسالة إنسانية للاستعمار حتى لا يستغلها خصوم كل طرف استعماري في النقد، وسنجد لبعضهم عبارات في غاية الوقاحة وصريحة في بيان حقيقة الاستعمار مثل ما نجده مع الكاردينال لافيجري من مؤسسي حركة التنصير بالجزائر وبلاد المغرب عمومًا وناشط في مجال التعليم حيث يؤكد أن أفريقيا الشمالية لن تندمج في الفرنسة إلا بعد إخراجها من الإِسلام (¬2)، وينادي الأوروبيين فيقول: "أيها المسيحيون، سكان الألزاس واللورين، التائهون في هذه اللحظة بشوارع فرنسا، سويسرا وبلجيكا، أفرغوا منازلكم المحروقة، حقولكم المتلفة، فإن الجزائر، فرنسا الأفريقية، تفتح لكم أبوابها وتمد لكم أذرعتها. هنا ¬

_ (¬1) عن موسوعة الجندي (المنهج الغربي) 9/ 268 (من التبعية إلى الأصالة)، وفي الموسوعة أخطاء طباعيه وعدم عناية بعلامات الترقيم فأصلحت ما يضرّ تجاهله بالمعنى من أخطاء ووضعت ما يحسنه من علامات الترقيم، وقد أخذت منها مجموعة نصوص نظرًا لأنّ الموسوعة من أهم المراجع التي وجدتها ترصد ظاهرة (التعليم الاستعماري). (¬2) انظر: الحركات الوطنية والاستعمار في الغرب العربي، د. محمَّد مالكي ص 116 هامش (20)، وقد ذكر "أنور الجندي" أن هذا "الكارندينال" يعادل دوره في المغرب دور "دنلوب" في مصر، انظر: موسوعته: المجتمع الإِسلامي 6/ 323، قسم: التربية الإسلامية.

ستجدون لكم، ولأطفالكم ولعائلاتكم، أراضي أكثر شساعة وخصوبة من تلك التي تركتموها بين أيادي الغزاة المحتلين. . . . أقدُموا إذن، فنحن على استعداد لاستقبالكم كإخوان، وكذا تسهيل الأعمال عليكم، علاوة عن مشاطرتنا آلامكم. . اقدموا لنساهم جميعًا في تكوين، وعلى هذه الأرض الملحدة، سكان مثابرين مخلقين، مسيحيين. . ستكونون الرسل والمبشرين الحقيقيين أمام الله وأمام الوطن. . . ." (¬1). وما بين الخطابين: الدبلوماسي والصريح الوقح تكمن حقيقة واحدة هي قسوة الاستعمار وعمله على تدمير أمة بكل طريقة ممكنة. من الظواهر الملفتة هذا التعاون العجيب بين جيش علماني مخترق بتيارات ومذاهب، ظهرت في أوروبا لا تقيم وزنًا للدين مع الإرساليات التنصيرية، ومما يفسر ذلك على أرض الواقع أن الجيوش الاستعمارية قد سبقها إلى العالم الإِسلامي تلك الإرساليات التنصيرية، وتلك الإرساليات وجدت أن أفضل طريقة للتغلغل داخل العالم الإِسلامي، والتأثير فيه هو عن طريق التعليم، وقد اطلعنا على أثرها في فقرة "مدارس الإرساليات" فوجدت الجيوش الاستعمارية فرصة ذهبية في هذه المدارس، فكونت من خلالها منظومة التعليم الذي ستفرضه على البلاد المحتَلة ليكون منافسًا، بل بديلًا عن التعليم الإِسلامي. ولم تكن مدارس الإرساليات تمانع من استخدام أي وسيلة لضرب المعتقد الإِسلامي، وفي ذلك يقول أحدهم: "إن مقاومة الإِسلام بالقوة تزيده انتشارًا، أما الوسيلة الفعالة لهدمه وتقويض دعائمه فهي تربية دينية في المدارس التبشيرية أو المسيحية ونفث جراثيم الإلحاد في صدورهم منذ نشأتهم من حيث لا يشعرون، فإن لم يتنصروا فقد أصبحوا لا مسلمين ولا مسيحيين" (¬2)، فمع هذا الاتفاق بين الديني والعلماني وجد الاستعمار أفضل قوة يغزو بها العالم الإِسلامي في مجال التعليم هو حركة التبشير بما قد أسسته من نظام تعليمي خطير داخل العالم الإِسلامي (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق، مالكي ص 136. (¬2) كاتب فرنسي نقلًا عن موسوعة أنور الجندي (التبشير والاستشراق والدعوات الهدامة) 5/ 88، قسم: (مخططات التبشير والاستشراق). (¬3) انظر: المرجع السابق، (عالم الإِسلام المعاصر) 3/ 297، 301، 305، وانظر: (المجتمع الإِسلامي) 6/ 301 - 302، قسم: (التربية الإِسلامية)، وانظر: (المنهج الغربي) 9/ 262 وما بعدها، قسم: (من التبعية إلى الأصالة)، وانظر: (تاريخ الإِسلام) 2/ 659، قسم: (من الوحدة الإِسلامية العثمانية إلى الترك والعرب).

بواسطة التعاون بين المنصرين ورجال الاستعمار تمت دراسة الواقع التعليمي في البلاد المستعمرة وتقديم تقارير مفصلة ودقيقة تُختم عادة بالتوصيات، وكان من أشهرها التقرير المفصل عن التعليم في مصر الذي قدمه "اللورد دوفرين"، ثم جاء دور "كرومر" الحاكم الفعلي في مصر آنذاك، وعندما توجه إلى التعليم كلف القس المشهور "دنلوب" بالمهمة، و"كان مبشرًا أسكتلنديا وقسيسًا، وقد اختاره كرومر لهذا العمل فسيطر عليه سنوات طويلة امتدت حتى أوائل الحرب العالمية الأولى (1914 م)، وكان قد عُين مفتشًا للتعليم (1897 م) ثم أصبح مستشارًا للوزارة خلال سبعة عشر عامًا" (¬1)، وقد أهَّله هذا العمل الضخم والفترة الطويلة التي قضاها في ذلك أن يحصل على إجماع من المؤرخين والباحثين -بحسب كلام الجندي- أنه "مؤسس الاستعمار التربوي والعقلي والتعليمي في مصر" (¬2)، وظهرت مصطلحات تعبر عن هذا الأثر من مثل "التعليم الدنلوبي" و"المناهج الدنلوبية" و"المدارس الدنلوبية" (¬3)، وهناك من وصفه بأنّه "أعظم من أنجبه الإِنجليز لقتل مصر" (¬4). وقد وصف محمَّد قطب الأسلوب الدنلوبي من بدايته عندما يُستلم الطفل ثم مراحل دراسته، وماذا يدرس، وماذا يُغرس فيه من خلال المنهج أو التربية والمعاملة، والنوعيات المميزة التي تُرسل بعد ذلك للبلد الأم في مواصلةٍ لغسل الدماغ وتجهيز قيادة من المسلمين تقوم بما لا يستطيع الاستعمار القيام به، ووصف الدور الخطير والذكي في استبعاد الأزهر عن مؤسسة العلم رغبة منهم في تحويله على هامش الحياة إن لم يقضوا عليه (¬5). وفي المسار نفسه "الكرومري - الدنلوبي" كانت الأمور في المستعمرات الأخرى، في الهند كما في الجزائر ثم تونس ثم في بقية البلاد الإِسلامية التي وقعت في الاحتلال بعد الحرب العالمية الأولى. ونأخذ باختصار الصورة الفرنسية في البلدان المغربية؛ ففي الجزائر أقدم بلد وقع في الاستعمار وأطولها مُدّة كانت ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق، (تاريخ الإِسلام) 2/ 658 - 659. (¬2) انظر: المرجع السابق، (المجتمع الإِسلامي) 6/ 326. (¬3) انظر: المرجع السابق (المنهج الغربي) 9/ 291 - 292، وانظر: فيه أيضًا: (المجتمع الإسلامي) 6/ 331 - 333. (¬4) هو "محمَّد جمعة" عن المرجع السابق (المجتمع الإِسلامي) 6/ 322. (¬5) انظر: واقعنا المعاصر، محمَّد قطب ص 217 وما بعدها.

فرنسا تريد جعلها قطعة من فرنسا، وقد أهملت التعليم بقصد إبقاء الضعف فيهم حتى سنة (1883 م) -أي: بعد احتلالها لتونس- لتغير من طريقتها وتضع نظامًا تعليميًا هدفه اختراق شخصية المسلم وتغييره جذريًا لتكوّن "نخبة قادرة على استيعاب شروط الاستعمار، بل ومؤهلة للدفاع عن صيانته واستمراره" (¬1)، ويُصرح أحدهم أن الاحتلال التعليمي يعقب الاحتلال السياسي (¬2)، وقد وصف محمَّد فريد حال التعليم في الجزائر بعد العمل الاستعماري في أثناء زيارته لها سنة (1901 م) فقال: "هجرت ربوع العلم، وخرّبت دور الكتب، وصارت الديار مرتعًا للجهل والجهلاء، وكادت تدرس معالم اللغة العربية الفصحى، وتطرقت إلى اللغة العامية الكلمات الأجنبية، بل أصبحت اللغة الفرنساوية هي لغة التخاطب في العواصم. . . . إن حالة التعليم في القطر الجزائري سيئة جدًا، ولو استمر الحال على هذا المنوال لحلت اللغة الفرنسية محل العربية في جميع المعاملات، بل ربما لن تدرّس العربية بالمرة مع مضي الزمن، فلا الحكومة تسعى في حفظها ولا تدع الأهالي يؤلفون الجمعيات لفتح المدارس. . . ." (¬3). ولم يكن الحال بأحسن في تونس، فبعد احتلالها سنة (1881 م) "عينت على رأس "إدارة المعارف" فرنسيًا مستعربًا هو لويس ماشويل. . . . فاستولى بتلك الصفة على جميع الأجهزة الثقافية والتعليمية، حتى تعليم جامع الزيتونة، ووضع قوانين تعطي الأولوية للغة الفرنسية على اللغة العربية في البرامج الدراسية، ومنع على جامع الزيتونة تدريس العلوم العصرية"، فعطل الاستعمار المسيرة التحديثية التي قد أسسها "خير الدين التونسي" وغيره (¬4). وكما أدار "كرومر" الوضع في مصر أدار "ليوطي" الوضع في المغرب بمساعدة "جورج هاردي" الذي كان على رأس مديرية التعليم (¬5)، لم يلغ القرويين ¬

_ (¬1) انظر: الحركات الوطنية والاستعمار في المغرب العربي، أ. د. محمد مالكي ص 145. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 147. (¬3) الحركات الوطنية والاستعمار في المغرب العربي ص 146. (¬4) انظر: الشيخ عبد العزيز الثعالبي ودوره في الإصلاح الإِسلامي، مسعودة الخضرة ص 20 - 21 ص 69 - 70. (¬5) انظر: الفكر الإصلاحي في عهد الحماية. .، آسية بنعداده ص 48 - 49، وانظر: الحركات الوطنية والاستعمار. .، مالكي ص 113.

ولكنه أقصاه بطريقة ذكية، فأوجد ثلاثة أنواع من التعليم، "وهي: تعليم أوروبي خاص بالجالية الأوروبية، يدرسون ما يدرسه الفرنسيون. تعليم فرنسي -إسرائيلي تابع لمدارس الرابطة الإسرائيلية الدولية، باللغة الفرنسية، باستثناء خمس ساعات أسبوعية للغة والثقافة العبريتين. وقد انصبت سلطات الحماية أساسًا على هذين النوعين من التعليم. تعليم للمسلمين نظام ضعيف خاص بهم، وجعله على قسمين: تعليم العامة: ويكون أساسًا باللغة الفرنسية، إعطاء ثقافة عامة، وهدفه أعوان ويد عاملة وما في بابها. تعليم النخبة: لأبناء الأعيان، وأغلب دروسه بالفرنسية، والناجح يواصل دراستهُ في التعليم الثانوي الإِسلامي، أنشأته الحماية لصرف سكان المدن من النخبة عن إرسال أبنائهم إلى الشرق" (¬1). فجعل التعليم الجيد للمحتلين واليهود أما تعليم المسلمين، فالتعليم إما لتوفير الأيدي العاملة أو لصرفهم عن الاتصال بمعاهد الشرق الإِسلامية، حتى لا يتأثروا بها، وبالطريقة نفسها كان الاستعمار الإيطالي يفكر في ليبيا، فعندما اقترح بعض رجال الإدارة الاستعمارية إلغاء التعليم الديني الثانوي اعترض مدير التعليم في المستعمرات الإيطالية، بحجة أنهم لو منعوه لذهب الطلاب إلى الزيتونة أو الأزهر، فيقتبسون منهم كثيرًا من الأفكار والآراء، فيرجعون إلى بلادهم بأفكار أشد وبالًا على مصالحنا الاستعمارية،. . . . "فلنحدد مدرسة عالية، نحدد التعليم فيها كما نشاء، فلا نضطر الطرابلسيين إلى طلب العلم في خارج بلادهم، حيث تتسمم أفكارهم ونفوسهم" (¬2). انشغل المسلمون بالجهاد وتحرير البلاد وتعطلت الكثير من مشروعاتهم الإصلاحية والتحديثية والتعليمية من أجل التفرغ لفريضة الوقت آنذاك، بينما انشغل المحتل بصناعة جيل عبر التعليم يتولى إدارة العالم الإِسلامي سياسيًا وفكريًا واجتماعيًا، وكان أخطرها تيار التغريب العلماني بمذاهبه المختلفة الذي تولى الدور عن المستعمر بجانبيه السياسي والثقافي، حيث كان المستعمر سياسيًا ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق، آسية، مع بعض التصرف والاختصار ص 49 - 51. (¬2) انظر: أحاديث في التربية والاجتماع، ساطع الحصري ص 89.

سياسة التعليم الاستعمارية

يعمل عبر جيوشه التي أدارت المستعمرات ويعتمد ثقافيًا على المبشرين والمستشرقين، وبعد خروجه ترك خلفه جيشًا خطيرًا من المتغربين يقودون بلادهم سياسيًا وفكريًا. ومن المفيد أن نذكر أن "العلوم الحديثة" لو كانت بأيدٍ أمينة قد لا يسلم أصحابها من انزلاقها نحو الخطأ أو الانحراف ما لم يجاهدوا في طلب إصلاحها وتصويبها، فكيف لو وقع بأيدٍ غير أمينة وتولى إدارة مؤسساته عدو خطير للأمة خرج للتو من معركة طويلة مع المسلمين قُدر له النجاح فيها بسبب ضعفنا وتقصيرنا، أكتب هذا التذكير؛ لأنّ هناك مجموعة كانت ترى أن دخول الاستعمار كان فيه نجاة الأمة، ودُعاة هذه المقولة هم أصحاب المكاسب، ولاسيما التيار التغريبي (¬1)، حيث طغى هوى المصالح عليهم فأعمى أبصارهم عن التخريب الخطير الذي صنعه الاستعمار في بنية التعليم. سياسة التعليم الاستعمارية: لقد سلك الاستعمار "سياسة تعليمية" خطيرة، ترتكز على دعامتين (¬2): الأولى: إضعاف المؤسسات الإِسلامية العلمية على ما تعانيه. الثانية: رعاية التعليم العصري والتقدم المدني بحيث يصاغ بطريقة تلائِم أهواء المستعمر. فأما الأولى فقد مورس على المؤسسات العلمية الإِسلامية محاولة خطيرة لإقصائها عن رأس هرم التعليم؛ لما يمثله ذلك من خطر في نظر المستعمر، حدث ذلك بصورة خطيرة مع الأزهر عبر تهميشه وتهميش خريجيه مع وضع نظام تعليمي منافس له، وكذا كانت الحال مع الزيتونة والقرويين وغيرهما (¬3). ¬

_ (¬1) بل وجد من بعض الفضلاء من مدح الاستعمار ونشاطه في إنشاء نهضة علمية داخل بلده مما يحير الباحث في فكره، فهل ذلك من المداراة؟ وهذا هو الأليق بأمثاله، وذلك كما يقال من باب المجاملة السياسية. أم ذلك من الغفلة؟، مثل الشيخ "الحجوي" في المغرب، انظر: الفكر الإصلاحي في عهد الحماية. . . . ص 164 - 177. (¬2) انظر: المرجع السابق 9/ 276. (¬3) انظر: واقعنا المعاصر، محمَّد قطب ص 217 - 219 عن وضع الأزهر، وسبق مثال تونس، وحول المغرب انظر: الحركات الوطنية والاستعمار في المغرب العربي، د. أ. محمَّد مالكي ص 151.

أما الثانية وهي الأخطر؛ لأنّ المقصود إقصاء التعليم الإِسلامي، ولن يتحقق ذلك إلا بتكوين تعليم يحقق ذلك الهدف، وكان من أهم الأمور هو نزع الإِسلام من حقل التعليم، وكذا التاريخ الإِسلامي وكل ما يُذكّر الطالب بإسلامه، وقد تولى "دنلوب" هذه المهمة في مصر (¬1)، ونجح فيها تحت قوة عسكرية تحميه، لدرجة أن كبير المنصرين -زويمر- في تلك المرحلة يعلن بكل وقاحة: "إن السياسة الاستعمارية لما قضت من نصف قرن على برامج التعليم في المدارس الابتدائية أخرجت منها القرآن، ثم تاريخ الإِسلام، وبذلك أخرجت ناشئة لا هي مسلمة، ولا هي مسيحية، ولا يهودية. ناشئة مضطربة مادية الأغراض لا تؤمن بعقيدة ولا تعرف حقًا فلا للدين كرامة ولا للوطن حرمة" (¬2). وفي السياق نفسه جاءت شهادة "هاملتون جب" في كتابه: "وجهة الإِسلام" أن التعليم كان أكبر عامل في تغريب المجتمع المسلم، وفيه يقول: "وفي أثناء الجزء الأخير من القرن التاسع عشر نفذت هذه الخطة إلى أبعد من ذلك بإنماء التعليم العلماني تحت الإشراف الإِنجليزي في مصر والهند"، ثم ذكر كيف أضعفت هذه المدارس "النزعة الإِسلامية" عند التلاميذ ثم قال: "لقد استطاع نشاطنا التعليمي والثقافي عن طريق المدارس العصرية والصحافة أن يترك في المسلمين، ولو من غير وعي منهم أثرًا يجعلهم في مظهرهم العام لا دينيين إلى حد بعيد" (¬3). ولا شك أن شهادة هؤلاء لها ثقلها لقربهم من مجال التعليم وصلتهم بالحركة الاستعمارية، وإن كانت ربما تخفي في طياتها رغباتهم أكثر مما هو موجود في الواقع، وكنا سنشك في هذه الشهادات الخطيرة لولا إقرار كثير من المفكرين المسلمين بهذه الحال في المجال التعليمي، ولولا اعترافات طلاب تلك المدارس فيما بعد، ومن ذلك ما قاله الأستاذ "محمَّد لطفي جمعة": "إننا تعلمنا في المدرسة الثانوية. . . . في أوائل هذا القرن (1901 - 1902 م) وكان أستاذنا في التاريخ المستر هيل" حيث أعلى من شأن تاريخ أوروبا وشوه تاريخ ¬

_ (¬1) انظر: موسوعة الجندي (التبشير والاستشراق والدعوات الهدامة) 5/ 51. (¬2) موسوعة الجندي (المجتمع الإِسلامي) 6/ 319. (¬3) المرجع السابق 6/ 337 - 338.

المسلمين وصور "أمة العرب التي أنجبت مئات الألوف من رجال العلوم والفنون والآداب، والذين علموا أوروبا وهذبوها، في وحشية وقسوة تعادل وحشية الفرس الوثنيين قبل الميلاد بخمسة قرون، فصدقنا هذا وآمنا به وتعلمناه وحفظناه وأدينا فيه امتحانات" (¬1)، وهكذا تُمارس عملية غسل دماغ مركزة على الطلاب. ويمكن أن نلمس عمق هذا العمل وخطورته في شهادة لرجل -هيكل- كان من كبار حركة التغريب وزعيم فكري لا خلاف حوله عند التغريبيين، فبعد أن انسحب منهم قال في شهادة لا تنقصها الصراحة: "إن وزارة المعارف تخضع اليوم وأمس وستخضع غدًا وبعد غد إلى أن يتاح لها النصر السياسي إلى السياسة التي كانت تخضع لها أيام أن كان "دنلوب" مستشارًا لها مع فوارق عدد المدارس وعدد الأساتذة، إن سياسة التعليم في وزارة المعارف ستظل اليوم وغدًا كما كانت بالأمس وقبل الأمس خاضعة للسياسة الغربية والحضارة الغربية"، إلى أن قال: وهذه "الحضارة استعمارية عدوة للعلم على خط مستقيم، وهي كذلك حيثما ذهبت حاربت العلم وحاولت حصره في طبقة ضيقة، وفي حدود ضيقة لتتخذ من هذه الطبقة بطانة لها تروج الاستعمار"، إلى أن قال: "وكذلك وضعت يدها على وزارات المعارف حيثما ذهبت، وعملت دائبة على إفساد هذه المقومات النفسية والخلقية والقومية مكتفية بطائفة من المعلومات العلمية التي تحتاج إليها أداة الحكم" (¬2). وهي شهادة خطيرة ممن عاصر الاستعمار، وكان أداة من أكبر أدوات التغريب، فهي تكشف عمق التغلغل للانحراف في مؤسسة التعليم التي صنعها الاستعمار وتحديات استقلالها، والأخطر من ذلك هو كشفه لزعمٍ يردده المتغربون، فيرد عليهم، وهو الذي كان منهم بأنها وإن كانت مؤسسة علمية فقد كانت ضدّ العلم (¬3)، مؤسسة تستغل ستار العلم لتُبعد الأمة عن دينها، وتقتل في تلك المؤسسات روح الطلاب وهويتهم الإِسلامية، وحتى في العلوم الدنيوية التي ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق موسوعة الجندي 6/ 322 مع الاختصار. (¬2) موسوعة الجندي (التبشير والاستشراق والدعوات الهدامة) 5/ 89 - 90. (¬3) ذكرت جريدة "اللواء" في تلك المرحلة بأن (دنلوب هو أقوى آلة وضعها اللورد كرومر لتعطيل التعليم في مصر وأكبر مقاوم لرقي البلاد في باب المعارف. . . .). عن موسوعة الجندي (المجتمع الإِسلامي) 6/ 326.

برع فيها الغرب لم يضع في مدارسه الاستعمارية إلا ما يُخرج لهم مجموعة من الموظفين. وقد ذكر أحد أقطاب الفكر القومي قريبًا من هذا، حيث أوضح أن الاستعمار لم يكن من أهدافه تعليم الشعوب المستعمرة، ولكنهم وجدوا أنفسهم في حاجة إلى استغلال البلاد وثروتها فشعروا بضرورة تعليم أولاد المستعمرات لإعدادهم للقيام بالأعمال اللازمة لهذا الغرض، ولم يجعلوه مثل التعليم الغربي؛ لأنّ في الغربي موضوعات عن حقوق الإنسان وحقوق الشعوب والثورات ضد الطغاة والمحتلين، فأزالوا كل ما من شأنه إيقاظ المُستعمَرين (¬1). وأبعدوا العلوم الإِسلامية من هذا التعليم، وهي التي تشكل هوية المسلم، كما منعوا منها حتى بعض المبادئ الإنسانية، وكان الكرامة والحرية والاستقلال خاصة فقط بالأوروبيين، ويعطون الناس فقط ما يحولهم لأيدي عاملة، وكما قيل: "عقل بريطاني ويد مصرية" أو "أيدي عاملة لا عقول مدبرة" (¬2)، وفي بعض البلاد كانت سياسة التجهيل في مؤسسات التعلم الاستعمارية هي الأساس كما في الجزائر مثلًا، وإذا فكر الاستعمار بتوسيع دائرة التعليم اعترض المعمرون الفرنسيون في الجزائر بقولهم: "إذا كانت فرنسا عازمة على تكثيف وتوسيع انتشار تعليم الأهالي، فإلى أين سيؤول مستقبل ضيعاتنا؟ أين سنتجه للحصول على اليد العاملة الفلاحية؟ " (¬3)، فيشترك الجميع من المستعمرين في تحديد هدفهم من التعليم، بحيث لا يتجاوز هذا التعليم تكوين جيل يناسب أعمالهم داخل بلادنا الإسلامية. آثار السياسة التعليمية الاستعمارية: سأقف مع آثار خطيرة تركها الاستعمار في بنية التعليم داخل العالم الإِسلامي أسهمت في الانحراف بالعلم، ونحن في أشد الحاجة كما تحررنا من الاستعمار السياسي أن نحرر العلم ذاته من المشكلات التي صنعها الاستعمار بداخله. ¬

_ (¬1) انظر: أحاديث في التربية والاجتماع، ساطع الحصري ص 86 - 88. (¬2) انظر: المقولتين في موسوعة الجندي 6/ 325، وانظر: الشيخ الثعالبي ودوره في الإصلاح الديني، مسعودة الخضرة ص 69. (¬3) انظر: الحركات الوطنية والاستعمار في المغرب العربي، د. أ. محمد مالكي ص 348 - 350، وقول المعمرين هامش (65).

1 - تهيئة بيئة تسمح بتسرب الانحرافات وتغذي حركتها

1 - تهيئة بيئة تسمح بتسرب الانحرافات وتغذي حركتها: لقد صنع الاستعمار بيئة علمية هشة، تقبل -بسهولة- الانحراف بالعلم وتضعف في مجال التقدم به، لا يجد الاستعمار مبررًا أن يصنع لنا منظومة علمية تساعدنا في التقدم وتحصيل القوة، ومن الطبيعي أن لا يحرص على ذلك، ولكنه كان حريصًا على إيجاد منظومة علمية تُخرج له من الأفكار والأفراد ما يسمح باكتساح حضارته ومنتجاتها الفكرية والمادية لبلاد العالم الإِسلامي، فتبقى أمتنا على مستوى من الفكر في حدود ما يجعلها تقبل الاستيراد الفكري والتقليد والتبعية، ويكون هناك من الأفراد من يتحمل الدعوة لذلك، ولا شك أن المؤسسة العلمية هي أهم جهة مسئولة عن ذلك. إن البيئة العلمية والفكرية التي وضعها الاستعمار لم تكن تخدم الأمة، فقد كانت ضدّ العلم النافع، ولكنها في المقابل كانت بيئة جاذبة للانحرافات وذات أجواء تسمح بحياتها ونموها واتساعها وتجذّرها داخل المجتمع، سكان هذه البيئة من أبناء المسلمين بينما كانت قبل الاستعمار من غير المسلمين كالأقليات الموجودة داخل المجتمع الإِسلامي، وأما غذاؤها فتحصل عليه من قبل المستعمر مباشرة عبر جهاز كبير من المبشرين والمستشرقين وخبراء السياسة وعلماء العلوم الاجتماعية فضلًا عن التركة الثقافية والأدبية والفنية الغربية التي تبحث عن مستقبلين لها. أصبحت هذه البيئة قادرة على تفعيل كل انحراف وتوظيفه بما يؤثر في مسيرة الأمة، ومن الأمثلة لذلك في المجال العلمي ونظرياته: انشغال الفكر الإِسلامي وقت الاحتلال البريطاني بنظرية داروين، وقد رأينا في فقرة الصحافة كيف كانت تفاعلاتها الكبيرة عبر صحافة تلك المرحلة، ولاسيما تلك التي يدعمها الاستعمار، ويمكن العودة للموضوع لإدراك حجم تفاعلاتها ويضاف هنا مقولة للجندي في الموضوع: "واستغل النفوذ الاستعماري في مجال التبشير والتغريب "نظرية داروين" وعمل على توجيهها لتكون سلاحًا من أسلحة معارضة الفكر الإِسلامي"، ثم ذكر أن النظرية بعيدة عن هذه المسائل الدينية، "ولكن النفوذ الاستعماري وحركة التبشير ومن ورائها قوى التغريب استغلت هذه النظرية لإثارة جو من الشكوك والريب" (¬1)، ويقول أيضًا: "وقد أشارت بعض مصادر ¬

_ (¬1) موسوعة الجندي (التبشير والاستشراق والدعوات الهدامة) ص 5/ 71.

2 - صناعة الازدواجية في التعليم وعلمنته

التغريب إلى أن الاستعمار والغزو الثقافي قد استغل نظرية دارون لخلق تيار المادية التي برزت فيه من بعد وممثلة في نظريات لورنس وفرويد ودوركايم وماركس" (¬1)، وسمحت هذه البيئة فيما بعد بدخول الكثير من النظريات، كأدوات لهدم هوية المجتمع، ولم تدخل كنظريات داخل مؤسسات علمية قادرة على تحليلها ودراستها ونقدها. وقد أصبحت هذه البيئة بقيادتها التغريبية مصدرًا لضرب الأمة، حيث ابتعث مجموعة في دراسات لا تحتاجها الأمة، وإنما في علوم اجتماعية حولها الكثير من اللغط، ثم عادوا ليُخرِج القادر منهم مشروعًا خطيرًا، أشغل الأمة الإِسلامية وقت الاستعمار وبعده. ومن ذلك على سبيل المثال: "طه حسين" ولاسيما "الشعر الجاهلي"، و"علي عبد الرازق" بكتابه: "الإِسلام وأصول الحكم" وقت إعلان سقوط الخلافة وإلغائها، و"منصور فهمي" الذي أعدّ أطروحة الدكتوراه عن المرأة في فرنسا بإشراف اليهودي المشهور "ليفي برول"، ويؤسس "إسماعيل مظهر" مجلة العصور لتكون إحدى أشهر مجلات التغريبيين، وكذا الحال مع "محمَّد حسين هيكل"، فضلًا عن نشأة تيار فكري شديد الغلو في التغريب والعداء للدين وهو الاتجاه الماركسي (¬2)، ومن بين ما ركز عليه هؤلاء: الانحراف بالعلم الحديث وتوجيهه في هدم الدين بدرجات متفاوته. وستبقى هذه البيئة مصدر إثارة للمشكلات؛ لأنها بيئة صنعها العدو لأهدافه آنذاك، وأي بيئة علمية أو فكرية أو ثقافية أو أدبيه لم نصنعها نحن بأنفسنا ولم نؤسسها وفق أصولنا، فستبقى تلك البيئة ضدنا وينتج عنها ما يتعارض مع هويتنا. 2 - صناعة الازدواجية في التعليم وعلمنته: مما أحدثه الاستعمار في البيئة العلمية وأسهم فيما بعد في الانحراف بالعلم تلك الازدواجية، فقد كان المستعمر يعرف حاجة المسلمين للعلوم الحديثة، وفي الوقت نفسه يعي حجم المنظومة العلمية الإِسلامية وخطورتها على ¬

_ (¬1) المرجع السابق 5/ 72. ومن العادة أن التيارات الفكرية تصدر عن المتعلمين، وقد أصبح التعليم ومعاهده مركز الانطلاق، وبعد ظهور "الجامعة" أصبحت هي منطلق التيارات الفكرية. (¬2) انظر: تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي، د. محمَّد الأنصاري ص 24 - 33.

3 - ترسيخ الهزيمة النفسية في مجال التعليم

أهدافه الخبيثة، وكان من أخطر ما عمله الاستعمار لتجاوز هذه العقبة التي أمامه صناعة الازدواجية بين منظومتين علميتين: الأولى هي الإِسلامية، فسعى إلى إضعافها وقتل شروط نجاحها، وحصارها بكل أسلوب ممكن، أرادوا حرمانها من القوة والانتشار، فضلًا عن السماح لها بتأصيل العلوم الجديدة وإمدادها بالتصورات الإِسلامية وقيَمِهِ العظيمة. والثانية منظومة التعليم الحديث الاستعماري بقيم ورؤى استعمارية، وإمدادها بأسباب النجاح والتمكين، مع وضع إسفين العداوة بينها وبين علوم الأمة. ثم انتقل الاستعمار خطوة أخرى نحو علمنة التعليم، فبالرغم من كون المسؤولين عن التعليم هم من المنصرين، إلا أن سماحهم للدين الإِسلامي أن يتصل بهذه المنظومة سيؤدي إلى غير مرادهم، ومن هنا جاء سعيهم إلى التأصيل الفكري لعلمنة التعليم، والسعي العملي لتطبيق ذلك في أرض الميدان. بذلك ينمو هذا الميدان الجديد دون هوية سوى الهوية الاستعمارية، لقد عُرض في الفصلين الأولين من هذا الباب أن المجتمع الفرنسي عندما فُرضت عليه العلمنة، قام بتأسيس مدارس لا تتبع الحكومة، يدرس فيها أبناؤهم علوم دينهم مع العلوم الجديدة، ولم يجدوا من يضايقهم، أما في البلاد المستعمَرة فهناك مضايقات للتعليم الإِسلامي وعدم السماح له بالحيوية والحركة بخلاف التعليم الاستعماري. وهذه الازدواجية والعلمانية التي أوجدها المستعمر في النظام التعليمي، ما زالتا تسيطران على كثير من أنظمة التعليم الإِسلامية من قريب أو بعيد، مما يعني أن الأمة الإِسلامية لم تستطع في الغالب تجاوز هذه المشكلة، ولم تستطع تقديم مشروعها الخاص الذي يوحد بين العلوم في ظل منظومة إسلامية متكاملة. 3 - ترسيخ الهزيمة النفسية في مجال التعليم: نجح الاستعمار في اختراق الكثير من المسلمين وإصابتهم بهزيمة نفسية غير مسبوقة، نحو الحضارة الغربية، ففي مجال العلم أراد الاستعمار إقناع المسلمين بأنهم أمة أمية جاهلة لا شأن لها بالعلم، وغير قادرة على شيء منه، وحظها منه الحفظ والشرح دون الإبداع والاختراع. وقد وُظف منهج التاريخ في المدارس لزراعة هذا التصور، فلا يُعرض لهم إلا أدوار اليونان والرومان والإغريق قديمًا

وأوروبا حديثًا في ميدان العلوم والصناعة والإبداع، فإذا جاء إلى المسلمين صورهم في أسطر قليلة بكل مذمة ونقص تصريحًا أو تلميحًا. وعندما يرضع الطفل من مراحله الدراسية الأولى هذه المعاني ويكبر معها تتأثر قناعاته بمكانة أمته، ويصدق أن الغرب هم منبع التقدم والعلوم، ويسهل عليه فيما بعد الاستسلام للغرب والانقياد لتوجيهاته. لقد صنع النظام التعليمي الاستعماري مناهج للدراسة تؤهل الطلاب للحالة السابقة، طلاب ضعفاء في معرفتهم للإسلام وحضارته أقوياء في معرفة لغة الغازي وثقافته وفنونه وتاريخه، ولذا يصعب على هؤلاء الطلاب التواصل مع علومهم الإِسلامية إن لم يرغبوا عنها ويزهدوا فيها ويخجلون حتى من تعلمها، فلا يكون هذا الجيل قادرًا على التفريق بين الموافق لدينه والمخالف له فضلًا عن قدرته في تأصيل هذه العلوم وتبيئتها في المحيط الإِسلامي. وقد كانت هناك كتب فقيرة محدودة قبل وصول الاستعمار في مصر وضعها بعض الفضلاء تعطي الطلاب تعريفًا بإسلامهم وحضارته في المدارس العصرية، فجاء الاستعمار ومنع تدريس حتى هذه الكتب التي تربط الطلاب بثقافتهم وهويتهم، فقد "أبطل دنلوب مختلف الكتب العربية الهامة التي كان قد ألفها علي مبارك وعبد الله فكري قبل الاحتلال؛ لأنها تتحدث عن الإِسلام والأخلاق الإِسلامية، كما رفع كتب عبد العزيز جاويش ونصوصه واستبدلها بكتب تحمل خرافات لافونتين. . . . كما ألغى الباب الوارد في مناهج التعليم تحت عنوان العقائد والعبادات الإِسلامية. ولما عورض في هذا العمل قال: إن كتب المطالعة يجب أن تكون مجردة خالية من كل ما له مساس بالدين" (¬1). وبلغ الأمر ذروته من هذه المدرسة ومناهجها وفلسفتها وعملها لدرجة تصريح جمعية الشبان المسلمين في تلك المرحلة بقولها: "إن الوالد المسلم ليلتفت حوله فلا يجد مدرسة علمية واحدة يأمن فيها على دين ابنه او ابنته، وهو موقف شاذ وغريب فإن الطوائف الأخرى لها مدارسها الخاصة. أما الجمهرة المسلمة فقد كانت مدارسها هي مدارس الدولة، والآن حين تبدلت مدارس الدولة غير ما يبتغي المسلمون صار ضائعًا وأصبح الوالد المسلم في حيرة. إن ¬

_ (¬1) موسوعة الجندي (تاريخ الإِسلام) 2/ 659.

4 - تحول المؤسسة العلمية في منبع لتوليد التيارات التغريبية

أقل ما ينتظر من وزارة المعارف في بلد دينه الرسمي الإِسلام وجمهرة أهله العظمى من المسلمين أن تخدم أحكام الإِسلام ونظمه وتقاليده، فلا تحاربه مع المحاربين ولا تخرج عليه مع الخارجين، وهل هناك ظلم أشنع من أن يربى أبناء المسلمين على ما ينافي الإِسلام رغم أنوف آبائهم المسلمين" (¬1)، مما يدل على أن هذا النظام لم يُدرس العلوم البحتة التي لا تمس الدين وقيم الإِسلام، وإنما يدرس معها ما ينافي الإِسلام، وقد رأينا اعتراف أحد طلاب تلك المدارس -أحمد تيمور- حول تزعزع دينه بين أسوار المدرسة. لم تنقشع هذه السحابة إلا بعد ظهور الصحوة الإِسلامية بعلمائها ومفكريها، فأظهروا حقيقة التعليم الاستعماري وخططه في قتل معنويات الأمة، وإعادة تذكير المسلمين بحقيقة هذه الأمة العالمة التي برعت في العلوم النقلية والعقلية، وأن الغرب ذاته قد تتلمذ عليها قرونًا طويلة، وأن مرور الأمة بضعف في مرحلةٍ ما لا يكون مبررًا للوقوع في الهزيمة النفسية والاستسلام، بل علينا معاودة النهوض من جديد. وهذه الآفة وإن خفت الآن فإنها في وقتها كانت من أخطر ما فتك بالمسلمين، مما جعلهم يسلمون مقاليد العلوم الحديثة للمستعمرين، وتركهم الدخول في مجالها بحجة عدم قدرتنا بلوغ ما بلغوه، فتُركت بأيديهم وبأيدي من أثّروا فيه من المسلمين بعد رحيلهم. 4 - تحول المؤسسة العلمية في منبع لتوليد التيارات التغريبية: إذا رجعنا للتيارات التغريبية بكل مسمياتها تجدها في الغالب قد خرجت من هذه المنظومة العلمية الاستعمارية، فأغلب قادة الفكر التغريبي ممن درس في معاهد رعاها الاستعمار، ولاسيما معاهدها العليا، "الجامعة الأمريكية" في الشام، و"كلية فكتوريا" في مصر (¬2)، فضلًا عن المؤسسات الإِسلامية التي تولى الاستعمار إدارتها. والعجيب أن هذه المنظومة العلمية وقت الاستعمار لم تخرج لنا علماء في ¬

_ (¬1) موسوعة الجندي (المنهج الغربي) 9/ 269 - 270، وانظر: اعتراف "أحمد تيمور" السابق في فقرة الأزهر. (¬2) انظر حول كلية "فكتوريا": الإِسلام والحضارة الغربية، د. محمَّد حسين ص 45.

5 - فتح الباب للنظريات الاجتماعية

ميادين العلم المعروفة في أوروبا، في الرياضيات والهندسة والفيزياء والكيمياء وعلم الأرض والفضاء والتقنية والصناعه وغيرها من العلوم التي يتميز الغرب بها في العصر الحديث، ولكنها أخرجت لنا قيادات التغريب بتياراته المختلفة، فهذا القومي وهذا الليبرالي وذاك الماركسي، وهي الأبرز وقت الاستعمار. وقد تولى هؤلاء فيما بعد القيادة في العالم الإِسلامي بما مكنهم به الاستعمار من الوصول إلى السلطة، ومن ثم إدارة منظومة التعليم التي صنعها الاستعمار بروحه المتمثلة في العلمنة والبعد عن الإِسلام إن لم تصادمه. 5 - فتح الباب للنظريات الاجتماعية: لقد أراد الاستعمار إرباك العالم الإِسلامي وإدخاله في دوامة لا تنتهي، وإذا كان الغرب قد عاش تلك الدوامة حوالي أربعة قرون وأكثر، فإنه أراد إشغالنا بها في زمن قصير، ومن ذلك أن المنظومة الغربية بقيت سنين طويلة حتى استوعبت مستجدات علم الفلك والفيزياء والرياضيات وبقية العلوم الطبيعية، ومع نهايات القرن التاسع عشر وأول العشرين (13 - 14 هـ) بدأت نظريات علوم الاجتماع وهي ما زالت تتفاعل داخل أوروبا ولم يتم استيعابها هناك، ولكن لأن هذه العلوم ذات مساحة ضبابية أوسع أُدخلت إلى العالم الإِسلامي بأشكال مختلفة، بدأ ذلك وبقوة وشهرة مع النظرية الدارونية، ولحقتها النظريات الاجتماعية المادية التي صاغتها الوضعية والماركسية تدخل عبر الصحافة والمفكرين وتشغل الفكر الإِسلامي آنذاك. وقد كانت منظومة التعليم الاستعماري في مصر تتحرك في أجواء نظريات "سبنسر" التطورية، وعندما غادرت إنجلترا كان الوجود الأمريكي عبر مدارسة وإرسالياته وجامعاته قد تكثف داخل البلاد الإِسلامية فتم توجيه بوصلة التربية والتعليم من نظريات سبنسر إلى نظريات "جون ديوي" (¬1)، وكأن تاريخ المسلمين وتراثهم العلمي والفكري فضلًا عن واقعهم خالٍ من الأصول النظرية في هذه الميادين. ¬

_ (¬1) انظر: موسوعة الجندي (المنهج الغربي) 9/ 277، وفيه: (ويتعلم الطلبة في مدرسة المعلمين العليا في القاهرة حجج سبنسر وديوي ضد الدين)، ومما ذكر بأنّه وإن كانت حججهما ضد الكاثوليكية إلا أن الطلبة طبقوها في مجال الدين الإِسلامي.

ثم فُتح الباب لدخول نظريات علوم الاجتماع المختلفة في علم الاجتماع والنفس والتاريخ واللغة والنقد والقانون والاقتصاد والسياسة وغيرها (¬1)، وأصبحت الدراسة العليا في بلاد المسلمين وكأنها نسخة من معاهد الغرب، بعد تفريغها من المحتوى الذي يمكن أن يعطينا القوة. ومع فتح الباب لهذه العلوم يمكن القول بأنه قد أُقفل مسار تطورنا نحو التحديث وامتلاك العلوم النافعة، وفتح في المقابل مسار الانشغال بنظريات وأفكار لم تُنجز بعد في بلدها، ونُقل لنا منها ما يخدم الاستعمار ويخدم تفوق الغرب فقط. وهكذا نجد في الغرب مئات الجامعات المتخصصة في العلوم النافعة من طب وهندسة وتقنية فضلًا عن مراكز الأبحاث العملاقة، ومراكز ومعاهد وأكاديميات في هذه العلوم هي أهم وأكثر نفعًا لهم وللعالم، ولا تُقارن في عددها ونفعها بالجامعات المتخصصة في العلوم الإنسانية. وعندما جاءنا الاستعمار لم يمنحنا من النوع النافع شيئًا بينما أغرقنا في كليات العلوم الاجتماعية والإنسانية، وليس مقصدي التقليل من أهمية العلوم الاجتماعية والإنسانية، فهي مهمة شريطة التأصيل الإِسلامي لها، ولكنها ليست هي ما كنا نريده من الغرب، فقد كان من الممكن إنشاء علوم اجتماعية أصيلة دون الالتفات إلى نظريات اليهود والماديين والوضيعين، بخلاف العلوم المادية فهي مهمة ونحن في حاجة إليها ولا توجد آنذاك إلا عند الغرب، ولكن الاستعمار نجح في تشكيل تيار تغريبي يرى أن التقدم مرهون بنقل الأفكار قبل العلوم، وتغيير العقول والتصورات في المجتمع الإِسلامي ثم نقل الجانب المادي، فبقينا إلى الآن دون استقلال حقيقي بعلوم اجتماعية نافعة أو علوم بشرية مادية مفيدة، نسأل المولى أن يغير حالنا إلى ما يرضيه سبحانه. وخلاصة الفقرة أن الاستعمار يعد أخطر الأحداث التي وقعت بالمسلمين في العصر الحديث، وقد لعب دورًا خطيرًا في الانحراف بمسيرة العلم داخل البيئة الإِسلامية، من جهة صنع الانقسام بين العلوم الإِسلامية والعلوم العصرية، وزرع بذور المشكلات في بنية التعليم العصري، بالتركيز على أبواب نحن في غير حاجة إليها أو ضررها أكثر من نفعها. ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق 9/ 291.

سادسا: بيئة ثقافية جديدة وحضور التيار التغريبي فيها

سادسًا: بيئة ثقافية جديدة وحضور التيار التغريبي فيها إن الأحداث الكبار التي عرفها العالم الإِسلامي من القرن (12/ 18) قد أوجدت بيئة ثقافية وفكرية جديدة، تصب فيها مشارب مختلفة، وتختلف هذه البيئة بحسب المكان الذي ظهرت فيه فتجدها تكتسب بعض صورتها من عناصر ذلك المكان. كان يقود هذه البيئة مجموعة من العلماء والمفكرين والكتاب والأدباء وقيادات اجتماعية وسياسية، وكانت أدبياتها تظهر في الكتابات الفكرية والصحافة والأدب والنشاط السياسي والاجتماعي، وقد كانت هذه البيئة -أول ظهورها- أقرب لمفهوم الإصلاح والتحديث الإيجابي ولكنها -بعد تغلغل شخصيات مُختَرقة من الفكر الغربي أو دخول أطراف دينية غير إسلامية في نشاطها-، تحولت تدريجيًا نحو التغريب والابتعاد عن الإِسلام، ثم ازدادت حدّة ذلك مع واقعة الاستعمار الضخمة للعالم الإِسلامي، إذ قام جهد ضخم وكبير لتفريغ هذه البيئة من كل مضمون إسلامي وفي المقابل تغذيتها بكل ما هو ضد الإِسلام، وهيأ الاستعمار الظروف المناسبة لوصول المناهضين للإسلام أو الضعفاء في تصورهم حوله إلى قمة هذه البيئة، ووفر لهم كل الدعم، مما جعلها بيئة مثالية لتوليد تيارات التغريب، وحُصر مفهوم التقدم والتحديث والمدنية بالتصور الذي يطرحه الاستعمار ويتشربه أصحاب هذه البيئة، وأخطر صور ذلك: سعيه لجعل مفهوم التقدم يتعارض تمامًا مع الإِسلام، وأنه لا حلّ للمسلمين إن أرادوا التقدم إلا بنبذ الإِسلام، وقد استجاب لهذا الطرح نخبة كبيرة من أصحاب هذه البيئة الجديدة.

يختلف أصحاب هذه البيئة، ففيهم الصادق في طلب إصلاح الأحوال، ولكنه ضُلِل كما ضُلل الكثير في الطريق المناسب، وتشبّع بالشُبَه التي أثيرت في عصرنا الحديث، وفيهم أصحاب المصالح والأهواء، ووجدوا في سلوك دعاوى التحديث فرصة لتحقيق مصالحهم. وفيهم الأعداء للأمة من طوائف وملل مختلفة، جمعهم الاستعمار في إدارته واستعان بهم في مهمته وفتح لهم المجال في الحركة، ولاسيما المتعلمنين من اليهود والنصارى ومجموعة من أبناء الفرق المغالية المنتسبة إلى الإِسلام، فضلًا عن مجموعة من المسلمين نجح الإضلال الفكري في صرفهم عن الإِسلام وتوظيفهم في جهاز التغريب. هكذا تكونت بيئة غير متجانسة باستثناء هدف واحد ظاهره طلب الحداثة وباطنه معارضه الإِسلام ونبذه، وأعتقد أن من بين أهم الأسباب في استمرارها وجود شخصيات إسلامية مميزة استعانوا بها ممن نشطوا قبيل الاستعمار وفي أثنائه في قيادة الفكر الإِسلامي في البلاد التي وقعت تحت الاستعمار، ورغم جهودهم العظيمة في توحيد صف المسلمين ومحاولة استنهاضهم ورفضهم لكثير من البدع والانحرافات ونشاطهم في توعية المسلمين والرد على خصوم الإِسلام ونقل المفيد من الحضارة الغربية، وهو جهد عظيم لا يعرف قيمته ومكانته إلا من عرف ظروف تلك المرحلة، ومع ذلك ففيهم طائفة كبيرة وقعت في مأزق منهجي خطير فتح الباب لشرور عظيمة، حيث وقع هؤلاء في أسر الحضارة المستعمِرة والغازية وثقافتها من جهة ومن جهة أخرى هالهم هذه الأجيال الذكية المميزة التي يستهويها السير في ذلك الثقافة الغربية بعد أن عصبوا على أعينهم وسدّوا آذانهم وأسلموا ذواتهم لتلك الحضارة، وفي الوقت نفسه لم تكن تركة هذه العُصْبة المسلمة كافية في تحمل أعباء تلك المرحلة، فقذفت بمشروعها المرتبك مع شخصيات مشهورة مثل "الطهطاوي" و"التونسي" و"علي مبارك"، وهي أكثر وضوحًا مع مدرسة "جمال الدين الأفغاني" المشهورة وقائدها من بعده الشيخ "محمَّد عبده". وأخطر ما تبناه هؤلاء الفضلاء وأُعجب به جيل التغريب -وهو أضعف جزء في مشروعهم من الناحية الشرعية المنهجية- هو توسعهم في منهجية التأويل بما تعنيه من عملية تلفيق، فما أن تعالج جزءًا من المشكلة حتى تفتح الباب لمشاكل أخرى، ولذا وإن لم يُسهموا في الانحراف بالعلم فإنهم أعطوا رؤية غير

صحيحة عن العلاقة بين العلم والدين، أخذها التغريبيون وساروا بها إلى أقصى مداها، فقد جعلوا للعلم الحديث مكانة تصل إلى تأويل كل نص يُتوهم تعارضه مع العلم، مع أنهم لم يبحثوا عن ماهية هذا العلم، وهل هو في حكم الحق الذي لا يتغير حتى نصل إلى استخدام التأويل؟ مما جعل غيرهم يقولون بلسان حالهم أو مقالهم: إذا كان العلم له هذا السلطان فلماذا هذه الإزاحة البطيئة للدين، فنبقى كل يوم نؤوِّل نصًا؟ لماذا لا نضع العلم والفكر والحضارة الغربية في رأس دعوتنا ونفصل الدين عن نشاطنا (¬1)؟ ليس غرضنا تتبع هذا السجال إلى نهايته، وإنما المراد بيان صورة البيئة الثقافية الجديدة وسكانها بمشاربهم المختلفة، وهي بيئة نشأت في حواضر العالم الإِسلامي بداية العصر الحديث، وقد تأخر حضور التيار الإِسلامي السلفي فيها، لكونها حواضر يغلب عليها الوجود لتيارات أخرى "كلامية وصوفية"، وعندما حضر نجح في إعادة توجيه مسار بعض أصحاب هذه البيئة وإن كانوا لا يلغون الجهود الحسنة والعظيمة التي قام بها مصلحون إسلاميون ينتمون لتيارات أخرى، ولاسيما مدرسة الأفغاني وعبده الشهيرة، فضلًا عن مراكز العلم الإِسلامية المهمة كالأزهر والقرويين والزيتونة. أخطر ما عرفته هذه البيئة الثقافية الجديدة هو تيار التغريب الواسع، الذي يقود من معه نحو تنفيذ المخطط الغربي الذي يريده للعالم الإِسلامي، وللأسف فهو وإن ادعا تقليد الغرب، فالحقيقة أنه ليس داعيًا إلى تقليد الغرب وإنما هو أداة لتنفيذ برامج غربية يُراد صياغة العالم الإِسلامي على منوالها؛ لأن هذا التيار لو دعا لتقليد الغرب لكان هناك من الأمور الحسنة التي ينبغي أخذها عن الغرب ما يكفي لتفهم موقفهم من علوم رياضية وهندسة وعمران وإدارة وعلوم طبيعية وعلوم الطب وعلوم الصناعة والتقنية وغيرها كثير، ولكن بالعودة إلى تيار التغريب لا نجد شيئًا واضحًا في هذه الجوانب بخلاف ما لا نفع فيه أو نفعه مشكوك فيه أو ضرره أكثر من نفعه من أفكار وأيديولوجيات وآداب وفنون وغيرها، بخلاف الأمور النافعة فقد شارك عامة المسلمين في نقلها بحيث لا يحسب ذلك لأهل التغريب. ¬

_ (¬1) انظر مثلًا: نقد الفكر الديني، د. صادق العظم ص 22 - 23.

إن مشروعات التحديث التي دعا لها "الطهطاوي" و"التونسي" وغيرهما قد أغفلها الاستعمار وتيار التغريب، وتحول التحديث إلى تغريب، من ذلك التحديث في أبواب العلوم والمعارف إذ تحولت إلى مشروع لنقل ثقافة غربية لا تناسبنا ولا نحتاجها، فما هو تيار التغريب؟ وما أثره في الانحراف بالعلوم الحديثة؟ وما المشكلات التي صنعها في بنية تعليمنا الحديث؟ يأتي في التمهيد موضوع التعريف بتيارات التغريب، وهو خليط غير متجانس من آثار التنوع الغربي المؤثر، فكل مجموعة قلّدت مذهبًا أو مدرسة أو تيارًا أو غير ذلك مما عُرف في الغرب، يجمعها أن وجهتها نحو الغرب ورؤوس أصحابها قد استدارت إلى حضارتهم وثقافتهم. لم يكن يتم الاختراق الغربي بكل توجهاته للعالم الإِسلامي إلا بإيجاد فئة تتقبله وتهيئ أرضية مناسبة للحركة، وقد اتخذ ذلك عدّة طرق: الاهتمام بالمبتعثين ورعايتهم، فمنهم من نجح الغرب في التأثير عليه وتوظيفه، ومنهم من نجا ونجح في مقاومة ذلك. ومن الطرق تلك الإرساليات المختلفة من الغرب: إما دينية بنشاطها العلمي والصحفي، أو منظمات سرية كالماسونية التي برزت في القرن (13/ 19). ونجح ذلك في استقطاب عدد من المسلمين، ليكونوا مجموعة أوسع خدمت الوجود الاستعماري فيما بعد، وخدمها هو أيضًا. بدأت معالم نشاطهم في تكوين جمعيات سياسية واجتماعية وفكرية، تضم بداخلها النوعيات المتغربة أو تلك القابلة لعملية التغريب، بدأ ذلك في نهاية القرن (13/ 19) فانتشرت جمعياتهم ولاسيما في مصر والشام، ومع أول القرن (14/ 20) تحول بعضها إلى أحزاب سياسية مهيأة للوصول إلى السلطة، ومن ثمّ توجيه مسيرة البلاد، وقد دعم الاستعمار بعض هذه الأحزاب وهيأ لها الوصول إلى السلطة في أثناء وجوده وأعطاها الأمر بعد خروجه. يمكن تصنيف هذه الجمعيات والأحزاب التغريبية في ثلاثة اتجاهات وهي: قومية وأبرزها كان في بلاد والشام، وليبرالية وأشهرها انطلق من مصر مع حزب الأمة، وثالثها ماركسية واشتراكية وكانت تاريخيًا بعد الأولين، ولاسيما بعد نجاح الثورة البلشفية، فكان لهذه الاتجاهات الثلاثة أحزابها وجمعياتها، وكان هدفها الوصول إلى السلطة وقيادة البلاد التي هي فيه، وكان لها مفكروها وتياراتها الفكرية وصحافتها وإعلامها ومنابرها، وكان لها نشاطها الكبير وقت

الاستعمار وبعد خروجه، واستأثروا بالساحة الإِسلامية، حتى ظن البعض أن الإِسلام قد أقصي تمامًا مع هؤلاء، حتى جاءت الصحوة الإِسلامية لتبدد أحلام التغريبيين وتستعيد استنهاض الأمة وتنقذ آلاف الغرقى. بالنسبة للأحزاب القومية فقد ظهر اختراق النصارى لها، ولاسيما مع انطلاقها من بلاد الشام التي عرفت وجودًا كبيرًا للإرساليات وكلياتها ومعاهدها وصحافتها والرموز التي صنعتها، بدأت قديما مع "بطرس البستاني" وجمعياته، ثم جاء التحول الكبير مع إنشاء جمعيات سرية نهاية القرن (13/ 19) وكان من كبار قوادها ومنظريها مجموعة من النصارى أو من أتباع الفرق الغالية المنتسبة للإسلام (¬1). وأما الأحزاب الماركسية وجمعياتها فقد ظهر اختراق اليهود لها، حيث غلب على قياداتها السياسية والفكرية الوجود اليهودي: في مصر أو العراق أو بلاد المغرب (¬2). وأما القسم الليبرالي الذي عرف في مصر فقد كان لأفراده الأوائل صلة بالماسونية، وهم في الوقت نفسه من المسلمين المتأثرين كثيرًا بالحضور الغربي الكثيف في مصر لدرجة ابتعادهم عن الإِسلام واختيار العلمنة والحضارة الغربية بديلًا عنه. ونظرًا لصعوبة المنافسة بين هذه الأحزاب الثلاثة فقد حدث دمج فكري وسياسي بينها، فظهرت لدينا في أثناء الاستعمار ثم بعد خروجه تيار "قومي اشتراكي علماني" وقد تمثل بوضوح في التجربة الناصرية (¬3) أولًا، ثم في حزب البعث، والأحزاب الاشتراكية، التي وصلت للسلطة في بلاد المغرب "الجزائر وليبيا مثلًا" أو اليمن، وبوصولها جميعًا إلى السلطة بدأت أقسى عملية تغريب تولاها بنو جلدتنا بعد أن خرج المستعمر، وقد استعان في ذلك بالمؤسسة ¬

_ (¬1) انظر: فكرة القومية العربية في ضوء الإِسلام، د. صالح العبود، ففيه بحث موسع عن هذه الجذور الفصل الثاني والثالث، وانظر: الموسوعة الميسرة. . . . 1/ 444 وما بعدها، وانظر: المؤامرة الكبرى على بلاد الشام، محمَّد الخالدي ص 155 وما بعدها. (¬2) انظر: التيارات الفكرية والعقدية. . . .، محمَّد الخالدي ص 120 وما بعدها، وانظر: اعترافات لشيوعي بارز "د. لويس عوض"، العنقاء ص 11 من المقدمة، واعترافات شيوعي آخر سابق عن الدور اليهودي "أحمد سليمان"، ومشيناها خطى. . . . ص 55 - 60 - 63 - 77 - 127 - 135. (¬3) انظر: الموسوعة الميسرة. . . . 1/ 458 وما بعدها.

التعليمية والتعليم، والمنظومة العلمية فضلًا عن المجال الثقافي عمومًا. فانحرفت هذه التيارات الجديدة بحركة العلم والتعليم، وفتحت الباب لوجود بيئة علمية تُوظَف ضد دين الأمة وهويتها، وفي المقابل تُستنبت قيمُ حضارةٍ أخرى في هذا المجال وغيره، وبحسب الميول الغالبة للحزب يكون التوجه إما نحو الشرق الغربي الماركسي أو الغرب الليبرالي. امتلكت هذه الأحزاب: المؤسسة العلمية والصحافة والإعلام ومنابر الفكر والثقافة ومؤسسات الفنون والآداب، وكل مؤسسات التأثير في الناس وحولتها بما يتوافق مع رؤاها. ونظرًا لأن البحث سيركز في أثر التيار التغريبي فلن أتحدث هنا عن أثره في الانحراف بالعلم الحديث ومناهجه ونظرياته؛ لأن الفصول القادمة بمباحثها كلها تتحدث عن هذا الدور، إنما الحديث هنا عن وصول تيار أيديولوجي إلى السلطة، وبما أنه تيار أيديولوجي فهدفه واضح: لابد من تغيير هوية المجتمع عبر كل وسائل التأثير وتحويلها إلى أيديولوجية السلطة؛ أي: أنه تيار له رسالة وليس صاحب سلطة أو رئاسة أو مال -وإن كان فيه كل ذلك- ولكن رسالته كانت أوضح: هدفها تغريب المجتمع. يختلف الأمر عندما توجد سلطة هدفها السلطة ومكاسبها، لذا لا يتغير الكثير داخل المجتمع وإن تضرر بظلمها واستبدادها ونهبها لخيرات البلد واستغلالها لأمواله، بخلاف تلك التي تهدف مع امتلاك السلطة إلى فرض أيديولوجيتها مثل هذه الأحزاب التغريبية، فإنها تحول سلطتها إلى أداة لفرض أيديولوجيتها على المجتمع. وقد وجدت هذه الأحزاب في الفكر الغربي وآدابه وفنونه أداة مناسبة لتحقيق هذا الهدف، بما يعزز تمكنها من السلطة وبما يخدم تحقيق أيديولوجيتها التي هي في النهاية أيديولوجيا نجح الغرب في استزراعها داخل البيئة الإِسلامية ووظف هؤلاء المتغربين في نشرها. ونظرًا لوجود هذا الإِسلام العظيم عقبة في وصولهم لأهدافهم، فقد فتحوا الباب لكل ما يجدونه في الغرب ضدّ الدين، واستخدموا كل الأدوات التي عرفها الغرب ضد الدين، ومع الاختلاف بين الحالين والمجالين، إلا أن التغريب قد حاول تبيئة تلك الأدوات، لتكون ضدّ الإِسلام ذاته بعد أن كانت في الغرب ضدّ الكاثوليكية في الأساس. ومن الأدوات التي استخدموها النظريات العلمية المختلفة التي تحقق لهم تشكيك المسلمين في دينهم، بل يُلبِسون كل

الأفكار الغربية ثوب العلمية في أثناء توظيفهم لها في انتقاص الإِسلام والطعن فيه ويتفانون في الدعوة له ولو خالف ذلك المعقول (¬1). كما أنهم كوّنوا نظامًا علمانيًا سياسيًا، ومن ذلك تولد مشروع علمنة المجتمع عبر علمنة مؤسساته ونظمه، وقد حظي التعليم بنصيب الأسد من ذلك، وكما اعتنى الاستعمار بعلمنة التعليم وإقصاء روح الإِسلام من مؤسساته واصلت الأحزاب التغريبية هذه المهمة، حتى أصبح الإِسلام غريبًا فيها أو غير معروف لطلابها. لقد ظهرت الدولة "القومية العربية الاشتراكية" في مصر والعراق والمغرب واليمن وغيرها نموذجًا لنجاح تلك الأحزاب الثلاثة، ومن أخطر ما تبنته هو العلمانية، ولاسيما بصورتها الكمالية نسبة لكمال أتاتورك التي لم يعرفها حتى الغرب الذي أنشأها (¬2)، ومارست عملها الخطير في مؤسسات المجتمع وأكبر ضحاياها مؤسسة التعليم، حيث تحولت هذه المؤسسة إلى تحقيق الأيديولوجية العلمانية لهذه الدولة العصرية، وكانت هذه الدولة -دولة ما بعد الاستعمار- ثمرة الجهد الطويل من تغريب المجتمع الإِسلامي التي تولت بعد ذلك مأسسة الحياة كلها وفق قيم غربية تسمح ببقائنا في حالين خطيرين: البعد عن الإِسلام والضعف أمام العالم. بعد هذه الرحلة ماذا نقول؟ عندما نقارن أسباب التقدم بأسباب الانحراف ماذا نجد؟ ما الخلاصة التي نصل إليها؟ لو كانت أسباب التقدم موجودة وعاملة لرأينا ثمارها ورأينا الإسهام في العلم، ورأينا الاستقلال العلمي الواضح، ولكن لا يوجد شيء واضح من ذلك، وها هي فكرة الابتعاث تزداد دون توقف، وهاهي الفجوة تتسع دون توقف، مع مرور ما يقرب من قرنين، وهو يعني أن هناك ¬

_ (¬1) ذكر "محمَّد باروت" في كتابه: حركة القوميين العرب طرفةً عن أحدهم، عن الغلو الذي وصل ببعضهم لدرجة عرضه أفكار "إنجلز" حول تحول القرد إلى إنسان لأحد الفلاحين فكاد يفقد حياته ص 464. (¬2) لقد قارن كاتب مدافع عن العلمانية بين علمانية أتاتورك وبين ما يتمناه، والحقيقة أن تلك التي وصف بها علمانية أتاتورك هي نفسها التي طبقتها الأحزاب العربية، انظر: الفكر الغربي في القرن العشرين. . . .، شاكر النابلسي 2/ 219 وما بعدها، وانظر: المرجع نفسه 2/ 279.

أمراضًا مصاحبة لهذا النشاط العلمي تعليق نموه، ولكن هناك ما هو أسوأ من ذلك في المرحلة الماضية؛ وهو الانحراف الذي تسرب إلى هذا المشروع التحديثي المهم، وتوغل بقوة في الرؤية وفلسفة العلم وعلاقته بالدين. . . .، وأصبح حملًا ثقيلًا على الأمة، ويحتاج لجهد كبير من الفكر الإِسلامي المعاصر حتى يخلص الأمة من هذا الحمل، ومن أفضل الوسائل لتحقيق ذلك البحث في أسباب وجوده، ثم محاولة تصحيح الخطأ، ومنع الفساد، ومواجهة الأهواء، وقد أوصل التحليل السابق لمجموعة نتائج ذات صلة بهذا المطلب الإصلاحي، وأهمها: أولًا: أن ضعف مؤسسات العلم الإِسلامية وعدم مبادرتها في تصحيح المسار قد فتح الباب لغيرها، فابتعد مسار العلوم العصرية عن مسار العلوم الإِسلامية، وأخطر صور الضعف الانشغال بعلوم لا نفع فيها أو بأعمال لا ثمرة منها، وأثر ذلك في صنع تصورات معيقة للعلم والعمل الصحيح، ومن بوادر التصحيح ما نراه من نشاط بارز في العالم الإِسلامي من جهة الأسلمة أو التأصيل أو غيرها من المشروعات. ولكن في التجربة الماضية ما يكفي من الدروس للأمة الإِسلامية بعدم التهاون مع العلوم الدنيوية من جهة وضع التصورات والأطر، ومن جهة العناية بها وحث النابهين لتحصيلها وتخفيف موانع تعلمها مع تقوية ربطها بالتصور الإِسلامي، وأهمية تصحيح العلاقة بين علوم الدين وعلوم الدنيا بعد أن فصلت بينها التجربة المعاصرة، ووضعت إسفينًا في تلك العلاقة، وها هو "الشافعي" -رحمه الله- أحد أعلام الأمة وأحد المؤسسين للعلم الإِسلامي يقول: "العلم علمان: علم الدين وهو الفقه، وعلم الدنيا وهو الطب، وما سواه من الشعر وغيره، فعناء وعبث"، وقد تعلم الطب كما تعلم علوم الدين، وكان له عناية بذلك -رحمه الله- (¬1). ثانيًا: تعد المدرسة مكان العناية بالعلم العصري بما تحويه من رؤية ومنهج وموضوعات، وقد كانت تجربتها مريرة؛ حيث حُرمت المشروعات الإصلاحية المتكاملة من النجاح بخلاف تلك الضعيفة أو المتغربة أو المشبوهة أو الأجنبية ¬

_ (¬1) انظر: سير أعلام النبلاء 10/ 41، وانظر: مقدمة الرسالة للشافعي، تحقيق الشيخ أحمد شاكر 1/ 7.

التي فتح لها المجال، وكانت إدارتها وتوجيهها -غالبًا- بأيد غير أمينة فلوثت مستقبل هذه المؤسسة المهمة، وأصبحت في بعض الفترات تمثل معاناة للأسرة المسلمة، وقال مفكر عاصرها: إن الطالب يدخلها بدين ويخرج منها بدين، فكيف نأمل من مدرسة بمثل هذه الحال أن تنجح في الرقي بالعلوم دون ضياع الدين، بل على عكس ذلك فقد تحولت إلى جاذب لما يضر بهوية الأمة دون أن تحقق الاستقلال الحقيقي في العلوم النافعة. وستبقى هذه العلوم تائهة ومضرة ما لم يملك العالم الإِسلامي مؤسسته العلمية؛ أي: يملك وضع التصور والرؤية والرسالة والأهداف والقيم. ثالثًا: أما أثر الإعلام، ولاسيما المكتوب منه فهو خطير، ويظهر بوضوح في الرأي العام، وليس المقصود عموم المجتمع وإنما طبقته المتعلمة والمثقفة التي تجد مصدر معرفتها من هذا المنبع، وهو الغذاء المعرفي الذي يكوّن تصور القارئ ورؤيته ومواقفه، وهم طبقة مهمة وفي ازدياد، هذه الطبقة تتشرب رؤيتها وتصورها في العصر الحديث من خلال وسائل الإعلام، وقد نشأت صحافة علمية أو تهتم بالعلوم العصرية ولكن سبق إليها قوم تأثروا بالتغريب، وبلغ ببعضهم مبلغًا من كره الإِسلام والدين والرغبة في هدمه، واستعانت تلك الصحافة بتوظيف العلم ونظرياته في مآربها، وصوّرت العلم كأنه عدو للدين أو على أحسن أحوالهم جعله الممثل الحقيقي للصواب والمعرفة والعقلانية والنفع بخلاف الدين الذي قد أدى دوره بحسب زعمهم في زمن مضى وهو يسلم دوره الآن للعلم. وذلك الحدث يلفت الانتباه لخطورة الإعلام وأهمية دوره في صناعة الرأي العام والتأثير فيه، ومن المهم للمشروع الإِسلامي التصحيحي والتجديدي الانتباه لوسيلة الإعلام، واعتبارها مشاركًا مهمًا لأي مشروع تصحيحي وتجديدي في مجال النهضة العلمية، وإن ما غرس من خلال الإعلام لسنوات طويلة حول العلم ومناهجه ونظرياته مما يعارض الدين يحتاج منا استخدام الوسيلة نفسها لإصلاح ذلك ثم للتجديد والنهوض، وبالله التوفيق. رابعًا: وهو أكثرها إشكالًا؛ أي: تلك التيارات الفكرية المتغربة، ولاسيما ما له علاقة بمشكلة البحث، فهذه التيارات بأشكالها المختلفة متأثرة كثيرًا بقدوتها الغربية، ومن ذلك: اصطناع مشكلة بين الدين والعلم، وتوظيف العلم الحديث في هدم الدين، أو جعله بديلًا عن الدين، أو علمنة العلم. وإشكاليته

أن صاحب الهوى يجتهد في نشر هواه، ويدافع عن ذلك ويستغل كل وسيلة لتحقيق هدفه، كما أنه مولع بتقليد قدوته لدرجة أنه لو دخل جحر ضب لدخله كما في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم، قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن" (¬1)، فهذا يمثل عامل استمرار للمشكلة، فكلما انطفأت أوقدوا نارها بشبهة جديدة، وهو في المقابل عامل تحفيز للفكر الإِسلامي أن يبقى مناضلًا في مشروعه ومجاهدًا جهاده العلمي والفكري لمثل هؤلاء الضالين أو المضلين. خامسًا: أما الاستعمار ورغم انقشاعه عن العالم الإِسلامي، فإن آثاره عميقة وخطيرة، ويكفي ذلك التحالف مع الطرف السابق -التغريبي، وثمار ذلك التحالف في استمرار مشروع الاستعمار بأيد من بني جلدتنا، وخطورته تتمثل في تركيزه على علم يخدم الاستعمار دون أن يحقق قوة الأمة واستقلالها المعرفي، وما زال المستعمر القديم يخدع من ينخدع له بمشروعاته التي تضمن استمرار سيطرته وتفوقه. ولا شك أنه رغم ذهابه الظاهر إلا أنه ما زال يمثل تحديًا للفكر الإِسلامي: من جهة الآثار العميقة التي خلفها وراءَه، ومن جهة المتغربين الذين يواصلون تنفيذ أهداف المستعمر، وأخطر ما قام به الاستعمار هو عملية إقصاء العلم الديني وجعله في مرتبة نازلة مقارنة بالعلوم الأخرى، وعملية الفصل بين علوم الدين وعلوم العصر مقتفيًا في ذلك التصور العلماني السائد في أوروبا، وبإدخاله فيروسات خطيرة في صلب العلم العصري الذي أدار مؤسساته لسنوات داخل العالم الإِسلامي، مما جعله قابلًا، بل جاذبًا للانحرافات بيسر وسهولة ودون مقاومة تذكر. سادسًا: البيئة الجديدة التي تشكلت مع التحولات والتغيرات الحديثة، وهي تحولات ضخمة، ويكفي التأمل في المسائل السابقة على مستوى العلم والفكر والثقافة، لنعرف ضخامتها، وربما يشعر المحلل التاريخي أن أمة مرّت بهذه التغيرات مصيرها الفناء والزوال ومع ذلك فقد صمدت، بل تجاوزت عقبات ¬

_ (¬1) البخاري برقم (7320)، كتاب الاعتصام، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لتتبعن سنن من كان قبلكم"، وعند مسلم برقم (2669)، كتاب العلم، باب اتباع سنن اليهود والنصارى.

مهلكة، وهذا من حفظ الله لهذه الأمة. ولكن ظهرت بيئة جديدة من أثر العوامل السابقة تتحرك فيها الانحرافات بسهولة، وهي رغم انتفاشتها ضعيفة؛ لأنها تستمد قوتها من الانتماء لهوية مغايرة لهوية الأمة، وهذا ما تنفر منه النفوس عند انكشاف الحقيقة لها، ولكنها مع ذلك أصبحت أرضًا لاستمرار الانحراف بالعلم ولاسيما مع بروز تيارات فكرية تغريبية جديدة تنافس الفرق الدينية القديمة. بقي التنبيه على أمرين يكشفهما التحليل التاريخي والمنهجي بوضوح، وهما: أن سبب البعد عن الإِسلام هو سبب الضعف والتخلف من جهة؛ لأن الأمة ما ارتقت إلا بعد أخذها هذا الدين بقوة، بل العالم كله تغير بعد ظهور الإِسلام، كما أن سبب ظاهرة الانحراف بالعلم تعود بحسب المظاهر السابقة إلى البعد عن الدين، فما كان لتلك العوامل أن تؤثر -لولا ضعف المسلمين وتقصيرهم- في التزامهم بدينهم، ويبرز الحل واضحًا لمعالجة الأمرين، وذلك بالعودة الصادقة لهذا الدين والاعتصام بالوحي والاتباع للنبي -صلى الله عليه وسلم- والاهتداء بهديه. أما وقد تعرفنا على العلم الحديث في الغرب وتطوره، ثم مظاهر الانحراف به هناك، ثم تعرفنا على صور طلبه في العالم الإِسلامي والصعوبات التي قابلوها، ثم مظاهر الانحراف به في البيئة الإِسلامية، فسنتعرف الآن بإذن الله على الاتجاهات الكبرى التي ظهرت في العالم الإِسلامي في التعامل مع هذه المستجدات مع التركيز على صورتها المنهجية.

الفصل الخامس أبرز المواقف العلمية والفكرية في العالم الإسلامي من العلوم الحديثة ومناهجها وفيه تمهيد وثلاثة مباحث: • المبحث الأول: موقف الاتجاه السلفي الداعي للتأصيل الإِسلامي للعلوم الحديثة. • المبحث الثاني: موقف الاتجاه العصراني الداعي لتأويل ما توهم تعارضه من النصوص الشرعية مع العلم الحديث. • المبحث الثالث: موقف الاتجاه التغريبي الداعي لتقديم العلم وعدم ربطه بالدين.

الفصل الخامس أبرز المواقف العلمية والفكرية في العالم الإسلامي من العلوم الحديثة ومناهجها

الفصل الخامس أبرز المواقف العلمية والفكرية في العالم الإسلامي من العلوم الحديثة ومناهجها عندما ظهرت الحاجة للعلوم الحديثة في العالم الإِسلامي برزت مواقف متباينة منها، وما كان الأصل أن يظهر ذاك التباين الذي يصل بها أحيانًا إلى التناقض؛ إذ كيف يقع من أمة ذات مصدر واحد في التلقي والتوجيه، في الاعتقاد والعمل، في دينها ودنياها! ومع ذلك فقد وقع اختلاف التعارض بين ثلاثة اتجاهات مشهورة: الاتجاه السلفي والاتجاه العصراني والاتجاه التغريبي، لكل اتجاه أصوله التي نبع عنها منهجه، ومن ثم موقفه. أبدأ بتمهيد يشرح جذور هذه المواقف القديمة والحديثة، وكيفية تشكُّلِها، وصورة تباينها، ثم أخصص لكل اتجاه دراسة مستقلة لموقفه من العلوم الحديثة ومناهجها؛ ذلك أن الدراسة المقارنة للظواهر تعطي تصورًا أوضح عن الموضوع، وتفيد في التحليل والنقد، وتساعد في تحديد المعالجات الصحيحة، وذلك في ثلاثة مباحث، هي: المبحث الأول: موقف الاتجاه السلفي الداعي للتأصيل الإِسلامي للعلوم الحديثة.

المبحث الثاني: موقف الاتجاه العصراني الداعي لتأويل ما توهم تعارضه من النصوص الشرعية مع العلم الحديث. المبحث الثالث: موقف الاتجاه التغريبي الداعي لتقديم العلم وعدم ربطه بالدين.

تمهيد الأصول الثقافية للوضع المعاصر

تمهيد الأصول الثقافية للوضع المعاصر اختار الرب سبحانه رسوله - صلى الله عليه وسلم - ليكون الرسول الخاتم، قال -تعالى-: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)} [الأحزاب: 40]، وجعل أمته خير الأمم، قال -تعالى-: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]، قال ابن كثير -رحمه الله-: "والوسط هاهنا الخيار، والأجود كما يقال: قريش أوسط العرب نسبًا ودارًا، أي: خيرها، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسطًا في قومه، أي: أشرفهم نسبًا. . . ." (¬1). وقال سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، وذكر في معناها ابن كثير عن أبي هريرة وابن عباس ومجاهد وعكرمة وعطاء والربيع بن أنس وعطية العوفي: خير الناس للناس، والمعنى: أنهم خير الأمم وأنفع الناس للناس (¬2). أدركت أمة الإِسلام هذا التشريف الرباني لها أن جعلها خير الأمم، وعرفت في الوقت نفسه أن لهذا التشريف تبعات، وهي أن تكون أنفع أمة للناس، وكما قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "من سرّه أن يكون من تلك الأمة، فليؤدِّ شرط الله فيها" (¬3)، فقامت بدورها أحسن قيام وأهدت العالم هذا الدين ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير ص 127. (¬2) انظر: تفسيره ص 250. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 253.

العظيم، وكلما حققت شرط خيريتها ارتفعت ونفع الله بها، وإذا تكاسلت عن أداء ذاك الشرط أصابها الضعف الذاتي وتسلط عليها العدو الخارجي. كانت تعلم أن شرط الخيرية يبدأ من الذات بإصلاحها بالتوحيد الخالص والعبودية الحقة. ولذا كانت الأمة في كل مرحلة ضعف تمرّ بها يأتي بفضل الله من يجدد لها أمر دينها، فتظهر على حال أحسن مما كانت عليه. ولم يظهر في تاريخها أن ربطت إصلاحها بتبني نظام خارجي عنها، أو باستلهام حضارة أخرى مغايرة لهوية الأمة. وهذا لا يمنع من وجود استفادة من علوم الأمم الأخرى التي يبرع فيها البشر، كالطب والصناعة والإدارة والعلوم الرياضية والطبيعية وغيرها، ولم تظهر حول هذه العلوم مشكلة في تاريخ الحضارة الإِسلامية، بل كانت تؤخذ من أهلها، حتى من غير المسلمين، وقد كان أهل الذمة مثلًا فيهم الأطباء والصيادلة والصناع، ويؤخذ عنهم من تلك العلوم النافعة؛ لأنها مما يبرع فيها كل البشر، فكانوا من ضمن الوسائط في نقل تلك العلوم عن الأمم الأخرى. رؤية أبي حامد الغزالي: وعندما انتشرت العلوم في الأمة وكثرت معاهدها، ثم اختلط الأمر فيها بسبب ترجمة النافع وغير النافع فجاء بعض أهل العلم لتحديد الموقف منها، وبيان النافع منها وغير النافع، ومن ذلك ما قام به "الغزالي" المتوفى أول القرن السادس الهجري سنة (505 هـ) في كتابه المشهور: "إحياء علوم الدين"، فقسم العلوم -لتحديد الموقف منها فيما بعد- إلى شرعية وغير شرعية، وقال: "وأعني بالشرعية ما استفيد من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، ولا يرشد العقل إليه مثل الحساب، ولا التجربة مثل الطب، ولا السماع مثل اللغة". ثم ذكر فيما بعد أن "العلوم الشرعية. . . . محمودة كلها ولكن قد يلتبس بها ما يظن أنها شرعية وتكون مذمومة". أما غير الشرعية فتنقسم إلى: "ما هو محمود، وإلى ما هو مذموم، وإلى ما هو مباح": 1 - "المحمود: ما يرتبط به مصالح الدنيا كالطب والحساب. وهو ينقسم إلى ما هو فرض كفاية، وإلى ما هو فضيلة وليس بفريضة: أما فرض الكفاية فهو علم لا يستغنى عنه في قوام أمور الدنيا كالطب، إذ هو ضروري في حاجة بقاء

الأبدان. وكالحساب؛ فإنه ضروري في المعاملات وقسمة الوصايا والمواريث وغيرها. وهذه هي العلوم التي لو خلا البلد عمّن يقوم بها حرج أهل البلد. وإذا قام بها واحد كفى وسقط الفرض عن الآخرين. فلا يتعجب من قولنا: إن الطب والحساب من فروض الكفايات، فإن أصول الصناعات أيضًا من فروض الكفايات، كالفلاحة والحياكة والسياسة، بل الحجامة والخياطة. فإنه لو خلا البلد من الحجام تسارع الهلاك إليهم، وحرجوا بتعريضهم أنفسهم للهلاك. فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء، وأرشد إلى استعماله وأعدّ الأسباب لتعاطيه. فلا يجوز التعرض للهلاك بإهماله. وأما ما يعد فضيلة لا فريضة فالتعمق في دقائق الحساب، وحقائق الطب، وغير ذلك مما يستغنى عنه. ولكنه يفيد زيادة قوة في القدر المحتاج إليه. 2 - المذموم: فعلم السحر والطلسمات والشعبذة والتلبيسات. 3 - المباح: كالعلم بالأشعار التي لا سخف فيها وتواريخ الأخبار وما يجري مجراه" (¬1). وتعد هذه الرؤية "الغزالية" رؤية شاملة للموقف من العلوم الدينية والدنيوية، وهي السائدة في الأمة الإِسلامية، ومع ذلك فقد ضعفت العلوم بشقيها داخل الأمة الإِسلامية، العلوم الشرعية والدنيوية؛ وذلك أنه عندما تُفرط الأمة في شرط خيريتها تعود من جديد نحو الضعف والجهل، ومن تفريطها في شرط خيريتها ما وقع من تحول عند بعض فئاتها، إلى علوم لا نفع فيها، أو ضررها أكبر من نفعها، وكان من آثار ذلك هجران العلوم الشرعية وندرة العلماء فيها، وفي المقابل وقع الخراب في الحياة الدنيوية بعد أن أهملت علومها النافعة. وأصبح العلم عند هؤلاء خليطًا من فلسفات وأفكار لا تسمن ولا تغني من جوع، فلم يأخذوا بوصية أهل العلم في أخذ النافع وترك ما سواه، مما جعل الميل لغير النافع يتسع حتى جاء شيخ الإِسلام ابن تيمية في القرن الثامن بدعوته وتجديده وإصلاحه الشامل وبمراجعته النقدية لكل المجال الديني والعلمي والفكري بعد أن أصابه ما أصابه. ¬

_ (¬1) إحياء علوم الدين، الغزالي 1/ 27، مع تصرف يسير قصد الترتيب.

الإصلاح العظيم مع شيخ الإِسلام ابن تيمية: جاء شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله- وفاته (728 هـ) في القرن الثامن ليصحح المسار في باب العلوم الدينية والدنيوية ومناهجها، فمع أنه البحر في علوم الشريعة، فهو إلى جانب ذلك على معرفة بالعلوم الأخرى المعهودة في زمنه، سواء كان ذلك في العلوم الطبيعية والرياضية وموضوعاتها من رياضيات وهندسة وطب وكيمياء وفلك وغيرها ومناهجها، أو في الفلسفة وموادها من منطق وإلهيات وغيرها، فكانت كتبهم وأعلامهم ومذاهبهم معروفة لديه (¬1)، ولذا كان يناقش وينقد وهو العارف بها، كأن يوجد عالم في زمننا هذا على معرفة بالطب الحديث وكشوفاته أو على اطلاع ومعرفة بالعلوم الطبيعية من فيزياء وفلك وجيولوجيا وكيمياء وغيرها وعلى أعلامها ونظرياتهم، أو على معرفة بالعلوم الاجتماعية ومناهجها ونظرياتها فضلًا عن معرفته بالمذاهب الفلسفية وأصولها ومناهجها، وهو مع معرفته هذه عالم بالشرع مجتهد فيه بارع في علومه، هكذا كانت حال شيخ الإِسلام -رحمه الله-؛ أي: إن قول القائل: إنه العالم بالمنقول والمعقول يعني أنه عالم بكل علوم عصره، الدينية والدنيوية، علوم الأمة وعلوم الأمم الأخرى، مذاهب الأمة ومذاهب الأمم الأخرى. لا شك أن هذه المعرفة تؤهل صاحبها للقول الفصل وبيان الموقف الحق، ولهذا لم يكن أصحاب المذاهب الأخرى المشهورة في درجة موقف شيخ الإِسلام، فقد عُرف في تاريخ الفكر الإِسلامي موقف الغزالي السابق مثلًا، وموقف ابن رشد، وغيرهما من أرباب الكلام والفلسفة والفكر، ولكن الفرق شاسع بين من اختلط فكره بالكلام أو التصوف أو الفلسفة وبين من كان محيطًا بها عارفًا بموادها دون أن يختلط بها أو تُؤثِّر فيه كما هو حال شيخ الإِسلام ابن تيمية فضلًا عن الاعتراف بمنزلته في العلوم الشرعية من تفسير وحديث وفقه وعقيدة وعلومها حتى يظن من قرأ له في أحدها أنه لا علم عنده إلا هذا العلم. ومع أن الموقف الذي بينه شيخ الإِسلام يكمل المواقف السابقة لعلماء المسلمين ويتممها بما فيها المواقف الحسنة لعلماء تأثروا بالكلام والفلسفة، إلا ¬

_ (¬1) يمكن النظر إلى جزء من ذلك في "فهارس الفتاوى" التي تبيّن سعة معرفة شيخ الإِسلام بهذه الفنون المختلفة أو "فهارس الدرء".

أنه يعيد صياغتها وتصفيتها عبر تأصيلها بمنهج سلفي متكامل وشامل، فيتجنب بهذا كل المزالق التي سلكها بعض من سبقه من أهل الإِسلام. ومن أهم الأعمال العامة التي قدمها شيخ الإِسلام -رحمه الله- للحضارة الإِسلامية في الموقف من العلوم المختلفة، ولاسيما ما له علاقة بموضوع البحث نقف مع ما يأتي: 1 - إعادة النظر في المنهج: لقد كان بعض علماء الإِسلام قبل شيخ الإِسلام يحسنون الظن بالمنطق، بل كان هذا حال شيخ الإِسلام حيث يقول -رحمه الله-: "فإني كنت دائمًا أعلم أن المنطق اليوناني لا يحتاج إليه الذكي، ولا ينتفع به البليد. ولكن كنت أحسب أن قضاياه صادقة لما رأينا صدق كثير منها، ثم تبيّن لي فيما بعد خطأ طائفة من قضاياه" (¬1)، وكان من بين ما نبه إليه -رحمه الله- أن هذا العلم "المنهج" قد يكون عائقًا حتى في تقدم العلوم الدنيوية حيث يقول: "وأيضًا لا تجد أحدًا من أهل الأرض حقق علمًا من العلوم، وصار إمامًا فيه مستعينًا بصناعة المنطق، لا من العلوم الدينية ولا غيرها، فالأطباء والحساب والكتاب ونحوهم يحققون ما يحققون من علومهم وصناعتهم بغير صناعة المنطق" (¬2). وهو وإن مارس هذا النقد فهو يؤسس لمنهج آخر، هو المنهج الذي يؤدي إليه النظر في النصوص الشرعية، وهذا المنهج هو الأقرب لوجود علوم دنيوية نافعة، يقول "علي النشار" في ذلك: "ولكن إذا كان ابن تيمية لم يقبل القضية الكلية اليقينية -مقدمة البرهان ونتيجته- كأساس أو مصدر للعلم، فما هو هذا الأساس عنده؟ هذا الأساس هو "الحس" أو "التجربة" وهو بهذا يسبق "بيكون" و"مل" في جعلهما التجربة أو الاستقراء أساس المعرفة "إنهم لم يمكنهم التوصل إلى القضية: النار تحرق، بدون التجربة والعادة" وأصدق القضايا نتائج هي التي تعتمد على التجربة، وهي القضايا الجزئية "إن القضايا الحسية لا تكون إلا جزئية فنحن لو لم ندرك بالحسّ إحراق هذه النار، وهذه النار، لم ندرك أن كل نار محرقة -فإذا جعلنا هذه قضية كلية، وقلت: كل نار محرقة، لم يكن لنا طريق نعلم به صدق هذه القضية الكلية علمًا ¬

_ (¬1) الفتاوى 9/ 82. (¬2) نقض المنطق ص 168 ومثله: ص 166.

يقينيًا إلا والعلم بذلك ممكن في الأعيان المعينة بطريق الأولى" وهنا يتشابه ابن تيمية وجون إستيوارت مل، بل يكاد مل يتكلم بأسلوب ابن تيمية في كتابه Asystem of logic وهو يذكر مثال النار هذا" (¬1). إن شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله- لا يكتفي بالنقد الهادم دون ثمرة، بل إن نقده يفتح الباب للتأسيس المنهجي والنظري للحركة في العلوم الدنيوية، ومع أنها ليست ميدان عنايته إلا أن التأصيل لها هو من مهمات العلماء. ولكن هذا العمل العظيم الذي قام به شيخ الإِسلام -رحمه الله- قد جاء في وقت ضعف شديد للأمة، وللأسف تخلت الأمة عن هذه الرؤية فأخذتها أمة أخرى، فانتقلت من المنهج الصوري العقيم إلى المنهج التجريبي النافع، وبرعت في العلوم الدنيوية. 2 - إعادة ترتيب الموقف من العلوم: وكما قدم شيخ الإِسلام موقفه النقدي من المنهج السائد آنذاك، فقد قدم أيضًا إعادة ترتيب للعلوم الدنيوية: بحيث يعالج التوظيف السلبي لها أولًا، ثم توضع في مكانها المناسب ثانيًا، ثم يقدم لها التشجيع والدعم في الأبواب النافعة ثالثًا. فقد كانت العلوم تؤخذ ضمن مُركّب مزعج، حيث كانت ضمن الفلسفة، وتتفاعل تلك العلوم مع بعض المعطيات الفلسفية، ومن ثمّ تتأثر بها، فقد أخضعها الفلاسفة لأهوائهم الفلسفية، بما في ذلك أوائل الفلاسفة من اليونان وغيرهم، وفي ذلك يقول شيخ الإِسلام: "وأرسطو المعلم الأول من أجهل الناس برب العالمين إلى الغاية. لكن لهم معرفة جيدة بالأمور الطبيعية، وهذا بحر علمهم، وله تفرغوا، وفيه ضيعوا زمانهم، وأما معرفة الله تعالى فحظهم منها مبخوس جدًا" (¬2)، ورغم أن متفلسفة أهل الأديان أحسن حالًا من الفلاسفة الوثنيين ومع ذلك فقد بقيت مادتهم الفاسدة تؤثر في هذه العلوم، وفي ذلك يقول شيخ الإِسلام أيضًا: "نعم لهم في الطبيعيات كلام غالبه جيد. وهو كلام كثير واسع، ولهم عقول عرفوا بها ذلك وهم قد يقصدون الحق، لا يظهر عليهم ¬

_ (¬1) مناهج البحث عند مفكري الإِسلام. . . .، د. على النشار ص 226، وانظر كلام ابن تيمية، الفتاوي 9/ 219 وما بعدها. (¬2) الفتاوى، 19/ 330 - 331.

العناد؛ لكنهم جهال بالعلم الإلهي إلى الغاية، ليس عندهم منه إلا قليل كثير الخطأ" (¬1). فإذا كانت هذه العلوم متأثرة بهذه الأجواء فمن الواجب إزالة ما لا علاقة له بالعلم من أمور فلسفية غير نافعة، ثم إذا كانت هذه العلوم صحيحة في ذاتها ونافعة، فلا مانع من ترجمتها إلى اللغة العربية وتعلمها من قبل المسلمين، ففي سياق أحد الموضوعات التي تحدث عنها شيخ الإِسلام قال -رحمه الله-: "فإن ذكر (¬2) ما لا يتعلق بالدين، مثل مسائل الطب والحساب المحض التي يذكرون فيها ذلك، وكتب من أخذ عنهم، مثل: محمَّد بن زكريا الرازي وابن سينا ونحوهم من الزنادقة الأطباء ما غايته: انتفاع بآثار الكفار المنافقين في أمور الدنيا، فهذا جائز. كما يجوز السكنى في ديارهم ولبس ثيابهم وسلاحهم، وكما تجوز معاملتهم على الأرض"، إلى أن قال: "فإن المشركين وأهل الكتاب فيهم المؤتمن، كما قال -تعالى- {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران: 75] ولهذا جاز ائتمان أحدهم على المال، وجاز أن يستطب المسلم الكافر إذا كان ثقة، نص على ذلك الأئمة كأحمد وغيره، إذ ذلك من قبول خبرهم فيما يعلمونه من أمر الدنيا وائتمان لهم على ذلك، وهو جائز إذا لم يكن فيه مفسدة راجحة مثل ولايته على المسلمين وعلوه عليهم ونحو ذلك. فأخذ علم الطب من كتبهم مثل الاستدلال بالكافر على الطريق واستطبابه بل هذا أحسن؛ لأن كتبهم لم يكتبوها لمعين من المسلمين حتى تدخل فيها الخيانة، وليس هناك حاجة إلى أحد منهم بالخيانة، بل هي مجرد انتفاع بآثارهم، كالملابس والمساكن والمزارع والسلاح ونحو ذلك. وإن ذكروا ما يتعلق بالدين، فإن نقلوه عن الأنبياء كانوا فيه كأهل الكتاب وأسوأ حالًا، وإن أحالوا معرفته على القياس العقلي: فإن وافق ما في القرآن فهو حق، وإن خالفه ففي القرآن بيان بطلانه بالأمثال المضروبة، كما قال -تعالى-: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)} [الفرقان: 33] ففي القرآن الحق، والقياس البين الذي يبين بطلان ما جاؤوا به من القياس، وإن ¬

_ (¬1) الفتاوى 9/ 135. (¬2) الحديث هنا عن الفلاسفة اليونان وأتباعهم والمتأثرين بهم.

كان ما يذكرونه مجملًا فيه الحق، وهو الغالب على الصابئة المبدلين، مثل أرسطو وأتباعه وعلى من اتبعهم من الآخرين، قُبِلَ الحق ورد الباطل. . . ." (¬1). بعض عناصر رؤية شيخ الإِسلام حول العلوم البشرية ومناهجها: والحق أن تفصيل موقف شيخ الإِسلام حول هذا الموضوع يحتاج لدراسات متخصصة، والمقصد هنا إعطاء خطوط عامة عن المهمة التي قام بها مجدد زمانه شيخ الإِسلام -رحمه الله-، وتفيدنا في باب العلوم البشرية والعلوم النافعة الموجودة عند الأمم الأخرى، فبعد أن رأينا الموقف الإجمالي نتوقف مع بعض عناصره التي تُعدّ من أساسيات النهضة العلمية الحديثة داخل الحضارة الأوروبية، إلا أن تلك الحضارة أزالت عنها روحها بسبب إيغالها في المادية وتبنيها العلمنة. وليس المراد هنا إثبات سبق شيخ الإِسلام إلى إنجازات غيرنا فقط، وإنما المراد أن حضارتنا الإِسلامية كان بإمكانها أن تنطلق بمقوماتها الذاتية، وأن تستفيد مما عند الأمم الأخرى بعد تبيئتها بما يناسب حضارتنا وهويتنا. ومن العناصر التي سأقف معها وكانت من أساسيات النهضة الحديثة في العلوم ما يأتي: 1 - الابتعاد عن المنهج الصوري وتبعاته والحرص على المنهج التجريبي وثمراته. عرف ذلك من الفقرة الأولى في المنهج، ونراه أيضًا في موضوعات العلوم، ولذا نجده يعترض على التقسيم السائد للعلوم عند الفلاسفة فيقول: "إن تقسيمهم العلوم إلى الطبيعي والرياضي والإلهي، وجعلهم الرياضي أشرف من الطبيعي. والإلهي أشرف من الرياضي هو مما قلبوا به الحقائق، فإن العلم الطبيعي وهو العلم بالأجسام الموجودة في الخارج، ومبدأ حركاتها وتحولاتها من حال إلى حال، وما فيها من الطبائع أشرف من مجرد تصور مقادير مجردة وأعداد مجردة، فإن الإنسان لا يتصور إلا شكلًا مدورًا أو مثلثًا أو مربعًا -ولو تصور كل ما في إقليدس- أو لا يتصور إلا أعدادًا مجردة ليس فيه علم بموجود في الخارج. . . ." (¬2). وقد عُرض في الفصول الأولى من هذا الباب أن أعظم مهمة قام بها علماء أوروبا هو الانتقال من الموضوعات الصورية إلى الحسية ¬

_ (¬1) نقض المنطق ص 96 - 97، وهو في الفتاوى 4/ 113 - 115. (¬2) الفتاوى 9/ 125 - 126.

التجريبية، وما تبع ذلك من ازدهار العلوم الطبيعية وما لحق ذلك من ثورة صناعية وتقنية. 2 - إثبات الأسباب والطبائع والقوى الموجودة في مخلوقات الله سبحانه: فمن المعلوم اليوم أنه بفضل اكتشاف "القوانين" التي وضعها الخالق سبحانه في مخلوقاته أمكن التقدم بالعلوم الطبيعية والانتفاع بذلك غاية النفع، وهي التي قام عليها العلم الحديث، حيث ارتبط التقدم العلمي باكتشاف المزيد من هذه القوانين، وهذه القوانين لا يمكن تصور وجودها إلا بالإقرار بمبدأ السببية (¬1). بالعودة إلى شيخ الإِسلام وعلماء السلف عمومًا نجد أن من أصولهم إثبات الأسباب والرد على منكريها من الجبرية وأمثالهم، ونكتفي بهذا الشاهد لشيخ الإِسلام حيث يقول: "ولكن المقصود هنا أن كثيرًا من أهل النظر والكلام كالأشعري وغيره أنكروا الأسباب والطبائع والقوى الموجودة في خلق الله وأمره، وأنكروا حِكَمَ الله المقصودة بذلك، وقالوا في لامات كي المذكورة في القرآن كقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56]، وقوله: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 119]، وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187]، وأمثال ذلك هي "لام العاقبة" ليست "لام التعليل"، إذ كان يمتنع عندهم أن يفعل الله شيئًا لأجل شيء. فهؤلاء لا يثبتون في الأفلاك العلوية ولا الأجسام السفلية ولا النفوس قوىً تكون سببًا لحدوث شيء" (¬2)، ثم قال بعد كلام طويل: "والمقصود هنا أن جمهور المسلمين يقولون بالحق الذي دل عليه المنقول والمعقول فيقولون: إن أفعال العباد مخلوقة لله مفعولة له، وهي فعل للعباد حقيقة لا مجازًا، وهم يثبتون لله في خلقه وأمره من الأسباب والحكم، وما جعله الله في الأجسام من القوى والطبائع في الحيوان وفي الجماد، لكنهم مع إثباتهم للأسباب والحكم لا يقولون بقول الطبائعية من الفلاسفة وغيرهم، بل يقولون: إن الله خالق كل شيء ¬

_ (¬1) انظر مثلًا: الاستقراء والمنهج العلمي، د. محمود فهمي زيدان، ولاسيّما ص 102 وما بعدها. (¬2) الصفدية، شيخ الإِسلام ابن تيمية 1/ 147 - 148.

وربه ومليكه، وإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا حول ولا قوة إلا به. ويعلمون أن الأسباب هي مخلوقة لله بمشيئته وقدرته، ولا تزال مفتقرة إلى الله"، إلى أن قال: "فما كان بالأسباب فالله خالقه وخالق سببه جميعًا، ويقولون مع هذا أن الأسباب التي خلقها ليس فيها ما يستقل بالتأثير في شيء من الأشياء، بل لابدّ له من أسباب أخر تعاونه وتشاركه، وهو مع ذلك له معارضات وموانع تعارضه وتدافعه، كما في الشعاع الحادث عن الشمس، والاحتراق الحادث عن النار، ونحو ذلك، فإنه لابدّ مع الشمس من محلّ قابل لانعكاس الشعاع عليه، وهو مع ذلك يمتنع بحصول الحائل، كالسحاب والسقف وغير ذلك من الموانع، وبكل حائل" (¬1). والمسألة قد ناقشها شيخ الإِسلام في مواطن كثيرة، لاسيما وهو مبحث له علاقة بمباحث الربوبية والقدر والمعجزات، وهي أبواب قد وقع فيها ضلال كبير بين طوائف الملل ومذاهبها، والمقصود هنا أنه أيضًا له علاقة بجانب العلوم الطبيعية، ومنهجها التجريبي القائم على الاستقراء، ولا يستقيم أمرها إلا بإثبات السببية، ولكن إثباتها عند الماديين يختلف عن إثباتها عند أهل السنة، حيث يجعلونها مستقلة بذاتها غير مفتقرة لموجدها، وهذا من الإلحاد في توحيد الربوبية، فمنهج أهل السنة هو القول الوسط في أهل الإِسلام كما أن أهل الإِسلام بين أهل الملل والنحل والأديان، فمع إثبات السببية والأثر والتأثير والعلة وقوى الطبائع يثبتون مع ذلك افتقارها الدائم لموجدها ومدبرها سبحانه. 3 - معالجة دعوى التعارض بين العقل والنقل: لقد كانت هذه الدعوى من أكبر المسائل التي عالجها شيخ الإِسلام -رحمه الله- في كثير من فتاويه وإجاباته وكتبه، نجدها في أغلب ما كتب، ونظرًا لأهميتها فقد خصص لها أهم كتبه وأعظمها شأنًا وهو "درء تعارض العقل والنقل" ذاك السفر العظيم الذي قلّ نظيره في الفكر الإِسلامي والإنساني، وقد ناقش شيخ الإِسلام في كتابه هذا وبقية كتبه ما وصل إليه الفكر الإنساني من توهمات بين العقل والنقل، فأزالها عن بكرة أبيها، ونقد كل المناهج الضعيفة التي حاولت معالجة المشكلة، وجاوب عن المشكلات المتوهمة، ووصل إلى النتيجة ¬

_ (¬1) المرجع السابق 1/ 154 - 155.

المنطقية: أن الحق لا يعارض بعضه بعضًا، وإن وقع توهم التعارض فإما أنه من ضعف النقل أو من الخطأ في فهمه أو هو من فساد العقل وعدم صحة مقدماته أو نتائجه. ويمكن القول: إن السقف الذي وصلت إليه كل المشكلات في زمن شيخ الإِسلام قد أجاب عنها جميعًا، وإن لم نجد نصًا حول جزئيةٍ ما فسنجد من الأصول وقواعد المنهج ما يكفي لمعالجتها. وبهذا وقف شيخ الإِسلام -رحمه الله- مع أكبر مشكله ثقافية عرفها تاريخ الفكر البشري بين الدين وعلومه والعقل وأفكاره ومعارفه. وسيأتي لدفع التعارض مزيد حديث في الباب الثالث. كانت هذه بعض معالم موقف شيخ الإِسلام ابن تيمية من المعقول في زمنه، وكانت العلوم الإنسانية تدخل فيه. يتمثل موقفه في إعادة تقييم المناهج السائدة ونقدها، وذكر البديل عنها، ثم بيان الموقف من العلوم، من جهة أهمية الانتفاع بالنافع منها وتصفيتها مما اختلط بها من آثار فلسفية ميتافيزيقية، وإزالة معوقات التقدم العلمي كمناقشته لنفاة السببية أو نقده لمعظمي المنهج الصوري على حساب الحسي التجريبي، ومعالجة مشكلة التوتر الكبيرة داخل الفكر بسبب دعوى التعارض بين النقل والعقل. يندرج هذا الموقف لشيخ الإِسلام في مشروع أكبر له عرفه تاريخ الفكر الإِسلامي، فلم يُعرف باب إلا وطرقه وأعاد تأصيله وفق منهج أهل السنة ومذهبهم، بما يجعل الأمة أقرب لتمثل الإِسلام كما قرره السلف الصالح مع إعطائنا قوة للانطلاق الجديد. الانطلاقة السلفية للعصر الحديث: كانت هناك معالم إسلامية شامخة تظهر ما بين فترة وأخرى بعد زمن شيخ الإِسلام -رحمه الله-، ومع ذلك بقي المشروع في حدود النخبة حتى جاء القرن الثاني عشر الهجري ليشهد انعطافة مهمة مع دعوة الإمام المجدد "محمَّد بن عبد الوهاب" -رحمه الله- (1206 هـ)، لتدخل الأمة في تاريخها الحديث مع دعوته -رحمه الله- عصرًا جديدًا، عرف معه ظهور الاتجاه السلفي بقوة بعد أن كان غريبًا في وقت اتساع دائرة أهل الكلام والتصوف والتشيع وفرقهم وطرقهم ومذاهبهم، وكانت فرصة تاريخية للأمة أن تبني مشروع انطلاقتها الحديثة على مذهب السلف، بحيث يُعاد إحياء الدين وفق مذهبهم بعيدًا عن البدع والانحرافات، لما في ذلك

من أثر عظيم في إحياء الأمة دينيًا ودنيويًا، وتبْني مشروعها الدنيوي أيضًا بعيدًا عن آثار التصوف وطرقه أو آثار المادية ومذاهبها. ويمكن الوقوف مع أحد شخصيات الفترة الحديثة وهو الإمام "محمَّد بن علي الشوكاني" -رحمه الله- (1250 هـ) الذي نافح عن مذهب أهل السنة، فقد عاش في بيئة اشتهرت بالعلم، فننظر في موقفه من العلوم البشرية غير الدينية. كل من عاد إلى بداية عصرنا الحديث وبحث عن أسباب التحولات الحقيقية النافعة وجد خلفها جمهرة من العلماء السلفيين، فأهم دعوة إصلاحية كانت مع الشيخ محمَّد عبد الوهاب -رحمه الله-، وفي اليمن أرض العلم والعلماء في فترات كثيرة من عمر الحضارة الإِسلامية عرفت أيضًا علمًا بارزًا على المذهب الزيدي، ثم تركه إلى مذهب أهل السنة والجماعة (¬1)، وركز على إحياء الدين ومحاربة البدع ونبذ التعصب والتقليد وكان بحق أحد أبرز العلماء في عصرنا الحديث وهو الإمام "محمد الشوكاني". عندما واجه مشكلة الضعف والجهل والانحراف وقف بشجاعة وعالجها معالجة علمية مميزة، ومن بين المشاكل التي سعى الشيخ إلى معالجتها مسألة تعلم العلوم الدنيوية بعد أن هُجرت وأقصيت من دائرة العلم. فالشيخ -رحمه الله- بعد أن حصل على العلوم الشرعية وبرع فيها، طلب أيضًا غيرها من العلوم، فدرسها لوحده ثم درّسها لطلابه، فهو "لم يكْتف باستيفاء ما عند شيوخه من كتب، وإنما كان يطّلع على كتب أخرى كثيرة بشكل مستقلّ عنهم، فقد تعلّم العلوم الرياضية، والطبيعية، والإلهية، وعلم الهيئة، وعلم المناظرة، وعلم الوضع، وحده دون معلّم مباشر، ودرّس هذه العلوم أيضًا لتلامذته" (¬2). فمنزلته في علوم الشريعة لم تمنعه من الحصول على ما ينفعه من هذه العلوم، ولا يشترط في عالم الشريعة أن يكون عالمًا بهذه العلوم ولكنه يكون أقدر على مواجهة مشاكل عصره عندما يكون على معرفة بها وحقق الحدّ الأدنى المطلوب منها لعالم أمة، وهذا ما ميّز ¬

_ (¬1) هناك رسالة علمية تبيّن ذلك بعنوان: منهج الإمام الشوكاني في العقيدة، د. عبد الله نوموسوك، وانظر حول مذهبه في العقيدة مجملًا من الرسالة نفسها: 1/ 124 وما بعدها. (¬2) انظر: المرجع السابق 1/ 87، وفي البدر الطالع للشوكاني 2/ 219، ضمن ترجمة الشوكاني لنفسه 2/ 214.

علماء كبار من علماء الإِسلام، فقد رأينا مثلًا سعة اطلاع ابن تيمية وابن القيم على ما في عصرهم من علوم غير العلوم الشرعية، فتكون مشاركتهم عند ذلك في معالجة المشكلات النابعة من هذه العلوم أقوى وأكثر إقناعًا لخصومهم. خصص الشوكاني للعلم، وطلبه، وعلومه، كتابه: "أدب الطلب ومنتهى الأرب" وذكر فيه ما ينبغي للطالب أن يدرسه، حتى وصل إلى العلوم البشرية الدنيوية، ونظرًا لأنّ هناك إهمالًا كبيرًا لها من قبل الأمة، ولاسيما أن فائدتها لم تظهر للناس؛ لأنها في حاجة إلى تحويل من النظري إلى العملي، وهو ما تكاسلت عنه الأمة في عصورها الأخيرة، فلا نجد عند علماء كأمثال الشوكاني بيانًا لأهميتها الدنيوية، وإنما تطلب لفوائد عقلية. وكانت معاناة "الشوكاني" مع الرافضين لها تجعله يداري في تقديمه للموضوع، وهذا بخلاف الأعلام السلفيين في القرن الرابع عشر الهجري مثلًا، فلا توجد عندهم هذه المدارة، بل ليس هناك سوى الصراحة في الحثّ على تعلم العلوم الدنيوية، حتى وإن كانت في الغرب وفي بلاد الكفار، فيجب تعلمها والإحاطة بها والبراعة فيها، أما الإمام الشوكاني فكانت حدوده معروفة بسبب حال الأمة الضعيف، وبسبب المعارضة من قبل بعض أهل الدين، فنجد في كتابه: "أدب الطلب" نصًا له دلالاته المهمة، يقول الشيخ: "ثم لا بأس على من رسخ قدمه في العلوم أن يأخذ بطرف من فنون هي من أعظم ما يصقل الأفكار، ويصفي القرائح، ويزيد القلب سرورًا، والنفس انشراحًا، كالعلم الرياضي والطبيعي والهندسة والهيئة والطب" (¬1)، فالشيخ لا يتردد في ذكر فائدتها وأهميتها ولكنه كما سبق جعل ذلك محصورًا في صقلها العقل وسرور طالبها النفسي، ولم يكن عصرهم قد كشف حالها من جهة سعة فائدتها لحياة الناس وإلا لاختلفت صياغة النص، وتغيرت كلمة "لا بأس" وتغيرت "الفوائد المرجوة"، مع العلم أن هذه العلوم قد جعلها الشيخ لطالب العلم الشرعي، فبعد أن يُحصّل علوم الشريعة يطلع على هذه المعارف، وليست لمن يتفرغ لها كمن تفرغ للطب مثلًا. ¬

_ (¬1) أدب الطلب ص 124، عن الانحرافات العقدية والعلمية. . . .، علي الزهراني ص 644 - 645.

وهو يُحذّر طالب العلم من الضعف أمام إكراه المجتمع، كذمه لهذه العلوم وذم من يقرأ فيها، فيقول: "وبالجملة فالعلم بكل فن خير من الجهل به بكثير، ولاسيما من رشح نفسه للطبقة العلية والمنزلة الرفيعة، ودع عنك ما تسمعه من التشنيعات، فإنها كما قدمنا لك شعبة من التقليد، وأنت بعد العلم بأي علم من العلوم حاكم عليه بما قد يكون لديك من العلم، غير محكوم عليك، واختر لنفسك ما يحلو، وليس يخشى على من قد ثبت قدمه في علم الشرع من شيء، وإنما يخشى على من كان غير ثابت القدم في علوم الكتاب والسنة، فإنه ربما يتزلزل وتحول ثقته" (¬1). وهو تنبيه للشيخ يمكن أن نُعبّر عنه بلغة عصرنا: بأهمية إعداد الجيل الذي سيتلقى هذه العلوم من جهة، وأهمية تصفية هذه العلوم -مادام أنها مهمة- مما خالطها من أفكار فاسدة تزلزل صاحبها وتحول ثقته من جهة أخرى، إنه بكلمات سهلة: التأصيل الإِسلامي لهذه العلوم بإيجاد البيئة الإِسلامية لها والمناخ المناسب، لتنمو في توافق مع الدين ونفع للدنيا، "فإذا قدمت العلم بما قدمنا لك من العلوم الشرعية فاشتغل بما شئت، واستكثر من الفنون ما أردت، وتبحر في الدقائق ما استطعت، وجاوب من خالفك وعذلك وشنع عليك بقول القائل: أتانا أن سهلًا ذم جهلًا ... علومًا ليس يعرفهن سهل علومًا لو دراها ما تلاها ... ولكن الرضا بالجهل سهل وإني لأعجب من رجل يدعي الإنصاف والمحبة للعلم، ويجري على لسانه الطعن في علم من العلوم، لا يدري به ولا يعرف موضوعه ولا غايته ولا فائدته ولا يتصوره بوجه من الوجوه. . . ." (¬2). وهنا التنبيه الثاني المهم: أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وبسبب الجهل أو الكسل يعتذر البعض بحيل نفسية للهروب من مواجهة الحقائق، وأيسر تلك الطرق: الرضا بالجهل لسهولته، مع ذم من تصدى لتلك العلوم، من باب رفع اللوم عن الذات. صحيح أن ما ثبت فساده وإفساده من العلوم فلا تردد في ذمها والتحذير منها، أما العلوم الصحيحة أو العلوم النافعة فلا يصح ذمّها أو ذمّ ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه. (¬2) عن الانحرافات العقدية والعلمية. . . .، علي الزهراني ص 644 - 645.

من تعلمها، بل الأصل مدحها ومدح من تعلمها، وتزداد مكانتها عندما يظهر نفعها للناس وحاجتهم إليها، وهذا الموقف الذي أصّل له الإمام الشوكاني -رحمه الله- حول الموقف من العلوم البشرية النافعة سيواصل العلماء في تأكيده، ويزداد قولهم صراحة مع كل يوم تتكشف لهم ثمرتها، لدرجة إيجابها.

فترة التحولات واضطراباتها ومشروع الشيخ حسين الجسر

فترة التحولات واضطراباتها ومشروع الشيخ حسين الجسر جاءت مستجدات خطيرة عطّلت هذه المسيرة السلفية بخاصة والإِسلامية بعامة وأوجدت مسارات أخرى، عُرض بعضها في الفصل الثالث، حيث ظهرت مشروعات تحديث في عاصمة الدولة العثمانية، وفي بعض ولاياتها المشهورة كمصر وتونس، ولكن لم تُظهر ما يكفي من عناية بالإصلاح الديني، وفي الوقت نفسه ربطت التحديث ببناء جسر جديد مع أوروبا، ونقل حضارتها أو شيء منها إلى البلاد الإِسلامية، وكان القرن الثالث عشر/ التاسع عشر ورشة عمل ضخمة لهذا التحديث تدخّل فيها جهات مختلفة لكل جهة قبلة هي موليتها. وإذا كانت دعوة الإمام محمَّد بن عبد الوهاب قد نجحت في القرن الثاني عشر الهجري وما بعده في إعادة الاعتبار لمذهب السلف وبداية انتشار الاتجاه السلفي -في العالم الإِسلامي بعد أن غرق في بدع التصوف والطرق والمذاهب الكلامية والشيعية وغيرها- فإن مشروعات القرن الثالث عشر تكشفت عن اتجاهين جديدين هما: "العصراني" و"التغريبي". وقبل الحديث عن هذه الاتجاهات الثلاثة: "السلفي" "العصراني" "التغريبي" أذكر أن هناك اتجاهات أخرى بعضها تخرج عن إطار هذه الدراسة كالشيعة والباطنية، وبعضها له صله بالدراسة وهو الاتجاه الديني السائد أول العصر الحديث وهو "الكلامي- الصوفي"، فقد كان لأعلام هذا الاتجاه "الكلامي- الصوفي" شأن كبير في القرون الأخيرة ودعمته الدولة العثمانية، فضلًا عن تمركزه في جامعات المسلمين الكبرى كالأزهر والقرويين والزيتونة وجامع الأمويين والقسطنطينية، ولاسيما الأزهر حاضرة المسلمين العلمية، وأعلام هذا

الاتجاه يمكن تصور موقفهم في ثلاثة مسارات: الأول: وهو الموقف السلبي، الذي آثر السكوت وعدم الانشغال بهذه المستجدات مع تفرغه للعلوم التي برع فيها بالتدريس والتأليف، وربما كان هذا حال جمهورهم، ومن يطّلع على وفيات الأعلام الذين ذكرهم الجبرتي، ويطلع على ما ذكر عنهم من نشاط وتأليف، يجد ابتعادها عن هذه المستجدات، وقد سبق الحديث عن بعض أحوالهم في أثناء الحديث عن دور الأزهر. والثاني: المائل إلى الموقف العصراني، وكان فيهم من تحوّل إلى رمز من رموزه بعد أن كان محسوبًا على القسم الأزهري المحافظ، وهؤلاء سيأتي الحديث عنهم وعن منهجهم. وأخيرًا: هناك مسار مهم لمجموعة من العلماء والفضلاء سلكوا طريقًا وسطًا داخل مذهبهم، فهم متمسكون بالمذهب الأشعري والتصوف مع دعوتهم إلى إزالة ما التصق بهما من انحرافات ولاسيما في باب التصوف، وهم مع ذلك أهل علم في العلوم الشرعية أو أحدها: كالتفسير أو الحديث أو الفقه وغيرها، وكان لهم مواقف حسنة من التحديث والعلوم الجديدة والحضارة الغربية، وفي هذا الموضع بالذات لم يكن بينهم وبين علماء الاتجاه السلفي خلاف، بل كانوا كالجيش المسلم الذي يختلف جنده أحيانًا في بعض تصوراتهم ولكنهم يتفقون على هدف يهدد كيان الأمة الإِسلامية، لهذا نشترك وإياهم في كثير من الخطوط حول الموقف من العلوم الجديدة ومناهجها ونظرياتها وإن كان هناك اختلاف في أبواب أخرى، ولاسيما فيما يتعلق بمذهبهم الكلامي والصوفي. فإذا جاء لأحدهم موقف حسن من العلوم الحديثة يتفق مع موقف الاتجاه السلفي فإني أجعله ضمن الاتجاه السلفي في موقفه هذا مع بيان مذهبه الاعتقادي، ولاسيما أن مجموعة من متأخريهم قد وسعوا مصادر تلقيهم، فتجد أنهم قد عاشوا في بيئة "كلامية - صوفية" ثم اطلعوا على "السلفية" ومذهبها فتأثروا بذلك واستفادوا من أعلامها ولاسيما شيح الإِسلام ابن تيمية ومدرسته العظيمة، ومع ذلك لم يتخلصوا من كل مواد بيئتهم القديمة، لهذا أجد لنفسي العذر في وضع هذه الاجتهادات في إطار واحد وإن كانت تختلف في قوتها ومنزلتها، ويوجد في هذا الباب شخصية مميزة وغريبة، مما يجعلني أخصها بفقرة قبل الحديث عن الاتجاهات الثلاثة "السلفي - العصراني - التغريبي" وهو الشيخ "حسين الجسر".

مشروع الشيخ حسين الجسر: يشكل دخول ثقافة أجنبية على ثقافة أمة تمرّ بمرحلة ضعف ظاهرة خطيرة لما في ذلك من تهديد لهويتها، وقد كان هذا حال أمتنا في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر؛ فحركة الإصلاح والتجديد الديني التي ابتدأها الإمام المجدد محمَّد بن عبد الوهاب -رحمه الله- في القرن الثاني عشر قد حُوصرت، وحوربت، وقضي على تمثيلها الاجتماعي، وإن كانت تتسع على مستوى نخب المجتمع الإِسلامي عبر اقتناع علماء وفضلاء بها، فحُرمت دعوة الإصلاح والتجديد الديني من مواصلة نموها حتى تستعيد أمتنا قوتها وعافيتها. وفي أثناء ذلك حدث التدخل الثقافي الأجنبي "الغربي" الخطير إلى أمة تحاول أن تتعافى وتنطلق من جديد، وقد تسبب مجيء هذا التسرب الثقافي وقت محاولات النهوض في التفات البعض إلى هذا المُنتج الثقافي والأخذ به والتأثر بمواده وموضوعاته. أصبحت المدارس المشهورة والصحافة الذائعة والمنتديات المهمة والجمعيات الخطيرة تتولى نشر هذه الأفكار الثقافية الأجنبية بسبب إدارة الأجنبي لها، ووصل الأمر إلى انتشار أفكار جديدة تتصل بأغلب الموضوعات الدينية يغلب عليها التلبيس وإثارة الشُبه. وإذا كانت الشُبه القديمة التي نشأت بسبب الاحتكاك بثقافات أجنبية قد عالجها علماء الإِسلام، فإن الفكر الغربي الحديث قد أوجد أشياء جديدة تحتاج -بعد أن انتشرت- إلى معالجات جديدة، وقد كان أخطرها ما يُدّعي ارتباطه بالعلم، حيث كانت هناك موضوعات ومسائل متناثرة نجدها هنا وهناك دون أن يمثلها تيار واضح كما حدث فيما بعد في القرن الرابع عشر/ العشرين، ولكنها كانت بمجموعها تمثل شكلًا جديدًا يشارك إن لم ينافس التصور العقدي عند المسلمين، ومن الطبيعي وجود علماء وفضلاء يحاولون الرد على تلك المسائل عندما يُستفتون أو يُسألون ولكنها كانت اجتهادات جزئية لم تتحول إلى مشروع متكامل، باستثناء ما قام به جمال الدين الأفغاني والشيخ محمَّد عبده في مواجهة المستجدات الفكرية، ولاسيما ما ارتبط منها بالعلم الحديث، ورغم مكانة الدور الذي قاما به فإنه بقي في باب العموميات، يبحث العلاقة بين الدين والعلم في العموم، بحيث يؤكد أن الإِسلام هو مع العلم فكيف يقال: إنه يتعارض معه! ويؤكد أن أمة الإِسلام هي أمة العلم، وأن الضعف الذي هي فيه لا علاقة له بما يثيره الغرب من أننا

أمة ضد العلم وإنما هو بأسباب سياسية واقتصادية وخارجية. أما أول مشروع علمي وفكري إسلامي استوعب المشكلة ورصدها بكل أبعادها وحاول معالجتها في رؤية متكاملة فقد كان مع الشيخ "حسين الجسر"، أحد أبرز علماء الشام وفضلائها، الذي عاش مرحلة التحولات الكبيرة على المستوى الفكري والسياسي آنذاك (1261 - 1327 هـ -1845 - 1909 م) وأخرج في ذلك كتابيه المشهورين: "الرسالة الحميدية في حقيقة الديانة الإِسلامية وحقيقة الشريعة المحمدية" التي أتمها في رمضان (1306 هـ - 1887 م) و"الحصون الحميدية للمحافظة على العقائد الإسلامية" جاء بعد السابق دون تاريخ. جاء هذا المشروع قبل تميّز التيار التغريبي في جمعيات وأحزاب ومنظومة فكرية متكاملة من مفكرين وأفكار ووسائلهم التعبيرية وموضوعاتهم التي تمثل منهجهم ودعوتهم، كما أنه أول مشروع قدّمته الاتجاهات الدينية بمثل هذا الشمول، ولاسيما في أبواب العقائد وعلاقتها بالعلم الحديث، وحقق شهرة كبيرة لدرجة تصدّره ليكون المنهج العقدي في منظومة التعليم العثماني. نجد في هذا النموذج لمشروع الجسر المحاولة الإِسلامية الأولى دون أن تتميز ملامح اتجاهها نحو أي مذهب من مذاهب المسلمين، مع أن صاحبها يكاد يكون موغلًا في التصوف وملتزمًا تمام الالتزام بالمذهب الأشعري، ومع ذلك فإن موقفه من العلم الحديث -وإن أثّرت في بعض مفاصله طريقته الصوفية ومذهبه الأشعري- فيه الكثير من العناصر التي تجعله ممثلًا للفكر الإِسلامي عمومًا في مقابل التغريب والفكر الوافد، وعنده مجموعة مهمة من الرؤى الاجتهادية التي لا اعتراض عليها عند المذاهب الأخرى، ولاسيما الاتجاه السلفي. وبما أنه المبادرة الإِسلامية الأولى الشاملة فسأقف مع تفاصيلها المهمة: ما المشكلات التي وجدها انتشرت في الأمة الإِسلامية ضد الدين وتزعم علميتها؟ وما الطريقة التي عالج بها تلك المشكلات؟ لنخرج منها إلى التمايزات الواضحة بين ثلاثة مناهج جاءت بيّنة في القرن الرابع عشر الهجري. يذكر الدكتور "فهمي جدعان" في دراسته الشهيرة عن "أسس التقدم عند مفكري الإسلام" أن المشروعات الفكرية السابقة لمشروع "الجسر"، ولاسيما

"الأفغاني وعبده"، لم تكن قادرة على حل "مشكلة العلم الحديث" الذي غزانا الغرب به في عقر دارنا "لا في صورة منجزات مادية جزئية عجيبة وفعّالة -فهذا لا يجلب بادئ ذي بدء سوى الدهشة والإعجاب اللذين ما يلبثان أن يتبددا بأثر العادة والإلف- ولكن في صورة "نظريات علمية" لا تبعث على الدهشة فحسب، وإنما تبعث أيضًا على تعديل أو تغيير أو قلب "أنماط التفكير" و"طرائق النظر" لدى أولئك الذين تغزو هذه النظريات عقولهم"، إلى أن قال: "ولقد كان المفكر السوري حسين الجسر الطرابلسي. . . هو الذي تصدى لمجابهة العلم الحديث في صورة أشهر نظرياته في القرن التاسع عشر: النظرية "النشوئية" الدارونية" (¬1). المؤهلات والآمال: جاور الشيخ "الجسرُ" الأزهرَ سنوات، ثم عاد إلى طرابلس، وكان على مقربة من مدارس الإرساليات وعلى اطلاع بأحوالها، فكوّن بذلك رصيده العلمي الجامع بين العلوم الإِسلامية -حيث كان أحد أعلامها آنذاك- وبين العلوم العصرية عبر جهده الشخصي حيث كان قد حصل منها على ما يجعله قادرًا على فهم فوائدها وإدراك مشكلاتها، وعن ذلك يتحدث الشيخ "محمد رشيد رضا" عن شيخه "الجسر": "وتخرجت في العلوم العربية والشرعية العقلية على الشيخ حسين الجسر. وكان له إلمام واسع بالعلوم العصرية كما يعلم من كتابه "الرسالة الحميدية" (¬2)، وقد تفرغ للعلم وتعليمه وكان رأيه بحسب كلام رضا: "أن الأمة الإِسلامية لا تصلح وترقى إلا بالجمع بين علوم الدين وعلوم الدنيا على الطريقة العصرية الأوروبية" (¬3)؛ ولذلك أسس مع آخرين "المدرسة الوطنية الإِسلامية وهي أرقى من المدرسة الرشدية وجميع التعليم فيها باللغة العربية إلا اللغتين التركية والفرنسية، وتدرس فيها العلوم العربية والشرعية والمنطق والرياضيات والفلسفة الطبيعية" وكان هو مديرها (¬4)، وكان يأمل من هذه المدرسة خروج جيل جديد قادر على النهضة بالأمة، ولكن المدرسة لم تلق الدعم من السلطنة، فأقفلت ¬

_ (¬1) أسس التقدم عند مفكري الإِسلام، د. فهمي جدعان ص 214 - 215. (¬2) السيد رشيد رضا أو إخاء أربعين سنة، أرسلان ص 39. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 36. (¬4) انظر: السيد رشيد رضا أو إخاء أربعين سنة ص 35.

وتفرق طلابها، ومنهم العلم البارز الشيخ "محمَّد رشيد رضا". وقد كان يريد من هذه المدرسة تدريس العلوم النافعة بروح إسلامية، فلا يتخرج طلاب المدارس العصرية بروح معادية للدين، ولذا كان يرد على من يقول "بأن من يدخل هذه المدارس التي تدرس علوم الكائنات هذه "يخرجون بعد درسها ومعرفة أسسها مارقين من الدين الإِسلامي مروق السهم من الرمية"، فلا يرجع ذلك إلى دراسة هذه العلوم في ذاتها، وإنما إلى عدم وجود المرشد الذي يكشف في مظاهر الموجودات، عن علتها الحقيقية وعن مصدرها الفعال. فالذي يحدث هو أن تدريس هذه العلوم يناط بمعلمين يرددون القول: إن هذه المظاهر إما إلى الطبيعة أو إلى المادة وحركة أجزائها أو إلى النواميس نفسها وكفى. والذي ينبغي قوله هو أن هذه الأمور كلها ترتد إلى علة أولى أو إلى الله. أما ما ينبغي فعله فهو أن يقوم في المدارس معلمون أحكموا العلوم الدينية والعقلية والطبيعية على حد سواء. فهذا يمكن حفظ العقائد من الزيغ والفساد" (¬1). فهو يرى أهمية المدرسة العصرية ويلقي بالثقل على المعلمين، والحقيقة أن المشكلة أبعد من ذلك، فإن العلوم ذاتها تحتاج إلى إعادة تبيئة؛ لأننا قد لا نجد دائما ذاك المدرس المميز الذي يشترطه الشيخ، فكان من المهم أن تكون العلوم ذاتها متوافقة مع هُوِيَّة الأمة. ولكن المؤسف أنك تجد الشيخ، وكأنه يتحرك لوحده، فالمشروع ضخم، والآمال كبيرة، وفي المقابل التفاعل الإيجابي من قبل السلطة والمجتمع لم يكن في حجم الخطر ولا في حجم آمال الشيخ. المشروع الفكري: عند العودة إلى إنتاجه المهم في مشكلة العلاقة بين الدين والعلوم الحديثة في أحد كتابيه: "الحصون الحميدية" أو "الرسالة الحميدية" نكتشف صدى المشكلات التي انتشرت في زمنه من جراء اقتحام هذه العلوم ومناهجها ونظرياتها والمنظومة الفكرية العملاقة التي خلفها، كما نكتشف شجاعة الشيخ في مواجهة المشكلة بحسب الاستطاعة، وما قَدَّمه من رؤى حول كيفية العلاقة بهذه العلوم، ولاسيما ما انتشر في زمنه من اكتشافات علمية أو نظريات أو غيرها، وسألخصها في الفقرات الآتية: ¬

_ (¬1) عن أسس التقدم عند مفكري الإسلام، جدعان ص 222 - 223.

1 - الاستئناس بالعلم في توضيح العقيدة أو الدفاع عنها. 2 - بناء منهج حول الموقف من النظريات بأداة كلامية أشعرية في الغالب. 3 - مناقشة أشهر النظريات وشبهاتها. 1 - الاستئناس بالعلم في توضيح العقيدة أو الدفاع عنها: كان المعهود في الفكر الإِسلامي عند التأليف في العقائد أن تُذكر الأصول العقدية وأدلتها من الكتاب والسنة ومذهب السلف فيها، ويذكر ولاسيما لدى المتأخرين توضيحات عقلية تؤكد صحة هذا المعتقد وردود عقلية على النافين والمعطلين، وتبقى هذه العقليات أمورًا نظرية تتفتّق عنها أذهان العلماء وأرباب المذاهب، وبسبب انتشار "علم الكلام" فقد كان الكثير منها مبنيًّا على أصول عقلية اتفق عليها أرباب الكلام، وان كان لا يُسلّم لهم غيرهم بها، وقد تكشف مع الزمن عقم الكثير منها وضعفها، بل فساد عدد من أصولها، ولاسيما بعد نقد أهل السنة لها، وأجمع ما أنتجه أهل السنة من نقد لها في عصورهم الأخيرة هو الجهد الذي حققه شيخ الإِسلام ابن تيمية ونخبة من العلماء في القرن الثامن الهجري. اختلف الحال في العصر الحديث، إذ أصبحت الشُبه الجديدة تدّعي ارتباطها بالعلم، فهي ليست تصورات عقلية لا يمكن تصورها إلا في ذهن صاحبها، ومن اتفق معه عليها، وإنما هي تصورات علمية عمدتها الملاحظة والتجريب والحس، يتفق عليها كل من لديه قدرة على ممارسة العلم والتأكد بنفسه، هكذا يُوهمون الناس، وقد استشعر الشيخ "الجسر" هذه المشكلة، مما يعني عدم الاكتفاء بذكر أدلة عقلية تؤيد العقائد أو عقلية تبطل كلام المخالفين، وإنما نحن في حاجة إلى أدلة علمية أيضًا تؤيد العقائد وأخرى تبطل كلام المنحرفين، وفي ذلك يقول الجسر بعد أن ذكر آثار الترجمة القديمة وظهور الشبه ورد العلماء عليها: "وقد استمر الحال على هذا المنوال، إلى أن ظهرت في هذه العصور الأخيرة الفلسفة الحديثة، التي خالف فيها أربابها طريقة أسلافهم الفلاسفة المتقدمين، واعتمدوا في ذلك أصولًا في الرياضيات والطبيعيات لم تكن تعرف قبل هذا الحين، وانتشرت هذه الفلسفة بواسطة المطبوعات بين أهل الإِسلام، ونشأت عنها شبه لم تكن معهودة في غابر الأعوام، وصار كل عاقل

يخشى على إيمان الضعفاء من غوائل هذه الشبه الجديدة، فتجدد الاحتياج إلى استئناف الردود السديدة، وتأليف كتب في حفظ الإيمان مفيدة" (¬1)، والجديد هنا أن أصحاب الشُبه الحديثة قد اعتمدوا على ثمرات العلم الحديث، ولاسيما الرياضيات والطبيعيات. ومن بين الأمثلة التي توضح "المقصدين" عند الشيخ -أي: تقريب بعض مسائل العقيدة بأمثلة علمية، أو الرد على الشبه حول العقيدة أيضًا بأمثلة علمية- ما نجده في باب المعجزات، فإنه بالعودة إلى كتب العلماء قديمًا نجد أدلتهم والشبه التي عالجوها والردود التي ذكروها، ولكن مع الاختلاف الذي حدث أصبح الشيخ يبحث في العلم الحديث ما يؤكد أن الدين الذي ذكر "المعجزات" وآيات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يعارضه العلم، بل فيه ما يدلّ عليها، ولو من باب الأولى وبإمكانه وجوازه. ومن المعجزات التي ذكرها "نبع الماء من الحجر" عندما ضربه موسى -عليه السلام- بعصاه بأمر الله تعالى، فإن كان منكرها ممن يؤمن بالله وتمام قدرته "فيكفيه لتصديق هذا الأمر أن يتصور أن نبع الماء من الحجر له طريقان جائزان: الأول: "أن الله سبحانه يخلق ويبرز من العدم مقدارًا من الماء يكفي بني إسرائيل، ثم يجعل سبيل بروزه في مشاهدتهم من الحجر عندما يضربه موسى"، وربما الشيخ يعلم أن هذا التصور مما يرفضه أصحاب العلوم الحديثة المعلمنة، لذا انتقل إلى الثاني: "أن يحول الله تعالى الهواء ماء، ويجعل سبيل بروزه في المشاهدة أيضًا من الحجر، وتحول الهواء ماء وعكسه هو من الأمور الجائزة التي دخلت تحت تصرف قدرة الكيماويين كما يعلم من فن الكيمياء، وفي هذا العام قدروا أن يحولوا الهواء سائلًا من السائلات، فما بالك بقدرة من خلق الكيماويين وجميع أعمالهم؟ " (¬2). فالشيخ هنا يُقرّب المعنى بهذا المثال، وإلا فهناك فرق بين المعجزة التي لا يستطيعها أحد من البشر، وبين عمل الكيمائيين في تحويل الغاز إلى سائل، فهو ¬

_ (¬1) الحصون الحميدية للمحافظة على العقائد الإِسلامية، الشيخ حسن الجسر ص 4. (¬2) الحصون الحميدية ص 58 - 59 مع تصرف يسير. وانظر: أمثلته الأخرى بقية الفصل الثاني من الباب الثاني.

يقرب للشكاك معنى تلك الآية معتمدًا على الاكتشافات العلمية الحديثة، وفي الوقت نفسه يرُدّ على الطاعنين عن طريق قياس الأولى والجواز العقلي. ومن الملاحظ أن طريقة الشيخ هذه ستصبح أسلوبًا لبعض أهل التفاسير المعاصرة، فيستفيد أصحابها في أثناء تفسيرهم للآيات الكونية وعالم المخلوقات الواردة في القرآن من المستجدات العلمية من باب الاستئناس، وتقريب المعنى وتوضيحه، فمنهم الغالي في ذلك كالشيخ "طنطاوي جوهري" ومنهم المعتدل وهم الأكثر (¬1). وقد كان الشيخ الجسر يعرض ذلك بحذر وحيطة وأحيانًا حتى في الأمور الواضحة، ويُحمد له من جانب؛ لأنه لم يتوسع التوسع المتسرع، ولكن قد يُؤخذ عليه توقفه في الأمور الواضحة، ومن ذلك ما نبّه إليه تلميذه البارز الشيخ "محمَّد رشيد رضا"، حيث ذكر أن شيخه سأله عن رأيه في "الرسالة الحميدية" قائلا له: إنه يعجبني من بين أولادي فهمك ورأيك، فقال "رضا": "إن الحاجة إليها لشديدة، ولم يسبق مولانا أحد إلى مثلها في الدفاع عن الإِسلام، ولكن لي عليها أنكم توردون المسألة القطعية في العلم ككروية الأرض ودورانها بعبارة فرضية تدل على شككم فيها. قال: أنت تعلم تعصب الجاهلين بهذه العلوم في بلادنا، فلا نترك لهم مجالًا للقيل والقال. قلت: إذا كان مثلكم في ثقة الأمة بدينه وعلمه لا يجرؤنا على التصريح بالحقائق فممن نرجو هذا؟ " (¬2). وقد تُضاف مشكلة أخرى تكبر مع الزمن هي نفس ما امتدح الشيخ "رضا" شيخه بها، وهي كون المشروع من منطق دفاعي، وهذا المنطق يُبقي صاحبه دائمًا في انتظار هجمات المهاجمين وهو فقط يدافع، فينشغل طوال العمر بالمدافعة، ومع ذلك فإننا وإن استشعرنا مأزق الدفاع، فإنه لا يمكن التهوين من فائدته وأهميته وحاجتنا إليه، بشرط أن لا يكون هو منطقنا السائد. 2 - بناء منهج حول الموقف من النظريات بأداة كلامية أشعرية في الغالب: أصعب عمل يواجه أي صاحب مشروع فكري هو تكوين منهج للتفسير أو ¬

_ (¬1) انظر: التفسير العلمي للقرآن في الميزان، أحمد أبو حجر، الفصل الثاني والثالث من الباب الثاني. (¬2) السيد رشيد رضا أو إخاء أربعين سنة، أرسلان ص 45.

منهج لمعالجة مشكلات فكرية، وقد حاول الشيخ -بالاعتماد على تركة كلامية أشعرية في المقام الأول- بناء منهج يستفيد منه المسلم في فهم المسائل العلمية التي لها صلة بأبواب دينية، ولاسيما في الباب الذي يوهم التعارض مع الدين أو الطعن فيه. يواجه الشيخ مشكلة واضحة أثارها أصحاب الأفكار الجديدة مع زعمهم أن العلم يؤيدهم في ذلك، وهي بارزة مع أصحاب المادية النشوئية: فهم يرون أن ما تضمنته الشريعة المحمدية "من بعث الإنسان بعد الموت ووجود دار للنعيم ودار للعذاب ووجود الملائكة والجن والسموات والعرش والكرسي واللوح والقلم وأفعال الملائكة العظيمة وأمثال ذلك. . . . أنه لا دليل عليها في علومهم. وما يبدو منها خارقًا للنواميس الطبيعية ترفضه هذه العلوم وتراه ممتنعًا" (¬1)؛ أي: إننا أمام قضايا اعتقادية لها حالان: 1 - إما أنه لا دليل من العلوم عليها، مثل الأمور الغيبية. 2 - أو أن الأدلة العلمية ضدها، مثل المعجزات والكرامات وما في بابها. فإذا كانت هذه الحال قد انتشرت بين الناس وأثّرت في بعضهم، فإن المطلوب من العلماء تحقيقًا للواجب المناط بهم والمسؤولية الملقاة عليهم أن يعالجوا هذه المشكلة، وسيكون أمامهم: أولًا، تذكير الناس أن العلم الحديث ليس الدليل الوحيد على الحقائق، فعلى افتراض أن العلم الحديث لم يدل على كثير من مسائل الغيب، فإن عدم دلالته عليها ليس دليلًا على عدمها، فإن الله سبحانه قد أرسل رسله وأنزل كتبه، وعلمنا علم اليقين صدقهم وأنهم من عند الله سبحانه، وأن ما جاءوا به هو الحق. ثانيًا، وربما يكون الأخطر، وهو إزالة شبهة أن العلم ضد بعض المسائل والأصول الدينية. وبالعودة لمنهج الشيخ الذي قدمه نجده يرجع لطريقتين: "الرد أو التوفيق"، "رد شبه عن نصوص شرعية تعتمد في الاعتقاد، أو التوفيق بينها وبين ما ثبت ¬

_ (¬1) انظر: الرسالة الحميدية ص 148 ص 228 - 229.

بالدليل العقلي القاطع مما ينافى المعاني الظاهرة لتلك النصوص" (¬1)، فما كان شبهة فحقه الرد، وما كان حقيقة بدليل قاطع وخالف ظاهر النص فحقه التوفيق بينه وبين النص. ليست مهمة الرد على الشبهات عملية هيّنة، فإن الشبهات قد اكتسبت في العصر الحديث من الزخارف ما يجعلها قوية الإقناع، قوية التغلغل، قوية التأثير، خطيرة الأثر. وليس المقصود بالرد هنا عدم قبولها أو تكذيبها فقط، وإنما المقصود قدرة الناقد على إثبات بطلانها في ذاتها، واقناع من تأثر بها بعدم صحتها، وإزالة الافتتان بها، بحيث يتحقق في الرد مجموعة مستويات "من تقرير المسألة بالدليل النقلي والعقلي، وإماطة ما يعرض من الشبه على المسألة، وتحقيق الأمر على وجه يخلص إلى القلب ما يبرد به من اليقين، ويقف على مواقف آراء العباد في هذه المفازة" (¬2)، فمثل هذا الرد وبهذه المستويات يكون المشروع النقدي ذا قيمة وأثر، ولا شك أن الشيخ قد بذل جهده في مشروعه، أما حجم نجاحه في ذلك فيحتاج إلى دراسة مستقلة، ولكنه قد حاول، ويبقى الأبرز في مشروع الشيخ هو الجانب الثاني منه، أي محاولة "التوفيق" في كثير من المسائل بين النصوص الشرعية أو العقائد الدينية وبين العلم الحديث، ولاسيما العلوم الطبيعية من ذلك وفيزياء وكيمياء وعلم الأرض وما في بابها مما عرف منها في زمانه. معالم المنهج التوفيقي عند الجسر: 1 - النصوص التي اعتمدها الشيخ هي الآيات القرآنية وبعض الأحاديث النبوية، وإن كان قد استثنى حديث "الآحاد" واعتمد "المتواتر" وإلى حدٍ ما "المشهور" (¬3). وفي هذا الجزء بالذات يرفض الاتجاه السلفي هذه القسمة الاصطلاحية إذا كانت ستؤدي إلى قبول أحاديث، وإبعاد أخرى بغير حق؛ أي: القسمة إلى متواتر وآحاد، فما جاء عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو حق إذا صح سواء كان ¬

_ (¬1) الحصون الحميدية، الجسر ص 148. (¬2) مستفاد من كلام لشيخ الإِسلام ابن تيمية في الفتوى الحموية ص 517 - 518، وانظر: ص 269 و 276، بتحقيق حمد التويجري. (¬3) انظر: الحصون الحميدية ص 148.

متواترًا أم آحادًا (¬1). 2 - "يجب عينًا -في كل نص- أن نعتمد معناه الظاهر المتبادر منه، ولا يسوغ لنا تأويله وصرفه إلى معنى آخر غير متبادر، إلا إذا قام دليل عقلي قطعي يناقض معناه الظاهر، فحينئذ يكون قيام ذلك الدليل العقلي قرينة دالة لنا على أن معناه الظاهر غير مراد للشارع، بل مراده معنى آخر غير ما يتبادر منه، فنؤول النص حينئذ، ونصرفه إلى معنى آخر غير الظاهر المتبادر على سبيل الاحتمال، يكون قابلًا له، وغير مناقض لذلك الدليل العقلي القطعي. هذه هى القاعدة الكلية في النصوص الشرعية التي اعتمدها أهل السنة والجماعة" (¬2). وهذا من أحسن مواقف الشيخ مع التنبه إلى أن كثيرًا مما ظنّه المفكرون دليلًا قطعيًا عقليًا قد لا يكون كذلك وإنما هو من الشُبه. وحتى في الأدلة العلمية الحديثة، فإن "العلم الحديث" لا يعترف بمبدأ الدلالة القطعية، والدلالة القطعية أقرب إلى المنهج الصوري الاستنباطي، أما المنهج التجريبي الاستقرائي القائم على جزئيات ونماذج، ثم تتحول إلى تعميم، وتبقى علمية ما لم يحدث ما ينقضها في مستقبل العلم. والسؤال هنا: من المؤهلون الذين سيحكمون أن الدليل المخالف لظاهر النص الشرعي هو قطعي الدلالة؟ وهي مهمة عسيرة، يأتي بعدها المؤهل لصرف اللفظ عن ظاهره، فإلى أي معنى يُصرف هذا اللفظ؟ ففي الآيات المتعلقة بالمخلوقات وللعلم الحديث مقال فيها: هل نصرفه إلى ما دلّ عليه العلم الحديث؟ فالقاعدة التي ذكرها الشيخ قاعدة مميزة، وإنما تظهر الصعوبات في حقيقة قدرتنا على تحديد "الدليل القطعي" المخالف لظاهر النص الشرعي، وإلى أي معنى نصرف اللفظ (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، لابن قيم الجوزية 2/ 526 وما بعدها، وانظر: موقف المتكلمين من الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة. . .، سليمان الغصن 1/ 163 وما بعدها، وانظر: منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة، عثمان حسن 1/ 115 وما بعدها. (¬2) انظر: الحصون الحميدية ص 148 مع تصرف خفيف. (¬3) ذكر شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله- أربعة شروط لصرف النص الشرعي عن ظاهره، انظر: الفتاوي 6/ 360 وما بعدها، وانظر: هذا المبحث عند الأصوليين، شرح مختصر الروضة 1/ 558 وما بعدها، تحقيق د. عبد المحسن التركي، وفي باب العقيدة، انظر: موقف المتكلمين من الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة .. ، د. سليمان الغصن 2/ 798 وما =

3 - إذا قام دليل عقلي ظني -ويدخل فيه العلم الحديث كما هو واضح من أمثلة الشيخ- يعارض النص الشرعي، "فلا يكون ذلك داعيًا لترك الظاهر من معنى النص؛ لأن رفض الدليل الظني لا يوجب رفض العقل، لاحتمال أن هذا الظن باطل في نفس الأمر، فلا ضرورة تدفعنا إلى ترك المعنى الظاهر من النص، فاتباع الدليل الظني وترك ظواهر النصوص يوجب اختباطًا واختلاطًا في الاعتقاد لا يحد، فإن الظنون كثيرة، والاعتقاد في الشرائع وإنما يعتمد فيه اليقين، فكان الصواب أن يتمسك بظواهر النصوص اليقينية الورود، ولا يتحول عنها لمجرد الظنون" (¬1). 4 - التحذير من إحسان الظن مطلقًا في علماء العلوم الحديثة وتقليدهم: فبعد أن بيّن وجوب اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وبين أحكام اتباع العلماء وتقليدهم (¬2)، انتقل بعدها لبيان خطأ تقليد علماء العلوم الحديثة فيما له علاقة بأمور الدين فقال: "فمن هنا يظهر لك خطأ بعض أهل هذا العصر في تقليد فلان الفلكي أو فلان الجغرافي أو فلان الجيولوجي المشهورين في فنونهم في بعض مسائل ربما تكون مخالفة لظواهر نصوص الشريعة التي تعتمد في الاعتقاد"، وبيّن خطورة ذلك فقال: "فهذا الحال ربما يوقع هؤلاء المقلدين في الخروج عن الدين -والعياذ بالله تعالى وهم لا يشعرون". ثم بين سبب وقوعهم في هذا التقليد المذموم فقال: "والذي يوقع أولئك المقلدين في تقليد فلاسفة هذا الزمان في تلك المسائل هو أنهم نظروا لهم أدلة في بعض مسائل فنونهم يقينية قطعية كأدلتهم في المسائل الحسابية والهندسية وبعض التجريبيات الطبيعية المحسوسة، فاغتروا بهم وأوقعهم الوهم في اعتقاد أن كل ما يقوله أولئك الفلاسفة صواب يقيني الثبوت، وأنهم لا يعتمدون في أدلتهم في جميع فنونهم إلا على اليقين". وأجاب عن ذلك فقال: "ولم يدروا أنه يوجد فرق بين أدلة المسائل الحسابية، وما ذكر معها، وبين أدلة كثير من المسائل الفلكية مثلًا؛ بأن تلك ¬

_ = بعدها. وانظر: دعوى التعارض من هذا البحث: الباب الثالث، الفصل الأول. (¬1) الحصون الحميدية ص 149 مع بعض التصرف. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 150 - 151.

يقينية وهذه قد يوجد بينها كثير من الظنون والتخمينات، وقياس الغائب على الشاهد الذي قد يكون في نفس الأمر قياسًا فاسدًا" (¬1)، وهو يُحيل إلى ما هو سائد في المناهج العلمية المعاصرة، أن العلوم التجريبية رغم ضخامة الثمار الناتجة عنها وكثرة الحقائق التي تحويها؛ فإنها نسبية لا تصل إلى الحقائق المطلقة، وهذا في الثابت منها فكيف بغير ذلك ولاسيما بعد ظهور "النظرية النسبية" وأثرها على العلم والمناهج (¬2). ورغم هذا الاتفاق إلا أن الروح المادية الطاغية على طائفة من صانعي العلم الحديث أو الملتفين حوله، تجعلهم يقدمون هذا العلم بصورته النسبية على الحقائق الدينية، مع أن العلم يقبل الملاحظة والتجريب ودخول المختبر، أما الدين وحقائقه فلا نستطيع التأكد منها بمثل ما نتأكد به من المسائل المحسوسة التي يشتغل عليها العلم، وهذا يعني أن العلم يحتاج إلى مظلة جديدة غير تلك المظلة المادية التي أفسدت علاقته بالدين. وانتقل الشيخ بعد جوابه عن شبهة الاغترار بهذه العلوم وأهلها قياسًا على القطعي منها إلى شبهة أخرى، يرددها المقلِّدون لأرباب العلوم الحديثة، وهي دعوى أن هذه المسائل العلمية مجمع عليها عند أهلها، وأجاب الشيخ بجوابين: 1 - أن المسلم مأمور بتقليد إجماع واحد هو إجماع علماء الإِسلام لشهادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنهم لا يجمعون على ضلالة. 2 - أن إجماع علماء علم من العلوم قد يكون مبنيًا على دليل ظني، وهذا لا يفيد عصمة إجماعهم من الخطأ. وذكر نموذجًا لإجماع علماء الفلك قرونًا طويلة على النظرية القديمة، وكم ألفوا فيها من الكتب، وكم دونوا من الأصول والقواعد، وكم صوروا صور الأفلاك، وذكروا لها من الأحكام الطويلة العريضة، فجاء المتأخرون وأبطلوا كل ذلك من أصله، وصار بينهم يُعدّ خرافة من خرافات البشر، وقد كان فيهم من هو مصدق بتلك النظرية، وأنها الحق المطلق ويستحيل عندهم وجود غيرها، وعلى هذا فلابد من تحرير حقيقة ذلك الإجماع، هل هو واقع في المسألة المقصودة، ¬

_ (¬1) المرجع السابق ص 151. (¬2) انظر: الفصل الأول من هذا البحث.

وهل هو قائم على دليل قطعي أم على دليل تجريبي ظني، فإذا تحقق مثل هذا وغيره، عند ذلك نبحث عن المعالجة (¬1). 5 - ليس من مقاصد الشريعة بيان عالم المخلوقات على طرائق العلوم: "فالشريعة المحمدية بل وسائر الشرائع إنما يقصد منها بيان ما يرشد الخلق إلى معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته وربوبيته وإلى كيفية عبادته وأداء شكره، وإلى الأحكام التي توصلهم إلى انتظام المعاش وحسن المعاد. أما تعريف الخلق بمباحث العلوم الكونية من كيفية خلق العالم، وما هي النواميس القائمة في السموات أو في الأرض وأمثال ذلك، فليس شيء من نحو هذا من مقاصد الشرائع، بل هذه المباحث هي معارف تتوصل الناس إليها بعقولهم، فربما ينتفعون بها في دنياهم وربما يكون حظهم فيها مجرد الاطلاع. . . . نعم قد تذكر الشريعة شيئًا منها مجملًا على قدر ما يكون له دخل في مقاصدها الأصلية" (¬2). وفي هذا تنبيه لطيف من الشيخ -وقد سبقه إلى ذلك علماء- إلى الانتباه لمقصد النصوص الشرعية إن ورد فيها شيء من أبواب العلوم، فليس المقصد أن تتحول إلى كتاب في الرياضيات أو الفيزياء أو الفلك، فهذه قد تركها الرب سبحانه لتحصيل البشر ونشاطهم العقلي، وما يُذكر فيه من نصوص لها دلالة بهذه العلوم فمقصدها الأساسي ديني. ومما يستفاد من الكلام السابق أن الانشغال بإيجاد تفسيرات علمية للنصوص الشرعية والغلو في ذلك يخالف مقاصد النصوص ذاتها، كما أن ادعاء المتأثرين بالشبهات -المرتبطة بالتطورات العلمية- ربما كان منبعها أنهم نظروا في النصوص وفهموها بحسب ما تمليه الفلسفات المرتبطة بحركة العلم الحديث، فحكّموا فيها النشاط البشري، فوقعوا في حيرة، بينما النص لم يكن من مقصده كما هو الظاهر من كلام طائفة من أهل العلم أن يكون نصًا في هذه العلوم مباشرة (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: الحصون الحميدية .. ص 151 - 153 ما بين المعقوفتين إضافة من الباحث. (¬2) انظر: الحصون الحميدية ص 153. (¬3) انظر حول هذا الموضوع البحث القيم: التفسير العلمي للقرآن في الميزان، أحمد أبو حجر.

3 - مناقشته لأشهر النظريات وشبهاتها حول الدين "الرد أو التوفيق": بعد أن تحدد المنهج في الأصول المذكورة في الفقرة السابقة جاء دور المناقشة للنظريات والاكتشافات العلمية التي يظهر منها مخالفة لظاهر النص أو لظاهر المعتقد، وليس بالوسع إعطاء تقويم لكل ما قدّمه الشيخ، على أنه لا يُسلّم له بكل ما وصل إليه. إلا أن الفرق واضح بين عصر المؤلف أول القرن الرابع عشر وعصرنا بداية الربع الثاني من القرن الخامس عشر الهجري، فاليوم هناك عشرات العلماء من المسلمين في فنون العلوم المختلفة الحديثة، وهناك إلى جانبهم الجامعات الكثيرة وأساتذتها من المتخصصين في العلوم الشرعية أو العلوم العصرية، وهذا يُسهل الأمر إن وجدت عزيمة وهمة لمعالجة الوضع، ومع هذه الكثرة فإن مشروعات الأمة في مواجهة هذه التحديات ما زالت ضعيفة ودون الأمل. أما في عصر الشيخ فمن النادر أن تجد العالم بالشرع العارف في الوقت نفسه بعلوم عصره وشبهاتها ومشاكلها، ويتجاوز الموقف السلبي إلى الموقف الإيجابي فيجتهد في رفع الشبه ويقرّب المسائل بلغة يفهمها من وقع بين فكي تلك الشبهات، وإنها لمحاولة صعبة وضخمة وشاقة تلك التي قام بها الشيخ لمن تذكّر إمكانيات عصره وتحدياته. لقد مرّ الشيخ وهو يعرض لمجمل العقيدة على أغلب ما أثاره العلم الذي عُرف في زمنه، وناقش كل ذلك مدركًا حدود الإمكانيات ومدركًا الصعوبات، وقد كان لذلك أثره في نفوس المطلعين على مشروعه من ناحية الانتفاع والرد على المخالفين باعتماد كلامه. ظهر العلم الحديث بوضوح في مشروع الشيخ الجسر، وقد أخذ ثلاثة مظاهر: الأول، في أثناء عرضه لبعض موضوعات العقيدة حيث كان يقربها للأذهان ببعض الأمثلة العلمية، وهذا يعني أن العلم يخدم الدين ولا يتعارض معه، والمظهر الثاني يأخذ طابع الرد على من جعل بعض ما يفهم من موضوعات العلم الحديث ضد الدين، والمظهر الثالث عبر سعيه للتوفيق بين ما ظهر منه التعارض بين ظاهر النصوص والقطعي من العلم الحديث. فمن النوع الأول مثلًا تقريب خروج الماء من الحجر في معجزة النبي موسى -عليه السلام- بما اكتشف عند أهل الكيمياء من تحويل الغاز إلى سائل (¬1). ونجد ¬

_ (¬1) انظر: الحصون الحميدية ص 58 - 59.

تقريبه إلى الأذهان حدث رفع جبل الطور بما كشفه العلماء المحدثون من قانون الجاذبية الذي هو أقرب تفسير علمي لحركة الكواكب والنجوم، فالله الخالق لهذا الناموس قادر على خلق مثله يرتفع به جبل الطور، فإنّ حمل هذه الكواكب الضخمة في هذا الفراغ أعظم من رفع جبل (¬1). وتقريب حدث ظهور الدم في الماء ضمن الآيات التي جعلها الله سبحانه لموسى -عليه السلام- مع فرعون وقومه بما كشفه العلماء المحدثون من حيوانات مجهرية، ربما هي تحولت إلى دم بأمر الله سبحانه، وهكذا (¬2). مع تنبيه الشيخ إلى أن المؤمن بالله سبحانه وبكمال قدرته يُسلّم بكل ما جاء به الوحي من هذه الآيات، ولكن الكلام مع من أثّرت فيهم الشبهات، فيريد تقريب ما استغربته عقولهم واشتبهت فيه بأمثلة جاء بها العلم، وهو نفسه الذي يعتمدون عليه في الإنكار. أما الثاني في باب الرد فيكتفي الشيخ أن ما جاؤوا به مسائل ظنية، ولا يجوز تقديم الظني على ظاهر النصوص (¬3). وأما الثالث: في باب التوفيق -وهو الأكثر حضورًا في مشروع الشيخ-، فهو يشعر بثقة الناس في العلوم الحديثة ثقة عمياء، وأن من سيكذبها لابد أن يثبت بطلانها بدليل منها، وليس بدليل خارج عنها، فالقوم لا يقبلون أن يُرد عليها مثلًا بأقوال لعلماء في الشريعة، ولكن أيضًا لا يوجد في المسلمين من عنده قدرة على إثبات بطلان ما يُشتَبه فيه من هذه العلوم من داخلها، فلا يوجد لدينا علماء كبار في هذه العلوم يستطيعون مجاراة أهلها، فيردون عليها إن كانت خاطئة. وبما أن الشيخ لا يستطيع إثبات بطلانها من دائرتها الخاصة فما بقي له إلا وضعها في دائرة الاحتمال، على طريقة: إن كانت صحيحة فالجواب كذا وكذا، مع أن الأولى البقاء مع ظاهر النص، هكذا يردد الشيخ. أكثر ما نجده في هذا الباب هو ما له صلة بعلم الفلك ونظريته الحديثة، فإن القرآن الكريم يتحدث كثيرًا عن هذا الباب، وهو باب ظهرت له علوم مستقلة ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق ص 60 - 61. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 16. (¬3) من ذلك مثلًا موقفه من النظرية الدارونية ولاسيّما في مسألة وجود آدم -عليه السلام-. انظر: المرجع السابق ص 178 - 180، وهي أوسع في الرسالة الحميدية، فهي غالب القسم الرابع (الإيمان والعلم)، ولاسيّما ص 228 - 286.

في الفكر الحديث، وقد ظهر فيها مسائل كثيرة استغلها "الماديون" في التكذيب بالدين ووقعت من نفوس الكثير موقعًا خطيرًا، ولذا جاء دور العلماء في ردّها وبيان الحق فيها بحيث لا يُترك أي طريق لأهل الشُبه. ولست هنا في موضع التقويم لاجتهادات الشيخ، وإنما المقصود اكتشاف أول صورة متكاملة لعرض المشكلة وطريقة المعالجة، والتوقف مع المنهج فقط. فمن ذلك قوله -تعالى-: {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [فصلت: 12]، حيث ذكر أن من أهل العلم من قال إنها مركوزة في السماء، بينما نجد في العلوم الحديثة أنها في فضاء متماسكة بقانون الجاذبية، فيقول: إن ذلك "جائز عقلًا داخل تحت تصرف قدرة الله تعالى، ويكون ذلك الناموس من جملة الأسباب العادية التي وضعها الله في الأكوان، فإذا قام لنا الدليل العقلي القاطع على قيام تلك الكواكب في الفضاء كما يقولون: نتأول النص الذي ظاهره أن الكواكب مركوزة في السماء وهو قوله -تعالى-: {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} بأنه من المحتمل أن يكون مراده تعالى بكونها زينة، أنها زينتها بحسب مرأى الرائين وإن كانت تحتها- كما قال بذلك جملة من علماء الإِسلام. . . ." (¬1). وكما سبق فليس المقصود الوقوف مع ما ذُكر من تفسير للآية، فقد يكون التفسير الراجح مما لا علاقة له بما ورد من مسألة القول بأنها مركوزة، وإنما المقصود بيان المنهج، والأمثلة التي حاول الشيخ معالجتها. ومن الأمثلة أيضًا: هل السماء مرئية كما هو ظاهر النص، أم هي غير مرئية كما هو السائد في العلوم الحديثة، على أن الماديين منهم ينكرونها. والسبع الأراضين على افتراض صحة الأثر المنسوب لابن عباس - رضي الله عنه - بوجود سبع أراضين، فهل هي سبع؟ أم أن المقصود سبع طبقات أو قارات على قول مفسرين؟، وبهذا يرتفع التعارض المتوهم مع العلوم الحديثة. والمثال الأكثر طرافة هو حول "كروية الأرض"، ففي قوله -تعالى-: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30)} [النازعات: 30]، فهناك من قال إن المعنى أنها مبسوطة غير كروية، حيث ذكر أن مذهب جمهور العلماء على أنها مبسوطة، وقال بعضهم إنها كروية (¬2)، ¬

_ (¬1) الحصون الحميدية ص 158. (¬2) انظر: الحصون الحميدية ص 156.

ومما قال: "وأما قول هؤلاء الفلكيين: إن الأرض كرة فبعد إقامتهم لنا الدليل العقلي القاطع الدالّ على كرويتها لا مانع لنا من القول به، ويمكن تأويل النص الذي ظاهره أنها مبسوطة، كقوله -تعالى-: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30)} بأن جعل سطحها صالحًا للسكنى. . . ." (¬1)، مع أن الأخير هو تفسير السلف، وهو ما يوضحه السياق حيث ذكر الرب سبحانه بعدها قوله: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31)} [النازعات: 31] (¬2)، وهنا يظهر ثقل التركة "الكلامية - الصوفية" على الشيخ حتى في الأمور البينة، وهذا ما أخذه عليه تلميذه الشيخ "محمد رشيد رضا" كما سبق. وتوقف الشيخ في بعض المواضع حول مسألة حركة الشمس، فظاهر النصوص أن الشمس هي التي تدور حول الأرض بخلاف النظرية الفلكية الحديثة، فهل هناك تعارض؟ وأجاب عن ذلك جوابه (¬3)، وقريبًا من ذلك جوابه عن غروب الشمس في عينٍ حمئة (¬4). لقد حاول جمع كل ما له علاقة بالنظرية الفلكية الحديثة وأجاب عنها بجواب إجمالي (¬5) لا يخرج عن القواعد التي قد أصلها. ملحوظات حول مشروع الشيخ الجسر: سبق بعض الأمثلة من مشروع الشيخ الجسر، وأختم ببعض الملحوظات حول هذا المشروع المهم: قد يقع الخلاف مع الشيخ حول ما قدّمه من معالجات، ولكن الذي لا خلاف حوله بأن الشيخ قد استوعب مشكلة العلوم الحديثة عندما دخلت إلى العالم الإِسلامي، واستوعب خطورة التوظيفات السلبية والخطيرة التي قام بها المتغربون وأمثالهم للعلم الحديث في نقض الدين، وأنه رغم ثقل التركة "الكلامية - الصوفية" عليه إلا أنه كان مع ذلك معتدلًا في موقفه من هذا الباب على الأقل؛ حيث وافق -بحسب ما أرى والعلم عند الله- الحق في أكثر مواقفه ¬

_ (¬1) المرجع السابق ص 159. (¬2) انظر: تفسير ابن كثير ص 1395 - 1396. (¬3) انظر: الحصون الحميدية، الجسر ص 156، 160. (¬4) انظر: المرجع السابق ص 164. (¬5) انظر: المرجع السابق ص 156 - 158.

من هذا الباب، أما التطبيق وأمثلته فذاك موطن الاجتهادات التي يصيب فيها العالم ويخطئ، ولكن هناك ملحوظات تتأكد هنا وأهمها ما يأتي: 1 - يلاحظ الباحث في منهج الشيخ تعظيمه النصوص بشكل لا لبس فيه، ولكن يكدر على هذا التعظيم موقفه من حديث "الآحاد" الذي لا يتماشى مع ما نلاحظه من تعظيم الشيخ للنصوص. 2 - اكتفاء الشيخ بالمرجعية "الأشعرية" مع أنه كان عليه أن يعتمد على الاتجاه السلفي من أمثال ابن تيمية وابن القيم وغيرهما، لما لهم من جهود هائلة في هذه الأبواب، ويستفيد من جهود الآخرين. 3 - مشكلتا "التجويز والسببية". فهي عند الشيخ تؤثر في مشروعه سلبًا، فقد اتسع "التجويز" عنده على طريقة مذهب المتكلمين، وهذا ما يرفضه أهل العلوم في أثناء المجادلة؛ فإنه عند المجادلة لهم إن قالوا له: إن العلم لا يؤيد هذا الأمر، أجابهم: وما المانع؟ فإن ذلك جائز في التصور العقلي. وهم لا يقبلون إلا بالجائز علميًا، فالجائز العقلي لا يمكن تصور طريقة لملاحظته أو إخضاعه للتجريب ولو في الزمن القادم مع تطور العلم، أما الجائز علميًا فهو قد يكون اليوم في حكم المستحيل لصعوبته، ولكن عند العلماء أمل مع تطور الأجهزة والأدوات والعلوم أن نتأكد من صحته. أما "السببية" فيظهر تأثر الشيخ بمذهبه "الكلامي - الصوفي" في نفيها، مع أنها عمدة في العلم الحديث، فالعلم لا يمكن قيامه في غياب مفهوم العلة والاطراد والسببية، فهو في أثناء حديثه مثلًا عن المعجزة التي كانت لإبراهيم عليه الصلاة والسلام من عدم احتراقه بالنار العظيمة، وهو مثال يجتمع فيه رأيه في الجواز والسببية، فيقول: "فمن يكن مؤمنًا بوجود الإله القادر، ويعتقد أن النار لا تحرق بطبعها، ولا بقوة أودعت فيها، بل إحراقها هو بخلق الله تعالى، وعدم إحراقها من الجائزات العقلية الداخلة تحت تصرف الإله سبحانه، وإن كان ذلك خلاف العادة، فلا مانع يمنعه من تجويز وقوع هذه المعجزة،. . . ."، إلى أن قال: "النار ليست محرقة بطبعها بل يخلق الله تعالى الإحراق عندما تمس شيئًا قابلًا للاحتراق. . . ." (¬1). وهذا الموقف من السببية عند الشيخ نرفضه نحن أهل ¬

_ (¬1) الحصون الحميدية ص 63، وانظر: رأيه في السببية قبل ذلك ص 52 - 55.

السنة، فإن الله سبحانه قد خلق هذه الأسباب وهو الخالق لآثارها، وهي مؤثرة بما جعل الله فيها من قوة (¬1)، ومن المؤكد أن الموقف الخاطئ من السببية سيكون له آثاره التصورية، وقد بلغت درجة من الانحراف مع غلاة الصوفية وأمثالهم في نفي الأسباب الشرعية والكونية. كما أن لذلك أثره في إضعاف الموقف من العلوم الحديثة، فإن أي مُنكرٍ للسببية سيكون موقفه ضعيفًا أمام العلوم الحديثة، مع أن الفكر الحديث قد ظهر فيه مثل هذا المذهب كما عرف عن المشكلة التي أثارها "ديفيد هيوم" حول السببية (¬2). 4 - مشكلة منهج التوفيق. فمع الاحتياطات الواضحة عند الشيخ، إلا أن هناك نقاطًا غامضة هي موطن ضعف في هذا المنهج، فهو لم ينجرف مع طريقة المتكلمين في القول بأنه إذا تعارض العقل والنقل قُدم العقل، وإنما هو يقول: إذا ثبت التعارض مع ظاهر النص ويكرر دائمًا "الظاهر" بدليل قطعي، عندها يجوز التأويل بشروطه. فمن الواضح أن الشيخ أكثر اعتدالًا من سلفه المتكلمين، ومع ذلك نجده أحيانًا يقول بأنه يجب التأويل حتى لا نطعن في الأصل الذي عرفنا به النقل وهو العقل، وسيأتي لهذه الإشكالية عرض مستقل بإذن الله. 5 - إذا سلّمنا بالأهمية لمشروع الشيخ في العلاقة بين الدين والعلم ورياديته المعاصرة، فإننا نختلف معه جذريًا في مذهبه "الكلامي - الصوفي" (¬3)، حيث عرض العقيدة في كتبه على الطريقة الكلامية، وهو مخالف لمذهب أهل السنة. كما أنه يوغل في المسائل التي لها علاقة بالتصوف دون تحفظ، مما يدفع المتأمل في مشروعه إلى الاستغراب من هذا التناقص عند الشيخ: إذ كيف تجتمع العقلانية باللاعقلانية، وكيف يجتمع مثل هذا الإقرار بالعلم مع بعض الخرافات الصوفية، قطعًا إن وقوع الشيخ في هذه المآزق يشوه مشروعه ويضعف من قيمته. ¬

_ (¬1) انظر: الكلام السابق في هذا الفصل عن موقف شيخ الإِسلام ابن تيمية من هذا الموضوع. (¬2) انظر مثلًا: نحو فلسفة علمية، د. زكي نجيب محمود ص 284 وما بعدها. (¬3) أربط بين الاتجاهين: الكلامي والصوفي، وذلك أن أغلب المتأخرين، في هذه المرحلة، يخلطون بين المنهجين، فيكون في معتقده على طريقة المتكلمين، ويكون في مسلكه متبعًا لإحدى الطرق الصوفية، وإلا فالعادة هو الحديث عن أهل الكلام لوحدهم، وأهل التصوف لوحدهم.

ولولا ما أُمرنا به من العدل والاعتراف بالفضل لأهله لتجاهلنا هذا المشروع بسبب هذا التناقص، ولكن الشيخ قام بما لم يقم به غيره، فاستحق فيما أحسن أن نقول: إنه أحسن فيه، والله أعلم وبعباده أرحم. وخلاصة التمهيد أن لبعض الاتجاهات المعاصرة جذورها المنهجية في كتابات العلماء، ولاسيما السلفي والتوفيقي، أما المنهج التغريبي فهو وإن اعتمد في بداياته أو مع بعض مفكريه على الجذور الداخلية إلا أنه غلب على غلاتهم -وهم الأكثر- الانتماء للجذور الغربية، وهي جذور ظهرت بوضوح في أسباب الانحراف بالعلم في الفصلين الثاني والرابع. وبعد أن عرفنا هذه المكونات المنهجية ينطلق البحث الآن مع الاتجاهات الثلاثة البارزة في العصر الحديث، يرصد منهجها ورؤيتها ومواقفها البارزة من العلم الحديث مع محاولة كشف العلاقة التي بينها والنتائج التي وصلوا إليها، وهي الاتجاه السلفي، والاتجاه العصراني، والاتجاه التغريبي.

المبحث الأول موقف الاتجاه السلفي الداعي للتأصيل الإسلامي للعلوم الحديثة

المبحث الأول موقف الاتجاه السلفي الداعي للتأصيل الإِسلامي للعلوم الحديثة الاتجاه السلفي هو اتجاه تبنى مذهب أهل السنة والجماعة في الأصول والعمل والمنهج والقيم والسلوك، ويمكن القول بأنه أول اتجاه شعر بأزمة الأمة، ثم نادى فيها النجاة النجاة. وفي العصر الحديث كان أبرز صوت نذير ذاك الذي ظهر في القرن الثاني عشر للإمام "محمَّد بن عبد الوهاب" -رحمه الله-، فبدأ بتصحيح العقائد وتجديد الدين وإزالة البدع والانحرافات وتأسيس حركة علمية شرعية تجديدية كان لها أثرها الكبير في التاريخ الحديث. وقد عرف القرن الثالث عشر وما بعده ظهور طائفة مميزة من العلماء السلفيين أو المتأثرين بمنهج السلف في الجملة قاموا بجهدٍ كبير في التجديد والإصلاح، بالدعوة إلى التوحيد وإقامة الدين ونبذ الشرك والبدع، مع جهدهم المميز في نشر العلم الشرعي والاهتمام بعلوم الإِسلام من تفسير وحديث وعقيدة وفقه وغيرها، كما أنهم قاموا بجمع مخطوطات العلماء وتحقيقها وطباعتها فضلًا عن قيامهم بالتصنيف والتأليف في فنون العلم، فأحيوا العلوم الإِسلامية ونبذوا عنها الجمود والتعصب وركزوا على العلم والفهم. وعندما بدأت الأفكار الحديثة ومذاهبها -ولاسيما الخبيث منها- تغزو

بلاد المسلمين تصدى لها أعلام الاتجاه السلفي مع غيرهم، إلا أنهم تميّزوا عن غيرهم بسلامة اتجاههم من البدع والانحرافات التي كانت تعيق الغير. وكان من أعلام هذا الاتجاه على سبيل المثال: الشيخ "الألوسي" من العراق، و"القاسمي" من الشام، و"محمد رشيد رضا" ومن حوله في مصر ولاسيما طلابه من "أنصار السنة المحمدية" كالشيخ "محمَّد الفقي" والشيخ "أحمد شاكر" فضلًا عن علماء في الجزيرة العربية وفي بلاد المغرب والهند وغيرها. ويمكن رؤية أربع مراحل لمسيرة هذا الاتجاه في العصر الحديث، كل مرحلة تستصحب مع جديدها ما سبق، ففي المرحلة الأولى جاءت الدعوة للتوحيد ونبذ الشرك لتأخذ بالجهد الأكبر حتى اتسعت حال الصفاء في التوحيد بين الناس. ثم جاءت الثانية لتركز على العلم ونشره مع استصحاب ما سبق ولاسيما في المدن والحواضر. وفي الثالثة جاء دور التركيز على الموقف من الأفكار الجديدة التي ظهرت مؤخرًا، وبيان الحق فيها من الباطل والنافع فيها من الضار. وأخيرًا نحن نعيش في مرحلة الجهد الحضاري الذي يستصحب الثلاث السابقة ويضيف الجهد الحضاري في تقديم رؤية جديدة تنبثق من الإِسلام لتكون البديل عن الحضارات القائمة حولنا والمهددة لوجودنا وحضارتنا، فلم يقفوا موقف المتفرج من التطورات العالمية أو ينهزموا أمامها، فلا الموقف السلبي المنغلق ولا الموقف الاستسلامي المرحب، وإنما رفعوا الدعوة للتأصيل الإِسلامي لكل مفيد وأهم ذلك العلوم الحديثة ومدنيتها النافعة، فمنهجية التأصيل لا ترفض النافع من جهة ولا تؤول النص لموافقة العصر بعلّاته من جهة أخرى، وإنما هو عملية إسلامية حضارية كبرى يعاد بواسطتها تشكيل المنتجات الأخرى النافعة بما يجعلها تنطوي تحت مظلة الإِسلام وتتفق مع رسالته. ولا شك أن هذا الموقف بتصوره ومنهجه يختلف عما يثيره خصوم الاتجاه السلفي، فهؤلاء الخصوم يسعون إلى ربط الاتجاه السلفي -وربما الديني بعامة- بالجمود والخمول واللاعقلانية وغيرها من الأوصاف التي تظهر في ظروف الصراع ثم تتكرس مع الأيام فيظنّها البعض حقًا، ولكن عندما ننظر إلى أعلام السلفيين في القرن الرابع عشر الهجري، عصر احتكاكهم بالوافد الغربي من علوم وحضارة ومدنية وفكر، نجدهم خلاف ما يزعم خصومهم "كالقاسمي، الألوسي، الشنقيطي، السعدي،. . . . " فضلًا عن المعاصرين منهم.

في مرحلة "الدور الحضاري" يبقى أساس التأصيل مرتبطًا بعلماء الشرع وأئمة الدين، وفي الوقت نفسه يتحرك في داخله طائفة كبيرة من المتخصصين وغيرهم، فضلًا عن رموز إسلامية قد تختلف مع الاتجاه السلفي في أبواب، فنقبل حسناتهم ونتلافى أخطاءهم، وهم طائفة مهمة تأثرت من جهة بالاتجاه السلفي مع وقوعهم من جهة أخرى تحت تأثير رموز فكرية معاصرة تزعمها الشيخان: "الأفغاني - عبده" ونشرها "محمد رشيد رضا"، ثم في فترة متأخرة اجتهد في تعديلها. وكلما كانت الطائفة أقرب للسنة كانت أولى بهذا الدور الحضاري، وأهمها في هذا الإطار الجهد الكبير الذي قامت به الجماعات الإِسلامية التي نشأت محاولة لإعادة الناس إلى الدين ومواجهة تيارات الاستعمار والتغريب، وقد بدأت فكرتها مع الشيخ "محمَّد عبده" و"محمَّد رشيد رضا" ثم انتشرت في القرن الرابع عشر الهجري. ومع استحضار هذا الجهد المهم لكل تلك الأطراف، فإن أي باحث منصف لا يغيب عن باله مشكلة البيئة التي عاشوها وتحركوا فيها، مما جعل بدايات مشروعاتهم مصحوبة بضعف أو بأخطاء، نلتمس لهم العذر فيها ولا نتبعهم ونستفيد من جهدهم. في النصف الثاني من القرن الرابع عشر الهجري بدأت معالم التميز تظهر في هذا الاتجاه والأخطاء التي وقع فيها الآخرون تُتَدارك وتتلافى في المشروع الحضاري الإِسلامي، وقلب هذا المشروع يتمثل في "العلم الشرعي" عقيدةً وشريعةً ومنهجًا وقيمًا، وهو المظلة التي تظل ما ينبت في أرضنا الفكرية الجديدة، بدأت مع علماء كبار ثم تحولت إلى مشروعات لبعض الجامعات الإِسلامية وما زالت قائمة، وهي مهمة صعبة وكبيرة وربما تحتاج إلى عشرات السنين، ومع أن مجموعة من كليات تلك الجامعات قامت أساسًا لتغريب المجتمع، إلا أنه بظهور الصحوة الإِسلامية وبجهود العلماء السابقين، جاء التحول المميز فيها نحو المشاركة الحضارية السليمة بدل التوقف أو الاستسلام. وها هي اليوم مشروعات التأصيل الإِسلامي للعلوم الحديثة والمدنية النافعة تنتشر في العالم الإِسلامي بعد أن كانت مشروعات التغريب هي السائدة، قد تختلف في عملها وتتفاضل -بالطبع- مواقفها، إلا أن "الظاهرة" في حد ذاتها ذات دلالات مهمة، أبرزها: أن الأمة الإِسلامية قد تجاوزت مرحلة الانبهار

والتغريب، ومرحلة الهزيمة النفسية، ومرحلة الضعف. وهي الآن تريد المشاركة الحضارية، بل تريد فتح مشروع حضاري جديد بعد أن شاهدت أزمات العالم من حولهم، ويعود ذلك بفضل الله لجهد الفكر الإِسلامي. وبما أن هذا الاتجاه قد تم تجاهله كثيرًا في الدراسات الفكرية، واتُهم باتهامات لا تصح؛ فسأقف مع نماذج مختلفة تُبرز ما أخفي من مواقف جليلة، وترفع ما قيل من اتهامات مزورة، كما أن هذه المواقف لهذا الاتجاه يستعان بها في مناقشة الاتجاه التغريبي ونقده. وسأقف بإذن الله مع مجموعة من أعلام الاتجاه السلفي مستخلصًا شيئًا من منهجهم من خلال موقفهم من العلوم العصرية أو بعض مشكلاتها، وهم: "محمود الألوسي، عبد الرحمن السعدي، محمَّد الشنقيطي، عبد العزيز ابن باز" رحمهم الله جميعًا:

أولا: الشيخ محمود شكري الألوسي

أولًا: الشيخ محمود شكري الألوسي أينما اتجهنا بحثًا عن عالم من علماء السنة لمعرفة موقفه من الحضارة الغربية وما فيها من علوم فإنا سنجده لا يحمل أي مشكلة مع النافع منها، وفي الوقت نفسه يقف سدًا منيعًا ضد الضار منها، وهو ما يؤكد وسطيتهم وسلامة منهجهم ووحدته. ومن بين هؤلاء الشيخ "محمود شكري الألوسي" (1273 هـ- 1856 م) - (1342 هـ -1924 م)، من أسرة علمية معروفة في العراق، الذي نجد فيه نموذجًا من تعامل العالم السلفي مع علم من العلوم البشرية وهو علم الفلك مع لمسه المباشر لآخر نظريات ذلك العلم، وكان ذلك سنة (1339 هـ)؛ أي: قبل وفاته -رحمه الله- بثلاث سنوات تقريبًا، حيث جاء هذا المشروع في آخر حياة المؤلف، ويكفي من الدلالات كون المشروع جاء وقت النضج العلمي من جهة وكونه يستشعر أهمية هذا الباب حتى في فترة الشيب، فيتفرغ لمناقشة علم الهيئة الجديدة في كتابه: "ما دلّ عليه القرآن مما يعضد الهيئة الجديدة القويمة البرهان"، فجمع (¬1) في هذا الباب -الهيئة- الآيات المنتشرة في سور القرآن بحسب ترتيب سورها، وخص منها المشتملة على الأجرام العلوية والسفلية، وذكر فيها أقوال جهابذة المفسرين. يتميز الشيخ الألوسي باطلاع جيد على علم الهيئة كما أنه في الوقت نفسه ¬

_ (¬1) انظر: ما دل عليه القرآن مما يعضد الهيئة الجديدة القويمة البرهان، محمود الألوسي ص 14 - 15، تحقيق محمَّد الشاويش وتخريج محمَّد ناصر الدين الألباني، ط 2، المكتب الإسلامي.

1 - الموقف من النظرية الجديدة في الهيئة

من المبرزين في العلوم الإِسلامية، فهو مهتم بعلم الفلك من جهة (¬1) وهو من جهة أخرى في العلوم الشرعية سليل أسرة علميه ضربت بشهرتها في العالم الإِسلامي، وكان أحد أعلام تلك الأسرة. وعندما نجد عالمًا يتميز بهذا الأمر -معرفة بالعلم الجديد مع تمكن في الشريعة- فلا نجد عنده مشكلة التعارض، ويرتفع عنده ومعه الإشكال. فإن وقع ما يوهم التعارض عندها يظهر التميز لمنهجه السلفي في المعالجة، فهو لا يقدم أي شيء على نصوص الوحي، وهو في الوقت نفسه لا يشكك بالعقل الصحيح الصريح، فإذا "أمكن الجمع بين ما يقوله الفلاسفة كيف كانوا مما يقبله العقل، وبين ما يقوله سيد الحكماء ونور أهل الأرض والسماء، فلا بأس به، بل هو الأليق الأحرى في دفع الشكوك التي كثيرًا ما تعرض لضعفاء المؤمنين. وإذا لم يمكن ذلك، فعليك بما دارت عليه أفلاك الشرع، وتنزلت به أملاك الحق" (¬2). سأقف الآن مع "مسألتين" من بين مسائل كثيرة تعرض لها الألوسي في هذا الباب، ولهاتين المسألتين أهميتهما في بناء المنهج الإِسلامي حول العلوم الجديدة ونظرياتها وهما: 1 - الموقف من نظرية الفلك الجديدة. 2 - السعي إلى التأطير الإِسلامي لهذه العلوم -التأصيل الإِسلامي. 1 - الموقف من النظرية الجديدة في الهيئة: موقف العالم المسلم من العلوم موقف واضح، فالعلم إذا كان صحيحًا أو كان نافعًا فلا اعتراض عليه، وما توقف علماء الشريعة مع بعضها أو مع بعض ما فيها إلا لما فيها من الاقتراب من نصوص شرعية وردت حول أبواب تلك العلوم، يأتي هنا جهد العالم في رفع الإشكال إن وقع، ويكون العالم أقدر على تحقيق ذلك إذا جمع مع تمكنه من العلم الشرعي تمكنه من ذلك العلم الآخر. من مكونات النظرية الجديدة في الهيئة "ثلاث مسائل" توقف معها الشيخ: ¬

_ (¬1) له مع الكتاب السابق كتاب آخر قام بترجمته عن الفارسية في الهيئة لعلي السمرقندي: شارح زيج أُلُغْ بك وهو من كبار المشتغلين بالهيئة في الإِسلام. انظر: محمود شكري الألوسي. سيرته ودراساته اللغوية، محمَّد بهجة الأثري ص 116. (¬2) ما دل عليه القرآن. . . . ص 29 - 30.

"كروية الأرض، وحركتها، وحركة الشمس". عرض الشيخ النظرية الجديدة في أكثر من موضع من كتابه، ومنها أثناء وقفته مع قوله -تعالى-: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)} [الرعد: 3]، وبعد أن عرض صورة النظرية الحديثة (¬1) قال: "هذا ما ذكره علماء الهيئة الجديدة في شأن الأرض. وقد تصفحت القرآن العظيم الشأن، فوجدت عدة آيات نطقت بما يتعلق بالأرض من جهة الاستدلال بها على وجود خالقها وعظمة باريها، ولم يذكر فيها شيء مما يخالف ما عليه أهل الهيئة اليوم" (¬2). وبما أن البعض قد يفهم من "آية الرعد" السابقة أن الأرض غير كروية فقد أجاب الشيخ عن ذلك، وبيّن أنها مع غيرها تدل على كروية الأرض، وهي مسألة أيسر في الحسم من المسألة الثانية: وهي "حركة الأرض" فقال -رحمه الله-: "وهذا أيضًا، لا ينافي حركة الأرض اليومية والسنوية التي قال بهما أهل الهيئة؛ فإن الله تعالى لو لم يخلق في الأرض الجبال لمادت؛ أي: اضطربت. . . . ووجه كون الإلقاء مانعًا من اضطراب الأرض، أنها كسفينة على وجه الماء، والسفينة إذا لم يكن فيها أجرام ثقيلة تضطرب وتميل من جانب إلى جانب بأدنى حركة شيء، وإن وضعت فيها أجرام ثقيلة تستقر. . . . والمقصود أن جعل الرواسي فيها لا يعارض حركتها بوجه من الوجوه، كما أن السفينة إذا كان فيها أجرام ثقيلة تمنع اضطرابها وميلها من جانب إلى جانب لا ينافي حركتها. . . ." (¬3). أما مسألة "حركة الشمس" فقد عرضها في موطن آخر في أثناء توقفه مع آيتين من سورة الكهف، قال -تعالى-: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ} [الكهف: 17]، وقوله -تعالى-: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} [الكهف: 86]، فقال: "فقد أثبت للشمس حركة الطلوع والغروب. ولعلّ ذلك باعتبار نظر الناظر كما في راكب السفينة، فإنه يرى ما على الساحل متحركًا وليس بمتحرك. وكذلك الغروب في عين حمئة، فإن الناظر يراها كذلك إذا وقف على ساحل ¬

_ (¬1) انظر: ما دل عليه القرآن. . . . ص 73 - 74. (¬2) المرجع السابق ص 74. (¬3) المرجع السابق ص 76، مع بعض الاختصار.

البحر. ولعلّ "ذا القرنين" بلغ ساحل المحيط، فرآها كذلك؛ إذ لم يكن في مطمح بصره غير الماء. ولذلك قال: "وجدها تغرب" ولم يقل "كانت تغرب" (¬1). وقد سار الشيخ -رحمه الله- نفس المسار في بقية المسائل، وما عُرض هنا هو موضع الجديد في النظرية، ولاسيما ما أثار الإشكال منها؛ لإبراز موقف الشيخ ومنهجه. والمميز هنا أن الشيخ خصص كتابه بمسائل علم الهيئة التي لها صلة بنصوص شرعية، ولم يكن همه بحث علم الهيئة ذاته، فله كتاب مستقل في ذلك، ترجمه عن اللغة الفارسية، أما هنا فموضوع ديني في المقام الأول. كما أن الشيخ في المسائل التي لم يتأكد من علميتها لم يجزم بقول فيها تأدبًا مع ظاهر النصوص الشرعية، كما هو ظاهر في وقفته مع آية الكهف، وهو متوافق مع منهجه في التبين والتثبت، وقد ذكر الشيخ منهجه بأنه قد رأى كثيرًا من قواعد علم الهيئة "لا يعارض النصوص الواردة في الكتاب والسنة. على أنها لو خالفت شيئًا من ذلك، لم يلتفت إليها، ولم نؤول النصوص الواردة لأجلها. والتأويل فيهما ليس من مذاهب السلف الحريّة بالقبول، بل لابُدّ أنْ نقول: إن المخالف لهما مشتمل على خلل فيه؛ فإن العقل الصريح لا يخالف النقل ¬

_ (¬1) ما دل عليه القرآن. . . . ص 91، وحول هذا المعنى يقول الشيخ محمَّد العثيمين -رحمه الله-: (وفي قوله تعالى: {إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ} {وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ} دليل على أن الشمس هي التي تتحرك، وهي التي بتحركها يكون الطلوع والغروب، خلافًا لما يقوله الناس اليوم من أن الذي يدور هو الأرض، وأما الشمس فهي ثابتة، فنحن لدينا شيء من كلام الله، الواجب علينا أن نجريه على ظاهره، وألا نتزحزح عن هذا الظاهر إلا بدليل بَيّن، فإذا ثبت لدينا بالدليل القاطع أن اختلاف الليل والنهار بسبب دوران الأرض، فحينئذ يجب أن نؤول الآيات إلى المعنى المطابق للواقع، فنقول: إذا طلعت في رأي العين وإذا غربت في رأي العين، تزاور في رأي العين، تقرض في رأي العين، أما قبل أن يتبين لنا بالدليل القاطع أن الشمس ثابتة والأرض هي التي تدور، وبدورانها يختلف الليل والنهار فإننا لا نقبل هذا أبدًا، علينا أن نقول: إن الشمس هي التي بدورانها يكون الليل والنهار؛ لأن الله أضاف الأفعال إليها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - حينما غربت الشمس قال لأبي ذر: "أتدري أين تذهب؟ " فأسند الذهاب إليها، ونحن نعلم علم اليقين أن الله تعالى أعلم بخلقه ولا نقبل حدْسًا ولا ظنًا، ولكن لو تيقنا أن الشمس ثابتة في مكانها وأن الأرض تدور حولها، ويكون الليل والنهار، فحينئذ تأويل الآيات واجب حتى لا يخالف القرآن الشيء المقطوع به). تفسير القرآن الكريم، سورة الكهف، الشيخ محمَّد العثيمين ص 32 - 33، دار ابن الجوزي، السعودية، ط 1، 1423 هـ.

2 - السعي إلى التأصيل الإسلامي لهذه العلوم

الصحيح، بل كل منهما يصدق الآخر ويؤيده" (¬1). 2 - السعي إلى التأصيل الإِسلامي لهذه العلوم: لمس الشيخ هذا المعنى في أكثر من موضع ولاسيما المقدمة، ومما قال: "واعلم أن الشريعة الغراء لم ترد باستيعاب قواعد العلوم الرياضية، إنما وردت بما يستوجب سعادة المكلفين في العاجل والآجل، وبيان ما يتوصلون به إلى الفوز بالنعيم المقيم"، إلى أن قال: "وقد ورد في القرآن الكريم -في بيان ذلك- بما خاطب به العرب، مما يعلمونه من علوم تلقوها خلفًا عن سلف. فقد كانت لهم علوم ذكرناها في الكتاب الذي ألفناه في بيان أحوالهم، كما كان لعقلائهم اعتناء بمكارم الأخلاق واتصاف بمحاسن الشيم، فصححت الشريعة منها ما هو صحيح وزادت عليه، وأبطلت ما هو باطل قبيح، وبينت منافع ما ينفع من ذلك ومضارّ ما يضر منه" (¬2). ثم ذكر طريقة الشريعة في علمين من علوم الهيئة كانت معروفة عند العرب: "علم النجوم وعلم الأنواء" (¬3). وهذا الأمر الذي جاءت به الشريعة مع علم معروف آنذاك هو موطن الاقتداء في التأصيل الإِسلامي، فتصحيح الشريعة لما هو صحيح هو من الدعم والتأييد لهذا العلم وكذا بيان منافعها وتوجيه الناس لها، وفي المقابل إبطال ما هو باطل منها وتحذير الناس من مضارها هو من دفع الناس إلى النافع وترك الضارّ. كانت هذه صورة من جهود عالم من علماء الإِسلام حول ميدان من ميادين العلوم البشرية، فما منعه منزلته في العلم من خوض هذا الباب بعد أن وجد أثر الشبهات على الناس، كما أنه يفتح الباب لموقف جديد يختلف عن الموقف السلبي أو الاستسلامي ألا وهو التأصيل الإِسلامي. ونذهب الآن مع علم آخر من علماء السلفية في هذا القرن وهو: ¬

_ (¬1) ما دل عليه القرآن. . . . ص 12. (¬2) المرجع السابق ص 12 - 13. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 13 - 14، وكتابه حول العرب هو: (بلوغ الأرب في أحوال العرب) كتاب مشهور في ثلاث مجلدات، انظر: محمود شكري الألوسي. سيرته ودراساته اللغوية ص 66 - 74، 114، محمَّد بهجة الأثري.

ثانيا: الشيخ عبد الرحمن السعدي

ثانيًا: الشيخ عبد الرحمن السعدي يعدّ الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي (1307 - 1376 هـ) من أشهر علماء الإِسلام في القرن الرابع عشر الهجري، وأحد أهم العلماء السلفيين من جهة إدراكه حجم المشكلات الفكرية الجديدة، ومن ثمّ إعطاؤها العناية في مشروعه العلمي حتى آخر أيام حياته -رحمه الله-، ومن ذلك الموقف من الحضارة الغربية ومناصحة من افتتن بها. تلقى العلم في القصيم ونبغ فيه ومن عام (1350 م) تقريبًا أصبح المرجعية العلمية هناك (¬1)، ومع أنه أخذ العلم عن عدد من العلماء والشيوخ، إلا أن أهم مصدر للشيخ كان بعد الوحيين كتب ابن تيمية وابن القيم "فأكب عليها مطالعة واستذكارًا وحفظًا وفهمًا وتلخيصًا وشرحًا .. وكان أعظم اشتغاله بها، ولازمها ملازمة تامة طيلة حياته، فتتلمذ بذلك على كتبهما"، وقد كانت له بحسب قول أحدهم صبوحًا وغبوقًا (¬2)، ومن بين أهم آثارها على الشيخ تلك المنهجية في الرد على المخالفين أو في تأصيل القواعد، حيث تظهر للمتأمل أنها مستفادة من كلام الشيخين (¬3). تعد مهمة علماء الشريعة الكبرى هي القيام بهذا العلم، نشره وتعليمه، وتجديد الدين وحث الناس على العودة إليه، وهي مهمة لكل عالم، لكن قد ¬

_ (¬1) انظر: الشيخ عبد الرحمن بن السعدي وجهوده في توضيح العقيدة، عبد الرزاق العباد ص 39. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 35، وصاحب المقولة الأخيرة الشيخ محمَّد القاضي. (¬3) انظر: الشيخ عبد الرحمن بن السعدي وجهوده في توضيح العقيدة ص 37.

يختلفون في طريقة مواجهتهم لمشاكل مجتمعاتهم لتنوع البيئات وتنوع مشكلاتها، وقد رأينا أن ظروف احتكاك البلاد الإِسلامية بالغرب تختلف من مكان لآخر، ومن ثمّ تختلف طرق التعامل. ومع أن بيئة الشيخ -رحمه الله- كانت بعيدة عن مشكلات التصادم مع الحضارة الغربية، إلا أن هناك ما يلفت النظر من جهة اهتمام الشيخ بالموقف من الحضارة الغربية وعلومها وصناعاتها وفنونها العلمية، وعنايته بالرد على شبهات من يرفض أخذ النافع من حضارة الغرب، أو شبهات من يرى أن الدين عائق من التقدم والمدنية، أو من يرى أن الحضارة الحديثة أثبتت عدم الحاجة إلى الدين، حتى إنه في آخر حياته يؤلف حول الموضوع ذاته. عالج الشيخ -رحمه الله- مشكلة العلاقة أو الموقف من الحضارة الغربية في عمومها دون مناقشة للتفاصيل؛ لأن البيئة التي يتحرك فيها لم تعرف المشاكل التفصيلية، فيكون من الترف الفكري -الذي يترفع عنه العلماء- مناقشة ما لا حاجة إليه، أما عموم المشكلة فهي قائمة: إذ كانت البلدان البعيدة عن المراكز الكبرى في العالم الإِسلامي تشهد تحولات كالتي شهدتها المراكز القديمة، ومع هذه التغيرات تبدأ المشاكل بالظهور، عندها يتقدم العلماء الكبار لمعالجتها، ومنهم الشيخ السعدي -رحمه الله-. ومن أهم ما ركز عليه الشيخ: أن نقطة الانطلاق الصحيحة التي لا خلاف حولها تبدأ من الدين: أخذه بقوة والتمسك به، وفي الوقت نفسه ودون أي تردد أو تشكك يقرر الشيخ أن العلوم النافعة الموجودة في الحضارة الغربية يُعد أخذها من التمسك بالدين، وأن الحرص على تعلمها وتطويرها بما ينفع الإِسلام والمسلمين من الجهاد، فيُقفل الباب تمامًا أمام أي تردد في ذلك. ومن العادة وجود أناس -بسبب الجهل غالبًا- يكونون أعداء ما جهلوه، ولكن هؤلاء عادة يسلّمون للعلماء، ومن ذلك قصة الشيخ عندما أدخل مكبر الصوت في المسجد فاعترض عليه البعض واستنكره، فخطب الشيخ وبين دون تردد أن ذلك من الجهاد في سبيل الله فقال: "وكذلك إيصال الأصوات والمقالات النافعة إلى الأمكنة البعيدة من برقيات وتلفونات وغيرهما، داخل في أمر الله ورسوله بتبليغ الحق إلى الخلق، فإن إيصال الحق والكلام النافع بالوسائل المتنوعة من نعم الله". وحتى لا يكون الأمر فقط مجرد استهلاك لمنتجات الحضارات الأخرى، نبه الشيخ -فيما فهمت من نصه- إلى ألّا نبقى

فقط نستنكر مثل هذه المستجدات أو نستهلكها، بل إن "ترقية الصنائع والمخترعات لتحصيل المصالح الدينية والدنيوية من الجهاد في سبيل الله" (¬1). ولا شك أن موقف هؤلاء سيكون أكثر اعتراضًا على العلوم النافعة المعروفة في الغرب، ولذا اعتنى الشيخ برفع الالتباس عندهم في خُطَبه ودروسه وتأليفه، وإن كان حالهم أيسر من حال طائفة أخرى متغربة؛ لأن ما عندهم يزول بالعلم، ولكن مشكلتهم أنهم يُسهّلون مهمة المتغربين، فأهل التغريب يتكئون على مثل هذه المواقف الشاذة لجعلها دليلًا على أن الدين ضد العلم والتقدم والمدنية ويتجاهلون في الوقت نفسه موقف علماء الإِسلام المشهود لهم بالعلم والإمامة في الدين التي تبين الموقف الحق. لم تكن مشكلة نفور بعض الناس من الأمور الحديثة هي ما عالجه الشيخ فقط، بل انصرف أيضًا إلى دعاوى أهل التغريب في موقفهم من الحضارة الغربية القائم على أخذ أسوأ ما فيها من عقائد وأفكار وتصورات وقيم ونبذهم للدين. والشيخ -رحمه الله- يدرك أن الانحراف معروف في الأمة، ولكنه شعر بنوع جديد منه يرتبط بالاتصال الجديد بالحضارة الغربية، وقع هذا الاتصال من أناس عندهم هزيمة نفسية كبيرة، وقابلية ربما للانحراف، وضعف ذاتي أمام تلك الحضارة، فتحولوا إلى أداة هدم للأمة. ومما زاد من ذلك حادثة "القصيمي" الشهيرة: فهي وإن كانت غير مستبعدة نظريًا -أي: أن يوجد من ينحرف-، إلا أنها واقعيًا ولاسيما من أمثال القصيمي تكون ذات أثر خاص، وربما يكون ذلك من الابتلاء للأمة حتى تتحرك في مواجهة التحديات ولا تغفل عنها. وفتنة القصيمي بأنه كان محسوبًا على أهل العلم والفضل، وله جهوده في الرد على الانحرافات بأجوبة قوية ومميزة، ثم ينعطف وهو في هذه المنزلة والمكانة إلى أقصى اليسار في عملية انسلاخ نادرة الحدوث، فيتحول إلى نابذ للدين منكر لأصوله وعقائده وشرائعه، وأنه أغلال في وجه أن نعيش حياتنا ونتقدم كالأمم المتقدمة. يهون الأمر عندما يظهر شخص منحرف من أوساط الناس، أما أن يكون من أهل العلم والفضل فإن في ذلك أثره على واقع البيئة التي ظهر فيها، عندها شعر علماء كبار ¬

_ (¬1) الخطب المنبرية ص 81، عن: الشيخ عبد الرحمن بن السعدي وجهوده في توضيح العقيدة ص 23.

أن بيئتنا غير محصنة، وإذا كان الأمر قد وصل إلى من هو محسوب على العلم وأهله فكيف الحال بغيره، وربما لذلك نجد هذه العناية المميزة من قبل الشيخ في تتبع شبهات المتغربين العامة وإبطالها، مع الحرص على إبراز عظمة الشريعة وحاجة الناس لهذا الدين وبيان كماله وشموله، وحرصه على نقد الإلحاد والملحدين وإبطال شبههم التي يموهون بها على الناس. يفيدنا هذا الموقف من الشيخ أمرًا مهمًا: أن واجب العلماء كبير عندما تنتشر الأفكار المخالفة للإسلام، فعليهم عدم الاكتفاء بنشر العلم الشرعي والإفتاء والإجابة على النوازل الفقهية، بل التصدي في الوقت نفسه للتيارات المخالفة للإسلام، وأن لا يُترك المجتمع المسلم فريسة لشبهاتهم وضحية لدعواتهم، بل يجب الرد والنقد والنصح للخلق، وكان الشيخ -رحمه الله- ممن قام بهذا الجهد حق قيام. إذًا نحن أمام شخصية مدهشة، فرّغ حياته للعلم، نشْر العلم الشرعي، وكذا واجه مشكلات مجتمعه ومشكلات عصره، سواء أكانت داخلية مثل مواقف من تكاسل عن طلب التقدم الدنيوي بحجة أن ذلك من أمور الكفار، أو كانت خارجية وأوجدت لها في بيئتنا أتباعًا مثل مواقف المتغربين، ولأن الموقف من الحضارة الغربية وما فيها من علوم هو موضوع البحث فسأقف الآن حول طريقة الشيخ في هذا الباب. قبل عام تقريبًا من وفاة الشيخ -رحمه الله- وبالتحديد أول سنة (1375 هـ) أخرج الشيخ كتابه الصغير: "الدلائل القرآنية في أن العلوم والأعمال النافعة العصرية داخلة في الدين الإِسلامي"، مع أن الشيخ -رحمه الله- كان يمرّ بمرض يُعطّله أحيانًا، والدروس التعليمية تأخذ أغلب وقته، ومع ذلك كلّه وجد الشيخ أن الموضوع يستحق العناية، والعنوان صريح في موضوعه: القرآن يدل على أن العلوم والأعمال النافعة العصرية داخلة في الدين الإِسلامي، والشيخ يستخدم عادة كلمة (داخلة) مما يدل أنها من الإِسلام ذاته؛ ولذا فهي إذا أُخذت كأنما صاحبها أخذ بجزء من الإِسلام. وإذا كانت داخلة في الإِسلام وجزءًا منه فلا تصح جميع الشبهات من اليمين أو اليسار، ممن يحرمها أو يكرهها أو يتوقف فيها، ظنًا منه أنها ليست من الإِسلام أو أنها ضدّه، وكذلك ممن يعظمها ليصل إلى إبطال الكل بجزء منه، فهي إذا كانت من الإِسلام فكيف يدّعي قوم أنها لا تتفق مع الإِسلام

أو أنها ضدّه أو أنها أهم منه كما هي حال أهل التغريب أو الإلحاد، فالعلوم والأعمال الصحيحة النافعة هي جزء من الإِسلام، جزء من هوية الأمة المسلمة إذا هي فهمت دينها حق الفهم، وصدقت في التمسك به، هل هذا استنباط من الباحث من خلال العنوان أم أن الشيخ يصرح بذلك؟ سننظر الآن إلى أقوال الشيخ واستدلالاته وتعليقاته المهمة لكي نعرف الحقيقة. [مقولة والرد عليها]: نبدأ بمقولة ذكرها الشيخ في آخر كتابه لتكون أول مبحثنا هذا: يقول كثير من الناس: هذا وقت العلم والمعارف والرقي، ومقصودهم بهذا الإعراض عن الماضي وعن علوم الدين والتزهيد فيها، وقد صدقوا من جهة وكذبوا من جهات أخرى" (¬1): 1 - صدقوا أنه وقتٌ ترقّتْ فيه علوم الصناعات والمخترعات، وما يرجع إلى الماديات والطبيعيات، صدقوا أنه الترقي في الماديات. 2 - وكذبوا أفظع الكذب حيث حصروا العلم بهذا النوع، وكذبوا في دعوى نفعها المطلق؛ إذ نبع منها حروب ودمار يعرفه كل متأمل، فما سبب تحولها إلى هذا الدمار؟! وكذبوا في دعوى التقدم المطلق، فما هو إلا ترقٍّ في باب وانحطاط في أبواب. وكذبوا في قولهم: إن الإِسلام لم يذكر هذه العلوم النافعة، ولم يهد إليها، ولم يشر إلى أصولها، فضلًا عن ادعاء التعارض بينها وبين الإِسلام (¬2). وقد جاءت هذه الرسالة "الدلائل القرآنية. . . ." لمعالجة هذا الإشكال، ببيان أن الحضارة الحديثة ترقّت، وأنه ينبغي علينا الأخذ بصور هذا الترقي دون تردد؛ لأن ذلك داخل في ديننا، ودفع كل الشُبَه حول الموضوع، مع التحذير من الأمراض المصاحبة لهذه الحضارة. فهي "رسالة تتضمن البراهين القواطع الدالة على: 1 - أن الدين الإِسلامي -وعلومه وأعماله وتوجيهاته- جمعت كل خير ورحمة وهداية وصلاح وإصلاح مطلق لجميع الأحوال. ¬

_ (¬1) الدلائل القرآنية في أن العلوم والأعمال النافعة العصرية داخلة في الدين الإِسلامي، الشيخ العلامة عبد الرحمن السعدي ص 45. (¬2) انظر: الدلائل القرآنية. . . . ص 45 - 47.

2 - وأن العلوم الكونية والفنون العصرية الصحيحة النافعة داخلة في ضمن علوم الدين وأعماله، وأن هذه العلوم: أ- لا تعارض أو تنافي علوم الدين وأعماله. ب- أن هذه العلوم ليست غريبة عن الدين، بل النافع منها "للدين والدنيا والجماعات والأفراد داخل في الدين، والدين قد دل عليه وأرشد الخلق إليه وإلى كل أمر نافع إلى أن تقوم الساعة". 3 - "وبيان أن الفنون العصرية إذا لم تبنَ على الدين وتُربط به فضررها أكثر من نفعها، وشرها أكبر من خيرها" (¬1). فنحن الآن أمام مهمات كبيرة، وأوجاع عصرية لا خلاف حولها، هناك مهمة التأكيد والتذكير بـ: شمولية الإِسلام، ولذا تكون العلوم النافعة داخلة فيه، فلا هي غريبة عنه ولا هي تتعارض معه. وخطورة تطور هذه العلوم بعيدًا عن الدين، مما يعني حاجتها إلى التأصيل الإِسلامي؛ أي: إكساب هذه العلوم بصمات أخرى إما في داخلها وفي تكوينها أو في غايتها والقيم المحيطة بها. ولكن هذه المهمة الكبيرة تحتاج في رأي الشيخ إلى أمرين: "أحدهما: معرفة ما دل عليه الكتاب والسنة إجمالًا وتفصيلًا. والثاني: معرفة الأمور الواقعة والحقائق الصحيحة التي يعرفها ويعترف بها العقلاء والمنصفون" (¬2). فإذا وقعت المعرفة بالأمرين وتمت على أصولها وصلنا إلى معالجة المهمات الصعبة السالفة الذكر، عند ذلك نصل إلى: 1 - لا يشذ عن الإِسلام شيء فيه خير وصلاح. 2 - ويحدث النقص والغلط عند الإخلال بهما أو أحدهما (¬3). وقبل أن ننطلق مع الشيخ في اكتشاف أسرار منهجه نختصر رأي الشيخ في مفهوم العلم، وقد عرض ذلك في كتابه: "الدين الصحيح يحل جميع المشاكل"، فعرض فيه فهمين خاطئين أو ناقصين عن العلم وهما: ¬

_ (¬1) المرجع السابق ص 5 مع تصرف من أجل الترتيب. (¬2) الدلائل القرآنية. . . . ص 5. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 5 - 6.

1 - العلم يقتصر على ما يتعلق بإصلاح العقائد والأخلاق والعبادات، وانتقده الشيخ أن "هذا قول طائفة ممن لم تتبصر بالشريعة تبصرًا صحيحًا". 2 - العلم يقتصر على العلوم العصرية الكونية، وانتقده الشيخ بأنهم توقفوا على علوم الطبيعة وحصروا العلم فيها، فاهتموا بالوسائل وغفلوا عن المقاصد، أثبتوا بعض الأسباب وعموا عن المقصود، وغفلوا عن غاية العلم وهو معرفة الله سبحانه وعبادته (¬1). فإذا قَصُر التعريفان عن المقصود الكامل والحقيقي للعلم في الإِسلام، فإنه يعطي تعريفه للعلم بأنه "كل علم أوصل إلى المطالب العالية، وأثمر الأمور النافعة، لا فرق بين ما تعلق بالدنيا أو بالآخرة، فكل ما هدى إلى السبيل ورقى العقائد والأخلاق والأعمال، فهو من العلم" (¬2)، والعلم النافع من علوم الصناعات والمخترعات داخل في هذا، ففي قوله -تعالى-: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]، يقول: "وحيث أطلق العلم شمل العلوم الشرعية، وهي الأصل، وهي أشرف العلمين، وشمل العلوم الكونية، فكل علم نافع في الدين أو في الدنيا فهو داخل في مدح العلم وأهله" (¬3). فإذا كان العلم الممدوح في الإِسلام هو العلم النافع الصحيح، فإن العلوم العصرية لا تخرج من ذلك، وتدخل في العلم الإِسلامي الممدوح، فإن المتأمل في الإِسلام يعلم بأنها داخلة فيه. وقد اجتهد الشيخ في إثبات ذلك بأدلة واستنباطات مهمة، ثم ألحق ذلك بالتحذير من العلم الذي لا ينفع، والتحذير من الأمراض التي أحاطت العلوم الحديثة من جراء تطورها في بيئة قطعت صلتها بالدين، فأفسدت العلم. وهذا يتطلب منا الاجتهاد في طلبها مع الحذر مما أحاط بها مما لا يدخل في مسمى العلم. وسننظر الآن إلى بعض ملامح منهج الشيخ في تأكيد ما سبق في الفقرتين الآتيتين: ¬

_ (¬1) المجموعة الكاملة 1/ 341، وانظر: الفكر التربوي عند الشيخ عبد الرحمن السعدي (دراسة تحليلية ناقدة) د. عبد العزيز الرشودي ص 428، ومنه استفدت هذه الفقرة. (¬2) المجموعة الكاملة 1/ 342. (¬3) الدلائل القرآنية. . . . ص 29.

1 - تأكيد دخول العلوم الصحيحة النافعة العصرية في الإسلام وأثر إدراك هذا المقصد

1 - تأكيد دخول العلوم الصحيحة النافعة العصرية في الإِسلام، وأثر إدراك هذا المقصد. 2 - خطورة ابتعاد العلوم الصحيحة النافعة العصرية عن الدين، وحاجتنا إلى تقريبها من الدين. 1 - تأكيد دخول العلوم الصحيحة النافعة العصرية في الإسلام وأثر إدراك هذا المقصد: ذكر الشيخ -رحمه الله- من الدلائل القرآنية عددًا لا بأس به لإثبات ذلك، ومن ثمّ أهمية العناية بها ما دامت داخلة في الإِسلام، ومن بين ما ذكره الشيخ من استدلالات ما يأتي: 1 - تسخير الرب سبحانه لأشياء كثيرة لهذا الإنسان الضعيف، ودلالة ذلك عند الشيخ بأنه سبحانه وضع في هذا الإنسان العقل الذي يعرف به آيات الله الشرعية والكونية "وكما هداه بالعقل إلى الانقياد لعلوم الرسل وأديانهم، هداه به إلى تسخير المواد الكونية والمعادن والمخترعات والصناعات التي لا تزال تتجدد في كل وقت، وقد أخبر تعالى أنه سخر لنا جميع ما في السموات والأرض، ننتفع بآياتها ونستخرج منافعها وكنوزها، ونشكره على ذلك التسخير والهداية والنعم"، إلى أن قال: "ومن آياته الأفقية النفسية إخباره تعالى أنه سخر للإنسان جميع ما في السموات والأرض، ومعادن الكون وعناصره، ثم إخباره بأنه أخرجه من بطن أمه لا يعلم شيئًا، وجعل له السمع والبصر والفؤاد وآلات العلم وعلمه ما لم يكن يعلم، فحمل بهذا التسخير وبهذا التعليم من فنون العلم وفنون المخترعات الباهرة ما هو مشاهد معلوم: ترقت به الصناعات، وتوسعت به المخترعات وتنوعت به المنافع، وتقاربت به الأقطار الشاسعة. . . ." (¬1)، وبعبارة مختصرة: فإن الله سبحانه قد سخر هذا الكون للإنسان واستخلفه لعمارة الأرض، وأعطاه الوسيلة لذلك وهو هذا العقل، وأرشده بهذا الوحي، وبين له الغاية من كل ذلك، وهي الإيمان بالله سبحانه وعبادته، فعلى المسلم أن يوظف هذا العقل الذي منحه الرب في هذا الكون المسخر لإصلاح دينه ودنياه. ¬

_ (¬1) الدلائل القرآنية. . . . ص 9 - 10.

ولكن الناس أمام هذه النعمة -نعمة العقل ونعمة الكون المسخر- انقسموا إلى فريقين: فالمؤمنون منهم "صار اشتغالهم بهذه المنافع التي يُتوسل بها إلى إصلاح الدين والدنيا عبادة من العبادات وقربة من القربات"، إلى أن قال: "وأما من سواهم من الماديين والضالين الغافلين، فإنهم عرفوا ظاهرًا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة غافلون. . . . فانقطعوا بالأسباب عن مسببها، وانقطعت صلتهم بالله حين قام الكبر في قلوبهم كما قال -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)} [غافر: 56]، {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83)} [غافر: 83] " (¬1). وقد عُرض في الفصل الأول شيء من هذا الكِبْر داخل أوروبا، الذي ظهر بوضوح في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر حيث أصابها غرور كبير مع الثورة العلمية وما لحق بها من ثورة صناعية مدهشة، فأعلن مشاهيرهم بأنهم لم يعودوا في حاجة إلى الرب، تعالى الرب سبحانه عن إلحاد الملحدين. وفي موطن آخر، وفي وقفة مع قوله -تعالى-: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)} [طه: 50]، قال الشيخ: "وبهذه الهداية الخاصة بالإنسان سخر له جميع ما وصلت إليه قدرته من علوم الكون"، وهي تشمل الهداية المجملة والمفصلة في علوم الشرع وعلوم الكون، ثم فتح على الإنسان بحسب حاله وقوته وكفاءته، كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز" ويدخل في الحرص على ما ينفع الحرص على الأمور الدنيوية مع الدينية، "فمن حرص عليها واجتهد في تحصيلها وسلك الطرق الموصلة إليها واستعان الله عليها تم له ما أراد، ومن لم يحرص على الأمور النافعة أو لم يستعن بالله في تحصيلها خاب وخسر" (¬2). 2 - آيات الأمر بالنظر والتفكر والاعتبار والتدبر في آيات الله الكونية والشرعية، حيث جعلها الشيخ مما يدل على الأمر، فقد أمر الخالق سبحانه ¬

_ (¬1) الدلائل القرآنية. . . .، مع بعض الاختصار ص 10 - 11. (¬2) الدلائل القرآنية. . . . ص 17 - 18، مع بعض الاختصار، والحديث عن أبي هريرة في صحيح مسلم، برقم (4816) من كتاب القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة باللهِ وتفويض المقادير لله.

"باستعمال العقل والفكر في آياته المخلوقة وفي آياته المتلوة، ليدرك العبد بعقله ما في المخلوقات من المنافع والآيات فيفقهها ويستعملها وينتفع بها بحسب أحوالها وأخبر أنها آيات لقوم يؤمنون ولقوم يعقلون ولقوم يوقنون" (¬1)، والمؤمن يجعل ذلك في مرضاة الله ولا يقع في غفلة الماديين ممن انقطعوا بالمخلوقات عن خالفها وبالمسببات عن مسببها، فهم وإن استعملوا عقولهم في فهم الآيات الكونية وسنن الله فيها فإنهم توقفوا هناك ولم ينفذوا في علمهم من السبب إلى المسبب ومن الخلق إلى الخالق (¬2). 3 - الأمر في الشريعة بإعداد القوة وأخذ الحذر وما في المعادن من المنافع لتحقيق ذلك. حيث نجد في القرآن قوله -تعالى-: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)} [الحديد: 25] وقوله -تعالى-: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]، وقوله تعالى {خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71، وفي 102] {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ}. فهذا الحديد أحد المعادن التي انتفع بها الإنسان في تاريخه قد أرشد الرب سبحانه بأنه أنزله بما فيه من منافع "ومقتضى ذلك، الأمر باستخراج هذه المنافع بكل وسيلة، وذلك يقتضي تعلم الفنون العسكرية والحربية وصناعة الأسلحة وتوابعها، والمراكب البرية والهوائية وغير ذلك مما ينتفع به العباد في دينهم ودنياهم، كما في قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] " (¬3)، وكذا الحال مع الأمر في قوله تعالى: {خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71] "فهذا يتناول الأمر بإعداد المستطاع من القوة العقلية والسياسية والمادية والمعنوية، وأخذ الحذر من الأعداء بكل وسيلة وبكل طريق، فجميع الصناعات الدقيقة والجليلة والمخترعات والأسلحة والتحصنات داخلة في هذا العموم". وإذا كانت هذه هي حال الإِسلام فلا صحة لافتراءات المفترين، أو ¬

_ (¬1) المرجع السابق ص 23. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 24. (¬3) الدلائل القرآنية. . . . ص 19.

2 - خطورة ابتعاد العلوم الصحيحة النافعة العصرية عن الدين وحاجتنا إلى تقريبها من الدين

كما يقول الشيخ: "فهذا الدين الإِسلامي يحث على الرقي الصحيح والقوة من جميع الوجوه، عكس ما افتراه أعداؤه أنه مخدر مفتر. . . ." (¬1)، فأين أوجه صحة دعواهم وهو يحث أهله على كل هذه الأمور ويأمرهم بها؟ 4 - أن من أصول الشريعة وجوب العمل بالأسباب النافعة: مقاصدها ووسائلها. فاستقراء النصوص يوصلنا إلى أصول الشريعة، ومن ذلك: "وجوب العمل بالأسباب النافعة: مقاصدها ووسائلها، والحث على كل عمل صالح ومصلحة، والاستعانة بالله في تحقيق ذلك مع بذل الجهد. ومن المعلوم أن من تحقق بهذين الأصلين: بذل المجهود في كل أمر نافع، والاستعانة بالمعبود. فإنه لا يزال في تقدم ورقيّ مطرد في إصلاح الدين وفي إصلاح الدنيا المعينة على الدين. . . ." (¬2). كانت هذه بعض الاستدلالات التي استدل بها الشيخ على أن العلوم النافعة الصحيحة العصرية داخلة في الدين، حث عليها وأمر بها وأرشد إليها، وهناك غيرها في رسالته القيمة. 2 - خطورة ابتعاد العلوم الصحيحة النافعة العصرية عن الدين وحاجتنا إلى تقريبها من الدين: مع ما قدّم الشيخ من استدلالات على دخول العلوم العصرية النافعة في الإِسلام فقد حذّر أيضًا ونبّه من خطورة حالها عندما نشأت مع الماديين وأعداء الدين، وتجد ذاك التحذير عقب كل فقرة من فقرات كتابه، ويحذر في الوقت نفسه من الانسياق خلف الماديين في دعاواهم التي نجحوا في تمويهها على الناس بفضل تقدمهم ورقيهم الدنيوي (¬3)، فجعلوا هذا التقدم حجة في إثبات مذهبهم المادي والعلماني، ووقع بعض ضعاف المسلمين فريسة الهزيمة النفسية أمام التقدم المادي، فانساقوا إلى بقية دعاوى الماديين، فواجه الشيخ ضعف هؤلاء برفع الشُبَه من عقولهم ورفع الهزيمة الداخلية من أنفسهم، ثم ارتقى درجة ¬

_ (¬1) المرجع السابق ص 20. (¬2) المرجع السابق ص 41 - 42. (¬3) للشيخ -رحمه الله- رسالة في إبطال أصولهم بعنوان: الأدلة القواطع والبراهين في إبطال أصول الملحدين.

فحث المسلمين على ربط هذه العلوم بالدين وهو ما نطلق عليه اليوم بالتأصيل الإِسلامي للعلوم النافعة بحيث تُربط بتصوراته وقيمه وأخلاقه وغاياته. نجد حول خطورة ابتعاد هذه العلوم عن الدين وقفة للشيخ مع قوله -تعالى-: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26)} [الأحقاف: 26]، كيف تَسبب الجحود والاستكبار والاستهزاء بعدم الانتفاع بعلومهم، "فانظر كيف كانت علومهم التي لم تبنَ على الإيمان، وإنما هي علوم جافة منحرفة، صارت سببًا لمعارضتهم الرسل وبقائهم على ما هم عليه من الكفر والتكذيب بالحق، فنعوذ بالله من علم لا ينفع" (¬1)، فانظر كيف يتحول العلم النافع إلى علم يعارض ما جاءت به الرسل إن لم يكن طريق تعلمها متوافقًا مع الدين. وقد لا تُوصل أهلها إلى معارضة الرسل ولكنها قد تقطع أهلها عن الصلة بالله، فهي منهمكة بالدنيا دون البحث عن الغاية من وجود هذا الكون ووجودنا فيه، وفي ذلك يقول: "أعظم آفات العلوم وقواطعه الانخداع بالوقوف مع المخلوقات دون خالقها، وبالآثار عن مؤثرها،. . . . وهذا النوع نقصه كثير وضرره كبير، فإن كثيرًا من الملحدين والمغترين بهم يمهرون في العلوم الطبيعية، ولكنهم يقفون معها ويعمون عن ارتباطها بخالقها ومسببها والذي أودع فيها من العجائب والأسرار ما أودع. . . .". ثم ذكر أثر ما اكتشفوه من عجائب فغرتهم ووقفوا عليها، واغتروا بما وصلوا إليه فاستهانوا بغيره، فلو كان الدين هو الموجه، وعرفوا المدبر الحقيقي للأمور كلها، وربطوا ما في الكون بقدره وقضائه، "لو أنهم فعلوا ذلك في عملهم لتم علمهم وحصل لهم من اليقين ما لا يحصل لمن لم يصل إلى ما وصلوا إليه. . . ." (¬2). أخيرًا من آثار ما هي عليه في بيئتها المادية حتى وإن لم تتعارض مع الدين، فإنها عندما تكون بعيدة عن الدين تعجز كل العجز عن إصلاح الأخلاق ¬

_ (¬1) الدلائل القرآنية. . . . ص 16. (¬2) انظر: الدلائل القرآنية ص 48 - 49، وانظر: الأدلة القواطع والبراهين في إبطال أصول الملحدين ص 61.

واكتساب الفضائل الصحيحة والترفع عن الرذائل، فلا تثمر إيمانًا ولا أمانة ولا رحمة ولا أخلاقًا (¬1). أمام هذه المشكلات الثلاث وغيرها -أن توظف في معارضة الدين، أو يكتفى بها ويهمل الدين، أو تقام دون ضوابط أخلاقية دينية- يأتي مشروع التأصيل الإِسلامي (¬2) لهذا المجال، ومن مهمات التأصيل معالجة المشكلات الثلاث وغيرها، وقد رأينا مع كل هذه المشكلات أن الشيخ لم يجعلها سببًا حول تقصيرنا في طلبها، بل حثّ على تحصيلها، ولكن عندما نطلبها فعلينا أخذها وفق هويتنا الإِسلامية، أن نعيد ترتيبها بما نحيطه بها من أصول إسلامية عظيمة فلا نقع فيما وقع فيه غيرنا، ومهمة التأصيل الإِسلامي أو الأسلمة هي مهمة من سيتولى التعرف عليها واستنباتها في أرضنا، ويكفينا أن الشيخ أعطى الأصول العامة للموضوع، فجزاه الله خيرًا على ما قدم ورحمه رحمة واسعة. نصل في النهاية إلى أن العطاء العلمي الذي قدمه العلامة السعدي حول الموقف من العلوم العصرية والحضارة الحديثة ينسجم مع معالم الاتجاه السلفي حول هذه القضية، أهمية العودة إلى الدين وأن تكون نقطة الانطلاق منه، وأهمية طلب أسباب القوة والتقدم المادي الدنيوي دون تردد أو تكاسل (¬3) أو تخاذل؛ لأن ذلك من الدين، وفي أثناء طلب ذلك أن نضع لها التأصيل الإِسلامي المناسب حتى لا تدخل علينا بأمراضها المعروفة في الغرب، وأن نرفع عن المسلمين غبار الهزيمة النفسية الذي غطى عليهم فأعماهم عن رسالتهم التي شرفهم الله بها وهي حمل الدين ونشره في العالمين، ومن كان بهذه المهمة فلا يكون صغيرًا أمام الآخرين. وكما لاحظنا فقد عالجها في أصولها، ورفع الاتهام الكاذب حول تردد الاتجاه السلفي في مسألة التقدم المادي والدنيوي، وهي تهمة يكثر الحديث عنها، ومن المهم لنا إبراز مواقف علماء الأمة التي تبين الحق حول الموضوع: ¬

_ (¬1) انظر: المرجعين السابقين، الأول ص 43 و 49، والثاني ص 72. (¬2) انظر: (الدعوة إلى أسلمة العلوم) عند الشيخ في: الفكر التربوي عند الشيخ عبد الرحمن السعدي .. ، الرشودي ص 401. (¬3) ومن ذلك ردّه على من زعم أن الأيمان بالقدر (يحدث الفتور والاستسلام وعدم الحركة) في أهله، انظر: الدلائل القرآنية. . . . ص 38 - 40.

ليس فقط لإبطال دعاواهم، بل لتتجه الأمة إلى تحصيل ما ينفعها بقوة وعزم وهي تشعر أنها مأجورة على ذلك؛ لأنها تقوم بتحقيق جزء من دينها، وقد كانت هذه أكبر مشكلة وجدها الشيخ تستحق الرد والمعالجة، ولاسيما أن مشاكل العلوم والنظريات لم تظهر في بيئته، ولذا سنجد معالجتها فيمن ابتلوا بمشاكلها، واجتهادهم من جهة الشرع في إثبات الحق فيها.

ثالثا: الشيخ محمد الشنقيطي

ثالثًا: الشيخ محمَّد الشنقيطي نقف مع أحد أهم أعلام السلفية في القرن الرابع عشر الهجري وهو العلامة محمَّد الأمين بن محمَّد المختار الشنقيطي (1325 - 1393 هـ). نجد أنفسنا ملزمين بالوقوف معه؛ لأنه علَم لا يُختلف حول مكانته العلمية عند أهل العلم، وشارك في النهضة العلمية السلفية المعاصرة، وكان له في الوقت نفسه مواقف صريحة من الحضارة الغربية والعلوم التي برع فيها الغرب. فنحن إذًا أمام عالم من علماء الإِسلام لا يُختلف في علمه ومنزلته وله مواقف واضحة وصريحة من الحضارة الغربية وعلومها، ومن المهم إبراز موقف أعلام السلفية؛ وذلك أن حركة الفكر المعاصر المتغربة كما سلف تحاول تغييب مواقفهم أو إقصاءَها فضلًا عن اتهام الاتجاه السلفي بما لم يُعرف عن أعلامه ولا عن منهجهم. كان الشيخ -رحمه الله- قد تلقى العلم في بلده موريتانيا وبرع فيه كعادة أهل شنقيط. ومع أن المذهب السائد في بلده هو المذهب الأشعري، مع وجود للطرق الصوفية، إلا أن الشيخ -رحمه الله- خالف السائد وسلك المنهج السلفي، وبحسب إحدى الدراسات العلمية فالراجح أنه توصل إلى ذلك بنفسه وبقناعة ذاتية (¬1)، ثم إنه بعد استقراره في المدينة المنورة اطلع عن قرب على تآليف أعلام المنهج السلفي ولاسيما شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله-، كما أن نظرة التشويه السائدة عن الوهابية -كما يقال- قد زالت بعد أن اطلع على الحقيقة بنفسه؛ ¬

_ (¬1) انظر: جهود الشيخ محمَّد الأمين الشنقيطي في تقرير عقيدة السلف، د. عبد العزيز الطويان 1/ 63 - 69.

حيث التقى بعد وصوله إلى المدينة المنورة بالشيخين عبد الله الزاحم وعبد العزيز الصالح "وكان صريحًا معهما فيما يسمع عن البلاد، وكانا حكيمين فيما يعرضان عليه ما عليه أهل هذه البلاد من مذهب في الفقه ومنهج في العقيدة. وكان أكثرهما مباحثة معه فضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح، وأخيرًا قدّم للشيخ كتاب المغني كأصل للمذهب وبعض كتب شيخ الإِسلام كمنهج للعقيدة، فقرأها الشيخ، وتعددت اللقاءات وطالت الجلسات، فوجد الشيخ مذهبًا معلومًا لإمام جليل من أئمة أهل السنة وسلف الأمة: أحمد بن حنبل -رحمه الله-. كما وجد منهجًا سليمًا لعقيدة السلف تعتمد الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة، فذهب زيف الدعايات الباطلة وظهر معدن الحقيقة الصحيحة. . . ." (¬1)، فاستقر الشيخ في المدينة وبرز عالمًا من علماء الإِسلام في تاريخنا المعاصر، وكان من الأعضاء الأساسيين في نهضة بلدنا العلمية الشرعية، حيث بدأت دروسه في الحرم المدني تقريبًا سنة (1363 هـ)، ثم جاء تحول جديد في الحركة العلمية سنة (1371 هـ) حيث ظهر مشروع إيجاد مؤسسة علمية تتبنى طلبة العلم وفق تنظيم حديث، وبدأ المشروع في الرياض بافتتاح المعهد العلمي فكان من أهم العلماء الذين درّسوا فيه، ثم فُتحت كليتا الشريعة واللغة، فدرّس الشيخ فيها. ووصف الشيخ عطية سالم هذا الجو الجديد، فقال: "فكان الجو حقًا جدًا علميًا، التقت فيه همة عالية من طلاب جيدين مع عزيمة ماضية من مشايخ مجتهدين. كان يسودهم الشعور بأن هذه طليعة نهضة علمية واسعة، وكان -رحمه الله- كوالد للجميع"، إلى أن قال: أو قد رغب المدرسون آنذاك في قراءة بعض كتب شيخ الإِسلام ابن تيمية واستيعاب دقائقه، فلم يكن أولى بذلك من فضيلته -رحمه الله-. خُصِّص مجلس خاص في صحن المعهد. . . . بين المغرب والعشاء" (¬2)، ثم انتقلَ إلى العمل في الجامعة الإِسلامية بعد افتتاحها سنة (1381 هـ)، ليبقى طوال عمره -رحمه الله- في ميدان العلم، كما أنه درّس في المعهد العالي للقضاء، وكان عضوًا من هيئة كبار العلماء بعد أن شُكلت، وغيرها من الأعمال. وصدق الشيخ "عطية سالم" في وصفه لمن التقوا بالشيخ بأنهم فعلًا طليعة ¬

_ (¬1) من ترجمة الشيخ عطية سالم لشيخه الشنقيطي، في آخر أضواء البيان 10/ 36. (¬2) انظر: أضواء البيان 10/ 39، 42 - 45، وما بين القوسين ص 44.

موقف الشيخ من الحضارة الغربية والعلوم الدنيوية التي برعت فيها

نهضة علمية، حيث كان منهم العلماء الكبار الذين قادوا مسيرة العلم الشرعي في بلدنا، فإن من بين طلاب الشيخ هؤلاء العلماء الكبار: الشيخ عبد العزيز بن باز وقد درَس عليه المنطق، والشيخ عبد العزيز بن صالح، والشيخ عبد الله بن غديان، والشيخ عبد المحسن العباد، والشيخ صالح اللحيدان، والشيخ عبد الله الجبرين، والشيخ محمَّد بن صالح العثيمين، والشيخ صالح الفوزان، والشيخ عبد العزيز العبد المنعم، والشيخ عطية سالم، والشيخ راشد بن خنين، والشيخ بكر أبو زيد، وغيرهم من العلماء والقضاة وأساتذة الجامعات والدعاة (¬1). موقف الشيخ من الحضارة الغربية والعلوم الدنيوية التي برعت فيها: يتميز موقف الشيخ الشنقيطي -رحمه الله- بأنه ينطلق من مرجعية علمية شرعية لا جدال حولها نحو كل المستجدات، فيكون العلم الشرعي هو الأساس بخلاف مشروعات أخرى انطلقت من إدراك مميز للمستجدات وأرادت العودة لعلوم الإِسلام تحاول تأصيلها، فالثانية قد تكون أضعف بما يعتريها من انتقائية وضعف حول الآلة المساعدة في إدراك العلوم الشرعية، أما الشنقيطي فهو لا يجد هذه المشكلة، فهو عالم من علماء الأمة في العلوم الشرعية وهو يؤصل من خلال علمه للموقف من هذه المستجدات، وبما أن الشيخ -رحمه الله- لديه معرفة إجمالية بهذه المستجدات دون تفاصيلها فقد وضع المنهج والتصورات حول العلاقة بها دون الخوض في التفاصيل وترك ذلك لمن يجيدها ويكون عالمًا فيها، فالمهم هو تكوين المنهج وهو الأصعب في العادة، وهناك بعض التطبيقات للشيخ لا نُسلم بصحتها مثل موقفه من إرسال المركبات الفضائية والوصول إلى القمر، ولكن هذه الأمور التي يخالفه فيها الكثير من العلماء والباحثين لا تلغي قيمة المنهج، بل تكشف لنا عن مشروع من أعمق المشروعات وأهمها في واقعنا المعاصر من عالم متخصص في العلوم الشرعية. وسأضع ملامح هذا المشروع الذي أتعبني تقصيه في تفسيره المهم أضواء البيان في الفقرات الآتية: 1 - القرآن فيه تبيان كل شيء وهو يهدي للتي هي أقوم. 2 - الموقف من العلوم الدنيوية وكيف نحولها إلى أشرف العلوم. ¬

_ (¬1) انظر: جهود الشيخ محمَّد الأمين الشنقيطي في تقرير عقيدة السلف 1/ 72 - 76.

1 - القرآن فيه تبيان كل شيء وهو يهدي للتي هي أقوم

1 - القرآن فيه تبيان كل شيء وهو يهدي للتي هي أقوم: يواجه الشيخ طرفين متعارضين: طرفًا يتوهم أن هذه العلوم الدنيوية من علوم الكفار ولا يجدر بنا الالتفات إليها، وطرفًا يتوهم أن التقدم الحقيقي مرتبط بالعلوم الدنيوية التي تقدم بها الغرب وأنه لا يمكننا التقدم مع محافظتنا على الدين، فهما ضدان. وهناك نقطة مشتركة بين الطرفين، الطرف المحسوب على أهل الدين والطرف المحسوب على أهل التغريب، وهو أن هذه العلوم الدينية والدنيوية متعارضة ولابد من التضحية بأحدهما على حساب الآخر، فالطرف الأول يرى أن المهم النجاة في الآخرة ولو بقينا متخلفين وضعفاء ودون قوة دنيوية، والثاني يرى أن الدين شأن شخصي والناس في حاجة إلى دنيا تقوم لهم فيجدون الطعام والشراب والملبس والطب ووسائل الحياة الدنيوية السعيدة. فجاء الشيخ عبر تفسيره لبعض الآيات ليرد على الطرفين، وبين أن هذا القرآن الذي فيه تبيان كل شيء ويهدي للتي هي أقوم، لن يترك أي باب من أبواب حياة الناس دون أن يوجد لها الطريق المناسب، فهو أصل كل خير ديني ودنيوي، سواء عرفنا ذلك أم جهلناه، وحتى علوم البشر التي يبرعون فيها في الحضارات المختلفة ستجد أن هذا القرآن قد دلّ إليها، وأن العيب في أهله عندما فرطوا فيما دلّهم عليه من خير، وبهذا فلا تصح دعوى الطرفين، وإليك البيان: قال المولى -عزّ وجلّ-: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]. قال المولى سبحانه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]. [ففي الآية الأولى] تحول الشيخ إلى كتاب للسيوطي: "الإكليل في استنباط التنزيل" ونقل منه نقلًا مطولًا يوضح من خلاله بعض المعاني لهذه الآية، ومما نجده وله دلالة بما يحرص عليه الشيخ: - أثر عن ابن مسعود قال: من أراد العلم فعليه بالقرآن؛ فإن فيه خبر الأولين والآخرين، قال البيهقي: أراد به أصول العلم (¬1). - وقال ابن مسعود أيضًا: أنزل في القرآن كل علم، وبين لنا فيه كل شيء، ¬

_ (¬1) أضواء البيان 3/ 336، وهي في كتاب السيوطي ص 5 وما بعدها.

ولكن علمنا يقصر عما بين لنا في القرآن (¬1). - ونقل عنه أيضًا كيف خرجت علوم جمة من القرآن: من علوم القرآن وأصول الدين والفقه وأصوله وعلوم العربية والتاريخ والأخلاق وغيرها، ثم أعقب ذلك -نقلًا عن كتاب السيوطي- "هذه الفنون التي أخذتها الملة الإِسلامية منه. وقد احتوى على علوم أخر من علوم الأوائل، مثل: الطب والجدل والهيئة والهندسة والجبر، والمقابلة والنجامة، وغير ذلك"، ثم ذكر كيف دلّ القرآن على هذه العلوم (¬2). - ونقل عنه أيضًا كيف أنه دلّ على أصول الصنائع وأسماء الآلات التي تدعو الضرورة إليها، من الخياطة والحدادة والبناء والتجارة والغزل والنسيج والفلاحة وغيرها من الأعمال الدنيوية (¬3). - ونقل عنه أيضًا كيف أن القرآن دلّ على عوالم أخرى من عجائب المخلوقات، وأحوال الأنبياء، وأحوال الأمم السابقة، ومسيرة الإنسان، واليوم الآخر والبعث، وغير ذلك (¬4). ثم جاء تعقيب الشيخ فقال: "وإنما أوردناه برمته مع طوله؛ لما فيه من إيضاح: أن القرآن فيه بيان كل شيء. وإن كانت في الكلام المذكور أشياء جديرة بالانتقاد، تركنا مناقشتها خوف الإطالة المملة، مع كثرة الفائدة في الكلام المذكور في الجملة" (¬5)، ونتفق مع الشيخ في ملحوظته، ونترك ما يُنتقد منه إلى المهم فيه، الذي وصفه الشيخ بكثرة الفائدة، ومن أهمها إيضاح أن القرآن فيه بيان كل شيء، ليس القرآن كتابًا في العلوم الدنيوية والصناعات ولكنه أشار إليها، وفي هذه الإشارة ما يكفي لحث المسلمين عليها وشرعيتها ما لم تخالف الإِسلام. ومما يمكن استنباطه من هذا العمل للشيخ: إذا كان القرآن قد حوى كل شيء، حتى ذكر النملة والبعوضة والعنكبوت وحشرات أخرى، فهل يمكن أن ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق 3/ 336. (¬2) انظر: أضواء البيان 3/ 338 - 342، وما بين القوسين ص 341. (¬3) انظر: المرجع السابق 3/ 342 - 343. (¬4) انظر: المرجع السابق 3/ 343 - 345. (¬5) المرجع السابق 3/ 345.

يترك ما ينفع الناس دون إرشادهم إليه بالعبارة أو الإشارة، وفي أثر يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله لو أغفل شيئًا لأغفل الذرة والخردلة والبعوضة" (¬1)، فإننا وإن اختلفنا مع ما في كتاب السيوطي من تكلف في بعض العلوم، إلا أن القرآن الذي فيه تبيان كل شيء لن يترك ما ينفع الناس في دينهم أو دنياهم دون توجيه. وإذا كان الشيخ قد اكتفى هنا بالتلميح، فسيأتي التصريح في فقرة لاحقة؛ لأنتقل إلى معنى آخر يُحسُّ به في كلام الشيخ وهو أن يسعى أهل الإِسلام ليس في تحصيل هذه العلوم النافعة فحسب، فهذا شيء لا مفرّ منه، وإنما إلى البحث في إرشادات الوحي حول هذه العلوم، والأصول التصورية والأخلاقية والقيمية التي يمكن إضافتها إلى جسم هذه العلوم، في نوعٍ من الإشارة إلى فكرة التأصيل الإِسلامي لها، ومصدر هذا الإحساس هو نقل الشيخ لكلام السيوطي حول دلالة القرآن على أبواب كثيرة. [وفي الآية الثانية]: قوله -تعالى-: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]، يعالج الشيخ في تفسيره لهذه الآية مشكلة العلاقة بين الدين والتقدم، فيقول: "ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن هذا القرآن العظيم الذي هو أعظم الكتب السماوية، وأجمعها لجميع العلوم، وآخرها عهدًا برب العالمين جلّ وعلا -يهدي للتي هى أقوم؛ أي: الطريقة التي هي أسد وأعدل وأصوب. . . ." (¬2)، ثم استطرد الشيخ في بيان بعض الأوجه التي كان القرآن فيها أقوم "تنبيها ببعضه على كله من المسائل العظام، والمسائل التي أنكرها الملحدون من الكفار، وطعنوا بسببها في دين الإِسلام، لقصور إدراكهم عن معرفة حكمها البالغة" (¬3)، وعرض الشيخ لأكثر من عشر مسائل، على طريقة ¬

_ (¬1) ذكره ابن كثير في تفسيره، [النمل: 93] ص 991، وذكره الألوسي (روح المعاني) في تفسير {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]، وفي سورة [الرحمن: 2]، مع تفسير الشنقيطي (أضواء البيان) في الموضع السابق. وتوقفوا الوقفات نفسها، وقد قال عنه الشيخ الألباني: ضعيف جدًا، انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة، برقم (1214)، قال السيوطي في الدر المنثور: أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة والديلمي عن أبي هريرة، من تفسير سورة [البقرة: 26]. (¬2) أضواء البيان 3/ 409. (¬3) المرجع السابق 3/ 409.

"شبهات خصوم الإِسلام والرد عليها"، ومنها: توحيد الله سبحانه، وكون الطلاق بيد الرجل، والتعدد، والتفضيل في الميراث، وملك اليمين والقصاص بالقتل، وقطع يد السارق، وعقوبة الزنا، وأن الرابطة التي تربط بين المجتمع هي العقيدة وليست القومية، والحكم بغير ما أنزل الله، والمشاكل العالمية، فذكر بعض الشبه العصرية حولها وبيان كيف هدى القرآن فيها للتي هي أحسن (¬1). نقف مع واحدة منها لها علاقة بالبحث وهي [أن التقدم لا ينافي التمسك بالدين]: فقال الشيخ: "ومن هدي القرآن للتي هي أقوم: هديه إلى أن التقدم لا ينافي التمسك بالدين. فما خيله أعداء الدين لضعاف العقول ممن ينتمي إلى الإِسلام: من أن التقدم لا يمكن إلا بالانسلاخ من دين الإِسلام -باطل لا أساس له، والقرآن الكريم يدعو إلى التقدم في جميع الميادين التي لها أهمية في دنيا أو دين. ولكن ذلك التقدم في حدود الدين، والتحلي بآدابه الكريمة، وتعاليمه السماوية" (¬2). واستدل الشيخ على دعوة الدين للتقدم بدليلٍ استدل به الكثير في العصر الحديث، وهو قوله -تعالى-: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]، فقال: "فهو أمر جازم بإعداد كل ما في الاستطاعة من قوة، ولو بلغت القوة من التطور ما بلغت. فهو أمر جازم بمسايرة التطور في الأمور الدنيوية، وعدم الجمود على الحالات الأول إذا طرأ تطور جديد. ولكن كل ذلك مع التمسك بالدين" (¬3). وحذر مما خيّل به الكفار لضعاف العقول من المسلمين من أن هناك تباينًا بين الدين والتقدم، وأنه يستحيل اجتماعهما، وكان من أثر ذلك انحلالهم من الدين رغبة في التقدم، فخسروا الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين. وبين أنه لا يصح دينًا ولا عقلًا وضع ذلك التباين بين التدين والتقدم، فالمتمسك بالدين يجوز "أن يكون متقدمًا؛ إذ لا مانع في حكم العقل من كون المحافظ على امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، مشتغلًا في جميع الميادين التقدمية كما لا ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق 3/ 409 - 457. (¬2) انظر: المرجع السابق 3/ 435 - 436. (¬3) المرجع السابق 3/ 436.

2 - الموقف من العلوم الدنيوية وكيف نحولها إلى أشرف العلوم

يخفى، وكما عرفه التاريخ للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ومن تبعهم بإحسان" إلى أن قال: "فإن النسبة بين التمسك بالدين والتقدم، كالنسبة بين الملزوم ولازمه؛ لأن التمسك بالدين ملزوم للتقدم، بمعنى أنه يلزم عليه التقدم" (¬1)، وأعاد ضعف المسلمين إلى وجود طائفة منهم من ضعاف العقول صدّقوا مقولة التناقض بين الدين والتقدم، كما أن فيهم من تنكّر للدين فعوقب بالضعف والرق للكفار (¬2). 2 - الموقف من العلوم الدنيوية وكيف نحولها إلى أشرف العلوم: بعد أن بيّن الشيخ أن القرآن قد دلنا على كل خير في الدين والدنيا، ورد على شبهة ترد هنا أو هناك تقول: إن الدين والتقدم يتعارضان ولا يلتقيان، نأتي إلى الموقف الصريح من العلوم الحديثة الموجودة في الحضارة الغربية، إذ هي المقصود بالكلام، وهي الأمر الجديد في تاريخ الفكر الإنساني الحديث. من بين المواطن التي توقف فيها الشيخ لبيان الموقف من هذه العلوم ما قاله عند تفسيره لآيتين وهما: قول الرب -سبحانه وتعالى-: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا} [مريم: 78 - 79]، وقوله -سبحانه وتعالى-: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)} [الروم: 7]، ومثلها قوله -سبحانه وتعالى-: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [النجم: 29 - 30]. [الآية الأولى] قوله -تعالى-: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا}: ذكر الشيخ "الشنقيطي" -رحمه الله- أن هذه الآية تحوي على دليل منهجي مهم أسماه "الدليل العظيم" (¬3)، وهو المعروف عند الجدليين بالتقسيم والترديد، وعند الأصوليين بالسبر والتقسيم، وعند المنطقيين بالشرطي المنفصل، وقد جعل الشيخ من هذا الدليل أداة لبيان الموقف من أمور كثيرة، ولكن أهم ما يضربه من أمثلة ويتوسع في ذكره، هو الموقف من الحضارة الغربية. فلنعرف أولًا حقيقة هذا الدليل: ¬

_ (¬1) أضواء البيان 3/ 438. (¬2) انظر: المرجع السابق 3/ 439. (¬3) انظر: أضواء البيان 4/ 365.

قال الشيخ: "وضابط هذا الدليل العظيم أنه متركب من أصلين: أحدهما: حصر أوصاف المحل بطريق الحصر. . . . والثاني: هو اختيار تلك الأوصاف المحصورة، وإبطال ما هو باطل منها، وإبقاء ما هو صحيح منها" (¬1). وذكر الشيخ صوره في القرآن الكريم، وذكر أن "المنطقيين والأصوليين والجدليين كل منهم يستعملون هذا الدليل في غرض ليس هو غرض الآخر من استعماله، إلا أن استعماله عند الجدليين أهم من استعماله عند المنطقيين والأصوليين" (¬2)، ثم عرّف باستعماله عند كل طرف من الأطراف الثلاثة (¬3)، وواصل الشيخ توضيح منزلة هذا الدليل إلى أن بلغ المسألة السادسة التي لها علاقة بالبحث: دلالة "الدليل العظيم - السبر والتقسيم" على "الموقف من الحضارة الغربية": قال الشيخ -رحمه الله-: "اعلم أن هذا الدليل التاريخي العظيم يوضح غاية الإيضاح موقف المسلمين الطبيعي من الحضارة الغربية، وبذلك الإيضاح التام يتميز النافع من الضار، والحسن من القبيح، والحق من الباطل. وذلك أن الاستقراء التام القطعي دلّ على أن الحضارة الغربية المذكورة تشتمل على نافع وضار: أما النافع منها -فهو من الناحية المادية، وتقدمها في جميع الميادين المادية أوضح من أن أبينه. وما تضمنته من المنافع للإنسان أعظم مما كان يدخل تحت التصور، فقد خدمت الإنسان خدمات هائلة من حيث إنه جسد حيواني". وهو اعتراف من الشيخ لا ينقصه الصراحة، وهو موقف كل عاقل فضلًا عن عالم من علماء الإِسلام. "أما الضار منها -فهو إهمالها بالكلية للناحية التي هي رأس كل خير، ولا خير البتة في الدنيا بدونها، وهي التربية الروحية للإنسان وتهذيب أخلاقه. وذلك لا يكون إلا بنور الوحي السماوي الذي يوضح للإنسان طريق السعادة، ويرسم له الخطط الحكمية في كل ميادين الحياة الدنيا والآخرة، ¬

_ (¬1) المرجع السابق 4/ 365. (¬2) انظر: المرجع السابق 4/ 367 - 368، وما بين القوسين ص 368. (¬3) انظر: المرجع السابق 4/ 369 - 377.

ويجعله على صلة بربه في كل أوقاته". وهذا الإهمال نشأ داخل أوروبا والغرب عمومًا بعد أن أخذت بالخيار العلماني القائم على تأسيس الحياة الدنيوية بعيدًا عن الدين، ولذا "فالحضارة الغربية غنية بأنواع المنافع من الناحية الأولى، مفلسة إفلاسًا كليًا من الناحية الثانية. ومعلوم أن طغيان المادة على الروح يهدد العالم أجمع بخطر داهم، وهلاك مستأصل، كما هو مشاهد الآن .. " (¬1). وإذا كان الاستقراء قد دلنا على الحقائق السابقة، بأن الحضارة الغربية فيها النافع الذي له أهميته لحياتنا الدنيوية، وفيها الضار النابع من إهمالها للتربية الروحية المعتمدة على الوحي، فلننظر إلى دليل السبر والتقسيم معها: أولًا: يحصر التقسيم الموقف من تلك الحضارة في أربعة أقسام: ترك الحضارة الغربية نافعها وضارها. أخذها كلها، نافعها وضارها. أخذ ضارها وترك نافعها. أخذ نافعها وترك ضارها (¬2). ثانيًا: ننتقل إلى السبر لهذه المواقف الأربعة، فنجد ثلاثة باطلة دون شك، وواحد صحيح دون شك، ونبدأ بالثلاثة الباطلة: فتركها كليًا باطل؛ "لأن عدم الاشتغال بالتقدم المادي يؤدي إلى الضعف الدائم، والتواكل والتكاسل، ويخالف الأمر السماوي في قوله -جل وعلا-: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}. . . . الآية. . . ." (¬3). وأخذها بكل ما فيها، فليس من العقل ولا من الدين القبول بهذا الموقف، ولاسيما مع إهمالها جانب الدين وتمردها على نظام السماء (¬4). أخذ الضار وترك والنافع، وإن كان هذا غير متصور كما ذكر الشيخ، ولا يفعله من له أقلّ تمييز (¬5)، إلا أن واقع الحال يدل أن هناك فئات جعلت همها ¬

_ (¬1) انظر: أضواء البيان 4/ 381 - 382 وما هو خارج الأقواس تعليق من الباحث. (¬2) المرجع السابق 4/ 382. (¬3) أضواء البيان 4/ 382. (¬4) المرجع السابق 4/ 382. (¬5) المرجع السابق 4/ 383.

تقليد الغرب في الضار أو ما لا نفع فيه، وكم نسمع اليوم عن من يقلد الغرب في أساليب الأكل والشرب واللباس والجمال، بل وكثير من المحرمات، وإذا نقبت في حاله وطلبت ما قلدهم فيه من النافع فلا تجد شيئًا، حصر همه في تقليدهم في المتع المباحة والمحرمة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخله خلفهم تصديقًا لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم. قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ " (¬1). يبقى الموقف الرابع وهو الذي يحتاج إلى جهد كبير من الأمة؛ لأنه يحتاج إلى ما هو أوسع من الكلام وأشق، فليس في سهولة المواقف السابقة، فالأول لم يفعل صاحبه شيئًا سوى حرمان نفسه من النافع خوفًا من الضار، والثاني استسلم لضغط الحضارة فأخذها بخيرها وشرّها، كان ضعيفًا فلم يستطع الاختيار، والثالث أحقرها حالًا، إذ قلد في متع الحياة وشهواتها، وهو وإن كان مما تلتذ به أنفس أقوام فما ذاك من طبع الأمم القوية، فلذتها في النافع والمفيد من علوم ومعارف وليس في الفنون والمتع وأبوابها، لم يقل الشيخ هذا الكلام ولكن كلامه يفيد ذلك. ذكر الشيخ بعض الأدلة بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي هو أصل كل الخير لهذه الأمة ومنبع علومها -أخذ من علوم الأمم حوله فكيف بحال أمته، ومن الأمثلة على ذلك: أ- فمن العلوم العسكرية للفرس أخذ خطة حفر الخندق. ب- ومن العلوم الطبية لفارس والروم أخذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - جواز وطء المرضع بعد أن أُخبر أنهم يفعلون ولا يضر أولادهم، وقد همّ - صلى الله عليه وسلم - بالمنع، وغيرها (¬2). والنتيجة أنه يتضح "من هذا الدليل أن الموقف الطبيعي للإسلام والمسلمين من الحضارة الغربية -هو أن يجتهدوا في تحصيل ما أنتجته من النواحي المادية، ¬

_ (¬1) في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري، البخاري برقم (7320)، كتاب الاعتصام، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لتتبعن سنن من كان قبلكم"، وعند مسلم، برقم (2669)، كتاب العلم، باب اتباع سنن اليهود والنصارى. (¬2) أضواء البيان 4/ 383.

ويحذروا مما جنته من التمرد على خالق الكون -جل وعلا- فتصلح لهم الدنيا والآخرة" (¬1). [الآية الثانية]: قوله -تعالى-: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)} [الروم: 7]: يزيد الشيخ هذا المعنى توضيحًا في تفسيره لآية أخرى، وهي قوله -تعالى-: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)} [الروم: 7]، حيث هي تصف حال الكفار المعرضين عن دين الله سبحانه إذا برعوا في علوم الحياة الدنيا، فما موقفنا نحن المسلمين من ذلك؟ وقف الشيخ وقفه خاصة مع هذه الآية، حيث أعقبها بتنبيه وصدّره بـ"اعلم أنه يجب على كل مسلم في هذا الزمان: أن يتدبر آية الروم هذه تدبرًا كثيرًا، ويبين ما دلت عليه لكل من استطاع بيانه له من الناس" (¬2). ومن بين أهم ما ذكره -رحمه الله- ما يأتي: 1 - أهمية معالجة الهزيمة النفسية الخطيرة التى أصابت بعض المسلمين: حيث ذكر أن من أعظم فتن آخر الزمان التي ابتلي بها ضعاف العقول من المسلمين شدة إتقان الإفرنج لأعمال الحياة الدنيا ومهارتهم فيها على كثرتها واختلاف أنواعها مع عجز المسلمين عن ذلك، فتوهموا أنهم على حق وأن من ضعف عن ذلك، فهو متخلّف وليس على الحق. فجاء علاجها في هذه الآية الكريمة، ففيها "إيضاح لهذه الفتنة وتخفيف لشأنها، أنزله الله في كتابه قبل وقوعها بأزمان كثيرة، فسبحان الحكيم الخبير ما أعلمه، وما أعظمه، وما أحسن تعليمه" (¬3). ولا شك أن معالجة الهزيمة النفسية تسبق في الأهمية طلب النافع من العلوم الدنيوية؛ لأن من طلبها من حضارة أخرى وهو يعاني هزيمة نفسية، انساق وأخذ النافع والضار إن لم يترك النافع ويكتفي بالضار. 2 - التحذير من الغفلة عن حقيقة الحياة الدنيا: "ففي قوله -تعالى-: {ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يفيد أن للدنيا ظاهرًا وباطنًا، ¬

_ (¬1) المرجع السابق 4/ 383. (¬2) أضواء البيان 6/ 477. (¬3) المرجع السابق 6/ 477.

فظاهرها ما يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها، والتنعم بملاذها، وباطنها وحقيقتها أنها مجاز إلى الآخرة، يتزود منها إليها بالطاعة والأعمال الصالحة" (¬1). ولكن إذا كانت هذه العلوم التي برعوا فيها هي من ظاهر الدنيا فهل نهملها، لكونها من ظاهر الدنيا وكونها من علوم الكفار؟ فكان جواب الشيخ الشنقيطي هو إيجاب تعلمها، بل تحويلها إلى علوم من أشرف ما يتعلمه المسلم، فيقول الشيخ -رحمه الله-: "واعلم أن المسلمين يجب عليهم تعلم هذه العلوم الدنيوية. . . . وهذه العلوم الدنيوية التي بينا حقارتها بالنسبة إلى ما غفل عنه أصحابها الكفار، إذا تعلمها المسلمون، وكان كل من تعليمها واستعمالها مطابقًا لما أمر الله به على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم -: كانت من أشرف العلوم وأنفعها؛ لأنها يستعان بها على إعلاء كلمة الله ومرضاته -جل وعلا-، وإصلاح الدنيا والآخرة، فلا عيب فيها إذن كما قال -تعالى-: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] فالعمل في إعداد المستطاع من القوة امتثالًا لأمر الله تعالى وسعيًا في مرضاته، وإعلاء كلمته ليس من جنس علم الكفار الغافلين عن الآخرة" (¬2). وسيأتي جيل لاحق لمشروع الشيخ -رحمه الله- من طلابه وطلاب طلابه يحوّلون دعوة الشيخ إلى مشروع حضاري أوسع، فإن تحويلها إلى علوم "من أشرف العلم وأنفعها" كما قال الشيخ يحتاج إلى جهد كبير: نظري وعملي، حتى يتحقق لنا كل ما دعا إليه الشيخ، من الحرص على التقدم والحث على طلب العلوم الدنيوية ولو كانت عند الكفار، وأصبح المشروع الحضاري الإِسلامي للاتجاه السلفي وغيره من الاتجاهات الإِسلامية هو الدعوة إلى أسلمة العلوم والتأصيل الإِسلامي لها، كل علم بحسبه. ¬

_ (¬1) المرجع السابق 6/ 478. (¬2) أضواء البيان 6/ 479.

رابعا: الشيخ عبد العزيز بن باز

رابعًا: الشيخ عبد العزيز بن باز أختم هذا الاستعراض الموقف بعض الأعلام السلفيين من العلوم الجديدة ونظرياتها ومكتشفاتها بعلم معاصر بارز هو الشيخ "عبد العزيز بن باز" -رحمه الله-، ولاسيما مع ما يتهم به عند بعض المتغربين والعلمانيين بمعاداته للعلم والتقدم وغيرها مستندين على كذبة تكررت في كتبهم (¬1)، مكتفيًا بنموذج طريف كان له صداه وهو مسألة الوصول إلى القمر، لما في هذا النموذج من رد على المتغربين وتكوين منهجية إسلامية من المستجدات. في أثناء الحرب الباردة -كما يقال- بين المعسكرين "الرأسمالي" و"الشيوعي" وقع تسابق محموم حول بحوث الفضاء، ومن ذلك تلك الرحلات المأهولة إلى الفضاء، ونزول بعضهم على سطح القمر (¬2)، فكثر الحديث حول الموضوع ووقعت أخطاء من بعض الفضلاء حول الاستشهاد بأقوال علماء أو بتحديد معانٍ لبعض النصوص تمنع وقوع ذلك، فجاءت مشاركات مختلفة ومنها ¬

_ (¬1) انظر مثلًا: عرش المقدس. . . .، د. عبد الهادي عبد الرحمن ص 90، وانظر: العقل الايماني، حسن أحمد ص 73 ص 78 ص 116، يقول حسن: (وفي عصرنا الراهن نجد فقيه السلطة يكرس الفتوى ذاتها، فعبد العزيز بن باز رئيس هيئة الإفتاء في السعودية (سابقًا) يقول: "الفكر والكفر واحد بدليل أن حروفهما واحدة". ويجيز قتل من يقول بدوران الأرض وكرويتها، ومصادرة أملاكه بعد استتابته). وقد كرر هذا البهتان والكذب أكثر من مرة، مع أن الشيخ قد كذّبها من زمن طويل، سنة (1397 هـ) تقريبًا. انظر: مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، الشيخ عبد العزيز بن باز 9/ 226 - 229. (¬2) انظر: ملحق المصطلحات للتعريف بمشروع الرحلات للقمر مادة (القمر).

مشاركة الشيخ "عبد العزيز بن باز" -رحمه الله-، ويهم منها النقاط المنهجية التي تفيدنا في أي حادثة تشابهها. ذكر الشيخ "حماد الأنصاري" في مقالة له بمجلة "الجامعة الإِسلامية" (شوال- 1379 هـ) انقسام الناس حول الحدث إلى ثلاثة أقسام: فمصدق بهذا النبأ تصديقًا كاملًا، أو مكذب به وربما تجاوز ذلك إلى تفسيق القائلين بالصعود أو تكفيرهم -وهنا تظهر خطورة الأمر- بينما وقف فريق ثالث من أخبار هذه الحادثة موقف التثبت والاستبانة "حيث إنه لا يمكنه إعطاء معلومات يقينية على الرحلة إلى القمر، ولم يظهر لهم مقتضى الشرعية في ذلك؛ لوجود ظواهر ألفاظ آيات يحسبونها تقتضي استحالة النزول على القمر. . . ." (¬1)، فجاءت مشاركة الشيخ ابن باز -رحمه الله- في هذا السياق، ومن بين الأمور المنهجية المهمة التي تحدث عنها ما يأتي: 1 - حرمة القول على الله بغير علم وأهمية التثبت: "فلا يجوز لمن يؤمن بالله واليوم والآخر أن يقول: هذا حلال وهذا حرام، أو هذا جائز وهذا ممتنع، إلا بحجة يحسن الاعتماد عليها وإلا فليسعه ما وسع أهل العلم قبله، وهو الإمساك عن الخوض فيما لا يعلم، وأن يقول: الله أعلم، أو: لا أدري" (¬2). وقد ساق الأدلة على ذلك. وفي بيان أهمية التثبت فقد أكّد الشيخ وجوب التثبت في هذا الباب وغيره من الأبواب، وعدم المبادرة بالتصديق أو التكذيب إلا بعد حصول المعلومات الكافية، "والتبيّن هو التثبت حتى توجد معلومات أو قرائن تشهد لخبر الفاسق بما يصدّقه أو يكذبه. ولم يقل سبحانه: "إن جاءكم فاسق بنبإ فردوا خبره"، بل قال: "فتبينوا"؛ لأن الفاسق سواء كان كافرًا أو مسلمًا عاصيًا قد يصدق في خبره فوجب التثبت في أمره" (¬3). فإذا كان يجب التثبت من قول المسلم الفاسق فمن باب أولى غير المسلم، ¬

_ (¬1) انظر: أين القمر؟ حماد الأنصاري ص 99، ضمن كتاب رسالة في علم النجوم. . . .، للخطيب البغدادي، من إعداد وتحقيق طارق العمودي. (¬2) الوصول إلى القمر، عبد العزيز ابن باز ص 86، في المرجع السابق. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 86 - 87.

وفي الوقت نفسه فإن الفاسق مهما كان نجده يصدق ويكذب، مع العلم أن النشاط العلمي الحديث الذي برع فيه الكفار يدخله الخطأ ويدخله الهوى كأي نشاط بشري، ولكنه في الوقت نفسه يجد المترصدين من باحثين منافسين ومراكز بحوث منافسة، تدفعهم المنافسة إلى فضح أي خطأ قام به المنافس لهم ويدفعهم حب الشهرة إلى إثبات ما يخالفه ما أمكن إلى ذلك سبيلًا، وهو شيء يعرفه من اطلع على النشاط العلمي الحديث. وهذا يدفعنا إلى تحذير المتساهلين من المسلمين عن التسرع في التكذيب أو الرد بحجة كفرهم أو إلحادهم بحجة أن انحرافهم يدفعهم للكذب، صحيح أنهم مظنة الكذب، ولكن لا يعني أنهم يستطيعون الكذب بسهولة، فسقْطةُ الباحث في ميدان العلم سقطة خطيرة، لذا تجدهم يتجنبون الكذب ولا يشترط تنزهم عنه بقدر ما هو خشية السقوط داخل الأوساط العلمية، وهذا بالنسبة لحالهم، أما بالنسبة لحالنا فما أجمل تلك القاعدة التي قالها الشيخ أثناء حديثه في الرسالة: "ولا يجوز أن يقال بامتناع ذلك إلا بدليل شرعي صريح يجب المصير إليه، كما أنه لا يجوز أن يصدق من قال: إنه وصل إلى سطح القمر أو غيره من الكواكب إلا بأدلة علمية تدل على صدقه" (¬1)، فمن جهة المنع لابد من دليل شرعي، ومن جهة الواقع لابد من دليل علمي، وهذا هو حقيقة المنهج الإِسلامي. 2 - النهي عن التسرع في الحكم على مثل هذه المسائل وعلى القائلين بها: فبقدر أهمية التثبت في هذه الأمور الحديثة، بحيث يكون في كل مجال بحسبه، فالتثبت في أبواب العلوم لا يكون إلا بالعلم ذاته، بالبحث والملاحظة والتجريب واستخدام المناهج العلمية والابتعاد عن الانطباعات الذاتية التي وجدتُ منها الكثير وأنا في غمار هذا البحث. وإذا كان التثبت مهمًا فإن الأخطر من ذلك هو "الإقدام على التكفير أو التفسيق بغير حجة يعتمد عليها من كتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولا شك أن هذا من الجرأة على الله وعلى دينه ومن القول عليه بغير علم وهو خلاف طريقة أهل العلم. . . ." (¬2)، ثم استعرض بعض الأدلة المحذرة من ذلك. ¬

_ (¬1) الوصول إلى القمر ص 94. (¬2) المرجع السابق ص 87.

3 - سعة العلم تقلل مساحة توهم المخالفة أو التعارض: إذا جاء العالم اختفت المشاكل أو قلت، فقد تقع الحيرة من العوام أو من طلبة العلم بخلاف العالم حيث نجد عنده ما يخفف الإشكال أو يزيله، فنجد الشيخ يقول: "قد تأملنا ما ورد في الكتاب العزيز من الآيات المشتملة على ذكر الشمس والقمر والكواكب، فلم نجد فيها ما يدل دلالة صريحة على عدم إمكان الوصول إلى القمر أو غيره من الكواكب، وهكذا السنة المطهرة لم نجد فيها ما يدل على عدم إمكان ذلك" (¬1). يكتفي الشيخ بحسب تخصصه بالانطلاق من النص إلى الواقع أو الحادثة، ومن كان في مكانته كان بإذن الله أقدر على فهم النصوص والمراد منها. ويبقى بعد ذلك دور المتخصصين في تلك العلوم الانطلاق منها: من مناهجها وأدواتها وآلياتها ليتحقق من الأمر ويبين حاجتنا منها ويرتقي خطوة أكبر في تأصيلها وفي غرسها داخل ثقافتنا دون إشكالات. 4 - الموقف من اجتهادات علماء الإِسلام السابقين وتفسيراتهم للنصوص: أوضح ما نجده من أقوال لعلماء الإِسلام في الآيات الكونية نجده في تفاسيرهم، وقد يستعجل بعض طلبة العلم فينقل قول عالم من علماء الإِسلام في إحدى تلك الآيات الكونية مع أن ذلك القول قد يتعارض مع شيء من المعطيات العلمية الحديثة، ثم يجعل ذلك دليلًا على بطلان العلم الحديث في هذه القضية، وينسى بأن العالم المجتهد يجتهد فإن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر اجتهاده، فعن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا حكم الحاكم، فاجتهد، ثم أصاب، فله أجران، وإن حكم واجتهد، فأخطأ، فله أجرٌ" (¬2). فإن وجدنا لعالم من العلماء قولًا في مسائل كونية يعارض ما اشتهر في العلوم الحديثة، فعلينا التأكد من سنده، وصحة نسبته لهذا العالم، ثم نتأكد من صحة فهمنا لقوله، ثم إن ذلك قد يكون مما أخطأ اجتهاده فيه. وقد وجدت لبعض من يكتب حول هذا الباب نقولات عن ابن كثير -رحمه الله- من تفسيره أو من تاريخه أو ¬

_ (¬1) الوصول إلى القمر ص 88. (¬2) البخاري برقم (7352) باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ من كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، ومسلم برقم (1716) باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ من كتاب الأقضية.

من غيره من المفسرين مع ما يظهر في بعضها من مخالفة لمعطيات علمية حديثة، ثم لا تجد اجتهادًا من الناقل، بحيث يتأكد من صحة الأقوال المنسوبة، أو من صحة فهم المعنى، فإن ثبت الأمران فقد يكون من الاجتهاد الذي أخطأ فيه العالم -وله أجر اجتهاده- إذا خالف معطيات علمية صحيحة، ومثل هذه تحتاج الرجوع لأهل العلم. وكمثال، فأثناء استشهادات الشيخ توقف عند قوله -تعالى-: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33]، وآية يس: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40]. فنقل عن تفسير "الطبري" قول "عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه قال ما نصه: الفلك الذي بين السماء والأرض من مجاري النجوم والشمس والقمر، وقرأ: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61)} [الفرقان: 61]، وقال: تلك البروج بين السماء والأرض" (¬1). قال "ابن كثير" حوله: "ورواه ابن أبي حاتم وهو غريب جدًا بل منكر" (¬2)، فقال الشيخ "ابن باز" معلقًا على كلام ابن كثير: "وقد نقل الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في التفسير كلام ابن زيد هذا وأنكره، ولا وجه لإنكاره عند التأمل، لعدم الدليل على نكارته" (¬3). وابن كثير -رحمه الله- كان ينقل مما عُلم في عصره من "علم الهيئة" بل يذكر اختلافهم (¬4) حول ترتيب الفلك مما يدل على اطلاعه على هذه العلوم بحسب ما وصل إليه العلم في زمنه، ومن المعلوم بأنه علم يقبل التطور وقد حدث له شيء كثير بعد عصره، وهو -رحمه الله- لم يُغفل هذا العلم أثناء تفسير القرآن، ولكن لا يشترط أن صورة العلم في زمنه كانت كاملة، وحسبه أنه اجتهد فمن الخطأ أن نتوقف عند المكان الذي وقف فيه فيما يقبل النظر والبحث والاجتهاد، والله أعلم. وبهذه الآداب والتوجيهات والمنهجية أختم هذه الوقفة مع الشيخ "ابن باز" -رحمه الله-، والغرض منها إبراز هذه الرؤى السلفية، وإزالة الأوهام والأكاذيب الملفقة على الأعلام السلفيين، وبالله التوفيق. ¬

_ (¬1) الوصول إلى القمر ص 90 - 91. (¬2) تفسير ابن كثير ص 1109 - 1110. (¬3) الوصول إلى القمر ص 91. (¬4) كمثال انظر: تفسير ابن كثير، [الرعد: 2]، [الذاريات: 7]، [نوح: 15]، وانظر: [الكهف: 8]، [يس: 38].

دعوة التأصيل الإسلامي للعلوم الحديثة

دعوة التأصيل الإِسلامي للعلوم الحديثة اختلفت المواقف في العصر الحديث نحو المفيد من الحضارة الغربية، وأحيانًا نحو مجمل تلك الحضارة. وقد سبق للأمة في تاريخها المرور بمثل هذا الموقف، وكان العمل السائد آنذاك هو "الترجمة"، أعقبها ضعفٌ نسبيٌ عطّل إلى حدٍ ما المأمول بعد الترجمة، ولاسيما في العلوم الدنيوية وأبوابها، وحدث تطورٌ كبير في علمَي: "الفلك والطب" مع بقاء المصدر الأجنبي في مصادر العلم، ولم يحدث الاستقلال المعرفي، ولم تقع قطيعة معرفية كاملة مع الموروث الخارجي، لقد كانت تجربتنا التاريخية في أبواب العلوم الدنيوية ومناهج العلم -رغم ضخامتها وأثرها في انطلاقة الغرب الحديثة- ناقصة بسبب عدم نجاحها في الاستمرار. ومع أن "الترجمة" ودراسة ما ترجم كانت هي العمل السائد، إلا أنه لم يظهر من المشتغلين بتلك العلوم رغبة في تقليد النماذج الحضارية المجاورة، رغم تأثر البعض بموضوعات من الحضارات المجاورة، كان هذا هو السائد في سياق تجربتنا التاريخية، ولاسيما زمن الدولة العباسية. لقد قامت ورشة عمل مهمة داخل الحضارة الإِسلامية دون شك، وبرزت معالم انطلاقة كبيرة في علم الهيئة والطب والرياضيات وكذا في تأسيس عناصر المنهجية العلمية ولكنها توقفت قبل أن تؤتي ثمارها، ونُقلت تلك التجربة في منتصفها إلى أوروبا، ورأينا ثمرة تلك العلوم عندهم في ذاك التقدم الدنيوي الذي لا خلاف حوله. فكانت الترجمة واضحة ومشروعًا معروفًا بخلاف ورشة العمل الحضارية للتقدم بهذه العلوم فقد حدث لها توقف بعد ضعف خطير أفشل مشروعنا القديم.

اختلفت المواقف والاجتهادات حول الحضارة الغربية مع تجربة النهضة الحديثة للأمة الإسلامية، وكانت هناك دون شك مواقف شاذة، تمنع عن جهل -بالدين أو بحقيقة الحضارة الغربية- أي: استفادة من الحضارة الغربية، وقد تصدى لها جملة من علماء الإسلام. وفي المقابل هناك مواقف شاذة أخرى رأت أن المطلوب هو نقل بهرج الحضارة الغربية من أنماط معمارية جُعلت لبناء القصور والتفاخر بها أو في الأزياء أو في التنظيمات الشكلية، أو نقل الفنون والآداب والمذاهب الفكرية مع عدم عناية بالعلوم التطبيقية النافعة، حيث وجدوا في غير العلوم النافعة لذة ومتعة، وهي بطبيعتها أسهل ولا تحتاج إلى جهد ومعاناة وتكاليف مادية، فضلًا عن شُحّ الغرب بالنافع. وربما كان رفض الفريق الأول بسبب ما رآه من الفريق الثاني، قد نُطلق على الأول الفريق المحافظ، وكان معروفًا في جميع الاتجاهات الإِسلامية، بينما نُطلق على الثاني فريق التغريب على تفاوت بينهم، وهم قوم فُتنوا ببهرج الحضارة الغربية أو بفنونها، وتكاسلوا عن المهمات الحقيقية النافعة. فظهر لدينا موقف محافظ سلبي، موقف الرفض، وكان أضعف المواقف، ولم يصدر عنه منهج سليم أو محدد حول الموقف من هذه المستجدات سوى الرفض وضعف عن إيجاد طريق للحل، ولذا لا نجد مشكلة في تجاهل هذا التيار؛ لأنه لا يملك رؤية واضحة حول سبب الرفض. بخلاف الموقف الشاذ الآخر والمقابل له، فهو يدّعي أن تقدمنا وتفوقنا ونجاحنا وحضارتنا مرتبطة بتقليد الغرب، فصاغوا رؤيتهم ومنهجهم في إطار هذا الموقف، وستكون نتيجة هذا الموقف غالبًا أنه موقف استهلاكي استمتاعي؛ استمتاعي بالبهارج أو استمتاعي بالفنون وأبوابها فضلًا عما يتسرب من انحرافات من خلال هذا الموقف، وستكون مناقشة هذا الموقف في المبحث الأخير بإذن الله. ظهر تيار مخلص فيما نحسبه، نشيط وبارز، واشتهر نهاية القرن الثالث عشر الهجري، وجاء ظهوره بعد أن أغرقنا التيار السابق بما لا حاجة لنا به من أبواب الحضارة الغربية، ورأى أثر ذلك في نفوس شباب المسلمين ووقوعهم في الحيرة والشك، وانقياد بعضهم لذلك الموقف الاستهلاكي الاستمتاعي، وعيشهم حالة استلاب خطيرة، فلا هو ممن تمسك بحضارته

وثقافته ولا هو بالمحسوب فعلًا على حضارة الغرب رغم صدقه في الالتصاق بها. فجاء تيار إصلاحي إسلامي عُرف تحديدًا مع "جمال الدين الأفغاني" و"محمَّد عبده" فتبنى موقفًا جديدًا من الحضارة الغربية، لم يكن بالموقف الرافض ولم يكن في الوقت نفسه بالموقف التغريبي، كان موقفًا انتقائيًا عاقلًا مع جهده في معالجة المشكلات المتكاثرة آنذاك والمؤثرة في شباب الأمة، وغلب على طريقتهم منهجية التأويل والتوفيق دون الجرأة على المساس بمسلمات الحضارة الغربية. ولا شك أننا نجد تفسيرًا لهذا الموقف إذا تفهمنا طبيعة عصرهم دون أن نبرر لهم فعلهم، فالموقف يبقى ضعيفًا وخطيرًا؛ فهو ضعيف؛ لأنه جعل عمله فقط في إبداع القوالب التي تسمح بتسرب الحضارة الغربية دون القدرة على مواجهتها المواجهة الحضارية القوية، وهو خطير؛ لأن من جاء بعدهم حوّلوا منهج الطوارئ إلى منهج ثابت يتسع مع الأيام، فتوسع الأتباع في منهج "التأويل" ليظهر عندنا فيما بعد دينًا مبدلًا بعد أن كان مؤولًا، وسنتعرف على هذا الموقف بإذن الله في المبحث الثاني من هذا الباب. يبقى معنا "الموقف السلفي" الذي تعرفنا على بعض رموزه وبعض أصول منهجه لنبحث الآن في مشروع دعوته إلى التأصيل الإِسلامي للعلم البشري، أيًا كان نوعه وأيًا كان مصدره، ومن أي حضارة جاء. فهو يرفض من منطلق شرعي موقف المحافظين كما أنه يرفض موقف التيار التغريبي لأكثر من سبب؛ فالأول موقف ضعيف والثاني موقف خطير، كما أنه يُصحح موقف التيار الإصلاحي التوفيقي. فجعل محور دعوته: التأصيل الإِسلامي للعلم النافع، وهو أوسع من الدعوة إلى طلبها وتحصيلها ومعرفتها، فإن التأصيل الإِسلامي لا يتأتى إلا بالمشاركة الحقيقية في هذه العلوم، ويتجاوز أيضًا مسألة التوفيق لما فيها من ضعف وما ينتج عنها من مشاكل. يأخذ موضوع التأصيل الإِسلامي للعلوم أو موضوع الأسلمة كما اصطلح عليه عند البعض حيزًا كبيرًا من نشاط الاتجاه السلفي، مع العلم أنه ليس وحده في هذا الميدان بل هناك أطياف إسلامية أخرى اقتنعت بأهمية التأصيل الإِسلامي وتجتهد في تحقيقه. أقف -باختصار- مع مشروع "الندوة العالمية للشباب الإِسلامي" من بين عشرات المؤسسات الأكاديمية والثقافية التي تهتم بهذا النوع؛

1 - الوعي باختلاف أرضيات العلوم

لكونها الأحدث في هذا الباب، وتجمع نخبة من المتخصصين في الجامعات في هذا النشاط مع سيرها في إطار سلفي. وضع أصحاب المشروع "لجنة التأصيل الإِسلامي للعلوم"، وهي تعتبر من أحدث اللجان العاملة في هذا الباب (¬1)، تجمع فئة مهمة من العلماء والمختصين والمعنيين بهذه القضية، ومن بين أهدافها: "دعوة المشتغلين بالعلوم الحديثة عامة والعلوم الاجتماعية خاصة؛ لكي يقوموا بتبادل الرأي والمشورة حول نظريات تلك العلوم ومناهجها، واقتراح أفضل السبل لتطويرها في ضوء التصور الإِسلامي للألوهية والوجود والإنسان والمجتمع" (¬2). ومن ضمن مشاركات أحد أعضاء اللجنة بعنوان: "التأصيل الإِسلامي للعلوم: المفهوم والمنهج" (¬3) يمكن أخذ أهم عناصر المشروع: 1 - الوعي باختلاف أرضيات العلوم: كان الفكر السائد أن العلوم لا تتأثر بأرضياتها وخلفيات المجتمع الذي ظهرت فيه، ولكن مع تطور فلسفة العلوم ورؤية الآثار المختلفة لانتقال العلوم من مكان إلى آخر، ومع التطور في بنية العلوم ذاتها، ولاسيما مع النظريات المعاصرة في الفيزياء وغيرها، وجُد أن هناك ارتباطًا خطيرًا ومعقدًا بين العلم والبيئة التي ظهر فيها، "نحن نعرف أنه لا يوجد علم ولا منهج إلا أن يكون هذا العلم والمنهج مبنيًا أو منطلقًا من أرضية معرفية أو إبستمولوجية، وهذه بدورها تنطلق من رؤية للوجود وتصور لهذا الوجود الذي نحن جزء منه، لكن للأسف الشديد نحن خلال عقود متطاولة من الزمان قد اقتصرنا على اقتطاف ثمار هذه العلوم باستخدام "المنهج العلمي" ولم نلتفت إلى الأرضيات المعرفية والوجودية التي انطلقت منها تلك العلوم الحديثة. ¬

_ (¬1) كان ذلك أول سنة (1423 هـ)، انظر: التقرير السنوي لعام (1424 هـ) للجنة التأصيل الإِسلامي للعلوم ص 1. (¬2) المرجع السابق ص 2. (¬3) هو الأستاذ إبراهيم عبد الرحمن رجب، وكانت أول ملتقيات اللجنة بمشاركة الدكتور عبد الرحمن الزنيدي، وخرجت في كتيب من إصدارات الندوة العالمية للشباب الإسلامي.

2 - الوعي بمشقة المشروع

فالمشكلة الكبرى عندنا أن تلك العلوم الحديثة، سواء كانت علومًا طبيعية أو تسمى بالطبيعية أو علومًا اجتماعية، إنما نمت ونبتت في ديارنا مرتبطة بأصولها المعرفية الوجودية التي تختلف عن أرضيتنا المعرفية والوجودية، ومن هنا. . . . نتيجة لانطلاق علومنا من تلك الأصول -فلم يحدث أبدًا أن ارتبطنا بها، خصوصًا في العلوم الاجتماعية. . . ." (¬1)، ونتيجة لذلك أخذت قضية التأصيل الإِسلامي للعلوم مكانتها في مشروعات الفكر الإِسلامي، ولاسيما في صنع علاقة يتلاقى فيها الأصول المعرفية والوجودية لهذه العلوم مع أصولنا المنطلقة من عقيدتنا والتي بنيت عليها مجتمعاتنا (¬2). 2 - الوعي بمشقة المشروع: مشروع "التأصيل" الذي يتبناه الفكر الإِسلامي المعاصر، ولاسيما عند الاتجاه السلفي مشروع شاق، إنه ليس مشروع "ترجمة" كما عرفته حضارتنا الإِسلامية في الماضي أو أول عصر النهضة الحديثة، وليس مشروع تعلم ودراسة كما وقع في عصرنا الحديث عبر مشروع "الابتعاث" الذي لم ينقطع من قرنين. الأول يحتاج توفير مترجمين رغم تعقد التصور الحديث حول الترجمة، والثاني يحتاج إلى إمكانيات مادية بعد أن أصبح العلم تجارة في الجامعات الغربية، بخلاف مشروع "التأصيل" فهو يحتاج إلى كل ما سبق وزيادة، فهو في حاجة إلى صناعة طاقات جديدة ورؤية جديدة، فنحن من جهة في حاجة إلى "فهم واستيعاب العلوم الحديثة في أرقى تطورها، وتحليل واقعها بطريقة نقدية لتقدير جوانب القوة والضعف فيها من وجهة نظر الإِسلام"، يقابل ذلك "فهم واستيعاب التراث المنطلق من فهم المسلمين للكتاب والسنة" لنصل إلى "القفزة الابتكارية الرائدة اللازمة لإيجاد تركيبة أو توليفة تتكامل فيها معطيات هذه العلوم الشرعية من جهة، ونتائج العلوم العصرية التي تمت غربلتها بما يساعد على تحقيق غايات الإِسلام العليا" (¬3). ¬

_ (¬1) التأصيل الإِسلامي للعلوم. المفهوم والمنهج، د. إبراهيم رجب وَد. عبد الرحمن الزنيدي، ص 7، من كلام د. رجب. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 8، من كلام د. رجب. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 9 - 10.

3 - قوة التماسك في منهج التنظير وفي العمل التطبيقي

فالدعوة إلى "التأصيل" تتطلب جهدًا خارقًا من المسلمين، فللدعوة متطلبات كبيرة، لا ينفع معها الكسل أو الجهد المتقطع، ومن يدرس لكي يحصل على مجرد مؤهل (¬1)، يستحيل أن يكون قادرًا على مهمة التأصيل، فلا أصحاب الترجمة ولا أصحاب الابتعاث إن كان همهم فقط المؤهل، بقادرين على هذا المشروع، وهو وإن كان شاقًا إلا أنه مهم. 3 - قوة التماسك في منهج التنظير وفي العمل التطبيقي: لابد أن يكون مشروع التأصيل قويًا في باب التنظير بحيث لا يسمح بالانحراف أو الضعف أو الانقطاع في جانب التطبيق (¬2)، فقد رأينا مشكلة المنهج التوفيقي الذي عرفه العالم الإِسلامي مع الشيخين: "جمال الدين الأفغاني" و"محمد عبده"، حيث كان هدفه النهوض الحضاري بالمسلمين، فإذا هو قد تحول مع الأتباع والمتأثرين إلى "مسار انفلاتي" أول الأمر، ثم إلى "علمانية صريحة" (¬3) بعد ذلك. لا يعني ذلك عدم الوقوع في الخطأ؛ فإن التأصيل عمل اجتهادي (¬4)، والمجتهد قد يصيب وقد يخطئ، ولكن من المهم وجود شروط قوية تساعد المجتهد في عمله من جهة وتخفف أخطاءه من جهة أخرى. خلاصة حول المنهج السلفي: 1 - قاد أعلام المنهج السلفي دعوة تجديدية لا خلاف حول أثرها في ¬

_ (¬1) انظر: التأصيل الإِسلامي للعلوم. المفهوم والمنهج ص 10. (¬2) انظر: المرجع السابق حول صورة منهجه التنظير وصور التطبيق، د. رجب، المرجع السابق ص 12 - 18. (¬3) انظر: المرجع السابق، من كلام د. الزنيدي ص 22. (¬4) انظر: المرجع السابق، من كلام د. محب الدين أبو صالح ص 36. وانظر حول مشروع التأصيل الإِسلامي: التأصيل الإِسلامي للعلوم الاجتماعية، د. إبراهيم رجب، تمهيد في التأصيل (رؤية في التأصيل الإِسلامي لعلم النفس)، عبد الله الصبيح، التأصيل الإِسلامي للعلوم الاجتماعية، محمَّد قطب، نحو منهجية إسلامية للعلوم الإنسانية والاجتماعية، د. سيد محمَّد الشنقيطي، مدخل إلى إسلامية المعرفة، د. عماد الدين خليل، مقدمة في إسلامية المعرفة، طه العلواني، إسلامية المعرفة. . . .، إسماعيل الفاروقي. فهذه المجموعة بالذات قد استفدت منها في البحث، والحقيقة أن هناك مكتبة ضخمة في هذا الباب، لدرجة أنه قد يتكون من هذه المكتبة مدارس داخل الحقل الإِسلامي بينها بعض الفروق، تقل وتتسع بحسب الاقتراب من السلفي أو العصراني.

تاريخنا الحديث، عُنيت بتصحيح الدين والاهتمام بالتوحيد، وقيام الدين عقيدة وشريعة في حياة الناس. 2 - هزت الحركة السلفية هزًا عنيفًا كل معوقات انطلاق الأمة ومثبطاته، مثل: التعصب والجبرية والإرجاء والخرافات القبورية ما في بابها وكلها قيود خطيرة. 3 - أخرجت الحركة السلفية للعالم الإِسلامي تراثًا إسلاميًا محفِزًا للعمل ومصفّيًا للاعتقاد ولاسيما تراث أعلام المذهب السلفي في كل القرون مع عناية خاصة بأعلام القرن الثامن كابن تيمية -رحمه الله- ومن معه. 4 - إعلان صريح وقوي حول أهمية أخذ عناصر قوة الغرب، ولتكن البداية بالجوانب التي لا لبس فيها مثل العلوم والصناعات ومناهجها المفيدة، فالحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أولى بها. 5 - الانتباه والحذر مما يشغلنا عن المهم مما تستلذ به الأنفس لكن لا تحصل منه قوة، كما أنه ممتلئ في الوقت نفسه بأصناف الانحرافات، مثل الآداب والفنون وكثير من الفلسفات، فحتى على افتراض سلامتها، فإن العاقل يعلم أن البداية تكون بالأهم الذي لا نختلف حول فائدته جميعًا بكل اتجاهاتنا. 6 - الدفاع عن الاجتهاد والتجديد والنظر الصحيح والعقل السليم والعلم النافع والبعد عن الخرافة والتقليد والعلوم المخدرة أو الضارة. 7 - الوحي من عند الله سبحانه، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، هو نور وبرهان وهو الحق المبين، فهو المقدم وهو الأصل لكل ما سواه، ولا يوجد حق في عقل أو علم أو حس إلا ويتوافق مع القرآن، بل ينبع منه، ولا يوجد حق يعارض الوحي. 8 - لا يمكن أن يوجد تعارض بين الدين والعلوم البشرية، وعند وجود تعارض بين ظاهر النص وبين حقائق علمية لا يمكن إنكارها، فنعلم علم اليقين بأن هذا المفهوم من النص غير مراد بشرط أن يكون العلم حقائقَ لا شك فيها، وعندها يفسر النص بما يقترب من سياقه، وإن خالف بعض اجتهادات أهل العلم السابقين؛ لأن العالم المجتهد يصيب فله أجران ويخطئ فله أجر. 9 - يلتزم أهل السنة بالتثبت والتبيّن وعدم الاستعجال في رد أقوال أهل

العلوم أو قبولها، حتى يتثبتوا من صحتها، والمقصود من ذلك ما ظاهره يوهم التعارض مع نصوص أو عقائد إيمانية، وإلا فما لا يتعارض مع النصوص فلا كلام حوله، وهو متروك لعقول الناس وعلومهم وجهودهم. وبعد هذه الوقفة مع الاتجاه السلفي، والتعريف به وبنماذج من علمائه، وبطريقة تعاملهم مع العلوم العصرية ونظرياتها، ولاسيّما من جهة العلاقة بالدين القائمة على إيجاد الانسجام بين الدين وبين هذه العلوم، ومن جهة العلاقة بالدنيا القائمة على حثّ المسلمين على أخذ هذه العلوم وتأصيلها في بيئتنا العلمية، والانتفاع بها. ينتقل البحث إلى طائفة أخرى في الفكر الإِسلامي، اعتنت كثيرًا بمشكلة العلوم العصرية ونظرياتها وبشأن الحضارة الغربية، ولكن بمنهجية لا يقبلها الاتجاه السلفي بكل مكوناتها رغم وجود قواسم مشتركة في بعض الأبواب، ألا وهو الاتجاه العصراني.

المبحث الثاني موقف الاتجاه العصراني الداعي لتأويل ما توهم تعارضه من النصوص الشرعية مع العلم الحديث

المبحث الثاني موقف الاتجاه العصراني الداعي لتأويل ما توهم تعارضه من النصوص الشرعية مع العلم الحديث أولًا: ما الاتجاه العصراني؟ تواجهنا مشكلة التعريف لهذا الاتجاه، والاسم الذي سيُطلق عليه، فإن قلت باستخدام مصطلح "العصراني" أو "العقلاني" فهما من صفات المدح التي تناسب أكثر من اتجاه ومع ذلك فهما من أكثر المصطلحات إطلاقًا على هذا الاتجاه. وكذا إطلاق مصطلح الاتجاه الإصلاحي أو التجديدي أو التحديثي، والأولان أقرب إلى بيئتنا الثقافية بخلاف الثالث فهو متصل بالفكر الحديث ولاسيّما الغربي، وجميعها مصطلحات تتشبع بالمدح والثناء على هذا الاتجاه مع أنها تُناسب في الوقت نفسه غيرهم. يظهر هنا خداع المصطلحات وصعوبة إطلاقها على اتجاه بعينه، ومن زمن وأنا أتأمل في مشكلة تسمية هذا الاتجاه وغيره، فلا يوجد مصطلح محايد وموضوعي، كما أنه لا يوجد تيار إلا ويبحث عن أفضل الأسماء للتعبير عن ذاته، وهذا الاتجاه بالذات يكتسب تعريفه وتسميته صعوبة بسبب تنوع أطيافه واختلاف نشاطاتهم، ولم أقتنع بكثير من

التسميات التي أطلقت على هذا التيار المشهور داخل العالم الإسلامي. إذا رجعت إلى موضوعي وهو العلاقة بالعلم الحديث: فإن أقرب التسميات المناسبة لهذا الاتجاه حول علاقته بهذا العلم هي الاتجاه التوفيقي أو العصراني، فإذا كان الاتجاه السلفي قد يتميز بدعوته الإصلاحية وقطبها العودة إلى الدين بصفائه ونقائه، فإن من بين أهم ما ميّز الاتجاه التوفيقي هو إثبات عدم وجود مشكلة بين الدين والعلم، ومن أهم شخصيات هذا الاتجاه الشيخ "محمَّد عبده" الذي كتب في آخر حياته عن مشروعه الذي سعى إليه، فقال: "ارتفع صوتي بالدعوة إلى أمرين عظيمين: الأول: تحرير الفكر من قيد التقليد وفهم الدين على طريقة سلف الأمة ضمن موازين العقل البشري. . . . وأنه على هذا الوجه يُعد صديقًا للعلم، باعثًا على البحث في أسرار الكون، داعيًا إلى احترام الحقائق الثابتة، مطالبًا بالتعويل عنها في أدب النفس وإصلاح العمل. كل هذا أعده أمرًا واحدًا. وقد خالفت في الدعوة رأي الفئتين العظيمتين اللتين يتركب منهما جسم الأمة: طلاب علوم الدين ومن على شاكلتهم، وطلاب فنون العصر ومن هو في ناصيتهم" (¬1). يظهر في منهجه أهمية إخراج صورة للدين تجعله صديقًا للعلم، صحيح أن سياق النص يفيد بأننا إذا فهمنا الدين على طريقة السلف فإنه سيكون صديقًا للحقيقة ولا يتعارض معها، ويبقى الغامض في السياق مراده بـ"ضمن موازين العقل البشري"؛ فهو يحتمل أكثر من وجه، وإن كانت تطبيقات الشيخ ستزيل كثيرًا من غموضه. وإذا كان الاتجاه السلفي قد اهتم بصفاء الدين دون حبسه في إطار خارج عنه مثل العقل أو العلم، وإن كان يتفق مع فكرة الشيخ محمَّد عبده بأن الدين الحق هو صديق للحق في العقل أو العلم، ولكنه يختلف معه في جعله العلم أو العقل هو المحدد لما يقبل من الدين أو لا يقبل. فبسبب الحضور الطاغي للفكر الغربي والعلم الحديث في مشروع الشيخ محمَّد عبده وأتباعه من بعده أمكن تفضيل إطلاق مصطلحي: "التوفيقي" أو ¬

_ (¬1) الإِمام محمَّد عبده. مجدد الدنيا بتجديد الدين، د. محمَّد عمارة ص 181 عن تاريخ الأستاذ الإِمام، محمَّد رشيد رضا 1/ 11 - 12، وانظره في مجلة المنار، ملخص سيرة الأستاذ الإِمام (مذهبه وطريقته في الإصلاح)، مجلد 8، جزء 23 ص 881، عدد ذي الحجة، سنة (1323 هـ)، وانظر: عند أحمد أمين: زعماء الإصلاح في العصر الحديث ص 327.

"العصراني" على هذا الاتجاه، فهو لم يواجه مشكلات موروثة وإنما مشكلات معاصرة، فمجتمعه قد عرف غزوًا كبيرًا جديدًا لم يكن معهودًا، ولاسيّما في ميدان العلوم والأفكار، فجاءت محاولتهم للتعامل معها، وبما أنها مشكلات عصرية جديدة كان من المناسب تسمية أصحاب هذا الاتجاه بـ"الاتجاه العصراني". وحقيقته هو محاولة التوفيق بين الدين والصحيح من الأفكار والعلوم الجديدة، والعمل التوفيقي عمل مشروع بضوابطه وشروطه، والخطورة عندما يتحول إلى عمل تلفيقي أو إلى عسف لصالح الأدنى. وهو منهج لا يُستغرب ظهوره في مثل هذه الحالات، فالمجتمع يعج بالأفكار والعلوم الجديدة التي تتعارض ظاهرًا أو حقيقة مع صورة الدين في ذاك المجتمع، وهي صورة دينية يغلب عليها التصور "الصوفي / الكلامي"، وإنما المهم سلامة شروطه وأركانه وتطبيقاته (¬1). وبقدر ما يكون وجود هذا المنهج أمرًا يتوقعه الذهن لمعالجة هذه الحالة، فهو أحد المناهج المهيأة للخروج في مثل هذه الأجواء الثقافية والفكرية، ومع ذلك فهناك حالات مشابهة كانت قد سبقت في الظهور في الهند وفي عاصمة الخلافة العثمانية. كما أن هناك حالات أخرى قد سبق ظهورها في أوروبا مع الديانتين الأشهر هناك "اليهودية - النصرانية"، حيث سبق لأتباع تلك الديانتين الاصطدام بالمستجدات الفكرية والعلمية. بدأ الأمر بالرفض من قبل الكنيسة بل إقامتها حربًا شديدة على المفكرين والعلماء الجدد، ثم ضعف موقف الرفض الديني لأنه كان يحمل الخطأ والانحراف والضعف في بنيته، فجاء تيار آخر معارض فرض نفسه بقوة، وهو التيار العصراني، الذي يراعي في المقام الأول التوفيق بين الدين اليهودي أو النصراني مع العلم الحديث (¬2). من بين التعريفات لها، أنها: "حركة فكرية واسعة نشطت في داخل الأديان الكبرى" داخل اليهودية وداخل النصرانية، وداخل الإِسلام أيضًا، وعرفت في الفكر الغربي باسم العصرانية " modernism". وكلمة عصرانية هنا لا تعني مجرد الانتماء إلى هذا العصر، ولكنها مصطلح خاص -إذ تعني العصرانية في الدين: ¬

_ (¬1) انظر. مبحث دعوى التعارض من الباب الثالث من هذا البحث، فهناك مزيد دراسة. (¬2) انظر: الدراسة المميزة حول الموضوع لبسطامي محمَّد سعيد، مفهوم تجديد الدين.

أي: وجهة نظر في الدين مبنية على الاعتقاد بأن التقدم العلمي والثقافة المعاصرة يستلزمان إعادة تأويل التعاليم الدينية التقليدية على ضوء المفاهيم الفلسفية والعلمية السائدة" (¬1). يكشف التعريف بثقل المعارف الجديدة على فكر هؤلاء لدرجة أن جعلوها الأصل، ومن ثمّ القيام بتأويل ما يعارضها من الدين، ومع أنه من المتفق عليه أن المعارف تقبل التغيّر وأن الدين في أخباره وأصوله العامة لا يقبل التغير؛ إلا أنهم جعلوا الدين بمثابة المتغير الذي يمكن تعديله ما بين فترة وأخرى. يعطينا هذا التعريف الإطار العام لحقيقة هذا الاتجاه وهو في الوقت نفسه يحيلنا لمشكلته المنهجية، والمتأمل في أفراده لا يجدهم سواء، فمنهم من يبالغ في التأويل ومنهم من يتحفظ ولا يتسرع، ومع ذلك فالإطار العام يحويهم جميعًا، فهم قد جعلوا من صلب مشروعهم إيضاح العلاقة بين الدين والعلم. فسنجد صورة من الغلو تكاد تذهب بالدين كله كما هي الحال مع تجربة الاتجاه (التوفيقي - العصراني) الهندي، بخلاف الحال في الجزء العربي من العالم الإِسلامي، ولاسيّما مع الشيخين "جمال الدين الأفغاني" و"محمَّد عبده"، حيث كانا في هذا الباب بالذات أكثر اعتدالًا مما وقع لأهل التجربة الهندية، إلا أن المتأثرين بالشيخين انقسموا إلى قسمين: فمنهم قسم: حافظ على الاعتدال ولاسيّما من تأثر منهم بكتب شيخ الإِسلام ابن تيمية وابن القيم -رحمهما الله-، فمع احترامهم للشيخ محمَّد عبده وتقديرهم لمكانته وجهوده؛ إلا أنهم خالفوه في منهجه وكثير من مواقفه وتطبيقاته، وهم أعلام كثر في مصر والشام والعراق وبلاد المغرب وغيرها، ومن هذه الطائفة من حافظ على الصلة بالمنهج (الصوفي/ الأشعري) وظلّ وفيًا لمنهج الشيخ محمَّد عبده وهم مجموعة من فضلاء الأزهر. أما القسم الثاني: فهم الذين جرفتهم تيارات التغريب والعلمنة إلى صفوفها، وصرفتهم إلى قضاياها، ووجهت جهدهم ونشاطهم في خدمة أهدافها، ¬

_ (¬1) انظر: العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب، محمَّد الناصر ص 186، وانظر: المورد، منير البعلبكي ص 586، وقد ساد في الكتابات المعاصرة إضافة (الألف والنون) آخر الكلمة لتسمية الاتجاه.

ثانيا: ظهور الاتجاه العصراني وحقيقة منهجه

وإن كانوا في أنفسهم ربما يرفضون هذا الانتساب، ولكن الحكم هو بأعمالهم، وهي أعمال تصب في خانة التغريب والعلمنة. سأذكر بعض النماذج التي تُبين لنا حقيقة موقف هذا الاتجاه من العلوم الحديثة، أبدؤه بالنموذج "الهندي"، ثم أنتقل منه إلى النموذج "العربي" الأشهر والأبرز مع "جمال الدين الأفغاني" و"محمَّد عبده". أما المتأثرون بهذه المدرسة فهم كثر، وقد غطتهم كثير من الدراسات، فلعل الاكتفاء بالأصل فيه غُنية عن الفرع. وإن تساءل متسائل: لماذا لم نطل الحديث هنا كما فعلنا مع السلفي أو نختصر هناك كما فعلنا هنا؟ فجوابه: أن الاتجاه السلفي كان مقصيًا من أغلب الدراسات المعاصرة مُحَاربًا من تيارات فكرية، غُمط حقه وموقفه وظلم كثيرًا وبُهت أحيانًا، فأردت كشف شيء من الحقيقة بخلاف الاتجاه "العصراني - التوفيقي" فقد حظي بدراسات كثيرة. ثانيًا: ظهور الاتجاه العصراني وحقيقة منهجه: يصعب البحث عن أسباب ظهور الاتجاه العصراني -التوفيقي- الذي ضعف أمام الحضارة الغربية في الجزء العلمي والفكري منها على وجه الخصوص، وتجرأ -بدرجات متفاوتة- على النصوص والأصول فأوّلها لصالح هذا الوافد العلمي والفكري، لكن يمكن الوقوف على بعض المعالم المهمة في الموضوع. لقد كشف الفصل الثالث والرابع أن قرار الاستفادة من الحضارة الغربية كان سياسيًا في المقام الأول ولم يكن من قبل العلماء والمفكرين، ولم يكن لهم دور واضح في الموضوع. وقد رأينا تأخر الأزهر -وهو أهم مركز علمي إسلامي، مع بقية المراكز العلمية الإِسلامية- في إخراج موقف واقعي وعملي يمثل شخصية الأزهر، وأثر تأخره في تباين المواقف العلمية، ثم سيطرة الموقف المحافظ الجاهل بحقيقة الحضارة الغربية والرافض لها تبعًا لذلك، ومع أن شيخ الأزهر "حسن العطار" هو من شفع لـ"رفاعة الطهطاوي" أحد خريجي الأزهر لمرافقة أولى رحلات الابتعاث للغرب؛ فإن عمله كان عملًا فرديًا لا علاقة له بواقع الأزهر، والطهطاوي كانت رحلته لرعاية المبتعثين. كانت حالة الضعف مخيمة على العالم الإِسلامي، وكان الجهل بطبيعة الغرب وخطورته وقوته المادية بالدرجة نفسها؛ مما يجعل الذهاب إلى هناك في

حكم المغامرة، ولكن الأهواء السياسية وحب السلطة والقوة دفعت ببعض الولاة -في الغالب- إلى إرسال هؤلاء الشباب دون تهيئة حقيقية لهم، أو تهيئة حقيقية للمجتمع الذي سيعودون إليه، وعندما عادوا وجدوا صعوبة في إدخال ما حصّلوه من علوم إلى بنية التعليم في المجتمع الإِسلامي، ووجدَ التيار المحافظ في بعض أخطاء المبتعثين وضعف الشخصيات المبتعثة فرصة لشجب هذه العلوم المنقولة. ولكن السلطة فرضت معاهد جديدة وسمحت آنذاك بوجود غربي خطير عبر الصحافة والمدارس والإرساليات والمحافل الماسونية وغيرها؛ مما نتج عنه انتشار لعدد من المعارف والأفكار داخل المدن الإِسلامية الكبرى ولاسيّما: إستانبول والقاهرة. وقد استقبلها جيل من الشباب المثقف وتأثر بها وأعجب بها، وأصيبوا بهزيمة نفسية أمام الوافد الغربي، وأصبحت الحال مخيفةً آنذاك. تفرض هذه الحالة الجديدة أشكالًا مختلفة من المواقف: ظهر الموقف المحافظ الخائف الذي رأى الحل في إقفال باب الشر، ولم يستوعب أن ما يعرضه يزيد المشكلة. بينما الموقف السلفي كان غريبًا في بيئات المدن الكبرى -حيث كان السائد فيها مذهب (صوفي / كلامي). فلم يظهر له موقف من هذه الأحداث، وتأخر حتى تعرف عليها وأخرج موقفه الذي عرضنا بعض ملامحه في البحث السابق القائم على إيجاب إعداد القوة ولو بطلب علومها من أعدائنا مع رفض ما يتعارض مع النص والأصل، والاجتهاد في تأصيل هذه العلوم داخل البيئة الإِسلامية. لكن الذين اصطلوا بالصدمة الأولى من دخول أجزاء من مكونات الفكر الغربي إلى العالم الإِسلامي كان لهم موقف آخر هو الموقف (التوفيقي / التأويلي)، والفرضية التي أسوقها في هذا الإطار: أن ميل أصحاب هذا الموقف إلى (التوفيق / التأويل) له صلة بطبيعة انتمائهم إلى تيار (صوفي / كلامي) كان الرأي السائد عند أغلب شخصياته: "تقديم العقل على النقل وإعمال منهج التأويل عند حدوث التعارض أو التفويض"، وهم ينتمون إلى البيئة نفسها التي خرج منها التيار المحافظ الرافض، ولكن التيار المحافظ لم ينتبه إلى أن العقل الغربي الحديث هو من نوع العقل الذي يقدمونه على النقل في المنظور الكلامي التراثي، أو هو نفس المفهوم. وعندما جاء الجيل المثقف منهم وجد أن المبررات الموجودة عند قدماء المتكلمين هي نفسها تتكرر اليوم مع العقل الغربي الحديث. ومن هنا جاء تسامحهم مع التأويل، بل ربما يجدون في الحجج

العقلية والعلمية الحديثة ما هو أكثر تطورًا واكتمالًا مما عُرف عند الماضين؛ لذا يكون أهل العصر أولى بالتأويل من القدامى. وعندما يكون العالِم منهم أقرب للمتكلمين؛ تجده أكثر تساهلًا في باب التأويل مثل الشيخ محمَّد عبده، فمع أنه على طريقة صوفية أول حياته وعلى المنهج الأشعري من جهة المعتقد؛ إلا أنه بعد احتكاكه بالأفغاني مال إلى التصوف العقلي وتأثر بالفلسفة والاعتزال فضلًا عن مذهبه القديم، فمال إلى التأويل. أما إذا كان العالم منهم أقرب للمتصوفة، فتجده أكثر احتياطًا في باب "التأويل" وأقرب إلى "التفويض" وتعظيم النص، كما هو واضح مثلًا مع الشيخ حسين الجسر، فهو شيخ الطريقة الرفاعية مع ما اشتهر عنها من هرطقات يظهر -بحسب كلام تلميذه محمَّد رشيد رضا- أنه ينفر منها ولكنه لا يستطيع المجاهرة بمعارضتها، فقد لاحظت أن هذا الشيخ يحرص على "التفويض" في الأمور التي يشعر بأنها تتعارض مع أصل ديني أو نص شرعي، وإذا انصرف إلى التأويل فمع كراهة واحتراز وتحوط واضح. لم يكن علماء هذا الموقف على صلة ومعرفة بـ" الاتجاه السلفي"، وكان زمنهم زمن التشويه للاتجاه السلفي، حيث كانت آلية التعصب قد دفعت بأصحابها إلى اختلاق الأكاذيب حول هذا الاتجاه والقيام بحملة إعلامية خطيرة، شاركت فيها قوى سياسية آنذاك، لدرجة أن كتب ابن تيمية يحذر منها ويمنع من قراءتها ويتهم من عرف عنه الاهتمام بها، ولا يصل إليها بعضهم إلا عن طريق الاحتيال. فانصرف أعلام هذا الموقف إلى المنهج (التوفيقي/ التأويلي) لكونه معروفًا في بيئتهم الدينية والعلمية، ووجدوا فيه حلًا للمعضلة التي أغرقت الشباب المثقف في بيئاتهم آنذاك. لقد ظهر هذا التيار ليواجه مشكلة حقيقية عصفت ببيئتهم، ومن طبيعة المشاكل أنها توقع الحيرة حتى عند الحكماء فيطرحون حلولًا ناقصة أو ضعيفة، فكيف وأصحاب هذا التيار ينتمون لإرث ديني وثقافي معقد (صوفي / كلامي)، فيكون نظرهم آنيًا مرتبطًا بالمشكلة القائمة ورفعها. ولا أشك بأنهم كانوا في ظرف صعب، وأنهم مجتهدون في حلّ المشكلة ويرغبون في إنقاذ الأمة، ولكن صورة الحل لم تكن صائبة رغم جاذبيتها آنذاك ودورها في تخفيف المشكلة. فالذي يظهر أنهم عرضوا موقفهم كإنقاذ للمجتمع، ومحاولة لاسترداد تلك النخب من تغربها وتفلتها من الدين، وكان المجتمع هو همها لدرجة أننا لا نجد علاقة

ثالثا: النموذج الهندي العصراني

بين هؤلاء العلماء وبين المختصين في تدريس العلوم الحديثة، علاقة تفرز موقفًا موحدًا ينهض بالأمة، بل كان مدرس الجغرافيا والفلك يُدرّس النظرية الجديدة في الفلك ويقوم بنفسه بعمل التأويل والتقريب بين النصوص الشرعية وبين ما يُدرّسه دون أن تظهر صلة بأعلام التيار التوفيقي. ولم أستطع من خلال ما وصلت إليه من مراجع إيجاد صلة عملية حقيقية بينهم، حتى النقاش العلمي بين المواقف لم أجد شيئًا يثبت مثل ذلك رغم أهميته، إلا ما يدور في صحافة ذاك العصر، ولكنه لم يكن حوارًا بين المتخصصين في العلوم الحديثة وبين علماء الشريعة. وإن لم تظهر العلاقة بين علماء الشريعة والباحثين في العلوم العصرية؛ فقد كانت العلاقة بين هؤلاء العلماء والمجتمع قوية، ولاسيّما النخبة المثقفة التي تأثرت بالصحافة والتعليم والمراكز الثقافية وبالاطلاع الفردي فضلًا عما يضغط به أتباع الطوائف الغربية المنتشرة في مدن العالم الإِسلامي آنذاك، وبسبب ذلك يكون التأويل عملًا يراعي ثقافة المجتمع وحدود معرفته ولكنه لا يراعي المعارف العلمية وعلماءها. فكان عملهم التأويلي أشبه بالمُسكّن الذي أوقف إلى حدٍ ما زحف التغريب والتفلّت الديني، ولكنه لم يكن من الجهة العلمية مقنعًا لمن عندهم اطلاع على المعارف الحديثة. وقد كان من آثار ذلك أن ذهب أثر المُسكّن مع اكتشاف معارضات جديدة نقضت القديمة، وفي الوقت نفسه وجد أصحاب المعارف الحديثة أن عملية التأويل هي أشبه بالاحتيال على النص الشرعي أو الأصل الديني، فلماذا لا يُوسع هذا الاحتيال؟ ومن هنا حوّل أتباع هذا التيار هذا الدين المؤول إلى دين مبدل، حيث انفلت أتباع التيار إلى دعوات علمانية صريحة بعيدة عن الدين حتى بصورته المؤولة، وقد كانت هذه من أخطر ثغرات هذا المنهج العصراني. ثالثًا: النموذج الهندي العصراني: لقد رأينا في الفصل الثالث أن تجربة المسلمين في الهند كانت تجربة مهمة حول العلاقة بالحضارة الغربية وما ارتبط بها من علوم حديثة ذات أثر في تقدمهم وقوتهم، ومن أسباب أهميتها أنها سبقت تاريخيًا بلاد المسلمين الأخرى لاسيما على مستوى المجتمع وبعيدًا عن السلطة والحكومات. كان من بين أشهر ما ظهر هناك مدرسة "سيد أحمد خان"، تلك المدرسة

التي أُعجب شيخها بالحضارة الغربية، وتصادق مع الإِنجليز، وتحول إلى داعية لتلك الحضارة ومبشرًا بها، دون أن يُظهر قدرته على الاختيار المستقل والنقد. فقد أخذ بالحل الأسهل وهو قبولها بحذافيرها مع الابتداء بالجانب الفكري والأدبي فيها، الذي هو الأكثر إشكالًا حتى في بيئتها الغربية. واختيار الحلّ الأسهل ليس بطريق الأقوياء الواثقين من هويتهم، والقادرين على التفاعل الإيجابي -لا السلبي- مع غيرهم، وهو خطأ التيار "الديوبندي" نفسه في اختياره للحل الأسهل القائم على الرفض العام للحضارة الغربية. فهو ليس بطريق الأقوياء بل أقرب إلى طريق المستهترين بهويتهم أو الخائفين، وما كان هذا الأصل في الأمة الإِسلامية في أثناء مواجهتها للتحديات. بدأت معالم الضعف تتكون في مدرسة "سيد أحمد خان" لتنتشر بعده إلى أغلب بلاد المسلمين، وسنرى فيما بعد أن الشيخ محمَّد عبده يُشبّه في مواقفه -مع كونه أعقل- بسيد خان الهندي، مما يدل على أن طريقته تعممت على مستوى العالم الإِسلامي، فهي وإن جرّأت أتباعها على اقتحام الحضارة الغربية؛ فإنها أعطتهم السلاح الضعيف، منحتهم ما يساعدهم على الدخول دون أن تعطيهم ما يحميهم في الوقت نفسه من الآثار الجانبية لهذا الدخول. الطبيعة والتأويل: يُعد "سيد أحمد خان" بين أتباعه من علماء الشريعة، ولذا كان موقفه يمثل عندهم موقف عالم الشريعة المجتهد، ويختلف بهذا عن التغريبي العلماني الذي لا صلة له بعلوم الشريعة، فيُعدّ موقف "سيد أحمد خان" موقفًا دينيًا في المقام الأول؛ ولذا يُحسب على الاتجاهات الدينية. عاش الشيخ في بيئة تغلي بالصراع بين العلم الموروث والعلم الوافد، وكان العلم الوافد قد اشتهر عبر المدارس التبشيرية والمعاهد الإِنجليزية والشخصيات الفكرية الغربية الموجودة في الهند، في فترة كانت طبيعيات "نيوتن" وتطورية ومادية "داروين" هي البارزة في الفكر الإِنجليزي وانتشرت في الأجواء الهندية لاسيما مع المتحمسين للحضارة الغربية عبر ممثليها الإِنجليز. لقد كانت الحضارة الغربية بحسب صورتها في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر بما في ذلك العلوم الحديثة هي قِبلة "سيد أحمد خان"، وكانت ملامسته لها

ملامسة المثقف، يعرف الأفكار الأساسية فيها دون التفاصيل، وقد انطبع عنده عنها انطباعٌ حسن فتقدمت على غيرها لدرجة أنها تقدمت على الدين ذاته. الملفت في النموذج العصراني الهندي المنبهر بالحضارة الغربية هو الحضور الطاغي للحضارة المادية وضعف عنايته بالدين لدرجة سهولة إهماله وتقديم الفكر الغربي عليه، وكأن الدين هو العائق عن التقدم أو أن الانطلاق للتقدم لا يكون منه وإنما من غيره. قد لا يصرحون بذلك، ولكنه حال موقفهم للمتأمل فيه، والدليل على ذلك أن الحضارة الغربية بما في ذلك ما عرفته من علوم جديدة قد أصبحت مقياسًا لما يُقبل من الدين وما يردّ، إما بالتحايل عن طريق التأويل أو برده مباشرة دون البحث عن مخارج تأويلية. وهو يختلف عن موقف الواثق بدينه، المؤمن بأنه من عند الله سبحانه، وأنه لا يأتيه الباطل، فإنه يجعل دينه مقياسًا لكل شيء، ولا يستعجل في عمليات التأويل والتوفيق إلا بعد تأكده بأنه قد فهم أصله الديني حق الفهم وفهم في المقابل حدود المعارض له في الظاهر، عند ذلك تُدرس الحلول المقترحة لمعالجة التعارض المتوهم. أما ما نجده عندهم من امتهان الدين بهذه الصورة بحيث كل ما وجدناه في الغرب يتعارض مع الدين؛ نُعمل فيه مقص التأويل، فما هذه بحال الأمة العاقلة المعتزة بدينها وهويتها. لقد قفزت مفاهيم مرتبطة بالأفكار والعلوم الجديدة إلى منهجية "خان"، وأهمها مفهوم "الطبيعة" السائد في الفكر الفلسفي والعلمي الغربي العلماني والمادي، وأصبحت هذه الطبيعة هي نظارته للأشياء بما في ذلك نصوص الوحي، وكان التأويل هو الأداة المستعملة لتطويع النصوص لتلك الطبيعة، ويتوسع التأويل مع القوم إلى درجات الغلو بما يُشبه شطحات المتصوفة وتأويلات الباطنية، وربما كان لطبيعة انتشار تلك المناهج في بلاد الشرق الإِسلامي أثرها في اتساع شطحات القوم. يقول "أبو الحسن الندوي" عن "أحمد خان" بأنه تزعم اتجاهًا "على أساس تقليد الحضارة الغربية وأسسها المادية واقتباس العلوم العصرية بحذافيرها وعلى علاتها، وتفسير الإِسلام والقرآن تفسيرًا يطابقان به ما وصلت إليه المدنية والمعلومات الحديثة في آخر القرن التاسع عشر المسيحي، ويطابقان هوى الغربيين وآراءهم وأذواقهم، والاستهانة بما لا يثبته الحس والتجربة، ولا تقرره

علوم الطبيعة في بادئ النظر، من الحقائق الغيبية، وأمور ما بعد الطبيعة" (¬1)؛ أي: أن الدعوة لتقليد الغرب مكونة من مكونات مشروعة دون مراعاة لأبسط شروط الهوية الإِسلامية، حتى ولو كان الأمر يوصل لإعادة النظر في القرآن والإِسلام، يريد كما يقال قصقصته ليتلاءم مع تلك الحضارة. والأخطر من ذلك أثر هذه الحضارة عليه في الاستهانة بغير المحسوس من أمور الغيب وإعادة النظر فيها أيضًا بمقياس تلك الحضارة في صورتها المعهودة في القرن الثالث عشر / التاسع عشر الميلادي. ولتحقيق هذا المشروع قام بتفسير القرآن الكريم، ولنا أن نتخيل مراده من التفسير وهو بهذه النفسية ويحمل هذه المنهجية -النفسية المنهارة أمام ثقافة هي تتشكل وتتغير وتتطور، والمنهجية التأويلية المستسهلة لحرمة كل نص يقابل تلك الحضارة، ولنا أن نتخيل حجم الأخطاء التي سيقع فيها وسيوقع من اتبعه فيها، لقد أراد لمشروعه أن ينطلق من القرآن من خلال تفسيره تفسيرًا جديدًا يستجيب لتلك الحضارة المطلوبة، أراد "من ورائه أن يثبت أن حقائق الإِسلام وتعاليمه لا تتعارض مطلقًا مع قوانين الطبيعة؛ لأن القرآن "كلمة الله" وقوانين الطبيعة هي "فعل الله" ولا يتعارض كلامه مع فعله" (¬2). ولا شك أنه سبحانه العليم الحكيم لا يقع التعارض بين كلامه وفعله سبحانه، ولكن الشر كما يقال يكمن أحيانًا في التفاصيل، فإن هذه القاعدة خلفها ما خلفها، مما يؤثر في استقرار القاعدة، ويأتي الإشكال من جهة رأيه في كلام الله سبحانه وكذا تصوره حول قوانين الطبيعة: أما رأيه في كلام الله سبحانه فيقول "أحمد أمين" عن "خان": "وأخذ يفسر القرآن، ويدعو إلى أن القرآن -إذا فهم فهمًا صحيحًا- اتفق مع العقل، وأن النظر الصحيح فيه يوجب الاعتماد على روحه أكثر من الاعتماد على حرفيته، وأنه يجب أن يفسر على ضوء العقل والضمير. وتطرّف أكثر من ذلك، فقال: إن الوحي كان بالمعنى دون اللفظ" (¬3). فإن مثل هذا الاعتقاد -المتطرف- قد يشجع ¬

_ (¬1) في كتابه الصراع بين الفكرة الإِسلامية والفكرة الغربية ص 69. (¬2) مفهوم تجديد الدين، بسطامي سعيد ص 123، وانظر: الفكر الإِسلامي وصلته بالاستعمار الغربي، د. محمَّد البهي ص 37. (¬3) زعماء الإصلاح في العصر الحديث، أحمد أمين ص 130 - 131.

صاحبه على استسهال تأويل الآيات بحجة أن اللفظ من كلام جبريل -عليه السلام- أو من كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم -. مع أنه حتى على افتراض صحة هذا التطرف جدلًا بأنه من وضع الملك أو النبي فإنهم أعلم بمراد الله سبحانه ولا يتصور منهما وضع لفظ يخالف المعنى؛ لأنه حتى على هذا التصور لا يجوز التساهل في تأويل الآيات. وما يعنينا أن سلامة التصور حول الوحي له أثره في التعامل مع كتاب الله سبحانه، وأن دخول هذه البدعة حول القرآن تؤثر في تصور أصحابها عن حقائق القرآن. وأما فهمه عن الطبيعة فقد فهمها بحسب التصور العلماني اللاديني السائد في الفكر الفلسفي والعلمي في أوروبا القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، عصر انتفاش المذاهب المادية والوضعية العلمانية، ومثل هؤلاء كان تصورهم للطبيعة تصورًا مغايرًا لأهل الدين، فقد تألهت عند بعضهم ووُظفت في إعطاء الحجج ضد الدين والغيب، فأخذها بهذه الروح مع غياب الوعي النقدي بمثل هذا المجال، فأخذها بنفس "المعنى الذي استعمله علماء أوروبا في القرن التاسع عشر للميلاد، نظام كوني مغلق يخضع لقوانين عمياء ليس فيها أيّ مجال للخرق أو الاستثناء" (¬1)، وليس في القرآن -بحسب كلامه- ما يخالف هذه الطبيعة المتصورة المنقولة عن أوروبا ومفكريها في القرن التاسع عشر (¬2). كان افتتان أحمد خان بالحضارة الغربية كبيرًا، ودعوته لأخذ علومها وفكرها لا يحدّه حدّ، ولكن آثار انزلاقه فيما ينفع ويضرّ دون تفريق، جعله ينظر أيضًا للوجود والدين والغيب والكون والحياة من خلال المنظور الحضاري الغربي العلماني، أصبحت الطبيعة مثلًا هي جوهر الوجود، ولأجلها قام بعملية تأويل واسعة لا تختلف كثيرًا عن مواقف الباطنية القديمة. ومن باب التمثيل على تضخم مفهوم الطبيعة عنده واتساع دائرة التأويل معه، نجده ينكر "المعجزات" لما يجده فيها من تغيير لقوانين الطبيعة، فيجعل بعضها رؤيا منام للأنبياء لتتماشى مع قوانين الطبيعة مثل قصة إبراهيم -عليه السلام- مع ¬

_ (¬1) مفهوم تجديد الدين، بسطامي ص 124، وانظر حول مفهوم الطبيعة: تيارات الفكر الفلسفي. . . .، أندريه كريسون ص 191 وما بعدها، ترجمة نهاد رضا. (¬2) انظر كلام أبو الحسن الندوي في الشاهد السابق.

رابعا: النموذج العربي العصراني

الطيور الأربعة، ويبحث لأخرى عن تأويلات مثل قصة انفلاق البحر لموسى -عليه السلام- في قوله -تعالى-: {اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} [الشعراء: 63] أن معنى ذلك: المشي والذهاب كما نقول: ضرب في الأرض إلى غير ذلك (¬1). وفي مقابل الإنكار، وبسبب النظريات العلمية الجديدة نجده لا يمانع من تصير خلق آدم -عليه السلام- وفق نظرية "داروين"، فمن خلال التفاعل الكيميائي تولدت خلية حية من الممكن أن تكون هي الأصل لكل الكائنات الحية، وآدم في القرآن هو رمز للإنسانية جمعاء، ولا حقيقة للمحاورة بينه وبين الرب سبحانه كما وردت في القرآن، وإنما عبر عنها بشكل قصصي أدبي ليقرب فهمه للناس (¬2). فهذا النموذج من الهند السباق إلى العصرنة على حساب الدين، والمتطرف في إنكار كل نص يخالف أصول الحضارة الغربية أو تأويله تأويلًا متطرفًا لا يستسيغه العاقل، وأصبح المقدم هو الوافد لا الموروث، يمكن تغيير كل شىِء في الدين أما الوافد الغربي فلا يُمسّ بسوء. وقد كان لهذا المنهج خطورته على أتباعه، كما أنه كان سببًا في نفور بقية المسلمين من الحضارة الغربية لما شاهدوا من آثارها على هؤلاء لدرجة تضحيتهم بعقيدتهم مقابل سلامة المنقول من الغرب، فإنهم توقعوا أن كل ما عند الغرب مصبه إلى الكفر والإلحاد وتحريف الدين وإنكار أصوله وعقائده وشرائعه، بينما لو اكتفى هؤلاء بالنافع مما في الغرب وأصّلوا التفاعل الحضاري لأمة معتزة بدينها مع الغرب وحضارته لكان الصراع داخل المسلمين في الموقف من الغرب أخف. رابعًا: النموذج العربي العصراني: اشتهر القرن الثالث عشر/ التاسع عشر بأنه قرن التحديث، وبسبب انصراف التحديث إلى أبواب غير مفيدة فقد تسرب معه بذور التغريب. وبما أن النشاط كان مخصصًا للتحديث فالأصل عدم وجود تصادم داخل المجتمع؛ لأن التحديث ¬

_ (¬1) انظر: مفهوم تجديد الدين ص 128. (¬2) انظر: مفهوم تجديد الدين ص 128 - 129، وعن مثل هؤلاء وأمثالهم في الهند جاء الرد في كتاب جمال الدين الأفغاني: (الرد على الدهريين)، وهو أحد أهم كتب الأفغاني في نقدهم بعد أن شاع أمرهم في الهند، وربما كان الوحيد الذي ناقشهم من منظور فكري عصري.

هو مطلب عام لكل التيارات، بخلاف التغريب فهو الشر الذي يهرب منه العقلاء. تمثل نموذج التحديث السياسي الأبرز في: محمَّد علي والي مصر، وباي تونس. وتمثل النموذج الفكري مع الطهطاوي في مصر، وخير الدين في تونس، وكانت العلاقة بين السياسي والمفكر علاقة تعاونية سلبية، المفكر موظف في التحديث وليس شريكًا حقيقيًا، مع أن قادة الأمة هم الأمراء والعلماء، وعندما يقع اختلال في دورهما والعلاقة بينهما يقع الضرر. ومن الطبيعي أن لا يقع رفض من قبل الطهطاوي والتونسي للثقافة الغربية أو اعتراض عليها، فهما ممن يتحمل عبء نقلها إلى العالم الإِسلامي، فكيف ينقدون ما يحاولون فهمه في وقت قصير ثم نقله؟؛ ولذا كانت حاستهما النقدية ضعيفة بخلاف جهودهما في النقل فقد كانت قوية ونشيطة. ولكن جهود النقل التحديثي تنوعت مشاربها وأهدافها وغاياتها، مما جعل نهاية القرن الثالث عشر في غاية الفوضى الفكرية أخطرها ما له علاقة بالدين، ومن ذلك ما تسبب به نشاط التحديث من توتر في العلاقة بين الدين والعلم الحديث؛ أي: أن نشاط التحديث حرص على نقل العلم الحديث، ولكنه لم ينتبه للعلاقة بينه وبين الدين، كان مشروع التحديث يتوقع أن العلم موضوعي محايد، وحقائق لا جدال حولها، ولكن الذي ظهر بعد ذلك أنه نشاط بشري يعتريه ما يعتري أنشطة البشر. أصبح الواقع ملتبسًا: فهناك تيار يرى السلامة في رفض كل شيء جديد، وتيار قوى ومتقدم يرى التحديث مرتبط بالتغريب، وكان الواقع ينتظر وجود اتجاه ثالث يعالج المشكلة. فظهر في الساحة المصرية رجل مؤثر غاية التأثير وهو الشيخ "جمال الدين الأفغاني"، فلم يرفض كل ما جاء من الغرب، وهاجم بشدة الموقف التغريبي، وتوقف مع المشكلة المهمة وهي مشكلة العلاقة بين الدين والعلم، وقد عرض "على المحافظة" المبادئ التي يقوم عليها تجديده الديني: بأن قوتنا لن تكون إلا بالدين، وبدعوته إلى فتح باب الاجتهاد وتحرير الفكر الديني من قيود التقليد، لنصل إلى التوفيق بين العلم والإيمان فهو "يعتقد أن لا خلاف بين ما جاء في القرآن والحقائق العلمية، أما إذا برز خلاف ما، فذلك دلالة على عجز في تفسير الآيات القرآنية. ويقترح حلّ هذا الإشكال باعتماد التأويل. يقول في هذا الصدد: "إن الدين لا يصح أن يخالف الحقائق، فإن كان

ظاهره المخالفة وجب تأويله، وقد عم الجهل وتفشى الجمود في كثير من المتردين برداء العلماء، حتى اتهم القرآن بأنه يخالف الحقائق العلمية الثابتة، والقرآن بريء مما يقولون. والقرآن يجب أن يجل عن مخالفة العلم الحقيقي خصوصًا في الكليات" (¬1)، ثم ذكر مثالًا لذلك يتعلق بنظرية الفلك الحديثة، فقد "أثبت العلم كروية الأرض ودورانها، وثبات الشمس دائرة على محورها، فهذه الحقيقة مع ما يشابهها من الحقائق العلمية لابد أن تتوافق مع القرآن -والقرآن يجب أن يجل عن مخالفته للعلم الحقيقي، خصوصًا في الكليات. فإذا لم نر في القرآن ما يوافق صريح العلم والكليات اكتفينا بما جاء فيه من الإشارة ورجعنا إلى التأويل. . . ." (¬2). يبرز في موقف "جمال الدين" إصراره على رفض دعوى مخالفة الدين للحقائق العلمية أو دعوى مخالفة القرآن لها، القرآن يجب أن يجل عن مخالفته للعلم الحقيقي، فإن وقع تعارض فإما أنه من جهل وجمود بعض العلماء أو أن التعارض ظاهري في الجزئيات، وهنا نرجع إلى التأويل، فالتعارض ممنوع، ولاسيّما في الكليات، وإن وقع فالحل هو في التأويل. ولكن بسبب انشغال الأفغاني بالهمّ السياسي وانصرافه إلى ميدان العمل الميداني، فقد خفف من نشاطه الفكري والعلمي، بخلاف تلميذه البارز الشيخ "محمَّد عبده" الذي انصرف بعد انفصاله عن شيخه إلى الفكر والعلم وترك العمل الميداني. ولكن قبل الذهاب للشيخ محمَّد نتوقف مع أمرين مهمين للأفغاني حول مسألة العلوم العصرية: لقد حُفظ للأفغاني مواقف في العلاقة بين الدين والعلم أهمها اثنان: ردّه على "رينان" ورده على "النشتيرين"، أما الأول، فقد ألقى "رينان" محاضرة بعنوان "الإِسلام والعلم" ألقاها في السربون، في وقتٍ كان طلاب الابتعاث من العالم الإِسلامي يكثرون في فرنسا، وكان من قضايا المحاضرة "أن الإِسلام لا ¬

_ (¬1) الاتجاهات الفكرية عند العرب. . . .، علي المحافظة ص 74 - 75، ونصه الأخير عن أحمد أمين في زعماء الإصلاح في العصر الحديث ص 114، وأحيانًا أجد المرجع قد أحال إلى شواهد مما قد جمعته فأكتفي بإحالة المرجع مع تأكدي من مطابقة ما قاله لما بين يدي من مراجع. (¬2) خاطرات جمال الدين الأفغاني، محمَّد المخزومي ص 150.

يشجع على العلم والفلسفة والبحث الحر، بل هو عائق لها، بما فيه من اعتقاد للغيبيات وخوارق العادات والإيمان التام بالقضاء والقدر. . . ." (¬1). وقد شعر الطلاب المسلمون في فرنسا بالمشكلة، وتأثروا عندما جاء النقد من شخص مشهور مثل رينان، كما أن حماستهم لدينهم وثقافتهم لم يمحها إلى الآن الانبهار بالغرب، وفي ذلك يقول أحدهم: "لما كان الذب عن الدين فرضًا على الإنسان، وحب الوطن من الإيمان، اجتمع جمع غفير من طلبة العلم المصريين المقيمين بفرنسا، وكلفوا أخاهم العبد الفقير "حسن عاصم" بتعريب الخطبة التي ألقاها رينان. . . . طعنًا في دين الإِسلام والأمة العربية، وبتعريب ما كتبه الفيلسوف الكبير صاحب الفكر الصائب المسيو مسمر. . . . والغرض أن نقف على الطعن والرد، كلَّ من كان على دين الإِسلام أو من الأمة العربية، حتى يمكنهم تفنيد كلام المسيو رينان، فيفعلوا إظهارًا للحق" (¬2). وقد جاء في رد الأفغاني: "إن المحاضرة تشتمل على نقطتين أساسيتين: (1) أن الديانة الإِسلامية كانت -بما لها من نشأة خاصة- تناهض العلم؛ (2) أن الأمة العربية غير صالحة بطبيعتها لعلوم ما وراء الطبيعة ولا للفلسفة" (¬3). ورغم شهرة الرد والنقاش مع "رينان"، وما أثاره من آراء متعارضة داخل العالم الإِسلامي، فإنه قد لا يكون بالقوة المأمولة، ولاسيّما من رجل أميل إلى النشاط السياسي مقابل رجل ميدانه الفكر والفلسفة طول حياته. ولكن الحوار زعزع من مكانة قضية كان يراد ترسيخها آنذاك، وبدأت تؤثر في طائفة وتزعج طائفة، وهي أن الإِسلام ضد العلم والعقلانية والتفكير، ولذا كان موقف جمال الدين هنا موقف المدافع، بخلاف موقفه من النيشتيرين فقد كان مهاجمًا لهم، فاعتبر هذا الموقف جديدًا على الساحة الإِسلامية؛ أي: أن يوجد من يرد على الغربيين بمنطق فكري مؤثر يخفف على الأقل من تأثّر الشباب المسلم المثقف بالفكر الغربي. ولكنه في دفاعه أبرز منهجية "التأويل"، وهذا ما لاحظه أحد المتأملين في تلك الحادثة حيث قال: "إن الأفغاني كان يرى أن المعاني الباطنة في القرآن ¬

_ (¬1) زعماء الإصلاح في العصر الحديث، أحمد أمين ص 86، وانظر: أوروبا والإِسلام -صدام الثقافة والحداثة، هشام جعيط ص 33 - 39. (¬2) المرجع السابق ص 88. (¬3) المرجع السابق ص 89.

متعددة، ومن ثم يجب إعادة تأويله إذا تصادم مع العقل أو العلم، وهذه نفسها هي وجهة نظر ابن رشد، لكن الأفغاني توسع في ذلك حتى يفتح الباب للعلم الحديث، مؤكدًا على الحتمية المتجددة للاجتهاد في فهم الدين" (¬1). أما الحدث الثاني فهو رده على "الدهريين" وعنوانه "رسالة في إبطال مذهب الدهريين، وبيان مفاسدهم، وإثبات أن الدين أساس المدنية، والكفر فساد العمران"، والمهم في هذه الرسالة أن الرد يرتبط بتيار له علاقة بالمذاهب العلمية ونظرياتها، حيث يرتبط بالمذهب الداروني صاحب نظرية النشوء والارتقاء، فيكون عمله من أوائل الأعمال الفكرية التي تواجه مثل تلك المذاهب المرتبطة بالعلم ونظرياته ومذاهبه. كما أنها تكشف عن خطورة الوضع، ولاسيّما عندما تنتشر مثل هذه الأفكار في بيئات ضعيفة فيها الجهل والضعف، فقد انتشر المذهب داخل الهند -والمقصود هنا الهند الكبرى قبل قسمتها- فجاءه سؤال من "محمَّد واصل" مدرس الفنون الرياضية بحيدرآباد: "يقرع سمعنا في هذه الأيام صوت "نيتشر" ويصل إلينا من جميع الأقطار الهندية، ولا تخلو بلدة من جماعة يلقبون بهذا اللقب "نيتشري" فما حقيقة النيتشرية. . . ." (¬2)، ومع ارتباط المذهب بشخصية علمية إلا أنه لم يرد على مذهب دارون في جانبه العلمي وإنما أثبت خطورة الإلحاد وحاجة الناس للدين في رده على من تأثر بمذهبه (¬3). صحيح أن "الأفغاني" لم يؤسس منهجًا لحركة فكرية واضحة، وكما سبق فقد كان رجل حركة وعمل، ومثْلُ هذا الصنف من البارزين لا يمكنهم المكوث لكتابةٍ فكرية وصياغة منهجية، ولكن وجوده في مصر إحدى أهم حاضرات العالم الإِسلامي في القرن الثالث عشر قد تسبب في إيجاد حركة فكرية أهم شخصياتها الشيخ "محمَّد عبده"، الذي صاغ منهجًا واضح المعالم يطبع هذا التيار الجديد بطابعه، ومن ذلك الموقف من العلم الحديث، وهو ما أحاول الآن رصده ومعرفته والنظر في إيجابياته وسلبياته. ¬

_ (¬1) الإِسلام والعلم بين الأفغاني ورينان، د. محمَّد الخشت ص 65. (¬2) زعماء الإصلاح في العصر الحديث، أحمد أمين ص 78، وانظر: الفكر الإِسلامي وصلته بالاستعمار الغربي، د. محمَّد البهي ص 68 وما بعدها. (¬3) انظر: الإِسلام والعلم. . . .، السابق ص 69.

إذا اكتفينا بالإنتاج المكتوب للشيخ محمَّد عبده فنجد أشهر كتبه هي التي لها علاقة بالصراع الفكري الدائر، فمؤلفاته المهمة كانت في هذا الميدان ولاسيّما العلاقة بين الدين والعلم، وقد سبق كلام الشيخ في مطلع البحث، واعترافه أن صلب مشروعه يقوم على التحرر من التقليد وفهم الدين على طريقة سلف الأمة ضمن موازين العقل، ويكون على هذا الوجه صديقًا للعلم، ويهمنا المنهج الذي يقرره. نجد هذا المنهج مثلًا في رد الشيخ "محمَّد عبده" على "هانوتو" وزير خارجية فرنسا، وكذا في رده على "فرح أنطون" صاحب مجلة "الجامعة"، وهما يستعيدان فيما يظهر نفس إشكالية "رينان" حول موقف الإِسلام من العلم، فأخرج "الرد على هانوتو" و"الإِسلام والنصرانية بين العلم والمدنية" (¬1)، فكانت أعماله البارزة هي تلك التي ترد على المتغربين ومن خلفهم من الغربيين، وهي مما أكسبه مكانة داخل البيئة الإِسلامية، إذ تصدى للمشكلات الساخنة في زمنه، ولم يتهرب عن مواجهتها ولاسيّما بعد أن أغرقت الجيل المثقف آنذاك. وبقدر ما يُشكر وأمثاله على هذا الموقف بقدر ما يجب علينا الحذر من مزالق "مناهج الردود" لما تتصف به من ظرفية زمانية لا يصح جعلها منهجًا ثابتًا، فضلًا عن ضعف ينتاب أي منهج طموحه الرد ولاسيّما إذا بُني على أصول ضعيفة أو خطيرة تحمل في طياتها إمكانية الاستثمار السلبي لها مثل منهجية التأويل. ففي رده -أولًا- على "هانوتو"، ذكر أصولًا للإسلام تبين حقيقته، وأنه يختلف عن تلك الدعاوى التي أثارها هانوتو وأمثاله، ومنها الأصل الأول: "النظر العقلي لتحصيل الإيمان: فأول أساس وضع عليه الإِسلام هو النظر العقلي. . . ."، ثم جاء الأصل الثاني الذي بيّن المنهج كما استقر عند مدرسة محمَّد عبده "تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض: أسرع إليك بذكر أصل يتبع هذا الأصل المتقدم قبل أن أنتقل إلى غيره: اتفق أهل الملة الإِسلامية -إلا قليلًا ممن لا ينظر إليه- على أنه إذا تعارض العقل والنقل أخذ بما دل عليه العقل، وبقي في النقل طريقان: طريق التسليم بصحة المنقول مع الاعتراف ¬

_ (¬1) انظر: قائمة أعماله وكتاباته ومؤلفاته في: الإِمام محمَّد عبده. مجلد الدنيا بتجديد الدين، محمَّد عمارة ص 28 - 46.

بالعجز عن فهمه، وتفويض الأمر إلى الله في علمه، وطريق تأويل النقل مع المحافظة على قوانين اللغة حتى يتفق معناه مع ما أثبته العقل. وبهذا الأصل الذي قام على الكتاب وصحيح السنة وعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - مهدت بين يدي العقل كل سبيل، وأزيلت من سبيله جميع العقبات، واتسع له المجال إلى غير حد، فماذا عساه أن يبلغ نظر الفيلسوف، حتى يذهب إلى ما هو أبعد من هذا؟ وأي فضاء يسع أهل النظر وطلاب العلوم إن لم يسعهم هذا الفضاء؟ إن لم يكن في هذا متسع لهم فلا وسعتهم الأرض بجبالها ووهادها ولا سماء بأجرامها وأبعادها" (¬1). هذا المنهج الذي حدده الشيخ في النص السابق وأعطاه في الوقت نفسه صفة التعميم وجعله منهج عامة المسلمين يكشف تحليله بعض الإشكالات التي يثيرها، ويثيرها المنهج عمومًا. لا أحد يخالف الشيخ في الدور الكبير الذي منحه الإِسلام للعقل، ولكن لا يصل ذلك إلى تقديمه على الوحي -وإن كان الشيخ كغيره يحتاط بقوله: ظاهر الشرع- إذ كيف يمكن أن نتصور أن الشرع الذي أعطى العقل كل هذا الدور، أنه يصل إلى أن يجعله حاكمًا عليه، كأن الشرع هنا يقول: لك أيها العقل الحرية حتى إذا وجدت أنك لا تستطيع قبولي فلا تقبلني، وهذا أمر لا يمكن تصوره. مع العلم أن "أهل الكلام" في تاريخ الفكر الإِسلامي قد جمعوا عشرات الحجج على هذه القضية ومع ذلك فلا يمكن أن تستقيم بمثل هذا السياق، أن يُقال بأن الشرع قد أعطى العقل حريته حتى لو وصل الأمر في تقديمه على الشرع ذاته، ولذا لم ترتح نفوس العقلاء، ولم تذهب المشكلة إلا بالموقف السلفي الذي أبرزه شيخ الإِسلام ابن تيمية في "درء تعارض العقل والنقل" وغيره من مؤلفاته، وخلاصته: أنه لا تعارض بين النقل الصحيح والعقل الصريح، وإن وجد تعارض فيقدم الأقوى منهما، وسيأتي بإذن الله بيان ذلك في الباب الثالث، لأكتفي هنا بإبراز مشكلة من مشكلات هذا المنهج، وهو أن جعل العقل مقدَّمًا بإطلاق لا يصح، كما أن هذا التقديم فتح الباب لمنهجية "التأويل" كمنهجية للهروب من المشكلة المتوهمة بدل مواجهتها، ¬

_ (¬1) الإِسلام دين العلم والمدينة، الشيخ محمَّد عبده ص 130 - 131، تحقيق ودراسة د. عاطف العراقي.

والمزعج في كلامه ما ذكره من "اتفاق أهل الملة الإِسلامية إلا قليلًا ممن لا ينظر إليه"، مع العلم أن مزاعم التعارض وطريقة التأويل لم تظهر في الأمة إلا بعد القرون الفاضلة، وما اتسع أمره إلا في العصور الأخيرة، فضلًا عن أن سلف الأمة ومن سار على مذهبهم من أهل السنة يرفضون هذا المنهج، وليسوا بالقلة التي تجعل الشيخ يتجاهلهم إلى هذه الدرجة. وقد سبق أن هذا التيار ينتسب في الأصل إلى تيار (كلامي / صوفي) كان السائد فيه هذا المنهج الذي تأصل مع الاتجاه المحافظ من هذا التيار، مكتفيًا بالتطبيق على ما هو منقول له من الماضي، ولا يتجاوز دوره دور الشرح والتكرير، دون أن يظهر دليل عقلي جديد، فجاء محمَّد عبده ليوسع ذلك ويخرجه عن الإطار المحافظ بتطبيقات جديدة، أهمها المعارف العلمية الجديدة التي كان الشيخ يواجهها بمثل هذا المنهج، وهو منهج يحيلنا إلى طريقين: إما "التفويض" وهو ما لا يناسب حال المتشككين والمرتابين والمتزلزلة قلوبهم من الشبهات التي حلّت بها، أو"التأويل" وهو الذي ارتاحت إليه بعض النفوس بما يحدثه من تسكين مؤقت لنفوسهم. هنا تظهر ثغرات المنهج فـ"التفويض" لا يرفع انزعاج القلوب المرتابة، بخلاف من أبطل المعارض وأثبت فساده، فإنه يريح قلب المتشكك المتألم، كما أن "التأويل" وإن هدأ القلب بعض الوقت، فإنه سرعان ما يذهب أثره مع انكشاف ضعفه أو ظهور تعارضٍ جديد. بقي التأكيد مع الشيخ أن الإِسلام قد وجه العقل إلى مجالات كثيرة، وحرره من قيود كثيرة، ونشاركه أن العقل لم يبق له سوى الانطلاق في تلك المساحات الهائلة المتاحة أمامه، وهو إذا سار سيرًا صحيحًا فلا يتعارض مع الدين. جاء المنهج في سياق الرد على الطاعنين في الإِسلام، وجاء أيضًا بصورة موسعة مع تطبيقات مختلفة في تفسيره، فبعد إلحاح كبير من تلميذه الشيخ "محمَّد رشيد رضا" وافق الشيخ محمَّد عبده على عقد درس للتفسير، كان الشيخ رضا يحضره ويسجل مع شيخه، ثم يبيضه ويضيف عليه ثم يخرجه في مجلة "المنار" (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: مقدمة تفسير المنار للشيخ محمَّد رشيد رضا 1/ 12 - 16.

يذكر "أحمد أمين" أن الشيخ محمَّد عبده "في تفسيره يحاول التوفيق بين الإِسلام ونظريات المدنية الحديثة ويتبع طرقًا من التأمل للتوفيق بين الدين والنظريات الحديثة" (¬1)، وبقول الدكتور "الذهبي": "كذلك نجد الأستاذ الإِمام -رحمه الله- يتناول بعض آيات القرآن فيشرحها شرحًا يقوم على أساس من نظريات العلم الحديث، وغرضه بذلك أن يوفق بين معاني القرآن التي قد تبدو مستبعدة في نظر بعض الناس، وبين ما عندهم من معلومات توشك أن تكون مسلمة عندهم أو هي مسلمة بالفعل وهو -وإن كان يرمي من وراء ذلك إلى غرض نبيل- يخرج أحيانًا بمثل هذا الشرح والبيان عن مألوف العرب وما عهد لديهم وقت نزول القرآن" (¬2)، ثم ذكر من الأمثلة على ذلك مثلين وردا في أول تفسير خرج له وهو تفسير جزء عم، وهما: الأول: في تفسيره لانشقاق السماء وانفطارها وظهور الغمام: "وهو فساد تركيبها واختلال نظامها عندما يريد الله خراب هذا العالم، كأن يمر كوكب في سيره بالقرب من آخر، فيتجاذبا، فيتصادما، فيضطرب نظام الشمس بأسره، ويحدث من ذلك غمام وأي غمام، يظهر في مواضع متفرقة من الجو والفضاء الواسع، فتكون السماء قد تشققت بالغمام واختل نظامها حال ظهورها" (¬3). الثاني: في تفسيره للطير الأبابيل التي ترمي بحجارة من سجيل في سورة الفيل، حيث قال: "فيجوز أن نعتقد أن هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب الذي يحمل جراثيم بعض الأمراض، وأن تكون هذه الحجارة من الطين المسموم اليابس الذي تحمله الرياح، فيعلق بأرجل هذه الحيوانات، فإذا اتصل بجسده دخل في مسامه، فأثار فيه تلك القروح التي تنتهي بإفساد الجسم وتساقط لحمه، وإن كثيرًا من هذه الطيور الضعيفة يعد من أعظم جنود الله في إهلاك من يريد إهلاكه من البشر، وإن هذا الحيوان الصغير الذي يسمونه الآن بالميكروب لا يخرج عنها، وهو فرق وجماعات لا يحصى عددها إلا بارئها، ولا يتوقف ظهور أثر قدرة الله تعالى في قهر الطاغين على أن يكون في الطير ضخامة رؤوس ¬

_ (¬1) زعماء الإصلاح في العصر الحديث ص 330. (¬2) التفسير والمفسرون، د. محمَّد الذهبي 2/ 567. (¬3) من تفسير جزء عم ضمن الأعمال الكاملة 5/ 351.

الجبال، ولا على أن يكون من نوع عنقاء مغرب، ولا على أن يكون له ألوان خاصة به، ولا على معرفة مقادير الحجارة وكيفية تأثيرها، فلله جند من كل شيء. ." (¬1). يظهر هنا استفادته من الاكتشافات العلمية حول انتقال المرض عبر الجراثيم وعالم الميكروبات، ولا شك أن الله سبحانه قادرٌ على هذا وهذا، ولكن التساؤل: إذا صح التفسير المنقول على غير هذا الوجه، فلماذا الذهاب إلى هذا التفسير؟ كما أن القرآن خاطب من نزل فيهم بما يعرفونه من المعاني، وهم يعرفون معنى "الطير" ومعنى "الحجارة" ويصعب صرفها لو افترضنا عدم وجود تفسير صحيح منقول إلى هذا الوجه الذي قال به الشيخ (¬2). ويهمنا هنا السبب الذي لم يُصرّح به الشيخ: فكأن سبب ميله عن التفسير المأثور هو رفض الفكر الغربي الحديث مثل هذه المعجزات الخارقة وعدم تسليمه إلا بما يتوافق مع السائد في الكون وسننه، فكأنه يرى أن هلاك طائفة بمرض ينقله ميكروب معهود عند الناس ومعروف في العلم الحديث، كما يحدث عندما يذهب جيش إلى بلد آخر لم يعتد على حشراته وأجوائه، فيصاب بالمرض وينتقل بين أفراد الجيش عن طريق العدوى، فمنهم من يموت مع أن أهل البلد لم يصبهم هذا المرض. وهذا يُظهر لنا ميل الشيخ إلى تأويل ما يمكن تأويله من القرآن، بحيث يستفيد من معطيات العلم الحديث إذا كان النص يثير إشكالًا عند المتأثرين بشبهات العصر. والكلام نفسه يقال مع المثال الأول، فإن الفكر الغربي الرافض للدين يرفض وجود أحداث لا سببية كونية لها، فلا يقبل أن هذا العالم سيتغير بأمر من الله سبحانه، بخلاف ما لو أثبتت حساباتهم الفلكية أنه يمكن حدوث خلل، مثل ظهور فرضية نقص شعاع الشمس مع الزمن، ومن ثم تجمد الأرض، فهذا دلت عليه بعض حساباتهم، فيقبلونه، ولا يهمهم لماذا هي تنقص، ومن جعلها تنقص بهذا المقدار، وإنما يكفي أنه يوجد تعليل كوني لتجمد الأرض بعد زمن. ومثله أن الثبات بين مجموعات الكواكب بسبب الجاذبية التي بينها، والشيخ هنا يستثمر مكتشفات علم الفلك الحديث. ولكن مثل هذا الحلّ يُسكّن المشكلة عند بعض ¬

_ (¬1) تفسير جزء عم ضمن الأعمال الكاملة 5/ 505. (¬2) انظر: نقد سيد قطب لهذا التفسير، في ظلال القرآن 6/ 3979.

الناس ولكنه لا يعالج أصلها، وهو الإلحاد والجهل بالرب سبحانه وصفاته وأفعاله. لا يعني هذا أن الشيخ "محمَّد عبده" يريد تفسير القرآن علميًا (¬1)، فالظاهر من كلامه أنه لا يميل إلى هذا النوع من التفسير، ولكنه يميل إلى توضيح بعض المعاني وتقريبها إلى أذهان الناس بضرب أمثلة من المكتشفات العلمية، وهذا أمر مقبول، وبما أنه على معرفة ببعض المشكلات الفكرية الحديثة، فهي تظهر تلميحًا في تفسيره، دون أن يحاول الاصطدام بها، وربما أقرب الأمثلة لذلك موقفه الغامض من تفسير آيات خلق آدم -عليه السلام- من سورة البقرة، فهو على معرفة بالنظرية العلمية السائدة آنذاك، فلما جاء إلى تفسير قوله -تعالى-: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، قال الشيخ "محمَّد رشيد رضا": "وقد ذهب الأستاذ إلى أن هذه الآيات من المتشابهات التي لا يمكن حملها على ظاهرها؛ لأنها بحسب قانون التخاطب إما استشارة وذلك محال على الله تعالى، وإما إخبار منه سبحانه للملائكة واعتراض منهم ومحاجة وجدال، وذلك لا يليق بالله تعالى أيضًا ولا بملائكته. . . ." (¬2)، ثم ذكر أن موقفنا إما التفويض أو التأويل، وذكر أن التفويض هي طريقة السلف وأنه عليها "في وجوب التسليم والتفويض فيما يتعلق بالله تعالى وصفاته وعالم الغيب" (¬3). ثم جاء تعليق الشيخ "محمَّد رشيد" فقال: "وأقول أنا مؤلف هذا التفسير: إنني ولله الحمد على طريقة السلف وهديهم، عليها أحيا وعليها أموت إن شاء الله تعالى. وإنما أذكر من كلام شيخنا ومن كلام غيره، ومن تلقاء نفسي بعض التأويلات لما ثبت عندي باختباري الناس أن ما انتشر في الأمة من نظريات الفلاسفة ومذاهب المبتدعة المتقدمين والمتأخرين جعل قبول مذهب السلف واعتقاده يتوقف في الغالب على تلقيه من الصغر بالبيان الصحيح وتخطئة ما يخالفه، أو طول ممارسة الرد عليهم، ولا نعرف في كتب علماء السنة أنفع في الجمع بين النقل والعقل من كتب شيخي الإِسلام ابن تيمية وابن القيم -رحمهما الله- ¬

_ (¬1) لا تميل المدرسة عمومًا إلى هذا النوع وإن خالفوا في بعض التطبيقات، ولكنها قليلة للمتأمل، انظر: منهج المدرسة العقلية في التفسير، فهد الرومي ص 270 - 280. (¬2) تفسير المنار 1/ 251 - 252. (¬3) المرجع السابق 1/ 252.

تعالى، وانني أقول عن نفسي: إنني لم يطمئن قلبي بمذهب السلف تفصيلًا إلا بممارسة هذه الكتب. فنحن قد سمعنا بآذاننا شبهات على بعض الآيات والأحاديث لم يسهل علينا دفعها وإقناع أصحابها بصدق كلام الله وكلام رسوله إلا بضرب من التأويل وأمثال تقربها من عقولهم ومعلوماتهم أحسن التقريب، وقد غلط كثير من علماء الكلام والمفسرين في بيان مذهب السلف وفي معاني التفويض والتأويل وتجد تفصيل ذلك لنا أوائل تفسير سورة آل عمران، كما أخطأ من قالوا: إن الدليل العقلي هو الأصل، فيرد إليه الدليل السمعي، ويجب تأويله لأجل موافقته مطلقًا، والحق كما قال شيخ الإِسلام ابن تيمية:. . . ." (¬1)، ثم جاء إلى موضع الشاهد، وهو الأقرب من الشيخ والأعرف بمراده فقال: "فظواهر الآيات في خلق آدم مثلًا مقدم في الاعتقاد على النظريات المخالفة لها من أقوال الباحثين في أسرار الخلق وتعليل أطواره ونظامه ما دامت ظنية لم تبلغ درجة القطع" (¬2). اضطررت إلى نقل هذا النص رغم طوله لما يكشفه من أشياء منهجية مهمة حول شيخ هذا الاتجاه، أهمها: أن مصطلحات سائدة كالتفويض والتأويل، وهما ركنان مهمان في المنهج قد وقع فيهما غلط كبير، كما أن الغلط امتدّ إلى الموقف الصحيح من التعارض بين النقل والعقل: ما حقيقته؟ وكيف العمل معه؟ كما أنه يكشف -إلى حدٍ ما- عن سبب ميل الشيخ إلى مثل هذه التأويلات، ويعود ذلك في الغالب إلى تأثير النظريات الحديثة. وأخيرًا يكشف هذه العلاقة العجيبة بين الشيخ وتلميذه، فقد تغير التلميذ بعد اطلاعه على تراث الإمامين البارزين ابن تيمية وابن القيم -رحمهما الله-، وهذا التغير قد حدث في أغلب المتأثرين بمحمد عبده، فبقدر ما فتح محمَّد عبده آفاقهم الفكرية وحرر عقولهم وزاد من وعيهم بمشكلات عصرهم وواجبهم نحوها بقدر ما ورطهم في منهجيات غير سليمة. ووجدوا المخرج منها فيما اكتشفوه من علم ابن تيمية وابن القيم. ومع ذلك فقد بقي وفاؤهم للشيخ محمَّد عبده دون قبول منهجه بإطلاق، وكان أبرزهم علماء الشام المعاصرين، ولاسيّما الشيخ "محمَّد رشيد رضا"، حيث ¬

_ (¬1) المرجع السابق 1/ 252 - 253. (¬2) المرجع السابق 1/ 253.

وسعوا استفادتهم من ابن تيمية بخلاف من سبقهم من "حسن الطويل" إلى "محمَّد عبده" وغيرهم من مشاهير دعوة الإصلاح في الأزهر، حيث كانت استفادتهم منه تقف على رفضهم البدع العملية المحدثة حول الأولياء والقبور وغيرها. ذكر الدكتور "بلقاسم الغالي" بأنه قد (¬1) دبّ الخلاف بين الشيخ "صالح الشريف" من تونس والشيخ "محمَّد عبده" في أثناء زيارة الأخير لتونس سنة (1903 م)، وكان الشريف يخالف منهج عبده، وكان موضوع الخلاف ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب في إنكارهما زيارة القبور وزيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة -هكذا، وإلا فهما لا ينكران زيارة قبر النبي، وإنما ينكران شدّ الرحال لذلك- ونهض الشيخ عبده للدفاع عن ابن تيمية مقررًا: أن خلاف ابن تيمية مع بعض أهل السنة لا يخرجه عن كونه منهم، وبأنه ينبغي أن تؤخذ آراؤه من كتبه لا من كتب أعدائه. وبقدر ما تختلف وجهات النظر حول قيمة مشروع "محمَّد عبده" إلا أنه من أهم الشخصيات التي استشعرت المشكلات التي أثارها العلم الحديث، وأنه كان مستحضرًا لها في ردوده المشهورة، وظهرت واضحة في أثناء رده على "هانوتو" أو "فرج أنطون"، ومستحضرًا لها في أثناء تفسيره للقرآن، ونجد أحد المتحمسين للشيخ يقرر أن محمَّد عبده "أثبت أن القرآن لا يمكن أن يحتوي على تعليم يتعارض مع حقائق العلم، وأن هناك اتفاقًا بين القرآن وبين العلوم الطبيعية والكونية والفلكية، وأن هذا لا يشكل خوفًا ولا تهديدًا لقداسة القرآن بسبب واحد وهو أنه كتاب الكون والحياة والإنسان،. . . ." (¬2)، ولكن أقرب الناس إليه -وهو من أخرج تفسيره- كان أول من اعترض على بعض تأويلات شيخه، فلا نشك أن العلم الصحيح والعقل الصحيح لا يعارض كلام الله سبحانه أو كلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن هناك من يريد تحقيق التوافق بين القرآن والعلم عن طريق تأويل النصوص وليّها أحيانًا واعتسافها لتتوافق مع العلم، ومثل هذا العمل لا يُعد رفعًا للتعارض ودفعا له، ولاسيّما عندما يؤول الأعلى لصالح الأدنى، وإنما ¬

_ (¬1) انظر: من أعلام الزيتونه: شيخ الجامع الأعظم محمَّد الطاهر ابن عاشور. حياته وآثاره، د. بلقاسم الغالى ص 45 - 46. وقد سبق الكلام عن "حسن الطويل" في الفصل الثالث. (¬2) الإمام محمَّد عبده ومنهجه في التفسير، د. عبد الغفار عبد الرحيم ص 284.

يكون المنهج السليم هو إبقاء النص الشرعي دون تحريف، مع إبطال كل ما يعارضه من أوهام البشر أو أوهام الأفكار والعلوم وظنياتها. لقد اتجه القسم العلمي الشرعي من المتأثرين بالشيخ نحو التفسير، وكان كل عالم منهم عند التفسير يستشعر ما استشعره الشيخ من المستجدات الفكرية والعلمية، بحيث يمكننا القول: إن الشيخ "محمد عبده" قد أحدث منعطفًا في التفسير، وبرز ذلك في أتباعه أو مع المتأثرين به، حيث يظهر في تفاسيرهم استحضار مشكلة العلم الحديث ومكتشفاته ونظرياته، أولهم الشيخ محمَّد رشيد رضا الذي شارك الشيخ في وضع التفسير إلى [الآية: 125 من سورة النساء]، ثم واصل بعد وفاة الشيخ إلى أول سورة يوسف، وقد ذكر الدكتور "عبد الغفار" في منهج الشيخ عبده عدة أسماء تأثرت بالشيخ ومنهجه ومنهم (¬1): "عبد القادر المغربي"، "محمَّد المراغي"، "جمال الدين القاسمي"، "عبد الحميد بن باديس"، "محمَّد الطاهر عاشور"، "محمود شلتوت"، "محمد دراز"، "محمد البهي"، "بنت الشاطئ"، "سيد قطب"، مع أن بعضهم له تفسير لجزء من القرآن وبعضهم له وقفات مع الآيات فقط. وأفرق هنا بين استحضار الأفكار الجديدة والعلوم الحديثة في أثناء قيام أحدهم بالتفسير فيراعي عدم مخالفتها، أو يستثمرها في توضيح المعاني القرآنية وهو حال أكثر رواد هذه المدرسة، حيث كان عندهم حذر من الانفتاح على هذا الباب، وهو موقف حسن منهم. ولكن هناك من توسع في ما اصطلح عليه بـ"التفسير العلمي"؛ أي: الاستفادة من العلم الحديث ومكتشفاته ونظرياته في فهم آيات القرآن الكريم، وهي مسألة ما زالت ميدان اختلاف شديد داخل الفكر الإِسلامي ما بين رافض لها أو مؤيد مع توسع أو مؤيد بضوابط شديدة، والمقصود هنا فقط أن هذا التوجه ظهر من داخل هذا الاتجاه مع أن أغلب أصحابه من المتحفظين جدًا ومن المتشددين جدًا في الموضوع، أي: أنهم لا يبادرون بوضع اكتشاف علمي أو نظرية علمية لتوضيح آية وإن كانوا في المقابل أثناء تفسيرهم على انتباه للأمور العلمية فلا يتوسعون في تفسير ما يظهر منه مخالفة للعلم الحديث. ¬

_ (¬1) الإمام محمَّد عبده ومنهجه في التفسير، د. عبد الغفار عبد الرحيم، الباب الثالث ص 319 وما بعدها.

من بين المتوسعين نجد الشيخ "طنطاوي جوهري" (1287 - 1358 هـ) - (1870 - 1940 م) في تفسيره: "الجواهر في تفسير القرآن الكريم"، فيجتهد عند ورود أية كلمة أو جملة عن المخلوقات بذكر وصفها في العلوم الحديثة، مع أن له موقفًا من التعارض ذكره في أحد كتبه: أن توسعه إنما هو في باب بيان المعنى دون الوقوف مع ما يعارض الوحي، فأثناء حديثه عن النظرية الحديثة في الفلك، ذكر بأن النظريتين معروفتان في كتب المسلمين، وقد ذكرهما مثلًا "عضد الدين" في كتابه: "المواقف"، وذكر الاعتراضات على نفاة دوران الأرض والرد عليها، وعلى ذلك سار شارحه "علي الجرجاني" (¬1). وبعد استعراضه لأقوال علماء الفلك المعاصرين قال: "ومع ذلك كله فالقرآن لا يعارض شيئًا من هذه الأشياء. على أننا لا نحتاج لتأويل القرآن إلا لليقينيات، وهذا ليس منها فإن نوع بني آدم لا يمكنه أن يحيط بشيء من علم الله تعالى إلا بما شاء. . . ." (¬2). وإذا كان الشيخ يتشدد في التأويل إلا أن تفسيره صورة واضحة ومثال نموذجي للتوسع في إدخال العلوم العصرية الحديثة في التفسير. كانت شخصية الشيخ محمَّد عبده جاذبة ومؤثرة، فالتف حوله الكثير وكان صدره مفتوحًا للجميع، وقد أطمع حاله الكثير فيه. فطلاب العلم قد التفوا حوله طمعًا في علمه وفكره ومنهم محمَّد رشيد رضا، وأرباب الساسة وجدوه قائدًا دينيًا مهمًا فحاولوا استثمار مكانته ولاسيّما جهاز الاستعمار الجاثم على أرض مصر، حيث كان "كرومر" يبني بعض آماله على الشيخ مع تركيزه على فئة من مريديه، والقسم الثالث خليط من الشباب المعجب بالشيخ دون أن يتعلم على يديه، وهم مجموعة من المفكرين والسياسيين والصحفيين، وقد كان تأثرهم بالفكر الغربي أوسع من تأثرهم بالفكر الإِسلامي، وقد أكسبتهم صلتهم بالشيخ والتفافهم حوله شهرة اجتماعية، ولكنهم بعد وفاة الشيخ حرفتهم تيارات التغريب واستهوتهم فكرة العلمنة ودعمهم الاستعمار عندما آنس منهم هذا التوجه ومكنهم من واجهة المجتمع ومكنهم من إداراته، وقد برز في هذا التيار عصرانية علمانية ¬

_ (¬1) جواهر العلوم والآداب. .، الشيخ طنطاوي جوهري ص 121، تحقيق طه سعيد. (¬2) المرجع السابق ص 125.

لا هي بالتي نبذت الإِسلام كليًا كما هو حال المتغربين الصريحين ولا هم ممن رعوه حق رعايته، وإنما استبقَوا منه بحسب زعمهم الجزء الاعتقادي منه بعد تأويله وأعادوا تجديد الجانب التشريعي منه ليتوافق مع العصر، ولم يظهر منهم رمز علمي شرعي، ولكن برز منهم قيادات سياسية وفكرية مشهورة، ومن أشهرهم سياسيًا "سعد زغلول" وفكريًا "لطفي السيد". لقد كان وجود الشيخ قويًا على من حوله فلا يخرجون عن الدوائر التي حددها، ولكن بعد موته ذهبت الخشية والحياء من تجاوز الدوائر التي حددها الشيخ، ولاسيّما في باب التغريب والعلمنة، وهنا ملحوظة لها أهميتها في مجال الفكر الإِسلامي المعاصر وهي: هناك تأثير لمحمد عبده لا يمكن التقليل من شأنه، ويختلف تأثيره على مجمل الشخصيات ما بين تأثير طاغي وهذا فيمن كانوا معه، وما بين تأثير أخف وهذا فيمن أعجب به ممن يتابع أخباره عبر مجله "المنار" أو التقى به في بعض المناسبات، فلو أردنا البحث عن علاقتهم بالاتجاه السلفي ولاسيّما مع اعترافهم بأثر ابن تيمية وابن القيم عليهم، فسنجد أنهم على مستويات: فإذا استبعدنا مسألة التأثر بالبيئة "الكلامية الصوفية" بحسب السائد في بيئتهم، فإنهم على مستوى القضايا الفكرية المهمة بعد غياب الشيخ محمَّد عبده عن الساحة قد تنوعت اجتهاداتهم. فالطبقة العلمية منهم في بلاد الشام ومصر والمغرب تكاد اجتهاداتهم تتوافق مع الاتجاه السلفي، ونتذكر هنا الشيخ "القاسمي" و"محمَّد رشيد رضا" وغيرهما من أعلام الشام (¬1)، والشيخ "محمَّد حامد الفقي" و"جماعة أنصار السنة المحمدية" من مصر، و"الحجوي" من المغرب، و"ابن باديس" علامة الجزائر مع "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين"، و"الطاهر بن عاشور" علامة تونس (¬2). ¬

_ (¬1) انظر حول القاسمي: جمال الدين القاسمي علامة الشام، عدنان الدبسي، مقالة بمجلة البحوث الإِسلامية، الرياض، عدد (43) ص 285، وانظر حول رضا: منهج الشيخ محمَّد رشيد رضا في العقيدة، تامر متولي. (¬2) انظر حول ابن باديس وجمعية العلماء: عبد الحميد بن باديس، د. محمَّد فتحي ص 25، وانظر: فلسفة التجديد الإِسلامي (نموذج الشيخ بشير الإبراهيمي)، د. محمَّد زرمان ص 20، وانظر حول ابن عاشور: شيخ الجامع الأعظم محمَّد الطاهر بن عاشور، د. بلقاسم الغالي ص 48.

فكل هؤلاء الفضلاء رغم تأثرهم أو إعجابهم بالشيخ محمَّد عبده إلا أن لهم اجتهاداتهم الخاصة، كما أنهم قد اتجهوا أكثر نحو الاتجاه السلفي، ومن بقي منهم على تأثر بالمنهج الكلامي وبطريقة الشيخ محمَّد عبده، فإنهم في جوانب الفكر الأخرى يلتقون في كثير من الأبواب مع الاتجاه السلفي، يرجع ذلك والله أعلم إلى سعة علمهم الشرعي، فإن الفاضل منهم عندما يتبحر في علوم الشريعة نجده ينجذب إلى منهج السلف ولاسيّما إذا ظهر منه الاعتناء بعلم الحديث، نرى ذلك بارزًا في أعلام الشام مثل "القاسمي" فضلًا عن التحول مع الشيخ "محمَّد رشيد رضا" ومدرسته التي أثر فيها "جماعة أنصار السنة المحمدية" فمؤسسها الشيخ "محمَّد الفقي" من المهتمين بعلم السنة فضلًا عن المحدث الشيخ "أحمد شاكر"، وكذا الحال مع "جماعة العلماء المسلمين في الجزائر" وكذا مع الشيخ "الطاهر بن عاشور"، فمع هؤلاء تضعف نقاط الاختلاف -إلى حد التلاشي عند بعضهم- بينهم وبين الاتجاه السلفي إن لم يكونوا من رواده. وهناك طائفة أخرى من المتأثرين بالشيخ غلب عليهم تقليده مع ثباتهم على ما نشئوا عليه من الكلام والتصوف، ولكن هؤلاء أيضًا على مستوى القضايا الفكرية المهمة يتشاركون مع الاتجاه السلفي في الموقف منها، وهي من مواطن الاشتراك المحمود الذي يفترض أن يحدث فيه التعاون بين الاتجاهين الكبيرين داخل الأمة الإِسلامية، ويكمل أحدهما الآخر، فربما تميز الاتجاه التوفيقي بحكم البيئة والمشكلات التي واجهوها في المسائل الفكرية بينما تميز الاتجاه السلفي بتبحر علمائه في العلوم الشرعية، فلو حدث تعاون في القضايا الفكرية المشتركة وكمّل بعضهما الآخر، ولاسيّما في مواجهة تيار التغريب، لكان في ذلك خيرٌ بإذن الله. هناك طائفة ثالثة كانت حول الشيخ، ولكنها بعد موته اتجهت إلى التغريب أو العلمنة، حيث احتوتهم تلك الدوائر ووظفت شهرتهم وعلاقتهم بالشيخ بما يخدم التغريب، وهي أبعد عن الشيخ ومنهجه وإن تغطت بعلاقتها به. وهناك طائفة رابعة ظهرت بعد زمن الشيخ، زمن التيارات الفكرية (الليبرالي والقومي والماركسي) وغيرها، فقد أرادت هذه التيارات الالتصاق بالشيخ بعد ظهور المدّ الإِسلامي الرائع والصحوة الإِسلامية المباركة، فتوجهت هذه التيارات للشيخ -لمقاومة الصحوة فيما يظهر عند الكثير، أو إعلان رجوع للإسلام عند

القليل- وإلى فكره وعلمه وفتاويه ومنهجه لتوسيع مقولاته، دون أن يكون لهم من الرصيد العلمي ما يؤهلهم لمثل هذا العمل. وقد شكل هذا الاحتفاء العلماني الكبير بالشيخ محمَّد عبده درجة من الشك حول حقيقته، مع أن المتأمل في كتابات الشيخ، وفي ما يدّعيه هؤلاء يجد فرقًا كبيرًا بين ما قاله وبين ما يقولونه، ويكون الأمر أشبه بالاستغلال لشخصية بارزة مثل الشيخ. ولكن في الوقت نفسه فإن الثغرات التي يحويها منهج الشيخ قد سمحت لمثل هؤلاء المتطفلين باستثمارها في أهوائهم الفكرية، وهي ثغرات منهجية خطيرة لا يمكن التقليل من شأنها. والخلاصة أن أتباع الشيخ أو من تأثر به: منهم طائفة علمية تجاوزت ثغرات الشيخ واقتربت من الاتجاه السلفي، وهناك طائفة حافظت على خط الشيخ وهي أظهر في من لم يتبحر في علوم السنة، وطائفة جرفها تيار التغريب وفكر العلمنة واستثمر مكانتهم وشهرتهم، وطائفة من مفكري التيارات والمذاهب الفكرية العلمانية حاولت الالتصاق بالشيخ وإبرازه كرمز يتوافق مع مشروعاتهم رغم بعده عنها. فقد حصل تعاون كبير بين الاتجاه السلفي والطائفة الأولى ولاسيّما أن نقاط الخلاف نادرة، ويمكن حدوث تعاون مهم في المجال الفكري مع الطائفة الثانية بشرط قيام التناصح على ما سلكوه من مذاهب حادثة أو مناهج خاطئة، ويبقى الجدال والنقاش مع الطرفين الآخرين، والله الهادي إلى سواء السبيل. مقولة تحتاج إلى تأمل: النتيجة السابقة تذكرنا بمقولة ذكرها أكثر من باحث حول منهج محمَّد عبده، وهي أن منهجه كان قنطرة نحو العلمنة، ومن ذلك ما ذكره "محمد محمَّد حسين" عن "الحوراني" "بأن قارئ محمَّد عبده يُحس أنه كان يريد أن يقيم سدًّا في وجه الاتجاه العلماني، يحمي المجتمع الإِسلامي من طوفانه ولكن الذي حدث هو أن هذا السد قد أصبح قنطرة للعلمانية عبرت عليه إلى العالم الإِسلامي، لتحتلّ المواقع واحد تلو الآخر، ثم جاء فريقٌ من تلاميذ محمَّد عبده وأتباعه، فدفعوا نظرياته واتجاهاته إلى أقصى طريق العلمانية" (¬1)، فهذه المقولة ¬

_ (¬1) الإِسلام والحضارة الغربية، د. محمَّد محمَّد حسين ص 78 - 79.

مصدرها هو الاتجاه التغريبي، وتلقفها الفكر الإِسلامي لنقد منهج عبده، والذي أراه بعد أن تأملت في المتأثرين بالشيخ والمحبين له، أنهم ساروا إلى أكثر من اتجاه: فمنهم من اتجه نحو السلفية، ومنهم من اتجه نحو العلمنة، ومنهم من بقي على طريقة الشيخ، فلماذا اتهم الشيخ في أنه كان طريقًا للعلمنة ولم يتهم في أنه قرب آخرين من السلفية، أو قرب متغربين من الإِسلام! فإن العدل يدفع الباحث المسلم إلى فحص كل المقولات المتعلقة بمشاهير المسلمين، حتى وإن اختلف معهم في منهجهم، وعلينا أن نتذكر عند ورود مثل هذه المقولة بأن جهود الشيخ قد نجحت في صرف بعض الفضلاء عن البدع والتصوف، وعندما تحرروا منها اتجهوا إلى السلفية، وأنها نجحت أيضًا في تقريب بعض المتغربين من الإِسلام بعد هروبهم منه، وأنها نجحت في تخفيف حدة الشكوك عند الجيل الشاب المثقف، بعد أن عصفت بهم تيارات التغريب وزلزلت قلوبهم، في وقت تخلّى بعض العلماء عن مواجهة هذه الشبهات فتركوا شباب المسلمين فريسة لتيارات التغريب. فمثل هذه المسائل تدفعنا إلى النظر في هذه المقولة المشهورة عن هذا الاتجاه وعن رمزه العلمي والفكري المشهور الشيخ محمَّد عبده. والطريف في الأمر أن محمَّد عبده وخصومه ينتمون إلى منهج واحد ويختلفون فقط في التطبيقات، فهم ينتمون إلى منهجية ترى بأن العقل مقدم على النقل عند التعارض، وأنه يجب عند التعارض إما التفويض أو التأويل، ومع ذلك نجد أطرافًا يقفون مع محمَّد عبده ضد خصومه، ونجد من يقف مع خصومه ضده، مع أنهما ينتميان في الحقيقة إلى منهج واحد، ولذا فإننا إن أردنا الإنصاف فعلينا أن نُحمّل المنهج (التوفيقي - التلفيقي) مشكلة تسرب الأفكار المنحرفة، وهو منهج يشترك فيه الطرفان، محمَّد عبده وخصومه من أتباع المنهج الكلامي، فمن الخطأ أحيانًا ما نشاهده من أخذ مقولات خصوم الشيخ ممن هم على نفس منهجه دون التنبيه إلى الملحظ السابق. والذي يظهر لي بعد المراجعة التاريخية للوقائع وتحليل المقولات بأن فكر محمَّد عبده قد تسبب في حالين متعارضتين: فمن جهة قرّب أناسًا من الاتجاه السلفي بما حررهم من قيد التقليد وحثهم على فهم الوحي على طريقة السلف وإعمال العقل، فالصالح منهم توجه إلى منهج السلف أو اقترب منه؛ لأن من ابتعد عن التقليد المذموم واستخدم عقله وعاد للوحي فسيقوده ذلك إن سلِم من

الهوى إلى منهج السلف. ومن جهة أخرى قرّب أناسًا من اتجاه العلمنة والتغريب، فهم أهل أهواء وضعف، ومنهجية تقديم العقل على النقل المعروفة عن محمَّد عبده وعن خصومه في الوقت نفسه ساعدتهم بعد تأثير التغريب فيهم للتوجه نحو التغريب تحت غطاء ديني، فليس فكر الشيخ فقط هو المؤثر فيهم؛ وإنما الأصل المنهجي الذي يحويه فكره قد فتح الفرصة لأهل الأهواء من مريديه ليتفلتوا من الإِسلام، ومعلوم بأن القادة لا يَسْلمون من أتباع فيهم أهواء يلتفون حول العَلَم البارز لكسب الشهرة وتحقيق المآرب سرعان ما تعصف بهم الأهواء بعد ذهاب العلم البارز. إذا كان مراد التحليل السابق إقامة التوازن في الفهم فليس معناه الدفاع عن منهج الشيخ، فإقامة العدل وقول الحق لا تعني الدفاع، الدفاع لا يكون إلا عن الحق ومنهج الشيخ منهج خطير تسبب بمشكلات في التاريخ الإِسلامي، حيث صرف عقول كثير من الفضلاء إلى تفويضٍ غير صحيح، حيث هو تفويض يظن صاحبه أن ما يقابله من تصور هو انحراف، أو تأويل جَافٍ فيصرف النص عن معناه ويحرم الأمة عن حياة المدلول الحق والإيمان به، وهو منهج يدفع العقل الإِسلامي إلى الكسل، فكلما وجد مفهومًا عقليًا أو نظرية علمية تعارض الوحي، تحوّل إلى التفويض أو التأويل كونه عملًا سهلًا، وترك المهمة الصعبة في تحليل المفاهيم والنظريات ونقدها وتطويرها لتتوافق مع المفهوم الإِسلامي أو بيان عدم صحتها، ومن ثمّ إراحة العقل المسلم من تحمّله أفكارًا خاطئة في ذاتها تبلبل موقفه من الإِسلام. ولكن هل يعني ذلك رفض المنهج التوفيقي؟ الذي يتأمل واقع تاريخ الأفكار يعرف أنه لابد من المنهج التوفيقي بشروطه الصحيحة، وأهمها ألّا يتحول إلى تلفيق، بل يكون هناك انسجام حقيقي بين الأفكار المتعارضة في الظاهر. ولكن ثغرات المنهج التوفيقي خطيرة ولاسيّما مع انسياق أغلب المائلين إلى هذا الاتجاه نحو الطريقة السائدة عند المتكلمين وهي: "أن العقل مقدم على النقل عند التعارض، والواجب بعد ذلك إما التفويض أو التأويل"، فما لم نتخلص من هذه الطريقة أو هذا القانون فسيبقى التوفيق عملًا مشتبهًا. ولمشكلات المنهج التوفيقي قام الاتجاه السلفي بنقدها واستبدالها بطريقة التأصيل، وهي رغم صعوبتها ومشقتها إلا أنها أسلم من طريقة التوفيق، وهي

تحقق مقصود التوفيق الصحيح وتتجنب ثغراته، وفي الوقت نفسه تمنع الكسل الفكري الذي يُوجد مع أهل التوفيق السلبي، وتعيد الحيوية للأمة عندما تشعر بمشاركة العالم في صناعة العلوم بدلًا من الكسل وانتظار إنتاج الآخرين من حولنا، وينحصر دورنا بحسب أهل المنهج التوفيقي في الجمع بينها وبين الدين. لقد كان الاتجاه (التوفيقي/ العصراني) أحد الاتجاهات التي ظهرت أثناء التحديث، وكان أحد الأجوبة المطروحة لحل مشكلات التحديث، وهو منهج فكري في المقام الأول، وكان يغلب عليه محاولة التوفيق بين الإِسلام والفكر الحديث بما في ذلك الجمع بينه وبين العلم الحديث ونظرياته. وقد انجرف هذا الاتجاه نحو الطريقة الكلامية المشهورة لكون أفراده من تلك البيئة في الأصل، وقد وقع شذوذ كبير في صورته غير العربية كما هي الحال في النموذج الهندي، بخلاف النموذج العربي الذي اختلطت الحال عند قادته ولاسيّما الشيخ الأفغاني والشيخ محمَّد عبده، الذي كان أقرب لبيئة الفكر الإِسلامي، وانصب جهدهما في الدفاع عن الإِسلام واستنهاض المسلمين، ولم ينفتح الأمر معهما لدرجة شذوذ التجربة الهندية، ولكن حدث الشذوذ مع قسم من أتباع محمَّد عبده من ميل نحو طريقة أحمد خان الهندي، وساروا على طريقته في الشذوذ، ويغلب عليهم الجهل بالعلوم الشرعية، فهم رموز فكرية ولكنهم لم يكونوا من دارسي العلوم الشرعية، فاتسع الانحراف معهم بخلاف من كان ملمًا بالعلوم الشرعية فإنهم أكثر احتياطًا. وقد برز شذوذ هذا القسم بعد ظهور تيارات التغريب الكبرى "الليبرالي والقومي واليساري" وغيرها، حيث انضم بعضهم إلى هذه التيارات أو انفصلت بعض القيادات من ذلك التيار وانضم إلى القسم الشاذ من المتأثرين بمحمد عبده، ولا شك أن الثغرات الخطيرة في فكر محمَّد عبده ومنهجه مما أسهم في اتساع انحرافهم متذرعين باتباع علم من أعلام الإِسلام. وبعد أن عُرض تعريف بالاتجاه العصراني، ومنهجه الفكري، وطريقة تعامله مع المشكلات الفكرية الجديدة ومنها العلوم الحديثة ونظرياتها، وغلبة المنهج التوفيقي التأويلي، وآثار ذلك على الاتجاه. ويذهب البحث مع طائفة شاذة في هذا الميدان، وهم المتغربون.

المبحث الثالث موقف الاتجاه التغريبي الداعي لتقديم العلم وعدم ربطه بالدين

المبحث الثالث موقف الاتجاه التغريبي الداعي لتقديم العلم وعدم ربطه بالدين يكشف التمهيد والفصل (*) والثالث والرابع الكثير من معالم هذا الاتجاه، كما أن الفصول القادمة مخصصة لتحليل هذا الاتجاه ونقد موقفه من العلم الحديث ونظرياته وعلاقتها بالدين، ولهذا السبب فلن أطيل الحديث عنه في هذا المبحث، وإنما أضع بعض الخلاصات المهمة التي تكمل لنا صورة الوضع الفكري في علاقة تياراته بالعلم الحديث، مع التذكير بأن التمهيد فيه عرض موجز لظهور تيار التغريب أما هنا فيتم الوقوف على صورة علاقة هذا التيار بالعلم الحديث. عرف أول العصر الحديث لعالمنا الإِسلامي بطلب الإصلاح أو التحديث، يركز "الإصلاح" على الدين والفكر والثقافة بينما يركز "التحديث" على الجانب الدنيوي وشيء من الإدارة، كان الدعاة العلماء قادة الإصلاح بينما كانت الدولة العثمانية وبعض ولاتها أصحاب مشروعات التحديث، وقد ارتبط الإصلاح بالعودة للإسلام فكانت وجهته ذاتية بينما ارتبط التحديث بالسفر إلى الغرب فكانت وجهته خارجية، قاد دعوة الإصلاح الاتجاه السلفي مع الإمام محمَّد بن عبد الوهاب -رحمه الله- بخلاف دعوة التحديث التي تبناها النخبة في السلطنة العثمانية

_ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: كذا بالمطبوع

ممن لهم صلة بالغرب عبر الرحلة أو السفارة وأمثالها. نقف هنا مع التحديث لأن مساره تعطل واختلط فيما بعد بظاهرة التغريب. الأصل في "التحديث" طلب العلوم النافعة من الغرب التي تساعد المسلمين في التقدم الطبي والصناعي والعمراني وغير ذلك، ومعلوم أن هذا النوع صعب وعسير ويحتاج إلى جهد ومشقة، وربما لهذا السبب فتَرَت هِممُ الولاة وهمم قادة التحديث -فضلًا عن أسباب كثيرة اختلطت بمشروع التحديث- عن التحديث، عندها بدأ يتسرب نوع آخر، يركز على المتعة والسهولة والإثارة دون أن يكون له فائدة، ومنه تسلل "التغريب" إلى مجتمعاتنا عبر الاهتمام بالفنون والآداب والفلسفات، فهي لا تحتاج إلى حركة وعمل، فيجلس مستهلكها على أريكته ويتلذذ بهذه الأنواع، ولكنها تحمل في طياتها أدوات تأثير خطيرة تزعزع العقول الضعيفة التي استولى عليها الجهل وقتلها التقليد والكسل المعرفي وانتشر في قلوب أصحابها أهواء خطيرة. بدأ التحول من "التحديث" إلى "التغريب"، كان الأصل في التحديث الاهتمام بالعلوم النافعة بخلاف التغريب الذي تحول إلى الآداب والفنون والأفكار النافع منها وغير النافع مع غلبة غير النافع. كان حملة التحديث أغلبهم من المسلمين الذين أرسلهم الولاة إلى أوروبا بخلاف أوائل حملة التغريب فأغلبهم من النصارى والأقليات الدينية الأخرى، وقد اعتنى الطرفان: "المحدثون والمتغربون" بالعلم الحديث، ولكن لكلٍّ وجهةٌ هو مولّيها، فبينما كان أهل التحديث همّهم العلم الأداتي: الطب والصناعة والعمران. . . .، كان أهل التغريب همهم الآداب والفنون والفلسفات والعلم ونظرياته وما له صلة بالدين والثقافة الإِسلامية وكثير مما هو من هوية الحضارة الغربية ومن خصائصها؛ وذلك أن الهدف عند مجموعة التحديث يختلف عنه عند مجموعة التغريب. همّ أهل التحديث القوة والتقدم والرقي بالجانب الدنيوي من عالمنا، أما أهل التغريب فكان همهم التخلص من الإِسلام وإحلال الثقافة الغريبة مكانه. حاجة الطرفين من الفكر الغربي تختلف باختلاف أهدافهم، لذا ركز الطرف الأول على الحقائق العلمية النافعة بينما ركز الثاني على النظريات العلمية العائمة، الأولى تُبنى عليها منافع دنيوية واضحة أما الثانية فتفتح الباب لتأملات فلسفية وعرض أيديولوجيات تدّعي العلمية يبنى عليها أسلوب الصراع مع الدين الذي يُراد التخلص منه.

ارتبط موضوع التحديث بالعلم، ومن هنا كانت النقاشات أكثر عقلانية فتدور حول: تقدم أوروبا، وأنه كان بسبب ما أخذته عن المسلمين في نهاية عصورها الوسطى، والواجب علينا استعادة مكانتنا عبر اهتمامنا بالعلم النافع، وأنه من الواجبات؛ لأنه من إعداد القوة، ويستدلون بتاريخنا العلمي، وكان تيار التحديث من أهل الإِسلام وانحرافاتهم -إن وقعت- غير غريبة داخل المسلمين؛ فهي غالبًا من النوع المعهود ونجده واضحًا مع المسلمين كـ"الطهطاوي" "والتونسي" وغيرهما، فهما على مذاهب بلادهما الاعتقادية والفقهية، وللطهطاوي مؤلفاته الشرعية، ومع ذلك وقعت منه زلات وهي معهودة في تاريخنا الإِسلامي ولم تخرج عن إطارنا التراثي في الغالب. بخلاف نصارى هذه المرحلة ممن كان في مراكز العالم الإِسلامي المهمة ولاسيّما مصر، فقد كان هوى أغلبهم غربيًا، وجاءتهم الفرصة مع مشروعات التحديث في عهد التنظيمات العثمانية الذي فتح لهم الباب أو مع تجربة محمَّد علي القائمة على تمكين غير المسلمين والاعتماد عليهم في التحديث، أو الضغط الشديد على بلاد المغرب التي فتحت باب الامتياز للأجانب، فوجدوا فرصة للحركة لا مثيل لها، تصل أحيانًا لدعمهم وتوليهم مثل ما حدث مع إسماعيل بأشا في مصر. حلم التحديث القائم على جلب العلم والصناعة والمدنية الذي شغل بال المفكرين والساسة (الثالث عشر/ التاسع عشر) سقط صريعًا مع الاحتلال الغربي لبلاد المسلمين وانكشف ضعفه وهزاله، وظهر في الواجهة أصحاب التغريب ليطغوا على أهل التحديث، مجموعة منهم استقلّت بعاصمة دولة الخلافة وكوّنت منها دولة هي تركيا، ومجموعات أخرى بقيت في تعاون وتنافس مع المستعمر حتى خرج بعد أن مكنها خلفه. لم ينقطع التحديث، ولا الابتعاث للغرب من أجل تحقيقه، ولكنه أصبح مُزاحمًا بالتغريب الذي وصل تأثيره إلى طائفةٍ كبيرة من أهل التحديث ووظفهم -دون أن يشعروا- لتحقيق الأهداف التغريبية فضلًا عن تدخل المستعمر في التوجيه والتأثير. وإلى هذا الحد سيقف الكلام على أهل التحديث مكتفيًا بمشاركة بعضهم تيار التغريب دون أن يشعروا بحقيقة تلك المشاركة، وأواصل الحديث مع أهل التغريب.

يعرف "التغريب" بأنّه: "تيار فكري ذو أبعاد سياسية واجتماعية وثقافية وفنية، يرمي إلى صبغ حياة الأمم بعامة، والمسلمين بخاصة، بالأسلوب الغربي، وذلك بهدف إلغاء شخصيتهم المستقلة وخصائصهم المتفردة وجعلهم أسرى التبعية الكاملة للحضارة الغربية" (¬1). وقد كانت المعارف الحديثة والعلوم العصرية وسيلة مميزة لدخول هؤلاء في بنية الصراع الاجتماعي داخل العالم الإِسلامي، ثم اتسع وجودهم مع وقوع الاستعمار الذي أخذ بأيدي هذا التيار ليصنع منهم قوة كبيرة، ظهرت أولًا في جماعات سرية وأحزاب علنية، ووصلت فيما بعد إلى رأس السلطة أو كانت أهم المشاركين فيها، أبرز صورها الصارخة والحادة: "جمعية الاتحاد والترقي" التي حكمت تركيا وألغت الخلافة، ثم ألغت المؤسسات الدينية وسعت إلى إلحاق المجتمع التركي بالغرب في أشدّ أنواع عمليات التغريب المعاصرة غلوًا وتطرفًا (¬2)، وكانت القيادات التغريبية الأخرى التي تفردت بالسلطة أو كانت مشاركة تقود مجتمعات بلدانها بصُوَر متباينة -من بلد لآخر- نحو التغريب. كانت أوضح صورة في القسم العربي من العالم الإِسلامي ما عرفته مصر؛ حيث تضافرت مجموعة أسباب جعلت من مصر مركز تجمع لطائفة من المتغربين، ومن بين أفضل من يحدثنا عنهم الدكتور "محمَّد محمَّد حسين"، حيث ذكر أن قوام هذا الاتجاه عدد من أصحاب الثقافة الأوروبية الذين كان يسميهم خصومهم وقتذاك بالمتفرنجين، وقسمهم إلى قسمين: بعضهم من الشاميين النصارى الذين استقروا في مصر، وكانوا موزعين بين النفوذ الفرنسي والإِنجليزي، وأداروا أهم صحافة تلك المرحلة، وعرضوا فيها بشكل جذاب الفكر الغربي ودافعوا عنه بكل وسيلة، وقد كانوا أداة مهمة بيد الاستعمار فيما بعد، حيث تم التعاون معهم واستغلالهم. أما القسم الثاني فهم من المصريين وأغلبهم من المسلمين الذين فتنتهم الحضارة الغربية، فرعاهم الاستعمار وسهر على صناعتهم بعد التحول الخطير في الفكر الاستعماري القائم ¬

_ (¬1) الموسوعة الميسرة. . . .، عن الندوة العالمية للشباب الإِسلامي 2/ 698، وقد سبق ذكر هذا التعريف في التمهيد. (¬2) من بين أوسع المناقشات والتحليل لحالة التحول في تركيا نجد دراسة، د. سيار الجميل، العرب والأتراك والانبعاث والتحديث من العثمنة إلى العلمنة.

على أهمية استنبات فئة من أهل المجتمعات المسْتَعْمرة تقوم بالدور نيابة عن المستعْمِر في تغريب المجتمع (¬1). إذا اهتم الاتجاه "السلفي" بالعلوم الشرعية وحث الأمة على طلب النافع فقط من العلوم العصرية، وإذا توجه الاتجاه "العصراني" نحو مشكلات واجهته فبرز بعلاجه المسكن للعلاقة بين الدين والعلم والقائم على التوفيق، فإن "التغريبي" ركز جهده على الآداب والفنون والأفكار والفلسفات بخيرها وشرها، صحيحها وفاسدها، مع تركيز خاص على ما يُصادم الإِسلام لحاجة في أنفسهم، فإذا وقفنا مع دوره في المجال العلمي فقط، فمما نجده: كان أوائل المتغربين من النصارى غالبًا، ولا نكاد نجد بينهم مسلمًا، ونجدهم أيضًا قد انصرفوا عن الاهتمام بالعلم النافع الذي لا جدال حوله إلى النظريات العلمية في العلوم الرياضية والطبيعية والاجتماعية التي تفتح جدالًا واسعًا، فضلًا عن عدم إمكانية التحقق منها في مجتمع يحاول رفع الجهل عنه. ثم تحولوا مع الأيام إلى مذاهب فلسفية وأيديولوجيات وضعية تدّعي العلمية بسبب انتسابها لتلك النظريات العلمية، ثم زاد هؤلاء درجة بجعل العلم هو المقدم بل البديل عن الدين، فالغرب وجهة التغريبيين لم يتقدم بحسب زعمهم إلا بعد أن أقصى الدين عن الحياة وقدم العلم، وقياسًا على ذلك ينبغي إبعاد العلم عن الدين وأن يتحرك العلم باستقلال تام وكيفما أراد وفق ضوابطه الخاصة فقط. لقد كشف لنا الفصل الرابع دور النصارى في الصحافة، حيث أشغلوا الساحة الإِسلامية فترة من الزمن بمسائل تنتسب للعلم ويظهر منها معارضة للدين، سواء كان ذلك في باب النظريات العلمية أو مناهج العلوم أو حتى في المكتشفات العلمية وأجهزتها الحديثة. وأبرز الأمثلة على ذلك انشغال التيار التغريبي فترة الاستعمار البريطاني لمصر بنظرية غريبة هي الدارونية، وكأن الغرب العلمي لا يوجد فيه سوى هذه النظرية، وكأن العلم هو فقط نظرية داروين التطورية والمذهب الداروني القائم عليها. تفرغ قادة التغريب لهذه النظرية ¬

_ (¬1) انظر: الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، د. محمَّد محمَّد حسين 1/ 256 - 265، وانظر له أيضًا: الإِسلام والحضارة الغربية، الفصل الثاني: التغريب، وانظر: أسس التقدم عند مفكري الإِسلام، د. فهمي جدعان ص 328.

وانصب جهدهم حولها تعلمًا وتأليفًا وكتابة صحفية ومحاضرات ثقافية، وتحولت النظرية معهم إلى دين جديد لا علاقة له بالمفهوم العلمي ولا حتى بالنظرية العلمية، وربطوا دعوتهم ومذهبهم ووجودهم بهذه النظرية، وأشعروا من حولهم أنه لا تغير ولا تحول إلا بهذه النظرية. والعلم عندهم في المرحلة الأولى من التغريب العلموي هو المرادف لنظرية التطور الدارونية، نجده في المرحلة الأولى بارزًا عند "شبلي شميل" و"فرح أنطون"، ثم بعدهما عند "سلامة موسى"، ثم دخلت على بعض المسلمين كما نجده بارزًا عند "إسماعيل مظهر" وغيره. أعقب هذه المرحلة الدارونية الأولى انتشار غريب لهذا التيار التغريبي واشتهر بين الحربين العالميتين "الأولى والثانية" (¬1)، كما أن الأحزاب الجديدة التي برزت في تلك المرحلة قد اخترقها هذا التيار بقوة، وأصبحت قوة سياسية للتغريب وأهدافه فتوسع مجال نشاطها من فكري إلى اجتماعي عام بكل أشكاله (¬2)، "والذي يثير الانتباه لدى الكتاب التغريبيين -من المصريين خاصة- هذا الانقياد الكامل والاستسلام العجيب للقيم الغربية، وهذا الغياب المطلق لكل روح نقدية بإزاء هذه القيم. فلقد اشتغلت رؤوسهم ذكاء ونقدًا للمدنية العربية الإِسلامية بينما تقلص هذا الذكاء تقلصًا كاملًا بإزاء المدنية الغربية التي كانت تلاقي في عقر دارها، في الفترة نفسها، انتقادات لا ترحم. . . ." (¬3). والمتأمل في حركة التغريب والباحث فيها لا يجد سببًا مقنعًا في تخصيص طائفة منهم بهذه التبعية العمياء دون غيرهم، فهم يشتركون في هذه التبعية، وما خفّ إعلانها إلا بعد النقد الإِسلامي وكشف حقيقتها. يمكن ذكر نموذج على سبيل الاختصار هنا؛ لأن الاتجاه هو موضوع البحث في جميع الفصول، فيُعرض هنا من أجل شيء من المقارنة بين الاتجاهات الثلاثة، وسيكون المثال أحد أهم شخصيات الفكر التغريبي في بدايات تكونه وهو "شبلي شميل". ¬

_ (¬1) انظر: أسس التقدم عند مفكري الإِسلام، د. فهمي جدعان ص 185. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 328، وانظر حول نشأة الأحزاب وعلاقاتها: مدخل لدراسة الأحزاب السياسية العربية، د. رسلان شرف الدين، الجزء الثالث منه ص 153 وما بعدها. (¬3) المرجع السابق ص 330 - 331.

فقد كانت الدارونية هي مصدره الأهم، يقول أحد المتخصصين في فكره: "فمن المؤكد أن المصدر الأوّل لآرائه وأطروحاته الفكرية والاجتماعية هو في الفكر المادي الغربي والمدرسة الدارونية" (¬1). وعبر المقارنة بين الحضارتين -الإِسلامية والغربية- وجد "شميل" أن الغرب كان تقدمه بسبب العلم، وكان الفكر المادي في تلك الحضارة أبرز المستغلين لنجاحات العلم وقدم نفسه بأنه "قادر على تقديم مشروع علمي يربط أجزاء الكون في صيغة نظام محكم يقوم على مجموعة قوانين ميكانيكية. . . . "، إلى أن قال: "أسرع الشميل يتبنى من دون تردد مذهب "النشوء والارتقاء" دافعًا به إلى منتهاه المنطقي، مستخرجًا ما وسعه من الأبعاد الفكرية والسياسية والاجتماعية، متجاوزًا بذلك إطاره العلمي الصرف إلى بعده الفلسفي الشامل" (¬2)، ويتخذ منه منهجًا لدراسة قضايا الفكر والواقع جميعًا (¬3). وإذا كانت حقيقة الدين قائمة على الإيمان بوجود الرب سبحانه؛ فإن "شميل" وحسب الباحث السابق لم يعد يؤمن بهذا الرب، و"أمسى مع تطور حياته واتجاهه في مسار العلم الطبيعي، ضربًا من الوهم، لا مكان له بين حقائق تفكيره" (¬4)، فيصبح الاعتراف بأهمية وجود الدين أو وجود حقائق دينية لا مكان له داخل هذا الفكر، ويصبح من الكلام الفارغ الحديث عن تقديم الدين على العلم أو العكس؛ لأن هذا الفكر لا يؤمن بأساس الدين ذاته فكيف يقبل ببقية حقائقه؟! ومن هنا يصبح المقدم هو ما عرفوه من ظاهر الحياة الدنيا وهم عن الآخرة غافلون، وقد وجدوا آنذاك نظرية "داروين" أمامهم جاهزة بما تحمله من مضامين يمكن بها هدم الدين مع فئة ذات خصومة مع الإِسلام، يتناغم ذلك مع اعتقاده بأن الحاسة الدينية آخذة في الضعف وأنها ستزول كلما ارتقت العلوم وازداد انتشارها بين الناس، وقيام الدنيا وصلاحها وتطورها لا يقوم إلا على العلم (¬5)، إلى غير ذلك من المبادئ التي يؤصلها شميل للتيار التغريبي معتمدًا بحسب زعمه على العلم، مع أنه إنما يعتمد على مذهب فكري مادي أراد استغلال العلم. ¬

_ (¬1) الفلسفة النشوئية وأبعادها الاجتماعية .. ، د. محمود المسلماني ص 22. (¬2) المرجع السابق ص 23 - 25. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 97. (¬4) المرجع السابق ص 167. (¬5) انظر: المرجع السابق ص 180.

فمثل هذا النموذج يعطي صورة مختصرة عن منهجية الاتجاه التغريبي العلموي، فقد أنهى علاقته بالدين من جهة، وربط مشروعه بعلاقة جديدة مع تيارات الفكر الغربية على سبيل التبعية التامة والتقليد الحرفي، وهو عندما يتعامل مع العلوم والنظريات فهي من مركب كبير يأخذه عن الغرب ولكنه يوظفه توظيفًا جديدًا في البيئة الإِسلامية، ومن صور ذلك التوظيف ما نراه من جعل الفلسفات والأيديولوجيات والنظريات الفكرية والعلمية مكان الدين. وفي هذا الباب نجد تركيز الاتجاه المتغرب على زعمٍ مفاده عدم إمكانية الانتقاء من الحضارة الغربية، فليس أمام المجتمعات الإِسلامية سوى أخذ الغرب بكامله أو تركه بكامله، فدعوى التفريق بين المفيد في الغرب وبين أمراضه دعوى غير ممكنة، ويقول: إنه لا يفهم هذه العقلية التي تفكر بهذه الطريقة (¬1)، وفي موطن آخر يحلل هذه العقلية التي يصفها بالإصلاحية الإِسلامية والمحافظة عمومًا التي تشطر الحضارة الغربية إلى شطرين: شطر روحي وأيديولوجي، وهو مرفوض؛ لأنه نابع من مصدرين: إما النصرانية أو العلمانية، والعالم الإِسلامي ليس بحاجة لهذا الشطر؛ لأن في الإِسلام ما يغنيه عنه، والعلماني منه مرفوض؛ كونه ضد الإِسلام، أما الشطر الآخر فهو المادي والتكنولوجي والعلمي، الذي يقبل الفكر الإِسلامي (¬2)، وهو يقف عكس هذا الموقف تمامًا حيث أعلن الحلول التي اهتدى إليها التي "تقوم على رَكْل كل تراث أخذناه من عصور الانحطاط، الاستفادة من تجارب الحضارات الراقية في تجديد الحياة من كل الوجوه. . . ." (¬3). هذه عينة من الموقف التغريبي، التي تدافع عن التغرب الواسع دون حدود إلا تلك الحدود التي تضعها انتماءات المتغرب الفكرية العلمانية، وهي تعلن بصراحة نبذ الإِسلام وحضارته والارتماء في حضارة الغرب، وهو موقف لا يقول به عاقل، فكل الأمم تتعامل مع غيرها بانتقاء المفيد وترك غيره، وأركز هنا على ¬

_ (¬1) انظر: أسئلة النقد، جهاد فاضل ص 303. (¬2) انظر: تاريخ الفكر المصري الحديث من عصر إسماعيل. . . .، د. لويس عوض ص 426 - 427. (¬3) أوراق العمر ص 474، عن لويس عوض -الأسطورة والحقيقة، د. حلمي القاعود ص 44.

نقطة اعتنى بذكرها وهي صعوبة هذه القسمة، والجواب: أننا نفرق بين الصعوبة والاستحالة، فالاستحالة لا يقول بها مدقق، إلا أن تكون استحالة متوهمة بسبب اتساع العماية، أما الصعوبة فنعم هناك صعوبة، ولكن لا تعني هذه الصعوبة أخذ كل الحضارة الغربية بما فيها من خير وشرّ.

الباب الثاني التأثر المنهجي في الفكر التغريبي بالانحراف المصاحب للعلم الحديث وفيه ثلاثة فصول: • الفصل الأول: التأثر المنهجي في مصدر التلقي وطرق الاستدلال. • الفصل الثاني: التأثر المنهجي في طريقة التعامل مع القضايا الغيبية الاعتقادية. • الفصل الثالث: التأثر المنهجي في طريقة التعامل مع القضايا الشرعية العملية.

الباب الثاني التأثر المنهجي في الفكر التغريبي بالانحراف المصاحب للعلم الحديث

الباب الثاني التأثر المنهجي في الفكر التغريبي بالانحراف المصاحب للعلم الحديث لا يخفى أن العلم الحديث كان له أثرٌ كبير في حياة البشر، كما أن له أثرًا خطيرًا على مناحي الفكر، ولا يخفى أن العلم الحديث قد ارتبطت به مشكلات ترجع أساسًا للدور الخطير الذي لعبته العلمانية داخل أوروبا؛ حيث مدّت بأصولها ورؤيتها ومناهجها في أغلب مكونات العلم الحديث، وتحول العلم الحديث إلى أداة مع التيارات الفكرية، كل تيار يسحب العلم نحوه ويُلبسه لباسه ويستخدمه في خدمة رؤيته، وقد كانت التيارات العلمانية الغربية تشترك في هجر الدين أو محاربته، فوظّفت العلم في ذلك، أو وظفت مناهجه أو نظرياته أو فلسفته، وقد أخذ بهذه الآثار طائفة المتغربين في العالم الإِسلامي. وهذا الباب يبحث أثر ذلك عليهم في ثلاثة أبواب مهمة، أولها حول التأثر في باب المنهج، والثاني في باب الغيب، والثالث في باب الشريعة، وذلك بالنظر في أثر الانحراف المصاحب للعلم الحديث على المتغربين في هذه الأبواب الثلاثة، والمشكلات التي وقعت، وخطورة ذلك على الدين وعلى الفكر

وعلى الإنسان، وكل ذلك سيبحث بإذن الله في ثلاثة فصول هي: الفصل الأول: التأثر المنهجي في مصدر التلقي وطرق الاستدلال. الفصل الثاني: التأثر المنهجي في طريقة التعامل مع القضايا الغيبية الاعتقادية. الفصل الثالث: التأثر المنهجي في طريقة التعامل مع القضايا الشرعية العملية.

الفصل الأول التأثر المنهجي في مصدر التلقي وطرق الاستدلال وفيه مبحثان: • المبحث الأول: التأثر المنهجي في مصدر التلقي. • المبحث الثاني: التأثر المنهجي في منهج الاستدلال.

الفصل الأول التأثر المنهجي في مصدر التلقي وطرق الاستدلال

الفصل الأول التأثر المنهجي في مصدر التلقي وطرق الاستدلال لقد ارتبط بالعلم الحديث مناهج وطرق في النظر والبحث والاستدلال، وقد كان بعض هذه المناهج معروفًا في الحضارات البشرية، وإن كان قد حصل لها تطوير كبير في الحضارة الحديثة. وقد اكتسبت المناهج خصائص ترجع للبيئات التي ظهرت فيها، فمن المُسلّم به الآن في فلسفات العلم أنه لا وجود لمناهج منفصلة عن بيئتها الفكرية والثقافية، ومن ذلك ما حصل لمناهج الفكر والعلم الحديثة في الحضارة الغربية، فهي رغم ما تحاول الظهور به من تقنية عالية وموضوعية، إلا أنها قد اكتسبت خصائص بيئتها العلمانية، مما جعلها ذات موقف خطر فيما يتعلق بأبواب الدين، وتحوي ثغرات خطيرة استغلها أعداء الدين في صراعهم ضدّ الدين، وقد انساق في هذا العداء أو وقع في هذا الانحراف طائفة المتغربين العلمانيين. ومن بين الأمور التي وقع فيها المتغربون العرب من جهة المنهجية أمران: الانحراف في المصدر، بحجة أن العلم لم يتقدم إلا بعد تركه مصدر الدين وهو الوحي، والانحراف في الاستدلال، بحجة أن العلم لم يتقدم إلا بعد تركه المنهجية الدينية، وذلك باعتماد الموضوعية. وقد عُنِيَ الفكر الغربي الحديث بالمنهج، فجاء ذلك مع التطور العلمي

والفكري الذي كانت بداياته في عصر النهضة، فبعد أن وقعت تلك التحولات المهمة في مجال العلم مع "كوبرنيكوس" و"جاليليو" وغيرهما، ظهرت أهمية تأطير هذا النشاط بمنهج، فجاءت جهود كل من "بيكون" و"ديكارت" بوصفها أهمّ العلامات البارزة في هذا الميدان، مال الأول إلى الجانب التجريبي الحسي بينما اتجه الثاني إلى الجانب العقلي الرياضي، وحدث بعد ذلك تطورات مختلفة كان أهمها على مستوى المنهج جهود ستيورات مل، ثم اتسع الباب مع ظهور الفلسفات العلمية وأهمها الوضعية والمادية والوضعية المنطقية وفلسفة التحليل والتطورية وغيرها. وإذا ابتعدنا قليلًا عن النظرة الجزئية ونظرنا في الأمر في إطاره العالمي، فإن هذا التحول المهم داخل أوروبا من جهة المنهج قد سُبق بانعطاف كبير في باب المناهج بوساطة الإسهام المهم والضخم الذي قدمته الحضارة الإِسلامية، لاسيما من جهتين: أولاهما من قبل نقاد المنطق، والثانية من جهة المشتغلين بالعلوم الدينية والدنيوية، حيث فسح نقد منطق "أرسطو" المجال نحو البحث عن منهج آخر يُسهم في إثراء المعرفة النافعة العلمية والعملية داخل الحضارة الإِسلامية ومن تأثر بها (¬1)، وهو ما وجده المشتغلون بالعلوم بعد ذلك في المنهج التجريبي، حيث بدأ المسلمون في تأسيسه، ونجحوا في تشغيله دون أن يقع نزاع بين الدين وبين تلك العلوم ومناهجها، وإن لم يواصلوا فيه حتى يجنوا ثماره لأسباب تاريخية سبق ذكر شيء منها. وقد استفادت أوروبا من هذا النشاط المهم والإسهام الكبير للحضارة الإِسلامية، فأخذت معالم هذا المنهج وانطلقت به إلى ذراه المختلفة، إلا أن مسيرته في أوروبا قد اختلفت عن مسيرته في الحضارة الإِسلامية حيث وقع الفصام النكد بين الدين والعلم، ومن ذلك ما وقع في المنهج ذاته وفي الإطار الذي تتحرك فيه نظرية المعرفة وفلسفات العلم التي تعتني بالعلم ومناهجه. ارتبط العلم الحديث بالمنهج التجريبي وعمدته على الاستقراء، فبدأت صياغته الفعلية النظرية وتطبيقاته المثمرة في الحضارة الإِسلامية، ثم توسع أمره في الحضارة الغربية الحديثة، وبسبب ما طرأ على مسيرة الفكر الغربي من نزعة ¬

_ (¬1) انظر: الفصل الأول من الباب الأول من هذا البحث ص 102.

علمانية وهروب من الدين، فقد أثّر ذلك في مناهج العلوم والأفكار والآداب والفنون وغيرها، وانتقل ذلك إلى الجيل التغريبي داخل العالم الإِسلامي، فقد تبنى هذا الاتجاهُ التغريبي الانحرافَ المنهجي المتلبس بالمناهج المختلفة في المعارف والآداب والأفكار، وسعوا إلى تطبيقه على كل ما يمكنهم تطبيقه عليه في عالمنا الإِسلامي. وسيقف البحث هنا مع أخطر المشكلات التي أثارها الاتجاه التغريبي في المنهج ولاسيّما حول مصدر المعرفة واستبعاد الوحي، ومنهجية الاستدلال ولاسيّما المشكلات التي أثارها مبدأ الموضوعية.

المبحث الأول التأثر المنهجي في مصدر التلقي

المبحث الأول التأثر المنهجي في مصدر التلقي يُعد موضوع "المصدر" من القضايا المفصلية في التصور الإِسلامي، فهو مسألة أساسية، وفيه يقع الافتراق بين أهل المنهج الإِسلامي وبين غيرهم، فمن مكونات العقيدة الإِسلامية الإيمان بالرسل والإيمان بالكتب، ومن ذلك الإيمان بأن خاتمهم هو محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وبه كَمُل الدين ونسخ ما قبله من الرسالات، وختمت الكتب السماوية بالقرآن الكريم، وختم الوحي بالكتاب والسنة، وبهذا يكون مصدر الاعتقاد ومصدر العمل مستقى من الكتاب والسنة، وأغلب صور الانحرافات الدينية تبدأ من مشكلة المصدر، فإن الإِسلام جاء ليؤسس حياة جديدة تنطلق من الوحي: الكتاب والسنة. في المقابل يقوم الانحراف بمقدار الابتعاد عن هذا المصدر الإلهي، في الاعتقاد والعمل والرؤية والحياة كلها، فهناك من يضع العقل منافسًا للوحي، وهناك من يضع الحسّ الموضع ذاته، وهناك من يضع الأشخاص، وهناك من يضع الحدس والكشف في موقف مشابه، إلى غير ذلك من المصادر التي يستقى منها التصور أو العمل، وقد كان هذا الأمر شائعًا في تاريخ المسلمين، حيث ظهرت فرق تبتعد عن المصدر بما تضعه من مصادر مشاركة أو بديلة عن الوحي،

مصدر العلوم الرياضية والعلوم الطبيعية

واستمر ذلك حتى وقعت المستجدات الحديثة، وما تبع ذلك من الافتتان بالغرب الحديث، ومن ثم ظهور طائفة متغربة تقلد تيارات الفكر الغربي، ومن ذلك تقليدهم في مصدر المعرفة. ومن المعلوم أن مصدرية الوحي قد تعرضت في الغرب لنقد شديد، وقد حقق ذلك النقد نجاحًا خطيرًا، تسبب في التشكيك بمكانة الوحي عمومًا، ومما ساعد النقاد في نقدهم الصدام الكبير الذي وقع بين الكنيسة والمكتشفات العلمية الجديدة، فقد كانت الكنيسة تدّعي أن المعرفة الصائبة هي في الكتاب المقدس بينما أصحاب المعرفة الجديدة قد أعلنوا اكتشافات تخالف هذا الكتاب، ومع الأيام تحقق للناس صحة الكثير مما قدمه العلم مما حملهم على الشك في الوحي، وقد أسهم التحريف الذي وقع من الأحبار والرهبان في زيادة القناعة عند الناس بصدق المعارضين للوحي، ثم تعزز ذلك بالنقد التاريخي الذي قامت به شخصيات مختلفة لتلك الكتب المقدسة، ثم وقع الهجر الكبير لكتبهم المقدسة مع نجاح العلمنة في فرض رؤيتها على واقع الحياة في الغرب، ومن ثمّ الهجر النهائي لكتبهم المقدسة كمصدر للمعرفة، وقد سبق العرض التاريخي لهذه الأحداث والآثار المنهجية لها في المبحثين الأول والثاني من الباب الأول. وقد انساق المتغربون مع هذه الموجة الغربية، دون تفريق بين المختلفات، فانحرفوا في باب مصدر المعرفة، فأهملوا الوحي، وخلطوا في ذلك بين الحق والباطل. وهذا المبحث ينظر في هذه المشكلة التغريبية ولاسيّما أنها تغطيها بدعاوى العلمية، وقبل مناقشة ذلك لابد من التفريق بين مصدر يكون للدين ومصدر يكون للعلوم الدنيوية، فإذا كان الأول محصورًا في الوحي فإن العلوم الدنيوية متروكة للجهد البشري، والنظر في النافع منها وَفْق مصادرها التي بثّها الله في الآفاق وفي الأنفس، في الحس وفي العقل وفي المركَّب منهما، شريطة الحركة في الإطار الإِسلامي للمعرفة، وهنا وقفة مع مصدر المعرفة غير الدينية. مصدر العلوم الرياضية والعلوم الطبيعية: أصبح للمنهج شأنه في الفكر الحديث، وظهرت ثماره جلية في العلوم التجريبية، وأصبح لكل فرع من فروع العلم منهجه، وكل عاقل يعلم أهمية المنهج وفائدته للعلم، ويبقى المُشْكل أن المعرفة لابد لها من مصدر تؤخذ منه

وطريقة للوصول إليها، وعند العودة إلى أهم العلوم البشرية غير الدينية نجدها ترجع إلى نوعين: النوع الأول: "الرياضية بمنهجها الاستنباطي: ويتألف من مقدمات أولية نضعها منذ البدء ونسلم بصدقها، ثم نستنبط منها بخطوات صورية محكمة قضايا تلزم عنها لزومًا منطقيًا، وهي النظريات الرياضية" (¬1)، وبهذا تكون نتائجها تحصيل حاصل، إذ النتيجة موجودة في المقدمات، ومن الواضح أن مصدرها عقلي. والنوع الثاني: "العلوم الطبيعية بمنهجها التجريبي وعمدته الاستقراء والقائم على أساسين: الاعتقاد بالرباط العلّي بين الحوادث، والاعتقاد باطراد الحوادث في الطبيعة. ويقوم على ثلاث خطوات هي: الملاحظات والتجارب، وتكوين فرض يفسرها، ثم تحقيق هذا الفرض"، على أن هذا هو التقليدي الذي عرف في الفكر الغربي مع بيكون ومل، وقد ظهر في مرحلة معاصرة صورة أخرى هي: "المنهج الفرضي الاستنباطي" الذي يجمع بين الاستقراء والرياضيات، ويعتمد مبدأ اطراد الحوادث ولا يهتم بالرباط العلي، والجديد فيه "أن التحقيق التجريبي ليس ممكنًا دائمًا في تلك الحالات" بخلاف التقليدي (¬2)، ومن الواضح أن مصدر هذا النوع يغلب عليه الحسي؛ أي: عالم المادة والشهادة. وسيكون معيار التحقق في القسم الأول: التوافق بين النتائج ومقدماتها، أما القسم الثاني فمعياره هو التحقق الخارجي عن طريق التجربة (¬3). فظهر لنا مصدران مهمان من مصادر المعرفة، هما العقل للعلوم الرياضية والهندسية وما في بابها، والحس للعلوم الطبيعية بشتى أنواعها. وهما مصدران معترف بهما شرعًا، ويكفي التأمل في معنى النظر الوارد ذكرهُ في النصوص، حيث نجده يدلّ على المعنيين: معنى التأمل العقلي، ومعنى النظر في العالم المحسوس (¬4)، قال الفيروزآبادي -رحمه الله-: "نظره كنصره وسمعه، وإليه نظرًا ومنظرًا ونظرانًا ومنظرة ¬

_ (¬1) انظر: مناهج البحث الفلسفي، د. محمود زيدان ص 178 - 180. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 180 - 183. (¬3) انظر: نحو فلسفة علمية، د. زكي نجيب، الفصل السابع ص 180 وما بعدها. (¬4) انظر: القرآن والنظر العقلي، فاطمة إسماعيل ص 63 وما بعدها.

المصدر في العلوم الاجتماعية

وتنظارًا: تأمله بعينه" إلى أن قال: "والنظر، محركة: الفكر في الشيء تقدره وتقيسه" (¬1)، وعرفه صاحب "الكليات" فقال: "النظر: هو عبارة عن تقليب الحدقة نحو المرئي التماسًا لرؤيته" إلى أن قال: "والنظر: ترتيب أمور معلومة على وجه يؤدي إلى استعلام ما ليس بمعلوم. . . ." (¬2)، ولكنه وإن كان يتضمن الدلالة على هذين المصدرين فإنه يرشد في الوقت نفسه إلى الغايات المحمودة من هذا النظر، لاسيما في ربط النظر بموضوع الإيمان بالله، وثمار ذلك في دنيا الناس وآخرتهم، كما أنه وإن تضمن الدلالة على مصدرية العقل والحس فإنه يدل على ما هو أعلى منهما وهو الوحي، ويكفي أن هذه الأدلة في القرآن الآمرة بالنظر مصدرها القرآن؛ أي: في ما هو أعلى منها. المصدر في العلوم الاجتماعية: تسعى العلوم الاجتماعية (علم الاجتماع وعلم النفس وعلم الإنسان) إلى احتذاء طريقة العلوم التجريبية الطبيعية لعلها تصل إلى دقتها ونجاحها (¬3)، والذي يظهر أنها في جوانبها المادية تحقق نجاحًا ملحوظًا؛ لأنها مما يمكن إخضاعه للتجريب والإحصاء بخلاف الجوانب المعنوية التي فشل فيها عملهم، مما جعل بعضهم ينكر الجوانب المعنوية ويرفضها كما هو الحال مثلًا مع "المدرسة السلوكية" في علم النفس، أو يتحول إلى تقديم رؤىً عقلية لا تختلف عن مسار الجهود الفلسفية، كما هو الحال مثلًا مع مدرسة "التحليل النفسي الفرويدية"، فابتعدت الثانية عن مفهوم العلم كما يؤكد ذلك مجموعة من فلاسفة العلم المعاصرين ولاسيّما "كارل بوبر" ومن تأثر به (¬4). فهي تصر على المصدر الحسي أو العقلي، وترفض في الوقت نفسه أي مصدر آخر. ومثل هذا الميدان يمكن تقسيمه إلى قسمين: قسم يجد مصدره في مصادر العلوم البشرية، وذاك ما يتعلق بالجانب المادي من الإنسان والمجتمع، وقسم لابد فيه من الوحي، وهو ¬

_ (¬1) القاموس المحيط ص 623. (¬2) الكليات، اللكنوي ص 904. (¬3) انظر: مقدمة في إسلامية المعرفة، طه العلواني ص 12، وانظر: التأصيل الإِسلامي للعلوم الاجتماعية، د. إبراهيم رجب ص 89. (¬4) انظر: منطق الكشف العلمي، كارل بوبر ص 33، من مقدمة المترجم د. ماهر عبد القادر.

الجانب المعنوي، فمهما بلغ تقدم هذه العلوم فإنها تبقى تائهة بإهمالها الوحي الذي نزل للنفس الإنسانية والمجتمع. وهذا يجعل المهمة صعبة وكبيرة على الأمة الإِسلامية المعتزة بدينها الواثقة بمصدرية الوحي الذي بين يديها، في تصحيح مسار هذه العلوم بعد أن رفضت الوحي مصدرًا للمعرفة، واكتفت بالحسي أو العقلي. ويبقى هذا موطنَ صراع بين الاتجاه الإِسلامي الذي يجتهد في الإبداع المعرفي والحضاري القائم على استخلاص النافع من هذه العلوم وإعادة الاعتبار لمنزلة الوحي في توجيهها، وبين الاتجاه التغريبي الذي يحرص على تقليد الغرب في علاقته بالوحي وحرصه على علمنة المعرفة وتفريغها من كل معنى ديني. دعوى تغريبية: ويحسن في هذا الموطن مناقشة تلك الدعوى التغريبية التي طالما أثاروها ضد خصومهم من الاتجاهات الإِسلامية، فيقولون: إن دعاة أسلمة المعرفة يدّعون أن الدين والوحي فيهما المسائل الرياضية والطبيعية، العقلية والتجريبية، الاستنباطية والاستقرائية، فيهما مسائل الرياضة والهندسة والفيزياء والكيمياء وغيرها. والذي يظهر أن أهل التغريب مقصدهم منها الخصومة فقط وتشويه موقف الاتجاه الإِسلامي، وهو يكشف أن الهوى هو السائد على الاتجاه التغريبي في اتخاذه لمواقفه، وأنه يُضحي بكل بعد أخلاقي للجدال والمناقشة. ومع قناعة الباحث بأن هذا هو دافعهم لمثل هذه المقولة إلا أنه من باب التنزّل مع الخصم يقال: إن دعاة التأصيل الإِسلامي للعلوم -أو أسلمة المعرفة أو التوجيه الإِسلامي أو غير ذلك- ممن يحرصون على المرجعية الإِسلامية لم يقصدوا بذلك أن يتحول القرآن والسنة إلى معادلات رياضية أو تفاعلات كيميائية، فهذه ميدانها الاستنباط العقلي والتجريب والاستقراء، ويكفي الدينَ أنه حثّ على النافع الصحيح من المعرفة ودعا إلى ربطها بما ينفع الناس في دنياهم وأخراهم، وأطّرها برؤية شمولية ربانية. ولم نعرف أحدًا من أهل العلم المعتبرين في كل التيارات الإِسلامية قد قال: إن الوحي يحوي تفاصيل المسائل الرياضية والهندسية والفيزيائية والكيميائية وغيرها، وكلامهم يرجع إلى أن الدين قد حثّ عليها ودلّ عليها، ومن ذلك حثه على تحصيل العلم النافع، أو أن الدين لا يعارض هذا العلم النافع، أو أنه يربط هذه المعارف برؤية متكاملة متعاونة:

أسباب الانحراف في المصدر

مصدرها الوحي، فضلًا عما يمدنا به الدين من دعم قيمي وأخلاقي يضبط العلوم في طريقة تكوّنها أو في واقع عملها في حياة الناس. حتى أولئك الذين بالغوا في ذكر المعارف الحديثة في أثناء تفسيرهم القرآن الكريم -رغم اعتراض أغلب علماء الإِسلام عليهم- لم يقولوا: إن في القرآن الرياضيات والهندسة والفيزياء والكيمياء، وإنما إذا ورد ذكر شيء من مخلوقات الله في آية قرآنية، قام ذاك المفسر بذكر ما يعلمه عن هذا الكائن في العلوم المعاصرة، وهو أقرب إلى الدعوة للتفكر في خلق الله، وهو بمنطق المتغربين يحسب للمفسر لا عليه؛ لأنه بهذا الفعل يعمم المعرفة العلمية الحديثة ويقربها من القارئ الذي قد لا يكون متخصصًا في هذه العلوم، فإن وجد اجتهاد عند المفسر وحاول الربط بين آية وبين معارف علمية حديثة، فأغلب أهل العلم لا يحبذ مثل هذا الاجتهاد إلا في ظلّ ضوابط شديدة، فإننا إذا رجعنا إلى الاتجاه السلفي نجده يعترض بشدة ويحذر بقوة من التساهل في تفسير آيات قرآنية أو أحاديث نبوية بنظريات علمية أو مفاهيم علمية، فكيف يقال بهذه الدعوى عن الاتجاه الإِسلامي. أسباب الانحراف في المصدر: من يحلل دعوى أهل التغريب يصل إلى عنصرين مؤثرين في انحرافهم حول مصدر المعرفة، فهم يرفضون مصدرية الوحي أو يتحايلون عليها، والعنصران هما: "التبعية للفكر الغربي، وظروف الصراع وأحواله". ومن المهم تحليلهما بسبب استمرار عملهما وخطورة ذلك، كما أنهما كونا الإطار العلماني لمفهوم المصدر. 1 - التبعية للفكر الغربي: رغم مزاعم أهل الفكر التغريبي في التحرر والعقلانية، إلا أنهم منقادون للفكر الغربي العلماني ومستسلمون له، والموضوعي منهم يصرح بأنهم في مرحلة التتلمذ، ويقول بأننا طلاب على موائدهم المعرفية، فلا يحق لنا الاعتراض، ودورنا الحالي هو الدراسة والفهم ومحاولة اللحاق بهم. بعضهم ضحايا حقيقيون: فمن طفولته وهو في جو تغريبي، وكانت دراسته في هذا الجوّ، ثم سافر إلى الغرب ليكمل مسيرته وينضمّ لتيارات فكرية لا دينية أو إلحادية، وتبقى حدود إمكانياته أن يكون في أحسن أحواله عضوًا في هذا الاتجاه، مخلصًا في

تحقيق رسالته، فانخرط في تيارات غربية كانت قد صفّت حسابها مع الدين المعروف في بيئاتهم "اليهودي والنصراني" بفرقه ومذاهبه، إلا أن تلك التيارات تزعم أنها بعد أن تخلصت من الدين، توجهت نحو العلم، وقد ظهر واضحًا في التيارات المادية ولاسيّما الماركسية والتيارات الوضعية، فهي تيارات تدّعي العلمية وتمثيلها للعلم، كما أنه يغلب على أتباعها الولاء الشديد والتبعية العمياء. من بين أبرز الشهادات على هذه التبعية المطلقة ما نجده عند أحد رموز الفكر التغريبي "سلامة موسى"، ففي أواخر النصف الأول من القرن الماضي كتب مقدمته المشهورة لكتابه "اليوم والغد" ويقول عن خلاصة تجربته: إنها "تتلخص في أنه يجب علينا أن نخرج من آسيا وأن نلتحق بأوروبا؛ فإني كلما زادت معرفتي بالشرق، زادت كراهيتي له، وشعوري بأنّه غريب عني؛ وكلما زادت معرفتي بأوروبا، زاد حبي لها، وتعلقي بها، وزاد شعوري بأنها مني وأني منها"، إلى أن قال: "وأريد من التعليم أن يكون تعليمًا أوروبيًا لا سلطان للدين عليه ولا دخول له فيه" (¬1)، ثم قال: "أجل، يجب أن نكون أوربيين، بل أوربيين صالحين، نشترك في "عصبة الأمم" ونعمل لتقدم العلوم، نخترع، ونكتشف، ونقدم مواهبنا لخدمة الإنسان ورقيِّهِ، ونعيش عيشة حرة بعيدة عن التعصب أو الجمود، بحيث ينتفع منا العالم كما ننتفع به. هذا هو مذهبي الذي أعمل له طول حياتي سرًا وجهرة. فأنا كافر بالشرق، مؤمن بالغرب. . . ." (¬2)، وكان يوسم عند محبيه بأنّه أحد دعاة النهضة العربية، وأنه يريد تأسيسها على قواعد صلبة على غرار ما تم في الغرب "استنادًا على العلم الحديث ونظرياته، وفي مقدمتها نظرية التطور" (¬3)، وهذا يعني أنه لابد من ترك مصادرنا تمامًا واستبدالها بالعلم الذي هو في النهاية صورة فلسفية إلحادية تبناها بعض شُرّاح نظرية داروين، وأرادوا تعميمها كإطار عام لماديتهم، وبزعم أنها هي العلم. وعلى منوال الكتابات التغريبية يدعو لتجاوز العصور الوسطى المظلمة تقليدًا للتحقيب الأوروبي لعصورهم، فهي عندنا كما يقول: "التقيد بالنصوص في ¬

_ (¬1) اليوم والغد، سلامة موسى ص 5. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 7. (¬3) انظر: سلامة موسى بين النهضة والتطور، د. مجدي عبد الحافظ ص 25.

الكتب الموروثة، دون مباشرة الطبيعة، بتسليط العقل عليها، واستخراج المعارف منها. وهي سيادة العقائد على المعارف. وهي الاكتفاء بالثقافة الدينية دون الثقافة المدنية"، وأهم خطوة عنده لتحقيق ذلك هو رفع شعار العلمانية التي خلّصت أوروبا من أديانها، "هذه النزعة الأوروبية، التي شملت جميع الأمم المتقدمة، جاءت بعد ما قارن الناس بين العلم والدين، واختاروا العلم الذي وجدوه أثبت. هذه الخطوة ذاتها، وهي تجرؤ العقول على الدين، ورفض الإيمان الأعمى به، جعلت العقول تتجرأ أيضًا على سائر الأمور الاجتماعية. . . . فصار الناس يفكرون مثلًا في الطلاق والزواج، والعائلة، والامتلاك، وأصل العالم، بدون أن يحسبوا حسابًا لسلطة إلهية تدبر هذه الأشياء" (¬1). وقريبًا من هذا الإعلان التغريبي نجد عند "طه حسين" قوله: "كل هذا يدل على أننا في هذا العصر الحديث نريد أن نتصل بأوروبا اتصالًا يزداد قوة من يوم إلى يوم، حتى نصبح جزءًا منها لفظًا ومعنى وحقيقة وشكلًا" (¬2)، ويقول: "لكن السبيل إلى ذلك ليست في الكلام يرسل إرسالًا، ولا في المظاهر الكاذبة والأوضاع الملفقة، وإنما هي واضحة بينة مستقيمة ليس فيها عَوَجٌ ولا التواء. وهي واحدة فذة ليس لها تعدد وهي: أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أندادًا، ولنكون لهم شركاء في الحضارة، خيرِها وشرِّها، حلوِها ومرِّها، وما يحب منها وما يكره، وما يحمد منها وما يعاب. ومن زعم لنا غير ذلك فهو خادع أو مخدوع. . . ." (¬3)، وحسب رأيه فاستقلالنا العلمي والفني والأدبي لا يتحقق إلا بوسائله وهي "أن تتعلم كما يتعلم الأوروبي، لنشعر كما يشعر الأوروبي، ولنحكم كما يحكم الأوروبي، ثم لنعمل كما يعمل الأوروبي، ونصرف الحياة كما يصرفها" (¬4)، ومن العجب أن كل هذه التبعية المدهشة والتقليد الأعمى يعرض على أنه المستقبل لثقافتنا. وقد اشتدت هذه التبعية مع بروز تيارات فكرية وأحزاب سياسية ذات منظور ¬

_ (¬1) انظر: سلامة موسى بين النهضة والتطور ص 92 - 93، وكتاب سلامة موسى، ما هي النهضة ص 104 عن عبد الحافظ. (¬2) مستقبل الثقافة في مصر، د. طه حسين ص 33. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 41. (¬4) انظر: المرجع السابق ص 44.

أيديولوجي تغريبي، وأشهرها المجموعات الماركسية العربية وغير العربية في البلاد الإِسلامية، حيث أصبح المصدر الوحيد عندهم هو الماركسية، وكل ما سواها فلغوٌ وخرافة، وفي ذلك يقول أحدهم: "إن الإِسلام والعلم في هذا الأمر على طرفي نقيض. فبالنسبة للدين الإِسلامي -كما بالنسبة لغيره- إن المنهج القويم للوصول إلى مثل هذه المعارف والقناعات هو الرجوع إلى نصوص معينه تعتبر مقدسة أو منزلة. أو الرجوع إلى كتابات الحكماء والعلماء الذين درسوا هذه النصوص وشرحوها. أما تبرير العملية بأسرها فيستند إلى الإيمان أو الثقة العمياء بحكمة مصدر هذه النصوص وعصمته عن الخطأ. ومن نافل القول أن نردد أن الطريقة العلمية في الوصول إلى معارفنا وقناعتنا عن طبيعة الكون ونشأته وعن الإنسان وتاريخه تتنافى تمامًا مع هذا المنهج الاتباعي السائد في الدين؛ لأن المنهج العلمي قائم على الملاحظة والاستدلال، ولأن التبرير الوحيد لصحة النتائج التي يصل إليها هذا المنهج هو مدى اتساقها المنطقي بعضها مع البعض الآخر ومدى انطباقها على الواقع" (¬1)، والإحالة عند صادق العظم -صاحب المقولة- ليست إلى العلم الرياضي والطبيعي القائم على الاستدلال والملاحظة، وإنما إلى الصورة الماركسية لهذا العلم؛ أي: في ظل التوظيف الماركسي لمعطيات العلم والاستغلال الأيديولوجي له، لقد تحول مفهوم العلم عند الماركسيين إلى مفهوم مطابق للماركسية، الماركسية هي العلم، وقد ظهر فيما بعد باسم "الاشتراكية العلمية"، تلاعبًا منها بهذا المصطلح المحبوب عند الناس، على أن أيديولوجية (الماركسية/ العلم) هي الإلحاد، فيصبح العلم قرين الإلحاد، وهي صورة تلبست التيار المادي التغريبي من شبلي شميل إلى سلامة موسى إلى صادق العظم إلى الأحزاب والتيارات الماركسية العربية الكثيرة التي أعلنت بصراحة افتخارها بالإلحاد. تعد هذه التبعية العمياء من الأمراض الخطيرة، وقد حذّر منها النبي -صلى الله عليه وسلم-، فعن أبي سعيد الخدري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لتتبعُنَّ سنن من كان قبلكم شبرًا شبرًا وذراعًا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ تبعتموهم". قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟! " (¬2)، والموغلون في التبعية يُصبحون في حكم ¬

_ (¬1) نقد الفكر الديني، صادق العظم ص 15 - 16. (¬2) البخاري (7320) باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لتتبعن سنن من كان. . . ."، من كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، ومسلم برقم (2669)، باب اتباع سنن اليهود والنصارى من كتاب العلم.

من ذكرهم الله في كتابه محذرًا من ذاك المرض الخبيث الذي أعمى أبصارهم وأصمّ آذانهم عن الحق، وأصبح شعارهم {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 22]، وفي الآية التي بعدها {مُقْتَدُونَ}، قال سيد قطب: "وهي قولة تدعو إلى السخرية، فوق أنها متهافتة لا تستند إلى قوة. إنها مجرد المحاكاة ومحض التقليد، بلا تدبر ولا تفكر ولا حجة ولا دليل. وهي صورة مزرية تشبه صورة القطيع يمضي حيث هو منساق؛ ولا يسأل: إلى أين يمضي؟ " (¬1). والتبعية العمياء نابعة من الهزيمة النفسية والانبهار القاتل وهي حاصلة بسبب الابتعاد عن تحقيق الدين في النفوس والمجتمعات، ومن بين آثارها في موضوعنا: البقاء طول العمر في التقليد والتبعية والبقاء في موضع أقل شأنًا من الأسياد، ويلحق بذلك عدم الحرص على المنافسة وطلب القوة وتحقيق الاستقلال المعرفي والعلمي، هناك استسلام يقتل أي طموح أو تقدم، كما أنه يُمكّن الأعداء من المسلمين، حيث ستبقى لهم السيادة والتوجيه ما بقي فينا قوم بمثل هذه الرؤية. ويأتي خطرها الديني والفكري الأبعد شأنًا بعد ذلك: أنَّ أصحاب التبعية لا ينظرون لتراثهم ودينهم، بل أنفسهم، إلا من خلال المتبوع، أصبح هو المصدر الوحيد لمعرفتنا حول كل شيء حتى ذواتنا. وستُغطَى معايب هذه التبعية عند أهل التغريب بادعائهم أنهم ينشدون العلم في الغرب ويضعونه مصدرًا جديدًا لهم، فإن تفحصته تجده في النهاية فلسفات ومذاهب لا صلة لها بالعلم ولاسيّما فيما له علاقة بالدين وموضوعاته. ويصعب في مثل هذه الحالة مناقشة أصحابها، مشكلة أهل هذه الحالة عميقة، يكفي معهم الإشارة إلى أزمة التبعية، مثل هؤلاء مذبذبون، فلو قامت مرجعياتهم الغربية بالعودة لمصادر ميتافيزيقية أو قامت بإعادة الاعتبار للدين، فستجدهم يتحولون خلفهم. إنهم منغمسون في التقليد الذي يذمّون به غيرهم، رغم أن غيرهم قد اعتصم بالوحي الذي لا يأتيه الباطل. ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن، سيد قطب 5/ 3182.

2 - ظروف الصراع وأحواله

2 - ظروف الصراع وأحواله: يكشف لنا التحليل التاريخي -السابق في الفصل الثالث والرابع من الباب الأول- أن مسألة مصدر المعرفة، لاسيما في المسائل الدينية، لها ارتباط بالصراع الدائر داخل العالم الإِسلامي الذي حركته الأقليات غير المسلمة. فقد كانت العقبة أمامهم هي الإِسلام، وقد جاءتهم الفرصة للظهور والحركة في القرن الثالث عشر الهجري بعد الضغط الأوروبي، ورغبته في اختراق العالم الإِسلامي، وكان الحل لذلك هو تكوين مجموعة موالية من الداخل، وقد كان من بين مهمات أعداء الأمة: الانتقال بالمسلمين من إسلامهم إلى مرجعية أخرى تسمح لتلك الأقليات بتحقيق مآربها، ومع وجود قوى عالمية تُحرك الصراع بإمكانياتها المهولة؛ فقد نجحوا في إضافة فريق آخر غير الأقليات بعد استقطاب بعض المسلمين، لاسيّما من كانوا من أتباع الفرق المنبوذة داخل المجتمع المسلم بسبب غلّوها. هناك نموذجان بارزان يوضحان القضية، وهما: الجيل التغريبي الأول، ومن أبرزهم: "شبلي شميل" و"فرح أنطون" إلى "سلامة موسى" ومنْ لفَّ لفّهم، والثاني: المجموعات الماركسية العربية. فقد ركّز الطرف الأول على بثّ صورة عن أنفسهم: أنهم دعاة العلم وأنصاره، وتبنوا أشهر نظرية علمية آنذاك؛ بعد أن وسعوا من مجالها، وهي النظرية الدارونية. وبالتحليل الموضوعي لهذه الشخصيات نجد أن الإعلاء من شأن العلم إنما هو أداة وسلاح في معركة يخوضونها ضدّ الإِسلام؛ فقد أظهر "شميل" و"موسى" الإلحاد. فكيف يمكنهم القبول بالدين بعد ذلك؟! لم تكن المسألة نزاعًا حول مصادر المعرفة أو البحث عن الحقيقة، وإنما كانت تهدف إلى إبعاد الإِسلام بوصفه مصدرًا، فهم ينتمون إلى طائفة تريد إبعاد الإِسلام عن الصدارة، ثم تعاونوا مع جيوش الاستعمار، وانتموا لتيارات مادية لا تقبل بالدين أيًا كان، فيصبح ادّعاء العلمية وإعلان مصدرية العلم، هو أحد أهم الأسلحة في هذا الصراع من باب التلبيس، لم يكن مطلبهم العلم بقدر ما كان سلاحًا في صراعهم مع الإِسلام، كان أداة من أدوات السلاح في معركتهم ضد الإِسلام، والأداة يستخدمها الطرفان، ولكن أهل التغريب وظفوها كسلاح للهدم؛ لأن أهل الإِسلام آنذاك قد تفرغوا لطلب العلوم من أجل التحديث والنهضة والتقدم، بينما

ركّز أهل التغريب على فلسفة العلم ومذاهب مادية وإلحادية نبتت في أوروبا، واستغلّت ثمار العلم في دعاويها من أجل استغلالها في صراعهم مع الأمة الإسلامية. يقول "حسن حنفي" عن النموذج الأول: "وواضح من هذا التيار أنه كان غربي الثقافة، يرى أن العلم، وهو حاجة ملحة للمجتمعات العربية، وافد من الغرب، وأنه آخر ما وصل إليه الغرب من فكر علمي، العلم الطبيعي في القرن التاسع عشر، ونظرية التطور في علوم الحياة. حمله نصارى الشام الأكثر ارتباطًا بالثقافة الغربية، وكانت الإرسالات التبشيرية منبرهُ ومكان ازدهاره وانتشاره. ظل فكر الأقلية المثقفة لا يستطيع اختراق الثقافة الإِسلامية للأغلبية" (¬1)، ولا أدري ما المؤهل لوصفه إياها بأقلية مثقفة؟ وكيف يريد من مجموعة رعاها الاستعمار، واحتضنتها المنابر التبشيرية أن تقبلها الثقافة الإِسلامية! فسبب نفور الثقافة الإِسلامية منها ليس بسبب علمهم وثقافتهم، فإن المسلم يسافر لبلاد الغرب لتحصيل العلم النافع، وهو مشكور على عمله ومأجور إن أخلص في ذلك، أما هؤلاء فقد ركّزوا على صورة تزعم أنها علمية يراد منها غير ما يراد من العلم الحقيقي النافع. ولا أدري كيف يتغافل عن حقيقة دورهم وواقعهم التاريخي رغم وضوح الدلائل سوى قدرة أهل التغريب في اختراق بعض المسلمين؟ فإذا انتقلنا إلى النموذج الثاني وهم الماركسيون، حيث كانوا أشدّ التيارات ادعاءً للعلمية ودفاعًا عن العلم وتمسكًا بالعلم، لدرجة أنك تتوقع أنك أمام علماء، ثم لا تجد سوى الإلحاد، فإذا نظرت إلى حقيقة الدعوى وجدت مقصودهم بالعلم هو فلسفة "ماركس" و"إنجلز" أو تأويلات "لينين" أو "تروتسكي" أو غيرهم، فجعلوا الفلسفة الإلحادية المادية مرادفة للعلم، وعندها يظهر أن هدف إعلان العلم هو غطاء من أجل تسريب الفكر المادي الإلحادي في صورته الماركسية. على أن اللافت لأي باحث هو نوعية المؤسسين لهذه المنظومة، حيث كان أغلبهم من اليهود، وهم يهود يتبنون الفكر الإلحادي، ولهم حسابات كبيرة مع المسلمين، وظهورهم بصورتهم الصريحة يعقد الوضع، لذا كان الطريق الأنسب في صرف الناس عن مصدر دينهم يتم بوضع منافس له مع التشكيك في ¬

_ (¬1) هموم الفكر والوطن، د. حسن حنفي 2/ 440.

مصدرية الوحي وصدق الدين، فكان تعاملهم مع العلم بوصفه سلاحًا لمحاربة الدين، أما العلم فرغم طول فترة وجود الأحزاب الماركسية في البلاد الإِسلامية، فلا يعرف لهم فضل في الحركة العلمية؛ لأن مشروعهم ليس العلم، وإنما مشروعهم الذي لم ينجز -ولن ينجز- هو ضرب الدين ونشر الإلحاد. ولا بأس من بعض الشهادات عن أحد أشهر الأحزاب الشيوعية وهو الحزب الشيوعي المصري، وستكون الشهادة من شخص قريب منهم هو الدكتور "لويس عوض"، فبعد عودته من إنجلترا سنة (1940 م) وجد كما يقول جماعات كثيرة بأسماء مختلفة "إن هذه الجمعيات الثقافية لم تكن سوى نوادٍ سياسية أو واجهات تخفي وراءها تنظيمات شيوعية"، أما أهم أعضائها فقد وجد أن "اليهود ممثلون فيها بنسبة عالية"، أما التمويل فكما يقول: "كنت أسمع من أعضاء هذه النوادي أنفسهم أن تمويل نواديهم وربما جماعاتهم الباطنية يأتيهم بدرجات متفاوتة من بعض المليونيرات اليهود" (¬1)، إلى أن قال عن كآبة هذه الأحزاب وانفصالها عن بيئتها: "وهي صورة كئيبة؛ لأن سيطرة اليهود على التنظيمات الشيوعية أو على الأقل على كوادرها الداخلية في سنوات التكوين بحكم التمويل. . . ." (¬2)، وقد كان من أهم رموز تلك المرحلة اليهودي "هنري كورييل"، وعنه يقول أحد أتباعه -بعد أن منّ الله عليه بالهداية حيث كان عضوًا سابقًا في الأحزاب الشيوعية، ولاسيّما السوداني-: "فقد بدا لنا اليهودي قد أحيط بكل شيءٍ علمًا، ولذلك رضينا له قولًا، حتى عندما أسرف وتطاول على دين الله، الذي زعم أنه يُشكّل خطورة على تقدم السودان وعقبة كبرى. . . . وما كان يجوز لنا، نحن الذين نشأنا تحت راية القرآن أن نستمع لمثل ذلك اللغو ونصغي، ولكنا كنا كشياطين الإنس والجن يُوحي بعضهم إلى البعض زخرف القول غرورًا" (¬3). هكذا نجد القيادات التغريبية المهمة إما أنها تنتمي لطائفة النصارى أو ¬

_ (¬1) العنقاء أو تاريخ حسن مفتاح، من المقدمة، د. لويس عوض ص 10 - 11. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 15. (¬3) ومشيناها خطى (صفحات من ذكريات شيوعي اهتدى)، أحمد سليمان 2/ 15، وانظر حول هذا اليهودي: نفس المرجع 2/ 15 - 59، وفي الجزء الأول: 1/ 55، 60، 77، 63، 127، 135 - 136.

مكانة الوحي في التصور الإسلامي وصور إقصائه كمصدر للعلم عند المتغربين

اليهود أو ما هو أشنع، ألا وهو انتماؤهم للإلحاد والمذاهب المادية، وهؤلاء لهم حساباتهم مع الإِسلام وأهله، وهي تدفعهم إلى صرف المسلمين عن مصدرهم وهويتهم؛ فهم إن كانوا على ملتهم فلا يهمهم الإِسلام، وإن كانوا على الإلحاد فالأمر أشدّ وأخطر. ولأن المسألة هي مسألة محاربة لدين الله واستغلال العلم الحديث أداةً -بعد تشويه مناهجه أو نظرياته- فلابد من إشاعة مفاهيم تساعدهم في ذلك، مثل: قول أتباعهم: إن مثقفي النصارى واليهود أكثر انفتاحًا على الثقافة الحديثة، وأكثر قبولًا لها، وأسبق من المسلمين، دون أن نفرق بين قوم لا يخسرون شيئًا إن جعلوا أنفسهم في ذيل ثقافة الغرب، وبين من يملكون الهدى والنور ويخسرون كثيرًا بالتبعية. ومثل: وصف الثقافة الغربية بالعالمية والعلمية، فتُعطى صفة الإطلاق والثقة لشيء لا يستحق ذلك، وهو ما أصبحت تقرره فلسفة العلم المعاصرة بعد بروز نظريات الفيزياء الأخيرة، وأثرها في نزع صفة المدح المطلق أو الثقة المطلقة في العلم. مع أن المسلم لا يقلل من شأن العلم في أي باب من الأبواب العلمية، ولكن المسلم لا يعطي الإطلاق إلا للوحي. مكانة الوحي في التصور الإِسلامي وصور إقصائه كمصدر للعلم عند المتغربين: يقوم التصور الإِسلامي على مصدرية الوحي لأبواب الدين، الدين مصدره الكتاب والسنة، وكل مسلك غير ذلك مسلك فاسد، والبحث عن مصدر غيرهما يوصل صاحبه إلى طريق مسدود، قد يصل الناس بعقولهم أو بعلومهم إلى شيء من أمور الدين، وهذا لا يخالف فيه أحد؛ لأن الدين جاء بالحق، وقد يصل الناس إلى شيء من هذا الحق إن أحسنوا الاستدلال، ولكنهم لن يصلوا إلى الدين بكماله، كما أنه لا ضامن لهم في صحة ما وصلوا إليه، بخلاف من سلك طريقة أهل السنة فهو واثق من علمه وعمله في أبواب دينه. ويكفي التذكير بأمرين يستحيل وصول البشر إلى شيء منهما دون الوحي وهما: الغيبيات والشرائع (¬1)، وأعظم أنواع الغيب الإيمان بالله سبحانه، ومعرفته بأسمائه وصفاته، وتحقيق ربوبية وعبوديته سبحانه، ثم يأتي أنواع أخرى من ¬

_ (¬1) انظر: المعرفة في الإِسلام. مصادرها ومجالاتها، د. عبد الله القرني ص 155 وما بعدها.

الغيب كأحوال أول العالم وآخره واليوم الآخر (¬1). قال -تعالى-: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)} [الأنعام: 59]، وقال -تعالى-: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)} [الجن: 26، 27]، وقال -تعالى-: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63)} [الأحزاب: 63]. والشريعة هي: الأحكام التي سنها الله لعباده على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، قال -تعالى-: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)} [الجاثية: 18]، وقال -تعالى-: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]، وقال -تعالى-: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام: 57]، وقال -تعالى-: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10)} [الشورى: 10]، وقال -تعالى-: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]. فربانية المصدر -فهو وحي من عند الله- تعطي الطمأنينة لمن آمن بذلك، فبين أيديهم كلام ربهم العليم الحكيم، فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة ولا يقع في خلقه أو أمره ما يعارض حكمته، فسبحانه. كما أن كمال الوحي في أبواب الدين يجعل المتبعين له ينطلقون بثقة ويُقْدمون دون حيرة أو شك، فقد كَمُل الدين وعلى المسلم الاعتصام به، أما في الدنيا فهو مكلف بعمارتها وفق هدي السماء، قال -تعالى-: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61]، وفي كمال الدين قال -تعالى-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، وقال -تعالى-: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]، وقال -تعالى-: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)} [الأعراف: 3]، وقال ¬

_ (¬1) انظر: العقيدة الإِسلامية وأسسها، عبد الرحمن الميداني ص 25 وما بعدها، وانظر له: صراع مع الملاحدة حتى العظم ص 33 - 37. (¬2) انظر: تاريخ التشريع ومراحله الفقهية. . . .، د. عبد الله الطريقي ص 12.

-تعالى-: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} [الأنعام: 153]، قال شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله- بعد ذكره لهذه الآيات وغيرها: "ومثل هذا في القرآن كثير، مما يبين الله فيه أن كتابه مبين للدين كله، موضح لسبيل الهدى، كافٍ لمن اتّبعه، لا يحتاج معه إلى غيره، يجب اتباعه دون اتباع غيره من السبل" (¬1). أما دور البشر في الأرض، فآية "هود" تُبيّنهُ وترشد إليه هو القيام بعمارتها، قال ابن كثير -رحمه الله-: " {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ}؛ أي: ابتدأ خلقكم منها، خلق منها أباكم آدم، {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}؛ أي: جعلكم فيها عُمّارًا تعمرونها وتستغلونها" (¬2). وقال -تعالى-: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)} [الأنعام: 165]، قال ابن كثير -رحمه الله-: "أي: جعلكم تعمرون الأرض جيلًا بعد جيل، وقرنًا بعد قرن، وخلفًا بعد سلف. قاله ابن زيد وغيره، كقوله -تعالى-: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60)} [الزخرف: 60]، وكقوله -تعالى-: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} [النمل: 62]، وقوله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، وقوله: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129]. . . ." (¬3). وفي سورة النور قال -تعالى-: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)} [النور: 55]. فالإنسان مستخلف في هذه الدنيا ومطلوب منه عمارة الأرض، وقد أكرمه المولى سبحانه بهذا الوحي "الكتاب والسنة"، رباني المصدر وفيه الكمال الديني ¬

_ (¬1) درء تعارض العقل والنقل، ابن تيمية 10/ 304، وانظر: العقيدة الإِسلامية وأسسها، عبد الرحمن الميداني ص 32 - 49، وانظر: مناهج البحث في العقيدة الإِسلامية .. ، د. عبد الرحمن الزنيدي ص 302 - 334. (¬2) تفسير ابن كثير ص 661. (¬3) المرجع السابق ص 502.

1 - مذهب غلاة المتغربين ودعوتهم لإقصاء الوحي

الذي من زاغ عنه خسر خسرانًا كبيرًا. والأمة كلما اعتزت بهذا المصدر، وقدمته على غيره، وجعلته مهيمنًا على كل ما سواه، وعمرت الأرض كما أمر ربنا سبحانه، تحقق لها الاستخلاف والتمكين. ولذا كان الصراع مع الأعداء هو حول المصدر، حول منبع القوة والمعرفة والدين، وحول ما يجلب لها الاستخلاف والتمكين. لقد قامت تيارات التغريب تحت دعوى التأثر بالعلم بعملية زحزحة للوحي إلى مصادر أخرى يزعمون فيها الأولوية، وقد تأثر بهم طائفة من الناس، وأهم ما يلحظه الباحث من صور الزحزحة: القول بترك الوحي مطلقًا عند الغلاة، أو القول بالتوفيق عن طريق رمي الوحي في باب الوجدان، أو جعل النظرية العلمية في مقام النص. 1 - مذهب غلاة المتغربين ودعوتهم لإقصاء الوحي: حيث يرون الانتقال من مصدرية الوحي إلى مصدرية العلم زعموا وإلى "العقل والحس"، ويغلب على هذا الصنف اتجاهان: الأول: وهم من يقولون -تبعًا لـ"كونت" الوضعي- بأن الإنسانية مرّت بثلاث مراحل: المرحلة الدينية ثم الميتافيزيقية ثم الوضعية: العلمية، ولابد من المرور بهذه المراحل، وكل مرحلة في وقتها تعتبر الأنسب لوقتها، فالمرحلة الدينية مناسبة لأهل تلك المرحلة وهكذا في الباقية. والآن حان وقت ترك الدين والميتافيزيقا والاكتفاء بالعلم الذي حقق تقدمه ونفعه، وهذا يغلب على الوضعيين والمتغربين الأوائل (¬1). والثاني: وهم المتأثرون بالمذاهب المادية الثورية الجذرية التي ترى بأن الدين والميتافيزيقا وهم بشري وخطأ تاريخي، ولذا لابد من تدمير الماضي ونبذه بصورة جذرية، فالوضعيون يرون أنه كان الأصح والأنسب في وقته أما هؤلاء فلا يرون ذلك، وقد غلب هذا على الماركسيين (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: العلمانية من منظور مختلف، د. عزيز العظمة ص 221. (¬2) انظر مثلًا: نقد الفكر الديني، صادق العظم، وانظر: النص القرآني. . . .، طيب تزيني، وانظر: جمعًا منهم وطريقة تعاملهم مع الوحي ضمن دراسة تركي الربيعو، أزمة الخطاب التقدمي العربي في منعطف الألف الثالث -الخطاب الماركسي نموذجًا.

ورغم مزاعم الطرفين بالانتقال إلى عصر العلم واكتفائهم بمصدريته، إلا أنه في النهاية له صورة عند الوضعيين وله صورة عند الماركسيين، فظهر أن ما يريدون الانتقال إليه ليس العلم الموضوعي بقدر ما هي مذاهب فلسفية علمانية، وهذا كاف في إبطال دعواهم، فالأصل في العلم أن يكون على صورة واحدة أو صورة تتقارب أطرافها فلا تتعارض أو تتناقض، ولكننا نجد بين دعاة العلمية من الوضعيين والماركسيين من الطعن في بعضهم والتكذيب بما عند الآخر الشيء الكثير. فإذا كان ما يدعو إليه هؤلاء من مصدرية العلم لا حقيقة له وإنما هو دعوة إلى مذاهب فلسفية مادية علمانية فهذا ينقلنا إلى مجال آخر، الوعي به مهم، وهو ضرورة الوعي بالفرق بين العلم والمذاهب الفلسفية، فالمذهب الفلسفي هو "فرض أو وجهة نظر" يفسر بها الفيلسوف من جانب ذاتي شخصي ما يُلح عليه من تساؤلات واهتمامات ويريد وضع رؤية جديدة حولها؛ أي: اتخاذ موقف بعض عناصره مستمدة من الواقع الذي يعيش فيه الفيلسوف وبعضه الآخر استباق لواقع مأمول (¬1). فيكون المذهب الفلسفي وجهة نظر، ولذا يقدم لنا تاريخ الفلسفة مذاهب فلسفية تتعدد بتعدد الفلاسفة، وإذا كان بهذه الصورة فلا ينطبق عليه معيار الصدق والكذب الذي يناسب المنطق والعلوم التجريبية والرياضية، فلا نقول "عن النظرية الفلسفية: إنها صادقة أو كاذبة. وإنما نقول عنها فقط: إنها مقبولة أو غير مقبولة. ومعيار القبول هو الاقتناع بها، ولا يقوم الاقتناع بالنظرية على توفر تجارب تؤيدها، كما أنه لا يقوم على صحة استدلالية أو إحكام منطقي" (¬2). صحيح أن كثيرًا من الفلسفات المعاصرة تدّعي العلمية وتهتم بالعلم، ولكن العلم القائم على التحقق المنطقي الرياضي أو التجريبي يختلف تمامًا عن المذاهب الفلسفية، التي هي في النهاية وجهة نظر، وعندما يخرج المذهب عن إمكانية التحقق التي يتصف بها العلم يصبح شيئًا غير العلم. فهؤلاء إما أن يتحولوا إلى ميدان العلم، ومعنى ذلك أن يتركوا التفلسف الذي لا معيار للتحقق منه وهو ما يرفضونه، وإذا كانوا لن يتركوا وجهة نظرهم الذاتية فكيف يريدون من ¬

_ (¬1) انظر: مناهج البحث الفلسفي، د. محمود زيدان ص 16. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 27.

2 - مذهب التوفيقيين من المتغربين ودعوتهم لإقصائه كمصدر للمعرفة

المسلمين ترك ما جاءهم من ربهم ليتحولوا إلى وجهات نظر ذاتية غلب عليها الإلحاد والكفر بالدين والغيب. 2 - مذهب التوفيقيين من المتغربين ودعوتهم لإقصائه كمصدر للمعرفة: وهؤلاء بحسب ظاهرهم يعترفون بالدين ومصادره ولكن في حدود ضيقة، فهم يرون تبعًا لمرجعياتهم الغربية بتقسيم النشاط الإنساني إلى قسمين (¬1): العقل والوجدان، العقل مصدره العلم وعمله العلم، فيقبل التصديق أو التكذيب، أما الوجدان فيخضع للذوق فقط، ومعياره القبول الشخصي، وغذاؤه في الدين والآداب والفنون. يرى أهل هذا الاتجاه أن الدين لا يمكن أن يكون ميدان الحقائق؛ لأنه لا يمكن إخضاعه كالعلم لمعايير التصديق، يقول أحد الوضعيين: "مذهبنا هو "أن يكون العلم -لا الأخلاق ولا الدين- مصدر الوحي للفلسفة". . . ." (¬2)، وضرب لذلك مثالًا بـ"الروح" (¬3) فلا يمكن إثباتها بمعايير العلم بحيث كل من قام بالتحقق أيًا كان، ملحدًا أو مؤمنًا، يستطيع الوصول إلى النتيجة نفسها التي يصل إليها غيره، بخلاف العلم، فإن أغلب مسائله يستطيع كل إنسان إذا طبق المعايير أن يصل إلى المسألة نفسها، فيصل هذا الاتجاه إلى: أن العلم هو مصدر الحقائق وهو مصدر إدارة الحياة، أما الدين فيبقى مصدرًا اختياريًا فرديًا ذاتيًا، حاله كحال الآداب والفنون بما في ذلك التمثيل والمسرح والموسيقى. مناقشة الملفقين: من المهم مناقشة طائفة الملفقين؛ لأن مقولتهم قد يظهر منها قبول الدين ¬

_ (¬1) أشهر من عُرف عنه الدعوة لهذا العمل الدكتور زكي نجيب ولاسيّما في ثلاثة كتب: (خرافة الميتافيزيقا)، و (نحو فلسفة علمية)، و (المنطق الوضعي)، وانظر: الوضعية المنطقية والتراث العربي، عبد الباسط سيدا ص 120، وانظر: قصة عقل، د. زكي نجيب ص 92 وما بعدها. (¬2) نحو فلسفة علمية، زكي نجيب ص 30، ولمركزية هذه القسمة الثنائية في فكره فقد خصص أصحاب الكتاب التذكاري (زكي نجيب محمود فكرًا عربيًا) المحور الرابع لمناقشتها: العقل والوجدان عند زكي نجيب ص 311 وما بعدها. (¬3) انظر: موقف من الميتافيزيقا، د. زكي نجيب ص 6.

بخلاف الطائفة الأولى، فمشكلتها أعمق من مشكلة المصدر، فمشكلتهم -الطائفة الأولى- مرض الإلحاد ومرض القلب الذي يُزهدهم في الدين كله، ولذا فإنه لا يناسبهم مناقشة المصدر وإنما ما هو أعلى منه، ويكفي فقط ذكر قولهم الخطير وأبعاده الإلحادية وآثاره، بخلاف الفريق الثاني فهم يُظهرون الإقرار بالدين مع إقصاء مصدره، فهذه مناقشة نقدية لموقفهم: 1 - لا يخالف الاتجاه الإِسلامي في كون العلم التجريبي الصحيح مصدرًا مهما من مصادر الحقائق، ولكنهم يعلمون حدود العلم وإمكانياته، ولهذا لا يجعلونه المصدر الوحيد، وإنما هو مصدر من المصادر، فإذا جاء الأمر إلى الدين: فإن من مسائله ما يصل إليها العلم، ومنها ما لا يصل إليه لكونه من "عالم الغيب"، ولكن الطريق الموصل إليها قد ثبت صحتها عند أهله، وبمعايير موضوعية لا يرقى إليها الشك إلا من سفسط في الحقائق اليقينية. ولهذا يكون الوحي عند الاتجاه الإِسلامي المصدر الأساسي للدين مع الاعتراف بمصدرية العقل والحس فيما يناسبهما، ويتميزون بأنهم اعتصموا بالوحي في أمور الدين: فمنعوا الأقيسة العقلية والوجدانيات الباطنية وأقوال أئمة أو أولياء يدعون العصمة ومعرفة الغيب، قد يصيب أهل المناهج الثلاثة في مسائل ولكن طريقهم محكوم عليه بالانحراف ما لم يعتصم أهله بالوحي، فالذين يتركون الوحي والاعتصام به ويقدمون العقل أو الكشف أو شخصًا معصومًا يزعمونه ضلالهم وانحرافهم لازم لهم لا محالة؛ لأنهم يخوضون في أبواب لا يمكن معرفتها إلا بالوحي. ويقابل هؤلاء من جعل الحل هو في إبعاد الوحي بحجة أن أهل الأقيسة العقلية أو الأذواق الكشفية أو متبعي الأشخاص المدعين للعصمة يأتون بما لا يمكن التأكد من صحته. فهدى الله أهل السنة ليكونوا وسطًا في هذا الباب، فيقبلون الحق من المصادر، ويجعلون كل مصدر لما يناسبه من الأبواب. 2 - ينطبق على موقف الاتجاه التغريبي التوفيقي حكمهم على غيرهم؛ فإن مذاهبهم الفلسفية التي سلكوها واتبعوا بما أعلنته من ثنائية "العقل والوجدان" هي أول من ينطبق عليها حكمهم، فكما سبق مع الصنف الأول: يبقى المذهب الفلسفي مذهبًا ذاتيًا لا يخضع للتحقق العلمي، ومن ذلك قسمتهم الثنائية التي لا يمكن التحقق العلمي منها بموازينهم أنفسهم، حيث تبقى قسمة فلسفية وليست قسمة علمية، ولذا فموطنها الوجدان.

3 - لم يُبعد الوحي في الفكر الغربي إلا بسبب ظهور الإلحاد والعلمنة أو بسبب مشكلة الوحي الذي يعرفونه، ويختلف العالم الإِسلامي، فهو لا يعرف الإلحاد ولا يوجد أي مبرر للشك في الوحي، فقد آمنوا بنبوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، كما ثبت عندهم الوحي، وثبت عندهم حفظه من قبل رب العالمين وهو خير الحافظين قال -تعالى-: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، قال الشيخ السعدي -رحمه الله-: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}؛ أي: في حال إنزاله وبعد إنزاله، ففي حال إنزاله حافظون له من استراق كل شيطان رجيم، وبعد إنزاله أودعه الله في قلب رسوله، واستودعه فيه ثم في قلوب أمته، وحفظ الله ألفاظه من التغيير فيها والزيادة والنقص، ومعانيه من التبديل، فلا يحرف محرف معنى من معانيه، إلا وقيض الله له من يبين الحق المبين، وهذا من أعظم آيات الله ونعمه على عباده المؤمنين، ومن حفظه أن الله يحفظ أهله من أعدائهم، ولا يسلط عليهم عدوًا يجتاحهم" (¬1)، وقال -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} [فصلت: 41 - 42]، قال ابن كثير -رحمه الله-: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ}؛ أي: ليس للبطلان إليه سبيل؛ لأنه منزل من رب العالمين، ولهذا قال: {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}؛ أي: حكيم في أقواله وأفعاله، حميد بمعنى محمود، أي: في جميع ما يأمر به وينهى عنه الجميع محمودة عواقبه وغاياته" (¬2)، وقال الشيخ السعدي -رحمه الله-: ""و" الحال {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ} جامع لأوصاف الكمال {عَزِيزٌ} أي: منيع من كل من أراده بتحريف أو سوء، ولهذا قال: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ}؛ أي: لا يقربه شيطان من شياطين الإنس والجن، لا بسرقة، ولا بإدخال ما ليس منه به، ولا بزيادة ولا نقص، فهو محفوظ في تنزيله، محفوظة ألفاظه ومعانيه، قد تكفل من أنزله بحفظه كما قال -تعالى-: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} " (¬3). وقد نُقل بالتواتر إلى كل جيل عمن سبقه، لهذا فعند أهل الإِسلام مصدر ¬

_ (¬1) تفسير السعدي ص 429. (¬2) تفسير ابن كثير ص 1176. (¬3) تفسير السعدي ص 750.

لا يأتيه الباطل ولا يقع فيه التغير، فيكون مصدر معارفهم الدينية، ويثقون فيه أكثر من ثقتهم بأنفسهم. بخلاف من اضطرب عندهم "الوحي" بعد أن تأكد لهم التحريف في نصوصه، وفقدوا إمكانية إيجاد سند متصل إلى قائله، فيصبح مصدرًا للقلق والشك، وقد وجدها أهل الإلحاد في الفكر الأوروبي الحديث فرصة لإقصاء "الوحي" تمامًا من ميدان الحقائق، إما بإنكارها صراحة كما هو حال الملحدين أو بجعلها في قسم الوجدان من قبل طائفة منهم. 4 - ومن باب التنزّل مع المخالف، فإن الناقد يعرف أن مكونات الوجدان لا تعتبر عند أصحابها مصدرًا للحقيقة، فلا الأديب ولا الفنان ومن في حكمهما يقول: إن محتوى مادته مصدرٌ للحقيقة، وإنما هي تعبير عن المشاعر، فكيف يوضع الدين ضمن هذه الدائرة! صحيح أن هناك عناصر أساسية في الدين لا تدخل ميدان التحقق التجريبي والحسي، فهي من عالم الغيب (¬1)، ولكنها في الوقت نفسه لا تدخل في دائرة الوجدان، فهي ليست تعبيرًا عن المشاعر، وإنما هي أخبار يُصدق بها أو شرائع يعمل بها، وإذا كان الأمر كذلك فلابد من طريق ثالث، فلسنا عبيدًا لتقسيمات اصطنعتها مذاهب فلسفية تحصرنا بداخلها وتضطرنا لإضاعة ما جاءنا من ربنا. فليكن مصدر العلوم البشرية الاستنباط العقلي والتجريب الواقعي، وليكن حظ الوجدان في الآداب والفنون والأمور الممتعة، ولكن الدين لا مصدر له إلا الوحي، وكمال الحياة البشرية ليس بالعلم وحده ولا بالمتع الوجدانية وحدها وإنما بالدين الحق، والعلم البشري والإبداع البشري سيبقى قاسيًا على حياة البشر ما لم يستضئ بنور الوحي. 5 - توصلنا الفقرة السابقة إلى مفهوم الدليل الشرعي عند أهل السنة: فقد كان كثير من أهل الكلام يرون أن الدليل الشرعي مقتصر على ما أفاده الخبر، فيكون التصديق بالموضوعات والأصول الدينية متوقفًا فقط على التصديق بالخبر، ورأوا أن الكتاب والسنة ليس فيهما أدلة عقلية، وإنما أخبار محضة عن مغيبات يجب التصديق بها، وغفلوا عن أن الأدلة القرآنية التي جادلت المشركين وأهل الكتاب كانت تجادل من لا يقرون بالنبوة ولا يقرون بالوحي، فكانت ¬

_ (¬1) انظر: الفصل الأول من الباب الثاني من هذا المبحث.

مجادلتهم بأدلة عقلية دلّ عليها الشرع، وقد عرض شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله- هذه المسألة المهمة في كتبه، وهذا تلخيصها: "الدليل الشرعي قد يكون سمعيًا وقد يكون عقليًا. فالدليل الشرعي يراد به أمران: 1 - أن الشرع أثبته ودل عليه. 2 - ويراد به أن الشرع أباحه وأذن فيه. والآن بيان المراد من النوعين السابقين: 1 - الدليل الشرعي الذي أثبته الشرع ودل عليه، له صورتان: الأولى: أن يكون معلومًا بالعقل أيضًا، ولكن الشرع نبه عليه ودل عليه، فيكون "شرعيًا عقليًا"، ومثاله: الأدلة التي نبّه الله تعالى عليها في كتابه العزيز، من الأمثال المضروبة وغيرها الدالة على توحيده وصدق رسله، وإثبات صفاته وعلى المعاد، فتلك كلها أدلة عقلية يعلم صحتها بالعقل، وهي براهين ومقاييس عقلية، وهي مع ذلك شرعية. الثانية: أن يكون الدليل الشرعي لا يعلم إلا بمجرد خبر الصادق، فإنه إذا أخبر بما لا يعلم إلا بخبره كان ذلك "شرعيًا سمعيًا". وكثير من أهل الكلام قديمًا -ومثل ذلك طوائف من المفكرين حديثًا- يظنون أن الأدلة الشرعية منحصرة في خبر الصادق فقط، وأن الكتاب والسنة لا يدلان إلا من هذا الوجه. ولهذا يجعلون أصول الدين نوعين: "العقليات والسمعيات" ويجعلون القسم الأول مما لا يُعلم بالكتاب والسنة. وهذا غلط منهم، بل القرآن دلّ على الأدلة العقلية وبينها ونبّه عليها، وإن كان من الأدلة العقلية ما يُعلم بالعيان ولوازمه، كما قال -تعالى-: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)} [فصلت: 53]. 2 - الدليل الشرعي الذي أباحه الشرع وأذن فيه: يدخل في ذلك ما أخبر به الصادق، وما دلّ عليه ونبه عليه القرآن، وما دلت عليه وشهدت به الموجودات" (¬1)، ثم أعقب هذا الكلام بقوله: ¬

_ (¬1) درء تعارض العقل والنقل، ابن تيمية 1/ 198 - 199 والترتيب من الباحث.

3 - القول بجعل النظريات العلمية في مقام النص الشرعي وتقديمها عليه

"وأما الدليل الذي يكون عقليًا أو سمعيًا من غير أن يكون شرعيًا: فقد يكون راجحًا تارة ومرجوحًا أخرى. كما أنه قد يكون دليلًا صحيحًا تارة، ويكون شبهة فاسدة أخرى. فما جاءت به الرسل عن الله تعالى إخبارًا أو أمرًا لا يجوز أن يعارض بشيء من الأشياء، أما ما يقوله الناس فقد يعارض بنظيره، إذ قد يكون حقًا تارة وباطلًا أخرى، وهذا مما لا ريب فيه، لكن من الناس من يدخل في الأدلة الشرعية ما ليس منها، كما أن منهم من يُخرج منها ما هو داخل فيها، والكلام هنا على جنس الأدلة، لا على أعيانها" (¬1). ونواصل الانتفاع بهذا النص المهم لابن تيمية -رحمه الله- من جهة الكلام عن جنس الأدلة، فالموصل للحق منها هو الوحي، وهو الدليل الشرعي، ومنه ما هو عقلي، ومنه ما هو سمعي لا يعلم إلا بمجرد خبر الصادق، فإن اعترض معاند وقال: كيف لي التحقق من "السمعي"؟ كان جوابه: إن الدليل الشرعي العقلي الذي جادل المعاندين بالمعقول والمحسوس، وثبت عند أهل العقل الصحيح والحس والسليم أنه الحق من ربهم، فآمنوا بالخبر الذي لا يمكن لعقل أو حس أن يعلمه؛ لأنه من علم الغيب المحض، فهو وإن كان من الغيب المحض إلا أنه قد ثبت بطريق الخبر الصادق. كما أنه يوجد أدلة غير شرعية، سواء كانت عقلية أو حسية أو خبريه، وهذه بحسب أحوالها حتى في الأمور الدينية، فقد تكون صحيحة تارة وقد تكون شبهة فاسدة أخرى، ولهذا كان الحق في أمور الدين الاكتفاء في معرفته بالدليل الشرعي. فيكون الدليل الشرعي (الخبري العقلي) للدين، ويكون الاستنباط للأمور الرياضية، ويكون التجريب والاستقراء للأمور الحسية، وتكون جميع العلوم تنطلق نحو تحقيق الأمر الرباني ولا تتعارض مع التصور الإِسلامي. 3 - القول بجعل النظريات العلمية في مقام النص الشرعي وتقديمها عليه: تمتلئ الكتابات التغريبية التي تدّعي صلتها بمذاهب علمية أنها تعتمد العلمَ وتجعله مصدرها في العلم، فيكفي أنه علم يخضع للتحقق ويستطيع كل الناس التأكد منه. ولا شك أن الناس عندهم ثقة بالعلم، يكفي أن يأتي من يقول: هذه ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق -الدرء-1/ 200.

من العلم حتى تجد الاحترام لقوله والثقة في مقولته، وذلك أن المسلم يحترم العلم، ففي دينه من الحثّ على العلم وتعظيمه ووضع الأجور عليه وتمييز أهله ما يجعل في وعي أغلب المسلمين مثل هذه المنزلة للعلم. وربما لهذا السبب يجدها أهل التغريب أسلوبًا مناسبًا للتضليل؛ لأننا إذا بحثنا عن محتوى ما يزعمون علميته إذا هي نظريات علمية حولها التباس شديد أو اختلاف كبير، ويجعلون هذا النوع مقدمًا على الوحي بحجة انتمائه للعلم، ثم يجعلون مكونات النظرية دليلًا على بطلان المصادر الدينية أو التشكيك فيها. إذا نظرنا إلى الجيل التغريبي الأول نجد العلم عندهم هو في النهاية النظرية الدارونية بعد تعميمها على جميع التصورات والنشاطات، والعلم والعمل، الماضي والحاضر والمستقبل، الدين والدنيا والآخرة، وكل شيء، إذًا فبديل النص الشرعي هو النظرية الدارونية، أصبحت الدارونية هي دينهم وهي مصدرهم في الوقت نفسه، فإذا تجاوزنا مسألة "التبعية"، ومسألة "الصراع"، ووقفنا مع الجانب المعرفي فقط، فإننا نقف مع موقف متهافت لا وزن له، أكتفي بأمرين يوضحان ذلك: الأول: التعميم غير العلمي لنظرية علمية. ظهرت تعميمات فلسفية لنظريات علمية مع التيارات العلمانية الغربية، سواء كانت النظريات ذات مكونات صلبة أو لم تكن، وقع تعميم لنظريه نيوتن وداروين مع الماديين، أو ما حدث في القرن الرابع عشر/ العشرين من تعميم فلسفي للنظرية النسبية لأينشتين أو نظرية فرويد النفسية أو حتى تعميم النظرية اللغوية لسوسير لتصبح نظامًا فلسفيًا يحوي عوالم كثيرة. ثم أصبحت هذه التعميمات مذاهب مشهورة داخل الفكر الغربي، وبدأت عبر نَقَلتها تنتشر في بلاد المسلمين. بينما النظرية العلمية هي جزئية تدل على قضية جزئية مهما اتسع مجال تفسيرها، والانتقال من الجزئي إلى الكلي لاسيّما بتحولها إلى نظام فلسفي لا يعد علمًا، بل فلسفة، والأمور الكلية والمذاهب الفلسفية لا يمكن إلحاقها بالعلم؛ لأن شروط قبولها تختلف عن شروط قبول العلم؛ أي: أن المذهب الداروني لا صلة له بالعلم إلا من خلال التعميم لنظرية علمية، وإذا كانت النظرية ذاتها لم تُقبل بكل مكوناتها، ولم تصح بكل عناصرها فكيف يصح التعميم الفلسفي بالاعتماد عليها؟ فضلًا عن أن أي تعميم فلسفي إنما هو تأمل ذاتي، لا يدخل كما سبق تحت شروط التحقق العلمي.

والنتيجة: أنهم يدّعون تقديم العلم، بينما ما يقدمونه هو مذهب فلسفي أو اجتهاد فكري شخصي "الدارونية مثلًا التي دعا إليها العرب المتغربون هي تعميمات "بوخنر" أو "سبنسر"". فيكون حالهم دائرًا بين أمرين: إما الجهل أو التجاهل، وهما أمران واردان ملتصقان بتيار التغريب، فالمقلد جاهل يحاول التعلم ولكنه كان فريسة علم لا ينفع، والمتجاهل هدفه إخفاء نواياه عن طريق تلبيس المذاهب الفلسفية لباس العلم. الثاني: تقديم الظني في أحسن أحواله على اليقيني. يعيش الغرب في تنبيه ويركض لاهثًا يبحث عن مصدر منذ أن فقد الوحي، لم يعد يثق في الدين ومصدريته ومع ذلك لم يجد المصدر الذي يجد فيه كل ما يحتاجه ولاسيّما في عالم الغيب والروح، فبقي بسبب علمانيته ووضعيته أسير مصادر لا تتحمل ما حُمّلت من أثقال؛ لأن لها حدودها. ومع ذلك فقد نجد ما يفسر اكتفاءهم بمصادرهم وتقديمها على الدين، مع أنهم غير متفقين على جعل العلم المصدر الوحيد. ولكن هل يصح من الجاهل بالشيء، أو الذي لا يمكنه التحقق من دعواها، أن يعلن وضع النظريات العلمية في مقام النصوص الشرعية؟ دعوى تقديم تلك النظريات العلمية على النصوص الشرعية فضلًا عن القول بالاستبدال دعوى لا تصح أخلاقيًا أو عقليًا -وهذا من باب التنزل في المجادلة-، كيف؟ لقد ركّز أهل التغريب على النظريات التي هي موطن خلاف حتى داخل الإطار العلمي، وأهملوا الحقائق العلمية والموضوعات العلمية النافعة البيّن نفعها، وهو يكشف أن في الأمر ما وراءه، فهذا يكشف الجانب الأيديولوجي والأخلاقي، ومع ذلك نكتفي بالبعد المعرفي في الموضوع، فيقال بأن هذه الدعوى لا تصح على سبيل التقليد فقط، فلابد أن يتمكن المسلمون -عبر فريق منهم ممن يوثق به- من أساليب التحقق من النظرية، فالنظرية هي في النهاية نتيجة ملاحظة وتجارب وحسابات وافتراضات، وكلها تحتاج إلى امتلاك أدواتها. فإذا أخذنا النموذج المقدم باسم العلم عند الجيل التغريبي الأول، وهو النظرية الدارونية نجد أن دعاتها من العرب لا يملكون أي أداة تؤهلهم للتحقق سوى ثقتهم في المتبَعين، ونضرب على ذلك أمثلة:

هل عند هؤلاء الحد الكافي من علم الأحافير؟ هل عند هؤلاء الحد الكافي من علم الأرض؟ هل عندهم الحد الكافي من علم الأحياء؟ هل عندهم الحد الكافي من الاستيعاب النقدي للنظريات الاقتصادية والاجتماع والتاريخية؟ هل عندهم الحد الكافي من علم الوراثة؟ هل عندهم منهجية قوية بأدواتها المعرفية والفكرية للتحقق من النظريات؟ هل عندهم أخيرًا الأجهزة الدقيقة التي تساعدنا في إجراء التجارب المرتبطة بالأحافير وأعمارها أو الأرض وطبقاتها ومكوناتها أو الأحياء وأعضائهم وغير ذلك؟ (¬1). والنظرية الدارونية ترجع في جزئياتها إلى كل هذه الأبعاد، إما من جهة البناء أو من جهة التحقق، ويبقى حال من لا يملك كل هذه الأمور -أو المهم منها- وكان مقتنعًا بإمكانياتهم في البحث العلمي، فيقبل ما يمكنه قبوله منها في حدود النافع له منها، دون أن تتجاوز حدودها من كونها نظرية علمية ضمن علم الحياة. أما أن تُرفع إلى مصاف النصوص الشرعية بحيث نبدأ في التفكير: هل هي توافق النصوص أم تخالفها -فضلًا عن القول بتقديمها أو بالاستبدال- فهذا لا يقوله إلا من في قلبه مرض. والاتجاه الإِسلامي كما أسلفنا مرارًا يُقرّ بمصدرية العلم فيما يناسبه، والجانب الحسي منه هو في الأساس من خلق الله سبحانه، والنصوص الشرعية هي من كلامه سبحانه، ذاك من آياته الكونية وهذه آياته الشرعية، وآيات الله الكونية والشرعية هي من مصادر المعرفة، فكلٌ من عند الله، وإذا كان الكل من ¬

_ (¬1) ذكر د. زغلول النجار استدلالهم بثمانية علوم، انظر: الإِسلام والعلم التجريبي، د. يوسف السويدي ص 42، وقد استعرض الدكتور محفوظ عزام سبعة علوم استنبط منها نظرية التطور في كتابه نظرية التطور. . . . ص 179، وذكر علي الشحات أكثر من ذلك، انظر كتابه: نظرية التطور بين العلم والدين ص 51 وما بعدها، حيث ذكر تسعة، وهناك من ركّز على أهمها مثل محمَّد كولن في كتابه: حقيقة الخلق ونظرية التطور مع دراسة نقدية لها ص 30 وما بعدها، والمقصود أن أصحاب النظرية لهم استدلالات كثيرة.

عند الله فلا يصح قول الاستبدال أو التقديم، فالمقدم مطلقًا هو الوحي، فبه نعرف آيات الله الكونية من الحق العقلي أو الحسي، من الاستنباط أو الاستقراء. والنتيجة: كيف يصح بعد هذا أن يقال بجعل العلم هو المصدر الوحيد للمعرفة وبالقول بتقديمه على النصوص الشرعية، وعلى الوحي؟ والقول هذا فقط من باب التنزل مع الخصم حتى يفهم كل مطلع أن حقيقة أمرهم هو الدعاوى.

المبحث الثاني التأثر المنهجي في منهج الاستدلال

المبحث الثاني التأثر المنهجي في منهج الاستدلال تُعد طرائق الاستدلال من الأمور المهمة للوصول إلى الحقيقة أو فهمها، أو لمعالجة مشكلة، أو لإبداع أمر جديد. وقد أُبدع في العلم الطبيعي والاجتماعي مناهج مهمة، تُعد فاتحة النشاط العلمي في أي باب من أبواب العلم، وكما أن دارس الدين الإِسلامي يحتاج لمناهجه من أصول التفسير وأصول الحديث وعلم الجرح والتعديل والإسناد وأصول الفقه وغيرها من المنهجيات الإِسلامية، فكذلك العلوم الطبيعية والرياضية والاجتماعية لها مناهجها، وقد تأسست بصورتها الحديثة في إطار الحضارة الغربية العلمانية مما جعلها تكتسب الكثير من أثر تلك البيئة، ومن ذلك ما يتعلق بطريقة الاستدلال. فإذا كانت المنهجية العلمانية الحديثة قد استبعدت الوحي كمصدر للمعرفة، فإنها أيضًا قد شكّلت منهجياتها الخاصة في الاستدلال، ورغم وجود الجيد فيها إلا أنه قد اخترق بالفلسفة العلمانية لتتحول إلى منهجيات خطرة إن لم يُحسن التعامل معها. لقد انصرف الفكر العلماني عن الوحي ووضع مصادره الخاصة في المعرفة، ثم قام بعد ذلك بتكوين منهجية للاستدلال ترجع في الغالب إلى المنهج

التجريبي القائم على التجريب بطرقه وشروطه، أو إلى المنهج الرياضي القائم على الاستنباط بطرقه وشروطه، وبسبب نجاح المنهجين في الطبيعة والرياضة فقد سلك أصحاب العلوم الاجتماعية مسالك منهجية تحاكي التجريبي والرياضي لعلها تحقق نجاحه. لقد كان من بين معالم هذه الطريقة المنهجية التجرد للحسية، ومن ثم الابتعاد عن أي باب غيبي، ومن ثم إهمال الغيب أو التكذيب به لعدم الإحساس به. ومن المعالم تعظيم السببية والحتمية والآلية الذاتية والعلية لدرجة إلغاء أي نظر لرب مباين عن العالم الطبيعي يقوم بالخلق والتدبير والتسخير والفعل والتغيير، فما هناك إلا هذا العالم المحسوس، وهو محكوم بسببية وآلية وحتمية ثابتة لا مكان للبحث خارجها عن مدبر لها أو التفكير بإمكانية أي خرق لها ولو من خالقها. كما أنها بالبحث عن السبب وإهمال الغايات تحولت لمنهجية دنيوية حسية لا تُلقي بالًا لأبواب مهمة من حياة الإنسان اهتم بها الدين. وهي تعتني بالظاهر وتبتعد عما بطن، وبهذا أهملت الجانب الداخلي للإنسان في أثناء النشاط العلمي، ورمت به لساحة الوجدان، وجعلته للفنون والآداب. وغيرها من المعالم الخطيرة التي صبغت المنهجية الحديثة، فهي في أبواب ناجحة ولكنه نجاح لم يكتمل بسبب الغلو في باب على حساب أبواب، مما جعلها في حاجة للتكميل أو التصحيح حتى تتفق مع الشرع وتلبي بتكامل حاجة الإنسان. ويأتي الانحراف التغريبي كما العلماني في هذا الباب ولاسيّما في العلاقة بالجانب الديني بصورتين: 1 - أن تُنقل تلك المناهج من مجالها المناسب إلى مجال لا يناسبها. 2 - أو جعل المعرفة محصورة فيما بين أيديهم ومن ثم مُصادرة كل ما لا تنطبق عليه. وإذا بحثنا عن أفضل الأمثلة التغريبية التي تدل بصراحة على الموضوع وتحوي في الوقت نفسه كل ما سواها، نجد مثالين: التيار الماركسي للقسم الأول، والتيار الوضعي للقسم الثاني. فالماركسية تدّعي أنها مذهبٌ علميٌ، معتمدة في ذلك على شخصيات علمية ذات نزعة مادية، بينما الوضعية ترى أن العلمي فقط هو الجانب المحسوس، ونكتفي به، دون تعميم على الدين والفن والأدب، التي لا تخضع لمناهج العلم. التيار الأول يرى الحقيقة منحصرة في

مذهبه المزعوم بعلميته التي تشمل كل ميادين الحياة، بينما الثاني يراها في العلوم فقط ولا يمكن الوصول إليها بغير العلم، وغيرها ليس علمًا. وغالب التيارات الأخرى تجدها إما تأخذ بالطريقة الماركسية -كليًا أو جزئيًا- أو تأخذ بالطريقة الوضعية. ولا يعني هذا أن المناهج العلمية لو تُركت في بابها أنها سليمة من المشكلات، فالحقيقة أنه بعد نجاح العلمنة في اختراق العقل الغربي الحديث ما بقي شيء من المناهج سالمًا، ولذا فإن المناهج الناجحة في ميدانها لا يعني ذلك سلامتها من المشكلات، نوع من هذه المشكلات يتعلق بنقصها، وهذا تتكفل به عقول العلماء لتطويره، ونوع يتعلق بما هو أعلى من ذلك وأخطر؛ أي: المشكلات الأيديولوجية التي تلبّس بها المنهج العلمي الحديث، وذلك بسبب نشأته في بيئة علمانية، فانبنى على أصول وارتبط بغايات تتعارض تعارضًا بينًا مع الدين، وهذا يدل على وجود مشكلات أعمق تواجه الفكر الإِسلامي أمام هذه المناهج الناجحة، فهي رغم ما تظهر به من تقنية عالية، إلا أنها تحوي مخاطر ولاسيّما إذا كان للباب الذي تتعامل معه صلة بالدين، ولذا فينبغي إعادة تقويم تجربة التعامل مع المناهج العلمية بما فيها تلك التي تظهر بوجه حيادي، وهذه شهادة لأحد المبرزين في فلسفة العلم المعاصرة المفكر طه عبد الرحمن فيقول: "لئن سلمنا بأن المتخلق بأخلاق الدين الإِسلامي يلزمه أن يطلب الاتصاف بالعقل والعلم، فلا نسلّم بأنه يلزمه، في تحصيل هذا الاتصاف، الاندفاع في الأخذ بكل مناهج العقل ونتائج العلم التي جاء بها النمط المعرفي الحديث، ذلك أن هذه المناهج والنتائج أُشبعت، من حيث يدري المتخلق أو لا يدري، بمذهب واضعيها في العقل والعلم، ومن هنا، فلسنا نعترض على هذه المناهج والنتائج لمجرد نسبتها إلى هؤلاء الواضعين من حيث إنهم مسلمون أو غير متدينين، فذاك أمر لا يقول به عاقل؛ وإنما لأن مذهبهم فيها يقوم على مبادئ لا يمكن للمتخلّق بأخلاق الدين أن يقبلها أو يدعو إلى قبولها" (¬1)، وذلك أن النظام "العلمي - التقني الحديث" قد انبنى على تصور خاص للعقل معتمدًا على مكانة خاصة للتجريب والترويض فيه، "حتى طار في الناس أنه لا عقلانية إلا بتحصيل ¬

_ (¬1) سؤال الأخلاق، طه عبد الرحمن ص 91 - 92.

مشكلة الموضوعية

الوصفين التاليين: "التجريب" و"الترويض"" (¬1)، "ولمّا أصبحت المعرفة العلمية قائمة على التجريب والترويض، لم يعد يَعنيها من الموضوعات التي تنظر فيها أمر كثافتها الوجودية، وإنما مجرد لطافتها "الإجرائية"، بحيث يكون نصيب كل موضوع من "العلمية" على قدر ما يقبل من أساليب الإجراء. . . ." (¬2)، وقد تولّد عن هذه المنهجية الجديدة بأبعادها العلمانية آثار خطيرة ينبغي الحذر منها، وكما يقول عبد الرحمن: "ينبغي التوسل في تشييد البناءات النظرية بمقولات وبنيات متولدة من التحقق بالعمل ومستمدة من الاشتغال الشرعي؛ فقد ساد التصور الأجنبي للعلم بيننا، حتى أصبحنا لا ندرك من إمكاناته إلا ما توصل أهل الغرب إلى تحقيقه، ولا نتصور من آفاقه إلا ما خطوه، وصرنا نعتقد أن العلم واحد لا تعدد في طرائقه، وأنه ضروري لا جواز في مراحله، وأنه مطلق لا نسبية في نتائجه، وليس هذا كله إلا توهمًا محضًا؛ فالعلم في حقيقته أبواب عدة ومسالك شتى، وما انفتح للغرب من أبوابه وانتهجه من مسائله ليس إلا غيض من فيض؛ وإذا كان قد اختار أن يجرد علمه من قيود العمل وحدود الشرع، وأن يطلق على هذا التجريد أسماء تُوهِم بمشروعية هذا الاختيار مثل "الموضوعية" و"السببية" و"الآلية" و"الإجرائية" و"العلمية" وما أشبه ذلك، فليس هذا السلوك إلا إمكانًا واحدًا تضاهيه إمكانات أخرى كثيرة، على رأسها إمكان اختيار علم يتقيد بالعمل ويتحدد بالشرع" (¬3). مشكلة الموضوعية: نجد من بين أبرز ما يُرَكز عليه في المنهج الحديث مفهوم "الموضوعية"، نجدها في مقدمات كتب المناهج والمنطق وفلسفة العلم، وفي مقدمات كتب العلوم العصرية، وقد أصبح المصطلح سائدًا حتى عند الناس العاديين البعيدين عن مجال النشاط الفكري والبحوث العلمية. ولكن الناظر لمدلولاته داخل ميادين الفلسفة والمناهج والعلوم يجده أعقد مما يتصوره الإنسان العادي، وبقدر ضرورته ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق ص 113. (¬2) المرجع السابق ص 114. (¬3) سؤال الأخلاق ص 191، وانظر حول هذا المعنى أيضًا: نسق إسلامي لمناهج البحث العلمي، د. أحمد باشا ص 69 وما بعدها، ضمن كتاب قضايا المنهجية في العلوم الإِسلامية والاجتماعية من إصدار المعهد العالمي للفكر الإِسلامي.

في جانبه الإيجابي لأي نشاط علمي يحرص على معرفة صحيحة بقدر ما هو قابل للتوظيف السلبي ضد الدين والقيم والأخلاق والمبادئ، فأصبح المصطلح موطن انحراف، كما هو أداة بناء كأي مصطلح ينبت في بيئة علمانية معادية للدين. لقد أصبحت الموضوعية رديفة للعلمية، وكأن الموضوعي هو العلمي، وتعرف الموضوعية بأنها: "سمة ما هو موضوعي -أو بحسب صليبا: وصف لما هو موضوعي- كائنًا ما كان معنى هذه الكلمة. وهي (¬1) بنحو خاص: موقف، استعداد فكري لدى ذلك الذي "يرى الأشياء كما هي" الذي لا يشوّهها لا بضيق فكري ولا بتمذهب أو تحزب -أو بحسب صليبا: وهي بوجه خاص مسلك الذهن الذي يرى الأشياء على ما هي عليه، فلا يشوهها بنظرة ضيقة، أو بتحيز خاص" (¬2). ويحيلنا التعريف إلى المشكلة الحقيقية للمصطلح، وهي أن الموضوعية إنما هي وصفة "لما هو موضوعي"، ولكن هذا الموضوعي تختلف فيه الفلسفات العامة وفلسفات العلم، فلا تحيلنا الموضوعية على شيء واحد، كما أنها لا تحيل على أمور متقاربة، بل هي تحيل إلى تصورات كثيرة في الفكر الحديث، وهي تصورات يصل اختلافها أحيانًا لدرجة التضاد. وقد كان هناك نوع من الاتفاق على الأقل في العلوم الرياضية والطبيعية، وكانت الحقائق الطبيعية تُعدّ حقائق موضوعية لا يمكن الاختلاف حولها، ويصعب قبول مذاهب مثالية فيها أو رؤى ذاتية حولها، ولكن مع ظهور نظرية النسبية ونظرية الكم اهتز مفهوم الموضوعية حتى في العلوم الطبيعية الدقيقة، ولا تعني الإحالة إلى النسبية إلغاء الحقائق الموضوعية في جوانب الطبيعة بقدر ما هو يعيد الاعتبار للمذاهب المنافسة لدعاة الموضوعية من أصحاب التيارات المثالية والذاتية (¬3)، كما أنها تُخفف من تعصب مزاعم دعاة الموضوعية المؤدلجة، فإن من أهم رسائل ¬

_ (¬1) غير موجودة في التعريف مضافة من الباحث. (¬2) موسوعة لالاند الفلسفية 2/ 896 تعريب: خليل أحمد، مع ترجمة للتعريف في المعجم الفلسفي، د. جميل صليبا 2/ 450 ورغم أنهما يترجمان نصًا واحدًا، إلا أن هناك بعض الاختلاف، ربما يزول ويزداد الفهم للتعريف بجمعهما، وانظر: صورتها في العلوم الاجتماعية وصورتها في العلوم الطبيعية، الموسوعة الفلسفية العربية 2/ 1308. (¬3) انظر مثلًا: فلسفة العلم في فيزياء أينشتين. بحث في منطق التفكير العلمي، د. عادل عوض ص 307 وما بعدها.

النظريات الحديثة في الفيزياء بأن الحقائق المادية ليست من السهولة بحيث يمكن إدراكها دون تدخل العقل في تشكيلها ومن ثم اشتراكه في رسم معالم الحقيقة (¬1)، إنه اشتراك حتمي بين الذاتي والموضوعي، وهو المنعطف الكبير الذي حدث للموضوعية وما زال. إذًا فلا يوجد "موضوعي" واحد؛ لأن هناك لكل مذهب تصوره عن "الموضوعي"، كما أن وجود "موضوعي" خارجي أصبح أكثر صعوبة حتى في العلوم الطبيعية. فإذا كان هذا هو حاصل الموقف الفلسفي حول الموضوعية، فإن ذلك يفتح إشكالًا آخر حول قدرة الذهن لوحده على "رؤية الأشياء كما هي"، فإنه على مستوى التنظير الفلسفي يعد ذلك من أعقد الأمور (¬2)، فإنه رغم جمال الشروط في ظاهرها من عدم إغلاق الفكر أو عدم التأثر بمذهب أو تحيز في رؤية الحقيقة إلا أنه لم يعد ممكنًا بالسهولة التي يُبديها التعريف. تبرز في محتويات "الموضوعية" قضايا سليمة هي مطلب لكل باحث عن الحقيقة، ولذا فهي من صلب المنهج الإِسلامي، فالبحث عن الحق وقوله ولو كان على النفس، ولو جاء من أبغض الأعداء هو من مكونات المنهج الإِسلامي في الأمور المعنوية فكيف به في الأمور المادية والعلمية، بل حتى في أمور العقيدة، فلو جاء الحق من غير المسلم قبله المسلم، فعن قتيلة -امرأة من جهينة- "أن يهوديًا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنكم تندّدون -قال السندي في حاشيته على النسائيُّ: أي: تتخذون أندادًا- وإنكم تشركون تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون والكعبة، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، ويقولون: ما شاء الله ثم شئت" (¬3)، قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن -رحمه الله- حول هذا الحديث: "وفيه: قبول الحق ممن جاء به كائنًا من كان" (¬4)، وقال ¬

_ (¬1) انظر: الموسوعة الفلسفية العربية 2/ 1309 - 1310. (¬2) من بين الدراسات العربية الموسعة حول الموضوع ما قام به الدكتور "صلاح قنصوه" في كتابه: (الموضوعية في العلوم الإنسانية - عرض نقدي لمناهج البحث). (¬3) النسائي باب الحلف بالكعبة من كتاب الأيمان والنذور، وهو في صحيح سنن النسائي للألباني برقم (3533) 2/ 799، وقال عنه صحيح، وصححه في: السلسلة الصحيحة برقم (136). (¬4) فتح المجيد. . . .، عبد الرحمن آل الشيخ ص 608.

الشيخ صالح آل الشيخ حول الحديث وحديث آخر في الموضوع نفسه: "مما يستفاد منه أن صاحب الهوى قد يفهم الصواب، فإذا فهم الصواب، فإن الواجب أن يقبل منه؛ لأن المسلم يجب عليه أن يقبل الحق ممن جاء به، ولو كان يهوديًا أو نصرانيًا، فهذا اليهودي والنصراني توجها إلى المؤمنين بالقدح فيهم بالشرك، ولم يمنع النبي - صلى الله عليه وسلم - من قبول الحق الذي قالوه أنهم يهود، بل قبل ما جاء به ذلك اليهودي فأوصاهم أن يتركوا ذلك التنديد؛ لأن الحق هو ضالة المؤمن أين وجده أخذه، فلا يمنعه من قبول الحق أن قاله مشرك، أو قاله كافر، أو قاله فاسق، أو قاله مبتدع، أو قاله ضال، إذا كان الكلام في نفسه حقًا؛ لأنه كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: "الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها". . . . ولابن ماجه عن الطفيل -أخي عائشة لأمها- قال: "رأيت: كأني أتيت على نفر من اليهود قلت: إنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: عزير ابن الله، قالوا: وإنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمَّد": هذا فيه أن صاحب الهوى أو صاحب الملة الباطلة قد يرد على صاحب الحق بأن عنده باطلًا كما أن عند ذاك باطلًا، فإذا واجهه بذلك فالواجب عليه أن يتجرد للحق وأن لا يرد الحق لأجل أن من أتى به صاحب باطل، فالقاعدة عند أهل السنة والإيمان أن البدعة لا ترد ببدعة والباطل لا يرد بباطل. . . . بل إذا ووجهت بحق، ولو كان من أضل الضلال فاقبل، فإبليس -الشيطان- قبل منه بعض الحق الذي جاء به، وأرشد إليه أبا هريرة، وهؤلاء اليهود والنصارى في هذين الحديثين قبلنا منهما حقًا أرشدونا إليه في أعظم المسائل وأجل المطالب، وهو توحيد الله -عز وجل- (¬1)، فإذا كان المسلم يقبل الحق حتى في هذه الأبواب ومن أبغض الخصوم فكيف بما هو أقل منها؟! كما أن الإِسلام له موقف شديد في الدعوة لتخليص القلب والعقل من ¬

_ (¬1) التمهيد لشرح كتاب التوحيد، صالح آل الشيخ ص 464 - 465، وحديث "الحكمة" عند الترمذي برقم (2687)، كتاب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، وقال فيه: هذا حديث غريب، وابن ماجه برقم (4169)، وضعفه الألباني في ضعيف سنن الترمذي ص 320، وحديث "الطفيل" عند ابن ماجه برقم (2118)، كتاب الكفارات، باب النهي أن يقال: ما شاء الله وشئت، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه برقم (1721) وفي السلسلة الصحيحة برقم (137).

الهوى، الحق هو المهم وهو المطلوب، وطلب الحق والبعد عن الهوى يتحقق بطلب العلم وطلب الإيمان (¬1)، قال -تعالى-: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} [الإسراء: 36]، وقال -تعالى-: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28)} [النجم: 28]، وقال -تعالى-: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)} [المائدة: 77]، وقال -تعالى-: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)} [الأنعام: 148]، وقال -تعالى-: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)} [الروم: 29]، وقال -تعالى-: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} [الأنعام: 119]، وغيرها كثير في طلب الحق وعدم الميل إلى الهوى، وهي وإن كانت في حال المكذبين بالدين والمنحرفين فيه، إلا أنها تصبح منهجًا للمسلم، فيبتعد عن الظن والهوى، ويحرص على الحق في كل شيء، وعلى الصدق وعدم القول دون علم. ولا يشكل هذا نقطة خلاف بين المنهج الإِسلامي وبين المناهج الأخرى التي تصور الموضوعية بهذه الصورة، ولكن يتعجب أصحاب المنهج الإِسلامي من حال المتغربين وأمثالهم من تجاهلهم لدور الإِسلام في تأسيس هذا البعد في صميم المنهج العلمي، وقد بدأ ذلك مع أعز شيء على نفوس المسلمين "حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -"، فمع محبة المسلمين لحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهي محبة لم تجعلهم يغمضون أعينهم، ويقبلون بأي حديث ينقله الناقلون، بل قام علم الجرح والتعديل بصرامة، وطُبق على أناس لهم محبة ومكانة في نفوس المحدّثين، ومع ذلك لم يُقبل حديثهم أو بعضه لبعض المشكلات حول الراوي، كما أن الأحاديث قد طبق عليها الصرامة نفسها (¬2)، وأُمّة بمثل هذه الصرامة في طلب ¬

_ (¬1) انظر: الإِسلام والعلم التجريبي، د. يوسف السويدي ص 102 - 106. (¬2) انظر مثلًا: مقاييس نقد متون السنة، د. مسفر الدميني، ولاسيّما ص 238 وما بعدها.

الحق وإقامة المنهج والبعد عن الهوى لا يصح تجاهل دورها على البشرية في تخليص المناهج من الهوى والظن والكذب. لا يشكل المفهوم السابق للموضوعية -بمعنى الحرص على الحق والبعد عن الهوى- مشكلة، فالإِسلام موقفه صريح من ذلك، ولكن المشكلة تقع في محتويات أخرى أُقحمت ضمن مصطلح الموضوعية، ويُراد تعميمها في كل منهج علمي، وقد التصقت بحركة العلم الحديثة وذهبت معها في أي مكان تبناها، وقد تبنى الاتجاه التغريبي تلك المضامين بقوة، وقد يكون فيهم الغافل عن خطئها، إلا أن هناك المتعمد في التركيز عليها لهدف واضح عنده. ويبرز من المحتويات السلبية لمصطلح الموضوعية أمران خطيران يحرص عليهما أهل المنهج التغريبي: الأول، نجد تلميحًا عنه في التعريف "لا بتمذهب أو تحزب" فيُدْخَل فيه طلب الباحث أن يتخلى عن معارفه الدينية إن كان متدينًا، وكما يقولون: العلم لا علاقة له بالدين. والثاني، أوسع من ذلك وأخطر، حيث تُرفض المعرفة الدينية، ويصبح وجود شيء منها ضمن المعارف الحديثة متنافيًا مع الموضوعية والعلمية، وبهذا تكون الموضوعية أداة رفض أو إقصاء لكل مضمون ديني في المعارف العلمية، وتتوازى الموضوعية هنا مع دعوى العقلانية أو العلمية، فشرط المعرفة كما يقولون أن تكون عقلانية وعلمية وذلك يعني إقصاء كل ما هو ديني. ولهذا فإني أطلق عليها اسم الموضوعية العلمانية لارتباطها بحضارة علمانية، ومن ثم لا يوجد موضوعية مطلقة، فكل موضوعية هي مرتبطة بوضعها الخاص، فهي تكتسب من البيئة خصائصها. يعود مفهوم الموضوعية العلمانية لقائمة مفاهيم "العقلانية العلمية العلمانية" التي اشتهرت في الغرب، وقد تحدد في المنهج العقلي الذي أرسى منهجه ديكارت. . . . غايات ومقاصد، سعى المنهج العلمي في تحقيقها، ولكن تلك "العقلانية العلمية" لم تحقق النفع في غاياتها (¬1)، فهل حققت النجوع في الوسائل؟ وقد بحثها المفكر طه عبد الرحمن تحت عنوان: "المنهج العقلي العلمي وحدود النجوع في الوسائل" وقال فيه: "من ينظر في وسائل المنهج ¬

_ (¬1) انظر: سؤال الأخلاق، طه عبد الرحمن ص 66.

العقلي العلمي، يجدها، هي الأخرى، متصفة بالصفات الثلاث الآتية: تكلف الموضوعية، والجمود على الظاهر، واتخاذ الوسائط. أ- تكلف الموضوعية: تزعم الممارسة العقلانية العلمية تطهير وسائلها من كل أثر للمعاني والقيم الذاتية بحجة التزام طريق "الموضوعية"، هذا الطريق الذي يوجب، في نظرها، الاقتصار في كل شيء على الرجوع إلى الملاحظة الظاهرة والتجربة الحسية، حتى أصبحت المعاني الدينية والقيم الأخلاقية تُعدُّ عندها بمنزلة عوائق أو عقبات تثبِّط العمل العلمي وتخرجه عن حقيقته وفائدته؛ والصواب أن تحصيل تمام الموضوعية غير ممكن، وكل ما تفعله هذه الممارسة العقلانية هو أنها تستبدل بالمعاني الأخلاقية الدينية معاني وقيمًا أخرى غير دينية وغير أخلاقية بما فيها "الموضوعية" نفسها. ولما كان العلم الحديث مبنيًا على هذا التصور الخاص للمعرفة الموضوعية، فاته تحصيل الوسيلة الناجعة في خدمة حياة الإنسان؛ لأن هذه الوسيلة تقتضي الجمع بين طلب المعرفة العلمية، وبين التزام المعاني والقيم الروحية والأخلاقية" (¬1). اكتسب مصطلح الموضوعية مثل هذه المضامين الخطيرة بعد توسيع مدلوله ليقوم على "غياب لكل عوامل التحيز، وكف لتأثيرها"، وعوامل التحيّز هي كما يقول جيبسون: "ما ينتج عن التأثير المناوئ للاستخدام السليم للشواهد والبينات المتاحة للباحث، وهو تأثير دوافع الشخص وعرفه وقيمه وموقفه الاجتماعي، فأن تكون موضوعيًا معناه ألا تتأثر بدوافعك وعرفك وقيمك وموقفك الاجتماعي" (¬2). ويمكن تصور حجم دور مصطلح الموضوعية بالنظر إلى دلالاته بحسب مستويات مختلفة في دائرة الفكر والعلم، وهي: 1 - دلالتها القيمية: تعد الموضوعية تجردًا من كل حكم من أحكام القيمة. 2 - دلالتها المعرفية: وهي تتجاوز التعريف التقليدي "معرفة الأشياء كما هي" إلى العناية بالصلة بين الذات العارفة والموضوع المعروف، وهنا تبرز المدارس الفلسفية المختلفة. ¬

_ (¬1) المرجع السابق ص 66 - 67، وانظر: أفي الله شك؟، د. حمد المرزوقي ص 78. (¬2) الموضوعية في العلوم الإنسانية. . . .، د. صلاح قنصوه ص 56.

3 - دلالتها النفسية: تعد تمحيصًا لأثر العوامل النفسية في تشكيل المعرفة. 4 - دلالتها الثقافية: التي تشير إلى الاتفاق أو التواضع حول المعايير والتدابير السائدة في المناخ الفكري عند بحث موضوع ما، والسائد هو ما اتفق عليه المجتمع العلمي في ذاك الوقت (¬1). نلحظ وجودًا لشبكة معقدة من المعاني ضمن مصطلح الموضوعية، وهي شبكة قابلة لأن تكون غير موضوعية؛ بسبب ارتباطها بتيارات ذات تحيز لا يمكن التخلص منه، كما أن هذه الشبكة المعقدة قابلة لتسريب الميول السائدة في عصر تشكل هذه المفاهيم إلى صميم المصطلح، وأهمها وأخطرها أن صُناع هذه المفاهيم والقيم قد شكلوها وقتَ صراعهم مع الدين والغيبيات، ووقت غلبة النزعات المادية والمذاهب الإلحادية والمواقف اللا أدرية مما جعل مفهوم الموضوعية يتلطخ بتلك الأبعاد. نجد في أحد كتب المنطق والمنهج ما يأتي: "يسعى العالم قبل كل شيء إلى الموضوعية. فغاية العلم هي تحديد طابع الأشياء لا في علاقتها بنا، بل في علاقتها بعضها مع البعض الآخر. فالروح العلمي يقتضي تنحية كل اعتبار غريب عن الجهد الذي يبذل نحو الموضوعية الخالصة وبخاصة كل اعتبار انفعالي عاطفي، ديني أو أخلاقي، وكذلك التحرر من سلطة العرف. . . ." (¬2)، ومثله قول متخصص -لطفي- في العلوم الاجتماعية: "ليس المقصود بالموضوعية هنا عدم التشويه المتعمد للحقائق فقط، أو العرض المضلل لها بقصد نشر مُثُل أو مبادئ معينة، وإنما نقصد أيضًا تحاشي تأثرنا عن غير عمد أثناء الدراسة، فلا ننقد أو نحكم على المجتمعات الأخرى التي تختلف عن مجتمعنا في الزمان والمكان على أساس القيم والاتجاهات والعقائد السائدة في مجتمعنا. . . . إن المقصود بالموضوعية هو ألا نكون متحيزين في ملاحظاتنا للظواهر الاجتماعية وترددها، وألا نتأثر بأية ناحية تعصبية دينية أو سياسية أو طبقية. . . ." (¬3)، وفي بحثه المهم ¬

_ (¬1) انظر: الموضوعية في العلوم الإنسانية ص 58 - 59، وانظر: فلسفة العلم، كلاهما للدكتور صلاح قنصوه ص 172 وما بعدها. (¬2) أسس المنطق والمنهج العلمي، د. محمَّد الشنيطي ص 164 - 165. (¬3) علم الاجتماع، د. عبد الحميد لطفي ص 290 - 291 نقلًا عن منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية، محمَّد أمزيان ص 329.

يذكر محمَّد أمزيان بأن "المفهوم الشائع .. بين الكتَّاب الاجتماعيين عن الالتزام العلمي هو أن يتجرد الباحث من كل قيمه ومعتقداته وأفكاره وهي الفكرة التي أصّلها دوركايم ورددها من بعده الكتَّاب العرب" (¬1)، وهو بهذا يشير إلى المرجع القريب لهذه الفكرة. ومثل ذلك نجد عند أصحاب علم الاجتماع الديني ومن ذلك ما نجده عند الدكتور رشوان في أكثر من موضع من كتابه: "الدين والمجتمع. ." فيصف هذا العلم بقوله: "وعلم الدين ليس بعلم اللاهوت، بل هو ذلك العلم المستقل عن اللاهوت والذي يستهدف الدراسة الموضوعية للدين. . . ." (¬2)، ويذكر طريقة عناية علماء الاجتماع به بموضوعية: "تعتبر دراسة الدين من الموضوعات التي نالت اهتمامًا كبيرًا من جانب علماء الاجتماع. . . . وعلم الاجتماع يحدد نفسه بالموضوعية. . . ." (¬3)، ويقول حول ذلك أيضًا: "وينظر علم الاجتماع الديني إلى الحقائق الدينية نظرة موضوعية. . . . ويبتعد عن النزعة الشخصية. . . . والأحكام المعيارية. والحق أن هذا يمثل مشكلة للباحث في هذا الميدان. فالدين لدى الناس هو إحساس قلبي، أو ارتباط بمشاعرهم. وقد ارتبطت مشاعرهم بطقوسهم من خلال مشاركتهم فيها. ومع ذلك فإن الباحث في هذا المجال ينبغي عليه أن يتقصى الحقيقة، وأن يتحكم في مشاعره ويجنبها عن موضوع بحثه" (¬4). ويصف الدراسة الحديثة للدين بالموضوعية مما يجعلها في درجة أعلى من دراسات أهل الدين عن دينهم، فيقول: "وهكذا فإن الدراسة الحديثة للدين، قد بدأت خطًّا فاصلًا بين المؤرخين والعلماء من ناحية، وبين رجال اللاهوت والفلاسفة من ناحية أخرى. ويقوم هذا الخط الفاصل على أساس الموضوعية. . . . التي تعتبر أساسية بالنسبة للعلم. وهنا يبدو الفارق بين الدراسات اللاهوتية، وعلم الدين، فالدراسات السابقة التي قام بها رجال اللاهوت تستهدف الهجوم أو تفنيد الأديان الأخرى. أما الدراسات في علم الدين فتقوم على الموضوعية، وعدم التحيز" (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق ص 329. (¬2) الدين والمجتمع. دراسة في علم الاجتماع الديني، د. حسن رشوان ص 62. (¬3) المرجع السابق ص 73. (¬4) المرجع السابق ص 79. (¬5) المرجع السابق ص 64.

ومثل ذلك نجد عند الدكتور محمَّد بيومي، فما من مقطع من كتابه: "علم الاجتماع الديني" إلا وهو يتحدث عن ميزة علم الدين عن غيره من العلوم التي اهتمت بالدين، فعلم الاجتماع الديني ميزته: في بحثه عن الحقيقة وتركيزه على الموضوعية، ولو أدى ذلك إلى الاستخفاف بالوحي وبالرسل وبالدين الحق أو إهمال الاحترام له؛ لأن ذلك يتعارض مع الموضوعية، فيقول: "فعلم الدين هو ذلك العلم المستقل كلية عن اللاهوت، ويهدف إلى الدراسة الموضوعية للدين" (¬1)، وذلك أنه يركز على الحقائق بينما علم اللاهوت يهتم بوضع القواعد، ولذا يهمل الباحث العلمي الوحي كمصدر للمعرفة، بخلاف اللاهوتي الذي يضعه مصدر المعرفة (¬2). وفي حديثه عن مراحل تطوره وصف مرحلة من المراحل بتميز عنايتها بالموضوعية حيث "أصبحت الموضوعية مطلبًا أسمى" (¬3)، "وليس هناك أي حدود على الأسئلة التي قد تثار حول أي دين، اللهم إلا حدود الذاتية. . . ." (¬4)، "وهكذا فإن الدراسة الحديثة للدين قد بدأت خطًا فاصلًا بين المؤرخين والعلماء من ناحية وبين رجال اللاهوت والفلاسفة من ناحية أخرى. هذا الخط الفاصل يقوم على أساس الموضوعية. . . . التي تعتبر أساسية بالنسبة للعلم" (¬5)، ومن بين الأمثلة لمن يفتقد العلمية والموضوعية نجد صاحب الفلسفة الدينية، فلا يجد الباحث فيها "ما يمكن قوله سوى ترديد آراء المصلح أو الترويج والدفاع العقلي عن ما جاء به الأنبياء، وعلى هذا فهو يفتقد حرية اختيار نقطة البدء في بحثه" (¬6)، ومع عدم التسليم بصحة ما يقوله صاحب الفلسفة الدينية إلا أنه أحسن حالًا من جهة تعظيمه للنبوة والدفاع عنها، بخلاف السياق هنا فصاحبه لا يجد الدفاع عما جاء به الأنبياء متوافقًا مع العلمية والموضوعية. ولهذه الشواهد -ومثله كلام أغلب المقلدين للدراسات الغربية- دلالة عجيبة: فكأنه يقول بأن الدراسات عن الدين في الحضارة الإِسلامية، والعلوم ¬

_ (¬1) علم الاجتماع الديني، د. محمَّد بيومي ص 7. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 8. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 13. (¬4) انظر: المرجع السابق ص 17 وما بعدها. (¬5) انظر: المرجع السابق ص 20، وانظر: ص 43. (¬6) المرجع السابق ص 30.

الشرعية عن الدين، غير علمية؛ لأنها غير موضوعية، وأن الدين قد بقي كل هذه القرون غير علمي حتى جاء دوركايم الملحد وأمثاله من اليهود (¬1) ليعلموا الناس دراسة الدين دراسةً علمية، ومثل هؤلاء ينزلقون بسهولة مع دعاوى العلمانيين والملحدين في الغرب، فيُبعدونهم عن علوم الإِسلام التي قامت على الدين ودراسته وبيانه، ويُحيلونهم إلى دراسات عجيبة متناقضة في موضوعاتها ومتفقة في خصومتها للدين وبغضها له ومحاربتها له. وقد رأينا بأن المنهج الإِسلامي يوجب على أهله الابتعاد عن الهوى، ويأمرهم بقبول الحق إذا ظهر، حتى وإن خالف ما تهواه النفس، فإذا كانت هذه هي الموضوعية، فلا حاجة إلى استبعاد الدين كشرط للموضوعية (¬2)، قد يناسب ذلك في استبعاد أديان باطلة ومحرفة وترفض الحق إن خالف أصولها، وهذا لا ينطبق على الإِسلام؛ لأن استبعاده يعني استبعاد المصدر الحقيقي للمعرفة، فكيف يتم استبعاده؟ بل إن الباحث المسلم يعلم علم اليقين بأن الكفار والملحدين لو التزموا بموضوعية صارمة، تقف مع الحقيقة دون ميل لوصلوا إلى ما يقرره الدين الحق، ولكن الذي يحدث لهم هو أن أثر الكفر والإلحاد والعلمنة، وكره الدين يطغى على الباحث في العلوم وبذلك تظهر النظريات المخالفة للدين تحت دعوى الموضوعية والعلمية. وأيضًا فإن وجود موضوعية بهذه الصورة تكاد تكون مستحيلة؛ فإنه إذا كانت فلسفات العلم المعاصر ولاسيّما بعد الثورة في الفيزياء المعاصرة تجعل من الصعب الفصل بين الذاتي والموضوعي (¬3) حتى في الجانب المادي فكيف بغيره (¬4). فإذا كان ذلك عسيرًا فلماذا نستبعد المصدر الحقيقي للمعرفة والمانع من الانحراف والضلال الديني والمعرفي وهو الوحي؟! ¬

_ (¬1) من الملاحظ وجود عدد كبير من اليهود المؤسسين لعلم الاجتماع، ورائدهم "دوركايم" هو من أسس لهذه الموضوعية في كتابه: قواعد في المنهج في علم الاجتماع، وانظر: الفصل الأول والثاني من الباب الأول، والفصل الثاني من الباب الثالث. (¬2) انظر: تمهيد في التأصيل. . . .، عبد الله الصبيح ص 55 - 56. (¬3) راجع الفصل الأول من الباب الأول. (¬4) فهناك من يرى استحالة ذلك في العلوم الاجتماعية، انظر: التأصيل الإِسلامي للعلوم الاجتماعية، د. إبراهيم رجب ص 109.

وأيضًا فإنه مع التغيرات المعاصرة للعلم تبعه تغيرات -كما سبق- في الموضوعية، وهو تغير يكشف صعوبة الموضوعية، وأثر التحيّز على أصحابها، ومن ذلك ما نجده من استبدال الموضوعية بـ "الذاتية المشتركة" في العلوم الاجتماعية، ويوضحها أحدهم فيقول: "إن الإدراك ليس فعلًا سلبيًا، ولكنه تأويل إيجابي للواقع الخارجي، فالواقع ليس شيئًا معلومًا ومسلمًا به، ولكننا نقوم إيجابيًا ببنائه "بأنفسنا"، ولذلك فإن إدراك أي منا للواقع إنما هو بالضرورة إدراك ذاتي ومرتبط بالشخص ذاته، ولكن لما كانت نظرة الجماعة التي ينتمي إليها كل منا تتضمن بعض أوجه الاتفاق والتجانس فإن أعضاء كل جماعة يشتركون في رؤية "موحّدة نسبيًا" للعالم وفي "تفسير مشترك" للواقع، ولا يشترط أن يكون هذا الفهم المشترك للجماعة متطابقًا تمامًا مع الواقع الخارجي، فالواقع الخارجي -كما يوجد بصرف النظر عن من يدركه- لا يمكن ببساطة أن نعرفه موضوعيًا، فالواقع كما يظهر لنا في الرؤية المشتركة يكون ذا صدق ذاتي مشترك. . . . أما عن الصدق الموضوعي فلا يمكن الوصول إليه" (¬1). ولا شك أن هذا التصور الجديد للموضوعية يفتح الباب لتنوع النتائج، وتنوع الإجابات، وتنوع التفسيرات، فالحقيقة الخارجية مرتبطة بنظرة جماعة عبّر عنها فرد من أفرادها، أي أنها نظرة ترتبط بثقافة مجموعة ومعرفتها، ويحيلنا هذا إلى إجابات مختلفة عن الحقيقة ترتبط باختلاف تصورات المجموعات. فإذا أصبحت الموضوعية بهذا الشكل -على أنه شكلها حتى قبل هذه التحولات رغم المكابرات- فمن غير الموضوعي استبعاد الوحي بوصفه أساسًا للمعرفة؛ لأنه الوحيد القادر على رفع الاختلاف والوصول لنتائج موضوعية تركن لها النفس بكل طمأنينة، وسيبقى الاختلاف بدونه قائمًا مهما كانت الاحتياطات موجودة من أجل الوصول للحقيقة، قال -تعالى-: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)} [البقرة: 213]. قال الشيخ السعدي -رحمه الله-: " {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} وهو الإخبارات ¬

_ (¬1) انظر: التأصيل الإِسلامي للعلوم الاجتماعية ص 115 - 116.

الصادقة، والأوامر العادلة، فكل ما اشتملت عليه الكتب، فهو حق، يفصل بين المختلفين في الأصول والفروع، وهذا هو الواجب عند الاختلاف والتنازع، أن يرد الاختلاف إلى الله وإلى رسوله، ولولا أن في كتابه، وسنة رسوله، فصل النزاع، لما أمر بالرد إليهما. ولما ذكر نعمته العظيمة بإنزال الكتب على أهل الكتاب، وكان هذا يقتضي اتفاقهم عليها واجتماعهم، فأخبر تعالى أنهم بغى بعضهم على بعض، وحصل النزاع والخصام وكثرة الاختلاف" (¬1). وقال القرطبي -رحمه الله-: "ويحتمل أن تكون "كان" للثبوت، والمراد الإخبار عن الناس الذين هم الجنس كله أنهم أمة واحدة في خلوهم عن الشرائع، وجهلهم بالحقائق، لولا من الله عليهم، وتفضله بالرسل إليهم. فلا يختص "كان" على هذا التأويل بالمضي فقط" (¬2)، فالاختلاف -ولاسيّما في المطالب العالية- سيبقى قائمًا ما لم يرجع الناس للوحي، ومن ثمّ فيتعذر الوصول لموضوعية في هذه الأبواب دون الاعتماد على الوحي، وكل من ادعى الموضوعية في أبواب تخص التصورات والعمليات مما يعني الإنسان والمجتمع ولم يسترشد بالوحي فسيقع في الاختلاف والتناقض، ويصعب الخروج بنتيجة يتفق عليها العقلاء. ولذا فالموضوعية الصحيحة تتحقق تمام التحقق بالعودة للكتاب والميزان الذي أنزله رب العالمين، قال -تعالى-: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25]، وقال -تعالى-: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105)} [النساء: 105]، {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 48]، وقال -تعالى-: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17)} [الشورى: 17]، فهذا الكتاب قد نزل من الحق وبالحق، فلا تكون إصابة الحق إلا بالعودة إليه. قد يوجد ما يفسر إصرار فلسفة العلم داخل الحضارة الغربية على الموضوعية -على أنها التخلص من كل تصور سابق ولو جاء من الوحي- رغم ¬

_ (¬1) تفسير السعدي ص 95 - 96. (¬2) تفسير القرطبي 3/ 31.

أنها تعترف باستعصاء قيام مثل هذا المفهوم، فهو رغم محاذيره يخفف من ضغط التصورات الدينية الباطلة أو الفلسفات المثالية الغامضة، فقد يحرص العقلاء في طلب البعد عن الدين المحرف والميتافيزيقا والفلسفات المثالية خوفًا على العلم ولكنه يتحول لأداة مهمة عند الملحدين ومبغضي الدين وأصحاب الصراعات الكبيرة مع أهل الدين للتخلص من الدين، وهي تجد حركتها بسهولة في ميدان معقد ويهمّ الإنسان مثل باب العلوم الإنسانية، حيث تصبح الموضوعية هناك أكثر تعقيدًا واشكالًا، وفي ذلك يقول قنصوه: "إن الموضوعية في العلوم الإنسانية هي مشكلتها المحورية، وكل من يعرض لها إنما يعرض بطريق مباشرة أو غير مباشرة للصعاب التي تواجه هذه العلوم لكي تبلغ مستوى العلوم الطبيعية ونجاحها" (¬1). فيكون الحرص في العالم الإِسلامي على الموضوعية بمثل هذه المضامين أمرًا مشبوهًا، ولاسيّما عندما يرفع شعاره أهل التغريب أو المتأثرين بالفكر العلماني الغربي؛ لأنه في الغالب سيتحول معهم إلى أداة هدفها تأسيس علم علماني ومنهج علماني لا يكتفي بالانفصال عن الدين بل يسعى مع ذلك لهدمه. ذلك أن الموضوعية العلمانية في أهم مضامينها إنما تهدف إلى التخلص من الدين، سواء كان صحيحًا أم غير ذلك. فإن مصطلح الموضوعية برز مع بروز العلمانية في ساحة الفكر الغربي، ثم مع ظهور التيارات المادية والوضعية الإلحادية بما حققته من سعة انتشار في القرن الثالث عشر / التاسع عشر، وهذا الأمر يُصرّح به الباحثون في ميدان العلوم ومناهجها كما نجده عند أحدهم -جولدنر- حيث يقول: "المذهب الذي يؤمن بأن علم الاجتماع ينبغي أن يكون محايدًا قيميًا، إنما هو الامتداد الحديث للصراع القديم بين الدين والعقل، ولقد نشأ هذا المذهب وما زال يعيش على الاتجاهات التي سادت القرن الثالث عشر الميلادي لإيجاد فواصل أو حواجز بين الدين والعقل لحفظ السلام بينهما. . . ." (¬2)، ولكن هذا السلام أو هذه الهدنة قد انتهى أمرها، فلم يعُد هناك حرص لحفظ السلام بعد بروز المذاهب المادية والوضعية ذات الأيديولوجيا الإلحادية. لم تعد الموضوعية مفهومًا بسيطًا في فلسفة العلم، بل أصبحت ظاهرة ¬

_ (¬1) الموضوعية في العلوم الإنسانية. . . .، د. صلاح قنصوة ص 63. (¬2) التأصيل الإِسلامي للعلوم الاجتماعية. . . .، د. إبراهيم رجب ص 110 - 111.

استبعاد جانب القيم بحجة الموضوعية

معقدة حولها خلافات فلسفية ومنهجية كبيرة، وذات باطن غير خفي يهدف إلى علمنة العلم وإقصاء الدين وإبعاده، قد يُركّز العقلاء على الظاهر ويعترفون بصعوبة الفصل بين الذاتي والموضوعي، بينما يُركز التيارات العلمانية الكبرى في الفكر الغربي وأتباعها من المتغربين في البلاد الإِسلامية على الباطن، فيُصبح التركيز على إبعاد الدين والوحي شرطًا -كما يزعمون- لوجود معرفة علمية حقيقية. ومن ذلك تصوير الإِسلام عند المتغربين وكأنه عدو للمعرفة العلمية، فيا عجبًا كيف يُصوّر الإِسلام وكأنه عدوّ للعلم والمعرفة الصحيحة؟ وهو الذي ابتدأ بـ"اقرأ" ورفع من قيمة الحق والصدق وحرص على رفع قيمة العلم والعقل والنظر والتفكر والتدبر! ولن يجد العالم مثل المسلم في حرصه على الحق والتضحية في سبيله بكل نفيس بسبب شدّة وضوح ذلك في دينه. والنتيجة التي نصل إليها أن الموضوعية من المصطلحات المجملة، والصحيح منه قد دلّ الإِسلام على عناصره بأجمل طريقة، والأيديولوجي منه، والضار لابد أن نحذر منه، وأن ننتبه له وأن لا نسمح لتيارات التغريب أن تُقحمه في كتب المناهج الفكرية والعلمية وفلسفات العلم وتصوره كمسلَّمة لتقدم العلم وسلامة المنهج العلمي بينما هو طريقة لإقصاء الدين. استبعاد جانب القيم بحجة الموضوعية: لم تعد الموضوعية في المجال العلمي تعني عدم تأثير الميل الديني الشخصي على الحقيقة فقط، بل تعني إبعاد القيم عن مجال العلم؛ بحجة أن القيم تؤثر على النشاط العلمي. إن الموضوعية العلمانية تطلب عدم وجود قيم في مجال العلوم الاجتماعية المتعلقة بالإنسان رغم أهميتها. وتطلب عدم وجود مصدر غير حسي في مجال العلوم، مع أنه حتى في باب العلوم الطبيعية في عصرها الراهن لم يعد يُكتفى بالجانب الحسي، ولا فلسفة العلم المعاصرة تقبل بإمكانية معرفة حسية موضوعية خارجية دون تدخل الذاتي فيها. وتطلب أخيرًا بإيجاد معايير متحيّزة ضد الديني في المناهج العلمية، سواء تعلقت بالعلوم الاجتماعية أو بالعلوم الطبيعية، لتكشف عن بعد أيديولوجي تُغذّيه التيارات المادية والإلحادية المزدهرة في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر وما بعده رغم بوادر تراجعها بعد الثورة التي حصلت في الفيزياء المعاصرة.

يقول طه عبد الرحمن: "لقد قام النمط المعرفي الحديث منذ نشأته في مطلع القرن السابع عشر (11 هـ) على أصلين اثنين يقضيان بقطع الصلة بصنفين من الاعتبارات التي يأخذ بها كل متدين. أما الأصل الأول، فيمكن أن نصوغه كما يلي: "لا أخلاق في العلم"؛ مقتضى هذا الأصل أن لكل واحد -أو جماعة- أن يضع بنيان نظريته بحسب ما شاء من القرارات المعرفية والإجراءات المنهجية ما عدا أن يجعل فيها مكانًا للاعتبارات التي تصدر عن التسليم بقيم معنوية مخصوصة أو عن العمل بقواعد سلوكية معينة. . . . لقد تفرع على الأصل الأول الذي يقول بفصل العلم عن الأخلاق المبدآن المشهوران: أ- مبدأ الموضوعية، وهو يقضي بأن يكون النظر العلمي مستقلًا كل الاستقلال عن آثار الذات الإنسانية؛ ولما كان هذا الاستقلال ادعاء بعيد التحقق، عسير الإثبات، اخترنا أن نسمي هذا المبدأ بـ "مبدأ الموضوعية الجامدة"، تمييزًا له عن مبدأ آخر يأخذ بموضوعية غير جامدة أو قل "حرِكة" "بكسر الراء"، إذ يقتضي أن تشترك قيم الذات الداخلية مع مدركات النظر الخارجية في تأسيس المعرفة تأسيسًا موجَّهًا "بفتح الواو المشددة" ومقوَّمًا "بفتح الواو المشددة"، لا تأسيسًا مجردًا" (¬1). أقف مع شرط الموضوعية في العلوم الاجتماعية القائم على استبعاد جانب القيم في أثناء البحث الاجتماعي، ولاسيّما في العلمين المهمين "علم النفس وعلم الاجتماع"، وفي ذلك يقول أمزيان: "حيث ارتبط قيام الاتجاه الوضعي بالدعوة إلى تحقيق الموضوعية العلمية في مجال الإنسانيات تمامًا كما تم تحقيقها في مجال الطبيعيات، واعتبرت الوضعية ابتداء أن ارتباط العلم بالأخلاق والقيم من مخلفات القرون الوسطى ومن سمات الفلسفات الميتافيزيقية التي ظلت منشغلة في تحديد الأهداف والمثل وما ينبغي أن يكون عليه الواقع الاجتماعي بدل الاهتمام بالواقع نفسه في لحظته الراهنة" (¬2)، ونسجل ابتداء أنها مشكلة ¬

_ (¬1) سؤال الأخلاق، طه عبد الرحمن ص 92 - 93. أما الأصل الثاني فهو لا غيب في العلم. (¬2) تلازم الموضوعية والمعيارية في الميثودولوجيا الإِسلامية ص 85، من كتاب: قضايا المنهجية في العلوم الإِسلامية والاجتماعية.

مفتعلة أفرزتها ظروف شاذة. . . . وتعبر عن هموم الغرب. . . . لا يصح تحويلها لمشكلة كونية (¬1). . . .، ومن ثم تعميمها على كل البيئات العلمية في الحضارات المختلفة، ولكن طائفة من المتغربين أو ممن تأثر بالتغريب قد انساق خلفها. فهذا -مثلًا- باحث اجتماعي يقول: "ويتميز منهج علم الاجتماع الأخلاقي بالتزام الموضوعية بالتجرد والنزاهة. . . .، حين يستبعد الباحث كل نزعة ذاتية أو عاطفة دينية حتى يدرس كل ما عنّ له من ظواهر خلقية يجمعها في حرص، ويصفها في أمانة ويدرسها في موضوعية خالصة. . . . بعد أن يخلع رداء العقيدة، وبعد أن يتجرد عن كل قيمة شخصية مسبقة" (¬2)، وهذا يندرج في السياق العلماني لعلم الاجتماع الحديث، وكما يقول المفكر محمَّد أمزيان عنه: فصل رواده الأوائل "بين البحث الاجتماعي وبين مجال القيم. . . . فقد كانت القيم تمثل في نظر علماء الاجتماع أخطر عائق في سبيل تقدم البحث العلمي، حيث اعتقدوا بأن البحث العلمي لابدّ وأن يكون بحثًا محايدًا، ومجردًا من كل القيم والمعايير الأخلاقية. . . . الالتزام الأخلاقي أو النظرة المعيارية في نظرهم تعبر عن ميولات إنسانية ذاتية، وعلى الباحث أن يتخلى -إذا أراد أن يكون نزيهًا وعلميًا وموضوعيًا- عن كل القيم والأفكار التي يعتنقها، وكل التزام قيمي يعتبر خروجًا عن المنهج العلمي وخروجًا عن علم الاجتماع. هذه القناعة المنهجية التي نادى بها علماء الاجتماع، ستنتقل بشكل آلي إلى القائمين على تدريس المواد الاجتماعية في الجامعات العربية والإِسلامية وذلك من موقع التقليد لما هو سائد في الغرب" (¬3). ثم ذكر نماذج من ذلك، وذكر بعدها صورًا جديدة في الغرب انقلبت على التصور الوضعي القديم بعد أن رأت فشل الأوائل في تطبيقه، بل تقمصوا قيمًا علمانية في أثناء نشاطهم العلمي تعارض الموضوعية. وقد أبدع المؤلف في نقص هذه الخطيئة المنهجية، فالربط بين البحث العلمي والقيم الأخلاقية أكثر نفعًا ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق ص 58. (¬2) قضايا علم الأخلاق، دراسة نقدية من زاوية علم الاجتماع، د. قباري إسماعيل ص 20. (¬3) منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية، محمَّد أمزيان ص 335 - 336، وانظر له أيضًا: تلازم الموضوعية والمعيارية في الميثودولوجيا الإِسلامية ص 85 وما بعدها، من كتاب قضايا المنهجية في العلوم الإِسلامية والاجتماعية.

للبحث العلمي والموضوعية؛ إذا كانت تلك القيم ذات أصل إسلامي تلزم تصوراته وتوجيهاته. والعجيب أن نجد من يتجاوز الكلام عن موضوعية العلم إلى اتهام الحضارة الإِسلامية بأثر القيم على ضعفها العقلي كما يوحي بذلك كلام الدكتور محمَّد الجابري الذي يقول: "إن المعطيات السابقة تجعلنا، من الناحية المبدئية على الأقل، في وضع يسمح لنا بالقول: إن "العقل العربي" تحكمه النظرة المعيارية إلى الأشياء. ونحن نقصد بالنظرة المعيارية ذلك الاتجاه في التفكير الذي يبحث للأشياء عن مكانها وموقعها في منظومة القيم التي يتخذها ذلك التفكير مرجعًا له ومرتكزًا. وهذا في مقابل النظرة الموضوعية التي تبحث في الأشياء عن مكوناتها الذاتية وتحاول الكشف عما هو جوهري فيها. إن النظرة المعيارية نظرة اختزالية، تختصر الشيء في قيمته، ومن ثمّ في المعنى الذي يضفيه عليه الشخص "والمجتمع والثقافة" صاحب تلك النظرة. أما النظرة الموضوعية فهي نظره تحليلية تركيبية: تحلل الشيء إلى عناصره الأساسية لتعيد بناءه بشكل يبرز ما هو جوهري فيه" (¬1)، وهو بهذا يُعلي من العقل الأوروبي الموضوعي على حساب العقل العربي القيمي غير الموضوعي، العقل الأوروبي عقل موضوعي؛ لأنه لا يهتم بالقيم والأخلاق بخلاف العقل العربي، وكما يقول د. هشام غصيب: "ومن هذا المنظور، فإن العقل الأوروبي يتميز في أنه يتصور ذاته أداة لإدراك آليات الموضوع "الطبيعية بخاصة" وأسبابه. أما العقل العربي فيتصور ذاته أداة أخلاقية لضبط سلوك البشر في اتجاه مرضاة الله وتعزيزًا للإيمان بالله. ." (¬2)، ولا يختلف غصيب كثيرًا عن الجابري -رغم نقده له-؛ لأن هناك تعزيزًا لاتهام الحضارة الإِسلامية بأنها تُقدم الأخلاق على العقل مع أن الحضارة الإِسلامية تربط الأخلاق والعقل ولا ترى تعارضًا حقيقيًا بينهما، والحقيقة العلمية لا تتعارض مع القيمة الأخلاقية في التصور الإسلامي. وإن ما توصل إليه الجابري -في الكلام السابق- من كون الحضارة ¬

_ (¬1) تكون العقل العربي، د. محمَّد الجابري ص 31 - 32. (¬2) هل هناك عقل عربي؟. . . . د. هشام غصيب ص 76.

الموضوعية وعلاقتها بالحقيقة

الإِسلامية تربط بين "القيمة الخلقية والحقيقة الواقعية" هو شيء صحيح، ولكنه يقدح في ذلك بحجة التعارض بين الأخلاقي والموضوعي، وقريبًا منه ناقده غصيب. والفصل بين "القيمة والواقعة قد عرفه قدماء الفلاسفة، فإن هذا الفصل لم يَجْرِ ترسيخه ولا تقنينه إلا مع ظهور النزعة الموضوعية في العلم" فرفعوا من استحالة الجمع بين القيمة والواقعة (¬1). وقد ناقش المفكر طه عبد الرحمن ذلك، وبيّن عدم صحة تلك الاستحالات المزعومة ولاسيّما مع التطورات في حقل الفكر المعاصر "وعلى هذا، يكون الجابري قد تسرع في استهلاك عقلانية متقادمة حملته على اعتقاد الخطأ والنقص في عقلانية التراث التي تجمع بين القيم الخلقية والوقائع الكونية؛ ولو أنه قام بواجبه في تمحيص إجرائية هذه العقلانية من زاوية ما استجد من المواقف بصدد العلاقة بين القيم والواقع، لاتجه إلى الخروج عن اختياراته التجريدية والالتفات إلى أهمية الجانب العملي في الممارسة التراثية. . . ." (¬2). الموضوعية وعلاقتها بالحقيقة: سبق أن من الموضوعات المنهجية المهمة التي يتناولها المتغربون باستغلال واضح مفهومي "الحقيقة والموضوعية"، فالموضوعية توصل للحقائق، فبينهما ارتباط واضح، ومن بين من اختل عنده وضعهما الدكتور هشام شرابي، فمع أنه من أسرة فلسطينية مسلمة إلا أن دراسته في المدارس التنصيرية وبخاصة الجامعة الأمريكية قد أثرت عليه كثيرًا وجرفته تيارات ذاك العصر بعيدًا عن الإِسلام، ثم ازداد الأمر سوءًا عند إكماله دراسته في أمريكا، ومما اختلط عنده مفهوما "الحقيقة والموضوعية"، فهو يقول عن تصوره عن الحقيقة: إنه كان تصورًا مثاليًا، وكان يعتقد بوجودها حتى ذهب لأمريكا، ففي نقاشه مع أستاذ له في أمريكا قال شرابي: "ومهما يكن من أمر فإن الحقيقة لا يمكن إلا أن تفرض نفسها"، فرد عليه أستاذه "لنضع الحقيقة جانبًا، فالحقيقة ليست موضع بحثنا الآن"، فذكر أنها صعقته إجابة أستاذه حيث كانت الحقيقة عنده مقدسة، ولكنه ¬

_ (¬1) انظر: تجديد المنهج في تقويم التراث، د. طه عبد الرحمن ص 35 - 36. (¬2) تجديد المنهج في تقويم التراث ص 36 - 37، وانظر: منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية ص 343.

بعدها بدأ "بالتخلص من عبودية "الحقيقة" الغيبية. ."، بمثل هذا الموقف البسيط تنهار عند الطالب قضية وتولد أخرى (¬1). وقد وقع تحول خطير لمفهوم الحقيقة، فقد أصبحت الحقيقة هي التي تنبثق "من وعي محدد ومن ممارسات إنسانية اجتماعية محددة، ومن نشاطات حرة خلاقة، لا من وحي إلهي أو من حقيقة أزلية" (¬2)، فانظر كيف وقع التحول حتى في تلك الحقائق التي جاء بها الوحي وترتبط بالحق سبحانه!! وكما انهارت الحقيقة فقد انهار معها مفهوم الموضوعية، فهي تكون عملية عندما تطبق على المجتمع العربي الإِسلامي الذي يصفه بالمجتمع البطركي، ولكنه يصفها باللاموضوعية عندما تتعامل مع اتجاهه ورؤيته، وقد كانت الموضوعية حسب ما يذكر عن نفسه لحظة انخراطه في الجو الأكاديمي الأمريكي أساسية يقول: "مع الوقت مكنتني المنهجية الموضوعية، التي بدأت باستيعابها منذ الأشهر الأولى من التحاقي بجامعة شيكاغو، من التخلص من أدران ثقافتي الماضية، وخطوت بواسطتها خطوات فكرية كبيرة "إلى الأمام""، ولكنه اكتشف بعد حادثة النكسة وأثرها على فلسطين أن الغرب المتبجح بالموضوعية لا يعرف الموضوعية عندما يتعلق الأمر بالمصالح، مما جعله يراجع فهمه للموضوعية فاكتشف أن الموضوعية في المجال الغربي مُشبّعة بجوانب كبيرة لا موضوعية (¬3)، ولكن من العجب العجاب أن يجد علاج تشوه الموضوعية الليبرالية الرأسمالية في طرف غربي آخر وهو الماركسية، فخرج من عماية اعترف بها إلى أخرى ما زال مصرًا عليها. هذا نموذج يزعم العلمية لمسيرته الفكرية وبخاصة بعد عيشه في الجو الأكاديمي الغربي، كيف انهار عنده مفهوم الحقيقة ومعها مفهوم الموضوعية، ولكنها وإن خرجت من مفهوم نموذج ليبرالي فقد نقلها لنموذج ماركسي، فهو يعترف بثقل الماركسية عليه، ويقول عن ماركس بأنّه نفذ إلى أساس تفكيره، ¬

_ (¬1) انظر: الجمر والرماد .. ، هشام شرابي ص 30. (¬2) الإِسلام والحداثة ص 376، وانظر: الغرب في فكر هشام شرابي، الزهرة بلحاج ص 211. (¬3) انظر: الجمر والرماد ص 106 - 107، وانظر: الغرب في فكر هشام شرابي، الزهرة بلحاج ص 213 وما بعدها.

نموذج موسع للتلاعب المنهجي

فالأساس الذي تقوم عليه بقية الموضوعات أصبح ماركسيًا، فما حاله إلا كحال من خرج من حفرة ليقع في أخرى، فليست الرؤية المادية بأحسن حالًا من أختها، ولكن الرجل بحسب انتمائه للتغريب لا يجد مفرًا من الانتماء لأحد تياراته. نموذج موسع للتلاعب المنهجي: أقف الآن مع شخصيتين تتحركان في هذا الفضاء الفكري العام، المستند إلى العلمية والموضوعية والمنهجية، وهما الدكتور حسن حنفي، والدكتور محمَّد أركون، وهما يتشاركان في قضايا، منها دعوتهما تجاوز المنهجية الاستشراقية والمنهجية التراثية، بعد أن ألحقا بها نقائص عدّة، وذاك صحيح في الاستشراقية، ومنها دعوتهما إلى التعامل مع نصوص الوحي بجرأة ودون تقديس أو تنزيه، ومنها اعتمادهما على مدارس تفسيرية وتأويلية ونقدية حديثة ومعاصرة وذاك في تعاملهما مع النص الديني. وقد سبق لي بحث ذلك بشيء من التوسع في بحث الماجستير، والذي كان بعنوان "موقف الاتجاه الفلسفي المعاصر من النص الشرعي"؛ ومن ذاك الوقت وأنا أتابع نشاطهما السيئ، وقد تنوع نشاطهما في ذلك، وأقف هنا مع خلاصة موقفهما حول طرق الاستدلال: أ- حسن حنفي: أشهر موضع عبر فيه "حسن حنفي" عن منهجيته هو كتابه "التراث والتجديد"، وأشهر موضع عرض فيه معرفته بتلك المنهجيات التي يتعامل بها مع النص الديني كان في مقدمة ترجمته لكتاب "رسالة في اللاهوت والسياسة" لإسبينوزا، وأشهر التطبيقات له قدمها في كتابه "من العقيدة إلى الثورة" وفي رسالته الدكتوراه في أصول الفقه. وهذه المادة الطويلة تحتاج لرسالة مستقلة، وأكتفي هنا بذكر خطوط عريضة في الموضوع، تكشف الأزمة المنهجية عند حنفي، وخطورة ما وصل إليه من مواقف. تعد المقدمة الطويلة التي وضعها لكتاب إسبينوزا محققة للغرض حول المنهجية التي يأمل بها وبرزت فعلًا في كتبه، وفيه نطلع على تنوع المدارس التي

تتعامل مع النص الديني (¬1)، ونطلع على الغرض من هذا العمل القائم على إسقاط مادة مكان مادة، فالمنهج واحد، وما لحقه من تطورات هي تعميق لهذا المنهج، أما المادة فقد كانت في الغرب هي اليهودية والنصرانية ويمكن استبدالها بتراث آخر وليكن هو الإِسلام (¬2). 1 - تتعامل المنهجية مع "الوحي"، ولكن ليس الوحي بمعنى مقدس، بل الوحي في التاريخ، وكيف يتحول من معنى حسن إلى الضد (¬3). 2 - "يعتبر النقد التاريخي للكتب المقدسة أحد المناهج العلمية التي وضعتها الفلسفة الحديثة" (¬4). وقد استعرض هنا كل مدارس النقد وأشكاله حتى القرن العشرين، ومن الواضح أن هذه المدارس تحقق شيئًا من النجاح بسبب تعاملها مع نص ظاهره أنه نص ديني بينما هو نص محرف ومخترق بمؤثرات كثيرة، عرّفنا بها القرآن. بينما يحرض المتغربون على توسيع دائرتها ليدخل الوحي الإِسلامي فيها، بحيث ينطبق عليه ما ينطبق على التوراة والإنجيل والكتابات الدينية، وهنا تأتي مشكلة التعميم دون وجه حق، ونحن نعلم من مناهج علماء الإِسلام في مثل علم الجرح والتعديل ذاك الفحص الدقيق الذي لم تعرف البشرية مثله، حتى يسلم النص الديني من أي تحريف، فضلًا عن ذاك الحفظ الإلهي لهذا الوحي، وهذا ما يعيه "حنفي" ومع ذلك يرى أن المستدلين بقوله -تعالى-: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9]، فيطلقون من موقف لاهوتي مفاده أن الله قد توكل بحفظ القرآن، فيهربون من تطبيق هذه المنهجيات (¬5). 3 - يفتح الباب للتفسير الحرّ، كل إنسان وما تمكنه قدراته (¬6)، ولكنه عند "حنفي" يأخذ بعدًا خطيرًا، حيث ينفتح التفسير عنده على عمليات إسقاط خطيرة، ¬

_ (¬1) انظر: رسالة في اللاهوت والسياسة، من مقدمة حسن حنفي ص 6 - ص 18 - 20. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 7. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 17. (¬4) انظر: المرجع السابق ص 18. (¬5) انظر: المرجع السابق، هامش ص 21. (¬6) المرجع السابق ص 36، وانظر: التراث والتجديد ص 185.

ب - محمد أركون

تقوم بإسقاط الفكر الغربي الذي اختاره على النصوص والأصول، وأوضح نموذج على ذلك ما نراه من عبث في كتابه: "من العقيدة إلى الثورة". ب - محمَّد أركون: وفي نفس السياق، وبصورة أخطر ما نجده عند محمَّد أركون، الذي يتجاوز المدارس السابقة حول النقد التاريخي والتفسير إلى تأسيس منهجية تعتمد عليها وعلى ما أخذه من العلوم الاجتماعية والإنسانية، مثل علم الاجتماع بتخصصاته المختلفة وعلم النفس بأقسامه وعلم التاريخ المعاصر المتمثل في مدرسة الحوليات وعلم اللغة المعاصر والنقد الفلسفي والنقد الأدبي وغيرها من المنهجيات، ليكوّن من خلالها طريقته المتمثلة في "الإِسلاميات التطبيقية" (¬1). وهو يزعم أنه بهذا يحقق أقصى درجات العلمية، وذلك أنه يأخذ بكل الأبعاد العلمية الممكنة والمفيدة في التعامل مع النص الديني، وحسب هذا الزعم فإن منهجه هو أفضل منهج علمي يُطبَّق على النص الديني، وبها تتحقق الموضوعية والوصول إلى الحقيقة بمفهومها المعاصر ومن ثم التعامل الصحيح مع النص. وهو موقف لا يقل طولًا عن مواقف حنفي، ويحتاج لبحث موسع كنت قد تناولت شيئًا منه أثناء بحث الماجستير، ومن أهم معالم هذه المنهجية العلمية حسب زعمه: 1 - الحديث عن "الظاهرة الدينية" وليس عن دين بعينه، ومن هذا الوجه، لا يوجد أي اختلاف بين كل الأديان، فهي كلها تقوم على وجود مقدس وغيبيات ونصوص وغيرها، وهذه المنهجية تحقق دمج أديان الكتاب بالأديان الوثنية، وهنا تتحقق الموضوعية والعلمية كما يزعم (¬2). 2 - تتميز منهجيته بحداثتها كما يقول، وذلك أنها عند دراستها للظاهرة الدينية تدمج ثلاثة أبعاد معرفية، ولا تهمل أي واحدٍ منها، وهنا يظهر بوضوح طغيان المنهجيات المعاصرة، وهذه الأبعاد الثلاثة، هي: ¬

_ (¬1) انظر حول الإِسلاميات التطبيقية: تاريخية الفكر العربي الإِسلامي، محمَّد أركون ص 51، وانظر: أين هو الفكر الإِسلامي المعاصر؟، محمَّد أركون ص 37 - 47، وانظر: معارك من أجل الأنسنة. . . .، محمَّد أركون ص 267. (¬2) انظر: معارك من أجل الأنسنة .. ص 270 مع الحواشي وما بعدها.

أ- البعد الأسطوري. ب- علم التاريخ النقدي الذي يضم علم النفس، علم الاجتماع، علم الإنتربولوجيا التاريخية. ت- النقد الفلسفي. فهو يرى أن المنهجيات العلمانية الكلاسيكية قد ظنت إمكانية إقامة معرفة عملية مادية صرفة خالية من البعد الأسطوري، ولكن المعارف المعاصرة كشفت أهمية الأسطورة، ودورها في الوعي بالدين وأثره واستمراره، ويدخل هنا في الجانب الأسطوري كل المعاني الغيبية (¬1). الأسطورة لها دور خلاق ومهم قد لا يوجد لغيرها، ومن هنا أهمية وجودها، وأهمية عدم إغفالها عند دراسة الظاهرة الدينية، إن الأساطير تفعل فعلها مثل المؤثرات العلمية والمؤثرات الفكرية العقلية والمؤثرات المادية (¬2). من الواضح في هذه المنهجية تنوع عناصرها مما يوهم قدرتها على دراسة الدين وأصوله ونصوصه من كل الجهات الممكنة، بحيث لا يبقى أي فراغ أو نقص، وبهذا تكون قد حققت أقصى درجات العلمية وتوصلت إلى معرفة موضوعية وحقيقية. وليس المراد هنا انتقاص المنهجيات ودورها المهم في إنارة العقل وتيسير عمله وتوصله للحقيقة، وإنما المراد التأكد من قدرتها على أداء وظائفها في الباب المراد دراسته، وهنا عقبة تقف أمام نجاح هذه المنهجيات، تكشفها التطبيقات الأركونية، وهي إرادة التعميم على القضايا المختلفة، فقد قامت هذه المنهجيات على نصوص وعلى أوضاع وفي بيئات، إما للتفسير أو للتغيير، وهي هنا قد قامت على دين له وضعه التاريخي والواقعي، وقامت في بيئات اجتماعية ذات سياق تاريخي وواقع معين، ونقل هذه المنهجيات إلى دين آخر أو وضع اجتماعي آخر هي عملية غير علمية إلا عند إثبات التساوي، وهي دعوى يدعيها أركون وغيره من المتغربين ليس لها سند حقيقي. وختامًا نجد أن مصطلح "الموضوعية" بحسب الصورة السائدة في الكتابات ¬

_ (¬1) انظر: معارك من أجل الأنسنة .. ص 291 وما بعدها. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 297.

التغريبية والمتأثرة بها قد تلبّس بإشكاليات كبيرة، مما جعله أداة للتوظيف السلبي لاسيّما مع تيار يحمل عداوة للدين، ومع أننا نجد حوارًا كبيرًا حول المصطلح داخل المنظومة الغربية قبل توظيفه إلا أنه ومع المتغربين وأمثالهم ينقل دون الحديث عن تلك الأبعاد. هناك تساهل في طرحه كمسلمة بكل أبعاده العلمانية. ورغم الاعتراف بأهميته من جانبه الإيجابي، وكونه بهذا الجانب عنصرًا صلبًا في الحضارة الإِسلامية، إلا أنه قد وُجد للمصطلح مشكلات كبيرة في الفكر العلماني جذبت التيار التغريبي، من أخطرها: رفض أي توجيه ديني بحجة الموضوعية، وأخطر من ذلك إقصاء الدين عن المعرفة العلمية واستبعاد الوحي كمصدر للمعرفة، وإقصاء القيم عن ميدان العلم، وقد وجدنا أن الموضوعية الحقيقية لا تستبعد الدين والقيم ولا تتعارض معها، بل التطور العلمي في ظلّ الدين والقيم أفضل من تطوره في ظل حضارة مادية علمانية، شريطة أن يكون الدين هو الدين الحق والخاتم، والقيم هي تلك النابعة عنه المغروزة في الفطرة السليمة. لقد عرف العلم الحديث الذي لمع في الحضارة الغربية مشكلات منهجية، أخطرها من جهة المصدر استبعاد الوحي، وأخطرها من جهة المنهجية اعتماد الموضوعية العلمانية. وقد كان للبابين مخاطرهما على العلم العصري، فهناك أبواب لا يستطيع العلم البشري بمصادره الوصول إليها إلا عن طريق الوحي، كما أن هناك أبوابًا لا يمكن السير فيها دون الاعتماد على تصور ورؤية تساعده في مسيره، ويصبح من الزيف دعوى موضوعية جامدة تستقصد إقصاء الدين والقيم. وقد انخرط المتغربون بقوة في هذه المنهجية العلمانية، فاستبعدوا الوحي من مصادر المعرفة وهو أعلاها وأزكاها، وانغمسوا في موضوعية زائفة هدفها استبعاد الدين وقيمه، وقد رأينا خطر مثل هذه الدعاوى ومشكلاتها وزيفها. وبعد أن عُرض شيء من الانحراف في المنهج، في مصدر التلقي وطريقة الاستدلال، ينتقل البحث إلى بابين وقع فيهما انحراف تغريبي كبير وخطير، في باب العقيدة وفي باب الشريعة، وذلك بطرح الانحراف المنهجي أولًا ثم أمثلة تبين ذلك.

الفصل الثاني التأثر المنهجى في طريقة التعامل مع القضايا الغيبية الاعتقادية وفيه مبحثان: • المبحث الأول: التأثر المنهجي في طريقة النظر للغيبيات. • المبحث الثاني: أمثلة للتأثر المنهجي وبيان خطورتها الاعتقادية.

الفصل الثاني التأثر المنهجي في طريقة التعامل مع القضايا الغيبية الاعتقادية

الفصل الثاني التأثر المنهجي في طريقة التعامل مع القضايا الغيبية الاعتقادية أعظم نعمة للإنسان في هذه الحياة هي نعمة الدين، ولعظم أمره، جاء إرسال الرسل -عليهم الصلاة والسلام- وإنزال الكتب لإقامة الدين في الأرض، قال -تعالى-: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)} [البقرة: 132]، وقال -تعالى-: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)} [الروم: 30]، وقال -تعالى-: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)} [الشورى: 13]، وقال -تعالى-: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)} [الفتح: 28]، وقال -تعالى-: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)} [التوبة: 33].

وقد قسم العلماء الدين إلى قسمين: عقيدة وشريعة، واختصت العقيدة بمسائل التصورات التي حقها التصديق، بينما اختصت الشريعة بمسائل العمليات وحقها العمل، قال شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فالكلام في باب التوحيد والصفات: هو من باب الخبر الدائر بين النفي والإثبات، والكلام في الشرع والقدر: هو من باب الطلب والإرادة: الدائر بين الإرادة والمحبة، وبين الكراهة والبغض، نفيًا وإثباتًا، والإنسان يجد في نفسه الفرق بين النفي والإثبات والتصديق والتكذيب، وبين الحب والبغض والحض والمنع، حتى إن الفرق بين هذا النوع وبين النوع الآخر معروف عند العامة والخاصة ومعروف عند أصناف المتكلمين في العلم، كما ذكر ذلك الفقهاء في كتاب الإيمان وكما ذكره المقسمون للكلام، من أهل النظر والنحو والبيان فذكروا أن الكلام نوعان: خبر وإنشاء، والخبر دائر بين النفي والإثبات، والإنشاء أمر أو نهي أو إباحة. وإذا كان كذلك: فلابد للعبد أن يثبت لله ما يجب إثباته له من صفات الكمال، وينفي عنه ما يجب نفيه عنه مما يضاد هذه الحال، ولابد له في أحكامه من أن يثبت خلقه وأمره، فيؤمن بخلقه المتضمن كمال قدرته وعموم مشيئته، ويثبت أمره المتضمن بيان ما يحبه ويرضاه من القول والعمل، ويؤمن بشرعه وقدره إيمانًا خاليًا من الزلل، وهذا يتضمن التوحيد في عبادته وحده لا شريك له، وهو التوحيد في القصد والإرادة والعمل، والأول يتضمن التوحيد في العلم والقول كما دلّ على ذلك سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} ودل على الآخر سورة: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} " (¬1)، ففي باب الاعتقاد يكون الواجب إثبات ما أخبرنا الله به وتصديقه في ذلك، وأن يكون ذلك على منهج السلف الصالح، منهج أهل السنة والجماعة. وقد وقع التكذيب في أبواب العقيدة قديمًا وكثر أمره حديثًا، وازداد أمره بعد ظاهرة التأثر بالغرب العلماني ومذاهبه المادية والإلحادية، وقد وقع غالب المتغربين في التكذيب بالعقيدة: كلها أو بعضها، وإذا كان التكذيب قديمًا قد ارتبط غالبًا بالعقل وتخرصاته فإنه قد وُسّع من هذه التخرصات في العصر الحديث وأضيف إليها دعاوى تُنسب إلى العلم ونظرياته. ¬

_ (¬1) التدمرية ص 3 - 5.

يبحث هذا الفصل ما وقع فيه المتغربون من ضلال في هذا الباب العظيم من تكذيب وانحراف، لاسيّما فيما ينسبونه للعلم ونظرياته، مبتدِئًا ذلك بالأصل المنهجي الذي بني عليه غالب الانحراف، وهو الانحراف في الغيب وما يلحق ذلك من أمور، ثم يأتي المبحث الثاني لعرض أمثلة عن أثر هذا الانحراف وخطورته.

المبحث الأول التأثر المنهجي في طريقة النظر للغيبيات

المبحث الأول التأثر المنهجي في طريقة النظر للغيبيات يعد الغيب أعظم جوانب الاعتقاد شأنًا، وفيه أكبر الأصول الدينية، فمواضيعه هي أركان الإيمان، من الإيمان بالله والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وفي الحديث الصحيح عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في سؤال جبريل للرسول - صلى الله عليه وسلم -: "قال فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره" (¬1). وكثير من الانحرافات المعاصرة في باب العقيدة جاءت من الانحراف في باب الغيب وطريقة النظر فيه، وبهذا يعد الانحراف في باب الغيب هو أصل الانحراف عند المعاصرين، فمنه تتولد بقية الانحرافات، وهو انحراف قديم؛ إلا أن الجديد هو دعاوى العلمية لمثل هذا الانحراف، بعد أن كان السائد في الماضي دعاوى العقلانية، فإنه مع التحولات -الحديثة في الغرب- العلمية والعلمانية، دفع الملحدون بأدلة وشواهد تدّعي العلمية لإبطال الغيب. ¬

_ (¬1) مسلم، رقم (9) من كتاب الإيمان، وهو عند البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - برقم (48) من كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان. . . .

معنى الغيب في التصور الإسلامي

أبدأ هذا المبحث ببيان هذا الأصل العظيم في الإِسلام، ثم طريقة المتغربين فيه، وأثرها، وبيان خطرها مع نقدها، وبالله التوفيق. معنى الغيب في التصور الإِسلامي: قال صاحب القاموس -رحمه الله-: "الغيب الشك، ج غياب وغيوب، وكل ما غاب عنك، وما اطمأن من الأرض. ." وقال ابن فارس: "الغين والياء والباء أصل صحيح يدل على تستر الشيء عن العيون" (¬1)، فما غاب عن الإنسان فهو من الغيب، وقد يكون في وقت دون وقت وهو النسبي، وقد يكون مطلقًا. قال -تعالى- في وصف المتقين: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)} [البقرة:1 - 3] قال الإمام الطبري -رحمه الله-: "والإيمان كلمة جامعة للإقرار بالله وكتبه ورسله، وتصديق الإقرار بالفعل. وإذ كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بتأويل الآية، وأشبه بصفة القوم: أن يكونوا موصوفين بالتصديق بالغيب، قولًا واعتقادًا وعملًا، إذ كان جل ثناؤه لم يحصرهم من معنى الإيمان على معنى دون معنى، بل أجمل وصفهم به، من غير خصوص شيء من معانيه أخرجه من صفتهم بخبر ولا عقل". ثم قال -رحمه الله-: "القول في تأويل قول الله جل ثناؤه: {بِالْغَيْبِ}. - عن ابن عباس: "بالغيب"، قال: بما جاء منه؛ يعني: من الله جل ثناؤه. - ابن عباس وعن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، "بالغيب": أما الغيْبُ فما غابَ عن العباد من أمر الجنة وأمرِ النار، وما ذكر الله تبارك وتعالى في القرآن. لم يكن تصديقهُم بذلك -يعني: المؤمنين من العرب- من قِبَل أصل كتابٍ أو عِلْم كان عندَهم. - عن قتادة في قوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}، قال: آمنوا بالجنّة والنار، والبَعْث بعدَ الموت، وبيوم القيامة، وكلُّ هذا غيبٌ. - عن الربيع بن أنس {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}: آمنوا بالله وملائكته ورُسُلِه واليومِ الآخِر، وجَنّته وناره ولقائه، وآمنوا بالحياة بعد الموت. فهذا كله غيبٌ. ¬

_ (¬1) القاموس المحيط، الفيروزآبادي، مادة (غيب) ص 155، معجم مقاييس اللغة لابن فارس، 4/ 403.

وأصل الغيب: كُلّ ما غاب عنك من شيءٍ. وهو من قولك: غاب فُلان يغيبُ غيبًا" (¬1). وقد ساق ابن كثير -رحمه الله- نفس كلام الطبري وزاد "وقال عطاء بن أبي رباح: من آمن بالله فقد آمن بالغيب. . . . وعن عبد الرحمن بن يزيد قال: كنا عند عبد الله بن مسعود جلوسًا، فذكرنا أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وما سبقوا به، قال: فقال عبد الله: إن أمر محمَّد - صلى الله عليه وسلم - كان بيِّنًا لمن رآه، والذي لا إله غيره ما آمن أحد قط إيمانًا أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)} [البقرة 1 - 5] " (¬2). قال ابن تيمية -رحمه الله-: ". . وأصل الإيمان هو الإيمان بالغيب كما قال -تعالى-: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} والغيب الذي يؤمن به ما أخبرت به الرسل من الأمور العامة، ويدخل في ذلك الإيمان بالله وأسمائه وصفاته، وملائكته، والجنة والنار، فالإيمان بالله وبرسله وباليوم الآخر يتضمن الإيمان بالغيب؛ فإن وصف الرسالة هو من الغيب، وتفصيل ذلك هو الإيمان بالله وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، كما ذكر الله تعالى ذلك في قوله: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} وقال: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} " (¬3). وقال الألوسي -رحمه الله- في {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}: "وفسره جمع هنا بما لا يقع تحت الحواس ولا تقتضيه بداهة العقل" (¬4). وقال السعدي -رحمه الله-: "ويدخل في الإيمان بالغيب، الإيمان بجميع ما أخبر الله به من الغيوب الماضية والمستقبلة، وأحوال الآخرة، وحقائق ¬

_ (¬1) تفسير الطبري 1/ 101 - 102 باختصار الأسانيد. (¬2) تفسير ابن كثير ص 35. (¬3) الفتاوى 13/ 232 - 233. (¬4) روح المعاني 1/ 189.

أوصاف الله وكيفيتها، وما أخبرت به الرسل من ذلك، فيؤمنون بصفات الله ووجودها، ويتيقنونها، وإن لم يفهموا كيفيتها" (¬1). يتميز الذين يؤمنون على الذين لا يؤمنون بالغيب، فهو قضية فاصلة، والأصل في معرفة الغيب أخذه من الكتاب والسنة، فهما مصدرًا الغيب وفيهما الكفاية، وكل بحث في قضايا الغيب بعيدًا عن الوحي فمصيره الضلال؛ لوجود مسافة شاسعة بين عظمة الغيب وبين محدودية الإنسان، ولا يعني هذا أن الخبر السماوي عاريًا من الدلالة البرهانية على المطالب الإلهية، بل إنه يحوي من الدلالة على ذلك ما يكفي ويغني عن غيره، وقد ظن البعض أن دلالة الأدلة السمعية هي خبرية فقط، بينما الحق أنها مع الخبر تحوي من الأدلة العقلية والحسية ما يكفي لإثبات المطالب الإلهية ويغني عن غيره (¬2). وقد جعل الإِسلام من الغيب قضية أساسية، وهذا الأساس يرتبط بأساس آخر -ذكره وحيد الدين خان- أنه يجب أن يعترف الإنسان بأنه مع الإيمان بالغيب أيضًا لا يستطيع أن يكتشف قانون الحياة بنفسه، {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116)} [النحل: 116]، "وفي العصر الحديث اعتبروا هذين الأساسين من أساطير الدين الفاقدة للأساس العلمي. ولكن الاكتشافات العلمية الحديثة تؤكد أن الأسلوب العلمي الوحيد للإنسان هو الذي أشار إليه القرآن، ولا أسلوب آخر سواه من الناحية العلمية" (¬3)، فلا دين دون غيب كما أن حياة الإنسان الحقيقية لا تقوم إلا بالإيمان بالغيب، ولا حياة سليمة وكاملة دون شرع، ونعود للغيب مع آية البقرة: قال ابن عاشور -رحمه الله-: "مجيء صلة الموصول فعلًا مضارعًا لإفادة أن إيمانهم مستمر متجدد كما علمت آنفًا؛ أي: لا يطرأ على إيمانهم شك ولا ريبة. وخص بالذكر الإيمان بالغيب دون غيره من متعلقات الإيمان؛ لأن الإيمان بالغيب أي ما غاب عن الحس هو الأصل في اعتقاد إمكان ما تخبر به الرسل ¬

_ (¬1) تفسير السعدي ص 40. (¬2) انظر مثلًا: لابن تيمية -رحمه الله-، الفتاوي 9/ 226 - 227. (¬3) انظر: بحث لوحيد الدين خان ضمن كتاب وجوب تطبيق الشريعة والشبهات المثارة حول تطبيقها ص 302.

عن وجود الله والعالم العلوي، فإذا آمن به المرء تصدى لسماع دعوة الرسول، وللنظر فيما يبلِّغه عن الله تعالى فسهل عليه إدراك الأدلة، وأما مَن يعتقدُ أن ليس وراء عالم الماديات عالم آخر، وهو ما وراء الطبيعة فقد راض نفسه على الإعراض عن الدعوة إلى الإيمان بوجود الله وعالم الآخرة كما كان حال الماديين. . . ." (¬1). وقال السعدي -رحمه الله-: "وليس الشأن في الإيمان بالأشياء المشاهدة بالحس، فإنه لا يتميز بها المسلم من الكافر. إنما الشأن في الإيمان بالغيب، الذي لم نره ولم نشاهده، وإنما نؤمن به، لخبر الله وخبر رسوله. فهذا الإيمان الذي يميز به المسلم من الكافر؛ لأنه تصديق مجرد لله ورسله. فالمؤمن يؤمن بكل ما أخبر الله به، أو أخبر به رسوله، سواء شاهده، أو لم يشاهده وسواء فهمه وعقله، أو لم يهتد إليه عقله وفهمه. بخلاف الزنادقة والمكذبين بالأمور الغيبية؛ لأن عقولهم القاصرة المقصرة لم تهتد إليها، فكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، ففسدت عقولهم، ومرجت أحلامهم. وزكت عقول المؤمنين المصدقين المهتدين بهدى الله" (¬2). ولسيد قطب كلام يناسب الأوضاع العصرية فيقول: " {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} .. والإيمان بالغيب هو العتبة التي يجتازها الإنسان، فيتجاوز مرتبة الحيوان الذي لا يدرك إلا ما تدركه حواسه، إلى مرتبة الإنسان الذي يدرك أن الوجود أكبر وأشمل من ذلك الحيز الصغير المحدد الذي تدركه الحواس -أو الأجهزة التي هي امتداد للحواس- وهي نقلة بعيدة الأثر في تصور الإنسان لحقيقة الوجود كله ولحقيقة وجوده الذاتي، ولحقيقة القوى المنطلقة في كيان هذا الوجود، وفي إحساسه بالكون وما وراء الكون من قدرة وتدبير. كما أنها بعيدة الأثر في حياته على الأرض؛ فليس من يعيش في الحيز الصغير الذي تدركه حواسه كمن يعيش في الكون الكبير الذي تدركه بديهته وبصيرته؛ ويتلقى أصداءه وإيحاءاته في أطوائه وأعماقه، ويشعر أن مداه أوسع في الزمان والمكان من كل ما يدركه وعيه في عمره القصير المحدود، وأن وراء الكون ظاهره وخافيه، حقيقة أكبر من الكون، هي التي صدر عنها، واستمد من وجودها وجوده .. حقيقة ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير 1/ 230. (¬2) تفسير السعدي ص 40.

[مسألة] وللغيب أقسام

الذات الإلهية التي لا تدركها الأبصار ولا تحيط بها العقول" إلى أن قال: "لقد كان الإيمان بالغيب هو مفرق الطريق في ارتقاء الإنسان عن عالم البهيمة. ولكن جماعة الماديين في هذا الزمان، كجماعة الماديين في كل زمان، يريدون أن يعودوا بالإنسان القهقرى .. إلى عالم البهيمة الذي لا وجود فيه لغير المحسوس! ويسمون هذا "تقدمية" وهو النكسة التي وقى الله المؤمنين إياها فجعل صفتهم المميزة، صفة: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} والحمد لله على نعمائه، والنكسة للمنتكسين والمرتكسين! " (¬1). [مسألة] وللغيب أقسام: فمنه الغيب المطلق الذي هو غيب عن جميع الخلق، ولا يعلمه أحد، وذلك مما استأثر الله بعلمه، ومنه ما عرفه رسله وأخبرونا به دون أن نستطيع معرفته بغير طريقتهم، كصفة الاستواء لله رب العالمين، وكعالم الملأ الأعلى، وكعلامات الساعة، مثل المسيح الدجال والدابة، فلا يعلم ذلك إلا من جهة الرسل، ولا يعرف البشر شيئًا منه بعقولهم وأدواتهم، فطريقهم لما علم منه هو الخبر المحض، فيكون مطلقًا من هذا الوجه، قال -تعالى-: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)} [الجن: 26 - 28]، وقال الله تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65]، وقال -تعالى-: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)} [الرعد: 9]. ومنه الغيب النسبي الذي يعرفه البعض ويغيب عن آخرين، فهذا غيب لمن غاب عنه وليس غيبًا لمن شاهده وعلمه من الخلق من الملائكة أو الإنس أو الجن. قال شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله- حول قوله -تعالى-: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} "وهو سبحانه قال: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ} ولم يقل "ما" فإنه لما اجتمع ما يعقل وما لا يعقل غلب ما يعقل وعبر عنه بـ"من" لتكون أبلغ ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن 1/ 39 - 40.

فإنهم مع كونهم من أهل العلم والمعرفة لا يعلم أحد منهم الغيب إلا الله. وهذا هو الغيب المطلق عن جميع المخلوقين الذي قال فيه: {فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا}. والغيب المقيد ما علمه بعض المخلوقات من الملائكة أو الجن أو الإنس وشهدوه، فإنما هو غيب عمن غاب عنه ليس هو غيبًا عمن شهده. والناس كلهم قد يغيب عن هذا ما يشهده هذا فيكون غيبًا مقيدًا؛ أي: غيبًا عمن غاب عنه من المخلوقين لا عمن شهده، ليس غيبًا مطلقًا غاب عن المخلوقين قاطبة. وقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}؛ أي: عالم ما غاب عن العباد مطلقًا ومعينًا، وما شهدوه فهو سبحانه يعلم ذلك كله" (¬1). فالإِسلام يقر بالغيب، ويقرر وجود غيب مطلق، نعلمه بالخبر الصحيح، وقد بثّ الله من الدلائل عليه في الآفاق والأنفس، وأنزل من الموازين والدلالات العقلية والحسية، ما يثبت لكل طالب حق وباحث عنه بوجود حقيقة الغيب الذي جاء به الخبر، حتى وإن لم نره، فقد أصبح الغيب أصلًا مهما من أصول الإِسلام، لا تقوم حياة الإنسان الكاملة إلا بالإقرار به، ومن ثم لا يصح دينه ولا تقوم نجاته إلا بالتصديق بالغيب، ولن تصلح حياة الناس إلا بالإقرار بالغيب. ومن هنا نعلم سبب المكانة العظيمة للغيب في الإِسلام، وأنها أساس الإِسلام الذي لا يقوم إلا بالإيمان بالغيب، يقول سيد قطب: "حقيقة الغيب من "مقومات التصور الإِسلامي" الأساسية؛ لأنها من مقومات العقيدة الإِسلامية الأساسية؛ ومن قواعد "الإيمان" الرئيسية .. وذلك أن كلمات "الغيب" و"الغيبية" تلاك في هذه الأيام كثيرًا -بعد ظهور المذهب المادي- وتوضع في مقابل "العلم" و"العلمية" .. والقرآن الكريم يقرر أن هناك "غيبًا" لا يعلم "مفاتحه" إلا الله. ويقرر أن ما أوتيه الإنسان من العلم قليل .. وهذا القليل إنما آتاه الله له بقدر ما يعلم هو -سبحانه- من طاقته ومن حاجته. وأن الناس لا يعلمون -فيما وراء العلم الذي أعطاهم الله إياه- إلا ¬

_ (¬1) الفتاوى، 16/ 110، وانظر: أسس المنهج القرآني. . . .، د. منتصر مجاهد ص 43.

ظنًا، وأن الظن لا يغني من الحق شيئًا .. كما يقرر -سبحانه- أن الله قد خلق هذا الكون، وجعل له سننًا لا تتبدل؛ وأنه علم الإنسان أن يبحث عن هذه السنن ويدرك بعضها؛ ويتعامل معها -في حدود طاقته وحاجته- وأنه سيكشف له من هذه السنن في الأنفس والآفاق ما يزيده يقينًا وتأكدًا أن الذي جاءه من عند ربه هو الحق .. دون أن يخل هذا الكشف عن سنن الله التي لا تبديل لها، بحقيقة "الغيب" المجهول للإنسان، والذي سيظل كذلك مجهولًا، ولا بحقيقة طلاقة مشيئة الله وحدوث كل شيء بقدر غيبي خاص من الله، ينشئ هذا الحدث ويبرزه للوجود .. في تناسق تام في العقيدة الإِسلامية، وفي تصور المسلم الناشئ من حقائق العقيدة .. إن الله سبحانه يصف المؤمنين في مواضع كثيرة من القرآن بأنهم الذين يؤمنون بالغيب؛ فيجعل هذه الصفة قاعدة من قواعد الإيمان الأساسية". إلى أن قال: "على أن الغيب في هذا الوجود يحيط بالإنسان من كل جانب .. غيب في الماضي وغيب في الحاضر، وغيب في المستقبل .. غيب في نفسه وفي كيانه، وغيب في الكون كله من حوله .. غيب في نشأة هذا الكون وخط سيره، وغيب في طبيعته وحركته .. غيب في نشأة الحياة وخط سيرها، وغيب في طبيعتها وحركتها .. غيب فيما يجهله الإنسان، وغيب فيما يعرفه كذلك! ويسبح الإنسان في بحر من المجهول .. حتى ليجهل اللحظة ما يجري في كيانه هو ذاته فضلًا على ما يجري حوله في كيان الكون كله؛ وفضلًا عما يجري بعد اللحظة الحاضرة له وللكون كله من حوله: ولكل ذرة، وكل كهرب من ذرة؛ وكل خلية وكل جزئي من خلية! إنه الغيب .. إنه المجهول .. والعقل البشري. . . . إنما يسبح في بحر المجهول. فلا يقف إلا على جزر طافية هنا وهنالك يتخذ منها معالم في الخضم. ولولا عون الله له، وتسخير هذا الكون، وتعليمه هو بعض نواميسه، ما استطاع شيئًا .. ولكنه لا يشكر .. {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13]، بل إنه في هذه الأيام ليتبجح بما كشف الله له من السنن، وبما آتاه من العلم القليل .. يتبجح فيزعم أحيانًا أن "الإنسان يقوم وحده" ولم يعد في حاجة إلى إله يعينه! ويتبجح

ارتباط الانحراف في الغيب بالانحراف في الربوبية

أحيانًا فيزعم أن "العلم" يقابل "الغيب" وأن "العلمية" في التفكير والتنظيم تقابل "الغيبية" وأنه لا لقاء بين العلم والغيب؛ كما أنه لا لقاء بين العقلية العلمية والعقلية الغيبية! " (¬1). ارتباط الانحراف في الغيب بالانحراف في الربوبية: يرتبط الانحراف في الغيب بالانحراف في الربوبية، فالانحراف في الربوبية يؤثر في الغيب كله، وقد اتسع الفساد في هذا الباب مع ظاهرة الإلحاد الحديثة، وهي ظاهرة غزت في فترة الطفرة العلمية الحديثة مجالات مختلفة من الفكر الغربي الحديث، وإذا دخل الإلحاد إلى مجال الفكر، وأصبح موضة للمفكرين، فمن المنطقي انعدام جدوى الإيمان بقضايا الغيب الدينية كلها، وقد عُرض شيء من ذلك الإلحاد ودعوى ارتباطه بالعلم في الباب الأول، ثم الانكسار التدريجي لهذه الظاهرة المرضية. لقد ذكر وحيد الدين خان هذا التحدي الجديد الذي يواجه المسلمين وهو الإلحاد، والذي تزعمه مجموعة من الملحدين البارزين في الفكر الغربي، ثم قال: "والتحدي الذي يواجه الإِسلام اليوم في مواجهة الإلحاد يطابق إلى حدّ ما التحدي الذي واجهه عند بدء الرسالة في مواجهة الشرك، الذي كان يحظى بقبول الرأي العام العالمي في ذلك العصر. وكان الشرك قويًا لدرجة أن المنادِين بالتوحيد كانوا يُحَرَّقون أو تُقطَّع أجسادُهم وهم أحياء" وبدعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - قامت أمة، وظهر الإِسلام على الأرض، ونجحت هذه الأمة الجديدة في إزالة الشرك وسلطته من واقعها، وقد أثر ذلك على واقع الشرك في العالم، واليوم يواجه المسلمون الإلحاد تحت مسميات مختلفة ومنها مسمى العلمية، وعلى المسلمين الانتباه له من جهة وإنقاذ العالم من آثاره من جهة أخرى (¬2). وإذا كان الإلحاد بدعواه لإزاحة الإيمان بالله من الوجود قد حسم بقية ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن: 2/ 1113 - 1115، وانظر: الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى، الشيخ محمَّد الشعراوي ص 43 - 46، وانظر: صراع مع الملاحدة حتى العظم، عبد الرحمن الميداني ص 26 - 33. (¬2) انظر: بحث الشيخ وحيد الدين خان صمن كتاب: وجوب تطبيق الشريعة والشبهات المثارة حول تطبيقها ص 301.

القضايا الغيبية الدينية، ورمى بها لعالم مجهول تتخبط فيه العقول بفلسفاتها والعلوم بنظرياتها، فإن الإيمان بالله هو أساس كل القضايا الغيبية، وإذا سقط هذا الأساس سقط بقية الغيب، وهناك بجانب هذا الإلحاد الكلي إلحاد في الربوبية، يُثبت أصحابه وجود الرب سبحانه، ولكنهم يريدون الإيمان به كما تتوهمه عقولهم وليس كما أخبرنا سبحانه عن ذاته، فالأصل الصحيح في باب الإيمان بالله أن يكون كما أخبرنا سبحانه عن نفسه، وليس كما تتوهم عقول البشر (¬1)، يقول أحد المتأثرين بالتغريب والنظرة العلمية المزعومة: "وفي الوقت الذي استوعب فيه الغرب أشكالًا مختلفة للعلاقة بين الله والعالم، مثل صورة الإله الذي يحكم العالم بالرياضيات، أو مهندس العالم عند ديكارت، أو صورة الصانع الذي لا يخطئ لساعة كبرى تظل تؤدي عملها بكفاءة وثبات، هي الكون عند ليبنتس، فإن العالم الإِسلامي لا يسمح بمثل هذا التغيير في شكل العلاقة بين العالم بسهولة، ولا يدمج هذه الصورة المتغيرة التي تعمل حسابًا لتطورات العلم في إطار العقيدة الدينية كما فعل هؤلاء الفلاسفة. في حين أن كبار مفكري الغرب المتدينين يقبلون بسهولة الفكرة القائلة بأن عناصر كثيرة من الأفكار الدينية ينبغي أن تتغير نتيجة للمعرفة الجديدة التي جلبها العلم والتقنية، فإن مثل هذه الأفكار مرفوضة -من حيث المبدأ- في معظم الأوساط الدينية الإِسلامية" (¬2). [ثلاثي الانحراف]: إن إنكار الرب سبحانه أو الاعتقاد في ربوبيته بما تتوهمه العقول -وليس كما حدثنا الرب عن ذاته- يؤثران في بقية الغيب يصاحب ذلك الإغراق في الحسّ، فهذه ثلاثة أمراض: التكذيب بوجوده أو الانحراف في ربوبيته أو الإغراق في الحسّ. أما مع الأول فقد حُسم أمر الغيب معه؛ فإنه بإنكار وجود الرب لم يعد هناك مبرر للقول بغيب ديني، ومع ذلك فقد يقدمون الحجج العلمية المزعومة لنشر إلحادهم أو للدفاع عن موقفهم. أما مع الثاني وهو التكذيب بالربوبية لاسيّما في أبواب الخلق والقدرة والإرادة، فيفتحون ¬

_ (¬1) ساد في الكتابات المعاصرة إطلاق الإلحاد على إنكار وجود الله سبحانه، ولكن معنى الإلحاد في اللغة العربية: الميل، فيكون الميل بالعقائد من الحق إلى البدعة أو إلى الكفر أو إلى الشرك هو من الإلحاد بهذا المعنى. (¬2) خطاب إلى العقل العربي، فؤاد زكريا ص 69، أو الصحوة الإِسلامية في ميزان العقل، له ص 130.

للتخرصات العقلية حول صورة هذه الغيبيات، ويُدخِلون العلم الحديث طرفًا مفسرًا أو شارحًا لتصورهم عن هذه الغيبيات، ويغلب على النتائج التي يصلون إليها أنها معارضة لما جاء به الأنبياء، وبانحرافهم في باب الخلق: هربوا من إثبات خلقه للعالم المادي وعالم الحياة إلى أمور غامضة أو إلى الإلحاد، وفي باب القدرة: حيث أغرتهم السنن، فاكتفوا بتفسيرها كقوانين أو قوى طبيعية حتمية تدير العالم الصغير والكبير، دون أي إمكانية لفعل شيء فيها حتى من قبل الرب، وفي باب الإرادة حيث قيدوا هذه الإرادة بما تتخيله عقولهم. أما الثالث، فهناك أمر مشترك عند أغلب المكذبين بالغيب وهو الانحباس في عالم الشهادة، يستوي في ذلك الأمي القديم الذي يعبد صنمًا مع المتحضر المتبحر في العقليات والعلميات الذي ينكر وجود الرب والغيب، فالأول يصرّ على أن يكون إلهه محسوسًا لغلظة الحسّ عليه، والثاني ينكر ذلك للسبب نفسه، والاستغراق في عالم الشهادة والمادة والحسّ، وطول إلفه ذلك، والإخلاد إليه، يفسد على صاحبه الإيمانَ بالغيب والتصديق به، فيقع بين طرفي نقيض، فإما جلب ذاك الغيب بصور شتى إلى عالم الشهادة وإما نفي ذاك الغيب مطلقًا. لقد طلب اليهود قبل ثلاثة آلاف سنة طلبًا مكابرًا من أبواب الغيب فقالوا لنبيهم: أرنا الله جهرة، قال -تعالى- عنهم: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153)} [النساء: 153]، وقال -تعالى-: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55)} [البقرة: 55]، يقول "وحيد الدين خان ": "وفي العصر الحديث أعيدت هذه المطالبة باسم العلم. فحين اكتشفت العلوم الحديثة كثيرًا من أسرار الكون التي لم يكن الإنسان القديم يعرفها، زعموا أن العلوم قد قضت على حدود الحواس البشرية، وأن الإنسان سيتمكن الآن من المشاهدة المباشرة لكل الأشياء الموجودة. وزعموا أنه لا وجود للأشياء التي لا تخضع للمشاهدة. . . . وحين تمكنت الأجهزة الحديثة من مشاهدة أصغر الأجسام إلى الأجرام البعيدة، ولكنها لم تشاهد الحقائق الدينية زعموا أنه لا وجود لهذه الحقائق" إلى أن قال: "ولكن القرن العشرين قد مضى على هذا المنهج الفكري بعد اكتشاف حقائق كثيرة تبطل النظريات القديمة. . . . "، ثم

عرض بعض الأفكار والاكتشافات العلمية الجديدة التي تنقض هذا الرأي، ثم قال: "وإذا كان الكون يتكون من حقائق لا نشاهد معظمها مباشرة، فما هو السبيل لمعرفة الأشياء الأخرى التي لا نشاهدها؟. . . . "لقد تقلصت دائرة التجربة في التعامل مع الحقائق الكونية الأبدية، واتسعت دائرة التأمل" وبهذا اعترف العلم الحديث أنه لابد من الإيمان بالغيب؛ أي: الإيمان بحقائق الكون بمشاهدة ظواهره" (¬1). ومن بين الأمثلة على إنكار كل الغيب بحجة العلمية نجد الكلام الإلحادي لـ"هكسلي" في كتابه: "الإنسان في العالم الحديث"، فيقول: "هل يستطيع الدين أن يلقي ضوءًا على الأزمة الحالية في الدين، وعلى حلها الممكن في المستقبل؟ والحالة الخاصة التي تواجه الدين في المدنية الغربية هي ما يأتي: أن الاعتقاد في الله قد أدى كل ما يستطيع من فائدة، وليس في وسعه أن يفعل أكثر من ذلك. والإنسان خلق القوى الخارقة للطبيعة؛ ليلقي عليها عبء ما لا يستطيع فهمه. فاعتقد الإنسان البدائي في السحر، ثم في الأرواح الشخصية، ثم انتقل من الأرواح إلى آلهة كثيرة، ومن الآلهة الكثيرة إلى إله واحد. وبعبارة بسيطة انتهى التطور. والمرحلة الخاصة التي تهمنا في هذا التطور هي مرحلة الآلهة. ولقد كانت الآلهة في عصر ما من حضارتنا الغربية تخيلات ضرورية، وفروضًا نافعة تساعد على الحياة. إلا أن الآلهة ليست ضرورية أو مفيدة، إلا في إحدى مراحل التطور. ولكي يكون للآلهة قيمة عند الإنسان، لابد من ثلاثة أشياء: يجب أن تبقى كوارث العالم الخارجي غير مفهومة، وألا يمكن منعها حتى تكون مزعجة للغاية، أو أن تكون قسوة الحياة العامة وعجزها بحيث يحولان دون تصديق أن في الإمكان تحسين هذا العالم. وعندئذ يستطيع الإله -ولا تستطيع الحياة الاجتماعية- أن يهيئ من الوسائل ما يلزم لإصلاح الحال. . . .". ويربط بين تقدم العلم والإلحاد وإنكار الغيب فيقول: "ولقد أوصلنا تقدم العلوم، والمنطق، وعلم النفس، إلى طور أصبح فيه الإله فرضًا عديم الفائدة، ¬

_ (¬1) من بحث لوحيد الدين خان ضمن كتاب وجوب تطبيق الشريعة والشبهات المثارة حول تطبيقها ص 302 - 303.

وطردته العلوم الطبيعية من عقولنا حتى اختفى كحاكم مدبر للكون، وأصبح مجرد أول سبب أو أساسًا عامًا غامضًا. ولقد أدت زيادة المعرفة إلى إدراك أن السحر عقيدة باطلة، وأن منع الكوارث لا يتحقق إلا بالعلم وتطبيقاته، وأن الطقوس الدينية التي تصحب تقديم القرابين، وصلاة الاستغفار، عديمة المعنى. وأن تحليل العقل البشري، وما كشفه عن قدراته على رسم الخطط وإشباع الرغبات، وما كشفه عن العقل الباطن والكبت، يجعل ألا داعي للاعتقاد بأن الانحراف وما إلى ذلك يرجع إلى قوة روحية خارجية، وأنه ليس من العلم في شيء أن ننسب التوفيق في الأعمال إلى هداية من الله. ولقد أدى المنطق اللاهوتي إلى الاعتقاد بوحدانية الله، وهذا غير مفهوم، ومن بعض النواحي أقل قيمة عملية من الشرك! "وإذا سلمنا بوجود إله من أي نوع، فالنتيجة المنطقية لذلك، الاعتقاد بوحدانية الله. ولكن لم هذا الاعتقاد في وجود الله؟ ولماذا الاعتقاد في كائنات خارقة للطبيعة لها صلة بمصير الإنسان وأمانيه؟ ويتوقف الاعتقاد في وجود الله على تشخيص الظواهر غير الشخصية، والتشخيص مقدمة للاستدلال على وجود إله. ولكن هذا ليس إلا مجرد فرض. وأنه إذا كان مفيدًا في العصور الأولى، فإنه الآن غير مفيد. ثم إنه يثير من الصعاب أكثر مما يحل. ويجب على الدين -لكي يستمر عنصرًا مهمًا في حياة المجتمع- أن يتخلى عن فكرة الله. أو على الأقل يقصيها إلى مركز ثانوي، كما حدث للسحر الذي سيطر على العقول في الزمن الماضي. "والإله، والآلهة، والملائكة، والجن، والأرواح. وغيرها من الأشياء الصغيرة الروحية من عمل الإنسان، وناشئة حتمًا عن نوع من الجهل، ودرجة من العجز أمام بيئته الخارجية. وبإحلال المعرفة محلّ الجهل في هذا الميدان، وزيادة سيطرة على بيئته نتيجة لتفكيره، يتلاشى الإله كما تلاشى الشيطان قبله، وآلهة الدنيا القديمة، وجنيات الغابات والبحيرات، والأرواح المحلية" (¬1). ¬

_ (¬1) الإنسان في العالم الحديث، هكسلي ص 221 - 223، وانظر: مقومات التصور الإِسلامي، سيد قطب ص 52 - 53، وانظر: جدلية القرآن، د. خليل أحمد ص 158 - 160، وهو ممن يستعيد مثل هذه المقولات بنوع من الحماس، وقد استعرض "وحيد خان" مقولات "هكسلي" ونقدها في كتابه: الإِسلام يتحدى ص 25 وما بعدها.

وقد أطلت من هذا النموذج؛ لأنه يغني عن عشرات النقول عن المتغربين، فهم لم يتجاوزوا هذا الكلام، حيث سنجد هذا النموذج الشاذ يدخل في كتابات تغريبية عربية، حذو القذة بالقذة، ومع ذلك فهذا الكلام غير مُستَغرب من الملاحدة، فهو موجود في كل زمن، وإنما القصد هنا أن مثل هذه الدعاوى تتلبس بالعلم. وقد أورد سيد قطب منقولات عن ديورانت تصل لنتيجة: أن تلك الدعاوي التي تتلبس العلم، قد جاء العلم نفسه بإبطالها. ومن كلام ديورانت: "يقول برتراند رسل: "يقترب علم الطبيعة من المرحلة التي يبلغ فيها الكمال". وجميع الدلائل تدل على العكس من ذلك .. أما هنري بوانكاريه فيرى أن علم الطبيعة الحديث في حالة من الفوضى، فهو يعيد بناء جميع أسسه، وفي أثناء ذلك لا يكاد يعرف أين يقف. وقد تغيرت الأفكار الأساسية عن الطبيعة تغيرًا تامًا في العشرين السنة الأخيرة، فيما يختص بالمادة والحركة كلتيهما. ولم تعد تسمح أعمال كوري ورذرفورد وسودي وأينشتين ومينكوفكس لأي تصور قديم عن الطبيعة النيوتونية بالبقاء" (¬1)، ويعلق سيد على ذلك فيقول: "وبعد، فإن هذا هو موقف العلم من المجهول. . . . بل من المنظور. . . .! وهو الذي يحيلنا عليه أمثال جوليان هاكسلي من "العلماء" المتبجحين المستهترين بقيمة الكلمة في الحقيقة!. . . . وبقي "الإنسان" يريد أن يركن إلى "الحقيقة". يريد أن يستقر على قاعدة في التعامل مع هذا الوجود. يريد أن يعرف مركزه في الكون وغاية وجوده الإنساني. يريد أن يرى "الكل" ويطمئن إليه قلبه. . . . وليس هناك إلا دين الله يريه "الكل". ولم يعد دين الله يتمثل في غير "الإِسلام" .. فهو وحده العقيدة التي سلمت من الإضافات والتحريفات البشرية. وهو وحده الذي يتلقى منه الفكر البشرى مقومات التصور الوحيد الصحيح .. مقومات التصور الإِسلامي. ." (¬2). وإذا أردنا أن نعرف بصورة أدق كيف نبع الانحراف في الغيب من خلال ¬

_ (¬1) عن مقومات التصور الإِسلامي ص 60. (¬2) المرجع السابق ص 61، وانظر: في ظلال القرآن 2/ 1115 - 1119.

المعرفة العلمية العلمانية، فعلينا الرجوع إلى أصولها التي بُنيت عليها، ومن أهمها بحسب الباحث الإِسلامي طه عبد الرحمن أصلان: "لا أخلاق في العلم، ولا غيب في العقل"، والمشكلة أنهما قد تسربا في نمط المعرفة الغربية، مما يجعل أخذها دون فحص ونقد، يعد في غاية الخطورة، من جهة إمكانية تسرب هذين الأصلين الخطيرين إلى ثقافتنا (¬1). ومقتضى الأصل الثاني الذي له علاقة بموضوع الغيب: "أن لكل واحد -أو جماعة- أن يُركب من العلاقات ويقيم من البنيات ما شاء ما عدا أن تكون بعض العناصر المرتبطة بهذه العلاقات أو الداخلة في هذه البنيات لا تفيد تحقيقاتُ التجربة الحسية ولا تقديرات العقل المجرد في الإحاطة بكنهها أو بوصفها" (¬2). وقد تفرع عن هذا الأصل المبدآن المشهوران الآتيان: "أ- مبدأ السببية: وهو يقضي بأن يكون لكل ظاهرة سبب محدد؛ ولما كان القول بالسببية يلزم منه أن "الجواز" لا محل له في الممارسة العقلية المشترطة في العلوم، آثرنا أن نسمي هذا المبدأ "مبدأ السببية الجامدة"، حتى نفرق بينه وبين مبدأ آخر يأخذ بسببية "حرِكة" "بكسر الراء" تزدوج فيها الضرورة بالجواز، كما يزدوج فيها التوجيه الذي يضبط العلاقة السببية، إذ تكون هذه العلاقة موجَّهة من لدن المسبَّب كما هي موجهة من لدن السبب، وإن اختلفت صورةُ هذا التوجيه من أحدهما إلى الآخر. ب- مبدأ الآلية: ينص هذا المبدأ الثاني على أن كل ظاهرة لا تحددها إلا أوصاف وخواص خارجية يمكن أن نراقبها ونضبطها ونتصف فيها بطرق مقررة؛ ولما كان القول بالآلية يلزم منه أن الممارسة العلمية تُنزل كل شيء منزلة الظاهر الذي ينبغي التحكم فيه، ولا تتطلع إلى ما وراءه من الدلالات الخفية ولا إلى ما بَطَن من الأسباب الممتنعة عن المراقبة الآلية، اخترنا أن نطلق على هذا المبدأ اسم "مبدأ الآلية المسبَّبة"، حتى نفرق بينه وبين مبدأ ثان يأخذ بآلية "موجَّهة" "بفتح الجيم" يتزاوج فيها التحكم في ظاهر الأشياء مع الاحتكام إلى باطنها، ¬

_ (¬1) انظر: سؤال الأخلاق، طه عبد الرحمن ص 91 - 92، وانظر: أفي الله شك، د. حمد المرزوقي ص 122. (¬2) سؤال الأخلاق ص 92.

وذلك لتزاوج الأوصاف العلنية فيها مع المقاصد الخفية وتزاوج العلل المشهودة مع الحِكَم "بكسر الحاء" المبثوثة" (¬1). وقد ترتب على هذين المبدأين صور من الانحراف "وتوضيح ذلك أن لمفهوم "الجواز" تعلقًا بالإرادة، حيث إن الظواهر التي يستقرئ العلم الوضعي أسبابها هي من صنع الإرادة الإلهية التي تعلقت بهذه الأسباب، وكان بالإمكان أن تتعلّق بأسباب غيرها لو شاءت هذه الإرادة أن تكون الظواهر على غير ما هي عليه، أو شاءت أن يدركها الإنسان على غير الوجه الذي أدركها عليه، كما أن لمفهوم "الباطن" الذي يقترن بظاهر الأشياء، تعلقًا بالغاية التي أنيطت بكل ظاهرة والتي ترتقي بها إلى عالم القيم المعنوية" (¬2). ولا شك أن في تعطيل الإرادة الإلهية والقول بسببية جامدة له أبعاد غيبية خطيرة لما في ذلك من تحديد القدرة الإلهية والإرادة والخلق (¬3)، ومن أمثلته إنكار كل خارق بحجة معارضته لمثل هذه السببية الجامدة، كما أن القول بالآلية ومنع الحِكم الإلهية من وجود ما أخبر الرب بوجوده من مغيبات ذات غايات لا يمكن لأهل الحتمية فهمها من مثل وجود الوحي والرسالات السماوية وعالم المخلوقات الغيبية واليوم الآخر، وغيرها من الأمور الغيبية التي تعارض حتميتهم. وهذه الأصول مبنية على تصور مادي للعلم موروث من ماديي ووضعيي القرن الثالث عشر / التاسع عشر، وقد شهد العلم في القرن الرابع عشر/ العشرين تحولات مهمة سبق شيء من التوقف معها، أضعفت مثل هذه الأصول المادية، وقد خرجت دراسات فكرية مهمة في هذا الميدان تبيّن المسافة الكبيرة والخطيرة بين رؤيتين للعلم، رؤية اشتهرت لدى ماديي القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، ورؤية جديدة مناقضة لها ما زالت تتشكل إلى اليوم تتعارض تمامًا مع القديمة، ومن بين هذه الدراسات نجد كتاب "العلم من منظوره الجديد" الذي يحدثنا عن الفرق بين الرؤيتين: القديمة المادية والجديدة، فقد انتهت القديمة بحسب مترجم ¬

_ (¬1) سؤال الأخلاق ص 94. (¬2) المرجع السابق ص 95. (¬3) انظر: في ظلال القرآن، سيد قطب 2/ 1119 - 1120.

الكتاب إلى "مذهب مادي صارم يؤمن بأزلية المادة، ويرفض من ثم كل ما هو غيبي، ولا يعترف في تفسيره لمختلف الظواهر إلا بنوعين من العلل، هما: الضرورة والصدفة" (¬1)، ومع القول بالمادية والقول بالحتمية وإنكار الغائية فُتح الباب للإلحاد، مع أن مجموعة من مؤسسي العلم لم يكونوا ملحدين، ولكن تصورهم للعلم قد فتح الباب للإلحاد، ومن ثم فقد ظهر فريقان: فريق "لا أدري" من جهة الإيمان بالله؛ لأن العلم يفسر الأمور دون الحاجة إليه بزعمهم، وفريق وجد أن منطق العلم بصورته السابقة يؤدي للإلحاد، فذهبوا مع هذا المنطق، وقالوا به (¬2)، ولكن حركة العلم المعاصرة حطمت عددًا كثيرًا من مسلمات العلم، لاسيّما في باب السببية الجامدة والحتمية والآلية وإنكار الغائية ودعوى مادية العالم وإنكار ما سواه، فانقلب العلم على العلم وبقي الملحدون في فوضاهم كالعادة، ولكن المهم أن العلم الذي استندوا إليه، قد هدم الأصول التي بنوا عليها موقفهم (¬3). وقد خُتمت المقارنة بين النمطين السابقين بالآتي: "والبشر يلحظون يد الله في ندفة الثلج وفي غروب الشمس وفي حقل الأعشاب. وعظمة الجمال وجلاله يحملان توقيع الله الذي لا شبهة فيه. يقول توماس مان: "الجمال وحده إلهي ومرئي في آن معًا". أما إمرسون فيقدم لنا النصيحة التالية: "إياك أن تفوت أي فرصة لمشاهدة أي شيء جميل؛ لأن الجمال خط بيد الله، إنه قداس يقام على جانب الطريق، رحب بالجمال في كل وجه حسن، وفي كل سماء صافية، وفي كل زهرة جميلة، واشكر الله على ذلك". وهكذا ففي النظرة الجديدة نجد أن أصل الكون وبنيته وجماله تفضي جميعًا إلى النتيجة نفسها، وهي أن الله موجود" (¬4). وهذا الذي يؤكده العلم وتقبله العقول الصحيحة والفطر السليمة هو الذي يؤكده الإِسلام ويبث ذلك في أهله، ويحققون الوسطية بين التصديق بالواقع ¬

_ (¬1) العلم في منظوره الجديد، روبرت وجورج ص 8، ترجمة د. كمال خلايلي. (¬2) انظر: العلم في منظوره الجديد ص 15 - 16، وانظر: ص 53 - 54. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 16 وما بعدها، وانظر: ص 55 وما بعدها، وانظر: العلم في نقد العلم .. ، مني فياض ص 119. (¬4) المرجع السابق ص 72.

والإيمان بالغيب، وهكذا تكون العقلية الإِسلامية تجمع بين الغيب الحق الذي لا يمكن التكذيب به وبين التعامل مع عالم الحس الذي يسير بتسخير الرب العليم الحكيم، "إن العقلية الإِسلامية عقلية "غيبية علمية"؛ لأن "الغيبية" هي "العلمية" بشهادة "العلم" والواقع .. أما التنكر للغيب فهو "الجهلية" التي يتعالم أصحابها وهم بهذه الجهالة! وإن العقلية الإِسلامية لتجمع بين الاعتقاد بالغيب المكنون الذي لا يعلم مفاتحه إلا الله؛ وبين الاعتقاد بالسنن التي لا تتبدل، والتي تمكن معرفة الجوانب اللازمة منها لحياة الإنسان في الأرض، والتعامل معها على قواعد ثابته .. فلا يفوت المسلم "العلم" البشري في مجاله، ولا يفوته كذلك إدراك الحقيقة الواقعة؛ وهي أن هنالك غيبًا لا يُطلع الله عليه أحدًا، إلا من شاء بالقدر الذي يشاء .. والإيمان بالغيب هو العتبة التي يجتازها "الفرد" فيتجاوز مرتبة "الحيوان" الذي لا يدرك إلا ما تدركه حواسه، إلى مرتبة "الإنسان" الذي يدرك أن الوجود أكبر وأشمل من ذلك الحيز الصغير المحدود، الذي تدركه الحواس -أو الأجهزة التي هي امتداد للحواس-، وهي نقلة بعيدة الأثر في تصور الإنسان لحقيقة الوجود كله، ولحقيقة وجوده الذاتي، ولحقيقة القوى المنطلقة في كيان هذا الوجود؛ وفي إحساسه بالكون، وما وراء الكون من قدرة وتدبير. كما أنها بعيدة الأثر في حياته على الأرض، فليس من يعيش في الحيز الصغير الذي تدركه حواسه كمن يعيش في الكون الكبير الذي تدركه بديهته وبصيرته؛ ويتلقى أصداءه وإيحاءاته في أطوائه وأعماقه؛ ويشعر أن مداه أوسع في الزمان والمكان من كل ما يدركه وعيه في عمره القصير المحدود؛ وأن وراء الكون .. ظاهره وخافيه .. حقيقة أكبر من الكون، هي التي صدر عنها، واستمد من وجودها وجوده .. حقيقة الذات الإلهية التي لا تدركها الأبصار، ولا تحيط بها العقول. . . . لقد كان الإيمان بالغيب هو مفرق الطريق في ارتقاء الإنسان عن عالم البهيمة. ولكن جماعة الماديين في هذا الزمان -كجماعة الماديين في كل زمان- يريدون أن يعودوا بالإنسان القهقرى .. إلى عالم البهيمة، الذي لا وجود فيه لغير المحسوس! ويسمون هذا "تقدمية"! وهو النكسة التي وقى الله المؤمنين إياها. فجعل صفتهم المميزة هي صفة: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}. . . . والحمد لله على نعمائه؛ والنكسة للمنتكسين والمرتكسين. . . . إن هنالك حقيقة واحدة مستيقنة هي

من أصول الانحراف في الغيب

حقيقة الغيب، وكل ما عداها احتمالات. وإن هنالك حتمية واحدة هي وقوع ما يقضي به الله ويجري به قدره. وقدر الله غيب لا يعلمه إلا هو. وإن هنالك -مع هذا وذلك- سننًا للكون ثابتة، يملك الإنسان أن يتعرف إليها، ويستعين بها في خلافة الأرض، مع ترك الباب مفتوحًا لقدر الله النافذ، وغيب الله المجهول .. وهذا قوام الأمر كله .. {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} " (¬1). من أصول الانحراف في الغيب: ويمكن إجمال الأصول التي يقع فيها الانحراف في الغيب من ثلاثة جوانب، تحوي شبكة معقدة من المفاهيم والمصطلحات للانحراف في الغيب باسم العلم، وقد تحرك من خلالها المتغربون، إما تأثرًا بها أو استغلالًا لها، بعض هذه الأصول يرتبط بالعالم المحسوس، وبعضها بطريقة النظر، وبعضها يتعلق بنصوص الغيب. فمن بينها في الجانب الأول: مفهوم الطبيعة والصدفة الذي قُدس عند الماديين (¬2)، وأصبحت مفهومًا يوازي باعترافهم ما يعتقده المؤمنون بربهم، لقد وضعوا الطبيعة والصدفة مكان الإله الخالق المدبر القدير القوي الفعال لما يريد، الطبيعة بقوانينها وقواها تُدبر أمرها وتُحدث عجائبها، وتسير وفق حتمية صلبة لا مجال فيها للجواز والإمكان، وهي تملأ الوجود، ممتدة في المكان والزمان، ولهذا من وجد منهم معترفًا بوجود الرب تجده يقول بوحدة الوجود، وقد أُقصي مع مثل هذا الفهم للطبيعة كل أمور الغيب، فما لم يوجد في الطبيعة فلا حقيقة له. وقد ارتبط بهذا التكذيب بالغيب، فبعد اكتشاف الطبيعة لم يعد هناك مجال للإقرار بالغيب. ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن، سيد قطب 2/ 1120 - 1121. (¬2) حول مفهوم "الطبيعة" انظر: المعجم الفلسفي، د. جميل صليبا 2/ 17، وانظر: الموسوعة الفلسفية العربية 1/ 1020، وانظر: نفس المرجع قسم الاصطلاحات والمفاهيم ص 560، وحول مفهوم "الصدفة" انظر: الموسوعة الفلسفية العربية 1/ 23 وفيه عرض للعلاقة بين مفهوم الآلية والمصادفة، وفي المرجع نفسه قسم (الاصطلاحات والمفاهيم) ذكر أن الصدفة رغم تعارضها مع مبدأ الحتمية الطبيعية إلا أنها تفسر ما لا يمكن تفسيره علميًا ص 533 حول مصطلح "صدفة"، وانظر: أفي الله شك ص 114.

ومن بينها في الجانب الثاني: مفهوم العلمية الضيقة الحسية (¬1)، فالعلم هو الحسي التجريبي، ومن ثمّ فكل حديث عن غيب أو ما ورائيات فهو غير علمي، وقد برز ذلك بقوة مع التيارات العلموية الوضعية التي صاحبت التطورات العلمية التجريبية في الغرب، وقد سادت في الفكر الغربي وتأثر بذلك المتغربون وقلدوا تيارات الفكر الغربية، فاستهانوا بالغيب بحجة عدم علميته. ومن بينها في الجانب الثالث: مفهوم الأسطورة، فقد دخل بقوة ميدان العلوم الاجتماعية، وقد أخذ به المتغربون بوصفه مفهومًا يمكن تطبيقه على الغيبيات، فقد كان علم الأساطير يهتم بدراسة الأساطير التي ملأَت الثقافات الوثنية القديمة، ولكن الملاحدة قد وجدوا فيها أداة مناسبة للطعن في الدين، وظهرت من خلال الدراسات المقارنة، فيجمعون كل ما يجدون حول أصل الإنسان، ويخرجون من ذلك بأن ما وجد عند أهل الكتاب له شبه في ديانات غير كتابية، فيصلون من ذلك إلى أن هذا القاسم المشترك دليل على الأسطورة، وهو ميدان واسع يهمنا منه زعمهم أن كل الغيبيات تدخل في الأساطير، وأنه مع تقدم العلوم الطبيعية تبدأ المعرفة الأسطورية في الاختفاء، ومنها الدين، ولكن حدث لمفهوم الأسطورة تطورات في ميدان العلوم الاجتماعية، ومن أهمها محاولة تجاوز القول الذي ارتبط بالتيار الوضعي الذي يرمي الأسطورة في عالم الخرافة، وأصبح الرأي الجديد يرى بأن الأسطورة وإن لم تكن صحيحة وذات واقع موضوعي، إلا أنها مهمة للإنسان، فلا يمكن نفي الأسطورة كما تخيل التيار الوضعي العلموي. ولكن يتفق الطرفان على عدم وجود حقيقة لها، ولكن العلمويين يرفضونها بينما المعاصرون يعترفون بوجود أثر مهم لها، وعدم إمكانية استبعادها، فالإنسان لا يعيش بالعقل فقط، بل بالأسطورة أيضًا. وقد عُرف عند المتغربين التكذيب بالغيب، أو التشكيك فيه، أو تأويله تحت دعوى أسطوريته، فمع انتشار الفكر الماركسي والأبحاث التاريخية من جهة وبعض العلوم الاجتماعية دخل مصطلح الأسطورة أداةً للتكذيب بالغيب (¬2)، وهو ¬

_ (¬1) انظر: المعجم الفلسفي، د. جميل صليبا، (المذهب الحسي) 1/ 470، وانظر: الموسوعة الفلسفية العربية 1/ 510. (¬2) حول معنى "الأسطورة" وعلمها، انظر: معجم الفلسفة، د. جميل صليبا 1/ 79، وانظر: الموسوعة الفلسفية العربية، (الاصطلاحات والمفاهيم) ص 67.

بارز في باب العلوم الاجتماعية المعاصرة، فيذكر أحد المدافعين عن العلمنة دخول هذا المصطلح في الستينات وهي فترة عرف فيها انتشار الفكر اليساري والحداثي فيقول: "فجاء النظر في التراث على اعتبار أنه من أمور الماضي التي ولّت ولا مكان لها في الثقافة العقلية للعصر. واستتبع هذا النظر إلى المفاهيم الإِسلامية العقائدية، كالألوهية والعوالم الروحانية والجن والعفاريت، وأخبار العصور الفائتة، على أنها أساطير -وأصبح ممكنًا النظر إلى قصة إبليس، مثلًا، على أنها قصة مأساوية، تقارب التراجيديا الإغريقية- دونما علاقة بواقع معين. . . . وجاءت أخبار إبراهيم وهود وصالح وغيرهم أخبارًا منسوبة إلى أنبياء ذات أصول عبرية وسومرية وبابلية موظفة في سبيل المشروع السياسي المحمدي. . . ." وغيرها من الأمثلة التي جمعها العظمة عن الرافعين لمفهوم الأسطورة (¬1). ولا يمكن عند أصحاب الأسطورة دراسة التراث دون الاعتماد على مفهوم الأسطورة، حتى الإِسلام، فمع وجود من يقول بأن الإِسلام قد أحدث قطيعة مع الأساطير، فإنه مع منظري الأسطورة غير مسلم به، ويضرب "سيد القمني" أمثلة على ذلك تجعل من الإِسلام مثله مثل غيره فيه أساطير، ومما ذكره "حادثة الإسراء والمعراج. . . . هل نرفضها بمنطق رفض اللامعقول؟ أم نبقي عليها بمنطق الإيمان؟. . . . ثم كيف نصنف دابة البراق -التي حملت الرسول - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى القدس- تصنيفًا علميًا يضعها ضمن فصيلتها الحية. . . ." (¬2)، وقد انطلق في كتابه مقارنًا بين الأساطير، وبين الكثير مما جاء ذكره في الوحي من أخبار الغيب. وقد نجد في كتابات عربية متغربة أسلوبًا ملتويًا، فهم ينقدون قضايا غيبية ¬

_ (¬1) العلمانية من منظور مختلف، د. عزيز العظمة ص 272 وما بعدها، وانظر: مضمون الأسطورة في الفكر العربي، د. خليل أحمد ص 30 كنموذج من دارسي الأسطورة، ومن بين المتحمسين لها نجد صادق العظم في كتابه: نقد الفكر الديني ص 58، وانظر كلام الدكتور محمَّد عمارة حول أحد المتبنين لهذا المفهوم من الماركسيين المعاصرين في كتابه: التفسير الماركسي للإسلام ص 58. أما كلمة التراجيديا فهي: (أعمال درامية، شعرية أو نثرية، تتحرك فيها الأحداث باتجاه خاتمة مشئومة أو تتضمن كارثة وبخاصة في المسرح، اشتهرت مع الإغريق)، انظر: التراجيديا والفلسفة، والتر كاوفمان، ترجمة كامل يوسف ص 9، من كلام المترجم. (¬2) انظر: الأسطورة والتراث، سيد القمني ص 22.

المثال الأول: لويس عوض

لأسطوريتها على أنها وردت في اليهودية أو النصرانية، فمنهم من يسكت على ذلك، وموقفه خطير؛ لأنه يلبس على القارئ، والأصل في قضايا الغيب وجود مرجعية غيبية نصحح بها ما نجده عند الأمم الأخرى، ومن ذلك ما يذكره د. عبد الهادي عبد الرحمن خلال نقده لليهودية، فيقول: "اقرأ أي قصة مفصلية في العهد القديم، ولتكن قصة الخلق، آدم وحواء، الطوفان، الخروج. . . . إلخ، وحاول أن تقرأها بأصولها البابلية الآشورية أو الرافدية، وبأصولها المصرية أو السورية، ستجد أنها جميعًا إعادات إنتاج للأساطير المجاورة. . . . " (¬1). فأصل هذه الأمور حق، أما ما حدث في كُتب أهل الكتاب فذاك من التحريف الذي نعرفه ليس بالرجوع فقط للأساطير المذكورة بل بالرجوع للوحي الثابت، فما وجدناه في الكتاب والسنة عرفنا صحته وما لم نجده مع مخالفة لما في الكتاب والسنة عرفنا بطلانه، والمسكوت عنه في الوحي قد أُذن في شرعنا بذكره دون تصديقه أو تكذيبه، ولكن أهل التغرب يتملصون من ذلك، وقد جمع تركي الربيعو دراسات كثيرة لعدد من اليساريين العرب مثل النموذج السابق وذكر حول بعضها أنها وإن لم تُدخل الإِسلام صراحة فقد أدخلته ضمنًا (¬2)، وإن كان الربيعو نفسه لا يبتعد عنهم كثيرًا، فهو ينظر للأسطورة بحسب المفهوم الأخير عنها، الذي يُبقي الدين ضمن الأسطورة بحقائق غيبية غير حقيقية ولكنها مهمة (¬3). وفي نهاية هذه الفقرة أقدم نماذج تغريبية انحرفت في باب الغيب: المثال الأول: لويس عوض: اعتناق أفكارٍ تكْفرُ بهذا الغيب، وفي ذلك يقول أحد المتغربين: "وكنت. . . . أربي تلاميذي في الجامعة على. . . . المذهب الإنساني. . . . على أساس اشتراكية القرن العشرين. . . . وأحطم أمامهم المقدسات المزيفة القائمة على الغيبيات أو وليدة الخوف أو التقليد" (¬4)، وصاحب الكلام متعصب للعلمانية ¬

_ (¬1) عرش المقدس. . . . د. عبد الهادي عبد الرحمن ص 40. (¬2) انظر: أزمة الخطاب التقدمي. . . .، تركي الربيعو ص 86. (¬3) انظر: أزمة الخطاب التقدمي ص 93، وانظر: الشخصية العربية الإِسلامية. . . .، د. هشام جعيط ص 121 - 127. (¬4) العنقاء. . . .، د. لويس عوض ص 21.

المثال الثاني: هشام شرابي

ونابذ للدين كما ذكر ذلك عن نفسه في سيرته "أوراق العمر"، وبهذا يُفهم مراده من "المقدسات المزيفة" و"الغيبيات" كما سيأتي من أمثلة فيما بعد، وهو يذكر الأداة التي يستخدمها في ذلك وهي اشتراكية القرن العشرين (¬1)، وهي اشتراكية إلحادية لا تؤمن برب ولا بغيب ولا بدين، وكل هذا البلاء يتم مع شباب متحمس يدخل الجامعة ليوسع معارفه ويحصل على ما ينفعه فإذا به يتشرب بمثل هذه الأمراض. المثال الثاني: هشام شرابي: في سياق دراسة قدمها هشام شرابي عن علاقة المثقفين العرب بالغرب امتدح النصارى منهم وبخاصة في باب ترك الماورائيات والاكتفاء بالمحسوس، فيقول: "كان الهم الأساسي لصروف والشميل وأنطون، ومعهم عدد قليل من المثقفين المسيحيين الذين اقتفوا خطاهم، هو نقل انتباه الإنسان بعيدًا عن الدين والماورائيات وتركيزه في قضايا العالم الحقيقي. إنهم كانوا مقتنعين بأن الظلامية التقليدية والتعمية يجب أن تلغيا ليحل محلها التنوير الفكري. وهذا الإدراك جعل أقوالهم أجرأ وأوضح. ومع أن لا أحد أعلن الإلحاد صراحة، فإنهم كشفوا في كتاباتهم عن فقر شديد في المعتقد الديني" (¬2)، ومن صور تكذيبهم بالغيب قناعتهم بوجود تمييز بين ثقافة شعبية جماهيرية وأخرى نخبوية للخاصة، فهي ذهنيتان، وقد امتدح هاشم تمييز أحدهم بين هاتين الذهنيتين، ومن ذلك تكذيب هذا الممدوح باليوم الآخر، وبهذا يرفض العزاء الذي يقدمه الدين لكثير من الناس بوجود عالم آخر يجد المحسن فيه الأجر والمسيء العقوبة (¬3). ولم يقدم المؤلف في كتابه أدلتهم على هذا الإنكار، وإنما غرضه استعراض شجاعتهم كما يزعم وتفوقهم على المسلمين في تقبل الأفكار الشاذة، ومعلوم أن مسألة إنكار الغيب وأصوله قديمة ومتجددة، وسيأتي مناقشة تفاصيل ذلك، وإنما الغرض هنا بيان طريقة احتفاء بعض المثقفين العرب بدور النصارى الذين تبنوا نشر المعارف الجديدة وأدخلوا من خلالها التكذيب بالغيب. ¬

_ (¬1) انظر: لويس عوض -الأسطورة والحقيقة، د. حلمي القاعود ص 69. (¬2) المثقفون العرب والغرب .. ، هشام شرابي ص 156. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 159.

المثال الثالث: حسن حنفي

المثال الثالث: حسن حنفي: في هذا السياق يأتي نموذج فكري منخرط في الرؤى العلمانية الحديثة، ومتزعم لمنهجيات معاصرة ينظر من خلالها للإسلام والقرآن وأمور الدين وأمور الواقع، ومن ذلك نظرته للغيب، ويرجع ذلك إلى التجديد المطلوب، ومن طرق التجديد التي سلكها ثلاث طرق (¬1)، أولها منطق التجديد اللغوي، ويقوم على تغيير هذه اللغة التي غلب عليها الطابع الديني إلى لغة هي في النهاية لغة تستبعد كل العقائد، ومن ذلك الغيب. فمن شرط اللغة الجديدة المجددة أن يكون "لها ما يقابلها في الحس والمشاهدة والتجربة حتى يمكن ضبط معانيها والرجوع إلى واقع واحد يكون محكًا للمعاني ومرجعًا إذا تضاربت وتعارضت. فألفاظ الجن والملائكة والشياطين بل والخلق والبعث والقيامة كلها ألفاظ تجاوز الحس والمشاهدة، ولا يمكن استعمالها لأنها لا تشير إلى واقع، ولا يقبلها كل الناس، ولا تؤدي دور الإيصال"، وذكر ألفاظ الصفات الخبرية وأدخل فيها ما ليس منها، ثم ذكر السمعيات مثل الميزان والصراط وأمور الآخرة، فهي لا تدل على معانٍ حسية (¬2). ومن الثابت أن أغلب أمور الغيب هي مما لا ينطبق عليها معياره الحسي والتجريبي، وهذا يعني إقصاء كل هذه الكلمات، أو تعبئتها بأمور محسوسة، وهذا في حقيقته هو من إنكار الغيب والتكذيب به، وغالبه مما يدخل في أصل فاسد معروف في القديم والحديث، وهو أن ما لا يحس لا نؤمن به، وسيأتي الجواب عليه في فقرة قادمة بإذن الله. المثال الرابع: محمَّد أركون: يدرس أركون الأصول الغيبية ضمن مفاهيم أخذها من المخزون العلماني الغربي الحديث، مثل: الأسطورة، اللامفكر فيه، الدوغمائية، العجيب الخلاب، التعالي، المقدس، وغيرها من المفاهيم، ويصل من خلالها لتأكيد ما هو من المسلمات عنده حول الغيب الديني؛ وهو الإنكار له. ودراسته تهتم فقط بكيفية ¬

_ (¬1) التراث والتجديد، حسن حنفي ص 109. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 121 ص 126.

ظهور مثل هذه الأساطير، وتبعًا لرؤى جديدة حول الأسطورة فهو يتفهم تقبل العقل الإنساني لها بل وحاجته إليها (¬1). ففي دراسة له عن "العجيب الخلاب في القرآن" ويركز فيه على الأمر الخارق للعادة، بحث دور العجيب الخلاب في دعم الغيب وأصوله، فمن خلال إيراد القصص القرآني حول آيات الأنبياء وكرامات الأولياء وتعذيب الكافرين بأمور غير معتادة للناس، يتم استغلال هذا الخارق للعادة في دعم قضايا غيبية كما يقول أركون (¬2)، ففي النهاية لا تلك الأمور الخارقة للعادة بصحيحة ولكنها أداة مهمة لدعم الغيب، وحتى الغيب إنما هو ضمن الفضاء الأسطوري الذي تنجح تلك الخوارق في تعزيزه وتوسيع دائرته، ثم ذكر أهم الأمور الغيبية التي يدعمها العجيب الخلاب، وهي: قصة الخلق الأول، ونشأة الكون، وخلق السماء وما فيها من أفلاك، وقصة خلق الإنسان، والكائنات اللامرئية مثل الملائكة والجن والشيطان وإبليس، وموت الإنسان وعالم البرزخ، وعلامات الساعة ونهاية الزمان، والبعث والحساب والآخرة (¬3)، فقد جمع أركون هنا كل أصول الغيب، وأراد شطبها بكل سهولة من خلال هذا التحليل، من المسلَّم به أن من مقاصد ذكر الخوارق هو الإقرار بالغيب، بل قد عُدّت المعجزة آية صدق النبي وعلامة لصحة ما أخبر به من أمور الغيب، فلا جديد فيما يذكره، ولكن الفاسد من قوله هو عدم الإقرار بحقيقة هذه الأصول الغيبية. مناقشة المشككين في الغيب أو المنكرين له بدعاوى علمية: لمناقشة هذا الباب، أذكر ثلاثة مسارات، ويجمعها أنها الاستدلال بالعالم المخلوق المحسوس المشاهد على عالم الغيب، المخلوق منه وغير المخلوق، أما الأول فهو عن الطريقة الإجمالية للقرآن في إثبات الغيب، وسأكتفي منها بجانب الاستدلال بالمخلوقات على الغيب، والثاني سيكون عن طريق الاستدلال ببعض ما توصل إليه العلم الحديث في عالم المادة، والثالث عن طريق ¬

_ (¬1) انظر مثلًا: تاريخية الفكر العربي الإِسلامي، محمَّد أركون ص 35، 210. (¬2) انظر: الفكر الإسلامي قراءة علمية، محمَّد أركون ص 187 وما بعدها. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 206.

الاستدلال ببعض ما توصل إليه العلم الحديث في عالم الكائنات الحية. أولًا: مجمل الطريقة القرآنية لإثبات الغيب والرد على المخالفين فيه. ثانيًا: دلالة عالم المخلوقات المادية على الغيب. ثالثًا: دلالة المخلوقات الحية على الغيب. أولًا: مجمل الطريقة القرآنية لإثبات الغيب والرد على المخالفين فيه: لقد جاء ذكر الغيب في القرآن، ولا شك أن العاقل يعلم من حال الأنبياء أن ما جاؤوا به من أمور الغيب هو حق، حتى وإن لم يدللوا عليه بدليل، ومع ذلك ولعلم الله سبحانه بوجود المكذبين والمنكرين والكافرين وبوجود من يتأثر بشبهاتهم من الناس، فقد ذكروا مع الغيب أدلة عظيمة تقرّ بها العقول الصحيحة والفطر السليمة، فجاء الرسل بأعظم الأدلة الخبرية والعقلية والحسية والضرورية وغيرها، قال -تعالى-: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)} [النساء: 165]، ولا يجد من يريد الحق إلا الخضوع لها والتصديق بما دلت عليه، ومع ذلك فإن من تأثرت فطرته بالشبهات قد يختلط عليه الأمر، قال شيخ الإِسلام ابن تيمية: "الإقرار بالخالق وكماله يكون فطريًا ضروريًا في حق من سلمت فطرته، وإن كان مع ذلك تقوم عليه الأدلة الكثيرة. وقد يحتاج إلى الأدلة عليه كثير من الناس عند تغير الفطرة، وأحوال تعرض لها" (¬1). يعد النظر في المخلوقات من أعظم الطرق لتحقيق الإيمان بالله ومن أعظم الطرق للإقرار بالغيب؛ لأن من نظر في المخلوقات علم أن جهله بها كبير، وأنها عالَم يصعب الإحاطة به، فإنها وهي المخلوقة المحسوسة نجهل الكثير عنها وهي بين أيدينا فكيف بما غاب عنا، مما تقرّ به العقول واعتنت به الرسالات السماوية، وهو الغيب الديني من الإيمان بالله وعالم الملأ الأعلى والنبوات واليوم الآخر وغيرها من أمور الغيب. إن العالم المخلوق الذي نعلم بعضه ونجهل أكثره ليدل دلالة قطعية عن وجود ما هو أعظم من هذا العالم، وهو غيب يصعب على البشر بحدود أدواتهم المعرفية أن يصلوا إليه، فإنهم لو ¬

_ (¬1) الفتاوي 6/ 73.

تفكروا في المخلوقات لعلموا صعوبة الإحاطة بعلمها فكيف بما هو أعظم منها من شأن الغيب؟! وفي الوقت نفسه يستحيل الإقرار بهذا العالم المخلوق الكبير دون أن يكون خلفه موجد خالق مدبر. لهذا نجد مثل هذا التنبيه المتكرر بالنظر في عالم المخلوقات للاستدلال بها على عالم الغيب، ومن المهم أن يدرك كل أحد أن طريقة القرآن هي أعظم الطرق، فإذا كان القرآن قد أكثر من الاستدلال بعالم المخلوقات على خالقها وعلى الغيب الذي ينكره المنكرون، فهذا يعني أن هذه الطريقة هي أفضل الطرق لمناقشة المكذبين بالغيب والمنكرين له والكافرين به. ومن نظر في الآيات التي تأمر بالنظر في المخلوقات وجد فيها حشدًا كبيرًا من أنواع الأدلة الفطرية والضرورية والحسية والعقلية التي تدل كل عاقل إلى الإقرار بالغيب؛ أي: أن ذكر هذه المخلوقات ودلالاتها على الخالق ليس ذكرًا مباشرًا مما يناسب صاحب المعرفة المحدودة بل إنه آيات متسعة لأنواع من الأدلة يعجز البشر عن الإتيان بمثلها، ويبقى على المسلم النظر فيها وطلب الفتح من الفتاح سبحانه بأن يكشف له من عجائب كتابه المبين "الذي هو حبل الله المتين والذكر الحكيم والصراط المستقيم، الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يخلق عن كثرة الترديد، ولا تنقضي عجائبه، ولا يشبع منه العلماء، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم، ومن تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله" (¬1). عندما واجه الإِسلام الشرك والكفر كان له طرقه في ذلك، ومن أشهرها إلجاؤهم للنظر في هذا العالم المخلوق، ففي ذلك عبرة لصاحب العقل السليم، فيترك الملحد والكافر التكذيب ويترك المشرك عبادة غير الله. ويعلم المسلم في كل زمان أن ما دلنا عليه القرآن هو الأهدى في دعوة هؤلاء، فهو من خالق ¬

_ (¬1) رواه الترمذي برقم (2831) وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وإسناده مجهول وفي الحارث مقال، وضعفه الألباني في مشكاة المصابيح برقم (2138)، وقد ساقه ابن تيمية كاقتباس دون نسبة في افتتاح مقدمة التفسير [الفتاوى 13/ 330]، فمعانيه جميلة وصحيحة.

البشر وهو أعلم بما يصلح حالهم، وإذا كان الانحراف الأبرز زمن النبوة هو الشرك، وفي باب توحيد الألوهية، فإن الانحراف الأبرز هذا الزمان ولاسيّما في الفكر التغريبي وقدوتهم الغربيين هو في باب الربوبية وغالب الغيب، وما جاء في القرآن من الاستدلال بالمخلوقات على الخالق هو ردٌ مباشر على منكري الربوبية والمنحرفين في الغيب، ولكن ليس للوقوف عند هذا الباب، وإنما من أجل الانتقال منه إلى باب توحيد العبادة (¬1). عند النظر في الآيات الكثيرة حول الاستدلال بالمخلوقات على الغيب وعلى الخالق، نجد تعقيبًا لأغلب الآيات يحرك العقل نحو الإقرار بالخالق سبحانه، ومن ثم ما يلزم منه من الإيمان به سبحانه، والاستسلام له وتحقيق عبوديته وتوحيده. ونجد أكثر من صورة للتعقيب ومنها صورتان يكثر ورودهما، صورة ترتبط بالخالق سبحانه، وصورة ترتبط بالمخلوق، أما التي ترتبط بالخالق فيأتي التعقيب ببيان علم الله سبحانه وقدرته وحكمته وواسع إرادته وما في بابها. من مثل: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}، {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}، {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)}، {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86)}، {إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}، {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}، {إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}، {إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ}، {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ}، {وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، {وإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}، {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}، {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}، {وإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}، {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}، {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}، {وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ}، {إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، {فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}، {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)}، {وهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، {وهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ}، {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}، {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}، {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}، {أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ}، وغيرها. وأما التي ترتبط بالمخلوق فالتعقيب بما يتعلق بالإنسان من جهة حثّه على ¬

_ (¬1) من بين أبرز الكتابات في هذا الباب ما كتبه ابن القيم -رحمه الله- في كتابه: (مفتاح دار السعادة)، ومن الكتابات المعاصرة كتاب: الشيخ عبد الرحمن حسن الميداني (براهين وأدلة إيمانية)، وهناك رسالة علمية بعنوان: (الأدلة العقلية النقلية على أصول الاعتقاد) لسعود العريفي.

الثمرة من نَظَره في هذا الخلق، من مثل: {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}، {أَفَلَا يُؤْمِنُونَ}، {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}، {أَفَلَا تَسْمَعُونَ}، {أَفَلَا تُبْصِرُونَ}، {أَفَلَا يَشْكُرُونَ}، {لِأُولِي الْأَلْبَابِ}، {لِأُولِي الْأَبْصَارِ}، {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}، {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}، {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}، {لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}، {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، {لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}، {لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ}، {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}، {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}، {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ}، {لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ}، {لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ}، {لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ}، وغيرها (¬1). خلق السماوات والأرض وخلق الإنسان: لقد نبه الله سبحانه على أمرين من خلقه بأكثر من أسلوب، والعاقل عند إحسانه النظر فيهما، يستسلم لله سبحانه، ويقر بوجوده وربوبيته وألوهيته، ويتوجه بقلبه إليه، ويقر بالغيب الكبير، وهما: "السماوات والأرض". والغالب أنه يراد منها جانبها المادي المحسوس، و"الإنسان" الذي يمثل الكائنات الحية، ومن ذلك قوله -تعالى-: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36)} [الطور: 35 - 36]، وقوله -تعالى-: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)} [الكهف: 51]، وقوله -تعالى-: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)} [فصلت:53]، ففي آيتي الطور تنبيه لكل عاقل بسؤالين مهمين عمن خلق البشر وخلق السماوات والأرض، فمن تفكر في هذين الخلقين لابد أن يصل لحقيقة واحدة، أن الله هو الخالق. وعندما خلق الله الإنسان والسماوات والأرض لم يُشهد المنكرين ولا الضالين، وما نعرفه إنما هو بالخبر أو بما أرانا الله في الآفاق والأنفس. والمقصود أن هذين العالمين المخلوقين "الإنسان والسماوات والأرض" فيهما من الدلالة على خالقهما ما يكفي لكل عاقل نظر فيهما، ولهذا يأتي ذكرهما كثيرًا في القرآن، ليعلم المعتبر بهما أن القرآن حق، وما فيه من غيب حق، وكفى بالله شهيدًا. وعالم المخلوقات المشاهدة تدل على الخالق، وتدل على الغيب المخلوق ¬

_ (¬1) انظر: الفهرس الموضوعي لآيات القرآن الكريم، محمَّد مصطفى ص 57 - 83.

الذي قد خلق أو هو مما سيأتي عليه الخلق مع الزمن، قال -تعالى-: {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8]، قال ابن الجوزي -رحمه الله-: "قوله -تعالى-: {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} ذكر قوم من المفسرين: أن المراد به عجائب المخلوقات في السماوات والأرض التي لم يُطَّلع عليها" (¬1). والآن أستعرض بعض الآيات القرآنية حول تنبيه الإنسان للنظر في المخلوقات، وأثر ذلك في الإيمان بالغيب وأهمه الإيمان بالله سبحانه وتحقيق عبوديته، لنكشف فيها طريقة القرآن في الرد على منكري الغيب أو المنحرفين فيه. ومن المناسب في هذا الباب الافتتاح بكلام مهم للشيخ العلامة الشنقيطي -رحمه الله- حول مثل هذه الآيات، ومن ذلك قوله -رحمه الله- في تفسير قوله -تعالى-: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس: 101]: "أمر الله جل وعلا جميع عباده أن ينظروا ماذا خلق في السماوات والأرض من المخلوقات الدالة على عظم خالقها، وكماله، وجلاله، واستحقاقه لأن يعبد وحده -جل وعلا-. وأشار لمثل ذلك بقوله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} الآية [فصلت: 53]، ووبخ في سورة "الأعراف" من لم يمتثل هذا الأمر وهدده بأنه قد يعاجله الموت فينقضي أجله قبل أن ينظر في ما أمره الله -جل وعلا- أن ينظر فيه لينبه بذلك على وجوب المبادرة في امتثال أمر الله -جل وعلا- وذلك في قوله -تعالى-: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} الآية [الأعراف: 185] " (¬2). وقال -رحمه الله- في آية {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} من سورة [النحل: 11]: "اعلم أن النظر في هذه الآيات واجب، لما تقرر في الأصول "أن صيغة الأمر تقتضي الوجوب إلا لدليل يصرفها عن الوجوب". والله -جل وعلا- أمر الإنسان أن ينظر إلى طعامه الذي به حياته، ويفكر في الماء الذي هو سبب إنبات حبه -من أنزله!؟ ثم بعد إنزال الماء وري الأرض من يقدر على شق الأرض عن النبات وإخراجه منها!؟ ثم من يقدر على إخراج الحب من ذلك النبات!؟ ثم من يقدر على تنميته حتى يصير صالحًا للأكل!؟ {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} ¬

_ (¬1) زاد المسير لابن الجوزي 4/ 328. (¬2) أضواء البيان 2/ 493.

الآية [الأنعام:99]. وذلك في قوله -تعالى-: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)} [عبس: 24 - 32]. وكذلك يجب على الإنسان النظر في الشيء الذي خلق منه، لقوله -تعالى-: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5)} [الطارق: 5]، وظاهر القرآن: أن النظر في ذلك واجب، ولا دليل يصرف عن ذلك" (¬1). وقال -رحمه الله- في تفسير قوله -تعالى-: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13)} [غافر: 13]: "وقد دلت آية المؤمن هذه، وما في معناها من الآيات على أن غير أولي الألباب المتذكرين المذكورين آنفًا، لا يتذكر ولا يتعظ بالآيات، بل يعرض عنها أشد الإعراض. وقد جاء هذا المعنى موضحًا، في آيات كثيرة من كتاب الله، كقوله -تعالى-: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)} [يوسف: 105]. وقوله -تعالى-: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2)} [القمر: 2] وقوله: {وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14)} [الصافات: 14]. وقوله -تعالى-: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)} [يونس: 101] وقوله: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4)} [الأنعام: 4]، في الأنعام ويس إلى غير ذلك من الآيات" (¬2). فمن الآيات في هذا الباب: قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)} [البقرة: 21، 22]. وقال -تعالى-: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)} [البقرة: 164]. ¬

_ (¬1) المرجع السابق 3/ 222. (¬2) المرجع السابق 7/ 78.

وقال -تعالى-: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)} [البقرة: 258]، وليس المقام ذكر ما في طريقة النبي إبراهيم -عليه السلام- فمقام ذلك واسع، ولكن انظر بماذا ناظر إبراهيم الخليل هذا المنكر المكذب، فقد ناقشه بعالم المخلوقات لإثبات الخالق سبحانه، فهذه من طريقة الأنبياء -عليه السلام- كما ستأتي أمثلة أخرى. وقال -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)} [الأنعام: 95 - 99]. وقال -تعالى-: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54]. وقال -تعالى-: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)} [الأعراف: 185]. وقال -تعالى- {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)} [يونس: 3]. وقال -تعالى-: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7)} [يونس: 5 - 7]، ومن الدلالات المهمة التي ترشدنا إليها

هذه الآية خطورة الرضا بالدنيا والافتتان بها ونسيان الآخرة، إذ يغلب عليهم الغفلة عن آيات الله، ومن تأمل حال المنحرفين في الغيب يجد فيهم هذه الصفة، فعندهم تكذيب بلقاء الله واغترار بهذه الحياة. قال السعدي -رحمه الله-: "يقول -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا}؛ أي: لا يطمعون بلقاء الله، الذي هو أكبر ما طمع فيه الطامعون، وأعلى ما أمله المؤملون، بل أعرضوا عن ذلك، وربما كذبوا به {وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} بدلًا عن الآخرة. {وَاطْمَأَنُّوا بِهَا} أي: ركنوا إليها، وجعلوها غاية مرامهم ونهاية قصدهم، فسعوا لها وأكبوا على لذاتها وشهواتها، بأي طريق حصلت حصلوها، ومن أي وجه لاحت ابتدروها، قد صرفوا إرادتهم ونياتهم وأفكارهم وأعمالهم إليها. فكأنهم خلقوا للبقاء فيها، وكأنها ليست دار ممر، يتزود منها المسافرون إلى الدار الباقية التي إليها يرحل الأولون والآخرون، وإلى نعيمها ولذاتها شمر الموفقون. {وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ} فلا ينتفعون بالآيات القرآنية، ولا بالآيات الأفقية والنفسية، والإعراض عن الدليل مستلزم للإعراض والغفلة عن المدلول المقصود" (¬1). وقال -تعالى-: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)} [يونس: 31 - 32]. وقال -تعالى-: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)} [يوسف: 105 - 106]. وقال -تعالى-: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)} [الرعد: 2 - 4]. ¬

_ (¬1) تفسير السعدي ص 358.

وقال -تعالى-: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)} [الرعد: 8 - 9]. وقال -تعالى-: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: 10]. وقال -تعالى-: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)} [الحجر: 14 - 22]، وفي هذه الآيات بيان حال المكذبين، فعندهم من مرض العناد ما يجعلهم حتى عند تحقيق مطالبهم الحسية عن أمور غيبية يكابرون ويدعون بأنهم قد أُغلقت أبصارهم أو سحروا، ثم تحول الخطاب إلى العالم المحسوس الذي يرونه وأن فيه كفاية لو عقلوا وتركوا العناد. وقال -تعالى-: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)} [الحجر: 85 - 86]، وقد ورد هذا المعنى في أكثر من موضع، الاستدلال بهذا العالم المحسوس الذي يدل كل شيء فيه أنه لا عبث فيه، ومن ثم لابد من غيب بعده وخلفه يكون غاية من هذا الحق الذي خلق به الخلق، فجاء هنا ذكر اليوم الآخر عقب ذكر خلق السماوات والأرض وما بينهما، قال الشيخ الشنقيطي -رحمه الله-: "ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أنه ما خلق السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق؛ أي: ليدل بذلك على أنه المستحق لأن يعبد وحده، وأنه يكلف الحق ويجازيهم على أعمالهم. فدلت الآية على أنه لم يخلق الخلق عبثًا ولا لعبًا ولا باطلًا. وقد أوضح ذلك في آيات كثيرة، كقوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)} [ص: 27]، وقوله: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191]، وقوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} الآية: [الدخان: 38 - 39]، وقوله: {أَفَحَسِبْتُمْ

أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)} [المؤمنون: 115 - 116]، وقوله: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31)} [النجم: 31]، وقوله: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37)} [القيامة: 36 - 37]، إلى غير ذلك من الآيات" (¬1). وقال -تعالى-: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19)} [النحل: 3 - 19]. وقال -تعالى-: {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ ¬

_ (¬1) أضواء البيان 3/ 191 - 192.

وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)} [النحل: 65 - 74]. وقال -تعالى-: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)} [طه: 49 - 50]، وهذا مثل طريقة إبراهيم -عليه السلام- في جوابه للمنكر المعاند، فعند إنكاره للرب وتكذيبه بأعظم غيب، جاء جواب نبي الله موسى -عليه السلام- بصرفه إلى دليل محسوس مشاهد يدله على الغيب. وقال -تعالى-: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17)} [الأنبياء: 16 - 17]. وقال -تعالى-: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32)} [الأنبياء: 30 - 32]. وقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)} [الحج: 5 - 6]، هذه صورة من صور لفت المرتابين في أمر عظيم من أمور الغيب، وهو اليوم الآخر، وقد جاءت صور مختلفة للدلالة على اليوم الآخر، وذلك أن إنكاره كان أكثر من غيره. وقال -تعالى-: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ

السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)} [الحج: 61 - 65]. وقال -تعالى-: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16) وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)} [المؤمنون: 12 - 17]. وقال -تعالى-: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)} [المؤمنون: 78 - 89]. وقال -تعالى-: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)} [النور: 42 - 45]. وقال -تعالى-: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)} [الفرقان: 2]. وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)} [الفرقان:61 - 62].

وقال -تعالى-: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)} [الشعراء: 7 - 9]. وقال -تعالى-: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)} [الشعراء: 23 - 28]، سبق ذكر مثل هذا من الحوار بين الأنبياء والمكذبين، فإذا جاء طلب الشهادة الحسية على الغيب جاء الرد النبوي على المنكر المكذب بلفت نظره إلى هذا الخلق العظيم: السماوات والأرض، والإنسان، فهذا الخلق العجيب يدل دلالة ضرورية على الخالق، ومن ثم وجوب الإيمان به وعبادته. وقال -تعالى-: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)} [النمل: 86]. وقال -تعالى-: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74)} [القصص: 71 - 74]. وقال -تعالى-: {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44)} [العنكبوت: 44]، قال السعدي -رحمه الله-: "بالحق، أي: لم يخلقها عبثًا ولا سدى، ولا لغير فائدة، وإنما خلقها، ليقوم أمره وشرعه، ولتتم نعمته على عباده، وليروا من حكمته وقهره وتدبيره، ما يدلهم على أنه وحده معبودهم ومحبوبهم وإلههم. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِين (77)} على كثير من المطالب الإيمانية، إذا تدبرها المؤمن رأى ذلك فيها عيانًا" (¬1). وقال -تعالى-: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) ¬

_ (¬1) تفسير السعدي ص 631 - 632.

أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10) اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11)} [الروم: 7 - 11]، وهنا جاء ذكر الأنفس -الإنسان، والسماوات والأرض (¬1). وقال -تعالى-: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16) فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)} [الروم: 16 - 27]. وقال -تعالى-: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق ص 637.

مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)} [الروم: 46 - 54]. وقال -تعالى-: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)} [لقمان: 10 - 11]. وقال تعالى-: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)} [السجدة:6 - 9]. وقال -تعالى-: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13)} [فاطر: 11 - 13]. وقال -تعالى-: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)} [فاطر: 27، 28]. وقال -تعالى-: {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ

مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)} [يس: 33 - 44]. وقال -تعالى-: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)} [يس: 77 - 83]. وقال -تعالى-: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)} [ص: 27]. وقال -تعالى-: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)} [الزمر: 5 - 6]. وقال -تعالى-: {مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3)} [الأحقاف: 3]، في آية "ص" ورد أنه لم يخلق ذلك باطلًا، وفي "الزمر" و"الأحقاف" أنه خلقها بالحق، وقد سبق مثلها في سورة الحجر. وقال -تعالى-: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63)} [الزمر: 62، 63]. وقال -تعالى-: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57)} [غافر: 57]. وقال -تعالى-: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُون

(79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)} [غافر: 79 - 81]. وقال -تعالى-: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)} [فصلت: 9 - 12]. وقال -تعالى-: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)} [ق: 6 - 11]. وقال -تعالى-: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)} [الذاريات: 21 - 23]. وقال -تعالى-: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} [القمر: 49]. وقال -تعالى-: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)} [الواقعة: 57 - 76]. وقال -تعالى-: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3]. وقال -تعالى-: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)} [الملك: 3 - 4].

وقال -تعالى-: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)} [نوح: 13 - 20]. وقال -تعالى-: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)} [المرسلات: 20 - 28]. وقال -تعالى-: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)} [النبأ: 6 - 16]. بعد سياق شيء من تكبر فرعون في أول النازعات جاء: قوله -تعالى-: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)} [النازعات: 27 - 33]. وقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9)} [الانفطار: 6 - 9]. وقال -تعالى-: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)} [الطارق:5 - 7]. وقال -تعالى-: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21)} [الغاشية: 17 - 21]. هذه بعض الآيات حول الطريقة القرآنية في مناقشة المنكرين لباب الغيب والعقيدة، وفي طريقته للتمهيد لمسائل الإيمان وطريقته في غرسها في قلب الإنسان عن طريق التوسل بآيات الله الكونية من عالم الخلق العجيب، ومن نظر في القرآن يعجب من هذا الحشد الكبير من ذكر هذه المخلوقات حتى كأن القرآن

كله في هذا الباب، ولا عجيب في ذلك؛ لأنّ قضية الغيب من أعظم قضايا الدين، ولهذا جاء التدليل عليها بهذه الطريقة القرآنية في أغلب سور القرآن لما لها من أهمية. وقد وقف بعض العلماء حول هذه الآيات ودلالاتها العقدية ومنهم من أفرد لها كتابًا كابن القيم -رحمه الله- في كتابه: "مفتاح دار السعادة"، ومن المعاصرين نجد كثيرًا من ذلك في كتاب القاسمي: "دلائل التوحيد" وكتاب محمَّد العدوي: "آيات الله في الآفاق والأنفس - طريقة القرآن في العقائد"، وكتاب: "الأدلة العقلية النقلية على أصول الاعتقاد" لسعود العريفي، وهو من أهم ما وجدته من الكتب المعاصرة في هذا الباب، وقد استفدت من بحثه واستنباطاته، ولا شك في مكانة كتابيْ: الرازي قديمًا وطنطاوي جوهري حديثًا في تفسير القرآن "مفاتيح الغيب - التفسير الكبير" و"الجواهر في تفسير القرآن الكريم" حول هذا الموضوع، لولا أنّ فيهما توسُّعًا يخرج بالآيات عن مقاصدها. وهناك جانب آخر من هذا الباب اهتم به بعض المسلمين لاسيّما من المعاصرين: وهو كشف عجائب خلق الله التي توصّل إليها العلم الحديث، فبعد التطور العلمي، ولاسيّما ما حدث من تطور كبير في عالم الأجهزة التي فتحت الأعين على عالم عجيب من عالم المخلوقات وما يتبع تلك الاكتشافات من محاولات لفهمها من قبل العلماء المتخصصين في ذلك، فظهر في المكتبة الإِسلامية كتابات كثيرة عن عجائب خلق الإنسان وبقية الكائنات الحية من حيوان ونبات، وعن عالم الغازات والسوائل والجمادات، وعن العالم الصغير الذي لم يُكتشف إلا في هذا العصر: عالم الخلية وعالم الذرة، والعالم الكبير الذي تهتم به الفيزياء الكونية وعلم الفلك كالأرض والفضاء. الاستدلال بعالم المخلوقات المادية والحية على منكري الغيب: وإن إقامة الحجة على منكري الغيب بعالم الخلق قائمة في كل زمان ومكان، ومع كل أحد، وصدق الله العظيم القائل: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)}، فإنه مع التغيرات الفكرية الحديثة، ولاسيّما في بروز ظاهرة الإلحاد وظاهرة الكفر بالغيب التي شاع أمرها، جاء من الكشوفات العلمية في

الآفاق والأنفس ما يقيم الحجة على كل مكذب وملحد، وصدق الله: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}. وفي ما يلي عرض نوعين من هذه الكشوفات الجديدة التي اكتفى مكتشفوها بالعمل عليها دون السير معها إلى نهاياتها المنطقية -سوى قلة- وهو الإيمان بالله والإقرار بالغيب والتصديق به، الأول يتعلق بعالم المادة والثاني يتعلق بشيء عن الحياة. فبعد أن عُرض شيء من طريقة القرآن أنتقل إلى بابين مهمين، فيهما دلالة عظيمة على الغيب، وهما رغم سعة علم العلماء فيهما لم يصلوا إلا للقليل، وقد قال -تعالى-: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]، قال الشيخ الشنقيطي -رحمه الله-: "ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه ما أعطى خلقه من العلم إلا قليلًا بالنسبة إلى علمه جل وعلا؛ لأن ما أعطيه الخلق من العلم بالنسبة إلى علم الخالق قليل جدًا. ومن الآيات التي فيها الإشارة إلى ذلك قوله -تعالى-: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)} [الكهف: 109]، وقوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)} [لقمان: 27] " (¬1)، ويقول د. التكريتي: "إن حدود المعرفة هذه يثبتها العلم نفسه. فإمكانات الإنسان في المعرفة تتضاءل عند الغوص في أعماق الذرة، أو الإبحار في الفضاء الكبير. فالمجهول يحيط به من جانبين: جانب الدقائق "العالم الصغير"، وجانب الفضاء الواسع "العالم الكبير"" (¬2)، وسننظر الآن إلى حجم ما يصل إليه البشر رغم تطور العلم وأجهزته ومناهجه. * * * ثانيًا: دلالة عالم المخلوقات المادية على الغيب: 1 - العالم الصغير المادي: توصل العلم في أول العصر الحديث إلى أن الذرة هي أصغر مكون للمادة، وقد كان للذرة صلة بالتصور اللاهوتي القديم الذري وموضوع الجزء ¬

_ (¬1) أضواء البيان 3/ 626. (¬2) حبات المعرفة. . . .، د. محمَّد التكريتي ص 40 - 41.

الذي لا يتجزأ، ثم وقع تطور مذهل مع تطور أجهزة العلماء التي تساعدهم على اكتشاف هذا الجانب الصغير، وكان يُظن أنه بسيط الصورة والعمل، ولكن الاكتشافات التي تزيد مع تطور الأجهزة كشفت لنا عالمًا مدهشًا، مع أنه عالم يحتاج لتكبير إلى ملايين المرات، إلا أن هذا العالم الصغير جدًا فيه من العجائب والأسرار ما يفتح القلب للإيمان بخالقها ومدبرِ أمرها، ومسخرها سبحانه. فلقد نشأ علم جديد مع هذا العالم الصغير، سمي "علم الكم" وهو يرتبط بالنظرية الكمية التي تعتني بالعالم الصغير (¬1). ومن عجائب هذا العالم الصغير من خلق الله سبحانه أنه يصعب دراسته، مع أننا أمام ذرة واحدة فقط، ولهذا تقوم ميزانيات كبيرة لا تستطيع دولة واحدة على نفقتها بل دول غنية، كما لا يستطيع عالم واحد، بل فرق عمل كبيرة وحاصلة على تحصيل علمي خاص في العلوم الحديثة من تخصصات مختلفة، ومع ذلك تبقى نتائجهم محدودة في هذا الباب، مع أنهم محصورون في دراسة هذا العالم الصغير عبر دراسة ذرة واحدة منه، ومن ذلك اشتراك الدول الأوروبية (19) (دولة) في بناء مختبر لدراسة هذا العالم الصغير، فأقاموا سنة (1989 م) أكبر المعجلات للدقائق الذرية في العالم، يتألف من أنبوب دائري من الألمنيوم يبلغ طوله (27 كيلومتر)، مدفون في نفق قطره (3.8 متر) تحت سطح الأرض على عمق (100 متر)، وتدور فيه الدقائق الصغيرة ملايين الدورات وبسرعة عالية وإن كانت أقل من سرعة الضوء، وتوجد حول الأنبوب أربعة كواشف لقياس ما يحصل عند اصطدام هذه الدقائق بأخرى، ويبلغ حجم الكاشف الواحد حجم بيت كبير، ويزن عدة آلاف من الأطنان، وتكاليفها باهظة جدًا، ومع ذلك فما اكتشف من هذا العالم الصغير ما زال قليلًا، وقد دخلت أمريكا في مشروع مماثل لبناء هذا المعجل، ثم ألغي المشروع سنة (1993 م) بسبب تكاليفه الباهظة (8 بليون دولار) بعد إنفاق بليوني دولار على مرحلته الأولى (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: الفصل الأول من الباب الأول حيث سبق الحديث عنها، وانظر: حبات المعرفة، د. محمَّد التكريتي ص 127 وما بعدها، أيضًا ص 217 وما بعدها. (¬2) انظر: حبات المعرفة. . . .، التكريتي ص 47 - 48، والمشروع الأمريكي ص 50.

عالم الذرة: نكتفي بما يقوله العلماء عن حجمها، وعن شيء من الزمن الداخلي فيها، فمن جهة حجمها: فإذا ذهبنا إلى الذرة، ثم ونظرنا في حجمها وعوالمها، فنجد العجب. يقول "زويل": "وهب أننا قمنا، بوسيلة ما، بتكبير إحدى الذرات والتي يصل حجمها نحو جزء من مائة مليون جزء من السنتيمتر على وجه التقريب لتصبح في مثل حجم لوزة القطن. . . . فعندئذ يلزم أن تتخيل نفسك أنك تنظر إلى تلك الذرة من موقع لك على سطح القمر؛ أي: من على بعد 385 ألف كيلومتر من تلك الذرة، حتى تظل النسبة ثابتة بين حجم لوزة القطن والذرة في حجمها المتخيل هذا، أو بمعنى آخر، فإن حجم الذرة لا يزيد على جزء من بليون "البليون يساوى ألف مليار" من حجم لوزة القطن، بمعنى أننا لو جمعنا من هذه الذرات لتبلغ بأحجامها حجمًا مثل حجم لوزة القطن لجمعنا نحو 1000000000 منها .. فيا لها من ضآلة في الحجم تلك الذرات، والتي لا يزيد حجم الواحدة منها على جزء من مئة مليون جزء من السنتيمتر، الأمر الذي جعلها حينًا من الدهر كشيء خيالي .. ! " (¬1). وفيما يلي جدول يبين بعض الكميات التي تم قياسها علميًا (¬2): * قطر نواة الذرة … 10 (-15) متر … 0.000000000000001 متر * كتلة الإلكترون … 9.11×10 (-31) كيلو غرام … 0.00000000000000000000000000000091 كغم ولو جعلنا جسم الإنسان بداية الحركة نحو أصغر جسم "الأطول بقليل من طول بلانك "أي: جزء من ألف مليار مليار مليار جزء من المتر"، مرورًا بالأجسام الدقيقة التي لا نستطيع رؤيتها بالعين المجردة "كالأجسام المجهرية - خلايا جسمنا، والبكتيريا، والفيروسات"، حتى الإلكترونات والكواركات "وحدات بناء نواة العناصر"،. . . ." (¬3) لوجدنا العجب العجاب مما كان يجهله البشر قبل ظهور الأجهزة الحديثة، فمن كان يتصور هذه العوالم الصغيرة من ¬

_ (¬1) رحلة عبر الزمن، د. أحمد زويل ص 100. (¬2) حبات المعرفة. . . .، التكريتي ص 41. (¬3) التطور الموجه، د. هاني رزق، ضمن كتاب الإيمان والتقدم العلمي ص 17.

مادية: الذرات وعالمها المدهش، أو الحية: الكائنات المجهرية والخلايا وعالمها الداخلي؟ فمن ذاك الذي يدّعي معرفة هذه العوالم الصغيرة التي بين أيدينا؟ وإن عرف عنها شيئًا فكيف تقوم بعمليات تحير العقول في عالمها الصغير، وقد نحتاج إلى مختبر ضخم لو أردنا عمل مثل تلك العمليات، فمن جعلها بهذه الصورة؟ وإذا كُشف شيء من هذه العوالم، فكم بقي غيرها؟ فإذا انتقلنا إلى جانب آخر من الذرة وهو زمنها الخاص، كم هو؟ لوجدنا شيئًا يأخذ بالألباب من العجب، فهو زمن يُذهل العقل من صغره، ويصعب ملاحقة الأحداث فيه، وقد نجح باحث عربي في رصد شيء من حركة هذا العالم الصغير في ذاك الزمن العجيب عبر طريقة خاصة لتصوير الجزيئات الصغيرة أثناء حركتها وقياس زمنها، وهو أحمد زويل: "لقد أصبح زويل باكتشافه هذه الطريقة الجديدة. . . . أول شاهد عيان للأحداث الكيميائية التي تقع في زمن يقدر بجزء من مليون بليون من الثانية. ." (¬1). والمقياس الزمني في العالم الصغير هو الفمتوثانية، ويحدثنا عنها زويل، فيقول: "ومقياس الزمن في عالم الذرات والجزيئات مقياس غير عادي، وحدته الفمتوثانية. . . . تساوى جزءًا من مليون بليون جزء من الثانية؛ أي:1 00 000 000 000 000 0. 0 ثانية "المقدار الناتج من قسمة الرقم واحد على الرقم واحد أمامه 15 صفرًا؛ أي: 000 000 000 000 000 1" أو جزء من كوادريليون. . . . من الثانية، ولتقريب الصورة إلى الأذهان نقول: إن الفمتوثانية بالنسبة إلى الثانية هي كمثل الثانية بالنسبة إلى 32 مليون سنة. وفي زمن قدره ثانية واحدة يقطع شعاع الضوء مسافة طولها 186 ألف ميل "نحو 300000 كيلومتر"، وهي تقريبًا المسافة التي تفصل بيننا وبين القمر؛ وفي زمن قدره فمتوثانية واحدة يقطع شعاع الضوء نفسه مسافة طولها 300 نانومتر. . . . وهي مسافة لا تزيد عن حجم جرثومة واحدة، أو جزء ضئيل من سُمك شعرة في جسم الإنسان، وفي زمن الفمتوثانية هذا فإنه يمكن رصد حركة الذرة -أي: تصبح حركة الذرة مرئية" (¬2). ¬

_ (¬1) رحلة عبر الزمن، د. أحمد زويل ص 146 وصاحب المقولة: روبرت. (¬2) المرجع السابق، زويل ص 2.

فهذه الذرة الصغيرة تحوي كل هذه العجائب، ويتفرغ لدراستها عباقرة من علماء الطبيعة في ميادين مختلفة، وتنفق فيها مبالغ طائلة، ويُصنع لها أجهزة دقيقة، ويعمل لها مختبرات ضخمة، ومع ذلك فعالمها المجهول ما زال كبيرًا، فكيف بالغيب الذي أوجدها؟! وكيف بغيب الملأ الأعلى والغيب الديني الكبير؟! كيف يستطيع الإنسان الإحاطة به مع كل عظمته وهو لم يستطع الإحاطة بالعالم الصغير المادي؟ ثم إن في انكشاف هذا العالم المخفي بكل عجائبه دلالة لأولي العقول على غيب أعظم، وفي طريقة عملها دلالة أعظم على وجود قادر عليم (¬1). 2 - العالم المادي الكبير: فلنترك هذا العالم الصغير المدهش، ولننظر في الكون الكبير، وسيكون مع الأجهزة الحديثة أكثر إدهاشا من الذرة وعالمها، ويذكر م. شعبان "أن كل ما كان يعرفه العلماء عن أجرام الكون قبل هذا التاريخ -تاريخ إطلاق تلسكوب هابل في الفضاء 1990 م-، لم يكن يتعدى 1% من مجموعها" (¬2). وليس لمن هو خارج هذه العلوم إلا أن يعجب من هذه المسافات والأحجام التي يذكرها علماء الفلك والفيزياء الكونية، وربما هذا أهم ما يذكرونه في كتبهم، حيث أن ما سوى المسافات والأحجام أمر يحتاج إلى إمكانيات هي فوق طاقة البشر، وإن مشروعًا واحدًا لدراسة كوكب من الكواكب يكلف من المال والأجهزة والعلماء ما يفوق إمكانيات البشر (¬3). إذا نظرنا لما يقوله علماء الفيزياء والفلك عن الكون المادي، وهو عالم محسوس لرأينا من جهة: عِظم خلق الله، مما يجعل العقل السليم يقرّ بعلم الله الواسع وحكمته البالغة وقدرته التامة، ويجعل العقل السليم يعترف بصعوبة الإحاطة بعالم الشهادة فكيف بالغيب العظيم؟! فإن عالم الشهادة نجهل أكثره ¬

_ (¬1) وانظر للمزيد: في ظلال القرآن، سيد قطب 2/ 1117 - 1118، وانظر: الإسلام يتحدى، وحيد الدين خان ص 59، تعريب ظفر الإِسلام خان. (¬2) الطريق إلى المريخ، م. سعد شعبان ص 193. (¬3) انظر مثلًا: ما كتب حول دراسة كوكب المريخ مثل: الطريق إلى المريخ، م. سعد شعبان، وانظر: البحث عن حياة على المريخ، دونالد، ترجمة د. إيهاب محمَّد. وكلاهما من سلسلة المعرفة الكويتية برقم (228) و (288).

فكيف بعالم الغيب؟! كما أن هذا العالم المشهود العجيب يدفع للإقرار بالغيب المجهول. فهؤلاء العلماء يذكرون عن جانب الكون الكبير شيئًا عجيبًا يستحيل الإحاطة به، ومما يذكرون أن "القابل للرصد يتألف من تعنقدات "حشود" المجرات أو الأبراج. ويقدر عدد المجرات ما بين مئة مليون إلى مئة مليار مجرة. وتتألف المغيرة الواحدة من مئة مليار نجم تقريبًا، لنصفها على الأقل حجمٌ يزيد عن حجم الشمس؛ أي: أن الكون القابل للرصد الجوي يحوي على الأقل مئة مليار نجم" ومجموعتنا الشمسية تقع في أحد أذرعة درب التبانة، وهي مجرة من بين تلك المجرات، تحوي على "أكثر من مئتي مليار نجم، معظمها يشبه شمسنا" (¬1)، وقد تحتوي المجرة الواحدة "على نجوم يساوي حجمها ألف مليار حجم الشمس، وببلغ عددها مئة مليار نجم. . . . ويقدر عدد المجرات التي تؤلف الكون بمليار مجرة" (¬2). ويقول التكريتي: "أما من ناحية عالم الفضاء الواسع فالأمر، قطعًا، أكثر صعوبة وتعقيدًا. لنأخذ مثالًا بسيطًا. يبلغ قطر مجرتنا "درب التبانة" 30 كيلو بارسيك؛ أي: مائة ألف سنة ضوئية، أو بليون بليون كيلو متر. . . ." (¬3). لا شك أن سعة المجهول في عالم الشهادة، الكبير منها والصغير، تجعلنا أكثر تواضعًا أمام الغيب الأكبر، وعدم الخوض فيه، والاكتفاء بما ورد في الوحي، مما يدور حول الرب سبحانه، وآياته التي جعلها لأنبيائه، والملائكة، والوحي والرسل -عليهم السلام-، وعالم الملأ الأعلى، ومستقبل العالم، فإن العلم الحديث قد وسّع من مدارك الناس ودلّهم على صعوبة الإحاطة بعالم الشهادة فمن باب أولى عالم الغيب. وقد عرض الدكتور محمود زيدان أقوالًا لعمالقة علماء الطبيعة حول العالم المادي الذي يصفونه، ويضعون قوانينه بأنّه "ليس العالم المادي في حقيقته، وإنما هو العالم كما يبدو لعقولنا، إنه عالم من صيغ رياضية مجردة. . . . أما ¬

_ (¬1) التطور الموجه، د. هاني رزق، ضمن كتاب الإيمان والتقدم العلمي ص 13. (¬2) المرجع السابق، رزق ص 38. (¬3) المرجع السابق، التكريتي ص 50، وانظر: الإِسلام يتحدى ص 56 - 59.

العالم الحقيقي في موضوعيته بعيدًا عن دورنا فيه، فلا علم لنا به، ولذلك فحقيقة المادة أو حقيقة العالم مجهولة لنا تمامًا" (¬1)، ثم استعرض بعض الأبعاد الفكرية الجديدة التي ترتبت على التحولات العلمية الضخمة أوائل القرن العشرين (14 هـ)، ثم قال: "فهؤلاء علماء الطبيعة في هذا القرن -وقد فهموا المثالية بالمعنى الفلسفي الدقيق حين تحدثوا عن أولوية الوجود العقلي على وجود المادة، لكن ليس هذا المعنى هو كل ما أرادوه بالمثالية، إذ فهموها بمعان أخرى يمكن حصرها في النقط التالية: (أ) استحالة الوصول إلى معرفة موضوعية تمامًا عن العالم المادي، وإنما تقوم معرفتنا للعالم نتيجة تدخلنا فيه بقدراتنا العقلية وآلاتنا ومقاييسنا، (ب) معرفتنا "تركيب عقلي". . . . تلعب فيها الذات دورًا أساسيًا، وليست معرفتنا مطابقة موضوعية للواقع، (ج) معرفتنا للعالم المادي مصاغة في صيغ رياضية مجردة تبعد بنا عن المألوف عن المادة وتقربنا من وجود ذهني" (¬2). وقال أيضًا: "وعلى آية حال فإن المواقف الفلسفية للعلماء تبين لنا أن العالم العملاق متأثر بنظرية الفلاسفة، وتظهرنا أيضًا على أن عالم المادة يدعو إلى الدهشة والقلق وليس كتابًا مفتوحًا يعرف أعماقه كل إنسان" (¬3). فهذا التحول الكبير له دلالاته، فقد كان العلم ولاسيّما في صورته المادية قد اغترّ بعالم المحسوس، ورفض كل معرفة غيبية، وادعى المعرفة الكاملة بهذا العالم المادي، وأن النواقص التي فيه ستُحسم قريبًا وفي سنوات قليلة، ومن ثم فقد انتهى الغيب، ثم يحدث تغيّر جذري من داخل العلم ذاته، ويتحول العلماء إلى عوالم مدهشة في الكون الكبير وعالم الذرة الصغير، زعزعة كل هذه الدعاوى الفكرية التي بُنيت على العلم القديم، ليعترف العلماء بأن معرفتنا بعالم المادة ليست كما كان يتصور علماء القرن التاسع عشر. وإن عالم المادة رغم ما يُظن فيه من بساطة ليحوي في داخله عالمًا عجيبًا ¬

_ (¬1) من نظريات العلم المعاصر إلى المواقف الفلسفية، د. محمود زيدان ص 82. (¬2) المرجع ص 84. وهذا التحول القائم على إنكار الجوانب الموضوعية، وإعلاء الذاتية، فيه غلّو، وهو المقابل للغلّو البارز في دعاة الموضوعية، وهذا الانتقال من جهة إلى جهة، حالة مألوفة في الفكر الغربي، وهدى الله أهل الإِسلام إلى الوسط. (¬3) المرجع السابق، زيدان ص 100، وانظر: الأسس الميتافيزيقية للعلم، د. حسين علي ص 102 وما بعدها.

ومدهشًا، وهو العالم المادي الذي يتوقع العالم بساطته وسهولة عمله، ثم كشفت لنا الأجهزة الحديثة سذاجة التصور البسيط عن المادة، والحال أوسع مع الكائنات الحية، وفي كل شيء له آية تدل أنه الواحد، ومن الجميل أن نختم بمثال عجيب من عالم المادة، وهو الندف الثلجية، فقد نشاهد سقوطها، ونظن أنها ذات شكل واحد ثم سقطت كنقاط بيضاء جميلة تغطي الأرض، ولكن عندما تفرغ لها باحث، فكبرها وصور لنا تلك الندف، وبعد تكبيرها ظهر ما يُبهر الألباب ويدفعها لتسبيح المولى سبحانه. يوضح الشكل المرفق التنوع المدهش في أنماط الندف الثلجية، وكلها تستند إلى الشكل السداسي. والندف الثلجية الاثنتا عشرة المبينة في الشكل تظهر في كتاب "البلورات الثلجية" " snow crystals"، وهو كتاب يحتوي على ألفي شكل لندف ثلجية بذل د. أ. بنتلي في تصويرها غاية جهده وعنايته طوال مدة تقرب من خمسين عامًا، ويقدم و. ج همفريز لهذا الكتاب بالنظرة التأملية الآتية: إن الثلج، الثلج الجميل، الذي يصفه الشاعر النشوان بأنّه غطاء الشتاء النظيف الأملس للغابة والحقل، ما برح منذ قديم الزمن يتحدى الأقلام أن تصفه، والفراش أن ترسمه وتصور آثاره العجيبة. والجمال الذي تشيعه في النفس أصغر ندفة منه أو أصغر بلورة تسبح بتؤدة بين السماء والأرض لا يقل عن ذلك سحرًا، وهو يلح علينا بإصرار؛ لأنه لا يقتصر على أن يحرك فينا الاستجابة للرقة والأناقة، التي تجعل منا بشرًا، بل يثير أيضًا رغبتنا وحب استطلاعنا في معرفة كيفية وسبب وجود هذه الجوهرة بالغة النقاء ذات الجمال الفائق والأشكال التي لا حصر لها. ومصممو المنسوجات والفنانون يستوحون الأفكار من فهرس الندف الثلجية الذي وضعه بنتلي، ويستعينون بما يسميه همفريز "معرض الطبيعة الدائم للزخرفة التوشيعية وتصاميم الجواهر والحلي". إن صغرى العواصف الثلجية تُسقط على الأرض تربليونات من الندف الثلجية، وربما كانت كل ندفة منها فريدة من نوعها، وما من أحد استطاع حتى الآن أن يفهم مجمل العمليات والظواهر الفيزيائية لكيفية تشكل الندف الثلجية، وإن كان جيمز الذي يعمل في مركز الفيزياء النظرية في سانتا باربرا، قد وضع لها، بعد سنوات طويلة من العمل المضني، نموذجًا رياضيًا يبعث على التفاؤل. فهل تستطيع آليات الطبيعة أن تفسر جمال الندف الثلجية، أو زبد البحر،

أو غروب الشمس؟ إن جمال هذه الجوامد ينتج بالضرورة من قوانين الفيزياء والكيمياء، وهي قوانين جميلة في ذاتها، وبفضل قوانين الطبيعة هذه لا يمكن أن يتولد من ذلك كون بشع، فجمال الجوامد مركب في آلية الطبيعة ذاتها (¬1). هذا ما يستطيع أن يقوله باحث يعيش في بيئة علمانية، وإلا فإن هذا النظام البديع والدقيق ليدلنا على أكثر من دلالة، أعظمها أن الذي خلق هذا الخلق العجيب يجب علينا الاستسلام له وقبول كل ما جاءنا منه سبحانه، فكما نجد من أنفسنا الخشوع لخالق هذه العجائب لابد من الاستسلام لما جاءنا من رسله من أنباء الغيب. [صورة] ثالثًا: دلالة المخلوقات الحية على الغيب: يأتي الأمر أكثر عجبًا في عالم الكائنات الحية، وأن ما كشف في الكائنات ¬

_ (¬1) انظر: العلم في منظوره الجديد، روبرت وجورج ص 46 - 66، والشكل ص 65، ترجمة د. كمال خلايلي. ضمن سلسلة عالم المعرفة الكويتية برقم (134).

المعروفة من تركيب أجهزتها وطريقة عيشها ليدل العاقل عما خلف ذلك، أما ما أضافه العلم المعاصر فهو الاكتشافات لعالم الكائنات المجهرية بعد تطور الأجهزة الحديثة، وهو عالم مدهش كان خافيًا مئات السنين عن الناس، وإن هذا العالم المخفي ليفتح القلب السليم للتصديق بالغيب الحقيقي الذي جاء خبره من السماء، فإن هذه الكائنات ما زال جزءٌ كبيرٌ منها في عالم الغيب، وما كشف عنها هو السطح في كثير منها وعمقها ما زال بعيد المنال، وقد كان نُفاة الغيب في فترة قريبة يعلنون للعالم الانتهاء من معرفة العالم، فيصدمهم ما يوقف مثل تلك المقولات ويخفف من غلوها، فيظهر من الكائنات الصغيرة ما يذهب بالألباب من طريقة عيشها وحياتها وعملها وأدوارها التي تقوم بها، وازدادت دهشة العالم مع مكتشفات علم الجينات في هذا القرن، والاقتراب من إكمال كشف الخارطة الجينية داخل الخلية، وما كُشف في هذا الباب له دلالات مهمة -فوق ما كشف في الباب المادي- من سعة عالم الغيب المخلوق الذي يحيط بنا فكيف بالغيب البعيد عنا؟! سأكتفي في هذا القسم بشيء مما كشف حديثًا من عالم الجينات، وقد قال -تعالى-: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)} [الذاريات: 21]، وإن في المعالم الظاهرة للإنسان ما يكفي من عجائب الخلق، فكيف لو نظرنا إلى ما هو أبعد من ذلك ولاسيّما في خلايا جسده، فكما أن الذرة هي العنصر المهم في عالم المادة فإن الخلية هي الكائن المهمّ في عالم الأحياء، و"يحوي الجسم البشري ما يقرب من 100 تريليون "مليون مليون" من الخلايا، معظمها يقل عرضه عن عُشر من المليمتر. ويوجد في الداخل من كل خلية بقعة سوداء تسمى النواة. ويوجد في النواة مجموعتان كاملتان من الجينوم البشري. . . . وتأتي إحدى مجموعتي الجينوم من الأم والأخرى من الأب. ومن حيث المبدأ، تحتوي كل مجموعة على الجينات نفسها التي يبلغ عددها ما بين 60 ألف جين و 80 ألفًا، وهي موجودة على الكروموسومات الثلاثة والعشرين نفسها" (¬1). يقول د. الخلف: "لقد شاء الله -جل وعلا- أن يضع أكبر سر من أسرار خلق الإنسان ضمن ما يسمى المادة الوراثية الموجودة في كل خلية من خلايا ¬

_ (¬1) الجينوم: السيرة الذاتية للنوع البشري، مات ريدلي، ترجمة د. مصطفى فهمي ص 11 - 12.

الجسم، وبشكل أدق فإن هذه المعلومات والأسرار وضعت داخل نواة الخلية التي لا يمكن رؤيتها إلا تحت المجهر بعد أن يجري تكبيرها آلاف المرات. "كيف يمكن أن نتصور أن ما يعادل 1.2 مليون صفحة "حوالي 3.2 بليون حرف" يمكن كتابتها ضمن حيز ضيق لا تتجاوز أبعاده بضعة ميكرونات "1 سنتيمتر يساوي 10 آلاف ميكرون"؟، والحيز الضيق هنا هو نواة الخلية. . . . ويعتقد العلماء أن المليارات الثلاثة من الحروف التي يتكون منها الجينوم يمكن كتابتها على خط طوله متران، وهو الطول الفعلي لمجموع الصبغيات الموجود داخل النواة. وهنا يبرز سؤال آخر هو: كيف يمكن كتابة حوالي 3.2 بليون حرف على مسافة مترين؟. . . ." (¬1) أما المادة الوراثية نفسها فهي موجودة على شكل خيوط رفيعة متطاولة ومتناثرة ضمن النواة وهذه الخيوط تسمى الحمض النووي " DNA" . . . . إن المادة الوراثية " DNA" الموجودة في كل خلية من خلايا الإنسان تتكون من 3.2 بليون عنصر كيميائي، وكل عنصر منها يمثل ما يسمى جزيئًا، وهو عبارة عن أحد العناصر المسماة: أدينين، سايتوزين، غوانين، ثايمين، ويرمز لهذه الجزيئات علميًا بالأحرف: A ،C ،G،T على التوالي. ولو أن هذه المليارات "3.2 بليون" من الجزيئات قد كتبت على شكل خط مستقيم. . . . لامتد هذا الخط إلى مسافة تقدر بخمسة آلاف كيلو متر. . . . ولو أردنا كتابة المعلومات الوراثية الموجودة في خلية واحدة من خلايا جسمنا لملأت مليون وخمسمائة صفحة من القطع العادي. ويقدر مجموع طول خيوط الحمض النووي الموجودة في خلية واحدة من خلايا الجسم بحوالي عشرة أمتار، ولو علمنا أن الجسم البشري يحوي حوالي "10 (13) " خلايا، فسيكون الطول الكلي لهذه الخيوط في الجسم ما يقارب "10 (11) " كيلومترات. وللعلم فإن هذه الكتابة الطويلة للمعلومات الوراثية تتميز بأعلى درجات الدقة والإتقان الرائع، وإن كل حرف له محله الخاص، ولنتصور أن مجرد تغيير حرف من مكانه في هذه الكتابة الطويلة (5000 كم) قد يسبب موت الطفل الوليد، وهذا ما نسميه أمراض الطفرات الوراثية" (¬2). ¬

_ (¬1) أخذت ما بين القوسين من موضع آخر من الكتاب وأدخلته هنا لمناسبته لذلك، العصر الجينومي. استراتيجيات المستقبل البشري، د. موسى الخلف ص 20. (¬2) العصر الجينومي. . . .، د. موسى الخلف ص 63 - 64، بتصرف يسير.

وحول معرفة الشفرة الوراثية يقول: "إن من أصعب الأمور التي تواجه العلماء، ليس في قراءة الشفرة فحسب، بل في الفهم الصحيح لهذه القراءة. إن القراءة الكاملة للذخيرة الوراثية ربما تكون ممكنة خلال الأشهر القادمة، أما موضوع الفهم الصحيح لهذه الكتابة فقد يمتد إلى عشرات أو مئات السنين، أو قد لا نصل أبدًا إلى الفهم الكامل والتام لكيفية عمل المورثات وكيفية تفاعلها بعضها مع بعض بشكل واضح ودقيق" (¬1). ويقول: "إن المادة الوراثية الموجودة في خلية واحدة من خلايا الإنسان تحتوي على 3.2 بليون حرف، كل منها عبارة عن جزيء من الأحماض النووية المسماة أدينين، سايتوزين، غوانين، ثايمين، وبإمكان تلك الأحرف أو الجزيئات أن تعطي عددًا غير محدود من الكلمات. . . ." (¬2). إن الكشوفات العلمية التي يهدي الله لها العلماء تزيد من حجم المساحة التي كنا نجهلها من عالم المخلوقات، وتفتح الباب لاحتمال وجود عوالم غائبة قد تُكتشف مع الأيام، ومن ذلك اكتشاف لغة جديدة كنا نجهلها، وهي اللغة الجينية المبنية على أربعة أحرف، ويخرج منها ملايين الكلمات التي تكوّن خارطتنا الوراثية المدهشة، وهي مسجلة في خلية واحدة، وكأنها كتاب، لو قدر لأحدهم قراءتها دون توقف لاحتاج لخمسين سنة من القراءة، وهذا يكشف أننا كنا أميين في كل تاريخنا البشري. ولا يعني هذا الكشف سهولة الأمر، فإن الكشف الحالي ما زال في بداياته، وهو مثل معرفة آلاف القطع التي تكون طائرة عملاقة، فمعرفة هذه القطع لا يعني أننا بالضرورة قادرون على صنع طائرة وقيادتها، كما أن هناك قضايا معقدة يصعب معرفتها، مثل عدم معرفة سبب موت خلايا معينة من هذه الملايين لتسبب أمراضًا معينة (¬3)، ومع أن ذلك ممكن في المستقبل من الناحية النظرية، ولكن تأتي المفاجآت من ظهور أشياء خفية جديدة تستعصي على الحل السريع، مما يجعل الباب مفتوحًا على مفاجآت تخفف من الغرور البشري. ¬

_ (¬1) العصر الجينومي ص 64. (¬2) المرجع السابق ص 68. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 20 ص 74 - 75.

إذا دخلنا الخلية وجدنا فيها النواة، ونجد في النواة الجينوم البشري المكون من 24 صبغية "كروموسوم"، طول هذه الصبغيات مجتمعة 3.2 بليون نوتيدة، مترتبة بانتظام ودقة متناهية، ويشابه الجينوم الكرة الأرضية، والصبغيات تشابه القارات في هذه الكرة، وتأتي بعدها الأقطار، والبلدان، وبعدها المحافظات، وبعدها البلدات، وبعدها الشوارع والبيوت التي تعد أصغر وحدة قياس، وهذه النوتيدات وحدة البناء الأساسية التي تدخل في تركيب جزيئات الـ"د. ن. أ" أو "ر. ن. أ" (¬1). إن العالم السابق المدهش بكل هذه الأرقام الفلكية تتم عملياته المعقدة في حيز صغير يُكبّر ملايين المرات حتى يمكن رؤية شيء منه، أو الإحساس به إن لم نره وإنما نعرفه بشيء من آثاره، ثم هذه الجينات المدهشة تحوي وظائف تقوم بها بدقة عجيبة، وعند الخلل في العمل داخل ذلك العالم المجهري تحدث أمراض خطيرة. وهذا الخلق العجيب الخفي الذي يعمل بدقة عجيبة دلالة عظيمة من دلالات الآفاق والأنفس التي دلنا الله عليها، فتقوم الحجة على الخلق، ليعلموا أن ما جاء به الأنبياء من الغيب هو الحق، فهذا العالم الخفي العجيب الذي عُرف اليسير منه يدل أن الغيب يحيط بنا من كل مكان، وأن من كذّب بالغيب فقد كذب بكل حقيقة من حوله؛ لأن الوجود الحقيقى هو للغيب، وما عالم الشهادة إلا شيء صغير مما أذن الله بانكشافه لنا (¬2). وفي خاتمة المبحث تذكير بأهم معالمه، وفيه بيان بأهمية الغيب في التصور الإِسلامي، وبيان معناه، وأقسامه، ثم الانحراف في الغيب وارتباط ذلك بالانحراف في الربوبية، لاسيّما مع ظاهرة الإلحاد التي عرفها الفكر الغربي الحديث، وارتباط دعاويه بالعلمية، ثم تحدثت عن الأصول المنهجية للتكذيب بالغيب ذات الصلة بالعلم الحديث وفلسفته، مثل الآلية والحتمية والسببية الجامدة والطبيعة والصدفة والعلمية الحسية والأسطورة وغيرها، ثم ختم البحث بذكر شيء من الردود على منكري الغيب من خلال نوع واحد مهم من الأدلة التي جاء القرآن على ذكرها كثيرًا، وهي نفس ما برع العلم الحديث في كشفه؛ أي: ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق ص 40. (¬2) وانظر: المزيد حول هذا في ظلال القرآن 2/ 1118 - 1120.

الاستدلال بعجائب المخلوقات وما تحويه من عجائب وأسرار على الغيب، فجعلتها في ثلاثة جوانب: أولها بيان مجمل الطريقة القرآنية لصعوبة الذكر التفصيلي في الباب، ثم ذكر ما كشف من عالم المخلوقات المادية وما كشف من عالم المخلوقات المجهرية. أنتقل الآن إلى أمثلة من صور الانحراف التغريبي في الغيبيات، لاسيّما تلك التي تستند زورًا إلى العلم والعلمية، وبيان خطورتها العقدية في التكذيب بالغيب والكفر به.

المبحث الثاني أمثلة للتأثر المنهجي وبيان خطورتها الاعتقادية

المبحث الثاني أمثلة للتأثر المنهجي وبيان خطورتها الاعتقادية 1 - في باب بداية الخلق ووجود الكون. 2 - في باب خلق آدم -عليه السلام- وأصل الإنسان. 3 - في باب الإيمان بالملائكة والجن. 4 - في باب المعجزات ودلائل النبوة. 5 - في باب الوحي. يغلب على المسائل العقدية أنها غيبية، وكلما كان الأمر أكثر غيبية جاء الوحي فيه غزيرًا وتفصيليًا ومتنوع الدلالات، بحيث يقطع الحيرة والتساؤلات عند الإنسان، ومع أن عمدتها على الخبر، إلا أن دلالاته ليست مجرد الخبر المحض كما سبق مرارًا، وإنما يحوي الخبر من الدلالات العقلية ما يُثبِت مثل هذه المسائل العقدية بأنواع من الأدلة المختلفة. لقد تسبب الانحراف مع الغيب عند كثير من الخلق في إنكار أبواب الغيب أو إنكار بعضها، إما بالتكذيب بها أو بتحريف معانيها بحيث تتفق مع تصوراتهم، ومن بين هؤلاء طائفة المتغربين بشتى مدارسهم، ومن بينهم من يتكئ

القسم الأول: موضوعات عمدية يدعى عدم إمكانية إثباتها علميا

على العلم وهم الذين رصَدَ هذا البحث مواقفهم وحلَّلها. ومن ينظر في الموضوعات والأمثلة -من باب الغيب- التي انحرف فيها هؤلاء تحت دعوى العلمية يجد لها ثلاث صور، وهي: 1 - دعوى عدم إمكانية إثباتها علميًا. 2 - دعوى وجود رأي علمي آخر حول هذه الأمثلة دون شرط المعارضة. 3 - دعوى معارضتها للعلم. ويغلب على أصحاب القول الأول والثالث إعلان مواقف إلحادية، فيكذبون بالعقائد بحجة أن العلم لم يستطع إثباتها، أو لأن العلم له قول يعارضها معارضة تامة، فيقدمون العلم لما له من قبول بزعمهم عند كل العقلاء. أما الثاني فأصحابه يقرون بوجود آراء علمية أخرى في موضوعات قد تحدث عنها الدين، ولكن فيهم من يراه من باب الاختلاف في أسلوب الخطاب، فالدين يسلك الطريق الأدبي والعلم يسلك الطريق العلمي، فهما عند أهل هذا القول مجالان مختلفان، الدين له طريقته والعلم له طريقته، ويمكن قبولهما وتصاحبهما. ولكن حقيقة هذا القول هو التكذيب بحقائق الغيب الدينية؛ لأنه في النهاية يدّعي أن الخبر الديني ليس له حقيقة موضوعية، فهو من جهة يُكذّب بوجود حقائق يعبر عنها الخبر الديني من قضايا الغيب ولكنه يجد أن الأسلوب الديني -إذا أخذ بفهمهم السابق- له أهميته في حياة الناس؛ لأن البشر لا يعيشون فقط على الحقائق الحسية، بل هم في حاجة إلى مثل هذه الأساليب الدينية. وقد اخترت خمسة أمثلة وقع فيها الانحراف التغريبي، منها ما يرجع للنوع الأول؛ أي: عدم دلالة العلم الحسي عليها، ومن ذلك مثلًا: المخلوقات الغيبية، مثل: الملائكة والجن أو موضوع غيبي مثل الوحي. ومنها ما يرجع للنوع الثاني؛ أي: وجود قول علمي بجانب القول الديني، وهو بارز في المخلوقات المحسوسة، مثل خلق الكون، أو خلق الإنسان. ومنها ما يرجع للنوع الثالث؛ أي: وجود معارضة للعلم، مثل المعجزات. القسم الأول: موضوعات عمَدية يُدّعى عدم إمكانية إثباتها علميًا: قد يكون الموضوع من الغيب المطلق، الذي لا يمكن معرفته بالحس،

الذي هو طريقة العلوم التجريبية ومعيارها. ومثل هذا جوابه المشهور هو أن عدم الدليل المعين على موضوع لا يعني عدم هذا الموضوع، فإن عدم الدليل المعين لا يدل على عدم المدلول المعين، وإنما السؤال: هل دلّ العلم على استحالته أو على نفيه؛ لأنه على النافي مثل ما على الثبت، وهم حجتهم هنا فقط عدم دلالة العلم عليه. ويقع الغلط هنا من اختزال العلم وطرق تحققه بطريق واحد هو الطريق التجريبي، وهذا قد يُفهم عند من لم يعرفوا النبوة. أما من أكرمهم الرب سبحانه برسول وبكتاب، فعندهم طريق أعلى للعلم. ومن الأمور التي يقبلها العقل أن العلم بابه واسع وأدلته كثيرة، وأن الحق لا يمكن أن تتعارض فيه الأدلة، ولكن لا يشترط أن تدل على كل موضوع من موضوعاته كل الأدلة، إنما المهم أن يوجد دليل عليها، فإن الإِسلام يطالب بالدليل على أمور الدين، ويطلب من المكذبين دليلهم على ما كذبوا به، قال -تعالى-: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)} [البقرة: 111]، قال الشيخ السعدي: "وهكذا كل من ادعى دعوى، لابد أن يقيم البرهان على صحة دعواه، وإلا فلو قلبت عليه دعواه، وادعى مدع عكس ما ادعى بلا برهان لكان لا فرق بينهما، فالبرهان هو الذي يصدق الدعاوى أو يكذبها، ولما لم يكن بأيديهم برهان، عُلِمَ كذبهم بتلك الدعوى" (¬1). وقال -تعالى-: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)} [الأنبياء: 24]، قال الشيخ السعدي: "أي: حجتكم ودليلكم على صحة ما ذهبتم إليه، ولن يجدوا لذلك سبيلًا بل قد قامت الأدلة القطعية على بطلانه، ولهذا قال: {هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي}؛ أي: قد اتفقت الكتب والشرائع على صحة ما قلت لكم، من إبطال الشرك، فهذا كتاب الله الذي فيه ذكر كل شيء، بأدلته العقلية والنقلية، وهذه الكتب السابقة كلها، براهين وأدلة لما قلت. ولما علم أنهم قامت عليهم الحجة والبرهان على بطلان ما ذهبوا إليه، علم أنه لا برهان لهم؛ لأن البرهان القاطع، يجزم أنه لا معارض له، وإلا لم ¬

_ (¬1) تفسير السعدي ص 62 - 63.

يكن قطعيًا، وإن وجد فيه معارضات، فإنها شبه لا تغني من الحق شيئًا. وقوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ} أي: وإنما أقاموا على ما هم عليه، تقليدًا لأسلافهم يجادلون بغير علم ولا هدى، وليس عدم علمهم بالحق لخفائه وغموضه، وإنما ذلك، لإعراضهم عنه، وإلا فلو التفتوا إليه أدنى التفات، لتبين لهم الحق من الباطل تبينًا واضحًا جليًا ولهذا قال: {فَهُمْ مُعْرِضُونَ} " (¬1). وقال -تعالى-: {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)} [النمل: 64]، وفي الآخرة يُطلب من هؤلاء المكذبين برهانهم، قال -تعالى-: {وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)} [القصص: 75]. فطريقة المتغربين المكذبين بشيء من الغيب لعدم دلالة العلم عليه طريقة فاسدة، فهي من جهة تقوم على تقليد الملحدين الذين كفروا بالنبوات وشكوا فيما بين أيديهم من الوحي، ومن جهة تقوم على اختزال العلم في المحسوس فقط، وهو حتى عند من لم يعرف النبوة يبقى في دائرة الاحتمال، فكيف وهي أمور تواتر ذكرها عند البشر، وجاء الوحي بخبرها، فامتلأ القرآن بالحديث عنها بأصرح خطاب، فما يبقى بعد ثبوت الدليل عليها إلا الكفر المحض. لقد دلّ الخبر على أمور الغيب، وقد بثّ الله في الخبر كل أنواع الأدلة التي تثبت لكل عاقل يطلب الحق صحة موضوعات الغيب، وقد نشأ في العالم الإِسلامي علم خاص يهتم بسلامة الخبر وصحته وهو علم السند، وهو علم اختصت به أمة الإِسلام فلا يُعرف عند أي أمة في الأرض، وهو علم عظيم ودقيق لا يسمح لأي خلل أن يؤثر في الخبر، وكل المحاولات التي قامت لإفساد الخبر أصابها الفشل، ومن نظر في هذا العلم وتأمل فيه لعلم أن هذا العلم العجيب ما ظهر إلا لحكمة عظيمة، حتى يحفظ الخبر ويحفظ بحفظه الدين. إذًا فأمور الغيب التي لم يدل عليها العلم الحسي لا يصح نفيها إلا بدليل، ومن فساد الرأي ومن التعالم أن ينفي النافي ما لم يعلمه دون دليل، وقد ذمّ الله ¬

_ (¬1) المرجع السابق ص 521.

الكفار بذلك فقال -تعالى-: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} [يونس: 39]، وإنما الأمر: هل هناك دليل آخر؟ فكيف وهناك أعظم دليل، وهو الخبر الصادق، ومعلوم أن المطالب الإلهية لم يتركها الله سبحانه لعقول البشر وعلومهم، وإنما أرسل الرسل وأنزل الكتب وأقام الحجج التي لا ينكرها إلا ملحد معاند فرعوني المذهب. فإن فرعون قد جاءه البرهان البين الذي لا شك فيه، قال -تعالى-: {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38)} [الذاريات: 38]، قال ابن كثير -رحمه الله-: "أي: بدليل باهر وحجة قاطعة، {فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} أي: فأعرض فرعون عما جاءه به موسى من الحق المبين، استكبارًا وعنادًا" (¬1). ومع ذلك جحد وأنكر، ولم يكتف بذلك، بل أحال إلى الحسّ، وقام بالتمثيل على من حوله بأسلوب سخيف، وادعى أنه سيبحث عن الرب بطُرُق حسيّة، قال -تعالى-: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39)} [القصص: 38 - 39]. وهذه حال كل جاحد ومنكر للغيب، إنه فرعوني النزعة والمذهب أو فيه خصلة من الفرعونية، فقد جاءهم الحق والبرهان والسلطان المبين، ومع ذلك ينكرون ويكذبون ويجحدون، ثم يقولون: إن أدلتنا الحسية لم تدلنا على الغيب، ومع أن أسلوب فرعون هو الأسلوب الساذج الساخر عند طلب بناء الصرح ليبحث عن الغيب، إلا أن مُلحدي العصر في اعتمادهم على صرح العلوم الحسية هو من جنس ما فعله فرعون وإن كان بأسلوب عصري فاتن، وما ذاك إلا مزيد من التلبيس، وإلا فإن البشر لا يعيشون دون غيب، والغيب يحيط بالإنسان من كل جانب، فإن كثيرًا مما كشف من عالم الصِّغَر في المادة وذرّاتِها والأحياء وخلاياها، بل الكائنات المجهرية قد كانت من الغيب عند البشر طول قرون مضت، وربما لو جاء نبي من أنبياء الله بذكرها لكذّبَهُ من في قلبه مرض، وقد يجد المنكر فرصته في التكذيب، ولقال: انظروا ماذا يقول هذا النبي! أيُعقل أن ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير ص 1255.

يوجد كائنات تصْغر نملة صغيرة آلاف المرات. فوجود بعض ما يُقدّر الله خفاءَه عنا أمر ممكن، وبما أن الدليل النبوي قد جاء بذكرها فقد عرفنا وجود مثل تلك الغيبيات المخفية عنا، وليس لنا إلا التسليم بها، وعدم العبث بتأويلٍ يخرجها عن مدلولها أو التكذيب بها، ومثل ذلك -مع المثل السابق- لو لم تحتمل عقول بعض الناس وجود كائنات مجهرية بذاك الصغر، فكذب بها أو أوّلها بحجة استحالة وجودها، بينما هي اليوم مما يُسلّم بها الناس. وقد سبق في المبحث الأول أنه ما إن ظهر التكذيب بالغيب في القرون الأخيرة في الفكر الغربي حتى جاءت الأجهزة الحديثة التي تساعدنا على رؤية الكائنات المجهرية مما يدفع العاقل على التواضع، وعلى إدراك ضآلة ما نعرفه مما حولنا، وعندما سأل بعضهم تعنتا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أمرٍ من الغيب، جاءهم الجواب بضآلة ما عند الإنسان من علم، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} [الإسراء: 85]، فالغيب كبير، وما عند الإنسان من علم هو قليل، فلا يغترّ بذلك. قال ابن كثير في تفسيره: "وقوله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}؛ أي: من شأنه، ومما استأثر بعلمه دونكم؛ ولهذا قال: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}؛ أي: وما أطلعكم من علمه إلا على القليل، فإنه لا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء تبارك وتعالى. والمعنى: أن علمكم في علم الله قليل، وهذا الذي تسألون عنه من أمر الروح مما استأثر به تعالى، ولم يطلعكم عليه، كما أنه لم يطلعكم إلا على القليل من علمه تعالى. وسيأتي إن شاء الله في قصة موسى والخضر: أن الخضر نظر إلى عصفور وقع على حافة السفينة، فنقر في البحر نقرة، أي: شرب منه بمنقاره، فقال: يا موسى، ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور من هذا البحر. أو كما قال صلوات الله وسلامه عليه؛ ولهذا قال تبارك وتعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} " (¬1)، وقد قال -تعالى-: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)} [الكهف: 109]، وقال -تعالى-: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)} [لقمان: 27]. ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير ص 790 - 791.

أمثلة من الانحراف في هذا النوع: في باب الإيمان بالملائكة والجن، وفي باب الوحي: ومن بين الأمثلة التي تناسب هذا الباب مما وقع فيه انحراف المتغربين: باب الإيمان بالملائكة والجن، وباب الإيمان بالوحي، ومع وجود اختلاف بينهما إلا أنهما يشتركان في كونهما من الغيب الذي لا يمكن التدليل عليه بالحس، فمصدر معرفته تقتصر على الوحي، فإن النوع الأول يتعلق بعالمين من مخلوقات الله: الملائكة والجن، أما الثاني فيتعلق يحدث غيبي هو الوحي، يبدأ من الرب سبحانه ثم يتصل بأعظم الملائكة وهو جبريل -عليه السلام- ثم بالنبي -عليه الصلاة والسلام-، وهي الصورة الغالبة للوحي، فهذان البابان العظيمان من أبواب العقيدة الإِسلامية وقع فيهما انحراف باسم العلم عند المتغربين، أبدأها بـ: باب الإيمان بالملائكة والجن: يدخل في الغيب الإيمان بالملائكة والإيمان بالجن، فإن من بين مخلوقات الله ثلاثة لهم شأن في التصور الإِسلامي، وهم: الملائكة والإنس والجن، وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم" (¬1). أما الملائكة فهم خلْق كريم من مخلوقات الله، والإيمان بالملائكة ركن عظيم من أركان الإيمان، وأصل من أصول العقيدة الإِسلامية، قال -تعالى-: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)} [البقرة: 285]، وقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)} [النساء: 136]، وقد ورد الحديث عنهم كثيرًا في القرآن مما يدل علي عظم هذا الأصل ومكانته في العقيدة الإِسلامية وفي التصور الإِسلامي، وقد ذكر وصفهم وعبادتهم وأعمالهم وغير ذلك (¬2). ¬

_ (¬1) صحيح مسلم برقم (2996) في باب أحاديث متفرقة من كتاب الزهد والرقائق. (¬2) انظر حول هذا الباب مثلًا كتاب: عالم الملائكة الأبرار، د. عمر الأشقر.

أما الجن فهم خلق آخر من خلق الله، خلقهم الله من نار، وهم مكلفون مثل البشر، فمنهم من كفر مثل إبليس وأتباعه، ومنهم من آمن، وقد جاء في ذكرهم وذكر إبليس آيات كثيرة (¬1)، قال -تعالى-: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)} [الكهف: 50]، وقال -تعالى-: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)} [الأحقاف: 29]، وقال -تعالى-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56]، وقد جاء فيهم سورة من سور القرآن، قال -تعالى- في أولها: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1)} [الجن: 1]، وغيرها من الآيات. وما من بابٍ من أبواب الغيب إلا ووقع الانحراف فيه ممن هجر مشكاة النبوة، وغَلُظ عنده الحسّ، فإن في الغيب ابتلاء للبشر، ومن عادة الكثير نفي ما لا يحسون به وربما تكذيبه، فمن حكّم عقله القاصر أو حسّه الغليظ في مثل هذه الأبواب وقع في مزالق عظيمة، ولذا كان من وصف المؤمنين أنهم يؤمنون بالغيب، قال -تعالى-: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)} [البقرة:1 - 3]، فقد جاءهم أنبياء صادقون مُصَدّقون، وأوحى الله إليهم من علم الغيب، ومنهم رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم -، قال -تعالى-: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)} [آل عمران: 44]، وقال تعالى-: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)} [هود: 49]، وقال- تعالى-: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)} [يوسف: 102]، وكل ما جاء من الغيب المطلق عن طريق الأنبياء هو من الغيب الذي لم يكن للبشر أن يصلوا إليه من دون الأنبياء. وقد اتسع أمر التكذيب في زمننا المعاصر، لاسيّما داخل التيارات الفكرية المتغربة العلمانية، فمنهم من حكّم عقله وحسّه في مثل هذه الأبواب فكذّب بأمر ¬

_ (¬1) انظر حول هذا الباب مثلًا كتاب: عالم الجن والشياطين، د. عمر الأشقر.

الملائكة والجن وسخر ممن يؤمن بها، ومما زاد البلاء أن بعض الإِسلاميين من أمثال العصرانيين قاموا بتأويل ما ورد من ذكر الملائكة والجن بما يخرجهم عن كونهم خلقًا من خلق الله (¬1)، ومن دلالات ذلك حجم الضغط الذي تضغط به الأفكار المنحرفة على الناس في الأزمان الأخيرة مما دفع بمثل هؤلاء إلى التساهل في أبواب الغيب بتأويلها وتخريجها مخارج تبعدها عن حقيقتها الواردة في الوحي. وقد كان لسيد قطب وقفات مهمة حول هذا الباب، لاسيّما أنه قد عاصر طائفتين، طائفة تؤول الغيب وطائفة تُكذّب به وتنكره، وكل ذلك بحجة العقلانية والعلمية، ومما كتب عن منكري الملائكة: "والإيمان بملائكة الله طرف من الإيمان بالغيب،. . . . وهو يخرج الإنسان من نطاق الحواس المضروب على الحيوان؛ ويطلقه يتلقى المعرفة مما وراء هذا النطاق الحيواني؛ وبذلك يعلن "إنسانيته" بخصائصها المميزة .. ذلك بينما هو يلبي فطرة الإنسان وشوقه إلى المجاهيل التي لا تحيط بها حواسه، ولكنه يحس وجودها بفطرته. فإذا لم تلب هذه الأشواق الفطرية بحقائق الغيب -كما منحها الله له- اشتطت وراء الأساطير والخرافات لتشبع هذه الجوعة؛ أو أصيب الكيان الإنساني بالخلخلة والاضطراب. والإيمان بالملائكة: إيمان بحقيقة غيبية، لا سبيل للإدراك البشري أن يعرفها بذاته، بوسائله الحسية والعقلية المهيأة له .. بينما كيانه مفطور على الشوق إلى معرفة شيء من تلك الحقائق الغيبية. ومن ثم شاءت رحمة الله بالإنسان -وهو فاطره وهو العلم بتكوينه وأشواقه وما يصلح له ويصلحه- أن يمده بطرف من الحقائق الغيبية هذه، ويعينه على تمثلها -ولو كانت أدواته الذاتية قاصرة عن الوصول إليها- وبذلك يريحه من العناء ومن تبديد الطاقة في محاولة الوصول إلى تلك الحقائق التي لا يصلح كيانه وفطرته بدون معرفتها، ولا يطمئن بَالُه ولا يقر قراره قبل الحصول عليها! بدليل أن الذين أرادوا أن يتمردوا على فطرتهم، فينفوا ¬

_ (¬1) انظر حول رأيهم المشتبه في الملائكة: منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير، فهد الرومي ص 616 وما بعدها، وانظر حول تأويلاتهم لشأن الجن: المرجع السابق ص 631 وما بعدها، وانظر: عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة، د. عبد الكريم عبيدات ص 115 وما بعدها.

حقائق الغيب من حياتهم، استبدت ببعضهم خرافات وأوهام مضحكة؛ أو اضطربت عقولهم وأعصابهم وامتلأت بالعقد والانحرافات! وفضلًا على ذلك كله فإن الإيمان بحقيقة الملائكة -شأنه شأن الإيمان بالحقائق الغيبية المستيقنة التي جاءت من عند الله- يوسع آفاق الشعور الإنساني بالوجود، فلا تنكمش صورة الكون في تصور المؤمن حتى تقتصر على ما تدركه حواسه -وهو ضئيل- كما أنه يونس قلبه بهذه الأرواح المؤمنة من حوله؛ تشاركه إيمانه بربه، وتستغفر له، وتكون في عونه على الخير -بإذن الله -وهو شعور لطيف ندي مؤنس ولا شك. ثم هنالك المعرفة: المعرفة بهذه الحقيقة وهي في ذاتها فضل يمنحه الله للمؤمنين به وبملائكته. ." (¬1). ويقول عن عالم الجن والمنكرين له في أثناء تفسير سورة الجن: "وبينما كانت الأوهام والأساطير تغمر قلوب الناس ومشاعرهم وتصوراتهم عن الجن في القديم، وما تزال .. نجد في الصف الآخر اليوم منكرين لوجود الجن أصلًا، يصفون أي حديث عن هذا الخلق المغيب بأنّه حديث خرافة .. وبين الإغراق في الوهم، والإغراق في الإنكار، يقرر الإِسلام حقيقة الجن، ويصحح التصورات العامة عنهم، ويحرر القلوب من خوفها وخضوعها لسلطانهم الموهوم: فالجن لهم حقيقة موجودة فعلًا وهم كما يصفون أنفسهم هنا: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11)}. . . ." ثم تحدث عن حقيقتهم كما وردت في هذه السورة وفي غيرها من سور القرآن التي تعطي "صورة عن ذلك الخلق المغيب، تثبت وجوده، وتحدد الكثير من خصائصه؛ وفي الوقت ذاته تكشف الأوهام والأساطير، العالقة بالأذهان عن ذلك الخلق، وتدع تصور المسلم عنه واضحًا دقيقًا متحررًا من الوهم والخرافة، ومن التعسف في الإنكار الجامح كذلك! وقد تكفلت هذه السورة بتصحيح ما كان مشركو العرب وغيرهم يظنونه عن قدرة الجن ودورهم في هذا الكون. أما الذين ينكرون وجود هذا الخلق إطلاقًا، فلا أدري علام يبنون هذا الإنكار، بصيغة الجزم والقطع، والسخرية من الاعتقاد بوجوده، وتسميته خرافة! ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن 1/ 341 - 342.

ألأنهم عرفوا كل ما في هذا الكون من خلائق فلم يجدوا الجن من بينها؟! إن أحدًا من العلماء لا يزعم هذا حتى اليوم. وإن في هذه الأرض وحدها من الخلائق الحية لكثيرًا مما يكشف وجوده يومًا بعد يوم، ولم يقل أحد: إن سلسلة الكشوف للأحياء في الأرض وقفت أو ستقف في يوم من الأيام! ألأنهم عرفوا كل القوى المكنونة في هذا الكون فلم يجدوا الجن من بينها؟! إن أحدًا لا يدعي هذه الدعوى. فهناك قوى مكنونة تكشف كل يوم؛ وهي كانت مجهولة بالأمس. والعلماء جادون في التعرف إلى القوى الكونية، وهم يعلنون في تواضع قادتهم إليه كشوفهم العلمية ذاتها، أنهم يقفون على حافة المجهول في هذا الكون، وأنهم لم يكادوا يبدؤون بعد! ألأنهم رأوا كل القوى التي استخدموها، فلم يروا الجن من بينها؟! ولا هذه. فإنهم يتحدثون عن الكهرب بوصفه حقيقة علمية منذ توصلوا إلى تحطيم الذرة. ولكن أحدًا منهم لم ير الكهرب قط. وليس في معاملهم من الأجهزة ما يفرزون به كهربًا من هذه الكهارب التي يتحدثون عنها! ففيم إذن هذا الجزم بنفي وجود الجن؟ ومعلومات البشر عن هذا الكون وقواه وسكانه من الضآلة بحيث لا تسمح لإنسان يحترم عقله أن يجزم بشيء؟ ألأن هذا الخلق المسمى الجن تعلقت به خرافات شتى وأساطير كثيرة؟ إن طريقنا في هذه الحالة هو إبطال هذه الخرافات والأساطير كما صنع القرآن الكريم، لا التبجح بنفي وجود هذا الخلق من الأساس، بلا حجة ولا دليل! ومثل هذا الغيب ينبغي تلقي نبئه من المصدر الوحيد الموثوق بصحته، وعدم معارضة هذا المصدر بتصورات سابقة لم تستمد منه. فما يقوله هو كلمة الفصل في مثل هذا الموضوع" (¬1). وحول هذا الباب الغيبي من خلق آدم وما حدث من إبليس والملائكة وبقية القصة الغيبية التي وردت في سورة البقرة يقول سيد قطب: "وبعد .. مرة أخرى .. فأين كان هذا الذي كان؟ وما الجنة التي عاش فيها آدم وزوجه حينا ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن 6/ 3721 - 3723.

من الزمان؟ ومن هم الملائكة؟ ومن هو إبليس؟ .. كيف قال الله تعالى لهم؟ وكيف أجابوه؟. . . . هذا وأمثاله في القرآن الكريم غيب من الغيب الذي استأثر الله تعالى بعلمه؛ وعلم بحكمته أن لا جدوى للبشر في معرفة كنهه وطبيعته، فلم يهب لهم القدرة على إدراكه والإحاطة به، بالأداة التي وهبهم إياها لخلافة الأرض، وليس من مستلزمات الخلافة أن نطلع على هذا الغيب. وبقدر ما سخر الله للإنسان من النواميس الكونية وعرّفه بأسرارها، بقدر ما حجب عنه أسرار الغيب، فيما لا جدوى له في معرفته. وما يزال الإنسان مثلًا على الرغم من كل ما فتح له من الأسرار الكونية يجهل ما وراء اللحظة الحاضرة جهلًا مطلقًا، ولا يملك بأي أداة من أدوات المعرفة المتاحة له أن يعرف ماذا سيحدث له بعد لحظة، وهل النفس الذي خرج من فمه عائد أم هو آخر أنفاسه؟ وهذا مثل من الغيب المحجوب عن البشر؛ لأنه لا يدخل في مقتضيات الخلافة، بل ربما كان معوِّقًا لها لو كشف للإنسان عنه! وهنالك ألوان من مثل هذه الأسرار المحجوبة عن الإنسان، في طي الغيب الذي لا يعلمه إلا الله. ومن ثم لم يعد للعقل البشري أن يخوض فيه؛ لأنه لا يملك الوسيلة للوصول إلى شيء من أمره. وكل جهد يبذل في هذه المحاولة هو جهد ضائع، ذاهب سدى، دون ثمرة أو جدوى. وإذا كان العقل البشري لم يوهب الوسيلة للاطلاع على هذا الغيب المحجوب؛ فليس سبيله إذن أن يتبجح فينكر .. فالإنكار حكم يحتاج إلى المعرفة. والمعرفة هنا ليست من طبيعة العقل، وليست في طوق وسائله، ولا هي ضرورية له في وظيفته! إن الاستسلام للوهم والخرافة شديد الضرر بالغ الخطورة، ولكن أضر منه وأخطر، التنكر للمجهول كله وإنكاره، واستبعاد الغيب لمجرد عدم القدرة على الإحاطة به .. إنها تكون نكسة إلى عالم الحيوان الذي يعيش في المحسوس وحده، ولا ينفذ من أسواره إلى الوجود الطليق. فلندع هذا الغيب إذن لصاحبه، وحسبنا ما يقص لنا عنه، بالقدر الذي يصلح لنا في حياتنا، ويصلح سرائرنا ومعاشنا. ولنأخذ من القصة ما تشير إليه من حقائق كونية وإنسانية، ومن تصور للوجود وارتباطاته، ومن إيحاء بطبيعة

الإنسان وقيمه وموازينه .. فذلك وحده أنفع للبشرية وأهدى" (¬1). أمثلة على الانحراف حول الملائكة والجن: يقدم الدكتور -"غيبة"- تأويله الخاص للملائكة والجن بما يتفق مع العلم من جهة، وبما يحقق هدف الدين من جهة أخرى، ولكن يظهر في النهاية أنه ينفي هذين الأمرين بحجة عدم موافقتها للعلم والعقل، فيقول عن تأويله إنه: "يتفق مع المعقول عن طريق الاستنتاج من النصوص المقدسة ذاتها، من غير تزييف أو تحريف، بل مع الاحترام الكامل لنصوص الدين الحنيف، إنما بالخروج عن التفسير الحرفي أو المادي واللجوء إلى التأويل العقلي الذي يتفق مع مقاصد الشرع ومراميه، ويتجنب الوقوع في فخ اللامعقول ومآخذه" (¬2). إن هذه دعوى لا حقيقة لها كما سنرى، فإن البارز هو "التزييف والتحريف وعدم الاحترام لهذه النصوص حول هذه المغيبات" وبُعده عن الذي جاء به الأنبياء -عليهم السلام-، حيث سيطرح فهمه من النصوص الذي يتفق بحسب رأيه "مع علم النفس وعلم الطبيعة"، فكأن علم النفس يناسب تفسير الجوانب الغيبية بصورة نفسية، أما الطبيعية فهي أداة رفض لعالم الغيب عمومًا، والاكتفاء بالنظر للقوانين التي كشفها علماء الطبيعة (¬3)، وبهذا يصل إلى نفي حقيقة الملائكة وحقيقة الشيطان والجن، فجانب الطبيعة أداة لرفض هذا الغيب؛ لأنه في نظرهم لا حقيقة إلا لها، فقد أعماهم المحسوس وأغراهم وفتنهم عن حقيقة عالم الغيب، ومن أجله أُوّلت الملائكة والجن إلى معنى نفسي أو رمزي، فالمعنى النفسي للملائكة "الإلهامات الحاملة للأفكار والميول الخيرة" في الإنسان، والرمزي "هو ميول البدن إلى مصيره الطبيعي، كالموت، وميول الطبيعة إلى الحركة كهبوب الرياح وهطول الثلج والأمطار. فهي صلة الوصل بين القوى الطبيعية المحرّكة "الأسباب العلمية"، والقوى الطبيعية المنُفذة "كالرياح والأمطار"، وأمثلتها الملائكة عزرائيل وميكائيل وإسرافيل. فهذه الأسماء رموز لتلك القوى الطبيعية المحرّكة للأنواء. والملائكة في جميع الأحوال تُعبّر عن قوى ذاتية خيّرة في ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن 1/ 59. (¬2) هكذا تكلم العقل، د. حيدر غيبة ص 256. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 253.

الإنسان، نفسية وبدنية، ومثلها على سبيل الاستعارة في الطبيعة. هذا هو الفهم العقلي للملائكة، وهو لا يطرح أي إشكالية؛ لأنه يتفق مع علم النفس وعلم الطبيعة. ." (¬1)، وفي المقابل يكون الشيطان ممثلًا لنوازع النفس الأمارة بالسوء، فوجوده بهذه الصفة معنوي، ومن قبيل وسوسة النفس، وكذا حال الجن (¬2). ومن الصور التغريبية المغالية في إنكارهما تحت ذريعة معارضة العلم في الظاهر -إنما ماركسية في العمق- نجد صادق العظم، ومن ذلك قوله: "هل يفترض في المسلم في هذا العصر أن يعتقد بوجود كائنات مثل الجن والملائكة وإبليس، وهاروت وماروت، ويأجوج ومأجوج، وجودًا حقيقيًا "غير مرئي أحيانًا" باعتبارها مذكورة كلها في القرآن، أم يحق له أن يعتبرها كائنات أسطورية مثلها مثل آلهة اليونان وعروس البحر والغول والعنقاء؟ يا حبذا لو عالج الموفقون بين الإسلام والعلم مثل هذه القضايا المحددة. . . ." (¬3). يجعل منها "العظم" قضايا لا يقبلها العلم، وأدلة على التعارض بين الدين والعلم، بينما كل عاقل يعلم عدم وجود معارضة هنا؛ لأن كل ما في الأمر أن نوعًا من العلم لا يستطيع إثباتها، وليس كل العلم، فهذا -إذا تركنا جانبًا مشكلة مرض القلب- من الاختزال الفاسد لمفهوم العلم على نوع واحد، وهو الحسي، بينما العلم أوسع من ذلك، وأعلاه العلم النبوي، وليس المقصود هنا المناقشة والرد، فمثل هذا الصنف يكفي بيان التلاعبات التي يقدمونها، فهم يقصدون فقط إثارة الشبه والتلبيس على الخلق، لاسيّما عندما يصل التبجح والإنكار لمثل هذا الحدّ، فيضع ما يتفق الناس على أنه أسطورة مقابل ما يتفق أغلب الناس ممن عندهم كتاب على أنه حقيقة. يتفق النموذجان بإنكار حقيقة الملائكة والجن بالاستناد للعلم، إلا أن الأول يؤوّلهما والثاني يُكّذب بهما، ويقف حسن حنفي في كتاباته نفس الموقف من هذا الباب العظيم، فهو يراها تلفظ بألفاظ لا يوجد شاهد حسي عليها، فيطالب بإلغائها (¬4)، وفي هذا السياق يأتي إنكار الوحي أو تأويله للسبب نفسه. ¬

_ (¬1) المرجع السابق ص 252 - 253. (¬2) انظر: المرجع السابق، حول الشيطان ص 255، وحول الجن ص 257. (¬3) نقد الفكر الديني، د. صادق العظم ص 26. (¬4) انظر: التراث والتجديد ص 121 ص 126.

في باب الوحي: من بين القضايا العقدية المهمة الإيمان بالوحي، فهو الصلة بين السماء والأرض، فهو الطريق لمعرفة دين الله، فالوحي هو إعلام الله من اصطفاه من عباده وهم أنبياؤه بما يريد أن يبلغه إليهم من شرع أو كتاب بواسطة أو غير واسطة (¬1). وقد ورد في آيات كثيرة، قال -تعالى-: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 4]، وقال -تعالى-: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163)} [النساء: 163]، وقال -تعالى-: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7)} [الشورى: 7]. وقد جاء وصف صوره في قوله -تعالى-: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)} [الشورى: 51]. وقد سأل الصحابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الوحي، ففي صحيح البخاري عن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - أن الحارث بن هشام - رضي الله عنه - سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله -صلي الله عليه وسلم - كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشدّه عليّ فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانًا يتمثل لي الملك رجلًا فيكلمني فأعي ما يقول". قالت عائشة - رضي الله عنها -: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقًا (¬2). ويُعدّ الوحي قضية غيبية لا يستطيع العقل إدراك حقيقتها وكنهها، وما نعلمه أن جبريل أخذ من الله ما يوصله لأنبيائه، وهم أوصلوه للناس، يقول شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "هذا القرآن الذي يقرؤه المسلمون هو كلام الله، الذي نزل به الروح الأمين على محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، خاتم النبيين والمرسلين، وأن جبريل سمعه ¬

_ (¬1) انظر: الرسل والرسالات، د. عمر الأشقر ص 61. (¬2) صحيح البخاري برقم (2) من كتاب بدأ الوحي، ومسلم برقم (2333) كتاب الفضائل باب عَرَق النبي - صلى الله عليه وسلم -. . . .

من الله، والنبي - صلى الله عليه وسلم - سمعه من جبريل، والمسلمون سمعوه من النبي - صلي الله عليه وسلم -، كما قال -تعالى-: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} وقال: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} " (¬1)، ولكن إدراك حقيقة الكيفية التي وقع بها ذلك الأمر من الغيب، وليس له طريق إلا الوحي. وقد عُرفت في تاريخ الفكر الإِسلامي صور من إنكار الوحي، لاسيّما تلك الدعوى القائمة على تحويله إلى ظاهرة بشرية، مثل قول بعض المتفلسفة عن القرآن بأنه: "فيض فاض من العقل الفعال على قلب بشر زاكي النفس طاهر، متميز عن النوع الإنساني بثلاث خصائص: قوة الإدراك وسرعته، لينال من العلم أعظم مما يناله غيره! وقوة النفس، ليؤثر بها في هيولى العالم بقلب صورة إلى صورة!. وقوة التخييل، ليخيل بها القوى العقلية في أشكال محسوسة، وهي الملائكة عندهم! وليس في الخارج ذات منفصلة تصعد وتنزل وتذهب وتجيء وترى وتخاطب الرسول، وإنما ذلك عندهم أمور ذهنية لا وجود لها في الأعيان" (¬2)، وبهذا يُغفلون كون القرآن من كلام الله، وأحالوه للعقل الفعال، وأنكروا الملك الذي تكفل بإيصال الوحي، وجعلوا الوحي صورة من صور التجلي البشري ولاسيّما ممن زكت نفوسهم، وليس وحيًا من رب العالمين، فتحول الوحي معهم إلى صورة أخرى لا علاقة لها بما جاء بيانه على لسان الرسول - صلى الله عليه وسلم -. أمثلة على الانحراف في الوحي: لم تبتعد الانحرافات المعاصرة عن ذلك كثيرًا، فجوهر الانحراف عندهم واحد، ولكن المعاصرين يلتحفون بدعوى العلمية، لاسيّما ميدان العلوم الاجتماعية واللغوية الحديثة، وُيعد الوحي عند متطرفي المتغربين من الأوهام، فـ "شبلي شميل" مثلًا "يعتبر أن كثيرًا من مفردات القاموس الديني تنهل من ينابيع الخيال والأوهام، فالوحي والبعث والخلود والثواب والعقاب الأخرويات وعالم الروح وعلة العلل. . . . كلها مفاهيم ذات مصدر غير مادي. ومن ثمّ فهي تنتمي إلى عالم الأحلام والأوهام. وهو يعتبر أن الاستسلام إلى أباطيل هذا العالم كان ¬

_ (¬1) الفتاوي 12/ 582. (¬2) شرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز 2/ 402 - 403.

وما يزال مجلبة لشر كبير في الاجتماع البشري. وهو شر يمكن اجتنابه بالتفكير العلمي المستند إلى حقائق الطبيعة والواقع" (¬1)، فالعلم عند هذه الطائفة هو المادية، حيث اختزلت العلم في هذا الباب ثم أنكرت كل ما ليس بمادي ومحسوس، وليس لهم من دليل سوى جهلهم بالوحي. ومن بين أكثر المفكرين انحرافًا في هذا الباب وأكثرهم كتابة فيه، نجد الدكتور محمَّد أركون، ويعود السبب في ذلك إلى أن مشروعه الفكري يقوم على نقد العقل الإسلامي، وهو يرى بأن هذا العقل يرتكز أساسًا على الوحي، ولذا فلابد من وضع الوحي ذاته في صلب المشروع النقدي، وقد استخدم في ذلك منهجيات مختلفة، لغوية وتاريخية وعلمية وفلسفية، وهو يزعم أنه يقدم بذلك دراسة علمية عن الوحي، ولكن هذه الدراسة تصل في نهايتها إلى التكذيب بالوحي، ويكفي ذلك دليلًا على بطلان هذه العلمية. يعرض في البداية التصور الإِسلامي عن الوحي في نقاط متسلسلة: تبدأ بالإيمان بالله، وهذا الإله قد أوحى إلى البشر من خلال رسول، وقد جمع ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - في القرآن، وهذا القرآن كامل وشامل، ويحوي الحقيقة (¬2). . . .، ويأخذ منه ذاك العرض مكانة خاصة، ويعرضه وكأنه اكتشاف كبير، مع أن كل مسلم حتى طلاب المدارس يعرفون مثل هذا الخط ويؤمنون به. إلا أن الجديد عنده، أن هذا الخط بينما يؤمن به الناس، فإنه فيما يظهر من كلامه لا يؤمن به، بل إن من هدف دراساته: نقضه والخروج عليه، بحيث يضع خطًا آخر (¬3)، يلغي فيه الغيب، فيُقصي منه الله، والمَلَك، والوحي، ثم يلغي منه الرسول الذي استقبل الوحي، ثم يلغي المصحف الذي تواتر عند الأمة أنه كلام الله، ويكتفي بدعاوى منها: الانطلاق من الإنسان وجعله محور الاهتمام، في نوع من التبعية لدعوى المذهب الإنساني، الذي يريد الاهتمام بالإنسان بعد أن كانت القرون الوسطى تهتم بالإله كما يقولون، ومثل هذه الدعوى الإلحادية ¬

_ (¬1) الفلسفة النشوئية .. ، د. محمود المسلماني ص 183. (¬2) يتكرر عرضه لهذا الخط في أكثرُ من كتاب من كتبه، منها: القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني ص 19، 121، وانظر: الإِسلام، الأخلاق والسياسة ص 183، وانظر. أين هو الفكر الإِسلامي؟ ص 162. (¬3) انظر: القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني ص 123.

التي عرفها الغرب، لم تحقق هدفها؛ حيث انحط معها الإنسان في دركات، مما دفع بفلاسفة معاصرين أن يتكلموا على موت الإنسان، وما ذاك إلا بالخلل الكبير الذي أقام تعارضًا بين الإيمان بالله والعناية بالإيمان وبين العناية بالإنسان، بينما الحق أنه كلما زادت عناية الناس بالإيمان الحق حفظت كرامة الإنسان وظهرت سعادته. يحيل أركون في عمله الجديد مع الوحي على مناهج كثيرة فيقول: "إنّ ظاهرة الوحي لم تعد مسألة تخصّ علماء اللاهوت والتيولوجيا فحسب، وإنما هي أصبحت" تخص المؤرخ، وعالم اللسانيات، والدلالات، وعالم الاجتماع، وعالم النفس، ورجل القانون، وعالم الإنتربولوجيا (¬1). مما نجده من ميدان العلوم التي يتابعها هذا البحث ميدان العلوم الاجتماعية، لاسيّما علم النفس والاجتماع والإنتربولوجيا، وقد استعان بها أركون من أجل دراسة الوحي، ومن بين ما تطرحه مثل هذه العلوم قبول الوحي في صورها المعاصرة باعتباره ممثلًا للبعد الأسطوري، وهو بعد لم تعد الدراسات الاجتماعية المعاصرة تستهين به، بل تجده مهمًا للإنسان كأهمية العقل، فالإنسان لا يعيش بالعقل وحده، بل بالوجدان أيضًا، ولا يعبر الوحي هنا عن حقائق موضوعية وإنما هو تعبير مجازي أخّاذ ومؤثر، وعن ذلك يقول مترجم "أركون" حول موقف المسلمين من قرآنهم: ". . . . وبالتالي فلا يمكن أن يحتوي على معرفة خيالية أو قصصية بالمعنى المثالي للكلمة. ولكن الدراسة الألسنية المتأنية للقرآن تكشف عن امتلائه بالمجازات الرائعة التي تخلب العقول. والمجاز هو أداة المعرفة الخيالية أو الشعرية أو القصصية. ولكن المسلم التقليدي ينكر وجوده؛ لأنه يقرأ القرآن قراءة حرفية ويرفض أن يحتوي كتاب الله على أي لغة مجازية أو شعرية. وهذا موقف لاهوتي وليس موقفًا علميًا أو ألسنيًا" (¬2)، ويعيد "أركون" الفضل في إعادة التوازن بين "الجانب الأسطوري ¬

_ (¬1) انظر: الفكر الإِسلامي نقد واجتهاد، د. محمد أركون ص 194، وانظر: الإِسلام، أوروبا، الغرب، د. محمد أركون ص 196، كلاهما من ترجمة هاشم صالح. (¬2) معارك من أجل الأنسنة. . . .، محمد أركون ص 293، ومن كلام المترجم هاشم صالح في الحاشية.

المجازي" وبين "الجانب الوضعي العقلي العلمي" إلى الإنتربولوجيا الثقافية (¬1). يُميّز "أركون" مشروعه بالتعامل المباشر مع الأصل، مع الوحي، مع القرآن، وهو وإن كان ينتقد المنهج الاستشراقي إلا أنه ينتقد فقط توقفهم على العمل الفللوجي والتاريخي، بينما هو يأخذ مادتهم ويسير بها لخطوات أكثر انحرافًا، فمن جعل عمدته المادة الاستشراقية فقد أسس نشاطه على شفَا جُرُفٍ هار، فيزيد على تلك المادة الاستشراقية اللغوية والتاريخية تطبيقات من ميدان العلوم الاجتماعية ويلحقها بنقد فلسفي، ولكن كل ذلك لن يتم إلا بعد تحويل الوحي لمعنى جديد من اختراع أركون حتى يتقبل منهجياته، فقد عرض الوحي كما صوره القرآن من خلال آيتي [الشورى: 51 - 52]، ولكنه لا يقبله، فأدخل أدواته المنهجية لتحويله إلى صورة بشرية لا علاقة لها بالوحي (¬2)، فهو الذي سيحدد صورة الوحي كما يريد حتى يتوافق مع منهجيته؛ لأن الوحي كما هو لا يتقبل مثل ذلك العبث باسم المناهج العلمية، وذلك بتحويله إلى ظاهرة لغوية وثقافية، فيصف بحثه حول الوحي: "وهذا البحث، فيما يحاول تجنب كل التحديدات الدوغمائية واللاهوتية الموروثة، ويجعل ممكنًا فهم الوحي بصفته ظاهرة لغوية وثقافية قبل أن يكون عبارة عن تركيبات تيولوجية أو لاهوتية" (¬3)، فإذا حول الوحي لظاهرة لغوية وثقافية؛ أي: بصريح العبارة: إلى ظاهرة بشرية، يقول مترجمه عنها: "أركون يعتبر الوحي ظاهرة مثله في ذلك مثل الظواهر الطبيعية كسقوط المطر، أو هبوب الرياح أو أية ظاهرة أخرى. . . ." (¬4)، عندها يمكن دراسته بالمناهج العلمية المختلفة واللغوية، ويوصل ذلك لنتائج خطيرة منها: "فإنه يمكننا القول بوجود وحي في كل مرة تظهر فيها لغة جديدة، وتجيء لكي تعدّل جذريًا من نظرة الإنسان عن وضعه. . . . إن الوحي يعني حدوث معنى جديد في الفضاء الداخلي للإنسان. ." (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق ص 294. (¬2) الفكر الإِسلامي. . . . ص 78 - 79. (¬3) المرجع السابق ص 78. (¬4) القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني ص 98 من الهامش. (¬5) الفكر الإِسلامي. . . . ص 83.

كما أن "تحديدنا الخاص الذي نقدّمه عن الوحي يمتاز بخصيصة فريدة، هو أنه يستوعب بوذا وكونفوشيوس والحكماء الأفارقة، وكل الأصوات الكبرى التي جسّدت التجربة الجماعية لفئة بشرية ما، من أجل إدخالها في قدرٍ تاريخي جديد وإغناء التجربة البشرية عن الإلهي. إنه يستوعب كل ذلك ولا يقتصر فقط على أديان الوحي التوحيدي" (¬1). هكذا تُوصِل منهجية "أركون" العلمية في باب الوحي إلى إنكار الوحي، العلمية هنا حول الوحي تعني: إنكاره، وذلك أن المناهج العلمية لا يمكنها في الحقيقة التعامل المناسب مع الغيب، مناهج البشر الحسية لا تنطبق إلا على المجالات المحسوسة، وأمور الغيب ليست محسوسة، ومن هنا محاولة "أركون" في تحويل الوحي لفكرة محسوسة أو التكذيب بحقيقته الغيبية وتحويله لمجاز وأساطير حتى يمكن تطبيق المنهجيات عليه. قد يرفع المتغربون سبهم للإسلاميين بعدم تطبيق المنهجيات العلمية على الوحي، والحقيقة أنهم من أكثر الناس تحمسًا للعلوم، كيف لا وهم يشعرون بكثرة الحثّ الشرعي على العلم والعلمية، ولكن ليس من العلم تطبيق المنهج على مادة لا تناسبه، وعندما تُقحم مناهج علمية على أبواب لا تناسبها يأتي الخلل. عرض الدكتور "غيبة" تصورًا جيدًا عن الوحي في بادئ الأمر ما لبث أن انحرف في آخره، حيث بدأ بسؤال: ما "هي حقيقة الوحي والأنبياء والرسل على ضوء ما يُصَدِّق العقل؟ " (¬2)، ثم استعرض ما ورد في الوحي عن الوحي، ولكنه أساء في تفسيره بعد ذلك لمفهوم الوحي، حيث انطلق من مفهوم الإلهام، الذي يُعدّ مصدر الإبداع عند الإنسان بحسب كلامه، ثم نظر في أهم انبثاقات الإلهام في الشعر، "وليس الشعر هو الإنتاج الوحيد للإلهام. بل كان ولا يزال هناك تواصل دائم بين بعض أصحاب النفوس الذكية، الشفافة، وبين المُثُل الإنسانية من حقيقة وخير وجمال"، وهي في حق الأنبياء أولى، فوحي الأنبياء هو نوع عالٍ من هذا الإلهام، وليس وحيًا بالمعنى الوارد في الكتاب والسنة، وذلك أنه بحسب تصوره تستحيل حقيقة الاتصال بين الرب سبحانه وبين أنبيائه وذاك أشبه ¬

_ (¬1) الفكر الإِسلامي. . . . ص 84. (¬2) هكذا تكلم العقل .. ، د. حيدر غيبة ص 89.

بالاتصال بين عالم الإنسان وعالم النبات إن لم يكن أعصى على التصور والإدراك (¬1)، وهذا المسار لا يختلف عن مفهوم الأسطورة ودورها في الفكر البشري بحسب العرض الأركوني السابق. تأتي الماركسية في تقليعات جديدة، لاسيّما بعد ارتباطها بالدراسات اللغوية الحديثة، وينطلق تصور أحدهم عن الموحى به باعتباره نصًا من جهة، ومن جهة له واقعه المادي، ولذا يتم التعامل معه من خلال هذا البعد "النص والواقع"، فالواقع المادي عند الماركسية التقليدية هو المكون للبنى الفوقية مثل الدين والثقافة، ومع الماركسية المطَورة هو المكون للنص، وهنا يأتي ما هو أبعد من ذلك؛ فالوحي ذاته من الواقع، وكذا النبوة، ويمكن تفسيرها من خلال الواقع ذاته، وبهذا لا يكون مفارقًا للواقع ولا يكون فيه أي غيب (¬2)، فهذه الرؤية هي من المسار الأركوني نفسه، وإن كانت تركز على الدراسات اللغوية. تتفق الأمثلة السابقة على نفي الوحي، وتحرص على تحويله لظاهرة بشرية، ثم منهم الغلاة الصرحاء الذين يعتبرونه وهمًا يمكن التخلص منه بالعلم، مثل "شبلي شميل"، ومنهم من يحوله إلى أسطورة بالمفهوم الذي تطرحه العلوم الاجتماعية عن الأسطورة، لاسيّما من جهة حاجة الإنسان إلى نوع من الأسطورة، فالوحي وإن لم يكن له حقيقة دينية ثابتة فهو كنوع من الأسطورة له أهميته ودلالاته، وحقيقة القول هو التكذيب بالوحي. وممن انحرف في باب الوحي وأنكر مرجعيته تحت دعوى العقلانية والعلمية "د. لويس عوض"، وقد نُقل عنه قوله عن الكتب السماوية: "هي أشعار بعضها جيد وبعضها رديء" (¬3)، وفي حديثه عن كتاب "طه حسين -في الشعر الجاهلي" زعم أن منهج طه حسين هو المنهج العلمي وأن العقل الذي فيه هو العقل العلمي، بينما العقل المعارض له ليس سوى وجدان ديني، ويرى "لويس" قيمة كتاب "حسين" بأنها كانت في المنهج القائل: "إن الدليل النقلي وحده لا ¬

_ (¬1) انظر: هكذا تكلم العقل ص 97. (¬2) انظر: التفسير الماركسي للإسلام .. ، د. محمَّد عمارة ص 56، وانظر: الفصل الأول والثاني من الباب الأول من كتاب مفهوم النص. . . .، د. نصر أبو زيد ص 31 - 74. (¬3) لويس عوض -الأسطورة والحقيقة، د. حلمي القاعود ص 61.

يكفي، وإن عنعنة القدماء عن القدماء أو المحدثين عن القدماء لا تكفي، بل ينبغي أن يمتحن كل شيء بالدليل العقلي وبالدليل الاستقرائي" (¬1)، ومما امتدحه "لويس" أيضًا في كتاب طه حسين: رفضه صحة قصة إبراهيم وإسماعيل وبناء الكعبة، فهي ليست حقيقة تاريخية، زاعمًا أن رفض "طه حسين" كان "وليد العقلانية والمنهج العلمي" (¬2). بمثل هذه الروح الماركسية المتغربة يتكلم لويس عن القرآن ومرجعية الوحي وكأنها مرجعية خرافية أسطورية، وما كأنه الحق من رب العالمين، بينما يتكلم عن الفكر البشري القابل للصواب والخطأ والمستغل من قبل أعداء الدين وكأنه حق مطلق، ويكثرون من مصطلحات "المنهج العلمي" و"العقل العلمي" بينما لا علاقة لها بالعلم. أختم بمثال معاصر في هذا الباب ألا وهو "د. حسن حنفي": توسع أهل التغرب في استخدام المنهجيات الغربية مع الوحي، إما لنقده والتكذيب به، أو لتحويله عن مراده إلى أبواب تتسع لاستخدامات المتغرب وإسقاط أفكاره على الوحي. وممن بدّل مفهوم الوحي ليتسع لمقولاته الدكتور حسن حنفي، فهو ممن اطلَّع على آخر المنهجيات وعَرَف كثيرًا منها، وقد ذُكر بعضها في فقرة سابقة، ومن هذه المنهجيات ما أسماه "الشعور"، وهو مصطلح غامض لم يحدد له معنى، رغم كثرة ترديده له، وقد استخدم هذا المفهوم الغامض في التلاعب بموضوع الوحي. وعندما نبحث عن معنى محدد للشعور ونبحث عن ما يقابله من تطبيقات حتى نتأكد من سلامة العمل، فلا نجد إلا الغموض، ولكن النتائج واضحة، وهي متمثلة في تبديل الوحي. لقد عرفنا فيما سبق مفهوم الوحي الديني كما ورد في الكتاب والسنة، وعند مقارنتها بما يذهب إليه حسن حنفي نجد حجم التبديل والتحريف. يقول: "نصوص الوحي نشأت في الشعور، إما في الشعور العام الشامل ¬

_ (¬1) ثقافتنا في مفترق الطرق ص 152 نقلًا عن تلميذه غالي شكري في كتابه: النهضة والسقوط .. ص 251. (¬2) أوراق العمر ص 464 نقلًا عن: لويس عوض -الأسطورة والحقيقة، د. حلمي القاعود ص 58.

وهو ذات الله أو في الشعور المرسل إليه والمعلن فيه، وهو شعور الرسول أو شعور المتلقي للرسالة، وهو شعور الإنسان العادي الذي قد يشعر بأزمة فينادي على حل ثم يأتي الوحي مصدقًا لما طلب". ويقول: "نصوص الوحي ليست كتابًا أنزل مرة واحدة مفروضًا من عقل إلهي ليتقبله جميع البشر، بل مجموعة من الحلول لبعض المشكلات اليومية التي تزخر بها حياة الفرد والجماعة. . . ." (¬1). ويقول: "عندما نتحدث عن الوحي كمقصد من الله إلى الإنسان فإننا لا نستعمل لفظة "الله" للدلالة على شخص أو ذات أو قدرة مشخصة أو غيرها بل نتحدث عن واقعة الوحي ذاتها. ولفظة "الله" ليس إلا لفظًا عرفيًا استعمله الناس للدلالة على معنى عام، ويمكن استعماله مبدئيًا نظرًا لسهولة استخدامه في إيصال المعاني. . . ." (¬2). هذه الشواهد المختارة من بين عدد كبير من النصوص مليئة أولًا بألفاظ سيئة لا يصح إطلاقها في أبواب العقائد، وكل فقرة منها قد تحتاج لوقفة، ولكن ذلك ليس المراد، وإنما المراد أخذ تصور عن الروح العلمية والمنهجية التي يطبقها حنفي على الوحي، وأبعادها الخطيرة، ومما نجد هنا: • إلغاء المفهوم الحقيقي لمعنى الوحي الوارد في الكتاب والسنة، وتحويله إلى معاني غامضة. • إهمال مصدر الوحي، وهو الرب سبحانه، وهو بهذا الإهمال يلغي مفهوم الوحي تمامًا. • بعد تعديل مفهوم الوحي عن معناه الحقيقي وإغفال مصدره، حوّله إلى معطى للشعور، إنه انبثاق من الشعور الفردي والجماعي، أو هو بعبارات الماديين معطى تاريخي، ظهر في الأرض من الناس واستجابة لحاجاتهم، وهذا ما يؤكده مبحث أسباب النزول (¬3)، وإذا كان الأمر كذلك، فلا بأس من تحويل معناه ليتناسب مع الحاجات الجديدة. ¬

_ (¬1) التراث والتجديد. . . .، حسن حنفي ص 136. (¬2) من العقيدة إلى الثورة 2/ 606. (¬3) انظر: التراث والتجديد، حسن حنفي ص 151.

القسم الثاني: دعوى وجود رأي علمي آخر حول بعض الغيبيات دون شرط المعارضة

فهذه الرؤية العلمية الفكرية الحديثة أوصلت صاحبها في الحقيقة إلى عملية حقيقتها التلاعب بالوحي، تحت مسمى نظرية التفسير المعاصرة. * * * القسم الثاني: دعوى وجود رأي علمي آخر حول بعض الغيبيات دون شرط المعارضة: فهذا يكون في عالم المخلوقات الموجودة، ولكن بداية خلقها كان في أزمان بعيدة، مثل خلق السماوات والأرض والكائنات الحية والإنسان، فهذه إما أن العلم الحسي لا يستطيع القطع فيها، وهذا هو حال كل الأمور البعيدة في الزمن الماضي، ولذا كل ما يُقال في هذا الباب هو من النظريات التي لا يمكن القطع بها، وهي نظريات تقبل التغير والتطور بحسب فلسفة العلم المعاصرة، وقد يأتي زمان يحدث فيه قطيعة معرفية بين نظريات تسود في وقت وبين نظريات جديدة تولد، لاسيّما حول خلق السماوات والأرض وخلق الحياة وخلق الإنسان، فقد جاء في الخبر ذكر ذلك بأوصاف محددة، ولكنها عند أهل الإِسلام من أمور الغيب التي لها حقيقة موضوعية يُعرف معناها ولا تعرف كيفيتها، فالكيفية من علم الغيب، ومعناها معلوم بما ورد في الخبر، فالله سبحانه هو خالق السموات والأرض والحياة والإنسان، وما أشهدنا على خلق ذلك، قال -تعالى-: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)} [الكهف: 51]، وقد أخبرنا سبحانه بأشياء عن خلقه فعرفنا معناها ولكن جهلنا كيفيتها كما هو حال الغيب. فالقول في هذا الباب بأنه وإن تكلم علماء الطبيعة على هذه الأمور، وقدّموا نظرياتهم المختلفة، فإنه في فلسفة العلم المعاصرة لا يُقطع بها، فالنظرية كما سبق مرارًا هي أداة للفهم والتفسير، وقد تأتي صورة أخرى لها في زمن لاحق. فمن باب أولى أن لا يُقطع بها عند المسلمين؛ لأنهم يعلمون أن هذه النظريات رغم ما تتمتع به من تجارب واسعة وحسابات دقيقة فإنها في غياب الاسترشاد بالوحي تخبط في مجاهيل الماضي، مما يجعل العلمي والموضوعي منها ناقصًا حتى يرتبط بالوحي. فإن ما يذكرونه إنما هو من النظريات التي هي غاية ما وصل إليه جهدهم في ظل السقف المعرفي الذي أتيح لهم بأجهزتهم

المبتكرة وحساباتهم الرياضية الممكنة وملاحظاتهم ومشاهداتهم البشرية، ولكن هذا السقف قد يرتفع مع اكتشاف أجهزة أخرى أو حسابات أخرى أو ملاحظات أدق، وقد رأى العالَم أثر اكتشاف عالم الذرة بالأجهزة الحديثة في تغيير كثير من الأفكار حول النظريات السائدة، كما رأى العالَم أثر ظهور حسابات جديدة مع نظرية النسبية في تغيير كثير من الأفكار حول النظريات السائدة أيضًا، ورأى العالَم أثر التطورات الكبيرة في دراسات الجينات في تغير كثير من التصورات حول الكائنات الحية. والموقف الإسلامي في مثل هذا الباب هو أن القطعي من الأدلة هو المقدم، والقطعي هنا هو خبر السماء الذي جاءنا من خالق العوالم، والعارف بها، والشاهد سبحانه خلقها، وكفى بالله شهيدًا. ولهذا ما جاء من النظريات إما أنه يُنكِر الحق القطعي من الدين، فقد علمنا ولله الحمد بطلانه، وعلينا إراحة أنفسنا منه، أو أنه من الأمور التي يتحدث عنها الدين، أو عرفنا من الدين معناها دون كيفيتها، فغالب هذا النوع قد يناسبه السكوت، ويترك لمنطق الصواب والخطأ العلمي التجريبي، وما يُظنّ أن فيه تعارضًا مع الدين فتكون موطن الاجتهاد الشرعي، وتكون بطريق اجتماع علماء المسلمين في الشرع وفي العلوم الطبيعية لدراستها وبيان الأصوب في هذا الباب، وذلك مثل تلك الأرقام الكبيرة التي تقال عن تاريخ أحداث كونية مثل وجود الكون، فقد اعتمد علماء الطبيعة على مقاييس خاصة توصلوا بها لمثل تلك الأرقام الزمنية، ومعلوم أن الزمن الغيبي الذي وقع فيه الخلق ليس مثل الزمن الذي نعرفه. فمثل هذه المساحة تكون موطن البحث والنظر والاجتهاد، ولاسيّما أنها قد تكون بابًا لبعض المنحرفين للطعن في الغيبيات كما أنها قد تكون موطن اشتباه عند من لم يكن عالمًا بالشرع ولم يكن عالمًا بحقيقة العلوم الطبيعية ممن يدرس العلوم العصرية أو يقرأ عنها، فيسبق إليه شيء من الشُبَه؛ لذا كان من المهم اجتماع علماء المسلمين في باب العلوم الشرعية وفي باب العلوم الطبيعية لمعالجة أمهات الإشكاليات في هذا الباب. والآن ننظر في بابين وقع حولهما الإشكال، وهما: الأول: باب بداية الخلق ووجود الكون. الثاني: باب خلق آدم -عليه السلام- وأصل الإنسان.

كثرة ورودهما في الكتاب والسنة، وتأليف العلماء فيهما، وأهمية الحذر من الإسرائيليات الواردة فيهما: لقد جاء ذكر خلق الكون والحياة والإنسان وآدم وبقية المخلوقات في الكتاب والسنة، وقد ورد في ذلك من الغيب ما لا يستطيع البشر معرفته بعلومهم أو عقولهم، وقد يكون منه ما يراه البشر، والعاقل من استدل بالمعلوم على الغيب. وقد كان الناس يسألون الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فيجيبهم عما سألوا، مما يدلّ أن النفوس تشتاق لمعرفة ذلك. ومن ذلك ما ذكره البخاري عن عمران بن حصين قال: "دخلت على النبي - صلي الله عليه وسلم - وعقلت ناقتي بالباب، فأتاه ناس من بني تميم، فقال: اقبلوا البشرى يا بني تميم، قالوا: قد بشرتنا فأعطنا، مرتين، ثم دخل عليه ناس من أهل اليمن، فقال: اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم، قالوا: قد قبلنا يا رسول الله، قالوا: جئناك نسألك عن هذا الأمر [أي: الحاضر الموجود]، قال: كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السموات والأرض، فنادى مناد: ذهبت ناقتك يا ابن الحصين، فانطلقت فإذا هي يقطع دونها السراب فوالله لوددت أني كنت تركتها"، وروي عن طارق بن شهاب قال: سمعت عمر - رضي الله عنه - يقول: قام فينا النبي - صلي الله عليه وسلم - مقامًا، فأخبرنا عن بدء الخلق، حتى دخل أهل الجنة منازلهم [هي غاية قوله: "أخبرنا"؛ أي: أخبرنا عن مبتدأ الخلق شيئًا بعد شيء إلى أن انتهى الإخبار عن حال الاستقرار في الجنة والنار، ووضع الماضي موضع المضارع مبالغة للتحقق المستفاد من خبر الصادق، وكان السياق يقتضي أن يقول: حتى يدخل، ودل ذلك على أنه أخبر في المجلس الواحد بجميع أحوال المخلوقات منذ ابتدئت إلى أن تفنى إلى أن تبعث، فشمل ذلك الإخبار عن المبدأ والمعاش والمعاد]، وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه (¬1). وقد ألف علماء الإسلام في ذلك، فجمعوا ما ورد من آيات وأحاديث، ¬

_ (¬1) صحيح البخاري برقم (3190، 3193) باب ما جاء في قول الله -تعالى-: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} من كتاب بدء الخلق، وما بين القوسين المعقوفين من شرح ابن حجر -رحمه الله-، الفتح 6/ 332 - 333، وانظر: شرح هذا الحديث وما فيه من مسائل، فتاوى ابن تيمية 18/ 210 - 243، ففي ذلك فوائد مهمة تتعلق بالباب.

ورتبوها وبينوا معانيها، وليس هذا مقام ذكرها، ومن ذلك كتب التفسير في أثناء تفسير الآيات الواردة في الباب، والسنة النبوية مثل كتاب بدأ الخلق وكتاب أحاديث الأنبياء من صحيح البخاري، وكتب العقائد الإِسلامية وهي كثيرة، وكتب التاريخ الإسلامي، ومن ذلك -مثلًا- ما خصصه ابن كثير أول كتابه وآخره، البداية والنهاية، وقد جعل خلق الكون والإنسان في أوله (¬1). ومن المهم في هذا الباب الانتباه لمسألة الإسرائيليات التي يرويها العلماء عن بعض أمور الغيب، فقد كان المفسرون والمؤرخون يذكرون شيئًا من الإسرائيليات في هذا الباب. يقول ابن كثير في تاريخه عن مصدره: "ما ورد في ذلك من الكتاب والسنة والآثار والأخبار المنقولة المقبولة عند العلماء وورثة الأنبياء، الآخذين من مشكاة النبوة المصطفوية المحمدية على من جاء بها أفضل الصلاة والسلام. ولسنا نذكر من الإسرائيليات إلا ما أذن الشارع في نقله مما لا يخالف كتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهو القسم الذي لا يصدق ولا يكذب، مما فيه بسط لمختصر عندنا، أو تسمية لمبهم ورد به شرعنا مما لا فائدة في تعيينه لنا، فنذكره على سبيل التحلي به لا على سبيل الاحتياج إليه والاعتماد عليه. وإنما الاعتماد والاستناد على كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ما صح نقله أو حسن وما كان فيه ضعف نبينه. وبالله المستعان وعليه التكلان" (¬2). وقد ذكر مثل ذلك في أول تفسيره، فقال: "ولكن هذه الأحاديث الإسرائيلية تُذكر للاستشهاد، لا للاعتضاد، فإنها على ثلاثة أقسام: أحدها: ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق، فذاك صحيح. والثاني: ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه. والثالث: ما هو مسكوت عنه لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل، فلا نؤمن به ولا نكذبه، وتجوز حكايته لما تقدم، وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود ¬

_ (¬1) أُخرج مستقلًا، مثل ما أخرجه إبراهيم الجمل بعنوان (بداية الخلق) طبع دار الكتاب العربي. (¬2) البداية والنهاية، لابن كثير 1/ 6 - 7، تحقيق علي شيري، دار إحياء التراث العربي، ط 1، 1408 هـ، بيروت.

إلى أمر ديني؛ ولهذا يختلف علماء أهل الكتاب في هذا كثيرًا، ويأتي عن المفسرين خلاف بسبب ذلك" (¬1)، فهذه الإسرائيليات ذكرها العلماء دون قصد الاعتضاد، ولكن قد يختلط الأمر في زمننا على غير المتخصص، فيظن أن ذلك مما ثبت في الإِسلام، ولذا فهي في حاجة في زمننا بعد أن كثرت المشكلات إلى تحقيق وفصل بين الإِسلامي والإسرائيلي منها؛ حتى لا يقع الجاهل بالعلم الشرعي في أخطائها، ومن ثم يصدق بمقولات المتغربين الطاعنة في الغيب. وقد يكون من الحسن ذكر طريقة أحد علماء الإِسلام في مثل هذه الأبواب، وهو الإِمام البخاري صاحب الصحيح، ففي ما يتعلق بهذين المبحثين نجدهما في كتابين من كتب صحيحه، أولهما كتاب "بدء الخلق" قال ابن حجر: "ابتداؤه والمراد خلق المخلوقات" (¬2)، بدأها بباب "ما جاء في قول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}، وفي الباب تأكيد لأمرين عظيمين أولهما أن العالم من خلق الله ابتداء، والثاني أن الخلق هو هيّن عليه سبحانه، وهنا أمران يُغفَلان عند أهل العلوم العصرية عند الحديث عن المخلوقات. ثم أتبعه بباب عن السموات والأرض، ثم باب عن النجوم، ثم الشمس والقمر، ثم الرياح، ينتقل بعدها لعالم آخر وهم الملائكة، ثم الجنة والنار وإبليس والجن. وفي هذا الكتاب المختصر ذكر أول الأمر وآخره". أما خلق آدم -عليه السلام- فقد ذكره في الكتاب الذي بعده، وهو كتاب "أحاديث الأنبياء"، وذكر فيه "باب خلق آدم صلوات الله عليه وذريته" وأعقبه بباب "الأرواح جنود مجندة" قال ابن حجر: "للإشارة إلى أنهم ركبوا من الأجسام والأرواح" (¬3)، فمن نظر في نصوص هذه الأبواب عرف مقدار عناية الإِسلام بوضع الأصول الكلية في هذا الباب وغيره. موقف المعاصرين من هذا الباب ممن طالع النظريات العلمية: إذا انتقلنا للناظرين في النظريات العلمية التي تتناول هذين البابين وطريقة تعاملهم معها أو تأثرهم بها فسنجد طائفتين لهما أهمية في هذه الفقرة: طائفة ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير ص 9. (¬2) فتح الباري. . 6/ 330. (¬3) المرجع السابق. . 6/ 426.

ضعيفة أمام هذه النظريات، لاسيّما مع البناء العلمي الضعيف الذي يتلقاه المسلم في زمننا المعاصر، فليس عنده من العلم الشرعي ما يميز به بين الحق والباطل، ويحتك بالثقافة الغربية الفائرة في ذروة شبابه، فلا يجد بُدًّا من الاستسلام لهذه الحركة العلمية، دون قصد مخالفة الدين. وقد تُعالج هذه الحالة بوجود عمل إسلامي في حقل التأصيل للمعارف الحديثة مثل مشروعات التأصيل الإسلامي ومشروعات إسلامية المعرفة وغيرها، وهي نافعة لمثل هؤلاء؛ لأن مشكلتهم تزداد، ويزداد عددهم داخل العلوم العصرية، مع استسلام من قِبَلهم لحركة العلم المعاصرة، فما لم يظهر مشروع قوي للتأصيل الإِسلامي، فسيكونون كتلة مستقبلية كبيرة يصعب تصحيح وضعها، وقد يشكّلون أداة دعم لعناصر التغريب دون قصد منهم. أما الطائفة الأسوأ في هذا الباب فهم المتغربون بشتى مدارسهم، وهؤلاء بعد اطلاعهم على النظريات الحديثة، ثم انخراطهم في تقليد تيارات الفكر العلمانية الغربية، قد يجدون في مثل هذه النظريات العلمية أداة لهدم الدين أكثر من كونها نظرية في مجال علمي، والحقيقة أن محاولة الاستحواذ على النظريات العلمية واستغلالها في الصراعات الدينية والفكرية أمر سائد في العصر الحديث، وقد بلغت ذروتها في الغرب مع بروز المعسكرين الرأسمالي والشيوعي في القرن الماضي، حيث تحمس المعسكر الشيوعي لنظريات معينة؛ ليس لأنها علمية فقط؛ بل لأنها تخدم رؤيتهم الأيديولوجية، وتحمس الرأسماليون لغيرها؛ لأنها تخدم رؤيتهم الفكرية ومصالحهم، وقد يشتركون في نظرية، ولكن كل جهة تفسرها بما يناسبها (¬1)، ويعود السبب لأمرين: لاشتهار العلم من جهة في التعبير عن الحقائق وفي الوصول للفوائد، ولاشتهار التيارات الفكرية الناشطة في الدعوة لمبادئها، فاستعانت التيارات بالعلم في صراعاتها الفكرية. وعندما ظهرت التيارات التغريبية العربية وجدت تجربة كبيرة أمامها وقدوة تقتدي بها، فنقلت ذاك الصراع الفكري إلى العالم الإِسلامي، واستعانت بتلك النظريات في معاركها. ولكن مع تحويل النظريات إلى أداة للصراع يختلف الوضع؛ لأن التركيز لا ¬

_ (¬1) انظر: الفصل الأول والثاني من الباب الأول، وانظر: المبحث الأول من الفصل الثاني من الباب الثالث.

ينصب على الحقيقة في النظرية بل ينصب على المشتبه منها غالبًا؛ لأنه الأداة الأنسب في الصراع، ومن ذلك ما نجده مع المتغربين العرب، لاسيّما في باب عظيم مثل باب العقيدة. فإنه لما فيه من غيب يصعب الاكتفاء فيه بالعقل أو الحس، فلابد فيه من الخبر الصحيح، يصبح فرصة للمتغربين وأصحاب الأهواء، فيطعنون في الدين من خلال الطعن في الغيب وذلك بذكر النظريات العلمية المخالفة له، فيلبسون على الخلق بهذه الطريقة، مع أنهم وبسبب الصراع يركزون على الجانب المشكل في النظريات ويتركون القطعي من العلوم؛ وذلك أن الأول يفيدهم بخلاف الثاني فهو ضدّهم. وقد كان هؤلاء يسرحون لوحدهم بداية الأمر لأسباب سبق ذكرها (¬1)، فنشروا الكثير من الشبهات في مجلاتهم وفي الكتب وفي تياراتهم التابعة لهم. الضعف والجهل هما مشكلة الطائفة الأولى، بخلاف الطائفة الثانية فمشكلتها الهوى والجهل، وهنا يأتي الفكر الإِسلامي بمشروعه لرفع الضعف ودفع الهوى، فمع الأول بنشر العلم الشرعي الذي يرفع الضعف، ويعيد الثقة في نفوس الناس بدينهم وبأنفسهم، ومع الثاني بنشر العلم النافع العصري الذي يكشف تلاعب المتلاعبين بالعلوم العصرية، مع ما يصاحب ذلك من جهود فكرية أخرى. نجد من بين أبرز الموضوعات التي يهتم بها العلم الحديث ويطرح العلماء نظرياتهم المختلفة حولها بابين كبيرين هما: "باب بداية الخلق ووجود الكون، وباب خلق آدم -عليه السلام- وأصل الإنسان"، ويمكن استعراض كتابة حديثة نسبيًا حول هذا الموضوع، تجمع في تسلسل مثل هذه المخلوقات. يقول الدكتور هاني رزق: "يمكن تلخيص التسلسل الزمني لمراحل التطور الموجّه على النحو التالي: - اللحظة صفر "10 (- 45) ثانية": حدوث الانفجار الأعظم، بدء الزمن، درجة الحرارة تساوي "10 (37) درجة". - نهاية الثانية الأولى: تحول الطاقة إلى مادة، ولادة القوى الطبيعية ¬

_ (¬1) في الفصلين الثالث والرابع والخامس من الباب الأول.

الأربع، حجم الكون أكبر بقليل من حجم المجموعة الشمسية الحالية. - مئة ثانية: تكون نوى الهدروجين، والهليوم، وبعض نوى المعادن الخفيفة المشتقة من هذين العنصرين. - ثلاثة آلاف عام: تكون ذرات العناصر، انتثار الركام أو السديم الكوني، تكون بذور المجرات. - مليار عام: تكون المجرات، حجم الكون أصغر بقليل من حجمه الحالي، ودرجة حرارته تساوي قرابة 7.2 كلفن أو درجة مطلقة. - 8.4 مليار عام: ولادة المجموعة الشمسية ومعها الأرض "التي أصبح عمرها الآن 4.6 مليار عام". - 600 مليون عام عمر الأرض "قبل 4 مليار عام": تتالي الكوارث الثلاث على الأرض: 1 - الرجم بأمطار هائلة من الشهب والنيازك وكتل الصخور الهائلة. 2 - تجمد كل ما على سطح الأرض بسبب ضعف حرارة الشمس الفتية وإشعاعها. 3 - اجتياح عواصف الأكسجين السام لجوها، ونشوء "حياة" الصلصال ذات التقانة الخفيضة. - "800" مليون عام عمر الأرض "قبل 3.8 مليار عام": سيادة عالم RNA . ARN ذي التقانة الرفيعة. - 900 مليون عام عمر الأرض "قبل 3.7 مليار عام": بدء بداية عالم DNA . ADN، استمرار حياة ARN .RNA. - 3400 مليون عام عمر الأرض "قبل 1.2 مليار عام": انفصال المملكة الحيوانية عن المملكة النباتية، سيادة عالم, DNA . ADN ، واستمرار حياة، , RNA. ARN. - 4100 مليون عام عمر الأرض "قبل 500 مليون عام": الانفجار الأعظم "الكمبري" لعالم الحيوان، ظهور التصاميم الأساسية لمخططات أجسام حيوانات اليوم. - قبل ثلاثة ملايين عام: بدء بدايات ظهور الإنسان القديم.

- قبل خمسين ألف عام: ظهور الإنسان العاقل "الحالي"، بدء تشكل الجمهرات البشرية وهجرتها" (¬1). فمثل هذا العرض يقفز على ما ورد ذكره في الوحي، ولا ينتبه له، كما أن في العرض شيئًا من إهمال بعض معاني الربوبية باستثناء ما يذكره من رعاية الله لنوع من التطور الموجه، فهو يسير وفق تطور عجيب، ويمكن أن يكون ذلك صدفة، فيذكر الرب هنا كتفسير لمثل هذا التطور. كما أن المشكلة تتعمق مع التصور عن الجانب الديني من الموضوع والجانب العلمي فيه، فقد عرض الكاتب في أكثر من موضع تجاور الرؤيتين الدينية والعلمية لكن النتيجة في النهاية للمتأمل هي للعلم الوضعي، فبعد عرضه لنظرية الانفجار العظيم ذكر استنتاجًا له أهميته -كما يقول- للفكر البشري "ونعني بذلك تلازم الإيمان والعلم وتناسقهما في سيادتيهما على الفكر البشري، ومن ثمّ غياب أي تناقض جوهري بينهما. وعلى الرغم من أن لكل من الإيمان والعلم سيادته الخاصة على عقل الإنسان ومنحى تفكيره، فإن الطراز المعياري للانفجار الأعظم "أو خلق الكون" يوحد هذه السيادة، التي هي ظاهريًا فقط ذات شقين، إنما في كينونة واحدة. فكلما تعمقنا في فهم الحقائق العلمية، كلما اقتربنا من الإيمان أكثر، وما من تفسير إلا وبعده تفسير أعمق" (¬2). وفي محاولته بحث سبب التعارض في هذا الباب يقول: "وربما يعود التناقض الظاهري بين الإيمان والعلم إلى حرفية التفسير. فقراءة الخطاب الإيماني يجب أن تكون رمزيًا وليس حرفيًا. وما إن نقرأ نصوص الإيمان، ونفهمها فهمًا حرفيًا، وليس على أساس أنها إشارات ورموز، حتى نقع ضحية تناقضات لا سبيل إلى حلها، ليس مع العلم فحسب، وإنما مع الإيمان نفسه، وحتى مع أنفسنا. وكذلك هي الحال في العلم، فإن اعتقادنا أن قوانينه قادرة على تفسير كل شيء، تبعدنا ليس عن الإيمان فحسب، إنما عن العلم نفسه، وتقربنا كثيرًا من حدود الجهل بحقيقة الأمور" (¬3). ¬

_ (¬1) التطور الموجه، د. هاني رزق ص 84 - 85 ضمن كتاب الإيمان والتقدم العلمي، وتفصيلها نفس الكتاب ص 27 - 84. (¬2) التطور الموجه ص 37. وانظر: ص 87 - 88. (¬3) المرجع السابق ص 88.

وقد استعرض إنجازات العلم المذهلة ولكنه قال: إن "العلم لا يستطيع بمفرده أن يجيب على عدد كبير من التساؤلات. . . ." (¬1)، وهي غالبًا تساؤلات ترتبط بالقدرة الإلهية التي أوجدت تلك الأحداث المختلفة في العالم الصغير "الذرة والخلية" والعالم الكبير "الكون بمجراته" والعالم البعيد "بداية الخلق". ولكنه لا يتجاوز ذلك إلى إثبات ما ورد في الغيب، فقد جعله رمزيًا أو قريبًا من ذلك، بينما الحقيقة عنده تكمن في العلم الطبيعي، ويكون الإيمان فقط لتفسير التحولات والتغيرات التي يستحيل على العلم قول شيء فيها. وقد يكون هذا النوع من الانحراف ناتجًا من الضعف أمام شهرة العلم وضخامته وفتنته، مما يجعل البعض يخشى مخالفته أو أن يُتهم بعدم علميته وتسليمه بالغيبيات، وقد يخف مثل هذا الافتتان عند نجاح النشاط الإِسلامي المقابل له في تأصيل الأطر العلمية وأسلمة المعرفة. قبل مواصلة الحديث مع الاتجاه التغريبي نأخذ بعض الأصول التي تبرز في هذا الباب، قد برزت بعض ملامحها في المثال السابق، وهي أصرح عند المتغربين المتطرفين، ويجدون فيها فرصة للطعن في قضايا الغيب، ومن أهمها -لاسيّما ما له علاقة بالجانب الديني- الأصول التالية: 1 - ترسيخ القول بوجود خطابين للمعرفة والوصول للحقيقة -لاسيّما في تلك المسائل التي جاء ذكرها في الوحي واهتم بها العلم، مثل: خلق الكون والحياة والإنسان- خطاب ديني وخطاب علمي، فإذا جاؤوا إلى الديني الذي تكلم عن هذه القضايا طلبوا تأويله وأن يُعدّ رمزيًا، وإذا جاؤوا إلى العلمي حكموا به وقدموه مع أنه نظريات يصعب القطع بها. والأصل هنا أن لا يصرف الخبر الديني عن ظاهرة إلا عند وجود حقائق قطعية، وهو متعذر في باب النظريات التي تبحث الماضي البعيد. وعند افتراض علمية النظريات وقيامها على تجارب ومشاهدات وحسابات متينة، فهي مع كل ذلك، وباعتراف العلماء وباعتراف فلسفة العلم، لا تتجاوز كونها نظرية ظنية لا يمكن القطع بها، وبهذا يكون المقدم عند تعارض الأدلة هو القطعي منها، وليس ما يفعله هؤلاء من وضع الظني من النظريات موضع القطعي، وصرف القطعي عن ظاهره مطلقًا، ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق ص 91 - 93.

فهذا من عدم الإيمان بالغيب ومن عدم الإيمان بالوحي، ومن عدم الاطمئنان لقول الله تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87]، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء: 122]. 2 - امتداد الرؤية المادية العلمانية إلى إطار النظريات وإلى تفاصيلها، لاسيّما في أبواب الخلق والتسخير والتدبير، فهم لا يتكلمون عن عالم مخلوق وإنما عن عالم موجود، وذلك أن الحديث عن العالم الموجود يبعدهم عن الاعتراف بعالم من خلق الله تعالى (¬1)، ولذا يأتي الحديث في هذا الباب دون ذكرهم خلق الله لهذه العوالم، وهي مفرق طرق بين التصور الإِسلامي والتصور العلماني، فذكر العوالم المخلوقة لا يأتي في القرآن إلا مقرونًا بخالقه ومدبره ومسخره وربه ومليكه، وقد استبدل الاتجاه المادي هذا الخالق سبحانه بالطبيعة، فهي التي تقوم بكل الأدوار التي جاء نسبتها في القرآن لرب العالمين، وهذا في الأمور الجارية على سنن ثابتة، أما البدايات لكل شيء أو التغيرات فتنسب للصدفة، وقد صيغت كثير من النظريات، ومن ثم الكتب العلمية وفق هذا المنظور، فيتم الحديث عن هذا العالم المخلوق وكأنه دون خالق، إنما هو آلة محكمة تدير نفسها بنفسها، وعند وجود تغير أو تحول فالذي لا يخضع منها لمنطق العلم وقوانينه، ومن ثم للطبيعة فيحال للصدفة، وقد أراد بعضهم إثبات مثل هذا الرأي في الصدفة بمنطق العلم الرياضي (¬2)، ومن ذلك هذه الصدفة التي وقعت بخروج الخلية الحية من المادة، مع أن من نظر في عالم الخلية اليوم يعلم كم هي عالم عجيب تلك الخلية، يقول بوكاي: "ومثل هذا القول يساوي تمامًا في أهميته القول بأن إمكانية تكوين جزيئات الصلب من خام الحديد والفحم تحت درجات الحرارة العالية يمكن أن تؤدي -بصورة عفوية- إلى تشييد برج إيفل .. عبر سلسلة من المصادفات الموفقة التي عملت على تجميع المواد في وضعها الصحيح. ومع ذلك فوجه الشبه في المقارنة ضعيف جدًا؛ لأن تعقد التركيب في أي من الأحياء الأولية يفوق -بالفعل- تركيب برج إيفل. . . ." (¬3)، ¬

_ (¬1) قارن: سلامة موسى وأزمة الضمير العربي، د. غالي شكري ص 101. (¬2) انظر حول هذين الصنمين ما كتبه محمَّد يوسف: مصرع الدارونية، الباب الثالث ص 71 - 101. (¬3) ما أصل الإنسان. . . .، د. موريس بوكاي ص 27، ترجمة مكتب التربية العربي لدول الخليج.

بل إن بعض الماديين رفضها وإن تحول إلى لا أدرية مثل البيولوجي الروسي "أوبارين" حيث كتب عن صدفة ظهور الحياة: "إن ذلك يشبه تمامًا أن يمسك أحدهم بقطع كتب على كل منها حروف الهجاء المعروفة، فيخلطها معًا، ثم يبعثرها على الأرض يحدوه الأمل في أن تسقط مصوغة شعرًا موزونًا مقفى. ومن نافلة القول: إن لصناعة الشعر من الأحرف مسارًا آخر -حيث لا تتولد القصائد عن الأحرف بغير المعرفة والتضلع في النظم وترتيب الحروف" (¬1). أما في التصور الإِسلامي فيقوم على إثبات عالمٍ مخلوق، خلق بالحق، من قبل العليم الحكيم القوي القدير سبحانه، ومما ورد من الآيات في ذلك قوله -تعالى-: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)} [لقمان: 20]، وقال -تعالى-: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)} [الحج: 65]، وقال -تعالى-: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)} [البقرة: 29]، وقال -تعالى-: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)} [البقرة: 164]، وقال -تعالى-: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)} [الأنعام: 1 - 2]، وقال -تعالى-: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)} [الأنعام: 73]، وقال -تعالى-: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54]، وقال -تعالى-: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ¬

_ (¬1) المرجع السابق ص 62.

وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)} [الأعراف: 185]، وقال -تعالى-: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)} [يونس: 5]، وقال -تعالى-: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33)} [إبراهيم: 32 - 33]. وقد جمع الله لنا مخلوقاته الثلاثة: الكون والإنسان والحيوان فقال: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)} [النحل: 3 - 5]، وقال -تعالى-: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)} [النور: 45]، وقال -تعالى-: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36)} [يس: 36]، وقال -تعالى-: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)} [الزمر: 5 - 6]، وعشرات الآيات التي لا يأتي ذكر عالم المخلوقات إلا وقُرنت بخلق الله لها وتسخيره وتدبيره وملكه وفعله سبحانه. 3 - قيام النظريات في بعض أجزائها على مخالفة صريحة لما ثبت بالوحي، وغالب ذلك من أثر المادية والإلحاد الذي ساد في الفكر الغربي مع ازدهار العلوم الطبيعية في بيئاتهم، ومن أشهر الأمثلة إنكارهم لخلق الإنسان المستقل، وقد برز ذلك بعد ظهور نظرية داروين، وأهم ما ينكرونه ما ورد من خبر الوحي عن خلق آدم -عليه السلام- ونزوله إلى الأرض، وهي مسألة لا يمكن للعلم أن يصل فيها إلى شيء؛ لأنها من خبر الغيب المحض، ويتبع ذلك ما نجده من مزاعم لوجود صورة بدائية للإنسان لم يكتمل فيها عقله وتركيبة جسده، ثم جاء

زمن ظهر فيه الإنسان بالصورة التي هو عليها اليوم. وهذا مخالف لما جاء في الوحي، فقد خلق الله آدم في أحسن تقويم، وأنزله الله الأرض وأسكنه فيها وهو بهذه الحال. مع العلم أن ما يقولونه في هذا الباب ليس من العلم المقطوع به حتى في دائرة العلم، ولكنه نظريات تقدم كمحاولة للتفسير، وهي في ظل من غاب عنهم هدي السماء مشهورة ومعروفة ولا يمكن منعها، فستبقى نظرياتهم تظهر، مع العلم أن حركة العلم المعاصرة بدأت تنفض يديها من بقايا نظرية داروين، ولكن لا يشترط دائمًا في البديل أن يقترب من الوحي، رغم أن أشهر النظريات مخالفة هي تلك التي تعترف بالخلق الإلهي، ولكن ذلك هو حاصل جهد البحث العقلي والعلمي بعيدًا عن الاهتداء بهدي الوحي، ولذا لا يعوّل عليها، وقد تظهر تيارات إلحادية تعصف بحركة العلم نحو الإلحاد. بل من الأمور الأكثر بشارة بتحسن مسار هذا النوع حتى مع أصحاب القول بالخلق الإلهي، هو تلك الدراسات التي ظهرت في الغرب وتثبت أن القطعي من الاكتشافات العلمية في باب الكائنات الحية، يتفق اتفاقًا واضحًا ما ورد ذكره في القرآن الكريم، ومن بين تلك الدراسات ما قدمه الدكتور "موريس بوكاي" "ما أصل الإنسان؟ إجابات العلم والكتب المقدسة" و"القرآن الكريم والعلم العصري"، وبقدر ما نجد من مبشرات في هجر الأقوال المادية الإلحادية بقدر ما أجد عدم جدوى الانسياق خلفها، فما جاء في القرآن هو الأصل، وهو منطلق الرؤية الإِسلامية، وكل جهود ملاحقة النظريات العلمية محفوفة بالمخاطر، ولكنها تأخذ أهميتها في بيان بطلان الاتجاه المادي وأهم من ذلك في بيان نسبية النظريات ومحدوديتها، وبهذا فهي لا تعتبر حجة في رفض الحق الديني، ولا يصح التسرع في تأويل النصوص الشرعية من أجلها. 4 - تدخل تفاصيل النظريات العلمية حول وجود الكون والحياة والإنسان في باب الكيفيات، ويقاس فيها -غالبًا- الماضي البعيد على الحاضر، وهذا النوع غالبه غير قطعي من جهة علمية، وغير قطعي من جهة دينية، فهو من جهة علمية من غير القطعيات، فهو أحد الأجوبة المقدمة، وقد يأتي غيره، وقد يُكتشف خطؤه، وقد يتغير أو يتطور، وسنجد حول نشوء الكون أكثر من نظرية (¬1)، وكذا حول أصل ¬

_ (¬1) حول النظريات الواردة عن أصل الكون انظر مثلًا: نظريات نشأة الكون في الفكر =

الحياة (¬1)، وكلها تتنافس في هذا الباب، وهو من جهة دينية مما لا يمكن القول فيه بقول قاطع لعدم ورود نص صحيح صريح حول الكيفيات التي وقع بها الخلق للمخلوقات، منذ أن خلق الله السموات والأرض حتى اللحظة التي استطاع الإنسان اكتشاف مكونات المخلوقات المادية والحية، حتى أصغر شيء فيها من الذرة وما بداخلها في عالم المادة، ومن خلية وعالمها في عالم الكائنات الحية، ثم استطاع معرفة شيء من طريقة عملها. فلم يأت القرآن بذلك وما كان غرضه ذكر هذه التفاصيل التي يذكرها علماء الطبيعة، ولكن ورد في القرآن والسنة أصول عامة حول هذه المخلوقات، مثل خلق السموات والأرض والحياة والإنسان، ومن ذلك خلق السموات والأرض قبل الإنسان، ومن ذلك أن كل كائن حي يرجع إلى الماء، قال -تعالى-: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)} [الأنبياء: 30]، وقال -تعالى-: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور: 45]، ومن ذلك أصل الزوجين في المخلوقات الحية، قال -تعالى-: {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [الرعد: 3]، وقال -تعالى-: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49)} [الذاريات: 49]، ومنها خلق الكائنات الحية من هذه الأرض ومنهم آدم الذي خلق من تراب، قال -تعالى-: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)} [آل عمران: 59]، وقال -تعالى-: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18)} [نوح: 17 - 18]، والآيات في ذلك كثيرة. وتبقى هذه أصولًا عامة، وكل ما خالفها يعلم بطلانه، أما الكيفية فهي مما لا نعلمها؛ لأنه لم يرد فيها نص، وغالب ما يقوله أهل العلوم مما يدخل في باب الكيفيات، فإن كانت من الغيب الذي لا يمكن للبشر علمه إلا بالخبر مثل خلق آدم -عليه السلام-، فكل دعوى حوله هي من الرجم بالغيب؛ لأنه لا طريق لها إلا بالخبر، بخلاف خلق الإنسان، فقد كان أمره من الغيب النسبي، وقد جاء ذكر تفاصيل ذلك في القرآن، وكانت التفاصيل المذكورة غير ممكنة المعرفة زمن نزول القرآن، فكانت من الغيب النسبي، ثم مع تطور ¬

_ = الإِسلامي، د. إبراهيم تركي ص 435، وانظر: الموسوعة العربية العالمية 20/ 299. (¬1) حول النظريات الواردة في أصل الحياة انظر مثلًا: نظرية التطور عند مفكري الإِسلام. دراسة مقارنة، د. محفوظ عزام ص 128، وانظر: ص 172.

الأجهزة الحديثة التي تُصوّر كيفيات تخلق الجنين في بطن الأم عُرف معنى تلك الآيات على وجه مفصل، وهذه من دلائل النبوة، حيث إن ما جاء في القرآن هو نفسه الذي كشفته الأجهزة، قال شيخ الإِسلام ابن تيمية حول قوله -تعالى-: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)} [العلق: 1 - 2]: "فذكر الخلق مطلقًا، ثم خص خلق الإنسان أنه خلقه من علق. وهذا أمر معلوم لجميع الناس، كلهم يعلمون أن الإنسان يحدث في بطن أمه، وأنه يكون من علق، وهؤلاء بنو آدم. وقوله: الإنسان هو اسم جنس يتناول جميع الناس، ولم يدخل فيه آدم الذي خلق من طين؛ فإن المقصود بهذه الآية بيان الدليل على الخالق تعالى، والاستدلال إنما يكون بمقدمات يعلمها المستدل. والمقصود بيان دلالة الناس وهدايتهم، وهم كلهم يعلمون أن الناس يخلقون من العلق. فأما خلق آدم من طين فذاك إنما علم بخبر الأنبياء أو بدلائل أخر. ولهذا ينكره طائفة من الكفار الدهرية وغيرهم الذين لا يقرون بالنبوات. وهذا بخلاف ذكر خلقه في غير هذه السورة. فإن ذاك ذكره لما يثبت النبوة وهذه السورة أول ما نزل وبها تثبت النبوة فلم يذكر فيها ما علم بالخبر، بل ذكر فيها الدليل المعلوم بالعقل والمشاهدة والأخبار المتواترة لمن لم ير العلق" (¬1). فما كان من الغيب الذي لا يُعلم إلا بالخبر، فهذا لا يستطيع الناس القطع فيه بشيء، وأما ما كان من الغيب النسبي، ومن ذلك بعض الكيفيات التي وقع عليها الخلق، فهذه إن جاء العلم بذكر شيء منها مما ورد ذكره في الوحي، فلابد من اجتماع علماء المسلمين من البابين: علماء الشريعة وعلماء الطبيعة، فيُخرجوا الاجتهاد الشرعي حول هذه الأمور. ومن نظر في واقع الناس اليوم عرف أهمية مثل هذا العمل، بسبب فوضى النظريات العلمية في أبواب الغيب النسبي، وقد تؤثر في الناس لاسيّما وهي موجودة في كل مكان، ومثل هذا الباب لا يكفي فيه جهد باحث، وإنما هو في حاجة لعمل مؤسسي، وقد أقام الناس مؤسسات وجمعيات في أبسط الأمور وأقلها شأنًا، فمن باب أولى أمور عظيمة مثل هذا الباب. مع أن المهتمين بهذه المجالات العلمية يعترفون بصعوبة الجزم في مثل هذه الأبواب، ومع ذلك تجد المتغربين يطرحونها بكل سهولة في ¬

_ (¬1) الفتاوى 16/ 260 - 261.

مقابل الدين دون تعظيم للدين، ومن ذلك ما نجده عند "رزق " حيث يقول: "مع أننا نواجه عند بحثنا لأصل الحياة "وليس لأصل الإنسان" صعوبات تماثل الصعوبات التي نصادفها عند الحديث عن أصل الكون، إلا أن بساطة العلاقة بين الطاقة والمادة، وأنواع المقاريب، والسواتل، والمسابير الفضائية، وكذلك المسرعات الضخمة التي بناها العلماء، والدراسات النظرية الرياضية والفيزيائية، حولت، كما سبق أن عرضنا، فرضية الطراز المعياري للانفجار الأعظم إلى نظرية راسخة معيارية، تستطيع تفسير أمور عديدة تطرحها الرياضيات الكونية، وتنبثق عن الدراسات، التي تجري في نطاق الفيزياء الفلكية. إن البحث عن أصل الحياة يفتقر إلى هذه الأمور كلها. ويزيد في صعوبة إجراء بحوث معمقة حول أصل الحياة تعقد الحياة نفسها مقارنًا بالمادة التي تشكلت نتيجة الانفجار الأعظم. . . . وعلى الرغم من هذه الصعوبات الجسيمة، فإن تقدم البيولوجيا الجزئية في النصف الثاني من هذا القرن، أدى إلى اختصار عدد الأسئلة التي كانت تطرح في هذا الصدد. . . ." (¬1)، ويقول عن أصل الأرض: "مع أن أصل الأرض ما يزال يعتوره الغموض، إلا أنه يرجح بأنها ولدت نتيجة تصادم نجم مع نجم آخر، أو مع كوكب ضخم. ولقد حدث هذا قبل 4.6 مليار عام. . . ." (¬2)، بل هذا ما ينقل حتى من أصحاب النظريات كما نقل مثلًا عن "داروين" قوله: "إن سرّ بداية الأشياء غير قابل للحل. أما فيما يتعلق بي شخصيًا فإنني قانع بأن يكون موقفي هو موقف اللاأدري حول هذا الموضوع" (¬3). بعد عرض هذه الأصول أقف مع نماذج أكثرُ تطرفًا وغلوا وأصرح في التغريب ومحاربة الدين عن طريق التكذيب بالغيب بحجة تعارضه مع العلم، أو أصرح في التبعية العمياء وتحريف أي نص غيبي لا يتوافق مع ما يتصوره علمًا. أمثلة من الانحراف حول خلق الكون: قد نجد من يعرض التصور الإِسلامي عن هذا الباب بحسب ما يفهم بعقله من الآيات الواردة، ثم يحولها كفرع تحتاج إلى أصل توافقه، بينما الحق أن ¬

_ (¬1) التطور الموجه، د. هاني رزق ص 53، ضمن كتاب الإيمان والتقدم العلمي. (¬2) المرجع السابق ص 66. (¬3) نظرية التطور عند مفكري الإِسلام. دراسة مقارنة، د. محفوظ عزام ص 33.

يكون القرآن هو الإطار، وهو الأصل، وهو السقف، وهو الرؤية، ثم يكون غيره فرعًا له، وهذا ما نجده مثلًا عند هذا الكاتب، فبعد عرضه لعدد من الآيات حول الكون قال: "يُستخلص مما سبق أن نظرة الإِسلام إلى الكون تتفق مع نظرية النشوء والارتقاء لداروين وأتباعه من الطبيعيين إلى حد بعيد. فالكون كان كتلة واحدة "رتقًا" ثم انقسمت "انفتقت" بإرادة إلهية، لعلها عن طريق الانفجار العظيم. . . ." (¬1)، ولولا هذا الاتفاق بحسب تصوره لقام بتحريفها كما حرف الكثير في كتابه. يقوم الاتجاه التغريبي بعرض النموذج العلمي عن وجود الكون والحياة والإنسان بوصفها منافسًا لما ورد في الدين، بل بديلًا حقيقيًا، ويَستثمر كل مكان مشتبه للطعن في الدين، ويُصور الأمر على أنه انتقال من الخرافة إلى العلم. فيَعرض وجود الكون والأرض والحياة والإنسان بهذا التسلسل، ثم يتبع ذلك بالتكذيب بكل أمور الغيب، ومختصر طريقتهم في ذلك هي: يأتي أولًا وجود الكون والسموات والأرض ثم الحياة والكائنات الحية ثم الإنسان، ثم يأتي بعدها تصورات الإنسان عما حوله، فبعد نمو دماغه استطاع أن يضع تصوراته حول هذه الموجودات، ولقدرة الدماغ على الخيال فهو يبتكر تصوراته بشكل أسطوري وخرافي عن هذه الموجودات التي يعجز عن معرفتها، ومن ذلك: كيف وجد الكون؟ وكيف تحدث التغيرات في الطبيعة؟ وكيف ظهر الإنسان؟ وهل هناك عوالم خفية تحيط به يرمي عليها تفسير فعل ما لم يستطع تصوره؟ ويُقحم المتغربون في هذا الباب -تبعًا للفكر الغربي العلماني- الأصول الدينية التي أُرسل بها الرسل ونزلت فيها الكتب، ويخلطون في الباب بين الحق والباطل من خلال المقارنة بين الدين الحق وبين الأديان المبدلة أو المخترعة أو البدع والانحرافات. لا يحرص الدكتور رزق -صاحب التطور الموجه- على إبراز ما يعارض الدين من النظريات العلمية، ولكنه يقع في الإشكال المنهجي من جهة تصوره للدين كرموز بينما النظريات هي حقائق، وهو يظن أنه يحسن للدين وهو يسيء له بذلك، كما أن فلسفة العلم المعاصرة لم تعد ترى النظريات ذات تعبير صرف عن حقائق موضوعية، وقد رأينا في المبحث الأول من هذا الفصل اتجاه أغلب ¬

_ (¬1) هكذا تكلم العقل. . . .، د. حيدر غيبة ص 219.

العلماء في باب العلوم الطبيعية نحو المثالية، كما رأينا في المبحث الأول من الباب الأول مقولة العوالم الثلاثة في المجال العلمي، وخلاصتها في الطرفين أن التعبير عن حقائق موضوعية في غاية الصعوبة، وأن كل ما نعبر عنه هو عن ظواهرها، وأن ما نعبر عنه إنما هو تصورات ذهنية قد تكون بعيدة عن الحقيقة الموضوعية للأشياء. وليس المقصود التسليم بهذه النتائج، بقدر ما المقصود إثبات اختلاف مؤسسي هذه المنهجيات. ويختلف عنه النموذج التغريبي الصرف الذي يحرص على رفع تلك النظريات إلى حقائق موضوعية بكل تركيبتها، ثم وضعها بديلًا عن الدين، بل أداة للتكذيب بالغيب، ومن بين الأمثلة نجد ممثلًا لما يدعى بالتيار العلمي في الفكر التغريبي وهو سلامة موسى، ونجد ممثلًا لما يدعى بالتيار الماركسي وهو صادق العظم، حيث يحرص هؤلاء في أثناء عرض النظريات العلمية عن وجود الكون والحياة والإنسان أن تكون أداةً للتكذيب بالغيب، وكل له طريقته في ذلك، ويعد "سلامة موسى" الرائد لسبقه التاريخي في نشر كل التناقضات الغربية في البيئة الفكرية، ثم جاء التخصص في الأفكار بعده، حيث برزت اتجاهات فكرية متخصصة. يبدأ "موسى" في ذكر أصل الكون بحسب ما تقوله النظريات الحديثة، وهو يتكلم على عالم دون خالق له، ينظر في قوى الكون الخاصة وطريقتها في التكوين وطريقتها في تدبير أمرها وطريقتها في إحداث التغييرات والتحولات، وأن الكون كان كتلة واحدة قبل ملايين السنين، ثم انفجرت هذه الكتلة فنشأت منها المجرات، ومن الملاحظ وجود نجوم تولد وأخرى تموت ومثلها سيكون مصير مجرتنا ومجموعتها الشمسية، ولكن ذلك يستغرق ملايين السنين، وقد ظهرت ظروف جعلت من الأرض مكانًا مناسبًا للحياة، ويقطع بوجود كثير مثلها تتبع نجومًا أخرى كما تتبع الأرض نجم الشمس، وقد بدأت الحياة من الماء عبر كائنات صغيرة، بدأت تتجاوز الماء نحو اليابسة، وقد احتاجت لتحقيق مغامرتها الجديدة إلى تغير في خياشيمها، وإلى تحولات في أطرافها تساعدها على المشي، فظهرت البرمائيات متكيفة مع الوضع الجديد، وبدأت حياة جديدة على الأرض، تطورت عبر ملايين السنين حتى وصلت للإنسان (¬1)، حيث وصل تطور ¬

_ (¬1) انظر: الإنسان قمة التطور، سلامة موسى ص 56 - 78.

تلك الكائنات إلى خمسة تُعد الأكثر تطورًا "نحن خمسة ليس لنا سادس، قد افترقنا منذ أكثر من مليون سنة، ولكننا ما زلنا نذكر قرابتنا وندل عليها بالوجوه وسائر الأعضاء، وكذلك بالاتجاهات الذهنية والعاطفية. نحن البشر، ثم الشمبنزي، ثم الغوريلا، ثم الأورانج، ثم الجيبون" (¬1). ولنترك ما حدث للنظرية العلمية؛ لأن هذه النظرية لها مدافعون عنها ولها معارضون (¬2)، ولكن لننظر إلى الأمراض التي تتسرب من خلال النظريات، لاسيّما تلك التي لها علاقة بمبحث الغيب؛ لأن هذه الأمراض هي متواصلة مع كل نظرية ترتبط بمن لا يؤمن بالله، وأهمها في القسم الأول مما يطرحه موسى هنا: تفسير نشأة الكون والحياة تفسيرًا ماديًا، الطبيعة تُكوّن نفسها بقواها الخاصة وتُطور نفسها وتغير في مكوناتها، لا وجود هنا للخالق المالك المدبر الفعال لما يريد؛ لأنه عند الماديين لا وجود إلا للمادة، هي الوجود الحقيقي، ولها قواها الخاصة التي تدبر وجودها. وبعيدًا عن صحة مكونات النظريات العلمية هذه أو تلك -فذاك ميدان العلوم إلا ما علم بطلانه دينيًا- فمن المتفق عليه فساد التصورات المادية التي يتحرك فيها مثل هذا العرض. حيث يُصور تكون الكون والحياة والإنسان حادثًا بالصدفة وبقواه الخاصة. ويرتبط بهذا الانحراف المادي حول وجود الكون والحياة والإنسان انحراف أكثر مادية وإلحادًا حول قضايا الغيب الأخرى: فالوعي بقضايا الغيب يرتبط بالإنسان، فهو الذي يشعر بالغيب وهو المكلف بالإيمان بالغيب، فكيف يطرحه هذا النموذج من خلال عرضه لنشوء الكون والإنسان؟ باختصار، سكن الإنسان مع الأربعة السابقين على الشجر في الغابات، مما هيأ لنمو يديه للتسلق ورجليه للمشي، ثم ترك الشجر ونزل للسهول، وارتبط بذلك تطور آخر لأعضائه، ولاسيّما الشم والسمع والنظر، وأصبحت من وسائل معرفته، بينما اليد والرجل تساعده في العمل والحركة، وبسبب حاجتهم للتعاون ¬

_ (¬1) المرجع السابق ص 94. (¬2) انظر: ما أصل الإنسان؟ .. ، د. موريس بوكاي ص 54، وانظر: مصرع الدارونية، محمَّد يوسف ص 35.

في السهول للصيد ظهرت اللغة، فهو قبلها كان مثل الحيوانات دون لغة، ومع وسائل المعرفة ومع اللغة كبر الدماغ، وقد أدى اجتماعهم للصيد والرعي والزراعة في تكوين مجتمع نمت فيه عادات وخرافات، وفي هذه المرحلة جاء الإيمان بالله، وقبلها لم يكن هناك إيمان به كما أنه لم يكن له لغة، وذلك أن الصيد خطر، والصائد عرضة لأن يكون فريسة ما يصيد، فعمّ الخوف الصائدين مما حملهم على التشبث بأية عقيدة تلهمهم الاطمئنان، ومعها ظهر الإيمان بالغيبيات (¬1)، وكما يقول: "وجد البشر، منذ شرعوا يفكرون، أنهم في حاجة إلى الإيمان بغيبيات تقوم مقام الاقتناع بالمنطق؛ لأن وسائل المنطق لم تكن مكملة لديهم. ولذلك سلموا أو آمنوا بأشياء كثيرة، بما أسموه "ما وراء المادة". ومهما يكن اختلافهم في هذه الغيبيات فإنهم أجمعوا على اتخاذ عقائد ارتضوها ووجدوا فيها طمأنينة أو وسيلة للخير والعدل" (¬2)، وهذه الغيبيات هي ما يريد الاتجاه التغريبي المتطرف هدمها، وقد اتخذ مثل هذه النظريات لهدمها، وهو لا يفرق بين الغيب الحق الذي جاء به الأنبياء، وبين الغيب الذي اخترعته عقول الناس؛ لأنهم أصلًا لا يقرون بدين أو بأنبياء، وبهذا فهم يتبنون مثل هذه النظريات ليس لعلميتها، وإنما لمثل هذه الأبعاد الفكرية القائمة على الرغبة في هدم الدين والغيب، يقول أحدهم عن انعكاس مثل هذه النظريات على "موسى": "اكتشفنا أن انعكاس نظرية التطور على الحركة الفكرية المصرية، هو "التفريج الكظوم"، هو "الانتقام"، هو الثورة العارمة على الغيبيات والثقافة الدينية" (¬3). باب خلق آدم -عليه السلام- وأصل الإنسان: بحسب الأمثلة السابقة يأتي الإنسان في مرحلة متأخرة، يستوي في ذلك صاحب النظرة المتحفظة وصاحب النظرة المتطرفة، فبعد ملايين السنين تكونت المجموعة الشمسية وأرضها، ثم ولدت فيها الحياة، وكانت البداية بالنبات ثم الحيوان ثم الإنسان. ويتفق الجميع على إهمال قصة خلق آدم -عليه السلام- أو إنكارها، ¬

_ (¬1) انظر: ما أصل الإنسان؟ .. ص 6 - 16. (¬2) المرجع السابق ص 116. (¬3) ويقصد بالمصرية هنا التغريبية منها ولكن التعميم هنا له فائدته عندهم، وذلك أثناء حديثه عن "سلامة موسى". سلامة موسى وأزمة الضمير العربي، د. غالي شكري ص 110.

وذلك أن تلك القصة كما وردت في الوحي هي من أنباء الغيب، ولا يمكن معرفتها إلا بطريق الوحي، فمن كذّب بالوحي أو نفى مصدريته للمعرفة واكتفى بالحس فمن المؤكد عدم تسليمه بما جاء في الوحي، وإن كان النافي قد يكون معه غيبيات (¬1) لا يمكن التحقق منها. لقد ورد ذكر قصة خلق آدم -عليه السلام- أبي البشر في آيات منها ما ورد بتفصيل في سورة البقرة فقال -تعالى-: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)} [البقرة: 30 - 38]. في هذه الآيات ذكر هذا الحدث الغيبي العظيم بخلق هذا الإنسان بما ركب من عجائب تحار فيها العقول، وصدق الله العظيم: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)} [الذاريات: 21]، وقال -تعالى-: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33)} [الحجر: 26 - 33]، وقال -تعالى-: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) ¬

_ (¬1) انظر: مثل هذه الغيبيات العلمية: مصرع الدارونية، محمَّد يوسف ص 47 وما بعدها.

فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76)} [ص: 71 - 76]، وقد وردت في سورة الأعراف [الأعراف: 11، 12]، وغيرها من الآيات. فهذا حدث غيبي لا يمكن للبشر معرفته إلا عن طريق الوحي، ومن نفاه من الملحدين فحجته فقط أنه لا يستطيع إثبات ذلك بعقله أو بالحس، ومعلوم أن ذلك غير ممكن للبشر، فحجة الملحدين هنا هي عدم دلالة الدليل المعين، وقد سبق أن عدم دلالة الدليل المعين لا تعني عدم المدلول المعين، ويدخل مع ذلك بقية الغيبيات المطلقة مثل: العرش واللوح المحفوظ والقلم وبقية المخلوقات السماوية. وإذا عدنا لمشكلة المتغربين في هذا الباب فقد كانت بحق أول مشكلة أثاروها ونالت شهرة كبيرة، وذاك يختلف عما حدث في الغرب، فقد كانت أول نظرية سببت الإشكال في الغرب هي نظرية الفلك الجديدة، ومنذ ذاك الوقت والسائد في العقلية الغربية توقع التعارض بين الدين والعلم، وقد استغل الاتجاه الإلحادي المادي مثل هذه الثغرة لجعل كل ما ينتمي للحقل العلمي له القوة نفسها، والتي تتميز بها الحقائق العلمية، فكلما ظهرت نظرية تنتمي للعلم وخالفت الدين، رفع الماديون عقيرتهم: ها هي المشكلة القديمة نفسها تتكرر، مع العلم أنه ليس كل ما ينتمي لمجال العلم هو من العلم، ففيه ما هو طرح مؤقت أو مبدئي ويحتاج لمزيد من البحث والتحقق، وبقي الأمر على هذه الحال حتى جاءت نظرية التطور الدارونية التي وقع لها من الشهرة ومن التأثير ما لم يقع لغيرها، وأثارت من الصراع والجدال ما لم يثره غيرها، وربما هذا دليل واضح على الثغرات التي فيها، فلو كانت حقيقة علمية بيّنة يمكن التحقق منها ما وقع كل ذلك الصراع، بل ما ظهر من دائرة العلم ذاته من يرفضها كل ذاك الرفض القاطع، وعندها يبقى الإصرار على نشرها مما يدل على البعد المذهبي والأيديولوجي أكثر من الجانب العلمي. وكما يقول "أورخان علي": "وهناك ظاهرة تلفت النظر في موضوع نظرية التطور؛ لأن هذه النظرية خرجت من كونها نظرية علمية قابلة للصواب أو الخطأ، إذ تحولت إلى "أيدلوجية" يدافع عنها أنصارها، ولا يترددون حتى في

القيام بعمليات تزوير مشينة من الناحية العلمية والأخلاقية، وهذا ما لا نراه في النظريات العلمية الأخرى، فلا نرى عالمًا في الفيزياء أو في الكيمياء أو في أي علم من العلوم يقوم بعملية تزوير لإثبات صحة نظريته أو صحة القانون الذي اكتشفه؛ لأن غاية العلم هي الوصول إلى الحقيقة. بينما نرى أن عمليات التزوير العلمية منحصرة في موضوع نظرية التطور فقط"، ثم استعرض بعض هذه العمليات التزويرية (¬1)، ومن بين الأسباب لمثل هذه التحمس كما يذكر بعض الغربيين عدم وجود بديل عنها سوى البديل الديني القائل بخلق الإنسان، يقول أحد الغربيين: "إن نظرية النشوء والارتقاء غير ثابتة علميًا ولا سبيل إلى إثباتها بالبرهان. ونحن لا نؤمن بها إلا لأن الخيار الوحيد بعد ذلك هو الإيمان بالخلق الخاص المباشر، وهذا ما لا يمكن حتى مجرد التفكير فيه" (¬2). وقد كانت هذه النظرية أول نظرية دخلت العالم الإِسلامي بقوة، وأحدثت لفترة طويلة مشكلات كبيرة داخل الفكر العربي والإِسلامي (¬3)، وفي النظرية جوانب إشكالية وإلحادية خطيرة، وهذه الجوانب منها تجذب مرضى القلوب، فمعلوم أن النظرية برزت في إطار مادي علماني، وقد امتدت الرؤية المادية إلى مكونات كثيرة من هذه النظرية، لاسيّما مع الدارونية المذهبية، ومن ذلك: إنكار خلق آدم -عليه السلام- صراحة أو هو من لازم النظرية، وإنكار مبدأ الخلق ذاته، والقول بفاعلية للطبيعة ذاتية مستقلة عن خالقها، والقول بالصدفة لتفسير عدد من الثغرات التي لا يجدون لها جوابًا، والقول بتطور لملايين السنين من بداية الخلية الأولى إلى الإنسان الحالي، ومن آثارها الخطيرة عدم التفريق بين الإنسان الذي خلق في أحسن تقويم وبين الحيوان، وما ترتب على ذلك من أبعاد أخلاقية خطيرة، وغيرها من المشكلات (¬4)؛ أي: أن الذي ترتب على النظرية قضايا كثيرة، ولم ¬

_ (¬1) حقيقة الخلق ونظرية التطور، محمَّد كولن، من مقدمة المترجم أورخان ص 8. (¬2) مصرع الدارونية، محمَّد يوسف ص 38، عن: الإِسلام يتحدى ص 43، وانظر: الموسوعة العربية العالمية، 25/ 255. (¬3) يمكن النظر لكثير مما قيل حول أصل الإنسان في الفكر العربي في كتاب: (أصل الإنسان بين العلم والفلسفة والدين، د. سامي عابدين)، وفيه جمع مميز قد لا يوجد عند غيره، وفيه لفتات مهمة قد يحتاجها أي باحث في هذا الميدان. (¬4) لقد برز عدد من المفكرين الأتراك بكتابات نقدية مهمة في هذا الباب، ويأتي "هارون =

تعد المسألة بحثًا علميًا يدخل في دائرة البحث العلمي من قومٍ لا يجدون مرجعية عليا توجه التصور والتفكير والعمل، وإنما تجاوزت ذلك إلى تصورات وعمليات كثيرة. وتثار هذه النظرية من قبل المتغربين بمثل هذه المشكلات، لاسيّما في اتخاذها أداةً للتكذيب بالدين والطعن فيه، ومن ذلك التكذيب بخلق الإنسان، والتكذيب بخلق آدم -عليه السلام-، وكذا يتخذونها أداةً لإثبات التعارض بين الدين والعلم، فتجد أحدهم يسب الدين متذرعًا بمثل هذه النظرية، فوقع المحذور من جهتين: من جهة التكذيب بالغيب ومن جهة رفع دعوى التعارض، وهما بابان خطيران على الدين وفيه، فما جاءت الانحرافات الكبرى إلا ممن كذب بالغيب، وقد يصل بصاحبه إلى التكذيب بكل الغيب وبهذا يقع إبطال الدين، ومثله من ادعى التعارض؛ لأنه هنا يقيم دعوى التعارض بين الدين والعلم، والعلم في أذهان الناس مرتبي بالحقائق الموضوعية، فيقع من ذلك استهانة بأمر الدين عند الجاهل بالدين وغيبه والجاهل بالعلم الحديث ومشكلاته، وهذه نماذج من هذه الانحرافات الخطيرة التي انطلقت من خلال الاتكاء على نظرية علمية حول أصل الإنسان. كانت بداية ذلك مع طائفة من المتغربين تبنوا ما هو أوسع من النظرية وهو المذهب الداروني، ومن أولئك شبلي شميل الذي ينكر الخلق الإلهي لكل شيء، بما في ذلك الإنسان "فالخلق إبداع في مصنع الطبيعة"، وأما عدم قدرة العلم على إثبات التولد الذاتي؛ أي: الحياة من الجماد، فلا يعني ذلك التسليم للقائلين بالخلق (¬1). وتبعه في ذلك سلامة موسى فهو يسير مع النظرية من بدايتها لنهايتها ¬

_ = يحيى" في مقدمتهم، فله مؤلفات عدة حولها، منها: (نهاية الدارونية)، و (الدارونية عقيدة)، و (فضائح علماء التطور)، و (اعترافات علماء التطور)، و (حقيقة أصل الحياة)، و (خديعة التطور)، وقد اعتمدت على الأخير، ومن بين الدراسات المهمة أيضًا دراسة "محمَّد كولن" (حقيقة الخلق ونظرية التطور). وقد ظهرت كتابات عربية كثيرة عن التطور وداروين، ويبقى أسلمها وأجودها من وجهة نظر الباحث هي كتابات محمَّد قطب، ولاسيّما (التطور والثبات. . . .). (¬1) انظر: الفلسفة النشوئية. . . .، د. محمود المسلماني ص 168.

متحملًا كل أبعادها المادية، فقد نشأت الحياة في الماء، ثم تطورت تلك الخلية حتى تحولت إلى حيوان بحري ثم حيوان بحواس تمكنه الخروج من الماء، وتطور على الأرض (¬1) إلى أن يصل إلى الإنسان "نحن خمسة ليس لنا سادس، قد افترقنا منذ أكثر من مليون سنة. ولكننا ما زلنا نذكر قرابتنا وتدل عليها بالوجوه وسائر الأعضاء (¬2). . . .، عشنا آلاف القرون على الأشجار، ثم تركناها بصحبة الغوريلا، وعندما تركنا الأشجار بدأ التطور يدخل أجهزتنا، وعبر مئات السنين أصبحنا على ما نحن عليه، وكل ذلك حدث في الطبيعة وبها، وكل ما سوى ذلك هو من الغيبيات التي ولدت في فترة بدائية من حياة الإنسان" (¬3). وقد أصبحت النظرية بعد ذلك أداة للتكذيب بالغيب أو أداة لترسيخ التعارض بين الدين والعلم، من خلال التكذيب بخلق آدم -عليه السلام-، وكما سبق فإن حجتهم هنا فقط تقوم على عدم دلالة الدليل المعين؛ لأن المسألة ترتبط بالغيب، والغيب لا طريق له سوى الخبر الصحيح، والخبر الصحيح حجة عند كل العقلاء، وبهذا لم تعد المشكلة مع النظرية يرتكز في جانبها العلمي؛ لأن النظرية لا تستطيع تقديم اليقين في الجانب الحسي، فكيف بها في الباب الغيبي، ولكن المشكلة في تحولها إلى أداة، والتلبيس على الناس، وبثّ التشويش على عقائدهم. ومن بين الأمثلة على قوم يرفعون التكذيب بخلق آدم -عليه السلام- أداةً للتكذيب بالغيب والدين ما نجده من الدكتور "العظم"، فهو يدّعي لأفكاره تناسقها مع العلم بينما هي في حقيقتها ماركسية صرفة. ففي هجومه على من يزعم التوافق بين الإِسلام والعلم يقول: "يشدد القائلون بالتوافق التام بين الإِسلام والعلم، أن الإِسلام دين خال من الأساطير والخرافات باعتبار أنه هو والعلم واحد في النهاية. لنمحص هذا الادعاء التوفيقي بشيء من الدقة بإحالته إلى مسألة محددة تمامًا. جاء في القرآن مثلًا أن الله خلق آدم من طين، ثم أمر الملائكة بالسجود له فسجدوا إلا إبليس، مما دعا الله إلى طرده من الجنة. هل تشكل هذه القصة ¬

_ (¬1) انظر: الإنسان قمة التطور. سلامة موسى ص 64 - 95. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 95. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 95 - 116.

أسطورة أم لا؟ نريد جوابًا محددًا وحاسمًا من الموفقين وليس خطابة. هل يفترض في المسلم أن يعتقد في النصف الثاني من القرن العشرين، بأن مثل هذه الحادثة وقعت فعلًا في تاريخ الكون؟ إن كانت هذه القصة القرآنية صادقة صدقًا تامًا، وتنطبق على واقع الكون وتاريخه "إنها كلام منزل" لابد من القول: إنها تتناقض تناقضًا صريحًا مع كل معارفنا العلمية، ولا مهرب عندئذ من الاستنتاج بأن العلم الحديث على ضلال في هذه القضية. وإن لم تنطبق القصة القرآنية على الواقع ماذا تكون إذن "في نظر الموفقين"، إن لم تكن أسطورة جميلة" (¬1). والإجابة العامة هنا أن الأمر على ما هو عليه، إلا أنه لم يظهر أحد من علماء الإِسلام، وقال بنفي التعارض المطلق؛ وإنما علماء الإِسلام يقولون بعدم وجوده بين النص الصحيح الصريح وبين العلم الصحيح الصريح، أما ما ليس بعلم، أو ما هو علم مخلوط بغيره مما ليس بعلم، فهذا قد يقع القول بالتعارض فيه، وهذا من تمام العقل والعلم والدين، والجهل هنا هو قبول كل ما جاء في الحركة العلمية والفكرية الغربية دون نظر وبحث وتدقيق، ومن المستحيل عند أي عاقل أن يقول بأنه لا يوجد تعارض بين الدين والعلم مطلقًا؛ لأن العلم ذاته يحوي مقولات ناقصة أو مشتبهة، ويوجد في دائرة العلم صور من التعارض بين نظريات علمية أو بين أجزاء من مكوناتها، ومن باب أولى وجوده بين تلك النظريات وبين الدين في جوانب، وإنما الأمر يتعلق بالحقائق العلمية، مع العلم أن كثيرًا مما يقال له حقائق علمية يُنظَر له في فلسفة العلم المعاصرة بمعنى نسبي؛ لأن الحديث هنا عن عالم يصعب الإمساك به ووضعه تحت التجريب المباشر، ويكثر الحديث عن مثالية العلماء عندما يتحدثون عن مفاهيم غير محسوسة، فإذا كان ما يُقال عنه حقائق علمية ينظر له بمنظور نسبي فكيف بغيره مما لم يصل لدرجة عالية من التحقق، ولم يمتلك من الشواهد ما يكفي (¬2). إذًا فعلماء الإِسلام يثقون في الوحي ويعرفون أنه الحق من ربهم، ولا يمكن أن يظهر في العقل أو في العلم ما يعارضه، ويقولون: إنه لا يوجد تعارض بين الدين الحق والعلم اليقيني "الحقائق العلمية"، أما الدارونية فقد رُفضت في أماكن ¬

_ (¬1) نقد الفكر الديني، د. صادق العظم ص 25 - 26. (¬2) انظر: العالم بين العلم والفلسفة، جاسم العلوي ص 33.

كثيرة، وحدث لها تطور داخلها، وأجزاء النظرية ومكوناتها مختلفة، أما مسألة خلق آدم وبقية أمور الغيب فهذه لا قدرة للعلم حولها، فهي خبرية محضة والحجة إنما هي في صحة الخبر. لقد أصبح أسلوب "العظم" نموذجًا يُحتذى، فهذا أحدهم في أثناء دفاعه الصارخ عن العلمانية ونقده لكل صوت إسلامي، بل يعترض أيضًا حتى على حقيقة تميّز الإِسلام عن غيره من الأديان، فيقول: "ما هو موقف الإِسلام المميّز تجاه رأي العلوم الطبيعية في مسألة النشوء والخلق؟ هل يختلف عن موقف الديانات الأخرى في هذه المسألة؟ أليس جميع الديانات قد رفضت نظرية داروين مثلًا؟ هل الإِسلام الذي لا يرى تعارضًا بين العلم والدين -كما حدث في الأديان الأخرى- على حد زعم القرضاوي -أي: الشيخ يوسف القرضاوي- أخذ موقفًا خاصًا ومتميزًا عن الديانات الأخرى واعترف بنظرية داروين بالضد من موقف هذه الديانات مثلًا؟ " (¬1). ومن الأمثلة التغريبية المعاصرة في هذا الباب ما نجده في موقف لويس عوض، ففي نقاشه لموقف الأفغاني من نظرية التطور ذكر أن وجود آدم يخضع حسب نظرية التطور لقوانين الطبيعة كغيره من أمور الطبيعة، وهذه النظرية كما يعترف "لويس" تنفي خلق الله سبحانه لآدم كما وردت في الوحي، كما أن فكرة قوانين الطبيعة تنفي "الفكرة السائدة في الأديان عن "الله المشخص" وتضع مكانها فكرة العلم عن "الله القانون"، أو قانون القوانين، حيث الله مساو للطبيعة وحيث الطبيعة مؤلهة" (¬2)، وهو لا يعارض هذه الفكرة التي جاءت أثناء دراسته لجمال الدين الأفغاني، وحقيقة المشكلة تقوم في عدم الإيمان بالله والبحث عن بديل يمكن من خلاله تفسير الأحداث، فهو في سيرته الذاتية وأثناء حديثه عن تدين والده، يقول بأن والده أقرب لمذهب "لا أدري" ولم "يكن يؤمن بالله "المشخص" الشائع في الفهم الديني العام (؟؟)؛ أي: الله الذي يجلس على عرش الكون. . . ."، ثم ذكر انطباعه عن حقيقة ما يؤمن به والده بأنه "كان يعتقد بأن في الطبيعة قوة عظمى تتصف بالحكمة هي التي نسميها الله، وهذه القوة ¬

_ (¬1) سدنة هياكل الوهم. . . .، د. عبد الرزاق عيد ص 238. (¬2) انظر: تاريخ الفكر المصري الحديث من عصر إسماعيل. . . .، د. لويس عوض ص 167.

القسم الثالث: دعوى مخالفة العلم لأبواب من الغيبيات

العظمى الحكيمة تسيّر كل شيء في الوجود، وأن الشيطان ليس له وجود مشخص. . . ." (¬1)، فمثل هذا الانحراف الذي يلف لويس ووالده يجعله يقول بمثل هذه المقولات الفاسدة بحجة انتمائه لمنطق العلم والعقل. وكما سبق فهؤلاء مصممون على إدخال الأمور الشاذة أو المشتبهة ضمن العلم، وجعله هو الذي يتعارض مع الدين، بينما التعارض هنا هو بين الدارونية والدين، والدارونية تحمل في طياتها أشياء باطلة وأخرى خاطئة وثالثة مشتبهة أو مسكوت عنها ورابعة صحيحة، فليست شيئًا واحدًا من الوجهة العلمية، والأخطر من ذلك ما تشبعت به من بُعد مادي لا علاقة له بالعلم، ولهذا كان لعلماء الإِسلام موقفهم المميز من مثل هذه النظريات بخلاف من يقلد تقليد الأعمى. * * * القسم الثالث: دعوى مخالفة العلم لأبواب من الغيبيات فهي إما أن تكون مخالفة حقيقية ويكون الحق ما ورد في الغيب؛ لأن معنى ذلك أن ما قدمه العلم ليس من الحقائق، أو أنها دعوى فقط، وهذا النوع هو الأكثر تلبيسًا على الناس، ويتحرك فيه المنحرفون بقوة؛ لأنهم يرونه دليلًا على بطلان الغيب أو بعضه، ودليلًا على صواب موقفهم التكذيبي. وأفضل باب اتخذه المنحرفون مطية للتكذيب بالغيب باسم العلم هو باب المعجزات، ووضعوا في ذلك شُبَهًا كثيرةً، ففتنت الكثير من الخلق حتى بعض المنتسبين للشريعة، مما جعلهم يؤوّلون المعجزات حتى لا تُعارض العلم، وذلك أن العقلية العلمانية قد انحرفت في باب السببية، فتصورت حتمية جامدة لا تَغيُّر فيها، فلا أحد يستطيع تغييرها حتى من أوجدها، وعدّوا هذا أساسًا علميًا لا يمكن خرقه، ومن ذلك انتظام الكون بنظام حتمي لا يمكن خرقه، وتعد المعجزات خرقًا لهذه الحتمية، وهو أمر مستحيل في تصورهم، وبهذا تكون المعجزات وما في بابها من الغيبيات أمرًا يُبطله العلم بحسب دعواهم، وقد يضيفون لذلك دعاوى أخرى من شهاداتٍ لعلوم طبيعية لم تستطع بحسب زعمهم إثبات بعض المعجزات من مثل علم الحفريات والآثار وغيرها، إلا أن الباب ¬

_ (¬1) انظر: أوراق العمر ص 62 نقلًا عن لويس عوض -الأسطورة والحقيقة، د. حلمي القاعود ص 27.

الأول هو الأبرز في فلسفة العلم العلمانية وهو القول بحتمية الطبيعة. ويقع الانحراف هنا من طرفين مغاليين في باب السببية، طرف جعل الكون لعبة يمكن إحداث التغيير فيه بيسر وسهولة، وهذا مثل ما يزعمه أهل الكرامات الصوفية في كل أمم الأرض، حيث ينسبون لأشخاصٍ أبوابًا عجيبة من القدرة (¬1)، ويصبح الكون في أيديهم ألعوبة، وتكثر عندهم الحكايات الخرافية حول إحداث تغييرات مدهشة. يقابلهم قوم غلوا في الحتمية ومنع الجواز، وجعلوا أي خرق لحتمية الطبيعة من باب المستحيلات، وكل خرق حتى ولو كان من معجزات الأنبياء، فهو غير صحيح ومخالف للعلم، وأصبح الكون معهم آلة صماء عمياء، ولا يقدر أحد على فعل شيء فيها ولو كان من خلقها. وأصحاب الموقف الثاني هم المقصود، فماذا تعني الحتمية أولًا؟ "الحتمية العلمية مبدأ يفيد عمومية القوانين الطبيعية، وثبوتها واطرادها. فلا تخلف ولا مصادفة. إذ يعني: أن نظام الكون ثابت شامل مطرد"، والحتمية في الطبيعة تمنع الجواز والإمكان، بل كل ما فيها ضروري، ولما كانت الضرورة تعني استحالة النقيض، كانت الحتمية العلمية تعني أن كل ما يحدث لابد وأن يحدث، ويستحيل أن يحدث سواه (¬2). مدخل المشكلات في الباب: يأتي الانحراف في باب المعجزات من الانحراف في باب الإيمان بالله، ويأتي من أصلين خطيرين: من الإلحاد، أو من فساد التصور حول الربوبية، لاسيّما في باب قدرة الرب سبحانه. [1]- أما الملحد فقد قطع الطريق على نفسه، وأفسد عليها حياتها بإنكاره الحقيقة المطلقة. وقد اشتهر الإلحاد داخل الفكر الغربي في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر وإن كان قد عرف من قبل، وارتبط غالبًا بالفلسفات المادية، وتبنى ¬

_ (¬1) لا يدخل في هذا الباب كرامات أولياء الله الصالحين، وإنما المقصود تلك الأعاجيب التي نجدها عند غلاة المتصوفة والقبوريين والباطنيين وأمثالهم، وهي معروفة عند النصارى حول رهبانهم وقديسيهم، وعند غيرهم. (¬2) انظر: فلسفة العلم من الحتمية إلى اللاحتمية، د. يمنى الخولي ص 56 - 57، وانظر: موسوعة بدوي 2/ 450.

القول بحقيقة واحدة هي المادة والمادية، وأسس عليها مفهوم الطبيعة الأزلية الأبدية، التي لا موجد لها سواها، ومن ثمّ لا تغير فيها ولا تغيير حتى من خالقها؛ لأنه لا خالق لها عندهم، ولذا ارتبط إنكار المعجزات بالملاحدة، وإنكارهم لها مرتبط أصلًا بإلحادهم وليس بالحقائق العلمية (¬1). وهؤلاء مهما بلغت عقولهم وعلومهم وحقائقهم فهم من أرذل الخلق وأحطهم بصيرة، إذ قد أنكروا أشرف حقيقة وأعظمها فكيف يُقبل قولهم أو يُوثق في رأي لهم، ومع ذلك فسيتخذهم الشيطان مطية لبثّ الإلحاد ونشر الشبهات، ومقاومتهم واجبة إذا أثّرت شبهاتهم على الخلق. ومن خطر أمرهم انتشار بعض مفاهيمهم الإلحادية داخل فلسفة العلم الحديثة، ومن ذلك مفهوم الطبيعة التي لم يخلقها أحد والتي تسير بقوانينها الخاصة التي لا يمكن حدوث أي خرق لها. وهذا مُتفِق مع مذهبهم الإلحادي، فإذا كانوا لا يؤمنون بالله فمن غيره يستطيع خرق سنن الطبيعة؟ فهذا هو النموذج الفرعوني الحديث، الذي ينكر أعظم الحقائق وأصرحها وأوضحها، ومع ذلك فقد جادل نبي الله موسى -عليه السلام- من هو مثلهم، فقد جادله موسى -عليه السلام- وكشف كفره وكذِبه. ومع الإلحاد الحديث يظهر أهمية مواجهته من قبل المسلمين ودفع شبهاتهم التي قد تتسرب للمطلعين على العلوم العصرية ممن ليس عندهم معرفة شرعية، فيسبق لقلوبهم شيء من هذه الشبهات فتؤثر فيهم. وإن كان قد حدث انحسار للإلحاد الفج الذي برز في القرن التاسع عشر، لاسيّما بعد تهاوي المفاهيم الفلسفية المعتمدة على العلم الطبيعي التي أسسوا عليها إلحادهم، كما سبق ذكر ذلك في الباب الأول، ومع ذلك فما زالت شبهاتهم تسبح في ميدان الأفكار، ويستثمرها بعض الكارهين للإسلام أو للدين من أجل تشويهه، مما يدفع لأهمية الحذر. قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: إن "الزنادقة المتأخرين الذين أنكروا وجود الباري، وأنكروا جميع ما أخبرت به الرسل والكتب السماوية من أمور الغيب، ولم يثبتوا من العلوم إلا ما وصلت إليه حواسهم وتجاربهم القاصرة على ¬

_ (¬1) انظر: القول الفصل بين الذين يؤمنون بالغيب والذين لا يؤمنون، الشيخ مصطفى صبري ص 78.

بعض علوم الكون، وأنكروا ما سوى ذلك، وزعموا أن هذا العالم وهذا النظام الموجود فيه لا يمكن أن يغيره مغير، أو يغير شيئًا من أسبابه، وأنه وجد صدفة من غير إيجاد موجد، وأنه آلة تمشي بنفسها وطبيعتها، ليس لها مدبر ولا رب ولا خالق، وهؤلاء جميع أهل الأديان يعرفون مكابرتهم ومباهتتهم؛ لأنهم كما عدموا الدين بالكلية فقد اختلت عقولهم الحقيقة، إذ أنكروا أجلى الحقائق وأوضحها، وأعظمها براهين وآيات، وتاهوا بعقولهم القاصرة وآرائهم الفاسدة، هؤلاء أمرهم معلوم" (¬1). وقد ناقش الشيخ مصطفى صبري أمثال هؤلاء كثيرًا، واستأنس في الرد عليهم ببعض مقولات العقلاء الغربيين الذين عاصروا فتنة الإلحاد وإنكار المعجزات التي كانت من أدلة النبوات، ومن تلك الأقوال ما نقله عن شيله وريتجه: "إن الإيمان بالمعجزات لا ينفك عن الإيمان بالله"، وهي حقيقة مهمة؛ لأن من شك في المعجزة أو أنكرها، فذاك مؤشر على مشكلة تتعلق بالإيمان بالله. ونقل عن "استوارت ميل" قوله: "إن من لا يؤمن بموجود فوق الطبيعة، ولا بتدخله في شؤون العالم، لا يقبل فعل إنسان خارق للعادة على أنه معجزة، ويؤوله مطلقًا بما يخرجه عن كونه معجزة، لكن إذا أومن (¬2) بالله فلا يكون تأثيره في العالم وسلطته عليه فرضية محضة بل احتمالًا جديًا. والحكم بعد تدخل الله في شؤون العالم إنما يمكن بمعرفة السنة الإلهية في الماضي، أو بمعرفة ما يلزم منطقيًا أن تكون السنة الإلهية كذلك" (¬3). ونقل عن "استانلي" وهو منطقي إنجليزي: "القدرة التي خلقت العالم لا تعجز عن حذف شيء منه أو إضافة شيء إليه، ومن السهل أن يقال عنه: إنه غير متصور عند العقل، لكن الذي يقال عنه: إنه غير متصور ليس غير متصور إلى درجة وجود العالم". وعلق الشيخ: "يعني: لو لم يكن هذا العالم موجودًا، وقيل لمن ينكر المعجزات ولا يتصور وجودها: سيوجد عالم كذا، كان جوابه: إن ¬

_ (¬1) تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير الأحكام، عبد الرحمن السعدي ص 183 - 184. (¬2) هكذا هي (أومن) وكأن الأنسب: آمن. (¬3) القول الفصل بين الذين يؤمنون بالغيب والذين لا يؤمنون، الشيخ مصطفى صبري ص 24.

هذا غير متصور، وكان تصوره أشدّ من نفي تصور المعجزات" (¬1)، ونجد التنبيه القرآني الأعلى شأنًا على هذا المعنى في قوله -تعالى-: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)} [يس: 78 - 83]، فقد عجز أن يتصور الأقل مع أن الأعظم منه أمام عينيه، ومثل ذلك في قوله -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57)} [غافر: 56 - 57]. [2]- أما فساد التصور حول الربوبية، فيأتي من الانحراف في تصور القدرة، فبعضهم قد ترك الامتثال للوحي في باب الإيمان بالله وصفاته وأفعاله، وتأثروا بمقولات المعطلين الحديثة والقديمة، ومن ذلك تأثرهم بما شاع في الفكر المادي حول الطبيعة التي لا يمكن خرقها، ومن قال بخرقها فقد خالف العلم بحسب زعمهم. فهؤلاء عَظُمت عندهم الطبيعة حتى أصبحت هي التي تحدد قدرة الله، بينما يقوم التصور الإِسلامي على الانطلاق من الوحي في بيان صفات الله وأفعاله، فنعرفه بالطريق التي عرفنا بها بذاته وبصفاته سبحانه، ومن عظم عنده الإيمان بالله علم أنه هو خالق الكون وهو المسخر له والمدبر له وواضع السنن التي يسير بمقتضاها، وهو القادر على خرق تلك السنن متى شاء لحكمة هو يعلمها سبحانه. قال الشيخ السعدي: "آيات الأنبياء، وكرامات الأولياء، وما يخرقه الله من الآيات، ومن تغيير الأسباب، أو منع سببيتها، أو احتياجها إلى أسباب أخر، أو وجود موانع تعوقها هي من البراهين العظيمة على وحدانية الله، وأنه على كل ¬

_ (¬1) المرجع السابق ص 25، وقد استعرض الدكتور مفرح القوسي جهود الشيخ مصطفى صبري في مقاومة هذه الأفكار بخاصة وغيرها في بحثه المميز: الشيخ مصطفى صبري وموقفه من الفكر الوافد، وانظر: مناقشة العقاد لنفاة المعجزة بحجج علمية عصرية: التفكير فريضة إسلامية ص 79 - 86، وانظر: أفي الله شك، د. حمد المرزوقي ص 123 - 125.

شيء قدير، وأن أقدار الله لا يخرج عنها حادث جليل ولا حقير، وأن هذه المعجزات والكرامات والتغييرات لا تنافي ما جعل الله في هذه المخلوقات من الأسباب المحسوسة والنظامات المعهودة، وإنك لا تجد لسنة الله تبديلًا ولا تحويلا؛ فإن سنن الله في جميع الحوادث السابقة واللاحقة قسمان: أحدهما: وهو جمهور الحوادث والكائنات والأحكام الشرعية والقدرية وأحكام الجزاء: لا تتغير ولا تتبدل عما يعهده الناس ويعرفون أسبابه، وهذا القسم أيضًا مندرج في قدرة الله وقضائه، ويستفاد من هذا العلم بكمال حكمة الله في خلقه وشرعه، وأن الأسباب والمسببات من سلك طرقها على وجه كامل أفضت به إلى نتائجها وثمراتها، ومن لم يسلكها أو سلكها على وجه ناقص لم يحصل له الثمرات التي رتبت على الأعمال شرعًا ولا قدرًا، وهذه توجب للعبد أن يجد ويجتهد في الأسباب الدينية والدنيوية النافعة مع استعانته بالله، والثناء على ربه في تيسيرها وتيسير أسبابها وآلاتها، وكل ما تتوقف عليه. والقسم الثاني: حوادث معجزات الأنبياء التي تواترت تواترًا لا يتواتر مثله في جميع الأخبار، وتناقلتها القرون كلها. . . . فهذا القسم ليس عند الخلق اهتداء إلى أسباب هذه الحوادث، ولا جعل لهم في الأصل وصول إلى حقيقتها وكنهها، وإنما هي حوادث قدرها الرب العظيم الذي هو على كل شيء قدير بأسباب وحكم وسنن لا يعقلها الخلق، ولا لحواسهم وتجاربهم وصول إليها بوجه من الوجوه، وبها آمن الرسل من أولهم إلى آخرهم، وأتباعهم الأولون منهم والآخرون، وبها يعرف عظمة الباري، وأن نواصي العباد بيده، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ويعرف بذلك صحة ما جاءت به الرسل، كما يعرف أيضًا بالقسم الأول، وكما أنه لا سبيل إلى العباد في هذه الدار إلى إدراك كنه صفات اليوم الآخر، وكنه ما في الجنة والنار، وإنما يعلمون منها ما علمتهم به الرسل، ونزلت به الكتب، ولا سبيل إلى أهل هذا الكون الأرضي للوصول إلى العالم السماوي، ولا سبيل لهم إلى إحياء الموتى وإيجاد الأرواح في الجمادات، فكذلك هذا النوع العظيم من حوادث الكون" (¬1). ¬

_ (¬1) تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير الأحكام، الشيخ عبد الرحمن السعدي ص 182 - 183.

يتقابل أمران عند المنحرفين في هذا الباب: أحدهما من جهة تصورهم لقدرة الله، والآخر من جهة تصورهم للإحكام والضرورة البادية في الطبيعة؛ فالأصل في الأول الإيمان بما وصف الله به نفسه وبما وصفته به رسله، وهم تصوروا قدرته بمقياسهم الخاص، فانحرفوا في ذلك، والأصل في الثاني أن يؤمن الإنسان بأن الكون من خلق الله، وأنه لا يخرج عن ملك الله، وأن ما فيه من إحكام دليل على أن من خلقه عليم حكيم، وأنه قادر على خرقه بقدرته لحكمة يعلمها سبحانه، وكما دلّ إحكام الكون على خالقه، فإن المعجزات تدل على كمال قدرته وعلى نبوة الأنبياء. قال شيخ الإِسلام ابن تيمية: "وإن كان اسم المعجزة يعم كل خارق للعادة في اللغة وعرف الأئمة المتقدمين كالإمام أحمد بن حنبل وغيره -ويسمونها: الآيات- لكن كثيرًا من المتأخرين يفرقون في اللفظ بينهما، فيجعل المعجزة للنبي، والكرامة للولي. وجماعهما الأمر الخارق للعادة. فنقول: صفات الكمال ترجع إلى ثلاثة: العلم، والقدرة، والغنى، وإن شئت أن تقول: العلم والقدرة، والقدرة إما على الفعل وهو التأثير، وإما على الترك وهو الغنى، والأول أجود. وهذه الثلاثة لا تصلح على وجه الكمال إلا لله وحده، فإنه الذي أحاط بكل شيء علمًا، وهو على كل شيء قدير، وهو غني عن العالمين. وقد أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يبرأ من دعوى هذه الثلاثة بقوله: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام: 50] وكذلك قال نوح -عليه السلام-: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)} [هود: 31]. فهذا أول أولي العزم، وأول رسول بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض. وهذا خاتم الرسل وخاتم أولي العزم، كلاهما يتبرأ من ذلك" (¬1). وقد ورد ذكر القدرة كثيرًا في القرآن، وجاءت مقرونة بالعلم، وجاءت عقب ذكر ملكه للسماوات والأرض، وهي بيّنة ظاهرة لا ينكرها إلا جاحد، وقبل النظر في ما ورد من آيات أذكر معناها عند أهل العلم: ¬

_ (¬1) الفتاوى 11/ 311 - 312.

قال الشيخ محمَّد هراس: "وأما القدرة؛ فهي الصفة التي تتعلق بالممكنات إيجادًا وإعدامًا، فكل ما كان ووقع من الكائنات واقع بمشيئته وقدرته" (¬1). قال الشيخ ابن عثيمين حول هذه الآية {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} [الطلاق: 12]: "القدرة هي وصف يتصف به الفاعل يتمكن به من الفعل دون عجز، فهو على كل شيء قدير. يقدر على إيجاد المعدوم وعلى إعدام الموجود، فالسماوات والأرض كانت معدومة، فخلقها الله - عز وجل -، وأوجدها على هذا النظام البديع. . . . وذكر الله - عز وجل - العلم والقدرة بعد الخلق؛ لأن الخلق لا يتم إلا بعلم وقدرة" (¬2). ومما جاء في اقتران القدرة بالعلم: قوله -تعالى-: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: 54]. وقوله -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [النحل: 70]. وقوله- تعالى-: {إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 50]. وفي كمال قدرته سبحانه وتعلقها بكل شيء آيات كثيرة: قال -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 20 وفي آية: 106 وفي آية: 109 وفي آية: 148]، [آل عمران: 165] [النحل: 77] [النور: 45] [العنكبوت: 20] [فاطر: 1]. وقال -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 259] [الطلاق: 12]. وقال -تعالى-: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284] [آل عمران: 29 وفي آية: 189] [المائدة: 17 وفي آية: 19 وفي آية: 40] [الأنفال: 41] [التوبة: 39] [الحشر: 6]. وقال -تعالى-: {إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26] [التحريم: 8]. وقال -تعالى-: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 120] [هود: 4] [الروم: 50] [الشورى: 9] [الحديد: 2] [التغابن: 1] [الملك:1]. ¬

_ (¬1) شرح العقيدة الواسطية، العلامة محمَّد هراس ص 125 - 126، بعناية علوي سقاف. (¬2) شرح العقيدة الواسطية، الشيخ محمَّد ابن عثيمين 1/ 157، بعناية أشرف عبد المقصود.

وقال -تعالى-: {فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام: 17]. وقال -تعالى-: {وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحج: 6]. وقال -تعالى-: {إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت: 39] [الأحقاف: 33]. وقال -تعالى-: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29)} [الشورى: 29]. وقال -تعالى-: {وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة: 7]. ومعظم المنكرين للمعجزات المكذبين بها بحجة مخالفتها للعلم، تأتي دعواهم من خلال النظر في السماوات والأرض المسخرة الثابتة على سنن لا تتغير ولا تختل، فاستحال عندهم خرقها بعد أن كشف العلم الحديث شيئًا من أسرار هذا الإحكام العجيب، وقد غفل هؤلاء أو تغافلوا أن من خلقها ووضعها بهذه السنن وبهذا التسخير، هو من خلق ما يخرق العادة من المعجزات، فهو الخالق هنا وهناك سبحانه، وهو الذي أخبرنا بهذا وذاك سبحانه، وقد جاء ذكر القدرة في آيات بعد ذكر السماوات والأرض، وفي ذلك دلالات مهمة: فعظمها يدل على الخالق القادر القوي العليم الحكيم سبحانه، والذي خلقها هو المالك لها، والمالك يتصرف في ملكه كيف شاء سبحانه، فكيف تأتي عقول قاصرة لتضع حدودًا لما يجوز في حق الله وما يمتنع عنه، دون أن يرجعوا لقوله ولما وصف به نفسه وبما وصفته به رسله، ولا شك أن هذا الإحكام في الكون دليل على وجود خالقه وعلى مدبره ومسخره، ولكن من تمام قدرته وملكه أن يتصرف في ملكه كيف شاء سبحانه، ومن الآيات التي ذكرت الكون العظيم ثم ختمت بالقدرة: قوله -تعالى-: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)} [آل عمران: 189]. وقال -تعالى-: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 17]. وقال -تعالى-: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)} [المائدة: 40]. وقال -تعالى-: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)} [المائدة: 120].

وقال -تعالى-: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)} [النحل: 77]. وقال -تعالى-: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2)} [الحديد: 2]. وقال -تعالى-: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)} [فاطر: 1]. وقال -تعالى-: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} [الطلاق: 12]. وقال -تعالى-: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)} [الملك: 1]. فمن يتصف بهذه القدرة الكاملة ومن بيده الملك الكامل هو الذي جعل تلك المعجزات لأنبيائه، ويصدق بها المؤمن، أما من عَظُمت عنده الطبيعة لدرجة خروجها عن ملك الله، بظاهر قوله أم بلازمه، فما ذاك إلا من تصور مغلوط عن مفهوم الحتمية البادية في الطبيعة، ومن انحراف عظيم في باب الإيمان بالله وبرسله. نموذج من الانحراف في باب المعجزات: تأتي الطبيعة بحوادثها وحتميتها مفهومًا يتحكم برؤية هذا النموذج الآتي، تتبدى الطبيعة عنده أساسًا ثابتًا يتكسر عليه كل شيء حتى ما جاء به الوحي من معجزات الأنبياء - عليهم السلام - (¬1)، وقد ذكر -مثلًا- ناموس المجموعة الشمسية الذي كشفه علماء الفلك، ثم علق: "هل من المعقول أن يغيّر الله هذا الناموس، الذي هو ناموسه وناموس الكون الأبدي، كأن تشرق الشمس من مغرب الأرض، والعكس بالعكس، إكرامًا لخاطر أحد أنبيائه؟ إن مثل هذا التغيير يتضمّن تغيير وضع الكواكب في المنظومة الشمسية، بل وضع الكون كله،. . . ." (¬2). الإنسان "الديني يفكر من خلال الفكر الديني الذي يقبل تحول عصا موسى إلى ثعبان حقيقي، وتفجير الماء من الصخر بضربة من عصاه، بل وتحول النار ¬

_ (¬1) انظر: هكذا تكلم العقل. . . .، د. حيدر غيبة ص 128 - 129. (¬2) المرجع السابق ص 226.

إلى برد وما شابه ذلك؛ أو بتعبير آخر: يقبل وقوع المتقابلات المتضادة على شيء واحد وفي الوقت نفسه، كأن يكون اللون الأبيض أسود، ويكون الحار باردًا" (¬1)، وهذا من باب التأثر بالدراسات الإنسانية التي تهتم بالإنسان وقت جهله وقبوله للخرافة والأسطورة، ومن ذلك قوله بالمتناقضات وقبوله للمستحيلات، وقد وجدوا في النماذج المنعزلة في إفريقيا وأمريكا وغابات آسيا من قبائل تقوم على أساطير عجيبة وطقوس غريبة، ثم جعلوا هذا النموذج هو كمن جاءهم الأنبياء أعلم البشر بأعظم علم (¬2)، وشتان بين النموذجين، قال -تعالى-: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49) قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)} [الأنعام: 48 - 50]، وقال -تعالى-: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9]. ومع مثل هذا الإنكار لوجود معجزة بسبب هذه الطبيعة الصلبة يأتي التكذيب بمعجزات الأنبياء وتأويلها بتأويل لا يقبله عاقل من الكفار فكيف يأتي مثل ذلك من مسلم! حيث تحول تلك المعجزات إلى سخافات وتقدم تلك السخافات باسم العقل: "ترى ما هو تأويل مُعجزتَي تحول العصا إلى حية أو ثعبان وصيرورة يد موسى بيضاء؟ إن ما يستخلصه العقل من المعجزة الأولى أنّ موسى أتقن فنون السحر وأنه استخدم هذا الفنّ ضد خصومه. . . ."، أما إخراج اليد البيضاء فله احتمالان: إما أنه مصاب بالبرص، أو أنه وجد صبغة بيضاء لوّن بها يده (¬3). ومن عجائب مدّعي العلمية والعقلانية أن يأتي منهم ما يكشف سخافة آرائهم وبعدها عن منطق العقل، ومن ذلك مثل هذا التأويل الذي قدمه عن معجزتَي موسى -عليه السلام-، وحقيقة قوله أن موسى -عليه السلام- لم يأت بأية معجزة، وإنما تعلم فنون السحر، والحيل السريعة، وخفة اليد، والحركة السريعة الخاطفة، "لقد ¬

_ (¬1) المرجع السابق ص 31. (¬2) لذلك مزيد في الفصل الثاني من الباب الثالث. (¬3) هكذا تكلم العقل ص 128 - 129، وانظر: ص 226 - 227.

اعتمد موسى النبي على أعمال سحرية تبدو كالمعجزات للاستعانة بها على تصديق أتباعه. . . ." (¬1)، مع أن السحر من أعظم المحرمات التي حاربها الأنبياء، فانظر كيف حول هذا الرجل نبيًا من أنبياء الله إلى ساحر ومحتال، أو أنه وجد بعض الحالات العادية فاستغلها فيصف نبيًا من أنبياء الله وكأنه شخصية انتهازية تتلاعب بعقول الناس من أجل تحقيق مصلحة، وكما يقول فالمن والسلوى ليس "سوى هبة من هبات الطبيعة التي استغلها موسى، كعادته، وأعلن لشعبه بأن الله أنزلها عليهم كنتيجة لدعائه لهم، وذلك بهدف تثبيت قيادته لهم ومواصلة مسيرتهم" فما هو إلا مادة لزجة حلوة تقطر من بعض الأشجار (¬2). ولماذا كل هذا التكذيب بآيات الأنبياء؟ السبب هو هذا الفهم الفاسد عن الطبيعة، طبيعة آلية صلبة لا أحد يستطيع فعل شيء فيها حتى خالقها. وكما يقول: "ونحن الذين نعرف أن نواميس الطبيعة لا تتغير "وهي بحد ذاتها معجزة"، لا يمكننا أن نصدق تحول ماء النيل إلى دم بمجرد ضربة بعصا موسى. . . . وكذلك الحال مع آفات الضفادع والذباب والبعوض وغيرها، فإنها مع حساب ما فيها من مبالغة لا تعدو كونها حوادث طبيعية. . . ." (¬3)، وكما يزعم فإن معجزات موسى -عليه السلام- لا يقبلها العقل السليم ولا يصدقها، وإنما يمكن تأويلها لتصبح معقولة (¬4). تأتي الطبيعة الصلبة أيضًا وناموسها على معجزات نبي آخر من أنبياء الله وهو عيسى -عليه السلام-، فهذا الناموس الطبيعي يجعل "من المتعذر أن يكون للإنسان غير المتعلم أو المتدرّب قدرة على صنع الشفاء؛ لأن الأمراض موضوع عِلْم عظيم هو علم الطب الذي لم يكن المسيح ضليعًا به. ولا يعقل أن يشفى المريض بمجرد تعلّقه بثوب المسيح. . . . ولا يمكن أن يشفى الأعمى من عماه بمجرد لمس المسيح لعينيه. وكذلك الأمر، من المستحيل أن يكون للمسيح أو أي إنسان آخر قدرة على إحياء الموتى الحقيقيين. . . ." (¬5)، ولكن هذه ¬

_ (¬1) المرجع السابق ص 163. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 230. (¬3) المرجع السابق ص 129، وانظر: الأسس الفلسفية للعلمانية، عادل ظاهر ص 147. (¬4) انظر: هكذا تكلم العقل ص 162. (¬5) المرجع السابق ص 189.

المستحيلات هي التي جعلت من علاج عيسى -عليه السلام- معجزة عظيمة، بينما المنكر لها قد جعل هذه الاستحالة دليلًا على نفيها أو تأويلها، وقد استثنى من ذلك ما قبله عقله منها، فقبل بعض صور تأثير العلاج فقال: "إنما يبقى شيء مهم، لابد من قوله، وهو أن الإنسان يستطيع بقوة روحية ذاتية، لاسيما إذا ساندتها قوة روحية خارجية عظيمة كالتي كانت للسيد المسيح خلال حياته، أو لمثيله من الأولياء وبعض العلماء والحكماء الصالحين أثناء حياتهم أن تؤثر على نفس المريض. . . ." (¬1). ويتورع هذا الكاتب تورعًا باردًا فيقول: "أما معجزات موسى وعيسى التي وردت في التوراة والإنجيل، وحكاها القرآن، فنحن لا ننكرها، كحوادث، ما دامت قد وردت على ما وردت عليه في الكتب المقدسة المذكورة، وإنما نرى وجوب تأويلها وفق ما يتصوّرها العقل في الواقع؛ أي: على الشكل الذي يؤيد نواميس الكون ومنه الطبيعة، ولا يغيّرها" (¬2)، ويقول: "ولا نرى حاجة لاستعراض سائر معجزات موسى لتبيان إمكان تأويلها إلى حقيقتها الواقعية، ولإثبات أن ما كان يُعتبر معجزة أو إعجازًا في عهده، لم يعد كذلك في عهد ارتقاء العلوم والمعارف، وارتياد الفضاء الواسع. ويمكننا بالأسلوب عينه تأويل معجزات السيد المسيح عيسى -عليه السلام-" (¬3). فيكون التأويل هو الأداة لتشذيب كل معجزات الأنبياء التي لم تتقبلها الطبيعة، ولا نواميسها. إن مشكلة المنكرين للمعجزات تعود إلى انحراف إيمانهم بالرب سبحانه، فهناك من عَظُمت عنده الطبيعة حتى أصبحت أكبر من الله وإن لم يُصرّح بذلك، فكأنها هي التي تتحكم بخالقها وليس الخالق هو المدبر لها والمسخر لها. وبهذا يتصورون حقيقة الرب سبحانه بمقياس عقولهم وبمقياس الطبيعة، مع أن هذه المعقولات والمعلومات تتغير وتتطور، فكيف يقاس كلي القدرة والعلم والكمال بالمتحول من معارف الناس وتصوراتهم عن الطبيعة! نعم يرد في آيات الأنبياء ما ¬

_ (¬1) هكذا تكلم العقل ص 189 - 190. (¬2) المرجع السابق ص 225. (¬3) المرجع السابق ص 230.

تحار فيه العقول مما يجعلها بين خيارين: إما التسليم بالغيب الصادق أو التكذيب به، ولكن ليس في الآيات ما تستحيله العقول، وما يذكرونه من صور الاستحالة فهي استحالة ترتبط بمصدرها وإطارها من معقولات ومعلومات تجمعت في ظلّ تصور علماني، فهي استحالة ظنية وليست حقيقية، فقد ارتبطت استحالتهم بالفيزياء الكلاسيكية حتى نهايات القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، ثم انهارت تلك المستحيلات مع نظرية الكم ونظرية النسبية، وظهر إطار جديد قد ترتبط به استحالات جديدة، ولهذا يكون الحق في باب الغيبيات بطريق واحد هو الارتباط بالوحي؛ لأنه خبر صادق وحق وإطار نهائي وقمة عالية لا يعلوها شيء وبهذا يختفي ضلال العقول. ولكن المتغربين لا يجدون في الغرب العلماني إلا ما يناسب هواهم فيسقطون عليه، ويتخذونه ذريعة للتكذيب، وعندما ظهر من المفكرين من يبيّن أن العلم الحديث لا يُكذّب بأمور الغيب بل فيه ما يدل على كثير من أصوله، لم يعجب هذا الموقف مفكرًا علمانيًا صرفًا كالعظمة الذي دافع عن كل شواذ الفكر، وصورهم كأبطال، فقال في نقده لمثل هذا المفكر: "وتوسط الساحة خطاب غيبي تجهيلي بالغ الرجعية، فأصبح تسخير سليمان الجن وركوبه الريح وكلامه مع الطير، وشق موسى البحر، حقائق وضعية،. . . ." (¬1)، وقد جاء هذا النقد في سياق عجيب، فقد عرضه في مساق دفاعه عن العلمانية ونمو العلمانية العربية، وركّز على فترة اشتهارها بالدهرية ثم فترة اشتهارها بالإلحاد، ثم حركتها تحت مصطلح العلمانية، مادحًا ومثنيًا ثم وقع الانعطاف بظهور الصحوة الإِسلامية، وجاء حديثه السابق في سياق ذمّه لهذا التحول، ومن ذلك عودتها إلى الإيمان بالمعجزات. ومن بين من ينظر فقط لما يناسب هواه نجد كاتبًا آخر قد انغمس في تيارات مادية فلا ينظر إلا بعينيها ولا يتنفس إلا من رئتيها، فيقول في هذا الباب العظيم: "لا أعتقد أن الجيولوجيين سوف يرتاحون كثيرًا، من جهة نظر علمهم، إلى الآيات القرآنية التي تروي كيف شق موسى البحر الأحمر بعصاه، كما أنه ليس صحيحًا أن علماء الفيزياء والكيمياء لن يجدوا أي تناقض بين قوانين ¬

_ (¬1) العلمانية من منظور مختلف ص 293.

علومهم وبين الآيات القرآنية التي تروي كيف تحولت النار فجأة إلى برد وسلام على إبراهيم. كما أن علماء الفلك "وليس التنجيم" سوف يجدون بعض الصعوبة، لا شك، في التوفيق بين معلوماتهم العلمية عن النيازك والشهب من ناحية وبين الآيات القرآنية التي تعلمنا أن الشهب هي لرجم الشياطين والجن حين تحاول الصعود إلى السماء واستراق السمع "أي: الاستماع إلى أحاديث الملائكة" من ناحية ثانية" (¬1) وذلك في رده على القائلين بعدم وجود تعارض بين الإِسلام والعلم. فهذا الكاتب قد يرى سبب رفضهم لمثل هذه الآيات هو علميتهم، من جيولوجيين وكيميائيين وفيزيائيين وفلكيين، وما يهمنا أن الكاتب يريد الاستناد للعلم في التكذيب بهذه الخوارق للمألوف، والحقيقة أن العلماء منهم من انحبس في عالم هذه الطبيعة فكفر بآيات الأنبياء، ومنهم من خرج عن هذا الإطار، فأثبت الضرورة والحتمية البارزة في الطبيعة واستثنى من ذلك معجزات الأنبياء لتدخل في باب الجواز والممكن، فاجتمع عندهم دون إشكال الضرورة والحتمية مع الجائز والممكن. ومن النماذج الخطيرة في هذا الباب ما قدمه محمَّد أركون، فهو يدرس المعجزات ضمن مفاهيم أخذها عن العلوم الاجتماعية والإنسانية مثل: الأسطورة، اللامفكر فيه، الدوغمائية، العجيب الخلاب، وغيرها من المفاهيم ذات الإجراءات العملية في تطبيقاته على القضايا الدينية ومنها المعجزة، ومن بينها "العجيب الخلاب" الذي ناقش من خلاله "المعجزات". يدور المفهوم حول ظواهر لا يمكن إدراجها ضمن التفسير السببي الطبيعي، مما يدفع الإنسان إلى اقتراح سبب خارق، وهو عند العقلية الدينية يكون بالمعجزات، ويفسر ميتافيزيقيا عند العقل الفلسفىِ، فتكون مهمة هذا المفهوم دراسة مثل هذه القفزة التي تذكر تفسيرًا يخرق العادة لظواهر لم يستطع الإنسان تفسيرها (¬2). ومثل هذا المفهوم المنهجي مثل غيره من المفاهيم التي تكتسب مكانتها من ¬

_ (¬1) نقد الفكر الديني، د. صادق العظم ص 26. (¬2) انظر: الفكر الإِسلامي قراءة علمية، محمَّد أركون ص 187 - 188.

تماسكها الداخلي وإجرائيتها الخارجية، فلا يوجد اعتراض عليه عندما يطبق على ظواهر بشرية واجتماعية، فمن المسلم به أن كثيرًا من المجتمعات والطوائف تخلع المعجزات حول شخصيات مهمة وتصنع القصص الكثيرة حولهم، وانظر ما يوجد عند عوام الوثنيين وما يوجد من طوام عند غلاة المتصوفة، ولكن أركون كعادته لا يتوقف بمثل هذه المنهجيات عند حدودها بل هو من دعاة توسيعها وتطبيقها على الإِسلام، الدين الحق، دون تفريق بين المختلفات، لهذا نجده يطبق ما يصح على مقولات الدجالين والسحرة وما تختزنه ذاكرة الأمم التي انحرفت من معجزات مكذوبة، نجده يطبق ذلك على الإِسلام أيضًا، وذلك أنه حسب قناعته الشخصية أن هذه المعجزات لا يقبلها العقل العلمي ولكن يمكن للعقل العلمي أن يتفهم لماذا النفوس البشرية تقول بها وتتقبلها وتصدقها. ومثل هذه التسوية هي المزلق الخطير، صحيح أن المعجزة ترتبط بالأنبياء -عليهم السلام- وبيننا وبينهم مسافة زمنية، ولكن ذلك قد نقل إلينا بالنقل الصحيح، فهي من الغيب لنا ولكن غيرنا قد شاهدها ونقلها إلينا، والعبرة هنا: هل صح بها النقل أم لا؟ أما أركون فهو ينطلق من مسلمة يريد فقط إثباتها، المسلمة عدم وجود المعجزات وخوارق الطبيعة الدينية، وكل ما هنالك هو لغة دينية "مرتبطة بالمنطق الشعري أكثر من ارتباطها بالمنطق العقلاني. إنها تغذي الخيال وتهزّ العاطفة أكثر مما تسجن "أو تحجز" القارئ في مقولات. . . . عقلية" (¬1). وأختم هذه الظاهرة الإنكارية للمعجزات أو إهمالها بسبب هذا التصور الفلسفي والعلمي عن الطبيعة بحالةٍ وقعت مع مجموعة من الكتاب المتغربين ومن تأثر بهم، فقد وقع تحول بارز عند مجموعة من المتغربين منتصف القرن الرابع عشر/ العشرين في نوع الكتابة الفكرية، حيث ظهرت لهم كتابات عن السيرة النبوية، "على هامش السيرة" لطه حسين، "حياة محمَّد" لهيكل، "عبقرية محمَّد" للعقاد، وإن كان العقاد لا يُحسب على المتغربين، وقريبا من طريقة العقاد ما كتبه محمَّد فريد وجدي "السيرة النبوية تحت ضوء العلم والفلسفة" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق ص 207. (¬2) انظر حول هذه الكتب، القول الفصل بين الذين يؤمنون بالغيب والذين لا يؤمنون، الشيخ =

وهناك ملاحظة بارزة في هذه الكتابات حول السيرة النبوية، وهي تذبذبها حول معجزات نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وقد تناولها الشيخ مصطفى صبري بالنقد والكشف، فهم يهملون الحديث عن هذه المعجزات، أو يذكرونها ثم يؤولونها، أو ينكرونها، لعدم موافقتها للعلم والعقل، وبأنها لم ترد في القرآن، وأن معجزة النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت في القرآن فقط. ولا شك أن معجزة النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت في القرآن، فهو الذي ورد به التحدي في آيات، قال ابن كثير -رحمه الله- في مقدمة تفسيره: "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيًا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة" (¬1). . . . وفي هذا الحديث فضيلة عظيمة للقرآن المجيد على كل معجزة أعطيها نبي من الأنبياء، وعلى كل كتاب أنزله، وذلك أن معنى الحديث: ما من نبي إلا أعطي من المعجزات ما آمن عليه البشر؛ أي: ما كان دليلًا على تصديقه فيما جاءهم به واتبعه من اتبعه من البشر، ثم لما مات الأنبياء لم يبق لهم معجزة بعدهم إلا ما يحكيه أتباعهم عما شاهده في زمانه، فأما الرسول الخاتم للرسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - فإنما كان معظم ما آتاه الله وحيًا منه إليه منقولًا إلى الناس بالتواتر، ففي كل حين هو كما أنزل، فلهذا قال: "فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا"، وكذلك وقع، فإن أتباعه أكثر من أتباع الأنبياء لعموم رسالته ودوامها إلى قيام الساعة، واستمرار معجزته؛ ولهذا قال الله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)} [الفرقان: 1]، وقال -تعالى-: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)} [الإسراء: 88]، ثم تقاصر معهم إلى عشر سور منه فقال: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13)} [هود: 13]، ثم تحداهم إلى أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا، فقال: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)} [يونس: 38]، وقصر التحدي على هذا المقام في السور المكية ¬

_ = مصطفى صبري ص 9 وما بعدها، وانظر حول هذا التحول التغريبي ما كتبه د. فهمي جدعان: أسس التقدم عند مفكري الإِسلام ص 332 وما بعدها. (¬1) البخاري برقم (4598) باب كيف نزل الوحي. . . . في كتاب فضائل القرآن، ومسلم برقم (217) باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -. . . . في كتاب الإيمان.

كما ذكرنا وفي المدنية أيضًا كما في سورة البقرة، حيث يقول -تعالى-: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)} [البقرة: 23 - 24] فأخبرهم بأنهم عاجزون عن معارضته بمثله، وأنهم لا يفعلون ذلك في المستقبل أيضًا، وهذا وهم أفصح الخلق وأعلمهم بالبلاغة والشعر وقريض الكلام وضروبه، لكن جاءهم من الله ما لا قبل لأحد من البشرية من الكلام الفصيح البليغ، الوجيز، المحتوي على العلوم الكثيرة الصحيحة النافعة، والأخبار الصادقة عن الغيوب الماضية والآتية، والأحكام العادلة والمحكمة، كما قال -تعالى-: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام: 115]. . . . " (¬1). ولكن وإن كانت معجزة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي تحدى بها هي القرآن فإن هناك آيات أخر عظيمة وقعت لنبينا - صلى الله عليه وسلم -، وجمعها العلماء في كتب مفردة، وهي مما يُصدّق بها المؤمن، ومن آمن بما وقع من آياتٍ لأنبياء الله السابقين فمثلها ما وقع لنبينا - صلى الله عليه وسلم - من آيات. أما ما وقع لهؤلاء المتغربين أو المتأثرين بالتغريب من إغفال لهذه الآيات أو من إنكار لها فهو من باب التأثر بالإنكار المادي للمعجزة، فقد ولّد عندهم حساسية تجاه المعجزة، فتجد أحدهم إذا وجد مخرجًا لرفضها سلكه، ولا شك أنه مع انحرافه الخطير فهو ليس كمن أعلن إلحاده الصرف. والبعض قد يُقدّم تنازلات من حسن نية وما علم أنه أخطأ في اجتهاده، وقد توسع الشيخ مصطفى صبري في مناقشتهم والرد عليهم في كتبه. قال الشيخ السعدي: إن "بعض أهل العلم العصريين الذين يتظاهرون بنصر الإِسلام، والدخول مع هؤلاء الزنادقة في الجدال عنه يريدون باجتهادهم أو اغترارهم أن يطبقوا السنن الإلهية وأمور الآخرة على ما يعرفه العباد بحواسهم، ويدركونه بتجاربهم، فحرفوا لذلك المعجزات، وأنكروا الآيات البينات، ولم يستفيدوا إلا الضرر على أنفسهم، وعلى من قرأ كتاباتهم في هذه المباحث؛ إذ ضعف إيمانهم بالله بتحريفهم لمعجزات الأنبياء تحريفًا يؤول إلى إنكارها، وإنكارهم هذا النوع العظيم من قضاء الله وقدره، وضعف إيمان من وقف على ¬

_ (¬1) فضائل القرآن، لابن كثير ص 8 - 9.

كلامهم ممن ليست له بصيرة، ولا عنده من العلوم الدينية ما يبطل هذا النوع، ولم يحصل ما زعموه من جلب الماديين إلى الهدى والدين، بل زادوهم إغراء في مذاهبهم، لما رأوا أمثال هؤلاء يحاولون إرجاع النصوص الدينية، ومعجزات الأنبياء، وأمور الغيب إلى علوم هؤلاء القاصرة على التجارب المدركات بالحواس، فيا عظم المصيبة! ويا شدة الجرم المزوق! ولكن ضعف البصيرة والإعجاب بزنادقة الدهريين أوجب الخضوع لأقوالهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله" (¬1). وقال سيد قطب في تفسيره قوله -تعالى-: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)} [الأنبياء: 69]: "إن الذين يقيسون أعمال الله سبحانه إلى أعمال البشر هم الذين يسألون: كيف كان هذا؟ وكيف أمكن أن يكون؟ فأما الذين يدركون اختلاف الطبيعتين، واختلاف الأداتين، فإنهم لا يسألون أصلًا، ولا يحاولون أن يخلقوا تعليلًا علميًا أو غير علمي. فالمسألة ليست في هذا الميدان أصلًا. ليست في ميدان التعليل والتحليل بموازين البشر ومقاييس البشر. وكل منهج في تصور مثل هذه المعجزات غير منهج الإحالة إلى القدرة المطلقة هو منهج فاسد من أساسه؛ لأن أعمال الله غير خاضعة لمقاييس البشر وعلمهم القليل المحدود" (¬2). وفي خاتمة هذه الفقرة تلخيصٌ لها، فقد ظهر القول بتعارض العلم والدين، وقد استند أهل الإلحاد في الفكر الغربي على المعجزات، حيث أثّر فيهم الفكر المادي في تصور الطبيعة، وقد امتد هذا الأثر إلى المتغربين العرب، وقد جعلوا هذه المعارضة المزعومة سندًا للتكذيب بالدين أو لتحريفه، وقد ظهر هذا إما بسبب الإلحاد وإنكار وجود الرب سبحانه، أو بسبب الانحراف في حقيقة الربوبية، لاسيّما في باب القدرة الإلهية، وقد انساق المتغربون في هذا الباب، فوقع منهم انحراف عظيم، وتسبب فكرهم بخطر عقائدي عليهم وعلى المسلمين. وبهذا نصل لنهاية هذا المبحث، وفيه ظهر أن الأمثلة التي وقع الانحراف ¬

_ (¬1) تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير الأحكام، الشيخ عبد الرحمن السعدي ص 184. (¬2) في ظلال القرآن 4/ 2388.

فيها باسم العلم ونظرياته، إما أن غاية ما عندهم أن العلم لم يدلّ على بعضها، وقد رأينا أن عدم الدليل المعين لا يعني عدم المدلول المعين. أو أن غاية ما يقولونه: إن العلم يقدم تصورًا جديدًا، إما مشاركًا عند بعضهم للتصور الديني أو مقدمًا عليه عند الغلاة منهم، وقد رأينا أن هذا الباب لا توجد فيه حقائق علمية، والنظريات فيه متنوعة، وفلسفة العلم المعاصرة تقول بأن ما نعرفه عن العالم أمر نسبي، وتدخل فيه الذات بوصفها مشاركًا في العرض مما يعني استحالة الموضوعية أو صعوبتها في مثل هذا الباب، واستحالة معرفة الحقيقة الموضوعية لمثل هذه الموضوعات أو صعوبتها، ومثل هذا النوع يقدم التصور الإِسلامي منهجه واضحًا: أن القطعي هو المقدم، والقطعي هنا هو خبر السماء، وما وجد من أبو اب محتملة وتثير مشكلات، فلابد من اجتماع العلماء المسلمين في البابين: العلم الشرعي والعلم التجريبي، لرفع الإشكال. وأخيرًا تجرُّؤهم بادعاء وجود ما ينقض الغيب ويثبت بطلانه من ميدان العلم، مستندين في ذلك على المعجزات، وقد رأينا أن هذا ناتج عن تصور مادي عن الطبيعة مع إلحاد أو انحراف في الربوبية، فضلًا عن أن فلسفة العلم المعاصرة بدأت تتذبذب بين الحتمية واللاحتمية، فهناك ظاهرة تثبت الحتمية وهناك أخرى تخرقها، والحق أحق أن يتبع، فمن عرف كمال قدرة الله وكمال ملك الله علم أن هذا الكون يسير بانتظام عجيب يدعو القلوب السليمة للتسليم بخالقها، ومن ذلك التسليم بتمام ملكه في أن يفعل ما يشاء سبحانه، ومن ذلك ما يحدثه من خرق للطبيعة أو للمألوف لحكمة يعلمها سبحانه. وبعد أن عُرِض باب الإشكالات في باب العقيدة ينتقل البحث إلى باب آخر، هو باب الشريعة، حيث وقع فيه من قبل المتغربين انحرافات باسم العلم ونظريات.

الفصل الثالث التأثر المنهجي في طريقة التعامل مع القضايا الشرعية العملية وفيه مبحثان: • المبحث الأول: التأثر المنهجي في طريقة النظر للشريعة. • المبحث الثاني: أمثلة للتأثر المنهجي وبيان خطورتها.

الفصل الثالث التأثر المنهجي في طريقة التعامل مع القضايا الشرعية العملية

الفصل الثالث التأثر المنهجي في طريقة التعامل مع القضايا الشرعية العملية ينقسم الدين إلى: عقيدة وشريعة، وكما أجابت العقيدة عن أعظم الأسئلة البشرية وأكثرها إلحاحا على الإنسان: من خلف هذا الوجود؟ وما صفاته؟ وما الواجب تجاهه؟ وما الحكمة من هذا الوجود؟ وما مستقبل العالم؟ وغيرها من الأسئلة المهمة، جاءت الشريعة لتعتني بمصالح البشرية الفردية والجماعية. وقد سبق في الفصل الثاني ما وقع فيه التغريب من انحرافات منهجية عقدية باسم العلم الحديث في باب الغيبيات، وأنه يعود في أصله إلى الانحراف في مفهوم الغيب. أما هنا فالبحث عن انحراف التغريب في باب الشريعة باسم العلم الحديث. وللانحراف في الشريعة أصول فاسدة وتطبيقات تفرعت عنها، هي موضوع هذا الفصل بمبحثيه، ونبدؤها بالأصول المنهجية، ونتبعها في المبحث الثاني بأمثلة من تلك الانحرافات النابعة عن هذه الأصول، يتخللها أو يتبعها ما يبيّن أثرها السلبي وخطرها على الدين وأهله والمجتمع مع النقد المناسب وبالله التوفيق. المبحث الأول: التأثر المنهجي في طريقة النظر للشريعة. المبحث الثاني: أمثلة للتأثر المنهجي وبيان خطورتها.

المبحث الأول التأثر المنهجي في طريقة النظر للشريعة

المبحث الأول التأثر المنهجي في طريقة النظر للشريعة المراد بالشريعة: استعمل لفظ الشرع والشريعة باستعمالات متعددة: فأطلق على التوحيد، وأطلق على الفروع أو العمليات، وأطلق عليهما معًا، فمثال الأول: قوله -تعالى-: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)} [الشورى: 13]، ومثال الثاني: قوله -تعالى-: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)} [المائدة: 48]، ومثال الثالث: قوله -تعالى-: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)} [الجاثية: 18] (¬1). وقد كان "التعريف الاصطلاحي للتشريع عند أهل الصدر الأول يطابق ¬

_ (¬1) انظر: الثبات والشمول في الشريعة الإِسلامية، د. عابد السفياني ص 50 - 54.

التشريع الاصطلاحي للفقه عندهم، إذ كل منهما يتناول الدين كله بعقائده وأحكامه وآدابه"، أما عند المتأخرين فيطابق مدلول الشريعة مدلول الفقه، إذ كل منهما يطلق على الأحكام العملية، "إلا أن بينهما فرقًا لا ينبغي أن يهمل، ذلك أن الشريعة هي الدين المنزل من عند الله، والفقه هو فهمنا لتلك الشريعة، فإذا أصبنا الحق في فهمنا كان الفقه للشريعة من هذه الحيثية، وإذا أخطأ فقهنا الحق المنزل لم يكن هذا الفهم من الشريعة، ولم يخرج عن الفقه" (¬1). قال ابن القيم: " [إحاطة الأوامر الشرعية بأفعال المكلفين]. وهذه الجملة إنما تنفصل بعد تمهيد قاعدتين عظيمتين: إحداهما: أن الذكر الأمري محيط بجميع أفعال المكلفين أمرًا ونهيًا وإذنًا وعفوًا، كما أن الذكر القدري محيط بجميعها علمًا وكتابة وقدرًا، فعلمه وكتابه وقدره قد أحصى جميع أفعال عباده الواقعة تحت التكليف وغيرها، وأمره ونهيه وإباحته وعفوه قد أحاط بجميع أفعالهم التكليفية، فلا يخرج فعل من أفعالهم عن أحد الحكمين: إما الكوني، وإما الشرعي الأمري، فقد بين الله -سبحانه- على لسان رسوله بكلامه وكلام رسوله جميع ما أمره به وجميع ما نهى عنه وجميع ما أحله وجميع ما حرمه وجميع ما عفا عنه، وبهذا يكون دينه كاملًا كما قال -تعالى-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}. ولكن قد يقصر فهم أكثر الناس عن فهم ما دلت عليه النصوص وعن وجه الدلالة وموقعها، وتفاوت الأمة في مراتب الفهم عن الله ورسوله لا يحصيه إلا الله، ولو كانت الأفهام متساوية لتساوت أقدام العلماء في العلم، ولما خص -سبحانه- سليمان بفهم الحكومة في الحرث، وقد أثنى عليه وعلى داود بالعلم والحكم. . . . والفرق بين الفقه والتأويل أن الفقه هو فهم المعنى المراد، والتأويل إدراك الحقيقة التي يؤول إليها المعنى التي هي أخيته وأصله، وليس كل من فقه في الدين عرف التأويل، فمعرفة التأويل يختص به الراسخون في العلم، وليس المراد به تأويل التحريف وتبديل المعنى؛ فإن الراسخين في العلم يعلمون بطلانه والله يعلم بطلانه" (¬2). والشريعة في اصطلاح الفقهاء "تطلق على الأحكام التي سنها الله لعباده ¬

_ (¬1) انظر: تاريخ الفقه الإِسلامي، د. عمر الأشقر ص 18، وقد ذكر بعض الفروق ص 18 - 20. (¬2) إعلام الموقعين عن رب العالمين، ابن قيم الجوزية 1/ 332.

على لسان رسول من الرسل" (¬1)، والشريعة الإِسلامية "ما شرعه الله لعباده من العقائد والأحكام في شؤون الحياة كلها" (¬2). ينطلق التصور الإِسلامي حول الشريعة من "أن الشريعة الإِسلامية صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان"، وقد جاء ذلك في مسلمات أساسية للعقيدة الإسلامية، منها: 1 - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء، وأن شريعة الإِسلام هي آخر الشرائع الإلهية إلى البشر. 2 - مهمة الإِسلام هي إصلاح حياة البشر؛ فقد قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)} [الأنفال: 24]. 3 - وأن الشريعة قد أُكملت قواعدها وأسسها، فاتضحت مقاصدها العامة، وطريقتها في الحياة ومعالمها، ومناراتها الهادية، بما جاءت به نصوصها العامة من حيث الشمول، وما بينته نصوصها الخاصة من حيث الدلالة وأسلوب التطبيق. 4 - وأن شريعة الإِسلام ودعوته خالدتان (¬3). وسيكون التركيز في هذا الباب على جانب العمليات من الدين، ومع أن هذا المبحث يركز على الجانب العملي من الشريعة؛ إلا أنه مرتبط بالجانب العقدي في باب التصور والخصائص، مما يجعل الحاجة قائمة للتوقف مع بعض الأصول التصورية. أستذكر قبل الدخول في قضايا هذا المبحث بعض النتائج المهمة التي استفدتها من الدراسة التاريخية لظاهرة العلم الحديث، وعلاقته بالتيارات ¬

_ (¬1) تاريخ التشريع ومراحله الفقهية. . . .، د. عبد الله الطريقي ص 12. (¬2) انظر بحث الدكتور: مناع القطان ضمن كتاب: وجوب تطبيق الشريعة الإِسلامية والشبهات التي تثار حول تطبيقها ص 188. (¬3) انظر: الشريعة الإِسلامية صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان، د. مصطفى الزرقا ص 223 - 224، من كتاب وجوب تطبيق الشريعة الإِسلامية والشبهات التي تثار حول تطبيقها.

الغيب مع الطبيعيات والشريعة مع الاجتماعيات

الفكرية، ولاسيّما في الموقف من الدين، ولاسيّما ما يفيد في هذا المبحث، حيث تُدرس تلك النتائج من جانب آخر، وذلك بالنظر لها في صورتها المنهجية، ذات الأصول والفروع والآثار، وتحليل هذا المنهج ونقده. فماذا أفاد العرض التاريخي؟ إن أهم ما كشفه هذا العرض أن تعامل الاتجاه العلماني في الغرب -قدوة التغريبيين- مع الأمور العقدية، وانحرافهم فيها، جاء غالبه من باب العلوم الطبيعية ونظرياتها، أما مع الأمور الشرعية؛ فقد جاء من باب العلوم الاجتماعية ونظرياتها، وقد اكتفى الباحث من العلوم الاجتماعية بالعلمين المهمين منهما داخل فلسفة العلم المعاصرة وهما: علم الاجتماع وعلم النفس. الغيب مع الطبيعيات والشريعة مع الاجتماعيات: بالاطلاع على الفكر التغريبي ومصادره الغربية نجد مجموعة من المبادئ والأصول التي توجه التغريب في باب الشريعة، وتأتي غالبًا ضمن العلوم الاجتماعية المعلمنة. لقد جاءت مشكلات العلوم الطبيعية مع القضايا الاعتقادية الخبرية، حيث راجت نظرياتها عن بداية العالم ونشوء الكون وأصل الإنسان والإيمان بالمخلوقات الغيبية كالملائكة والجن وآيات الأنبياء والوحي وغيرها من القضايا الخبرية، ويغلب على ما قُدِّمَ باسم العلم مما فيه تعارض مع الدين أمران: فإما أنه صريح في المعارضة فهو من باب الظنيات، قال -تعالى-: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28)} [النجم: 28]، وقال -تعالى-: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)} [الأنعام: 116] وقال -تعالى-: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)} [الأنعام: 148]. ومؤكد من وجهة نظر المسلم أنها "أكاذيب من مرضى القلوب، أو أوهام أو أخطاء من الباحثين العلميين"، وقد عرف المسلم ذلك من الوحي الذي بين يديه، وإن لم يكن ملمًا بتفاصيل تلك العلوم.

أو أنه يوهم التعارض وهذا بابه واسع، وعادة ما يكون هذا الباب مسرحًا للفوضى الفكرية، حيث يحرص أهل العلمنة على تحويله لتعارض حقيقي وهو ليس كذلك، فمثل هذا النوع يناسبه الدراسة المتأنية لرفع التعارض -وهذا هو حال المصدق برسالة الإِسلام ويحترم في الوقت نفسه الحقيقة- وليس الفرح بوجوده للطعن في الدين كما هو حال مرضى القلوب (¬1). وقد استند المتغربون على هذا النوع في باب العقائد للحركة في باب الشرائع، فإذا وقع التعارض في الخبريات فما المانع من نقله للعمليات. ولكن هذه الطبيعيات لا تدخل باب الشرعيات، فباب الشرع هو الطلب بخلاف باب العقائد القائم على الخبر، فمعلومات العلوم الطبيعية هي من جنس الخبر؛ لأنها إخبار عن الطبيعة والإنسان -كجسد- وكل الموجودات المحسوسة؛ ولذا قد يقع منها ما يوهم التعارض مع أخبار الدين، أما الشرع فهو من باب الطلب، وهو أمر أو نهي أو إباحة، ويدخل في هذا الباب كل أمور الإنسان العملية، التي تدخل من الوجهة الإِسلامية ضمن الشريعة، وهذا الباب اعتنت به العلوم الاجتماعية بعد أن فصلتها عن علوم الدين ومصدرية السماء إلى علوم إنسانية ومصدرها الأرض. إذًا العلوم الاجتماعية بابها أوسع في حياة الإنسان القولية والعملية، الفردية والاجتماعية، ومن ذلك مثلًا العبادات، والحلال والحرام في العمل والمعاملات، والأخلاق والسلوك والقضايا الاجتماعية، ولاسيّما ما يتعلق بالجنسين والعلاقة بينهما، والجانب الأسري، والقضايا الاقتصادية، والقضايا السياسية وغيرها، وكما ظهر توهم التعارض في الخبر فهو أكثر ظهورًا في باب الطلب؛ ذلك أن نظريات العلوم الاجتماعية في العلم الواحد بل في الباب الواحد كثيرة، وتكون في الغالب متعارضة ويخطئ بعضهم بعضًا، ولذا تظهر مشكلة التعارض بين الدين وبين كثرة من النظريات الاجتماعية. يخف الاختلاف في العلوم الطبيعية؛ لأن المشكلة فيها ليست كثرة نظرياتها في الباب الواحد ولكن المشكلة تأتي من طريقة توسيع دائرتها أو الاستثمار السلبي لها، أما بين الشريعة والعلوم الاجتماعية فيتسع الخلاف ويزداد حدة؛ ¬

_ (¬1) انظر: مبحث دعوى التعارض في الفصل الأول من الباب الثالث.

أصول منهجية تغريبية للنطر في الشريعة تدعي العلمية

لأننا أمام طوفان من النظريات، وكلها تدّعي العلمية كونها خرجت من ميدان العلم، ولذا يكون دور المتغرب النافر من الدين هو التنقل بين هذه النظريات، فيغرف من هنا وهناك ما يعارض به الدين، ثم هو بعد ذلك يصرخ بأنه ما جاء إلا بالعلم. مع نجاحات العلم الحديث وما يتميز به من مزايا أهلته في الفكر الغربي للتغلب على بقية الفنون الأخرى، وظهر معه أسلوب جديد في التفكير يقوم على الوقائع المحسوسة والمشهودة، "وهذه العقلية التي تفسر الظواهر غير الطبيعية بالمصطلحات الطبيعية، أخضعت الدين أيضًا للدراسة" وفق المنظور السابق؛ أي: التركيز على المحسوس، ومن ثم أخرجوا الدين من موضوعات "علوم الدين" وجعلوه من موضوعات "علم الإنسان"، فأصبح المجتمع الإنساني مصدر الدين بعد أن كان مصدره السماء (¬1). تقول العلوم الاجتماعية "علوم الإنسان": إن الدين مصدره الإنسان والمجتمع، وهو بذلك طاهرة إنسانية واجتماعية، وبهذا فهو غير دائم، ومرتبط بزمنه وبظروفه، ومن ثم يمكن تغيره بل زواله، بخلاف من رآه مرتبطًا بالسماء، وأن مصدره رب العالمين، لوجد الدين وشريعته حقيقة أبدية، مثل سنن الطبيعة والحياة (¬2). أصول منهجية تغريبية للنطر في الشريعة تدعي العلمية: تأتي مجموعة أصول عند المتغرب في باب الشريعة، يجدها كل من استقرأ كتاباتهم، بعضها صريح وبعضها الآخر مضمر، وقد يتداخل عدد منها لدى البعض، وقد تؤثر صورة واحدة في بعضهم، وهنا ذكر أبرز تلك الأصول المؤثرة في نظرهم للشريعة وتدعي نسبتها للعلم. أصل الأصول: تعميم الظواهر الاجتماعية على الدين الحق: تقوم العلوم الاجتماعية العلمانية على انحراف منهجي خطير، حيث تجعل القضايا الشرعية من باب الظواهر الاجتماعية، والظاهرة منبعها من الأرض، من ¬

_ (¬1) انظر: بحث "وحيد الدين خان" ضمن كتاب وجوب تطبيق الشريعة الإِسلامية والشبهات التي تثار حول تطبيقها ص 300. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 300 - 301.

الإنسان أو المجتمع أو المؤثرات المادية كقانون التطور المادي أو قانون الجدل المادي الاقتصادي، فيكون مصدر الظواهر أرضيًّا ويُستبعد المصدر السماوي (¬1). وفرق بين نسبة الأمور العملية للشرع وبين نسبتها لميدان الظواهر الاجتماعية الدنيوية، فشتان بين أن يكون ربانيًا وبين أن يكون أرضيًا، فالرباني يحقق إنسانية الإنسان أما الأرضي فرغم دعوى الإنسانية فيه، إلا أنه يدسّها ويُفسدها ويطمر حقيقتها المفطورة عليها، قال -تعالى-: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} [الشمس: 7 - 10]. والشرع قائم على تزكية النفوس والمجتمعات والبشرية كلها بتحقيق مقاصده العليا فيها، ويقوم على جلب المصالح ودرء المفاسد، على مستوى الإنسان وعلى مستوى الجماعة، ومعرفة المصالح والمفاسد ترتبط بالعلم والحكمة والعدل والقسط والرحمة وما في بابها، وهذه لا يمكن أن يكون مصدرها البشر، ولذا يذكر عادة في آيات الشريعة علم الله وحكمته وإرادة اليسر وقيامه على الحق والعدل والميزان والرحمة. فالشريعة ربانية، وهي تُوصف بما وصُف به كتابها أيضًا، فما اختص به من خصائص يشمل كل موضوعاته، وجاءت من العليم، الحكيم، الحق، العدل، الذي وضع الميزان وأمر بالقسط، وحرم على نفسه الظلم، الرحيم، الذي يريد لنا اليسر بشرعه ولا يريد بنا العسر، وأفضل شيء حول معرفة خصائص شرعه وشريعته أن نأخذها من مصدرها، وأن نعرفها كما عرّفنا بها ذلك المصدر الرباني، وهنا بعض الآيات البينات التي تكشف لنا شيئًا من خصائص الشريعة الربانية: فأهم شيء حولها أنها من عند الله، والأمر كله لله، قال -تعالى-: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} [المائدة: 50]. قال ابن كثير: "ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المُحْكَم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات، التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم. . . . {وَمَنْ أَحْسَنُ}. . . . أي: ومن أعدل من الله في حكمه لمن عَقل ¬

_ (¬1) سيأتي له حديث آخر في المبحث الثالث من الفصل الثاني من الباب الثالث.

عن الله شرعه، وآمن به، وأيقن وعلم أنه تعالى أحكم الحاكمين، وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها، فإنه تعالى هو العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، العادل في كل شيء" (¬1). وقال السعدي: "فلا ثمّ إلا حكم الله ورسوله أو حكم الجاهلية. فمن أعرض عن الأول ابتلي بالثاني المبني على الجهل والظلم والغي، ولهذا أضافه الله للجاهلية، وأما حكم الله تعالى فمبني على العلم، والعدل والقسط، والنور والهدى" (¬2). وقال -تعالى-: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54]. {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ}؛ أي: "له الخلق الذي صدرت عنه جميع المخلوقات علويها وسفليها، أعيانها وأوصافها وأفعالها، والأمر المتضمن للشرائع والنبوات، فالخلق: يتضمن أحكامه الكونية القدرية، والأمر: يتضمن أحكامه الدينية الشرعية، وثم أحكام الجزاء، وذلك يكون في دار البقاء" (¬3)، وكما أن مخلوقات الله تسير وفق سنن ثابتة، وينعم الناس بهذا الثبات، ويشقون عند اختلاله كما إذا خرق الثبات بركان ضخم أو زلزال عظيم أو طوفان مهول، عندها يشعر البشر بنعمة هذا الثبات، فكذا أمره جاء كاملًا وثابتًا لتهنأ البشرية في ظلّه إن التزمته، ويقع فساد عظيم عند خرقه. وقال -تعالى-: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران: 154]. قال السعدي: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} "الأمر يشمل الأمر القدري، والأمر الشرعي" (¬4). وقال -تعالى-: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)} [الفرقان: 6]. قال ابن كثير: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ} أي: الله الذي يعلم غيب ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير ص 418. (¬2) تفسير السعدي ص 235. (¬3) المرجع السابق ص 291. (¬4) المرجع السابق ص 153.

السماوات والأرض، ويعلم السرائر كعلمه بالظواهر" (¬1). وقد وصف سبحانه كتابه أنه تنزيل العزيز العليم الحكيم، فتكون شريعته متضمنة لدلالات هذه الأسماء الجليلة، قال -تعالى-: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)} [الزمر: 1]، وقال -تعالى-: {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2)} [غافر:1 - 2]، وقال -تعالى-: {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)} [الجاثية: 1 - 2] وقال -تعالى-: {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)} [الأحقاف:1 - 2]. وقال -تعالى-: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166)} [النساء: 166]. قال السعدي: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} يحتمل أن يكون المراد أنزله مشتملًا على علمه؛ أي: فيه من العلوم الإلهية والأحكام الشرعية والأخبار الغيبية ما هو من علم الله تعالى الذي علم به عباده. ويحتمل أن يكون المراد: أنزله صادرًا عن علمه، ويكون في ذلك إشارة وتنبيه على وجه شهادته، وأن المعنى: إذا كان تعالى أنزل هذا القرآن المشتمل على الأوامر والنواهي، وهو يعلم ذلك ويعلم حالة الذي أنزله عليه، وأنه دعا الناس إليه، فمن أجابه وصدقه كان وليه، ومن كذبه وعاداه كان عدوه واستباح ماله ودمه، والله تعالى يمكنه ويوالي نصره ويجيب دعواته، ويخذل أعداءه وينصر أولياءه، فهل توجد شهادة أعظم من هذه الشهادة وأكبر؟ " (¬2). وقال -تعالى-: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17)} [الشورى: 17]. قال السعدي: "فقال: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ}. فالكتاب هو هذا القرآن العظيم، نزل بالحق، واشتمل على الحق والصدق واليقين، وكله آيات بينات، وأدلة واضحات، على جميع المطالب الإلهية والعقائد الدينية، فجاء بأحسن المسائل وأوضح الدلائل. وأما الميزان، فهو العدل والاعتبار بالقياس الصحيح والعقل الرجيح، فكل الدلائل العقلية، من الآيات الآفاقية والنفسية، ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير ص 947. (¬2) تفسير السعدي ص 215.

والاعتبارات الشرعية، والمناسبات والعلل، والأحكام والحكم، داخلة في الميزان الذي أنزله الله تعالى ووضعه بين عباده، ليزنوا به ما اشتبه من الأمور، ويعرفوا به صدق ما أخبر به وأخبرت رسله، فما خرج عن هذين الأمرين عن الكتاب والميزان مما قيل: إنه حجة أو برهان أو دليل أو نحو ذلك من العبارات، فإنه باطل متناقض، قد فسدت أصوله، وانهدمت مبانيه وفروعه، يعرف ذلك من خبر المسائل ومآخذها، وعرف التمييز بين راجح الأدلة من مرجوحها، والفرق بين الحجج والشبه، وأما من اغتر بالعبارات المزخرفة، والألفاظ المموهة، ولم تنفذ بصيرته إلى المعنى المراد؛ فإنه ليس من أهل هذا الشأن، ولا من فرسان هذا الميدان، فوفاقه وخلافه سيان" (¬1). قال -تعالى-: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105)} [الإسراء: 105]. قال ابن كثير: "يقول -تعالى- مخبرًا عن كتابه العزيز، وهو القرآن المجيد، أنه بالحق نزل؛ أي: متضمنًا للحق، كما قال -تعالى-: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166]؛ أي: متضمنًا علم الله الذي أراد أن يُطْلِعكم عليه، من أحكامه وأمره ونهيه. وقوله: {وَبِالْحَقِّ نَزَلَ}؛ أي: ووصل إليك -يا محمَّد- محفوظًا محروسًا، لم يُشَب بغيره، ولا زِيدَ فيه ولا نُقص منه، بل وصل إليك بالحق، فإنه نزل به شديد القُوى، القَوِيّ الأمين المكين المطاع في الملأ الأعلى" (¬2). وقال السعدي: "أي: وبالحق أنزلنا هذا القرآن الكريم، لأمر العباد ونهيهم، وثوابهم وعقابهم، {وَبِالْحَقِّ نَزَلَ}؛ أي: بالصدق والعدل والحفظ من كل شيطان رجيم" (¬3). وقال -تعالى-: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)} [الجاثية: 18]. قال السعدي: "أي: ثم شرعنا لك شريعة كاملة تدعو إلى كل خير وتنهى ¬

_ (¬1) المرجع السابق ص 756. (¬2) تفسير ابن كثير ص 794. (¬3) تفسير السعدي ص 468.

عن كل شر من أمرنا الشرعي {فَاتَّبِعْهَا} فإن في اتباعها السعادة الأبدية والصلاح والفلاح، {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}؛ أي: الذين تكون أهويتهم غير تابعة للعلم ولا ماشية خلفه، وهم كل من خالف شريعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - هواه وإرادته، فإنه من أهواء الذين لا يعلمون" (¬1). وقال القرطبي: "فمعنى {جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ}؛ أي: على منهاج واضح من أمر الدين يشرع بك إلى الحق" (¬2). وقال -تعالى-: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)} [هود: 1]. قال الطبري: "وأما قوله: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ}، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله، فقال بعضهم: تأويله: أحكمت آياته بالأمر والنهي، ثم فصلت بالثَّواب والعقاب. . . . . قول آخر: عن الحسن قال: {أُحْكِمَتْ}، بالثواب والعقاب {ثُمَّ فُصِّلَتْ}، بالأمر والنهي. وقال آخرون: معنى ذلك: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} من الباطل، ثم فصلت، فبين منها الحلال والحرام. . . . قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قولُ من قال: معناه: أحكم الله آياته من الدَّخَل والخَلَل والباطل، ثم فصَّلها بالأمر والنهي. وذلك أن "إحكام الشيء" إصلاحه وإتقانه وإحكام آيات القرآن: إحكامها من خلل يكون فيها، أو باطل يقدر ذو زيغ أن يطعن فيها من قِبَله. وأما "تفصيل آياته" فإنه تمييز بعضها من بعض، بالبيان عما فيها من حلال وحرام، وأمرٍ ونهي" (¬3). وقال ابن كثير: "وأما قوله: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ}؛ أي: هي محكمة في لفظها، مفصلة في معناها، فهو كاملٌ صورةً ومعنى. هذا معنى ما روي عن مجاهد، وقتادة، واختاره ابن جرير. وقوله: {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}؛ أي: من عند الله الحكيم في أقواله، وأحكامه، الخبير بعواقب الأمور" (¬4). ¬

_ (¬1) المرجع السابق ص 777. (¬2) تفسير القرطبي 16/ 163. (¬3) تفسير الطبري 12/ 308 - 310، تحقيق د. عبد الله التركي. (¬4) تفسير ابن كثير ص 652.

وقال -تعالى-: {وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:26]. قال ابن كثير: "أي: أنه تعالى هو الذي له الخلق والأمر" (¬1). وقال السعدي: "وهذا يشمل الحكم الكوني القدري، والحكم الشرعي الديني، فإنه الحاكم في خلقه، قضاءً وقدرًا، وخلقًا وتدبيرًا، والحاكم فيهم، بأمره ونهيه، وثوابه وعقابه" (¬2). ونجد اليسر والرفق وعدم إرادة الحرج في هذه الشريعة في آيات منها قوله تعالى في سياق الحديث عن المهاجرات بدينهن وما يرتبط بحالهن من أحكام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)} [الممتحنة: 10]. قال ابن كثير: "وقوله: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} أي: في الصلح واستثناء النساء منه، والأمر بهذا كله هو حكم الله يحكم به بين خلقه: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي: عليم بما يصلح عباده حكيم في ذلك" (¬3). وقوله تعالى حول الطهارة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)} [المائدة: 6]، حيث ختمها بعدم إرادة الحرج بهذا التشريع، وإنما يريد الطهارة وإتمام النعمة علينا. وفي الصوم قال -تعالى-: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ ¬

_ (¬1) المرجع السابق: ص 802. (¬2) تفسير السعدي ص 475. (¬3) تفسير ابن كثير ص 1325.

مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)} [البقرة: 185]، حيث ختمها بأنه يريد لنا اليسر ولا يريد العسر. وفي الصلاة والخير والجهاد قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)} [الحج: 77 - 78]، حيث ذكر ربنا تعالى بعدم جعل الحرج في هذا الدين. نكتفي بهذا النموذج الذي يكشف لنا خصائص هذه الشريعة ومصدرها، ومن أهم ما تنبهنا له الآيات: الربانية، وهي أعظم الخصائص، فهي من العليم الحكيم الرحيم سبحانه، ولهذا يكون شرع الله مناسبًا لكل حال ولكل زمان ولكل أحد؛ لأنه جاء من العليم الحكيم، ويكون فيه من الثبات والشمول والكمال ما يجعل الحياة مستقرة باستنادها على ركن ثابت، ويجعلها متوافقة باستنادها إلى هذا الشمول، ويجعلها غنية عن الزيادة والتلفيق والتصحيح لكمالها، وهذا الثبات والشمول والكمال لا يكون إلا من شريعة ذات مصدر رباني. كما أن الشريعة مع هذه الإحاطة والشمول يكون فيها اليسر والرفق والرحمة ويكون فيها العدل والوسط والتوازن، ولهذا جاء التنبيه عقب مواطن من الأحكام بـ {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، فما كان بالحال السابقة فهو أحق بالشكر. وفي ربانية الشريعة بركة للشريعة يجدها الناس في حياتهم، كما أنها تكون أكثر قبولًا من الناس وتجدهم أكثر رضًا بها، وتكون بعيدة عن الهوى، فما كان من البشر لابد أن يخضع لهوى فرد أو طائفة، وقد تنجح هذه الطائفة في فرض حكمها بالقوة أو بالترغيب أو بالخداع، وكلما جاءت أمة غيرت بما يناسب هوى الأقوى، بخلاف شرع الله، فقد نزل بالحق والميزان، وجاء كل حكم فيها بتعليل تقره العقول السليمة، قال ابن القيم: "وقد جاء التعليل في الكتاب العزيز بالباء تارة، وباللام تارة، وبأن تارة، وبمجموعهما تارة، وبكي تارة، ومن أجل تارة، وترتيب الجزاء على الشرط تارة، وبالفاء المؤذنة بالسببية تارة، وترتيب الحكم على الوصف المقتضي

له تارة، وبلما تارة، وبأن المشددة تارة، وبلعل تارة، وبالمفعول له تارة" (¬1). ومن تأمل في كل تعليل وجد فيه كمال هذه الشريعة واستجابتها لحاجة الإنسان وقدرتها على مسايرة حياته في كل زمان ومكان. ولاستحالة قدرة الإنسان على التشريع المناسب لحياته، جاء التصور الإِسلامي واضحًا في هذا الباب، ويجب أن يعترف الإنسان بأنه لا يستطيع أن يكتشف قانون الحياة بنفسه، {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116)} [النحل: 116] (¬2). وإذا كان مستند المتغربين هو العلم الحديث، فقد أثبتت الاكتشافات العلمية ذاتها "أن الإنسان لا يستطيع اكتشاف قوانين حياته بنفسه. لقد اتضح الآن أن الوسائل المتاحة للإنسان لا تعطينا أي تفاصيل جزئية عن الحقائق. والجانب الأهم في هذا كله هو أن الأشياء التي لا نطلع عليها هي أهم بكثير من التي نطلع عليها" (¬3)، وقد ظهرت صعوبات بالغة للعلم المادي أمام عنصر واحد من عناصر الطبيعة وهو الراديوم، "وهذا الشيء الذي عرفناه عن العالم المادي ذو أهمية بالغة لقضية القانون البشري؛ لأن الإنسان أكثر تعقيدًا من قطعة الراديوم التي لم يتمكنوا من معرفة قانونها"، وهو عنصر واحد محدود "فكيف يمكن الادعاء بإمكان التوصل إلى قانون الحياة البشرية عن طريق جهود بشرية؟ لقد كشف العلم أن الوجود الإنساني أعقد بكثير مما كان الناس يظنونه في الأزمنة الغابرة، فالحقيقة أن للإنسان علاقة بالكون كله، فهو موضع دراسة علوم كثيرة ابتداء من علم الخلية والنفس والاقتصاد إلى علم الفلك، وبكلمة أخرى: لابد من معرفة الكون كله لأجل معرفة الإنسان. ولكن بحوثنا العلمية تخبرنا بأن البشر يعانون من بعض العجز والحدود التي لابد منها والتي تحول بكل قطعية دون ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين عن رب العالمين، ابن قيم الجوزية 1/ 197، وقد ذكر بعدها الآيات على كل نوع، ثم أعقبها بفصل عن ذلك في السنة النبوية. (¬2) انظر كلام: "وحيد الدين خان" ضمن كتاب وجوب تطبيق الشريعة الإِسلامية والشبهات التي تثار حول تطبيقها ص 302. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 304.

رؤيتنا الكاملة والواسعة للحقائق" (¬1). وكما سبق فإن ربانية الشريعة كما تعني الإحاطة والشمول والكمال تعني أيضًا اليسر والرفق والرحمة ويكون فيها العدل والوسط والتوازن، ولذا فيها الثابت وفيها المتغير، وهذا من مرونة الشريعة واستجابتها للمتغير في حياة البشر، وبهذا تحقق الشريعة مصالح العباد بما تحويه من مقاصد لا يستطيع البشر لوحدهم إدراكها ولا يمكنهم ذلك. قال ابن القيم: "فصل في تغيير الفتوى، واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد. بناء الشريعة على مصالح العباد في المعاش والمعاد. هذا فصل عظيم النفع جدًا وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة، أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به؛ فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى البعث؛ فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل؛ فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله - صلى الله عليه وسلم - أتم دلالة وأصدقها،. . . . وكل خير في الوجود فإنما هو مستفاد منها، وحاصل بها، وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها" (¬2). وقد جاءت تكاليف الشريعة بحفظ مقاصدها في الخلق "وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام: أحدها أن تكون ضرورية، والثاني: أن تكون حاجية، والثالث: أن تكون تحسينية" (¬3)، "ومجموع الضروريات خمسة وهي: حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل" (¬4)، ويعيب أي تشريع بشري انتباهه لجانب من المصالح والمفاسد وغفلته أو تغافله عن جانب؛ ولذا نجد عادة في كل قضية ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق، وحيد خان ص 305. (¬2) إعلام الموقعين عن رب العالمين 3/ 3. (¬3) الموافقات، الشاطبي 2/ 7. (¬4) المرجع السابق 2/ 8.

آراء متعارضة، بخلاف ما جاء البشر من العليم الحكيم سبحانه؛ فإنه لا يدخله النقص ولا التناقض، ويحقق المصالح دون إفراط أو تفريط. أما الأخذ بجانب دون جانب فمآله إلى الانحراف، فالتوازن كما هو في خلق الله وسننه الكونية هو كذلك في أمره وشرعه، وأي إخلال بهذه المعادلة الكونية والشرعية يقع الفساد في الأرض، قال -تعالى-: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)} [الروم: 41]. قال أبو حامد الغزالي: "أما المصلحة فهي عبارة في الأصل عن جلب منفعة أو دفع مضرة، ولسنا نعني به ذلك، فإن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق، وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم، لكنا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع، ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة. . . . وهذه الأصول الخمسة حفظها واقع في رتبة الضرورات، فهي أقوى المراتب في المصالح" (¬1). قال القرضاوي: "من الحقائق المسلمة أن الشريعة الإِسلامية قد وسعت العالم الإِسلامي كله، على تنائي أطرافه، وتعدد أجناسه، وتنوع بيئاته الحضارية، وتجدد مشكلاته الزمنية. . . . وأنها -بمصادرها ونصوصها وقواعدها- لم تقف يومًا من الأيام مكتوفة اليدين، أو مغلولة الرجلين، أمام وقائع الحياة المتغيرة، منذ عهد الصحابة فمن بعدهم .. وأنها ظلت القانون المقدس المعمول به في بلاد الإِسلام حوالي ثلاثة عشر قرنًا من الزمان، إلى أن جاء عهد الاستعمار الغربي الذي استبدل بها تشريعاته الوضعية، فأحل بها ما حرم الله، وأبطل بها ما فرض الله. وإنما استطاعت الشريعة الإِسلامية أن تفي بحاجات كل المجتمعات التي حكمتها، وأن تعالج كافة المشكلات في كافة البيئات التي حلت بها، بأعدل الحلول وأصلحها؛ لأنها -بجوار ما اشتملت عليه من متانة الأصول التي قامت على مخاطبة العقل، والسمو بالفطرة، ومراعاة الواقع، والموازنة بين الحقوق ¬

_ (¬1) المستصفى، الغزالي 2/ 481 - 482.

الأصل الثاني: التطور

والواجبات، وبين الروح والمادة، وبين الدنيا والآخرة، وإقامة القسط بين الناس جميعًا، وجلب المصالح والخيرات، ودرء المفاسد والشرور، بقدر الإمكان- قد أودعها الله مرونة عجيبة جعلتها تتسع لمواجهة كل طريق، ومعالجة كل جديد، بغير عنت ولا إرهاق" (¬1). وحتى تقوم الشريعة بتحقيق ذلك فقد قامت على أسس عظيمة، وتميزت بخصائص تجعلها قادرة -في كل زمان وفي كل مكان وفي كل مجتمع مؤمن بها- على تحقيق الخير للناس، وبهذا يعلم الفرق بين شريعة مصدرها السماء وبين ظواهر اجتماعية مصدرها الأرض. وهذا الأصل هو الأصل الذي تفرعت عنه بقية الأصول المنهجية المنحرفة في نظرتها لشرع رب العالمين، ومنها أصل التطور. الأصل الثاني: التطور: من أبرز التحولات في باب العلوم الاجتماعية عنايتها بدراسة الدين، ولكن بعد فصله عن الوحي، وتحويله لظاهرة اجتماعية أو نفسية، ويُدرس كعلم من علوم الإنسان الأرضية التي لا علاقة لها بالسماء، وتدرس على نحو تطوري، من الأدنى إلى الأعلى أو من حال إلى حال، والتطور مذهب قديم "غير أنه لم يصبح مذهبًا علميًا إلا في العصور الأخيرة" (¬2)، وقد "اكتسب التفكير التطوري مكانة هامة في العلوم الاجتماعية والثقافة، سواء في القرن التاسع عشر أو أوائل القرن الحالي، وبالرغم من فقدانه لشيء من شعبيته بين الحربين العالميتين إلا أنه أعيد إحياؤه أخيرًا. . . ." (¬3). وحتى يؤكدوا فرضياتهم ذهبوا إلى ديانات وثنية مع فئات أمية ومتخلفة تعيش بعيدًا عن المدن والمجتمعات المدنية، مثل غابات أفريقيا وصحاريها أو في غابات أمريكا الجنوبية أو في بيئات قاحلة من أستراليا، حيث وجدوا ¬

_ (¬1) عوامل السعة والمرونة في الشريعة الإِسلامية، د. يوسف القرضاوي ص 71، ضمن كتاب وجوب تطبيق الشريعة الإِسلامية والشبهات التي تثار حول تطبيقها. (¬2) انظر: المعجم الفلسفي، د. جميل صليبا 1/ 295، وانظر: مفاتيح العلوم الإنسانية، د. خليل أحمد ص 115. (¬3) انظر: الموسوعة الفلسفية العربية 1/ 339، مادة (التطورية) لعبد الباقي هرماسي.

تكوينات اجتماعية بشرية معزولة عن العالم، وتعيش في دائرتها الخاصة، لها نظامها الديني والاجتماعي والعملي والقيمي، ومما درسوه بعناية أحوالها الدينية، وجعلوا هذا الجانب صورة عن بدايات الدين وتشكيلاته العملية، فإننا لو عدنا للماضي وإلى بدايات الإنسان الأولى فلن نجد بحسب زعمهم أفضل من هذه الصورة التي بين أيدينا لتمثيلها، ويجعلونها نقطة البداية لنشوء الشرائع، باعتبار أن النظام الاجتماعي لهذه النماذج هو الصورة الأولى لكل أمور الإنسان العملية، ومنه انطلقت عملية تطور بطيئة ومعقدة حتى وصلت الحال إلى ما هي عليه من شرائع وأخلاق وقيم وأنظمة ترتبط بالدين (¬1)، وتجد الاجتماعيين بمختلف مدارسهم عند دراسة أصل أي ظاهرة يعودون لمثل هذا النموذج باعتباره النواة الأولى البسيطة كحال أول خلية بسيطة وجدت في الأرض ثم تطورت حتى وصلت لقمتها في الإنسان، ومثل ذلك كل ظواهر حياة الإنسان المختلفة. لقد تعززت هذه الرؤية الجديدة مع ظهور نظرية داروين التطورية، ولاسيّما مع توسيعها لمجال الدراسات الاجتماعية والإنسانية، وأصبح مفهوم التطور عنصرًا مهمًا لأي دراسة علمية (¬2). وقد يجد هؤلاء الباحثون في تاريخ البشرية ما يغريهم بتعميم مفهوم التطور على باب الشرائع والقيم وغيرها، فإن صورَهُ بارزةٌ في الجوانب الدنيوية، من حالة بسيطة وساذجة إلى أمور عجيبة ومدهشة، وذلك عبر مئات السنين، فيُلحقون الدين بذلك، ولاسيّما أنه يوجد نوع من الدين يسير مع هذه الفرضية، وهو الدين المبتدع، فالدين من الوجهة الإِسلامية ضرورة فطرية، ولا يعيش مجتمع دون دين، ولكن يقع الانحراف عن عبادة الله إلى عبادة غير الله، أو من عبادة الله على طريقة الأنبياء إلى عبادته ببدع من اختراع البشر، وقد يظهر في الدين المبتدع مثل هذا التطور، بل إن الباحث في الفرق الدينية المختلفة يجد مثل هذه التطورات قد لحقت بها عبر الزمن، حيث تبدأ البدعة بأصل واحد وساذج ودون أن تملك أدلة وحججًا، ثم تتلبس بأحوال تتطور ¬

_ (¬1) قارن بالموسوعة الفلسفية العربية، الاصطلاحات والمفاهيم، مادة (تطور) ص 271. (¬2) سبق ذكر الكثير عن ذلك في الباب الأول، وسيكون له مزيد دراسة في المبحث الأول، من الفصل الثاني، من الباب الثالث، وانظر: أفي الله شك؟ د. حمد المرزوقي ص 97 - 109.

خلالها لتصل إلى درجة في غاية التعقيد وفي غاية التنوع والتكثر. ومع غياب منهج التفريق بين المختلفات، ولاسيّما مع فقد ميزان الحق والعدل -الوحي- ومع إغراء القفز لتعميمات غير سليمة بسبب بعض المشتبهات؛ جعلوا الدين الحق -عقيدة وشريعة- مثل غيره، وألحقوه بسلم التطور، بعد تحويله لظاهرة اجتماعية تكتسب صفات أي ظاهرة بخصائصها وقت سكونها ووقت تحولها. ويعارض التصور الإِسلامي هذا التعميم، ففي التصور الإِسلامي هناك الدين الحق -عقيدة وشريعة- الذي يتسم بالثبات والكمال والمثالية مع ما فيه من يسر ومرونة لجانب المتغيرات من حياة البشر (¬1)، فقد بعث الله أنبياءَه ورسله بالدين منذ أن وجد البشر على هذه الأرض، ثابت في أصوله ويقع التغير في شرائع الأنبياء، حتى جاء كمالها بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فيكون كمال الدين بالعودة إلى تلك الصورة التي حققها الرسول، ويكون النقص والتغير والفساد بكل صورة من صور الابتعاد عنها بالتحريف أو الهجر أو التكذيب. وكما أن في الطبيعة من عناصر الثبات التي لم تتغير كل هذه القرون؛ فكذلك دين الله سبحانه هو ثابت في حقيقته كل هذه القرون، فهما من عند الله، الطبيعة من خلقه والدين من أمره وإخباره، ويتغير ما ابتدعه الناس، أما الدين الحق فلا تَغيُّر فيه، قال -تعالى-: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} [المائدة: 48 - 50]. قال ابن كثير حول قوله -تعالى-: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}: "ثم هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان، باعتبار ما بعث الله به رسله الكرام من ¬

_ (¬1) انظر: التطور والثبات في حياة البشر، محمَّد قطب، وانظر: الثوابت والمتغيرات. . . .، صلاح الصاوي.

الشرائع المختلفة في الأحكام، المتفقة في التوحيد، كما ثبت في صحيح البخاري، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات، ديننا واحد". يعني بذلك التوحيد، الذي بعث الله به كل رسول أرسله، وضمّنه كل كتاب أنزله، كما قال -تعالى-: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)} [الأنبياء: 25]. وقال -تعالى-: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} الآية [النحل: 36]. وأما الشرائع فمختلفة في الأوامر والنواهي، فقد يكون الشيء في هذه الشريعة حرامًا ثم يحل في الشريعة الأخرى، وبالعكس، وقد يكون خفيفًا فيزاد في الشدة في هذه دون هذه؛ وذلك لما له تعالى في ذلك من الحكمة البالغة، والحجة الدامغة. قال سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة: قوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} يقول: سبيلًا وسنة، والسنن مختلفة: هي في التوراة شريعة، وفي الإنجيل شريعة، وفي الفرقان شريعة، يحل الله فيها ما يشاء، ويحرم ما يشاء، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه، والدين الذي لا يقبل الله غيره: التوحيد والإخلاص لله، الذي جاءت به الرسل"، إلى أن قال: "هذا خطاب لجميع الأمم، وإخبار عن قدرته تعالى العظيمة التي لو شاء لجمع الناس كلهم على دين واحد وشريعة واحدة، لا ينسخ شيء منها. ولكنه تعالى شرع لكل رسول شرْعة على حدَة، ثم نسخها أو بعضها برسالة الآخر الذي بعده، حتى نسخ الجميع بما بعث به عبده ورسوله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - الذي ابتعثه إلى أهل الأرض قاطبة، وجعله خاتم الأنبياء كلهم، ولهذا قال -تعالى-: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ}؛ أي: أنه تعالى شرع الشرائع مختلفة، ليختبر عباده فيما شرع لهم، ويثيبهم أو يعاقبهم على طاعته ومعصيته بما فعلوه أو عزموا عليه من ذلك كله" (¬1). وقال القرطبي: "ومعنى الآية أنه جعل التوراة لأهلها، والإنجيل لأهله، والقرآن لأهله، وهذا في الشرائع والعبادات، والأصل التوحيد لا اختلاف فيه". وقال أيضًا في تفسير قوله -تعالى-: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير ص 418، وحديث أبي هريرة في البخاري برقم (3442)، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا}.

تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)} [الجاثية: 18]: "ولا خلاف أن الله تعالى لم يغاير بين الشرائع في التوحيد والمكارم والمصالح، وإنما خالف بينما في الفروع حسبما علمه سبحانه" (¬1). وقال شيخ الإِسلام ابن تيمية: "وقد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد؛ الأنبياء إخوة لعلات، وإن أولى الناس بابن مريم لأنا، إنه ليس بيني وبينه نبي"، فالدين واحد، وإنما تنوعت شرائعهم ومناهجهم كما قال -تعالى-: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}. فالرسل متفقون في الدين الجامع للأصول الاعتقادية والعملية، فالاعتقادية كالإيمان بالله وبرسله وباليوم الآخر، والعملية كالأعمال العامة المذكورة في الأنعام والأعراف وسورة بني إسرائيل كقوله -تعالى-: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} إلي آخر الآيات الثلاث. وقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} إلي آخر الوصايا. وقوله: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وقوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)}. فهذه الأمور هي من الدين الذي اتفقت عليه الشرائع كعامة ما في السور المكية فإن السور المكية تضمنت الأصول التي اتفقت عليها رسل الله؛ إذ كان الخطاب فيها يتضمن الدعوة لمن لا يقر بأصل الرسالة" (¬2). وليس في هذا التغير في الشرائع دليل لأصحاب مقولة الظواهر الاجتماعية، فإن تغيير الشرائع في دين الأنبياء يكون من رب العالمين، فينسخ الله ما شاء سبحانه ويثبت ما شاء، أما أصحاب الظواهر الاجتماعية فيصدق كلامهم على الأديان المحرفة والأديان المخترعة وعلى البدع، فالتحريف والابتداع والاختراع هو من عمل البشر، وتنسب هذه الأديان لهم، قال -تعالى-: {لَكُمْ ¬

_ (¬1) تفسير القرطبي، الأول 6/ 211، والثاني، 16/ 164. (¬2) الفتاوى، 15/ 159 - 160، وحديث أبي هريرة عند البخاري برقم (3442) كتاب حديث الأنبياء باب قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ}. وانظر له أيضًا كلامًا مهمًا حول هذا الموضوع في الفتاوى: فصل في توحد الملة وتعدد الشرائع وتنوعها وتوحد الدين الملي دون الشرعي وما في ذلك من إقرار ونسخ وجريان ذلك في أهل الشريعة الواحدة. . . .، وتسمى (قاعدة في توحيد الملة وتعدد الشرائع)، 19/ 106 وما بعدها.

الأصل الثالث: علمية وعلمنة العلوم الاجتماعية ودعوى قدرتها أن تسد مسد الدين

دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} [الكافرون: 6]، وقال -تعالى-: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)} [يونس: 41] وقال: {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} [القصص: 55]. قال سيد قطب حول آية الكافرون: "إن التوحيد منهج، والشرك منهج آخر .. ولا يلتقيان .. التوحيد منهج يتجه بالإنسان مع الوجود كله إلى الله وحده لا شريك له. ويحدد الجهة التي يتلقى منها الإنسان عقيدته وشريعته، وقيمه وموازينه، وآدابه وأخلاقه، وتصوراته كلها عن الحياة وعن الوجود. هذه الجهة التي يتلقى المؤمن عنها هي الله، الله وحده بلا شريك، ومن ثم تقوم الحياة كلها على هذا الأساس، غير متلبسة بالشرك في أية صورة من صوره الظاهرة والخفية. ." (¬1). وفي الجملة؛ فلا علاقة للدين وشرائعه السماوية بالدين الذي يدرسونه إن كانت عمدته هي تلك العينات، وكانت منهجيتهم تصر على تحويل الدين وشرائعه إلى ظاهرة إنسانية لتعممها على كل دين، بل حتى لو قال أحدهم: إنه سيدرس تطور الدين من جهة تطور شرائعه ثم لم يرجع للوحي لكانت دراسته ضربًا من الأوهام؛ لأن مصدر الحقيقة في هذا الباب مقتصر على الوحي بعد أن تحرفت أديان أهل الكتاب وما وقع لنصوصهم وشرائعهم من تحولات وانحرافات ضاعت معها الحقيقة أو أصبحت ملتبسة بحاجةٍ لمصدر آخر يبينها، وهو الإِسلام لا غير. الأصل الثالث: علمية وعلمنة العلوم الاجتماعية ودعوى قدرتها أن تسدّ مسدّ الدين: تأتي العلمية كمشكلة أخرى في هذا السياق؛ فبعد أن اختزلت العلمية في قوالب معينة، وكان هناك دعوى لعلمية "الظاهرة الاجتماعية والجوانب العملية من حياة الإنسان" في العلوم الاجتماعية وإدخالهم ما تختص به الشريعة ضمن هذا المفهوم؛ جاء الاختزال مع رغبة العلوم الاجتماعية في التشبه بالعلوم الطبيعية، ودعواها التزام الموضوعية، ومن ذلك التزامها في البحث عما هو واقع وليس عما ينبغي، فالعلم لا يهتم بما ينبغي، فهو مجال كان الدين يهتم به بطريقة غير علمية، وقد ذهب زمانه بذهاب الدين وضعف مكانته مع التقدم العلمي كما يزعمون، أما العلم فيهتم بما هو واقع فقط بعيدًا عن أي نظر للحلال والحرام أو ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن 6/ 3992.

الحق والباطل أو المحمود والمذموم، وكل القيم المعيارية، إلا أنها مع كل هذه الدعوى العلمية تعاني من ثمار هذه الدعوى؛ حيث إنها لم تستطع تقليد العلوم الطبيعية من جهة، ولم تنجح في معالجة بابها من جهة أخرى، فقد أُبرزت هذه الدعوى على أنها البديل العلمي لقضايا الإنسان العملية، وهي القضايا التي كانت ضمن الشريعة في الغالب، ولكن الدراسات النقدية تظهر كل وقت لتعترف بأزمة العلوم الاجتماعية حتى في الأبواب الاجتماعية المحسوسة (¬1)، وقد تظهر في القضية الواحدة نظريات شتى متعارضة ومتناقضة ومدارس يخطئ بعضها بعضًا، مما يبعدها عن مسمى العلم؛ لأن الأصل في العلم أن يكون ذا أصول يقبلها أغلب الناس، فكيف يصح وهم أنفسهم -أهل العلوم- يخطئ بعضهم بعضًا، ومع ذلك فيبقى المجتمع الذي لم يعرف الدين أو عرفه بصورة محرّفة مضطرًا لهذه الأبواب من العلوم النفسية والاجتماعية معتمدين في ذلك على عقولهم وتجاربهم، أما الأمة المسلمة فهي -وإن اهتمت بالإنسان والمجتمع وبكل ما يرتبط بهما بأسلوب العلوم الحديثة- تتميز بوجود مصدر تنطلق منه في البحث وترجع إليه لتصويب النتائج، وإن إسلامية المعرفة لا تعني رفض المعارف البشرية، وإنما تعني أخذ الصحيح النافع منها بصورة تختلف عن مجرد النسخ والتقليد. وقد جاءت هذه الدعوى لعلمية الأبواب العملية من حياة الإنسان من التأثر بالجانب الدنيوي المعاش العملي التطبيقي في المدنية الغربية، فقد وجد المتغرب - مثلًا- أن خلف هذه المدنية تطورًا علميًا وروحًا علمية في الجامعات والأكاديميات والمكتبات والمعامل والمختبرات و. . . .، إنه توظيف للعقل بشكل مدهش، ولكن لم ينتبه هؤلاء أنه عقل مشغول بدنياه، صنع وسائل استرقاقه من الأدوات والتقنيات، وبعد أن كان أمل العقلانية العلمانية السيطرة على الطبيعة وتسخيرها للإنسان انقلب الوضع عليهم، وأصبحت هذه الدنيا المعقلنة تسيطر عليهم بما اختُرع من أدوات وتقنيات (¬2)، وقد أطلق بعض النقاد على هذا العقل ¬

_ (¬1) انظر: أمثلة من ذلك في المبحثين الثاني والثالث، من الفصل الثاني، من الباب الثالث، وانظر: مشكلة العلوم الإنسانية. . . .، د. يمنى الخولي، مع محاولتها حل المشكلة، ويمكن أن تكون الحلول ذات جدوى إذا أبقيت في الجانب المحسوس وتركت غيره للدين. (¬2) انظر: سؤال الأخلاق. . . .، طه عبد الرحمن ص 65.

"العقل الأداتي" أو "العقل المجرد" الذي نجح في دنياه المادية وفشل في الجانب المعنوي من حياة الإنسان (¬1). وقد أدى هذا إلى التهوين من شأن العمليات الأخروية التي لا تبرز ثمارها بشكل مباشر لكل واحد، مثل العبادات والواجبات واجتناب المنهيات والتزام القيم. وأدى أيضًا إلى الاهتمام بالعمليات الدنيوية ذات المردود الدنيوي والمباشر، وتولّد عنه سباق محموم للحاق بالغرب في هذه الأبواب الدنيوية. ومن هنا أصبحت قيمة المعرفة العلمية ترتبط بما تحقق من "مكاسب - إنجازات - سبق - تطور" حتى وإن كانت حرامًا أو فيها شبهة، الربا في الاقتصاد، المنفعة في الأخلاق، حرية البحث في الطب دون حدود، علاقات بين الجنسين دون قيم، وغيرها. ولكن دعوى علمية الجانب العملي من الحياة دون مراعاة للحلال والحرام والواجب والقيم يحتاج لإطار نظري تصوري وتشريعي يعطيه الحق في الحركة والعمل دون رقابة أو دون رادع من تقوى أو خلق، وقد جاء هذا الإطار من العلمانية بجانبيها السلبي والثبوتي، وكلاهما خطير؛ فالسلبي يقوم على فصل الحياة العملية عن الدين، والثبوتي يقوم على محاربة الدين وملاحقته في كل مكان وطرده بعنف مع تأسيس جديد لكل الحياة على أصول غير دينية. الافتتان بالدنيا والاغترار بها أمر خطير، إنه يفتح الباب للعمل دون عناية بالحلال والحرام والقيم والآداب الشرعية والتقوى، والاقتناع بالعلمنة وتغلغل أصولها أمر خطير أيضًا؛ لأنه يفتح الباب لتشريع العمل السابق وينزع أي تردد من العامل ويطمس الألم الذي قد ينبع من بقايا الفطرة عند الوقوع في الانحراف. تُعدّ علمنة الحياة العملية المشكلة الأخطر في نشاط العلوم الاجتماعية والإنسانية، حيث كانت العلمانية المدخل لنبذ الشريعة وتأسيس الحياة التي كانت الشريعة تتولى أمرها على أسس أخرى (¬2)، حيث بدأت بدعوى تأسيس الحياة ¬

_ (¬1) انظر: يورغن هابرماس ومدرسة فرانكفورت. . . .، حسن مصدق ص 97 وما بعدها، وانظر: سؤال الأخلاق ص 59 وما بعدها. (¬2) سيأتي مزيد بحث للعلمنة في المبحث الأول من الفصل الأول من الباب الثالث.

الأصل الرابع: النسبية

العملية على العقل ثم تحولت إلى العلم، فالعلمانية هي رؤية للحياة مغايرة للرؤية الدينية، وبما أن الحياة هي الحركة والعمل والقول؛ فقد قامت العلمانية بإقصاء الدين وكل تنظيماته للحياة، وفتحت الباب للعقول لتُشرّع لهذه الحياة، وقد كان هذا سائدًا في دعوات العلمانيين في عصر التنوير، ثم تحول في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر للوضعية التي تعني في جانب منها العلمية، فقيل: إن الدور يكون هنا للعلم، والعلم هنا هو العلوم الاجتماعية المعلمنة، وقد برز ذلك مع منتصف القرن الثالث عشر / التاسع عشر وهو السائد إلى الآن، وهناك جهود لترسيخ علمية الاجتماعيات وتأكيد السير في علميتها، وهو جهد حسن؛ لأنها من وجهة نظر إسلامية لو سارت السير الصحيح لاتفقت نتائجها مع الدين؛ لأن الحق في الخبريات والطلبيات واحد، ولكن هذه العلوم تأثرت كثيرًا بمشكلة العلمنة، مما جعلها تهرب من الدين وتنفر منه وترفضه كمصدر للمعرفة وتحيل البشر للمجهول، وهذا أكبر عائق للعلمية وأكبر مفسد لها. ومن الملاحظ وجود فرق غريب بين الأمر في الغرب وبين المتغربين؛ ففي الغرب نشاط علمي دنيوي لاهث لا يقف، ويريد بعض أهله تأسيس حياتهم على هذا العلم بعد أن فقدوا ثقتهم في الدين، ولكن هذا غير موجود في المتغربين، فما عندهم هو محض التقليد، فأغلب من عُرف عنهم العناية بالعلم الحديث من المسلمين لم يعرف عنهم حرص على التغريب وعلمنة العلم واصطناع عداوة بين الدين والعلم الحديث، بخلاف البعيدين عن العلم والمنشغلين بالفلسفة والآداب والفنون، فتجدهم أحرص على العلمنة دون أن يكون فيهم علماء في العلوم البشرية في الغالب. الأصل الرابع: النسبية: تأتي النسبية ضمن الأصول الموجهة لهذا الميدان، وهي تأتي كنتيجة منطقية لعلمنة الحياة العملية وفصلها عن أي مصدر كامل وثابت، وتأتي كنتيجة منطقية أيضًا لتحويل الجانب العملي الديني إلى ظواهر اجتماعية يصدق فيها ما يصدق في كل الظواهر الاجتماعية، فهي ظواهر كما يقولون أنتجها الإنسان أو المجتمع أو الطبيعة، إنها عندهم من الأرض وليست من رب العالمين، دون تفريق بين أديان الباطل ودين الحق، وهنا تصبح النسبية مفهومًا متوافقًا مع أرضيّة الظواهر وعلمنة العمل.

ولا شك أن النسبية العملية قد تعززت بنظرية النسبية الفيزيائية، فإذا كانت الظواهر المادية ذات مظهر نسبي بوجهٍ ما؛ فمن باب أولى الظواهر الاجتماعية العملية، وإن كان القول بالنسبية أقدم من نظرية النسبية الفيزيائية المعاصرة بكثير. وللنسبية حضور قوي في الفكر الغربي مصدر المتغربين، وكما يقول خليل أحمد: "تهيمن النسبوية على عصرنا وتفعل في الفلسفة الحديثة كـ"وسواس خناس" يوسوس في عقول الغربيين: "موت الإله"، "موت الإنسان"، "موت الفن"،. . . ." (¬1)، فما المقصود بها؟ "النسبية مذهب من يقرر أن كل معرفة "أو كل معرفة إنسانية" فهي نسبية. والنسبية الأخلاقية. . . . مذهب من يقرر أن فكرة الخير والشر تتغير بتغير الزمان والمكان، من غير أن يكون هذا التغير مصحوبًا بتقدم معين" (¬2). وهناك "نسبية المعرفة"، ومن معانيها: "أن المعرفة الإنسانية نسبة بين الذات العارفة والموضوع المعروف، وأن العقل الإنساني لا يحيط بكل شيء، وإذا أحاط ببعض جوانب الأشياء صبها في قوالبه الخاصة" (¬3)، وخلاصتها: "ترجع إلى القول أن العقل لا يستطيع أن يعرف كل شيء، فإذا عرف بعض الأشياء لم يستطع أن يحيط بها إحاطة تامة. وما من فكرة في العقل إلا كان إدراكها تابعًا لمعارضتها بفكرة سابقة مختلفة عنها أو شبيهة بها" (¬4). تتجه فلسفة العلم المعاصرة لتأكيد نسبية المعرفة في باب العلوم الطبيعية وإن كان ضمن معنى ضيق ليس هو ما يتبادر لأصحاب المعرفة العامة، ومع ذلك فلها أبعادها في بقية العلوم والأفكار والأيديولوجيات. وفي الغالب أن صاحب المنظور الإِسلامي يتفق مع هذا الموقف النسبوي، ويراه صحيحًا ما دام الأمر يتعلق بما يتصوره البشر عن العالم من حولهم وما يقومون به من عمل وفق مبادئهم وقيمهم التي يتفقون عليها بعيدًا عن المصدر السماوي، فمهما بلغت عقلية الفكرة وعلميتها فهي محكومة بحدود البشر، ولذا تبقى ¬

_ (¬1) مفاتيح العلوم الإنسانية، د. خليل أحمد ص 431. (¬2) المعجم الفلسفي، د. جميل صليبا 2/ 466. (¬3) المرجع السابق 2/ 466. (¬4) المرجع السابق 2/ 467.

معرفتهم مهما بلغت معرفةً نسبيةً ما لم تهتد بهدي الوحي وما لم تستنير بنوره. وقد عرض "سالم يفوت" مجموعة مؤلفات جديدة في فلسفة العلم ثم قال: "فقد أكد هؤلاء، رغم اختلافهم، أن الحقيقة العلمية ليست حقيقة إلا بالنظر إلى المعايير والمواثيق التي ولّدتها، والتي هي معايير ومواثيق تحكم النظرة العلمية للفترة أو العصر، وتجعل العالم خاضعًا لقوانين وضوابط، على ضوئها يمنح الاكتشاف أو التجديد مشروعيته أو صلاحيته، شريطة أن ينصب في القنوات المعتمدة والمتبعة، وألا يناقض البنية العلمية السائدة والرسمية. وأكدوا كذلك أن تاريخ الأفكار العلمية يحكمه جدل التقدم والنفي، فتقدمه يتم عبر مراجعات وإعادة سبك، ومقاطعة مع الماضي أحيانًا والتخلي عنه. فتاريخ العلم هو تاريخ العقلانية المتزايدة باستمرار، أو تاريخ غزو المعقول للامعقول. وبهذا المعنى أمكن الحديث عن نسبية الحقيقة العلمية وتبعيتها لدرجة المعقولية التي يبلغها العلم، والتي ما يلبث أن يتنكر لها ليحيلها إلى لا معقولية" (¬1)، فهذا المعنى الذي تؤكده فلسفة العلم المعاصرة ويأخذ به يفوت صحيح في الجملة ما دامت تلك المعرفة لا تجد ركنًا تستند إليه، وهي أكثر وضوحًا في الجوانب الغيبية التي يكون الحديث عنها غالبًا من رجم الغيب، وفي الجوانب العملية؛ لأن حياة الإنسان أعقد بكثير من الجوانب الطبيعية، فإذا أمكن القول بوجود نسبية من نوعٍ ما في الطبيعة الجامدة، وهي التي يُظَن تيسر الإمساك بحقيقتها، فإنها في جانب حياة الإنسان ومصالحه التي تجلب له، والمفاسد التي تدفع عنه تكون أكثر صعوبة على العقل الإنساني، ومن هنا حاجة البشر لشريعة الرحمن الرحيم العليم الحكيم سبحانه. ومن بين الأمثلة التي تؤصل لهذا المبدأ ما نجده في دراسة اجتماعية لميدان الأخلاق، يعرض صاحبها لقواعد أساسية يفرضها المنهج العلمي لدراسة الظواهر الخلقية، وذكر قاعدة النسبية: "قاعدة الإيمان بالحقيقة النسبية " Relativity" حيث إن موجودات العالم التي تحيط بنا هي "أشياء موضوعية"، أما ما نتصوره أو ما نتمثله فهو "تصورات" أو "أشياء ذاتية" ولا ينبغي إطلاقًا أن ¬

_ (¬1) الموسوعة الفلسفية العربية 2/ 1329، مادة (النسبية) لسالم يفوت.

نفرض ما "نتصوره" على موجودات موضوعية، وإنما يكون التوازن الحقيقي بين العقل والوجود، هو في محاولة إخضاع ما هو "ذاتي" إلى ما هو "موضوعي". حيث ترتبط تصوراتنا وأفكارنا بتصورات أخرى قائمة في بنية المجتمع، كما تتصل أفكارنا بأفكار أخرى قائمة في بنية المجتمع، كما تتصل أفكارنا بأفكار أخرى وردت من حركة التاريخ. واستنادًا إلى "بنية المجتمع من جهة" وإلى "روح العصر، من جهة أخرى صدرت وأصبحت كل المعارف والأشياء والتصورات نسبية "" Relative" (¬1) . وأختم هذه الأصول الخطيرة بمثال ينطبق على أكثرها لمفكر معاصر هو "د. حسن حنفي"، فهو ممن توسع في تبديل الشريعة تحت ضغط وتأثير منهجيات مختلفة ترجع إلى كيفية التعامل مع الأصول والنصوص الدينية، وقد ذكرت طريقته في التعامل مع القضايا الغيبية في فقرات سابقة، وظهر منها أن تفسيراته لا تخضع لضابط واضح، بل هي مفتوحة على ما أسماه "الشعور"، وهو مصطلح غامض، ولكن التطبيقات تكشف أن مفهوم الشعور أقرب لمفهوم الهوى، ما يهواه الفرد وما تهواه الجماعة، حتى وإن خالف ما أخبر الله به وما أمر به. ومن ذلك إخضاع الشريعة للتبديل والتغيير وفق المصالح والأهواء، وأكبر دليل له هو مبحث أسباب النزول (¬2)، فهذا المبحث -عند حنفي- يؤكد أن الأحكام ترتبط بالمصالح، وإذا تغيرت هذه المصالح فمن الخطأ الثبات على الأحكام، ثم يُخضع كل الشريعة لمثل هذه الرؤية، فتصبح شريعةً لا تعرف الثوابت والأصول والأمور القطعية، وهذا أمر في غاية الخطورة، فهو من التلاعب بشرع الله سبحانه، فالشريعة إنما جاءت لتغيير أحوال الناس الفاسدة ومعالجة الأمراض وإصلاح العباد وتزكية نفوسهم، ولم تأت لموافقة أهوائهم. يقول: "وإن أهم ما يميز التراث في أصوله وفي نشأته وتطوره هو حركته ¬

_ (¬1) قضايا علم الأخلاق دراسة نقدية من زاوية علم الاجتماع، د. قباري إسماعيل ص 22 - 23. (¬2) انظر: مبحث: ماذا تعني أسباب النزول؟ في كتابه: الدين والثورة، حسن حنفي 7/ 69.

وعدم ثباته. فالوحي قد تغير طبقًا لحاجات الواقع، والتشريع يتغير طبقًا لتغيرات العصر. . . ." (¬1)، والأمر في التغيير يخضع للجماهير واحتياجات العصر فيتم "عرض الموروث القديم على احتياجات العصر ومطالبه. فهي التي تفسر القديم" (¬2). ¬

_ (¬1) التراث والتجديد، حسن حنفي ص 55. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 56، وانظر: ص 38، 124 - 126.

المبحث الثاني أمثلة للتأثر المنهجي وبيان خطورتها

المبحث الثاني أمثلة للتأثر المنهجي وبيان خطورتها 1 - في باب الأخلاق الإِسلامية. 2 - في باب العمل بالأدوية الشرعية للأمراض الجسدية أو النفسية. 3 - في باب حكم التعامل بالربا. 4 - في باب حجاب المرأة المسلمة. بعد عرض أصول الانحراف المنهجي عند المتغربين يأتي ذكر نماذج لآثار هذه النظرة التغريبية للجانب العملي بالمفهوم الواسع للعملي، وقد اخترت أبوابًا تعطي تغطية شمولية، منها ما هو عام كالأخلاق لعدم وجود موضوع معين منه برز التركيز عليه، والبقية هي موضوعات من أبواب عامة، باعتبار أن هذه الموضوعات أبرز مثال في أبوابها، لدرجة أنه قد يغطي الموضوع على كل الباب بسبب شهرته وتوسع الحديث فيه، وهي باب التداوي من المجال الطبي، والحجاب من الجانب الاجتماعي، والفائدة الربوية من المجال الاقتصادي. وسنرى أثر الأصول المنهجية على هذه الأبواب العملية المهمة من حياة المسلمين.

الأول: في باب الأخلاق الإسلامية

الأول: في باب الأخلاق الإِسلامية: تُعدّ الأخلاق من أهم ما يميز الإنسان، ولهذا أخذت مساحة كبيرة في التصور الإِسلامي، وقد امتدح الله نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4]، وأخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن دعوته فقال: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" (¬1)، وقد أُمرنا بالاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - كما أمرنا بالدعوة لما دعا الخلق إليه، ومن ذلك الأخلاق الإِسلامية. وقد تعرضت الأخلاق لمشكلات كثيرة في الفكر العلماني الحديث وأخذ بها المتغربون في العالم الإِسلامي، ومن هذه المشكلات ما هو في مستوى التنظير، ومنها ما هو في مستوى التطبيق، ومن ذلك مشكلات لها علاقة بالجانب العلمي الحديث أثارها المتغربون، يحاول الباحث مناقشتها في هذه الفقرة، فتُبحث انحرافاتهم في باب الأخلاق باسم العلم الحديث ونظرياته مع بيان حقيقة التصور الإِسلامي الذي يعارضه هؤلاء. وستكون البداية بتعريف مختصر للأخلاق، ثم طريقة البحث الأخلاقي المتأثر بالعلمنة مع التركيز على ما له صلة بالعلم الحديث، وبيان شيء من مشكلاتها، ثم تأتي نماذج من التأثر التغريبي في هذا الباب. أولًا: تعريف الخلق: في القاموس المحيط "الخلق، بالضم وبضمتين: السجية والطبع، والمروءة والدين"، وفي لسان العرب "وفي الحديث ليس شيء في الميزان أثقل من حسن الخلق". الخلق بضم اللام وسكونها وهو الدين والطبع والسجية، وحقيقته أنه لصورة الإنسان الباطنة، وهي نفسه، وأوصافها ومعانيها المختصة بها بمنزلة الخلق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها، ولهما أوصاف حسنة وقبيحة، والثواب والعقاب يتعلقان بأوصاف الصورة الباطنة أكثر مما يتعلقان بأوصاف الصورة الظاهرة، ولهذا تكررت الأحاديث في مدح حسن الخلق في غير موضع، كقوله: "من أكثر ما يدخل الناس الجنة تقوى الله وحسن الخلق"، وقوله: "أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا"، وقوله: "إن العبد ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم"، ¬

_ (¬1) رواه البخاري في الأدب المفرد، والحاكم، وأحمد، وغيرهم، وقد صححه الألباني في السلسلة الصحيحة 1/ 75 برقم (45).

وقوله: "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، وكذلك جاءت في ذم سوء الخلق أيضًا أحاديث كثيرة. وفي حديث عائشة - رضي الله عنها -: "كان خلقه القرآن"، أي: كان متمسكًا به وبآدابه وأوامره ونواهيه وما يشتمل عليه من المكارم والمحاسن والألطاف" (¬1). وعرّف الجرجاني الخلق فقال: "عبارة عن هيئة للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية، فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة عقلًا وشرعًا بسهولة؛ سميت الهيئة: خلقًا حسنًا، وإن كان الصادر منها الأفعال القبيحة؛ سميت الهيئة: خلقًا سيئًا، وإنما قلنا: إنه هيئة راسخة؛ لأن من يصدر منه بذل المال على الندور بحالة عارضة لا يقال: خلقه السخاء، ما لم يثبت ذلك في نفسه، وكذلك من تكلف السكوت عند الغضب بجهد أو روية لا يقال: خلقه الحلم، وليس الخلق عبارة عن الفعل، فرب شخصٍ خلقه السخاء، ولا يبذل، إما لفقد المال أو لمانع، وربما يكون خلقه البخل وهو يبذل، لباعث أو رياء" (¬2). ومن المصطلحات ذات الصلة بموضوع الأخلاق مصطلح "القيمة" الذي يعبر عن مجموعة من المعايير والأحكام النابعة من تصورات عن الإله وعن الكون والحياة والإنسان، تتكون لدى الفرد والمجتمع، فتوجه لديهم النظر والعمل (¬3). وإذا كان بحث الأخلاق معروفًا في تاريخ الفكر الإنساني فإن بحث القيمة معاصر ظهرت العناية به في القرن الأخير (¬4)، وقد كان يبحث في الفلسفة في قسم الإكسيولوجيا، وقد اشتهرت بالتقسيم الثلاثي: الحق والخير والجمال (¬5)، وتدخل ¬

_ (¬1) القاموس المحيط ص 1137، لسان العرب، مادة (خلق) 10/ 86، ومادة لسان العرب منقولة عن ابن الأثير من كتابه النهاية في غريب الحديث والأثر مادة (خلق) 2/ 70 - 71، فابن منظور لاحق لابن الأثير. (¬2) التعريفات، الجرجاني ص 101، وقريبًا من ذلك ما ذكره جميل صليبا في: المعجم الفلسفي 1/ 539، وانظر: الموسوعة الميسرة، الندوة 2/ 948، مدارج السالكين، لابن القيم 2/ 307، الأخلاق الإِسلامية، عبد الرحمن الميداني 1/ 7، موسوعة نظرة النعيم .. ، مجموعة مؤلفين 1/ 51. (¬3) انظر: القيم بين الإِسلام والغرب. . . .، د. مانع المانع، وانظر: موسوعة نظرة النعيم .. 1/ 84، وانظر: المعجم الفلسفي، د. جميل صليبا 2/ 212. (¬4) انظر: الكتب التي تتحدث عن مفهوم القيمة، ومنها: نظرية القيم في الفكر المعاصر، د. صلاح قنصوة ص 18، وانظر: الموسوعة الفلسفية العربية ص 37. (¬5) انظر: تمهيد للفلسفة، د. محمود زقزوق ص 60 - 61، وانظر: مبادئ الفلسفة، رابوبرت =

ثانيا: المشكلة الخلقية في العالم المعاصر ولاسيما في الغرب

الأخلاق في قسم الخير، ثم أصبحت القيمة مجال عناية خاصة في القرن الأخير. وفي كشف الظنون يقول: "علم الأخلاق، وهو قسم من الحكمة العملية، قال ابن صدر الدين في "الفوائد الخاقانية": وهو علم بالفضائل وكيفية اقتنائها لتتحلى النفس بها، وبالرذائل وكيفية توقيها لتتخلى عنها. فموضوعه: الأخلاق والملكات والنفس الناطقة من حيث الاتصاف بها" (¬1). ثانيًا: المشكلة الخلقية في العالم المعاصر ولاسيّما في الغرب: للأخلاق مع الإنسان قصة طويلة، حيث تعترك بداخله ثلاث قوى نفسية: النفس المطمئنة والنفس اللوامة والنفس الأمارة بالسوء (¬2)، وهناك الهوى والشهوة والشيطان، وهناك العقل والقلب والفطرة والحفظة الكرام. هناك ما يحرك الإنسان نحو الخير وهناك ما يجذبه للشر، وتصطرع قيم وأخلاق حسنة وسيئة، ومن هنا جاء مصطلح محاسن الأخلاق أو مكارمها وسيئ الأخلاق، والموفق من وفقه الله، وقد وعد صاحب الخلق الحسن بأجر عظيم. وأعظم من دلّ الناس على مكارم الأخلاق وحذّر من سيئها ورسم الطريق الصحيح في ذلك هم أنبياء الله ورسله -عليهم الصلاة والسلام-، وكل من سلك طريقًا يزعم استقلاله عن هديهم فضلًا عن قوله بأن ما سلكه أفضل مما أتى به الأنبياء فهو ضال ومضل. ولهذا لا يستقيم أمر الأخلاق والقيم ما لم يربط بمصدره الحقيقي وهو الوحي، وبأصوله الاعتقادية من الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر، وأكبر دليل على ذلك تلك الأزمة الخلقية التي تعانيها البشرية اليوم، فمع هذا التقدم العلمي والفكري والثقافي والصناعي والدنيوي بكل ¬

_ = ص 20، ترجمة أحمد أمين. (¬1) كشف الظنون، حاجي خليفة 1/ 35. (¬2) قال ابن تيمية -رحمه الله-: (ويقال النفوس ثلاثة أنواع: وهي "النفس الأمارة بالسوء" التي يغلب عليها اتباع هواها بفعل الذنوب والمعاصي. و"النفس اللوامة" وهي التي تذنب وتتوب، فعنها خير وشر، لكن إذا فعلت الشر تابت وأنابت فتسمى لوامة؛ لأنها تلوم صاحبها على الذنوب، ولأنها تتلوم؛ أي: تتردد بين الخير والشر. و"النفس المطمئنة" وهي التي تحب الخير والحسنات وتريده، وتبغض الشر والسيئات وتكره ذلك، وقد صار ذلك لها خلقًا وعادة وملكة. فهذه صفات وأحوال لذات واحدة، وإلا فالنفس التي لكل إنسان هي نفس واحدة، وهذا أمر يجده الإنسان من نفسه)، الفتاوى 9/ 294.

تاريخ الفكر الأخلاقي في الغرب

أشكاله؛ إلا أن هناك تراجعًا خطيرًا على مستوى القيم والأخلاق، وهناك أزمة حقيقية وخانقة للبشرية اليوم، يستوي في ذلك الغرب المتقدم مع من قلدهم من الأمم الأخرى واتبعهم، وذلك ملاحظ حتى في طائفة من المسلمين قصّروا في التزام أخلاق الإِسلام وانهمكوا في الدنيا المعاصرة ففشا فيهم ما فشا في الأمم من حولهم من مساوئ الأخلاق. وعندما وجد الغرب تلك المسافة الشاسعة بينهم وبين الأخلاق بسبب ما حصل من تقدم دنيوي لم يصحبه تقدم خلقي مرتبطًا بالدين الحق، ووجدوا صعوبة التمسك بالأخلاق الفطرية التي فطر الله الخلق عليها، عند ذلك احتالوا على أنفسهم وعلى من اتبعهم بأهمية تجاوز تلك الأخلاق القديمة بحجة أنها قديمة، وحقيقة الدعوى أن النفوس قد أصابتها لوثات مع العلمنة والمادية والإلحاد مما جعلها تنفر من الأخلاق الفطرية التي فطر الله الناس عليها وأتى الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- لتتميمها وترسيخها، فجاءت هذه الدعوات الهاربة من الأخلاق والقيم لتؤسس لأخلاق وقيم جديدة تناسب بحسب دعواهم العصر، ومع ذلك فكل مراقب ومتابع يجد اتساع الأزمة الخلقية والقيمية، "لقد فشل الغرب نفسه -وهو صانع العلم الحديث- في أن يقيم لنفسه مثل هذا اللقاء بين الطرفين، فكان له العلم، ولكنه فقد الإنسان. وليس هذا الاتهام من عندنا، بل يكفي أن نتتبع الأدب في أوروبا وأمريكا اليوم -والأدب هو المرآة المصورة للإنسان وما يعتمل في نفسه- لنرى ما يحسه الناس هناك في دخائل صدورهم من ملل، وسأم، وضيق وحيرة وضياع. . . ." (¬1). تاريخ الفكر الأخلاقي في الغرب: يعتمد الفكر التغريبي في الباب الأخلاقي على الفكر الغربي، لذا لابد من وقفة ولو باختصار مع هذا الجانب من الفكر الغربي، فقد مرّ الفكر الأخلاقي في الغرب بمراحل، فهناك في القديم الفكر اليوناني والروماني بفلاسفته ومذاهبه وكان عمدته على العقل، ولكن هذه العقلانية نبتت في بيئة وثنية مليئة بالآلهة المتصارعة التي لا يهمها شأن الإنسان، ثم تعرفت أوروبا على الدين السماوي ¬

_ (¬1) تجديد الفكر العربي، د. زكي نجيب محمود ص 271.

الإطار العلماني للأخلاق الجديدة

رغم ما أصابه من تحريف خطير في اليهودية والنصرانية، فانتقلت من دياناتها الوثنية إلى أديان ذات أصل سماوي وقع فيها التحريف، وبذلك انتقل ميدان الأخلاق إلى مصدر جديد هو الوحي، وبرزت الأخلاق اليهودية - النصرانية، وأصبحت المصادر الدينية النصرانية بخاصة الموجه الجديد للأخلاق في الغرب، ومع ذلك فقد طبعت عقيدة التجسد بآثارها على الأخلاق النصرانية (¬1)، فلم تكن أخلاق اليونان النظرية العقلية الصورية مما يتوافق مع الفطرة، ولا كانت الأخلاق الكتابية القائمة على دين محرف تلبي حاجة الإنسان؛ بل إن التجربة الغربية مع اليهودية والنصرانية مع الأحبار والرهبان قد شوهت الأخلاق الدينية، وإن انحراف القادة الدينيين "الأحبار والرهبان" وانحراف المؤسسة الدينية ولاسيّما مؤسسة الكنيسة؛ يراكم مع الأيام حججًا كثيرة ضد الأخلاق الدينية، ويعمق مع الأيام كراهية شديدة للأخلاق الدينية؛ لأنها أخلاق يدعي أصحابها أنها من رب العالمين، ثم يجد الناس صعوبة في تقبلها ولاسيّما وهم يرون ذاك الفساد العريض يتغلغل فيها ثم يفوح منها، وكل ذلك على أنه من رب العالمين (¬2). الإطار العلماني للأخلاق الجديدة: بدأت معالم التغيرات تظهر مع الاحتكاك بالعالم الإِسلامي بخاصة، وقد تختلف التحليلات في تقدير أثر ذلك الاحتكاك، إلا أنه من المؤكد أن معالم التغير تاريخيًا وقعت بعد ذلك الاحتكاك، وبدأت تتكون نواة مجتمع جديد، لم ينفصل عن كل موروثاته وإن أعطاها مسميات جديدة، ولا يمنع من وجود تأثر فعلي حقيقي بالحضارة الإِسلامية، ومن ذلك التأثر في مجال القيم والأخلاق (¬3). إلا أن مفهوم العلمنة الذي اخترق التشكيلة الجديدة في الغرب كان له دوره الخطير في إقصاء الدين ومنعه من المشاركة في تشكيل التوجه الجديد، فبقدر ما أثرت الحضارة الإِسلامية في التحرر بقدر ما أثرت العلمنة في الانحراف بهذا التوجه الجديد، وقد رصد لنا الدكتور طه عبد الرحمن صورة هذا التشكل العلماني الجديد ¬

_ (¬1) انظر: سؤال الأخلاق. . . . ص 31 - 35، وانظر: كتاب الأخلاق، أحمد أمين ص 89 وما بعدها، وهو لم ينبه لآثار البيئة الدينية على الأخلاق اليونانية أو النصرانية كغالب المفكرين العرب. (¬2) انظر: العلمانية، سفر الحوالي ص 361 - 366. (¬3) انظر: جاهلية القرن العشرين، محمَّد قطب ص 151 - 152.

في ميدان الأخلاق والذي تحول كإطار لحركة ميدان الأخلاق فيما بعد، وتعتمد أساسًا على فصل الأخلاق عن الدين، ويقوم هذا الفصل على ثلاثة مبادئ: الأول: مبدأ التوجه إلى الإنسان: يقضي هذا المبدأ بأن نترك التوجه في تصوراتنا وتصرفاتنا إلى الإله ونقتصر فيها على التوجه إلى الإنسان؛ إذ يرون أن الإنسان قادر على أن يتولى أمر نفسه دون الحاجة للاستعانة بقوة غيبية أو التوكل على موجود متعال، فهو مبدأ يدعو إلى الانفصال عن الإله. الثاني: مبدأ التوسل بالعقل: يقضي هذا المبدأ بأن نترك التوسل في أفكارنا وسلوكنا بالوحي ونقتصر فيها على التوسل بالعقل؛ فالإنسان أصبح قادرًا على الاستقلال بعقله لإصدار الأحكام والفعل بمقتضاها، ولا سلطان خارجي يهديه لصواب الأحكام أو صلاح الأفعال، فهو مبدأ يدعو إلى الانفصال عن الوحي. الثالث: مبدأ التعلق بالدنيا: يقضي هذا المبدأ بأن نترك التعلق في أعمالنا ومعاملاتنا بالآخرة ونقتصر فيها على التعلق بالدنيا؛ فالدنيا هي الحقيقة الوحيدة، وهي المستقر وفيها الفلاح، ويكون بما ينجز من تقدم، وليست أخبار الآخرة ولا الخلاص الأبدي فيها، في ظنهم إلا مجرد توهيمات وتضليلات ينبغي العمل على إخراج الناس منها بتنوير عقولهم وتحرير إرادتهم، فهو مبدأ يدعو إلى الانفصال عن الآخرة (¬1). وقد أثّرت هذه المبادئ في فصل الأخلاق عن الدين ومن ثم تأسيس نظام أخلاقي منفصل عن الإيمان بالله وعن الاهتداء بالوحي وعن الاستعداد للدار الآخرة، ومع عدم المبالاة في الفكر العلماني بالرب سبحانه وبالدين. إلا أنه كان عزيزًا على الإنسان الانسلاخ عن الأخلاق الفطرية لما في ذلك من تهديد بتحويله إلى أخلاق بهيمية، ولذا كان انفصال هذه البيئة عن الأخلاق بطيئًا، ومن مجالات اجتماعية مختلفة، فبدأت من مجال السياسة مع المكيافيلية، فالغاية تبرر الوسيلة، وبهذا تمارس السياسة دون أخلاق. ثم أزيحت الأخلاق من المجال الاقتصادي مع الثورة الصناعية بتحليل الربا، وقيام أخلاق رأسمالية بشعة يهمها الربح دون النظر للأخلاق. ثم أزيحت الأخلاق من مجال العلم، حيث برزت ¬

_ (¬1) انظر: هذه المبادئ في روح الحداثة. . . .، طه عبد الرحمن ص 100 - 101.

النظريات الأخلاقية الجديدة

أخلاقيات سيئة في المجال العلمي، ولاسيّما في تحويل العلم كأداة في الانحراف الفكري والأخلاقي. ثم أزيحت من مجال الفكر، فقد تحرر المفكر من الأمانة الحقيقية، وأصبح ينشر الزيف والغش وإفساد العقيدة باسم حرية الفكر والنقد. ثم أزيحت الأخلاق من مجال العلاقات الجنسية، حيث حول الجنس لمسألة بيولوجية لا علاقة لها بالأخلاق. وأخيرًا أُفرغت الأخلاق ذاتها من مضمونها حين قيل: إنها ليس لها وجود ذاتي، إنما هي انعكاس للأوضاع المادية والاقتصادية، أو أنها من صنع العقل الجمعي إلى غير ذلك تحت مسمى العلمية (¬1). النظريات الأخلاقية الجديدة: لقد برزت في هذا الواقع الجديد نظريات أخلاقية متناقضة، كل واحدة تزعم لمبادئها التمثيل المناسب للأخلاق الجديدة أو التنظير المناسب لمفهوم الأخلاق والقيم، وقد ارتبطت بالفكر الفلسفي العلماني بالدرجة الأولى، وهذه النظريات وجدت لها من المتغربين آذانًا صاغية، فنقلت ذاك الاضطراب والتناقض والفساد النظري الغربي للأخلاق إلى المجتمع الإِسلامي، وهذه لمحة موجزة عن بعض هذه النظريات ولاسيّما ما يربط بين العلم والأخلاق. تميزت العصور الوسطى بالمرجعية الدينية للجانب الأخلاقي، ومع العصر الحديث وبسبب الصراع الاجتماعي، ولاسيّما مع الكنيسة، بدأت الاتجاهات تبتعد عن الدين، ومع بروز عصر النهضة ثم التنوير وقع اهتمام بالعقل وجُعل مصدرًا للمعرفة مع استبعاد الدين، بل إن الدين ذاته قد جُعل مصدره العقل، وبلغ ذروته مع مفكري عصر التنوير وأبرزهم الفيلسوف الألماني "كانط" الذي أعلن استقلال العقل وعدم حاجته لغيره، وبلغ الغلو عنده أن جعل الدين تابعًا للعقل الأخلاقي بعد أن كانت الأخلاق تابعة للدين، فقد أراد تأسيس الأخلاق بعيدًا عن الدين، على مبدأ الإرادة الخيرة المعتمدة على العقل (¬2). وقد وجد ¬

_ (¬1) انظر: مذاهب فكرية معاصرة، محمَّد قطب ص 486 - 487، وانظر له أيضًا: جاهلية القرن العشرين ص 153 - 159. (¬2) انظر: سؤال الأخلاق. . . .، طه عبد الرحمن ص 35 - 40، وانظر: كانت أو الفلسفة النقدية، د. زكريا إبراهيم ص 131 وما بعدها، وانظر: قضايا في الفكر المعاصر، د. محمَّد الجابري ص 38.

المفكر البارز طه عبد الرحمن أن "كانط" أقام "نظريته الأخلاقية العلمانية على قواعد دينية مع إدخال الصنعة عليها، حيث استبدل الإنسان مكان الإله مع قياس أحكامه على أحكامه. . . ." (¬1). وهذه النظرية العقلية للأخلاق هي امتداد للمذهب العقلي الذي افتتحه "ديكارت"، ويقابله المذهب التجريبي الحسي المتحمس للعلوم الطبيعية الذي انطلق مع مجموعة من علماء الطبيعة وتمنهج مع "بيكون". ومن الكتاب العرب من يرى بأن "أول محاولة لدراسة الظواهر الأخلاقية دراسة موضوعية قد بدأت في الظهور بعد وضع أسس المذهب التجريبي" مع "بيكون" الذي نادى "بوجوب تطبيق مذهبه التجريبي على دراسة الأخلاق والسياسة" (¬2)، وجاء ميدان التأسيس الأخلاقي على هذه المفاهيم التجريبية مع "هوبز" و"لوك" و"هيوم"، وهو اتجاه يرفض تبعية الأخلاق للدين "الكنيسة"، كما أن العقلي يرى تبعية الدين للأخلاق "كانط"، ويتجه الأكثر لتأسيس الأخلاق على العلم، ومع ذلك فقد ظهر اتجاه وضعي من الاتجاه التجريبي يجد أن العلم لا يحتمل الأخلاق؛ لأن العلم إما رياضي أو طبيعي، والأخلاق لا تدخل فيهما، ولهذا لا يوجد أخلاق معيارية، فالأخلاق قد تعود للسلوك فتكون فرعًا من علم النفس، وهنا تصبح علمًا؛ لأن السلوك يمكن وضعه على محكات العلم، فسلوك البخل يمكن رصده ودراسته ولكن مقولة: "البخل مذموم" مقولة لا يمكن دخولها مجال العلم، فهي تبحث ما ينبغي وليس ميدانها العلم. سأكتفي هنا بتلك التي تنتسب للمجال العلمي من الدراسات الأخلاقية، وأبدأ بذكر أصلها، ثم ذكر صورها: يغلب على المفكرين والباحثين في مجال الأخلاق من المتوسلين بالعلمية أو المدعين لها أن يجمعهم مسمى "المواقف الطبيعية"، حيث يتفقون على "أن الإنسان والأرض والكون جميعًا أجزاء من طبيعة واحدة كبرى، تسري عليها قوانين واحدة، وتدرس بطريقة واحدة، ولابد لكل تفسير أن يقع في نطاق ما هو طبيعي، فليس وراء الطبيعة شيء، وليس غير الخبرة الحسية مصدرًا للمعرفة أو القيم. فالخبرة هي مصدر الأحكام العلمية ¬

_ (¬1) سؤال الأخلاق. . . .، طه عبد الرحمن ص 40. (¬2) انظر: الأخلاق بين الفلسفة وعلم الاجتماع، د. السيد محمَّد بدوي ص 133.

مثلما هي منشأ أحكام القيمية" (¬1)، فإذا كان الإنسان جزءًا من الطبيعة؛ فهو يُدرس بكل مكوناته بما فيها قيمه بما تُدرس به الطبيعة، والطبيعة تُدرس بعلوم تجريبية حسية فكذلك الإنسان، لذا ترد القيمة "إلى الذات أو الفاعل بما له من خصائص معينة، يختلفون فيما بينهم عليها، ولا تُردّ إلى الموضوع"، فالقيمة ليس لها وجود موضوعي وإنما هي ذاتية، وبذلك تكون نسبية، وبما أن الطبيعة بحسب مذهبهم تخضع لحتمية صارمة فكذلك الإنسان، فيعدون "الذات ظاهرة طبيعية تخضع لحتمية القوانين الطبيعية. وقد يتنازعون في التوكيد على نوع القوانين، أيهما أشدّ أثرًا في الإنسان، هل هي القوانين البيولوجية، أو هي النفسية، أو الاجتماعية، أو الاقتصادية" (¬2). وقد برزت هذه النزعة العلموية بقوة في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، فمع نجاحات العلم في ذاك الوقت وانبهار الناس به، وجدت تيارات فكرية تقضي بأنه الحصان المناسب في هذه المرحلة، ومنهم الاتجاهات العلموية التي غلت في العلم، والتي تطمح إلى بناء كل شيء على العلم سواء تعلق الأمر بالمعرفة أو بالسلوك (¬3)، وقد تطورت هذه الاتجاهات فيما بعد، وانقسمت مع العلوم الجديدة ولاسيّما الاجتماعية إلى مواقف شتى (¬4)، ومن ذلك المواقف التالية: الموقف الأول: البيولوجي، وفيه تعالج الأخلاق من منظور بيولوجي يلحون على إبرازه، وتدرس وفق قانون التطور، وهم امتداد لأفكار داروين والدارونية (¬5)، فكما أن الحياة تطورت من خلية إلى أن وصلت لهذا الإنسان، ¬

_ (¬1) نظرية القيم في الفكر المعاصر، د. صلاح قنصوه ص 65. (¬2) المرجع السابق ص 65، وانظر حول هذه الحتميات الأربع: في فلسفة العلم من الحتمية إلى الحتمية، د. يمنى الخولي ص 208 - 249. (¬3) انظر: قضايا في الفكر المعاصر، د. محمَّد الجابري ص 41 - 42، وانظر: الموسوعة الفلسفية العربية ص 972، وانظر: الأخلاق بين الفلسفة وعلم الاجتماع، د. السيد بدوي ص 139. (¬4) يمكن الرجوع للمذاهب الأخلاقية مختصرة في: الموسوعة الفلسفية العربية ص 2 - 43، و 820 - 825، و 964 - 947، وبتوسع في الكتب الأخلاقية مثل: نظرية القيمة في الفكر المعاصر، د. صلاح قنصوه، وكتب عادل العوا ومنها: المذاهب الأخلاقية عرض ونقد، والعمدة في فلسفة القيم، وكتب توفيق الطويل ومنها: فلسفة الأخلاق. (¬5) انظر: نظرية القيم في الفكر المعاصر، قنصوه، 69 - 71، وانظر: الموسوعة الفلسفية =

فكذا باب القيم والأخلاق تتطور بتطوره بل حتى الدين يتطور، وهو تطور تحكمه حتمية طبيعية بقوانينها الذاتية، وأي تفسير غيبي أو تفسير ميتافيزيقي لهذا التطور لا تقبله التطورية، يقول وليم جيمس البراجماتي عن أثر الدارونية: "إن فلسفة النشوء والارتقاء قد ألغت المعايير الأخلاقية التي سبقتها كلها؛ لأنها رأتها معايير ذاتية شخصية، وقدمت لنا بدلها معيارًا آخر نتعرف به الخير من الشر، وبما أن المعايير السابقة معايير نسبية فهي مدعاة للقلق والاضطراب، وأما هذا المعيار الذي ارتضوه وهو أن الحس ما قدر له أن يظهر أو يبقى فهو معيار موضوعي محدد" (¬1)، ومع ذلك فهذا المعيار المدعى أحال إلى فوضى أشد. وقد أخذ التغريب بهذا الموقف في فترة من تاريخنا المعاصر لأكثر من خمسين عامًا، ومع عدم وجود دارونيين عرب الآن إلا أن الأفكار التطورية قد تسربت إلى الفكر التغريبي تحت أسماء أخرى، كما أن فكرة التطور أصبحت ذات امتداد في الفكر التغريبي بما يوحي أن التطور يشمل كل شيء بما في ذلك الدين وما يرتبط به، ومن ثم زعزعة الثوابت التي لا تقبل التغير (¬2). لا يوجد ثبات للأخلاق مع فكرة التطور؛ لأنها في نمو مستمر، وهي إن حملت مفهوم الغائية إلا أنه يصعب إدراكها؛ لأننا لا نعلم إلى أين سيوصلنا التطور الحتمي، وما نعيشه لا يُعد مقياسًا للأخلاق فضلًا عن القول: إنها قديمة أو موروثة. يرفض أصحاب هذا الموقف استقرار الأخلاق أو وجود أخلاق معيارية أو مثل عليا، كما أن الأخلاق تنبع هنا من التطور الطبيعي، فلا علاقة لها بالدين أو العقل. الموقف الثاني: النفسية، "وتتفق هذه المواقف على رد القيمة إلى محتوى الوعي أو الوجدان النفسي بما يضطرب به من رغبات ومشاعر، فليس ثمّة قيمة إلا ما كان يرضي رغبة، أو يثير انفعالًا، أو يجسد دافعًا، وبذلك لا تكون القيمة ¬

_ = العربية ص 43، وانظر: المذاهب الأخلاقية .. ، د. عادل العوا 2/ 207 وما بعدها. (¬1) القيم بين الإِسلام والغرب. . . .، د. المانع ص 254. (¬2) سيأتي زيادة تعريف بهذا التيار في الفصل الثاني من الباب الثالث.

صفة خاصة بالموضوعات، بل نسبية تلحق بأنواع الذوات" (¬1)، وقد كثرت مدارس علم النفس، ومن أبرزها حضورًا في الفكر التغريبي نجد المدرسة الفرويدية والسلوكية، وهي تنظر للقيم من منظور نظريات كل مدرسة، كما أن القيم تعد موضوعًا أساسيًا من موضوعات علم النفس الاجتماعي (¬2). الموقف الثالث: الاجتماعية، وتعد المدرسة الفرنسية أشهرها، وهي الأكثر حضورًا في الفكر التغريبي، مثل "دوركايم" و"ليفي بريل" وأستاذها القديم "كونت" (¬3)، فـ"نجد أن علماء الاجتماع ينظرون إلى جميع القيم، بما في ذلك القيم الأخلاقية، على أنها صادرة عن المجتمع، وهذا المصدر؛ أي: المجتمع، هو الذي تستمد منه الظاهرة الأخلاقية طابع التقديس" (¬4)، أراد "دوركايم" مثلًا "في كتابه "التربية الخلقية" أن يبعد كل تأثير للعقائد الدينية في بث عناصر الأخلاق في النفوس، فإنه حرص مع ذلك على أن يكون للعاطفة والشعور مكان في التربية الأخلاقية، إذ إن هذه العاطفة أو هذا الشعور هما اللذان يحفزان إلى العمل الأخلاقي. ولكنه بدلًا من أن يربط هذه العاطفة أو هذا الشعور بقوة غيبية هي الآلهة التي تحض الأديان على عبادتها، وتجعل منها الغاية الأسمى لكل عمل أخلاقي؛ ربطها بفكرة الجماعة التي يتعلق بها الفرد. . . . وقد أدرك أن الإلزام الخلقي. . . . يجب أن يستند إلى شيء يبرره، ولكنه كان قد استبعد فكرة الإله؛ لاقتناعه كأوجست كونت، بأن الفلسفة اللاهوتية قد انقضى زمنها، فإنه قد استعاض عن هذه الفكرة بديانة الجماعة أو باتخاذ الجماعة كغاية عليا للنشاط الإنساني. فالمصدر المقدس لكل القيم هو ¬

_ (¬1) نظرية القيم في الفكر المعاصر، قنصوه ص 71، وانظر: المذاهب الأخلاقية .. ، د. عادل العوا 2/ 608 وما بعدها، وانظر: الأخلاق عند فرويد، محمَّد العجيلي، رسالة ماجستير قدم لها الدكتور عادل العوا. (¬2) انظر: المرجع السابق، قنصوه ص 77. وسيأتي لها بحث في الفصل الثاني من الباب الثالث. (¬3) انظر: الموسوعة الفلسفية العربية ص 43، وانظر: قضايا في الفكر المعاصر، د. محمَّد الجابري ص 43 - 44، وانظر: منهج البحث الاجتماعي. . . .، محمَّد أمزيان ص 63 - 68، وانظر: المذاهب الأخلاقية .. ، د. عادل العوا 2/ 347 - 527. (¬4) الأخلاق بين الفلسفة وعلم الاجتماع، د. السيد محمَّد بدوي ص 144، وانظر: المرجع السابق، قنصوه ص 79.

"المجتمع". . . ." (¬1). وهو لا يهتم بمُثُل عليا أو أخلاق مطلوبة ومعيارية بسبب وضعيته التي تحتم عليه العلمية؛ لهذا تكون مهمة علم الاجتماع كشف القيم كما هي لا ما ينبغي (¬2). وينكر تبعًا لذلك "ليفي بريل" "على الأخلاق أن تنظر فيما ينبغي أن يكون عليه السلوك الإنساني، وعليها إن شاءت أن تكون علمًا، أن تنصرف عن التشريع المثالي إلى دراسة الوقائع الخلقية دراسة وصفية تقريرية -كما هو الحال في كل علم- لتحصيل المعرفة التي تمكننا من التحكم في الظواهر التي اكتشفت قوانينها. . . ." (¬3). ومن أهم أفكار "بريل" "أن الظواهر الخلقية ظواهر اجتماعية، وأنها تتغير بتغير الظواهر الاجتماعية الأخرى" (¬4)، وهذه الأخلاق الوحيدة التي يدرسها علم الاجتماع كأي ظاهرة طبيعية (¬5). ولا يفرق "بريل" بين "الواقع الاجتماعي" و"الواقع الطبيعي"؛ لأنه بحسب موقفه الطبيعي لا يؤمن إلا بعالم واحد هو العالم الطبيعي الذي يخضع بأسره لاطراد القانون (¬6). وتمتاز عنها المدرسة الاجتماعية الأمريكية بوجه عام بإقرارها بأهمية دور القيم في السلوك الإنساني (¬7). الموقف الرابع: الاقتصادية، بدأت تحولات بارزة في علم الاقتصاد ولاسيّما في كتابات آدم سميث (¬8)، ويرد مفهوم القيمة في المجال الاقتصادي كدلالة على السعر المقدر للسلعة، فيقال: قيمتها كذا (¬9)، وبقيت بهذا المفهوم تدرس في ¬

_ (¬1) الأخلاق بين الفلسفة وعلم الاجتماع، د. السيد محمَّد بدوي ص 144 - 145 مع الاختصار، وانظر: قضايا علم الأخلاق: دراسة نقدية من زاوية علم الاجتماع، د. قباري إسماعيل ص 58 - 59. (¬2) انظر: نظرية القيم في الفكر المعاصر، قنصوه ص 82 - 83. (¬3) نظرية القيم في الفكر المعاصر، قنصوه ص 83. (¬4) المرجع السابق ص 83 - 84. (¬5) انظر: المرجع السابق ص 85. (¬6) انظر: المرجع السابق ص 84، كما أن الكتابين التاليين بكاملهما حول الموضوع: الأخلاق بين الفلسفة وعلم الاجتماع، د. السيد محمَّد بدوي، وقضايا علم الأخلاق: دراسة نقدية من زاوية علم الاجتماع، د. قباري إسماعيل. (¬7) انظر: المرجع السابق، قنصوه ص 86. (¬8) انظر: المرجع السابق ص 90. (¬9) انظر: القيم بين الإِسلام والغرب. . . .، د. مانع المانع ص 20.

دائرة الاقتصاد دون أن تتجاوزه حتى جاءت الماركسية التي جعلت من الاقتصاد نظرة شاملة للفاعلية الإنسانية (¬1)، وتبدأ من ذكر ما يختلف الإنسان به عن الحيوان في تفاعله مع ما حوله بأن "قصارى جهد الحيوان هو جمع مقومات حياته والتقاطها، بينما يكون الإنسان منتجًا لها، فهو ينتج تلك المقومات التي لا تخلقها الطبيعة إلا بمشاركته وتدخله، ويعد الإنتاج الذي يهدف إلى إشباع مطالب الإنسان الحيوية أشد فاعليات الإنسان أهمية. . . . والإنتاج بمثابة عملة ذات وجهين، يسمى أحدهما "قوى الإنتاج"، والآخر "علاقات الإنتاج"، ويكونان معا ما تسميه "المادية التاريخية" "بأسلوب الإنتاج"" الذي هو في النهاية النظام الاقتصادي "الذي يسود المجتمع في مرحلة تاريخية محددة، وهو القاعدة الأساسية التي ترفع فوقها أبنية النشاط الإنساني جميعًا"، فأما قوى الإنتاج فتتألف من أدوات الإنتاج والبشر الذين يستخدمونها بما عندهم من خبرات، أما علاقات الإنتاج فهي التي تنشأ أثناء الإنتاج بين الناس، أو بالأحرى بين الطبقات، وهناك في العادة طبقة مالكة لوسائل الإنتاج ومستغلة، وهناك طبقة عاملة ومُسَتغلة (¬2)، ويكون أسلوب الإنتاج بوجهيه "القوى والعلاقات" هو القاعدة، وهو"العامل الحاسم في صوغ سائر العلاقات والنظم الاجتماعية والسياسية والقانونية والخلقية والفلسفية والدينية والعلمية والفنية التي تمثل بدورها "البناء الأعلى" الذي يستمد وجوده واستمراره من أسلوب معين للإنتاج. . . ." (¬3). وبهذا ترد الماركسية بصورة واضحة القيم إلى الأساس الاقتصادي، وهي قيم متغيرة ومتطورة مع تغير وتطور الإنتاج، وسيبقى الصراع بين الطبقات حتى ترث البروليتاريا -طبقة العمال- كل الطبقات وتسود أخلاقها التي هي أفضل الأخلاقيات (¬4). وقد ظهر الاتجاه الماركسي في العالم الإِسلامي بعد عام (1919 م)، ¬

_ (¬1) انظر: نظرية القيم في الفكر المعاصر، قنصوه ص 93. (¬2) نظرية القيم في الفكر المعاصر ص 95 - 96، مع شيء من الاختصار. (¬3) المرجع السابق ص 97 - 98. (¬4) انظر: المرجع السابق ص 102، وانظر: الموسوعة الفلسفية العربية ص 43، وانظر: القيم بين الإِسلام والغرب. . . .، د. المانع ص 129 وما بعدها، وص 328 وما بعدها، وانظر: المذاهب الأخلاقية .. ، د. عادل العوا 2/ 131 - 205.

ثالثا: تحليل ونقد للنظريات الجديدة

فظهرت له أحزاب وظهر بنشاط فكري واسع، وقد تبنّى هذا الاتجاه الصورة الماركسية بحرفيتها، ومن ذلك هذه القسمة بين البناء الفوقي المعنوي والبناء المادي التحتي الاقتصادي في الأساس، وكل ما في البناء الفوقي من دين وثقافة وقيم وأخلاق وآداب وفنون هو من إنتاج البناء المادي التحتي، فصوروا الإِسلام بعقائده وشرائعه وقيمه وكل مكوناته بمنتج -ينتمي للبناء الفوقي- لعلاقات الإنتاج. ثالثًا: تحليل ونقد للنظريات الجديدة: [1] ماذا يمكن أن يقال عن علمية هذه المواقف؟ أقرب جواب أنها غير علمية، فالأصل في المواقف العلمية أن تكون متقاربة؛ فإذا كانت تدعي أنها طبيعية فإن الطبيعة تتفق أقوال العلماء حول مسائلها أو على الأقل تكون متقاربة بينما نجد تنافرًا بين هذه الأقوال وتناقضًا عجيبًا بل وحربًا يشنها بعضهم على بعض، وكل فريق يتهم الآخر بعدم العلمية. وهذا باب مهم في كشف زيف دعاواهم، ولكنه لا يكفي؛ لأنه إنما يكشف وجود مشكلة، ولكن قد يكون الحق مع بعضهم، وهنا تأتي الحاجة إلى معيار خارجي وأداةِ تحققٍ عليا تكشِفُ الحق من الباطل، ولاسيّما في هذه الميادين التي لا يستطيع العقل وحده أو العلم وحده أن يحكما فيها. ولن يكون إلا الدين الحق، فالرب سبحانه هو الذي خلق البشر، وهو الذي يعلم بما يصلح حالهم، فأنزل لهم من الشرع ما يصلح حالهم، وهو الحق الذي نحكم به على كل الأقوال والأفعال والتصورات. ومن تأمل فيما كتب في الأخلاق؛ يجد بميزان الحق أن فيه الحق والباطل، ويجد أن الصواب الذي فيها يأتي بتركيزهم على جانب مهم من حياة البشر، ولكنهم يغلون فيه ويهملون الجوانب الأخرى التي قد تكون أكثر أهمية؛ وذلك بسبب غياب الشمولية والتوازن التي لا ترى إلا بنور الوحي ولا تتحقق إلا في ظل الوحي؛ لأن البشر مهما وصلوا إليه من عقلانية وعلمية فهي تبقى بشرية محكومة ببشريتها وحدود إمكانيات منتجها، فمهما بلغت تبقى محكومة بهذه الحدود (¬1)، بل تسقط الإنسان في مرتبة بهيمية بعد أن كان الظن هو الارتقاء به، يقول طه عبد الرحمن: "ما أشد غفلة الإنسان حتى كأنه، على ظاهر تقدمه العلمي والتقني الهائل، إنسان ¬

_ (¬1) انظر: مبحث الشمول في الفصل الأول من الباب الثالث.

جهول! فهو يدعو إلى حقوق وحظوظ تخرجه من رتبة الإنسانية وتنزل به إلى درك البهيمية عندما يدعي العقلانية ويهمل الأخلاقية" (¬1)، ثم يقول بعد أن استعرض كثرة اضطرابهم في الأخلاق واختلافهم حول السبب: "فنقول بأن السبب في اضطراب المفاهيم الأخلاقية يرجع إلى كون الفلاسفة غلب عليهم الاشتغال بها من دون ردها إلى المجال الحقيقي الذي تنتسب إليه، بحيث بقيت، في تعاملهم معها، متزلزلة لا تثبت في معانيها، ومتأرجحة لا يستقر بها قرار، ومتذبذبة لا تقيم على حال. وليس هذا المجال المنسي الذي بدونه لا تسكن هذه المفاهيم ولا تثبت ولا تتمكن إلا مجال "الدينيات"؛ والدينيات الذي يجمع إلى عنصر "الإنسانيات" وعنصر "المعنويات" عنصرًا ثالثًا هو"الغيبيات"" (¬2). [2] قصور المواقف الطبيعية يقوم "في ردها للقيمة واختزالها إلى نشاط طبيعي يخضع لحتمية صارمة تختلف نوعيتها باختلاف المواقف البيولوجية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية. . . . تتفق مواقف الطبيعيين جميعًا على تحليل الفاعلية الإنسانية إلى عناصر بسيطة واختزالها إلى وحدة تجريبية يسهل إخضاعها لمقاييس المشاهدة والتجربة. وبذلك تتحول القيمة إلى مجرد واقعة علمية من بين وقائع أخرى تعينها الحتمية التي تشمل بنفوذها كل موضوعات العالم" (¬3). وتختلف مواقفهم باختلاف نوع الاختزال الذي يردون إليه الفاعلية الإنسانية: البيولوجي: يردون القيم إلى القوانين التي تحكم الكيان العضوي، وأهمها قانون التطور وملحقاته الذي جاءت به الدارونية. ¬

_ (¬1) سؤال الأخلاق .. ، د. طه عبد الرحمن ص 13. (¬2) سؤال الأخلاق .. ص 25. وقد جعل كتابه في السعي لتأسيس الأخلاق على الدين ونقض كل المقولات الفلسفية الغربية الحديثة حول الأخلاق المعلمنة، قائلًا: (وقد جعلنا من الجمع بين الأخلاق والدين أصل الأصول الذي بنينا عليه، في الكتاب الذي بين يديك، مساهمتنا النقدية للحداثة الغربية. . . . .) [ص 25 - 26]، مع علمه بما يثيره عند المقلدة للغرب من نفور، مع أنهم يجيزون لأنفسهم ما يحرمونه على غيرهم، فينتقدون الأخلاق الدينية بواسطة الحداثة الغربية ويمنعون نقد الحداثة الغربية بواسطة الأخلاق الإِسلامية ص 26. (¬3) نظرية نظرية القيم. . . .، قنصوه ص 182.

وهو قانون لا يفرق بين الإنسان وغيره من الكائنات الحية، ويخضع الإنسان -كونه من الطبيعة- لقانون الحتمية الصارمة، وهي بهذا تلغي دور الإنسان المكلف، كما أنها تلغي قيمة الدين وكل قيمة توجه الإنسان وكل غاية نبيلة. كما أن هذا التصور البيولوجي ينزع المسؤولية عن الإنسان ويضع زمامه في يد القانون الطبيعي (¬1). النفسي: قد يرتفعون قليلًا بالإنسان عن الموقف البيولوجي من مشاركته الحيوان ويردونه إلى "التكوين النفسي للفرد بما ركب فيه من عدد، قد يقل أو يزيد، من الغرائز والدوافع والميول، محكومة بحتمية نفسية لا مهرب منها"، حتمية داخلية، وهنا أيضًا تضيع المسؤولية والإلزام، فلا معيار إلا بما تحكم به الرغبة (¬2). الاجتماعي: المجتمع عند دوركايم هو أصل القيم ومصدر الإلزام بل إنه مصدر كل مقدس بما في ذلك الدين، وتطبيقًا لهذا فإن الفرد سواء حقق قيمة أو تمرد عليها يكون ممثلًا في الحالين لإرادة العقل الجمعي الذي يلزمه بهذا الإذعان أو ذاك العصيان، فكأن الأفراد لا يملكون من أمر أنفسهم شيئًا، ويصبح العقل الجمعي أو المجتمع مشجبًا تعلق عليه حلول كافة المشكلات، وتصل عند بريل لنتيجتها المنطقية "فينكر مشروعية بحث ما ينبغي"؛ لأن المجتمع هو الذي يتحكم (¬3). الاقتصادي: يختزلون -كغيرهم- الفاعلية القيمية إلى مجرد نشاط اقتصادي، فتدخل في نفس الإشكالية التبسيطية للفاعلية الإنسانية، كما أن حتميتها أضيق من حتمية العقل الاجتماعي، فتدخل في نفس المشكلات السابقة (¬4). [3] لا ينبع الاشتباه في المواقف العلموية من ذاك التعارض البارز فيها ¬

_ (¬1) انظر: نظرية القيم في الفكر المعاصر ص 182 - 183. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 184. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 185 - 187، وانظر: الأحكام التقويمية في الجمال والأخلاق، د. رمضان الصباغ ص 254 - 255. (¬4) انظر: نظرية القيم في الفكر المعاصر، قنصوه ص 189 - 190.

فقط؛ وإنما يزيد منه وجود تيار عريض وكبير يعارض هذه الاتجاهات العلموية في باب الأخلاق -كما في غيره- ومن هؤلاء مثلًا التيار العقلي والمثالي الواسع، يشتركون في إنكار أن تكون "التجربة بمعناها الضيق مصدرًا للمعرفة بالحقائق الثابتة والقيم المطلقة على السواء، أو وسيلة لإدراكها، بل العقل أو الحدْس أو الوعي هو أداة إدراكها واكتشافها. والقيم عندها ليست عارضة، لا تقبل شكًا أو جدلًا أو تحتمل تناقضًا، تكاد تشبه بديهيات الهندسة ومصادراتها" (¬1)، ويقف على رأس هؤلاء الفيلسوف الألماني "كانط" الذي يرى بأن الأخلاق معيارية (¬2) ولكنه يرى الدين تابعًا للأخلاق كما سبق. وفيهم من مثّل اتجاهًا روحيًا فلسفيًا مثل "لافيل" مدافعًا عن القيم التي يتهددها الخطر "وينعي لافيل على التجربة العلمية، أو ما يمكن أن يُسمى بالوضعية المنطقية، قصورها في وقوفها على السطح، وإنكارها للأعماق، وما يستعصي على التعبير، وما يسمو من الأمور، فقد نشأت هذه النظرة عن سوء فهم لحدود المنهج العلمي من جهة، وعن روح الاستهتار العام التي قضت على جدية الحياة من جهة أخرى. وهذا الاستهتار لا يتخذ مكانه في المجال العقلي بل في مجال الأخلاق والدين؛ أي: في مجال القيم" (¬3). ومع ذلك فهذا المجال لم يكن أحسن حالًا من سابقه، فمدارسه أكثر ونظرياته أشد في التعارض، فما أحيل على العقل لوحده فباب التنوع فيه أكثر، وهي إن دلت على شيء فإنما تدل على حاجة الناس لمخرج من هذه الفوضى، وهي تؤكد من جديد أهمية عودة هذا المسار المهم للدين. [4] لا يخلو بحث في ميدان الأخلاق من ذكر ثلاثة مواقف في الفكر المعاصر كان لها أثرها الخطير على مبحث الأخلاق، اثنان منها على صلة ¬

_ (¬1) نظرية القيم في الفكر المعاصر، قنصوه ص 104، عن الطويل، الفلسفة الخلقية ص 125 - 126. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 105 - 107. (¬3) المرجع السابق ص 123 - 124، وأصحاب هذه النزعة مجموعة من المفكرين الفرنسيين لهم ميول كاثوليكية تأثر بها بعض العرب، انظر: النظرية العامة للقيمة .. ، د. أحمد عطية ص 331 - 335، وحول "لافيل" و"لوسين" من هذه المدرسة انظر: العمدة في فلسفة القيمة، د. عادل العوا ص 231 وما بعدها.

بالدعاوى العلمية والثالث يريد الإفلات من طغيان العقلانية والعلمية، وهذه الثلاثة هي "النفعية" وامتدادها المعاصر في "البراجماتية"، و"النتشوية"، و"الوجودية". وغاية الوقفة مع هذه الثلاثة التأكيد على هذه الفوضى التي تعم ميدان علم الأخلاق رغم الأزمة الخلقية التي يمر بها العالم، وهي مؤشر صريح عن أهمية البحث عن مخرج، ولن يكون في التصور الإِسلامي إلا بإعادة الأخلاق إلى الدين. مذهب "المنفعة" الحديثة ترجع إلى "ميل" و"بنتام"، حيث ربطت الأخلاق بالمنفعة أو اللذة، ثم جاء تطور لها مع "البراجماتية" وفلاسفتها: "وليم جيمس" و"بيرس" و"ديوي" وغيرهم، حيث ربطت الأخلاق بجدواها العملية (¬1)، ويدّعي هذا المذهب العلمية بعد أن تحرر من القضايا الغيبية والمُثُل وركز على أمور يمكن للعلم أن يتعرف عليها، وتقوم دعواه على تحويل القضايا الأخلاقية إلى مسائل محسوسة. أما "النتشوية" فهو المنسوب لنيتشه، وهو موقف بارز وربما الأشهر في تاريخ الأخلاق المعاصرة، وهو يعتبر من جهة: امتدادًا للتيارات العلموية المدعية البحث العلمي في الأخلاق (¬2)، ومن جهة أخرى: فله تأثيره على الكثير من الاتجاهات السياسية والفكرية، يقوم مذهبه على "رفض الأخلاق قائلًا باللاأخلاق أخلاقًا، كاسرًا لائحة القيم التقليدية، مبشرًا بأخلاق السيد السوبرمان" (¬3)، وجعل مصدرها إرادة القوة، وهي من صنع الإنسان يخلعها على الأشياء، والحياة إنما هي إرادة التسلط والاستيلاء والتملك، وعنها تنشأ القيمة. وتبرز الأخلاق أثناء الصراع بين السادة والعبيد، الأقوياء والضعفاء، للسادة أخلاق، هي أخلاق القوة، وهي الأخلاق الحقيقية، وهي التي يعترف بها "نيتشه"، ولكن الإنسان لا يصل إليها ما لم يحطم الأصنام التي تقيده، وهي أصنام الفلسفة والأخلاق والدين (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: الموسوعة الفلسفية العربية ص 43، وانظر: القيم بين الإِسلام والغرب. . . . ص 133 - 139، وانظر: نظرية القيم، قنصوه ص 130 - 149، وانظر بتوسع: المذاهب الأخلاقية .. ، د. العوا 2/ 5 - 78، و 603 وما بعدها. (¬2) انظر: قضايا في الفكر المعاصر ص 47. (¬3) الموسوعة الفلسفية العربية ص 43. (¬4) انظر: نظرية القيم. . . .، قنصوه ص 155.

وقد ارتبط موقفه الأخلاقي بمذهبه الإلحادي الصارخ، الذي صدم به الوعي الغربي، وهو وعي يعاني من فقد الدين، ولكنه لم يعلن هذا الإعلان الذي أعلنه نيتشه عندما قال بأن الإله قد مات، متبجحًا بأننا "حين ننكر وجود الله، وننكر مسؤوليته، إنما ننقذ العالم ونطلق القوة الإبداعية الهائلة الكامنة في أعماق إرادة الإنسان التي عاقتها المذلة والهوان أمام قدرة إلهية مدعاة" (¬1). يعترف الاتجاه "الوجودي" بالأزمة التي تتحقق من أفكار نيتشه ولاسيّما في جانبها الإلحادي، مع مشاركة أغلب الوجوديين رأيه الإلحادي، فهم يشعرون بالفراغ الذي يحدثه الإلحاد على عكس دعوى نيتشه أنه يطلق قوى الإنسان؛ ولهذا يبرز في فكرهم الموت والقرف والغثيان والقذارة والتشاؤم والقلق والحيرة وغيرها، وينطلق موقفهم القيمي من هذا التيه، فالإنسان موجود في هذا العالم وجودًا ذاتيًا حرًا لا علاقة له بشيء، وعليه أن يعيش حريته، يلحق بهذا الوقت الممنوح له، ولهذا يصعب تقبلهم للقيم والأخلاق؛ لأن معنى ذلك تقليص حريته، وهذا ما ذهب إليه عبد الرحمن بدوي (¬2)، وهذا الإعلان النيتشوي والوجودي عن الإلحاد ربما كان مضمرًا في الفكر الغربي من أيام فكر التنوير العلماني القائم على إبعاد الدين عن الحياة، فجاءت النتيجة المنطقية لهذا الإبعاد في مواقف "نيتشه"؛ فحقيقة الدين هي الإيمان بالله، فإذا كانت الحياة قائمة على العلمنة؛ فما عاد هناك مكان للدين، ومن ثم لم يعد هناك مكان للإيمان بالإله، فليس له وجود في حياتهم، فكان إعلان "نيتشه" وبقية الملحدين في الغرب نتيجة واضحة لواقع الفكر والحياة العلمانية، ويُنقل عن "سارتر" ترديده لمقولة نيتشه: "لقد مات الله. . . . حاول هيجل أن يستبدل به مذهبًا، غير أن المذهب قد انهار، كما حاول كونت أن يستعيض عنه بدين الإنسانية، ولكن الوضعية قد تهاوت. . . . لقد مات الله، بيد أن الإنسان لم يصبح ملحدًا، فصمْتُ الوجود قد اقترن دومًا بالحاجة إلى الدين في نفس الإنسان الحديث". ويشارك سارتر بأن هذا الرأي يكشف عن غيبة كل عون يبرر للإنسان أفعاله، ويقدم له النصح والهداية، ¬

_ (¬1) المرجع السابق ص 158، وانظر حوله أيضًا: المذاهب الأخلاقية .. ، د. العوا 2/ 294 وما بعدها، وقد حظي "نيتشه" باهتمام من قبل المتغربين بداية بالدارونيين مثل: "سلامة موسى" وغيره، ثم ظهرت المؤلفات حوله مع ترجمة كتبه. (¬2) انظر: المرجع السابق، قنصوه ص 151 - 153.

ويعترف بأن ما ورد على لسان أحد أبطال ديستوفسكي من عبارة قائلة بأن "الله إذا لم يكن موجودًا، فكل شيء مباح"، هي نقطة البداية بالنسبة للوجودية، ومن ثم يجد نفسه مهجورًا. . . . ليس في وسعه أن يلتمس شيئًا يعتمد عليه داخل نفسه أو خارجها، وإذا غاب الإله فعلى الإنسان أن يتولى أعماله، فيصنع وجوده ويخلق قيمه (¬1). [5] اتساع في التقدم العلمي يعمق من المشكلات الأخلاقية: تشترك أغلب المواقف في الهروب من الدين كمصدر للأخلاق والقيم، ووصلت ذروتها مع الملحدين في إنكار وجود الرب سبحانه، فأصبحت الأخلاق دون مرجع ودون مصدر ودون حافظ، تسبح في بحر متلاطم، تتقاذفها أهواء المدارس الفكرية المختلفة، كل يقودها إلى هواه، فنشأت بذلك مشكلة أخلاقية حقيقية تعصف بالمجتمعات المعاصرة، وقد ظنت طائفة أن الحل يكون في تحويل مبحث الأخلاق إلى ميدان العلوم، فتتقدم كما تقدمت العلوم الطبيعية، ومع ذلك استعصت على العلوم؛ لأنهم تجاهلوا الفرق بين المادة وبين الإنسان فأرادوا تطبيق ما يصلح على المادة على الإنسان، وغفلوا عن حقيقة ما يصلح للإنسان ويصلحه ألا وهو الدين الحق. وقد ازداد الاختناق في باب الأخلاق مع تقدم العلوم؛ حيث برزت مكتشفات جديدة تفتح الباب على الأخلاق بعد أن تناساها التقدم العلمي، التقدم الصناعي وما أعقبه من مشكلات في إنهاك الأرض وتلوث البيئة وتهديد حياة الإنسان واستغلال الضعفاء، التقدم في علوم الوراثة والجينات وأبوابها وما فتحته من مشكلات. ويغلب على مسار العلوم عواقب إشكالية في مجال الأخلاق، إذ يأتي السؤال عادة بعد كثير من الاكتشافات الجديدة في مجال العلم: هل يصح هذا أم لا؟ هل تطبيقه أخلاقي أم لا؟ هل يجوز أم لا؟ ومعلوم أن هذه الأسئلة لا تجد جوابها الحقيقي إلا في الدين، ولكن الدين هو ما تفر منه الحضارة العلمانية، وعلى سبيل المثال يبحث باحث غربي معاصر في أخلاقيات العلم، وعند رجوعه لأصولها في الفكر الغربي يجدها إما ترجع للدين "الأمر الإلهي" التي ترسي خلقها العام على أساس أوامر الله، ورغم فوائدها عند المؤلف إلا أنه يقول: "ولكن لن أعتمد تمامًا عليها في تحليلي لأخلاقيات العلم، ما دمت أحاول تطوير التفسير ¬

_ (¬1) نظرية القيم. . . .، قنصوه ص 158 - 159.

الدنيوي للأخلاقيات"، فيتركها ويذهب للنظريات الباقية التي ترسي أساسًا دنيويًا للأخلاقيات (¬1). ومع ذلك فقد تلجئهم مشكلات التقدم العلمي ومشكلات الإنسان المعاصرة للعودة إلى الأخلاق ومن ثم العودة للدين. [6] للأسف يغيب في كثير من الكتابات العربية الحسّ النقدي الإِسلامي للفكر الأخلاقي الغربي، ويغلب على الكتابات الفكرية الانهماك في تبني مدرسة من تلك المدارس أو التجميع والتركيب منها، بما فيها -أحيانًا- كتابات إسلامية اكتفت بإفراغ القالب وملئه بمحتوى إسلامي دون الشعور بخطورة القالب، حيث تجد النسق المشهور: المسؤولية، والإلزام، والواجب، والضمير، والحرية، والحس الأخلاقي المشترك، وأصل الأخلاق، وغيرها. وهذه المشكلة تُتعب الباحث الإِسلامي الذي يريد مادة علمية مفيدة يستعين بها في مناقشة مثل هذه الانحرافات، ومع ذلك لن نعدم دراسات جادة بحجم ما كتبه المفكر طه عبد الرحمن في هذا المجال، ولاسيّما في كتابه: "سؤال الأخلاق: مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية" ومنه استفدت عناصر مهمة في هذا المجال. تقوم العقلانية العلمية الحداثية على مصالح ومفاسد، وقد يتشبث المتغرب بها كاملة، يدافع عن أخذها بحلوها ومرها، دون الانتباه لمخاطر مفاسدها على الهوية عمومًا وعلى الأخلاق خصوصًا، وقد تتبع الدكتور طه عبد الرحمن تلك الآفات والمفاسد التي ارتبطت بهذه الحضارة العقلية العلمية وأثرها على الأخلاق، وتلقي بظلالها على المتغربين في الوقت نفسه، ومن ذلك ثلاث آفات خطيرة: آفة التضييق، وآفة التجميد، وآفة التنقيص (¬2). فآفة التضييق تسببت في إخراج الأخلاق من العلم، لضيق مفهوم العلم عندهم؛ لاكتفائه بالجانب المحسوس فقط، وما استبقي منها في العلم أشياء قليلة تقبل مقاييس العلم، فهم لا يقبلون الخبر الديني كدليل ومصدر للمعرفة (¬3). وآفة التجميد قصرت الأخلاق على الفرد دون المجتمع، فهي تناسب الفرد دون أن تناسب المجتمع، ولذا تُترك كخيار فردي ولا يلزم بها المجتمع. ¬

_ (¬1) انظر: أخلاقيات العلم، ديفيد ص 39 - 43، ترجمة د. عبد النور عبد المنعم. (¬2) انظر: سؤال الأخلاق. . . . ص 78 - 80. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 119 إضافة للصفحات السابقة.

وآفة التنقيص بادعاء أنها تخدم الضعف والخنوع والسلبية، لهذا نبذها الناس؛ لأنه لا أحد يحب أن يكون بهذه الحال. ولكن البديل العلمي للأخلاق الذي تقترحه التيارات العلموية يحوي مشكلات من منظور الفكر الإِسلامي، فقد وجد المفكر السابق أن مقصد العلمية الذي يرفعونه هو رفض الأخلاق الدينية، وذلك أن الأخلاق الدينية تستند إلى "خَلْق هو الفطرة" وإلى "خُلُق هو الخلق الديني"، بينما العلمانية تريد تغيير الخَلْق وتغيير الخُلُق: أولًا: فهي تسعى إلى إسقاط الأصول الأخلاقية الدينية التي هي "جملة المعايير والقيم الرئيسة التي تتولد منها باقي المعايير والقيم السلوكية. ." لكي تُقيم مكانها أصولًا اصطناعية لأخلاقها الجديدة؛ أي: أن تقوم مقام ما يسميه الدين بـ"معاني الفطرة الإنسانية"، فهي تطلب في نهاية المطاف تغيير هذه الفطرة التي خُلق عليها الإنسان. ثانيًا: كما أنها تسعى لمحو "السلوك الأخلاقي الذي وَرِثه الإنسان عن الدين وأن تستبدل مكانه سلوكًا جديدًا يتصف بالوصفين التاليين: أحدهما: أنه علمي، إذ يتفرع من المعرفة بالأسباب المادية التي تحدد الطبيعة الإنسانية، بيولوجية كانت أو اجتماعية أو نفسانية. والثاني: أنه علماني، إذ يقطع الصلة بكل القيم التي تولّدها مقتضيات التقدم العلمي - التقني" (¬1). كانت النتيجة رفض الأخلاق الدينية، ولكن البديل المقترح لم ينفع، فظهرت آثارٌ سلبية انعكست على العلم والتقنية مفخرة الحضارة الحديثة، "الأمر الذي دعا بعض الفلاسفة الأخلاقيين إلى التفكير في وسائل تصحيح المسار الذي يفضي بالإنسانية إلى المفاسد، بل يلقي بها إلى المهالك، إن عاجلًا أو آجلًا، وكان من ثمرة هذا ظهور بعض النظريات الأخلاقية الجديدة" (¬2). وقد تتبع المفكر طه عبد الرحمن آفات هذه الأخلاقيات الجديدة ولخصها في اثنتين: ¬

_ (¬1) سؤال الأخلاق ص 122 بشيء من الاختصار. (¬2) المرجع السابق ص 123.

رابعا: نماذج من الأخلاقيات المتغربة تحت غطاء العلمية

الأولى: دعوتها للاتصاف بخلق التعقل، مع أن هذه العقلانية هي نفسها التي بثّت دعوى السيطرة على الكون وقهره، فكيف نعالج آفة التعقل بأداته ذاتها. والثانية: حقيقتها التنكر لأخلاق الدين مع أنها تريد الحد من آثار دعوة السيطرة على الكون وقهره، فهذه الإرادة لا يُحَدُّ انفلاتها إلا عندما تكون بمثابة المسُود أو المقهور، ولا يكون ذلك إلا بوجود سيد قاهر فوقها، ولا يخلو هذا السيد إما أن يكون النظام العلمي التقني أو يكون غيره، ومحال أن يكون هو النظام؛ وإلا لدفع عن نفسه المخاطر والأهوال التي ترتسم في أفقه، عندها يلزم أن يكون السيد غير هذا النظام، وليس إلا من له مقاليد السماوات والأرض، ولكنهم يتنكرون له. ولهذا يكون الحل الحقيقي هو ما يطرحه التصور الإِسلامي القائم على: أن يكون التعقل الحقيقي بالاشتغال بطاعة أحكام سيد الكون، فتندفع عن الإنسان فكرة السلطة على الكون وقهره. وإذا كان التنكر هو بتناسي الأصول الدينية للأخلاق؛ فلابد من مواجهته بترك الوعي المجرد المرتبط بالعلم والتقنية إلى مجال الاعتبار الذي يدرك في كل سبب مقصده ويعقل في كل حادث معناه ويرى في كل حكم حكمته، فيكون المعتبِر هو من يرى الظواهر على أنها آيات، وينسب السيادة على الكون إلى صاحب هذه الآيات (¬1). رابعًا: نماذج من الأخلاقيات المتغربة تحت غطاء العلمية: النموذج الأول: هناك مواقف فكرية عربية تهتم بدراسة الأخلاق بعيدًا عن الدين، كما نجد في المدخل الذي قدمه عادل العوا في "موسوعة الفلسفة العربية" "ولكن دراسة الأخلاق تريد الإفلات، وقد أفلتت، من ربقة الأسطورية، والغيبية، وحتى الميتافيزيقا، وهي تكتفي بالانطلاق من أن كل إنسان اجتماعي سالك بلا ريب سلوكًا يهدف إلى غاية، وأن دراسة الأخلاق من النوع "اليقيني" أو من النمط الثابت علميًا، على الأقل، إن لم نقل من النوع العقلي الفلسفي المرتكز على ¬

_ (¬1) انظر: سؤال الأخلاق ص 131 - 133.

معطيات العلم من جهة، والمشرئب إلى قيم يتوخى تحقيقها. . . ." (¬1)، فهذا المفكر الأخلاقي العربي البارز في هذا الميدان يعطي عبارة ملتبسة سالكًا مسلك الوضعيين، الذين يرون بمرور الإنسانية بمراحل، بدأت بالأسطورة ثم تطورت نحو الدين والغيب ثم تطورت وارتقت نحو الميتافيزيقا لتصل في مرحلتها الأخيرة عصر العلم الذي قد يُعدّ الأرقى، ولا يفرق هؤلاء بين تقدم دنيوي يسير للأمام وبين تخلف أخلاقي يهبط للحضيض، وهنا نجد هذا المفكر يرمي بالأخلاق في ساحة هؤلاء على أنهم يؤسسونها على العقل الفلسفي والعلمي دون أي ذكر للدين، وهو يقول في صفحة لاحقة في سياق كلامه عن فقرة من موضوعات الأخلاق: "وأن ذلك كله يتبع النظرة على مصدر الأخلاق، وقد كان هذا المصدر أسطوريَّ الصبغة في سالف العصور، ثم تطورت الثقافة الإنسانية وظهر الشعور الديني مصحوبًا بالاهتمام الأخلاقي"، وذكر ضمن هذا الشعور: الأخلاق في اليهودية والأخلاق في النصرانية ثم في الإِسلام، ثم خرج منها إلى الأخلاق في الفكر الغربي الحديث (¬2)، ويبرز -في هذا المنظور- التصور العلماني القائم على فرضيات فلسفية وعلمية مع البعد عن القول الحق الذي أتى به الدين، ورغم الجهد الكبير الذي قام به العوا في إثراء المكتبة العربية في مجال القيم إلا أنه ما زال منغمسًا في تيارات الفكر الغربية دون انفصال عنها. وعندما يذكرون الرؤية الدينية فهم يذكرونها كحلقة قديمة في سلسلة التطور الأخلاقي، ويُخلط فيها الدين الحق بغيره، وعادة ما يعرض الموقف الإِسلامي ضمن الموقف اللاهوتي، ومن ذلك مثلا دراسة د. الصباغ عن القيمة، إذ يعرض ما يسميه النظرية اللاهوتية حول القيمة الخلقية التي تجعل الأخلاق "منضوية تحت لواء الدين، ومعيارها خارج الذات الإنسانية، فهو محدد فحسب بما يريده الله منا أن نفعله، مستحسنًا منا هذا الفعل وآمرًا لنا به" (¬3)، ولا شك أن هذا يعد جزءًا من التصور الديني، وهو جزء من التصور الإِسلامي حول القيم الخلقية، وإن كان ما عرضه مرتبطًا بالتيارات الغربية، وكأنه لا يعرف الموقف ¬

_ (¬1) الموسوعة الفلسفية العربية ص 37. (¬2) انظر: الموسوعة الفلسفية العربية ص 40 - 41 وما بين القوسين ص 40، وقد عرضها في كتابه: العمدة في فلسفة القيم، تحت عنوان النهج الديني ص 533 - 537. (¬3) انظر: الأحكام التقويمية في الجمال والأخلاق، د. رمضان الصباغ ص 239.

الديني إلا من خلال المنظور الغربي، ثم هو بعد ذلك لم يتحمس للموقف الديني. قد يستسهل البعض تصور وجود قضايا مختلفة بعيدة عن الدين، ولكن يصعب تصور مباحث الأخلاق بعيدة عن الدين، والحقيقة أنه بعد تأثر طائفة من المسلمين بالغرب العلماني الذي ينزع مسائل مهمة من المجال الديني ويدرسها بعيدة عنه، ومن ذلك علم الأخلاق، وقد بدأت هذه الطائفة النظر لعلم الأخلاق من هذا المنظور الغربي في أثناء فتح أقسام للفلسفة حيث كان من مباحثها الأخلاق، وقد شارك في تدريسها بعض من طرحها في إطارها الغربي، ثم جاءت ترجمة كتاب أرسطو "علم الأخلاق إلى نيقوماخوس" لأحمد لطفي السيد بمقدمة طويلة، وكتاب إسماعيل مظهر المتأثر بالدارونية فترة من حياته "فلسفة اللذة والألم" (¬1)، ثم انفتح الباب للدراسات الأخلاقية، إما بالنظر إليها من منظور إسلامي، أو من منظور توفيقي، أو من منظور تغريبي. ولكن قد لا ينتبه هؤلاء لهذا البعد التغريبي العلماني في الدراسات الأخلاقية، فهم يتصورونه علميًا وكأنه يتحدث عن أمور مادية وليس عن أمور معنوية ذات صلة أساسية بالدين، ولذا يعترِض الكاتب السابق على من لم يفرق بين الأخلاق وعلم الأخلاق، فالأخلاق كما يرى تختلف من أمة لأخرى ومن دين لدين بينما علم الأخلاق يقدم النظريات العلمية التي تفسر السلوك والمبادئ الأخلاقية بصرف النظر عن الفضائل الأخلاقية لأمة من الأمم (¬2)، فإن هذا المزعم هو حيلة لإقصاء الدين من مجال مهم من مجالاته، وفيه نوع من الابتعاد عن الإِسلام بحجة العلمية، وذلك تابع للمنظور الضيق الذي وُضِع للإسلام من قبل المتغربين تبعًا للفهم العلماني الغربي عن الدين الذي ملأ الكتابات الفلسفية والفكرية. تبرز مشكلة لزحزحتها من الدينية إلى العلمية المزعومة؛ لأن العلمية في العصر الحديث متلبسة بالعلمانية، وهي ذات رؤية خطيرة تؤطر النشاط البشري، وكما يتضح في مبحث العلمانية تأتي مشكلتها من الدنيوية التي تهمل من خلالها ¬

_ (¬1) النظرية العامة للقيمة: دراسة للقيم في الفكر المعاصر، د. أحمد عطية ص 299 - 300. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 344.

النموذج الثاني: من علم النفس

ركنين مهمين في الدين: الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر، وهما -مع غيرهما من الأصول الدينية- الشرط الضروري للباب الأخلاقي، ودونهما فكل دعاوى العلمية هي دعوى زائفة، أو تكون وصفية باردة لا تغير شيئًا؛ لأنه قد استُبعد منها الواجب والمحرم الديني، وما يرتبط بهما من ثواب وعقاب دنيوي وأخروي، فهذه من الأمور التي تضعف من علمية الأخلاق عند المتأثرين بعلمنة الأخلاق. النموذج الثاني: من علم النفس: نذهب لدراسة حديثة ذات نزعة فرويدية مغالية في "فرويد" (¬1)، فلقد اتبعه في الأخلاق كما اتبعه فيما هو أكبر من ذلك وهو الدين، وأصل نظرية فرويد -بحسب الكاتب عباس- وأساسها يعود إلى ما أسماه بـ"عقدة أوديب" التي ينبع منها بحسب زعمه الأخلاق والدين والثقافة والحضارة، ففي عنوان داخلي نجد "مشروع فرويد: تأسيس حركة تحرر أخلاقي" (¬2)، إذ يجعل دعوة فرويد حركة تحرر إيجابية، وكما يقول: "ينتقد فرويد الحضارة والدين: فهو يرى أن الحضارة حرمت التعبير عن الحياة الجنسية بهدف الاستفادة من طاقة الميول الجنسية المقموعة. كما يرى بأن الدين، ومعتقداته، ومحرماته، ليس إلا وهمًا، تولد عن قلق الإنسان" (¬3)، وبهذا يكون دور التحليل النفسي تحرير الإنسان من هذا الكبت المسبب لتأزمه وقلقه، وبحسب المؤلف "كان فرويد يعتقد أن مهمته الأساسية تأسيس حركة عالمية للتقويم الأخلاقي والعقلي للإنسان. ." بدعوى "تحقيق أخلاقية علمية جديدة" لاسيّما حول مسألة كبت الحاجات الجنسية التي تؤدي إلى مرض العصاب (¬4)، وربما يدخل هذا في رغبة لاشعورية لفرويد كشف عنها ¬

_ (¬1) الإنسان المعاصر في التحليل النفسي الفرويدي، د. فيصل عباس، ويأتي بدرجة أقل في التحمس بحث علمي: (الأخلاق عند فرويد لمحمد العجيلي وتقديم عادل العوا)، يغلب عليه الوصف دون حسّ نقدي، ورغم عدم تعصبه كما هو مع عباس إلا أنه أخرجها كنموذج أخلاقي مميز ومتماسك، ولم يظهر منه أي نقد حقيقي أو موقف واضح من الدمار الذي ألحقه "فرويد" بجانب الأخلاق تحت مسمى العلمية، بخلاف مقدمه الذي ألمح لبعض الثغرات الفرويدية في تقديمه للكتاب [ص 11 - 12 من التقديم]. (¬2) المرجع السابق ص 95. (¬3) المرجع السابق ص 97. (¬4) انظر: المرجع السابق ص 98 - 99.

النموذج الثالث: الموقف الوضعي

أحد الفرويديين الغربيين في تأسيس دين فلسفي علمي جديد (¬1). النموذج الثالث: الموقف الوضعي: من الدلالات التي يحملها مفهوم "الوضعية" أنها العلمية، وهي فلسفة ارتبطت بالعلم الحديث، ولها دعاوى كثيرة عن علميتها، ومن ذلك تعظيمها للعلم وانطلاقها منه وجعلها العلم مقياسًا لما يقبل أو يرفض، وقد جعلت الأخلاق والقيم واحدة من تلك المرفوضات بحجة عدم علميتها، فالعبارات الأخلاقية كلمات فارغة من المعنى، فلا تكون علمية. وقد وجدت "الوضعية" في الفكر العربي من تحمس لها، في صورتها البارزة في القرن "14 هـ/ 20 م" كـ"الوضعية المنطقية" و"فلسفة التحليل" وهم من ورثاء الاتجاه التجريبي الحسي والوضعي، ومن بين من تأثر بها المفكر "زكي نجيب محمود"، فأخرج كتابًا عنها يحمل دلالاته بعنوان "نحو فلسفة علمية" ليؤكد علمية الاتجاه الذي سلكه. ومع أن لهذا المفكر تحولات في مساره الفكري أرّخها في سيرته "قصة عقل" و"قصة نفس"، وأشهرها تلك التي أعلنها في كتابه: "تجديد الفكر العربي" بأنه واحد من ألوف المثقفين العرب الذين فُتحت عيونهم على فكر أوروبي -حتى سبقت إلى خواطرهم بأنه الفكر الذي لا فكر سواه- ثم أصابته صحوة قلقة جعلته يعود للتراث ويزدرد منه بسرعة وينظر لمشكلة الفكر العربي من منظور جديد (¬2). ومع ذلك فقد بقيت الوضعية بآثارها ترسم له الطريق، والجديد في موقفه هو تخفيف لغة الغلو الوضعي الذي عُرف به بعد تبنيه الوضعية، وجهده في رفع لواء التوفيق بينها وبين التراث، وهذا التوفيق اضطره لإجراء تحويلات في بعض أفكاره، وإلا فآثار الوضعية عميقة وبارزة في التصور والمنهج حتى في كتبه الأخيرة، وهي بارزة في موضوع الأخلاق والقيم. نجد في دراسة حديثة عن فكره -ومتعاطفة مع هذا المفكر- تتبعها لموقفه من الأخلاق، وتذكر أن له تصورًا قديمًا للأخلاق ارتبط بالنموذج العقلي العلمي الغربي، وفيه يؤكد نسبية الأخلاق، ونفيها من مجال العلم، مع نقده الشديد ¬

_ (¬1) انظر: الإنسان المعاصر في التحليل النفسي الفرويدي ص 102. (¬2) انظر: مقدمة كتابه: تجديد الفكر العربي ص 5 - 6.

لنموذج الأخلاق الذي يعتمد على سلطة خارجية، والذي يجعلنا عبيدًا لأخلاق تنبع من سلطة خارجة عن أنفسنا (¬1). ثم تأتي الدراسة إلى مرحلة التحول وفيها "أنه قد عاد في كتابته الأخيرة، في مرحلة الأصالة والمعاصرة، وتراجع بعض الشيء عن هذا الموقف، وكانت العلة وراء هذا التغير هو ظهور عامل الوجدان والدين والثقافة كعوامل مؤثرة في رؤيته الحضارية، إلى جانب عامل العلم. فرأى أن هناك قيمًا نسبية يجب تغيرها دائمًا وفق تغير الحياة، وهناك بجانبها قيم أخرى ثابتة" (¬2)، وهي لفتة مهمة في البحث السابق حول محدودية التغير. إلا أن أحد المهتمين بالدراسات الأخلاقية يؤكد عدم وجود تغير في فكر زكي نجيب، وأنه ظل مفكرًا وضعيًا على مستوى المنهج (¬3). نبحث الآن عن موقفه من الأخلاق تحت تأثير العلمية المدّعاة، وننظر لحقيقتها قبل التحول وبعده، فقبل التحول نجد فقرة ختامية في كتابه: "نحو فلسفة علمية" بعنوان "نسبية الأخلاق"، فكما أن النظريات العلمية الحديثة تقول بالنسبية في مجال الطبيعة فكذا الأمر في عالم القيم الجمالية والأخلاق، "وكشف التحليل المنطقي للأحكام الدالة على قِيَم أنها ليست من المعرفة إطلاقًا، فضلًا عن أن توصف بما يوصف به أدق أنواع المعرفة من اليقين" (¬4)، وفي كتاب آخر يقول عنه: "الغاية الرئيسية من هذا الكتاب هي بيان أن العبارات الميتافيزيقية خلو من المعنى، مع تحديد "الميتافيزيقا" بأنها البحث في أشياء لا تقع تحت الحس، لا فعلًا ولا إمكانًا؛ لأنها أشياء بحكم تعريفها لا يمكن أن تُدرك بحاسة من الحواس"، ومثّل على ذلك بالخير والجمال فقال: "فإننا نرى العبارات التي تتحدث عن هاتين القيمتين في الأشياء -قيمة الخير وقيمة الجمال- خالية من المعنى، ولا تصلح أن تكون علمًا ولا جزءًا من علم" (¬5). يضيق معيار الحس الأساسي في العلوم الطبيعية عندما يتجاوز الطبيعة إلى ¬

_ (¬1) انظر: الفكر الديني عند زكي نجيب محمود، د. منى أبو زيد ص 217 - 218. (¬2) المرجع السابق ص 220 - 221، وتغميق النص من الباحث. (¬3) انظر: النظرية العامة للقيمة: دراسة للقيم في الفكر المعاصر، د. أحمد عطية ص 345 - 346. (¬4) انظر: نحو فلسفة علمية، د. زكي محمود ص 359. (¬5) موقف من الميتافيزيقا، د. زكي محمود ص 110.

المجالات الدينية أو العقلية، فكل ما لا يُحسّ من العبارات يُعدّ خاليًا من المعنى، فمعيار علمية العبارة هو الإحساس بها، وإلا فهي غير علمية؛ أي: خالية من المعنى، ومع صراحته في الحسية فهو يرفض أي مصدر غير الحس بما في ذلك الدين، إما بالسكوت أو بإهمال الكلام عنه، هناك امتناع عن الذهاب للدين كمصدر يضفي المعنى والقيمة والقبول لتلك العبارات. وهذا الطريق يغلب على المتأثرين بالوضعية عمومًا، حيث ربطت العلمية بالحسية وجعلت مقياس العبارات العلمية هو الحسية، وذلك بسبب ما رأوه من نجاح المنهج التجريبي الحسي وقيام نهضة علمية مادية حسية عليه، فعمم ذلك حتى على غير الماديات. وليست المسألة في صواب استدلالاته اللاحقة، فهي قد تصح لمن سلّم له بأصل منطلقه القائم على عدم وجود مصدر غير الحس لمعرفة المعاني وصحتها ونفعها، ولذا فالأصل إيقافه في أول الطريق قبل أن يُركبنا معه قطاره ويسير بنا في سكة ذات مسار واحد لا تسمح إلا بقطار واحد، فنقف أول الطريق ونبين أن القيم والأخلاق تجد ما يرفعها من مجال الانطباعات الذاتية والأحكام النسبية بواسطة مصدر آخر غير الحس، وهو عندنا الوحي. من بين ما يقدمه من استدلالات لإثبات دعواه: تمييزه بين عملين للغة، أحدهما تعبيري منصرف إلى إخراج ما يشعر به القائل داخل نفسه، كشعور ذاتي خاص به، والثاني تصويري يصف شيئًا خارج ذات القائل، فالمعيار في الثاني الحس وتكون بذلك علمية إن صدقها الحس، بخلاف الأولى التي لا مقياس لها، وهو يرى تبعًا لطائفة من الأخلاقيين أن العبارات الأخلاقية هي من النوع الأول، ولذا فهي ليست مما يصلح للمجال العلمي (¬1)، فهذا الاستدلال إنما يستقيم مع من يسلم له بعدم وجود مصدر آخر للمعرفة، أعلى وأوثق وهو الوحي، على أن هؤلاء لا يعترفون حتى باستدلالات العقل الصحيحة ما لم يصدقها الحس، وهم حتى في جانب الاستدلالات الفلسفية لاسيّما في مجال معيارهم المشهور معيار القابلية للتصديق قد تلقوا نقدًا من مدارس فلسفية تهتم بفلسفة العلم كاهتمام الوضعيين، فلم يتقبلوا هذا المعيار الذي أتت به المنطقية، وبيّنوا حتى في دائرة البحث المنهجي: حدوده وأهمية ¬

_ (¬1) انظر: موقف من الميتافيزيقا ص 112 - 114.

إجراء تعديلات منهجية عليه (¬1). ولكن هل وقع تغيّر لمفكر الوضعية؟ ربما حدث تغير، ولكنه بحسب الدراسة السابقة قد "تراجع بعض الشيء"، ومن ذلك الدور الذي يعطيه "زكي" في هذه المرحلة للتراث والدين والحضارة الإِسلامية، ومن بين الكتابات التي جاءت في هذه المرحلة وربما هو أشهرها للمؤلف كتابه: "تجديد الفكر العربي"، ونجد فيه: ". . من غير المقبول عندنا، أن يقال: إن الأخلاق مدارها -في نهاية الأمر- منفعة تعود على الناس؛ لأننا نرى أن الفضيلة هي جزاء نفسها، أرادها لنا الله، وعقلناها، فالفعل عندنا يُعد فاضلًا في ذاته بغض النظر عن نتائجه؛ أي: ضارة بصاحب الفعل أم نافعة له، وبعبارة أخرى، فإننا نقيم الأخلاق على أساس الفائدة،. . . ." (¬2)، ويقول في موضع آخر من هذا الكتاب: "وفرّعنا (¬3) كذلك نظرة في الأخلاق، تجعل أساسها أداء الواجب، كما يفرضه الوحي أو يمليه الضمير، بغض النظر عن الفائدة العائدة من أدائه"، وأن هذه الثنائية تضمن الجمع بين العلم وكرامة الإنسان، تلك الكرامة التي فقدها الغربيون مع تقدمهم العلمي (¬4)، فـ"العلم والقيم كلاهما -في أوروبا وأمريكا- ينبت من الأرض، كلاهما ينشد القوة والمنفعة، وأما الثنائية المقترحة فتجعل العلم ثابتًا ينبثق من الأرض وظواهرها، وتجعل القيم غيثًا ينزل من السماء ووحيها، العلم نسبي يتغير مع التقدم، والقيم مطلقة تشخص إليها الأبصار، فهي ثابتة من حيث الأسس وإن تغيرت من حيث التطبيق بتغير الظروف" (¬5)، ثم يُذكّر بموقفه القديم حول نسبية القيم ولا يرى أنه بَعُد عنها كثيرًا، ذلك أن ثبات القيم في إطارها العام لا ينفي تغير مضمونها بحسب تفصيلات العيش في عصر من العصور (¬6). هل نحن أمام موقف صريح أم أننا أمام موقف متذبذب؟ هل يوجد تحول ¬

_ (¬1) يعد نقد "كارل بوبر" الأبرز في هذا المجال، انظر مثلًا: مقدمة د. ماهر عبد القادر المرفقة بترجمة كتاب منطق الكشف العلمي لبوبر ص 11 - 47. (¬2) تجديد الفكر العربي ص 277. (¬3) أي: على مبدأ الثنائية الذي أخذ به في المرحلة الجديدة. (¬4) انظر: المرجع السابق ص 283 - 284، وما بين القوسين ص 283. (¬5) تجديد الفكر العربي ص 285. (¬6) انظر: المرجع السابق ص 285.

حقيقي؟ قد نجد ما يرفع إشكال هذه العبارات القلقة في موقف آخر لهذا المفكر هو موقفه من العلمانية (¬1)، فهو من دعاتها البارزين، ومعلوم أن المفهوم العلماني يتضمن تصورًا عن الحياة يخالف تمامًا التصور الإِسلامي بما في ذلك الجانب الأخلاقي، كما أن المفاهيم الضيقة التي جعلها "زكي" لكل من "الدين" و"العلم" و"القيم" تزيد من بيان موقفه الحقيقي، فالدين يتحول إلى وجدان لا يملك المعرفة اليقينية الموضوعية، والعلم يضيق ليكون هو المحسوس فقط، وتبعًا لذلك يضيق مفهوم القيم. عند مقارنته بين الأخلاق عندنا القائمة على الوحي والأخلاق في الغرب قال: "هذا لا يعني البتة أن الإنسان الغربي يفتقر إلى مبادئ الأخلاق. ومن الرعونة أن يتصور بعضنا أن حضارة الغرب لا شأن لها بالأخلاق، وأننا وحدنا الموكلون بها. والأحرى أن أخلاقهم لا تختلف عن أخلاقنا لكنهم لا يعتقدون مثلنا أن مصدرها الوحي، وأنها بالتالي، لا يمكن أن تتغير، إنها في نظرهم، نوع من الفروض العلمية تمامًا" (¬2)، وسيظهر أن مسألة التغير ذات صلة بنسبية الأخلاق التي هي امتداد لتأثره بالوضعية، وهي موجودة هنا تلميحًا، وهي صريحة في الطريقة التوفيقية التي يقترحها لقبول التغير في المجال الأخلاقي مع الثبات على المبادئ، وبهذا نضمن الجمع بحسب رأيه بين تراثنا وعصر العلم الذي محور عليه دعوته، وهي تتجلى هنا في أن ما نأخذه من تراثنا هو اللفظ بينما نأخذ من العصر المحتوى، وبهذا يحافظ المسلم على تراثه وعلى مكتسبات العصر (¬3)، وهي نظرة متغربة في جوهرها وإن تلبست بلباس التوفيق، فإن الدين حقيقته في المعاني التي يحملها بألفاظها الشرعية، أما هذا العمل فهو نوع من التأويل الكلامي وربما الباطني المشهور في تراثنا وتراث غيرنا، وكان الأقرب عكس المعادلة رغم ما فيها من مشكلات، وهو أخذ القوالب النافعة والتنظيمات المنهجية الجيدة وملؤُها بمحتوى إسلامي، وإن كانت حتى هذه محفوفة بمخاطر كسابقتها، ولكنها الأقرب بمنطق العقل في المحافظة على التراث والهوية. ¬

_ (¬1) انظر: الفصل الأول من الباب الثالث من هذا البحث، فهناك وقفة خاصة مع هذه المواقف العلمانية. (¬2) تجديد الفكر العربي ص 112. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 254.

النموذج الرابع: أخلاقيات العلم الجديدة

النموذج الرابع: أخلاقيات العلم الجديدة: يعرض النموذج الرابع شخصية مهتمة بالعلم الحديث والعلمانية، ويُضم ضمن الفكر العلمي وهو الدكتور"فؤاد زكريا"، وله مواقف متنوعة في هذا الباب نقف مع بعضها. يركز البعض على تخلفنا عن ركب مسيرة الفكر الأخلاقي، فالغرب الآن قد تجاوز الأخلاقيات القديمة، ودخل في تأسيس أخلاقيات جديدة تناسب الأوضاع الجديدة، وهي أخلاقيات مرتبطة في الأساس بالتطورات العلمية الجديدة، ويأتي في مقدمتها تطورات علم الحياة، وهي تطورات خطيرة، وقد تتسبب في تغيرات أخلاقية كبيرة وبهذا نحن في حاجة لفتح الباب للنقاش فيها، ولكن يظهر من جانب المتغربين الميل إلى تقبل التغيرات كواقع لا مفر منه، ومن ثمّ إيجاد أخلاقيات تتقبل هذا التغير. يذكر د. فؤاد زكريا مثالًا يؤكد هذا الجانب من قبول السلبيات الناتجة عن العلم باكتشاف حبوب منع العمل "فقد ظهرت هذه الحبوب بوصفها مثلًا واضحًا لقدرة الإنسان على التدخل في مجرى الحوادث الطبيعية، وتنظيم حياة الإنسان، وتمكينه لأول مرة من أن يتحكم في نسله"، إلا أن له جوانب أخلاقية، فقد أحدث انفصالا بين الجنس كممارسة وبين الإنجاب، "أي: أنه أصبح من الممكن أن يمارس الجنس دون خوف من الحمل. ونظرًا إلى أن هذا الخوف كان، في كثير من المجتمعات البشرية، هو الدافع الحقيقي إلى التمسك بالعفة، فإن زواله كان يعني زوال سبب رئيسي للتمسك بالقيم الأخلاقية المتعلقة بالجنس. وهكذا اتسع نطاق الممارسات الجنسية الحرة، في المجتمعات الصناعية المتقدمة، على أوسع نطاق. . . . وترتب على ذلك انهيار كثير من القيم الأخلاقية التقليدية، واختفاء الزواج بشكله القديم اختفاء شبه تام. . . . " (¬1). ويختم ذلك بأهمية وعي العالم بأبعاد الاكتشافات العلمية؛ لأنها أصبحت تتدخل في حياة الناس، ولكنه يحيل ذلك إلى المجتمع وإلى العلماء في العلوم الاجتماعية دون أن يربط ذلك بالدين؛ أي: أنه يحيله إلى عقلانية هي السبب في ¬

_ (¬1) التفكير العلمي، د. فؤاد زكريا ص 319 - 320، انظر كلام محمَّد قطب عنها في: التطور والثبات في حياة البشرية ص 161، وفي: جاهلية القرن العشرين ص 174.

المشكلة، ولن تتوقف إلا بزاجر أعلى، فقد كشف تاريخ الفكر أن حلّ الباب الأخلاقي لا ينتظم إلا بدين، والدين لا يقوم إلا بالإيمان بالله، الذي يعد الإيمان به هو منبع الأخلاق النافعة، أما حال المتغربين فحال عجيب، فهم يجعلون المرجعية الممكنة هي نفسها التي جلبت المرض الأخلاقي. ويتذرع المفكر السابق في موطن آخر بأوهى الحجج في عدم إمكانية أخذ الأخلاق من الإِسلام، وهو يقترح علينا القيم الاشتراكية على أن يزال التعارض بينها وبين القيم الإِسلامية الذي اصطنعه البعض، وأما المعترضون عليها بحجة كونها قيمًا مستوردة، فجوابه أنه لا حل للمعترضين إلا بذكر مبادئ دينية عامة، مصيرها في النهاية أن تُحمّل بمضامين رأسمالية أو اشتراكية، فكأنه يقول: لماذا لا نختصر الطريق، ونأخذ بالقيم الاشتراكية التي يرتئيها لنا، لاسيّما أن "المواقف التي نواجهها في عالمنا المعاصر تبلغ من التعقيد حدًا يكاد يستحيل معه الاهتداء إلى كل الإجابات التفصيلية في النصوص الدينية، ومن هنا كان من الضروري الاستعانة بالتجارب الحديثة. . . ." (¬1). يشترك أكثر العقلاء في العالم الإِسلامي في أهمية الأخذ بأسباب القوة وأسباب النفع، ومن ذلك الدعوة لأهمية العناية بالصناعة والتصنيع، ويدرك الجميع الأبعاد القيمية والأخلاقية المترتبة على هذا التحول، ومن ثم يفترض أن يبذل الجهد للتنظير الأخلاقي الذي يحمي المسلم من آفات التصنيع ويحفظ له دينه وقيمه وإنسانيته، ولكن نجد تصورًا آخر يطرحه المفكر السابق، فيجد أن لذلك أبعادًا لابد أن ننحني أمامها، فطلب التصنيع مثلًا "يرتبط في الوقت ذاته بنظرة أرحب وأوسع نطاقًا إلى معايير الأخلاق. ففي المجتمع الإِسلامي تسود نظرة إلى الأخلاق تجعل للسلوك الجنسي مكانة رئيسية. بل إن هذا السلوك، في نظر الإنسان العادي، يكاد يكون مرادفًا للأخلاق. فالأخلاق الصحيحة تعني، قبل كل شيء، العفة الجنسية، والنموذج الأكمل للإنسان هو الذي يتقي الله في شؤون الجنس قبل غيرها. وكثير من رجال الدين الإِسلامي حين يعددون مظاهر الانحلال في المجتمعات الحديثة، يركزون حديثهم على الاختلاط بين الجنسين، وعلى ملابس المرأة، وعلى الأعمال الفنية الخليعة، بوصفها أساس الشرور التي يعاني منها الإنسان. ¬

_ (¬1) انظر: الصحوة الإِسلامية في ميزان العقل، د. فؤاد زكريا ص 137.

على أن الانتقال إلى التصنيع يستتبع حتما توسيع نظرتنا إلى الأخلاق بحيث لا يقل اهتمامنا بالجانب الاجتماعي العام من سلوك الإنسان عن اهتمامنا بسلوكه الشخصي. . . . وأغلب الظن أن الاهتمام بالجانب الشخصي من سلوك الإنسان كان مرتبطًا بوقت كانت فيه العلاقات الاجتماعية أبسط بكثير مما هي عليه الآن، وبنظام من القيم الثابتة التي كان يفرضها على الناس عرف سائد. . . ." (¬1). ويحوي الكلام على عدد من المغالطات، منها تضييق الأخلاق في المجتمع الإِسلامي وكأنها الأخلاق المتعلقة بالجنس فقط، والأمر على خلاف ذلك، وهو لم يذكر الدليل على قوله، ولكن في المقابل فإن المجتمع الصناعي قد أثّر كثيرًا على أخلاقيات عامة بين الجنسين، فكان الأولى عند طلب التصنيع الانتباه لتجربة الأمم الصناعية التي أخلّت بالأخلاقيات بين الذكر والأنثى (¬2)، أما الأخلاقيات العامة فلا يشترط استخدام ألفاظ المؤلف في العناية بها، ولو تأمل لوجد عناية بها داخل الفكر الإِسلامي ولكنها بمصطلحات أهل الإِسلام، ومع ذلك فلا يشك أحد بأهمية العناية بأخلاقيات الجانب الاجتماعي كما هو مهم العناية بأخلاقيات الجانب الفردي، ومن تأمل في واقع الفكر المعاصر عرف تميز الفكر الإِسلامي -الذي يعارضه هذا المفكر- في هذه الجوانب جامعًا بين الأخلاق الفردية والاجتماعية. وفي النهاية فما يلاحظ عند مفكر ينتمي للفكر العلمي العلماني: تمييعه للأخلاف الدينية وفتحه الباب لأخلاقيات نشأت في مجتمعات علمانية، والطلب بملاحقة إنتاجهم الأخلاقي المصاحب للتطورات العلمية الجديدة والصناعات والمكتشفات. تَتبعَ باحثٌ آخر النشاط العربي في الأخلاقيات التطبيقية التي اضطر الغرب للبحث فيها بعد ظهور الأزمات في هذا المجال والإشكاليات التي تفتحها، ومع ذلك لا نجد إلا مزيدًا من الانغماس في أخلاقيات علمانية لا صلة لها بالدين، ¬

_ (¬1) المرجع السابق ص 136. (¬2) انظر كلام محمَّد قطب عن أثر الصناعة في الأخلاق ولاسيّما على الأسرة: مذاهب فكرية معاصرة ص 119 - 166.

فكانوا ممن يبحث النجاة في غير موضعها (¬1). من بين من يتحدث كثيرًا عن هذه الأخلاقيات الجديدة، والتغير في مجال الأخلاق على أنه تطور، ومتعجبًا في الوقت نفسه من تأخرنا في اللحاق بهم، يأتي الدكتور محمَّد أركون، فيقول: "حصل في الفكر الحديث تطوران أساسيان فيما يخص الأخلاق والقيم. أولهما أننا نلاحظ اليوم زوال التفكير الأخلاقي التقليدي. وهذا الزوال ناتج عن انتقالية فعالية التفكير هذه من مطرحها السابق إلى ساحة العلوم المعيارية الأخرى. . . ."، ثم بيّن كيف تهتم الدول الحديثة بتشكيل لجان "لتقييم الفعاليات الجديدة الناتجة عن اكتشافات العلوم وذلك بشكل أخلاقي"، ومثّلَ بالقضايا الطبية الجديدة، ثم ذكر أن هذه اللجان العليا تصطدم مباشرة بالتطور الثاني "الذي أصاب إمكانية التقويم الأخلاقي ذاتها في الصميم. فهي لم تعد بدهية ولا مضمونة سلفًا؛ نظرًا لتشعب المعرفة العلمية النقدية وتوسعها. . . ." (¬2). ويزعم لنظرته في الأخلاق انتماءها لـ"الروح العلمية الجديدة" بخلاف الأخلاق المنتمية للفكر التقليدي المغلقة، التي لن يتقبل أهلها مثل هذه الروح الجديدة، ويقول: "وبالطبع فلا يمكن للرؤى الأخلاقية التي ظهرت وترعرعت داخل التراث الفكري المحكوم بالإِسلام أن تبقى بمعزل عن تأثيرات المناخ الجديد الذي خلقته الثورات العلمية في هذا القرن العشرين. ولكن الحركات الإِسلامياتية وبشكل عام جميع المسلمين المتعلقين بالأشكال التقليدية للمعرفة يرفضون بقوة أي تساؤل، أو نقد للقيم الأخلاقية المرتكزة "بشكل صحيح بحسب رأيهم وتصوراتهم" على المحورية الأخلاقية القرآنية. ويرى أصحاب هذا الموقف أنه لا يوجد، ولا يمكن أن يوجد، إلا رؤيا أخلاقية وحيدة للإسلام. وإنّ هذه الرؤيا خالدة أبدية. . . . ولا تخضع لتقلبات التاريخ. . . ." (¬3). وهذا جزء من المغالطات التي ينشرها هؤلاء، بداية بدعوى نظرته العلمية للأخلاق، فإذا تجاوزنا مصطلح العلمية إلى تفاصيلها لا نجد تلك ¬

_ (¬1) انظر: الفلسفة العربية المعاصرة والفكر الأخلاقي الجديد، عبد الرازق الدواي، ضمن كتاب الفلسفة في الوطن العرب في مائة عام. . . . ص 127 وما بعدها. (¬2) الإِسلام: الأخلاق والسياسة، محمَّد أركون ص 83، ترجمة هاشم صالح. (¬3) المرجع السابق ص 84، و"الإِسلامياتية" هكذا يترجمها المترجم وتعريفها عنده ما ورد بعدها.

النموذج الخامس: الرؤية المادية والماركسية

العلمية، وإنما نجد تناقضات فكرية عجيبة لا تستطيع إقامة نظام أخلاقي، واكتفى أكثرها بوصف الواقع الأخلاقي على أن هذه هي علمية الأخلاق؛ لابتعاد العلمية في نظرهم عما ينبغي وتركيزها على الظاهرة كما هي، وأركون ينفتح على أكثر العلوم تذبذبًا وتغيرًا واضطرابًا، وهو ميدان العلوم الاجتماعية والإنسانية، وهي مدارس فكرية وفلسفية كثيرة تخلط الصواب بالخطأ من وجهة النظر الإِسلامية، وبهذا فهو عندما يحيلنا إلى "الروح العلمية الجديدة" لا يحيل على علم معياري أو موضوعي عليه اتفاق من العقلاء، وإنما على بحر متلاطم من الشبهات والاضطرابات والتناقضات، ولكن يحرص هؤلاء على إبراز مصطلح العلمية لما يضفيه هذا الوصف من احترام للنشاط وتصديق وقبول، فمن ذاك الذي يرفض العلم أو يكذب به!! ومن المغالطات بعد ذلك الانتقال السريع لإثبات التعارض بين أخلاق دينية قرآنية وأخلاق علمية، وكأنه قد حسم مسألة علمية الأخلاق، بينما لا نجد سوى الاضطراب، وقد سبق مرارًا أنه ليس كل نشاط في ميدان العلم يُعد علمًا، وإنما هو فاعلية علمية حتى تقيم الدليل الصحيح المقبول عندها تتصف بالعلمية، فالعلم هو ما قام عليه الدليل وليس الفاعلية ذاتها، ولا شك أن هناك نشاطًا محمومًا في ميادين العلوم للبحث في مسائل كثيرة ولكن إدخالها مجال النشاط العلمي لا يحولها إلى علمية ولا تصبح نتائجها علمية ما لم يقم الدليل على ذلك. النموذج الخامس: الرؤية المادية والماركسية: في كتاب "التطور والنسبية في الأخلاق" ينطلق مؤلفه في دراسته للأخلاق من منطلق ماركسي مع تلفيقات من هنا وهناك، وفي أحد العناوين نجد: "الأخلاق نسبية ولكنها ليست نسبية مطلقة"، ثم سرد نصوصًا عن غربيين يتبنون النسبية أو يعترفون بها، ثم التحول الذي حدث في الفكر الحديث، وقد ربط هذا التحول من "فكرة الإلهي والمطلق، إلى فكرة الاجتماعي والنسبي" بالنقد الكاسح الذي تعرض له الفكر القديم واليهودي والمسيحي (¬1). ويعلن موقفه في تبني أخلاق علمية تقودها الاشتراكية العلمية، وأما "أولئك ¬

_ (¬1) انظر: التطور والنسبية في الأخلاق، د. حسام الآلوسي ص 126 - 128.

الذين يتباكون على ضياع الأخلاق، بمجيء الاشتراكية والفلسفات العلمية الأرضية، إنما يتباكون على ضياع أخلاق خاصة، أخلاق تمكنهم من النهب والاستغلال والتسلط. . . . إن ما يخافونه هو أن تزول الأخلاقيات التي تمكنهم من الاستمرار في وضعهم الطبقي الممتاز على حساب الأكثرية" (¬1)، والحل هو في تغيير المجتمع الطبقي بتغيير الظروف المادية، فكثير من القيم والفضائل تبدو باهتة في المجتمعات الطبقية (¬2)، نعم يوجد بسبب التفاوت بين البشر -من غنى وفقر، ومن سلطة ونفوذ أو عدمها- صور من الاستغلال وفساد أخلاقي عند قوم، ولكن هؤلاء تحت دعوى العلمية المادية حصروا الحل في الجانب المادي وبطريقة واحدة، هي: تبديل الظروف المادية، وهنا يتم استبعاد الدين بما فيه من تصورات وتوجيهات لمثل هذه القضايا. وقد أعلنت هذه التوجهات الماركسية فشلها في العالم كلّه، ومع ذلك فقد عميت بصائر هؤلاء عن أهمية الدين لدرجة تسوية الكاتب بين أنبياء الله وبين شذاذ البشر، فنجده يقول: "إن خير ما في "المسيح" و"سقراط"، وخير ما في كل دين، ونبي من بطولة وإيمان وتحد ومحبة، موجود أيضًا عند جيفارا، والليندي، وسائر المؤمنين بقضية العدالة والحرية" (¬3). ويأتي في هذا السياق كتاب "البنى الأساسية في علم الأخلاق" بوجه ماركسي ومادي، وفي عنوان ملفت "الأخلاق والعلم" يتحدث "الجبر" عن صلة الأخلاق بالدين والعلم بأسلوب تغريبي، فالأخلاق ذات وجه سلبي قاتم عندما تتصل بالدين، بخلاف علاقتها بالعلم فهي تظهر بوجه جميل. بل يُظهر أن فساد الأخلاق عائد إلى ربطها بالدين والإله بينما حُسْنها يرتبط بالإلحاد والعلمية المزعومة، وفيما يظهر أنه يعتمد في ذلك على أفكار ماركسية، فيقول: "ربطت المجتمعات المسيطرة الأخلاق بالدين. وتستند المجتمعات المسحوقة في نضالها من أجل تحررها، على النظرة العلمية للأخلاق وبربطها بالعلم. ولكي تحتفظ المجتمعات المسيطرة بسلطتها، فهي بحاجة إلى نظرة عن العالم قادرة على إعطاء ¬

_ (¬1) المرجع السابق ص 159. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 156. (¬3) المرجع السابق ص 159.

المجتمعات التي تستغلها بديلًا سماويًا أو على الأقل مثاليًا للبؤس الذي تسببه. . . . والعكس صحيح إذ ليست المجتمعات المسحوقة بحاجة أثناء نضالها لمثل هذه الأوهام. . . ."، وترتبط أخلاقيات المجتمعات المسحوقة بالإنسان، "الإنسان بنظرها هو مقياس كل شيء وليس الله. . . . إن ميزة العلمية الأخلاقية هي بالتأكيد الانطلاق من عالم الإنسان، محاولة إقامة عالم إنساني، باختصار هي ضد كل الأخلاق اللاهوتية"، ثم هو يربط هذا التوجه العلمي المزعوم بالمادية القديمة والحديثة، ويبدأ مع القديمة -لاسيّما ذات الموقف الإلحادي- التي كنست كما يقول: "كل الخرافات والأساطير القديمة، كما تمكننا من امتلاك نظرة علمية عن الطبيعة"، والإنسان في هذه النظرة جزء من الطبيعة (¬1)، ويصل لخلاصة: "حملت المادية القديمة معها الإلحاد، والنظرة العلمية عن الطبيعة، والسكينة النفسية للحصول على السعادة الأرضية، والعقلانية الأخلاقية، ولكنها كانت محدودة" (¬2). ثم انتقل لبعض المقتطفات السريعة عن الفلسفة الحديثة، لاسيّما تلك التي تميل للمادية ليصل للآتي: "تقتضي المرحلة الأولى لكل علمية نبذ الأوهام الدينية والمثالية وبذلك لا يعود الإنسان قزمًا ولا خارقًا، فليقتنع بأننا جزء من الطبيعة الكاملة ونتبع نظامها" (¬3)، ولكنها بقيت أخلاق مادية جامدة وثابتة، حتى جاءت الدارونية فحطمت هذا الثبات (¬4). وبعد الاستعراض المادح لهذه المادية يختم بفقرة يتيمة يعلن فيها شيئًا من تحفظه فيقول: "وإذا كان لمختلف أشكال المادية العلمية فضلٌ في إبعاد الأخلاق عن المفاهيم غير الطبيعية والدينية، ووضع الإنسان ضمن الطبيعة؛ فإنها حملت معها أيضًا نقطة ضعف مشتركة، وهي اعتبار الإنسان شذرة من الطبيعة، خاضعة فقط لقوانين هذا أو ذاك من علومها .. " (¬5)، فيحصر مشكلتها في تحويلها الإنسان إلى ترس في هذه الطبيعة ويغفل عن خطورة إبعادها الإنسان عن الدين الحق وقيمه وأخلاقه وشرائعه. ¬

_ (¬1) انظر: البنى الأساسية في علم الأخلاق، د. محمَّد الجبر ص 24 - 26. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 26. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 29. (¬4) انظر: المرجع السابق ص 31. (¬5) انظر: المرجع السابق ص 34.

الثاني: في باب العمل بالأدوية الشرعية للأمراض الجسدية أو النفسية

وبعد، فقد ظهر من النماذج السابقة رغم تَلبّسِها بلباس العلمية، أن حقيقتها هي صياغة أخلاق علمانية بعيدة عن الدين، ويُتخذ العلم كغطاء لعلمنة الأخلاق. * * * الثاني: في باب العمل بالأدوية الشرعية للأمراض الجسدية أو النفسية: ينتقل البحث إلى مجال آخر تأثر في بعض جوانبه بالعلمنة والأصول اللادينية، وهو مجال الطب، ويعد التداوي من أهم موضوعات هذا العلم من أجل صحة أبدان الأحياء. وقد تطور علم الطب في العصور الأخيرة تطورًا كبيرًا، وقد انتفع العالم بذلك نفعًا عظيمًا، وقد خالط هذا النفع شيئًا من الكدرات، ومن ذلك ما تسرب للفكر الحديث من إشكالات ذات علاقة بعلم الطب بشقيه الجسدي والنفسي، ويعود السبب في ذلك إلى الواقع الثقافي والاجتماعي للبيئة التي تطور فيها علم الطب الحديث، ولا يخرج عن ذلك أي علم نشأ في هذه الظروف الغربية الجديدة، حيث تظهر فيه سمات تلك البيئة وأصولها النظرية والفلسفية، وبما أنه قد غلب على البيئة الغربية: العلمنة لاسيّما في العلم والفكر فقد أثر ذلك على كل العلوم، وازداد الأمر سوءًا مع اهتمام الماديين بالعلوم الدنيوية وبث ماديتهم فيها، وتوظيفها فيما يضاد الدين (¬1)، وقد نشأ مع هذا الوضع الجديد إشكالات حول العلاج والتداوي لاسيّما في الإطار الفلسفي والفكري وقد امتدّ أثره في واقعنا الفكري، وهذه الفقرة تبحث هذه الإشكالية، وذلك بعد ذكر المداخل المناسبة لمثل هذا الموضوع. الأمر بالتداوي في الإِسلام: يرتبط هذا بباب الطب، وهو باب واسع داخل التصور الإِسلامي يصعب الإلمام به في هذه الفقرة المختصرة (¬2)، فأكتفي بذكر قضايا كلية نبه عليها علماء ¬

_ (¬1) انظر: الباب الأول، الفصل الثاني، ففيه توضيح لهذا الأمر. (¬2) هناك طب نبوي مصدره الوحي وقد اصطلح العلماء على إطلاق اسم (الطب النبوي) عليه، وهناك من يقترح مسمى (الطب الإِسلامي) ليشمل علاقة الطب بالتصور الإِسلامي الواسع، ويكون الطب النبوي فرعًا عنه، كما أن هناك الطب البشري الذي هدى الله الناس إليه، وقد طُبب به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأرشد إليه. انظر حول التعريفات: روائع الطب =

الإِسلام. والأصل في هذا الباب حديث التداوي، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء" (¬1). وأخرجه مسلم عن جابر بلفظ: "لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله -عز وجل-" (¬2). وعن أسامة بن شريك مرفوعًا بلفظ: "تداووا فإن الله -عز وجل- لم يضع داء إلا وضع له دواء غير داء واحد: الهرم" (¬3). قال الشيخ السعدي: "وعموم هذا الحديث يقتضي: أن جميع الأمراض الباطنة والظاهرة لها أدوية تقاومها، تدفع ما لم ينزل، وترفع ما نزل بالكلية، أو تخففه. وفي هذا: الترغيب في تعلم طب الأبدان، كما يتعلم طب القلوب، وأن ذلك من جملة الأسباب النافعة. وجميع أصول الطب وتفاصيله، شرح لهذا الحديث؛ لأن الشارع أخبرنا أن جميع الأدواء لها أدوية. فينبغي لنا أن نسعى إلى تعلمها، وبعد ذلك إلى العمل بها وتنفيذها. وقد كان يظن كثير من الناس أن بعض الأمراض ليس له دواء، كالسل ونحوه، وعندما ارتقى علم الطب، ووصل الناس إلى ما وصلوا إليه من علمه، عرف الناس مصداق هذا الحديث، وأنه على عمومه" (¬4). والمرض نوعان: مرض القلوب ومرض الأبدان وهما مذكوران في القرآن، ويقابلهما طب القلوب وطب الأبدان، فيهتم طب القلوب بدواء مرض القلب، ¬

_ = الإِسلامي، الجزء الأول: القسم العلاجي، د. محمَّد الدقر ص 7 ص 11 ص 16، وانظر: الطب النبوي والعلم الحديث، د. محمود النسيمي ص 7. (¬1) البخاري برقم له (5678)، كتاب الطب، وانظر كلام ابن حجر عن باقي الروايات، ومما ذكره من روايات عند غير البخاري: (يا أيها الناس تداووا) و (تداووا يا عباد الله) و (فتداووا، ولا تداووا بحرام)، فتح الباري .. 10/ 135. (¬2) مسلم، برقم (2204)، كتاب السلام، باب لكل داء دواء واستحباب التداوي. (¬3) أبو داود، برقم (3855)، والترمذي برقم (2038)، وقال فيه: وهذا حديث حسن صحيح، وصححه الألباني في غاية المرام، برقم (292) ص 178 - 180، وصححه في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم (1650). (¬4) بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار. . . .، حديث رقم (64)، السعدي ص 143.

ويهتم طب الأبدان بدواء مرض البدن (¬1). وقد ذُكر مرض البدن في "الحج والصوم والوضوء" وذلك أن قواعد طب الأبدان ثلاثة: حفظ الصحة، والحمية عن المؤذي، واستفراغ المواد الفاسدة (¬2)، فذكر سبحانه هذه الأصول الثلاثة في هذه المواضع الثلاثة. فجاء حفظ صحة البدن وقوته في آية الصوم: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]، وجاءت الحمية من المؤذي في آية الوضوء: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43]، وجاء استفراغ المواد الفاسدة في آية الحج: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] (¬3). أما مرض القلوب فنوعان: مرض شبهة وشك ومرض شهوة وغي، وكلاهما في القرآن. قال -تعالى- في مرض الشبهة: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة: 10]، وفي مرض الشهوة قال -تعالى-: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32] (¬4). "فأما طب القلوب فمسلم إلى الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، ولا سبيل إلى حصوله إلا من جهتهم وعلى أيديهم؛ فإن صلاح القلوب أن تكون عارفة بربها وفاطرها وبأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه، وأن تكون مؤثرة لمرضاته ومحابه، متجنبة لمناهيه ومساخطه، ولا صحة لها ولا حياة البتة إلا بذلك، ولا سبيل إلى تلقيه إلا من جهة الرسل. وما يظن من حصول صحة القلب بدون اتباعهم فغلط ممن يظن ذلك، وإنما ذلك حياة نفسه البهيمية الشهوانية وصحتها وقوتها، وحياة قلبه وصحته وقوته عن ذلك بمعزل، ومن لم ¬

_ (¬1) انظر: زاد المعاد .. ، ابن قيم الجوزية 4/ 5 وما بعدها. (¬2) "علم الطب" علم يتناول المحافظة على الصحة والوقاية من الأمراض ومعالجتها، وقواعده أربع هي: حفظ الصحة، الحمية والوقاية، الاستفراغ من المواد الفاسدة، مكافحة الأمراض إذا وقعت. انظر: مقدمة كتاب: خمسون فصلًا في التداوي والعلاج والطب النبوي، لابن مفلح، بعناية عادل آل محمد ص 6. (¬3) انظر: زاد المعاد 4/ 7. (¬4) انظر: المرجع السابق 4/ 5 - 6.

يميز بين هذا وهذا فليبك على حياة قلبه فإنه من الأموات وعلى نوره فإنه منغمس في بحار الظلمات". "وأما طب الأبدان فإنه نوعان: نوع قد فطر الله عليه الحيوان ناطقه وبهيمه فهذا لا يحتاج فيه إلى معالجة طبيب كطب الجوع والعطش والبرد والتعب بأضدادها وما يزيلها. والثاني: ما يحتاج إلى فكر وتأمل. . . ." وقد ذكر ابن القيم له ثلاث صور (¬1). وكان علاج الرسول - صلى الله عليه وسلم - للمرض ثلاثة أنواع: أحدها: بالأدوية الطبيعية، والثاني: بالأدوية الإلهية، والثالث: بالمركب من الأمرين (¬2)، وقد نبه ابن القيم -رحمه الله- إلى أمر مهم حول هذه الأدوية التي دل عليها الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال: "وهذا إنما نشير إليه إشارة؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما بعث هاديًا، وداعيًا إلى الله وإلى جنته، ومعرفًا بالله ومبينًا للأمة مواقع رضاه وآمرًا لهم بها ومواقع سخطه وناهيًا لهم عنها، ومخبرهم أخبار الأنبياء والرسل وأحوالهم مع أممهم، وأخبار تخليق العالم وأمر المبدأ والمعاد، وكيفية شقاوة النفوس وسعادتها وأسباب ذلك. وأما طب الأبدان، فجاء من تكميل شريعته ومقصودًا لغيره، بحيث إنما يستعمل عند الحاجة إليه، فإذا قدر على الاستغناء عنه كان صرف الهمم والقوى إلى علاج القلوب والأرواح، وحفظ صحتها ودفع أسقامها وحميتها، مما يفسدها هو المقصود بالقصد الأول، وإصلاح البدن بدون إصلاح القلب لا ينفع، وفساد البدن مع إصلاح القلب مضرته يسيرة جدًا، وهي مضرة زائلة تعقبها المنفعة الدائمة التامة وبالله التوفيق" (¬3)، وينبه أيضًا على سبب ذكره لهذه الأدوية من هدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ولعل قائلًا يقول: ما لهدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما لهذا الباب وذكر قوى الأدوية وقوانين العلاج وتدبير أمر الصحة؟. وهذا من تقصير هذا القائل في فهم ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإن هذا ¬

_ (¬1) زاد المعاد 4/ 7 - 8. (¬2) انظر: المرجع السابق 4/ 22، وانظر: فتح الباري. . . .، ابن حجر 10/ 134 حيث نقل أغلب كلام ابن القيم. (¬3) زاد المعاد 4/ 23.

وأضعافه وأضعاف أضعافه من فهم بعض ما جاء به، وإرشاده إليه ودلالته عليه، وحسن الفهم عن الله ورسوله يمن الله به على من يشاء من عباده. فقد وجدنا أصول الطب الثلاثة في القرآن، وكيف تنكر أن تكون شريعة المبعوث بصلاح الدنيا والآخرة مشتملةً على صلاح الأبدان كاشتمالها على صلاح القلوب، وأنها مرشدة إلى حفظ صحتها ودفع آفاتها بطرق كلية، قد وكل تفصيلها إلى العقل الصحيح والفطرة السليمة بطريق القياس والتنبيه والإيماء" (¬1). وقد يشتبه على البعض عدم نفع بعض ما ورد من أدوية بشكل ثابت أو أن يأتي علم الطب على خلاف بعضها، وربما لهذا السبب قال ابن خلدون أنه: "ليس من الوحي في شيء وإنما هو أمر كان عاديًا للعرب. ووقع في ذكر أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم -، من نوع ذكر أحواله التي هي عادة وجبلّة، لا من جهة أن ذلك مشروع على ذلك النحو من العمل. فإنه - صلى الله عليه وسلم - إنما بعث ليعلمنا الشرائع، ولم يبعث لتعريف الطب ولا غيره من العاديات" واستثنى من ذلك استعماله تبركًا فقال: "اللهم إلا إن استعمل على جهة التبرك وصدق العقد الإيماني، فيكون له أثر عظيم في النفع" (¬2)، وهذا القول مرجوح، فمن تمعن في هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - علم أن الأمر يتجاوز العاديات، وقد بيّن ذلك غاية البيان ابن القيم (¬3). أما الاشتباه السابق حول الطب النبوي فنجد جوابه من فقيه في الشرع ومُلمّ بالطب وهو "محمَّد المازري" (¬4) حيث قال: "وهذا الذي قاله هذا المعترض ¬

_ (¬1) المرجع السابق 4/ 414. (¬2) مقدمة ابن خلدون 3/ 1144، بتحقيق د. علي وافي. (¬3) وانظر: الأسس الإبستمولوجية لتاريخ الطب العربي. رؤية معرفية في تاريخ الحضارات، د. خالد حربي ص 142 وما بعدها. (¬4) قال عنه الذهبي في السير: (الشيخ الإمام العلامة البحر المتفنن، أبو عبد الله، محمَّد بن علي عمر بن محمَّد التميمي المازري المالكي. قال عنه القاضي عياض: لم يكن في عصره للمالكية في أقطار الأرض أفقه منه ولا أقوم بمذهبهم. سمع الحديث، وطالع معانيه، واطلع على علوم كثيرة من الطب والحساب والآداب وغير ذلك، فكان أحد رجال الكمال، وإليه كان يفزع في الفتيا في الفقه. قيل: إنه مرض مرضة، فلم يجد من يعالجه إلا يهودي، فلما عوفي على يده، قال: لولا التزامي بحفظ صناعتي لأعدمتك المسلمين. فأثر هذا عند المازري، فأقبل على تعلم الطب حتى فاق فيه، وكان ممن يفتي فيه كما يفتي في الفقه). انظر: سير أعلام النبلاء 20/ 104 وما بعدها.

جهالة بينة، وهو فيها كما قال الله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ}. . . . إن علم الطب من أكثر العلوم احتياجًا إلى التفصيل، حتى إن المريض يكون الشيء دواءه في ساعة، ثم يصير داء له في الساعة التي تليها بعارض يعرض من غضب يحمي مزاجه، فيغير علاجه، أو هواء يتغير، أو غير ذلك مما لا تحصى كثرته. فإذا وجد الشفاء بشيء في حالة بالشخص لم يلزم منه الشفاء به في سائر الأحوال وجميع الأشخاص. والأطباء مجمعون على أن المرض الواحد يختلف علاجه باختلاف السن والزمان والغذاء والعادة المتقدمة، والتدبير المألوف، وقوة الطباع" (¬1)، وهي فقرة مهمة تبين أن الطب النبوي قد لا يراد به عموم الأحوال والأمكنة، فإن له شروطه التي متى وقعت وقع الانتفاع بالدواء. وقد عرف باب الطب عناية من قبل علماء المسلمين، لاسيّما النبوي منه لكون الطب البشري متروكًا لجهد البشر (¬2)، فخصه جامعو السنة النبوية بأبواب مثل البخاري وغيره، كما أنه قد عرف التأليف المستقل في باب الطب النبوي (¬3)، ومن بين أقدم الكتب المفردة حول الطب النبوي نجد كتاب ابن حبيب الأندلسي، ويمتاز كتابه بأنه أول ما أُلف في الباب، وقد جمع فيه بين الهدي النبوي وبين العلم الصحيح النافع مما هو عند الأمم الأخرى، لاسيّما ما هو منقول عن اليونان وذلك قبل ظهور حركة الترجمة المشهورة عن اليونان (¬4). ¬

_ (¬1) شرح النووي على مسلم، المجلد السابع، الجزء 14/ 191 - 192، باب لكل داء دواء واستحباب التداوي، وانظر: فتح الباري لابن حجر 10/ 169 - 170. (¬2) لقد ترك جانب منه للجهد البشري، فإن العلوم الطبية كعلم التشريح والغرائز والأمراض والأدوية و. . . . لا تدخل في مهمات الرسالة السماوية، فإن تطويرها وترقيتها متروك للجهد البشر وأبحاثهم العلمية وتجاربهم، نعم إن الدين يشملها بالتوجيه، انظر: الطب النبوي والعلم الحديث، د. محمود النسيمي ص 8 - 9، وانظر: فتوى هيئة كبار العلماء بالمملكة رقم (6249) ضمن مجموع فتاوى هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية 12/ 64. (¬3) انظر: الطب النبوي، عبد الملك بن حبيب، شرح وتعليق د. محمَّد البار ص 7 - 8 للمحقق، وانظر: خمسون فصلًا في التداوي والعلاج والطب النبوي، لابن مفلح، بعناية عادل آل محمد ص 5، وانظر: الأسس الإبستمولوجية لتاريخ الطب العربي. رؤية معرفية في تاريخ الحضارات، د. خالد حربي ص 132، وانظر: روائع الطب الإِسلامي، الجزء الأول: القسم العلاجي، د. محمَّد الدقر ص 11. (¬4) انظر: مقدمة المحقق كتاب الطب النبوي، عبد الملك بن حبيب، شرح وتعليق د. محمَّد البار ص 9، 25، 28.

ويعد وثيقة قديمة في عناية علماء الإِسلام في الجمع بين الدين والطب وعنايتهم بالأمور الطبية من وقت مبكر، وفي استفادتهم مما صح من علوم الأمم الأخرى أو يظنون فيها نفعًا ولا تعارض الدين (¬1)، ولكن عندما تتم الاستفادة من قبل عالم بالشرع (¬2)، فهو يتلافى مشكلاتها التي قد تتعارض مع التصور الإِسلامي. "وقد كان قدوتنا - صلى الله عليه وسلم - يطلب الطبيب لغيره وكان الأطباء يأتونه أيضًا، فقد روي عن عائشة أنها قالت: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثرت أسقامه فكان يقدم عليه أطباء العرب والعجم فيصفون له فنعالجه، وروي أن عروة كان يقول لعائشة: يا أماه، لا أعجب من فقهك أقول: زوجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وابنة أبي بكر، ولا أعجب من علمك بالشعر وأيام الناس أقول: ابنة أبي بكر، وكان أعلم الناس أو من أعلم الناس، ولكن أعجب من علمك بالطب كيف هو ومن أين هو؟ قال: فضربت على منكبيه، وقالت: أي عرية، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسقم عند آخر عمره، وكانت تقدم عليه وفود العرب من كل وجه فكانت تنعت له الأنعات وكنت أعالجها فمن ثم علمت" (¬3). وقد كان هذا الجهد الإِسلامي في باب التأليف حول الطب من أجل وضع الأصول الإِسلامية لهذا الجانب المهم من حياة البشرية، فقد جاء الإسلام ليؤسس لحياة جديدة مختلفة تمام الاختلاف ومتميزة عن غيرها، ومن ذلك ما له ¬

_ (¬1) خص "ابن حبيب" النظرية اليونانية بقسم من مؤلفه، وقد اعتمد هذه النظرية الأطباء المسلمون، وكل من كتب في الطب بما في ذلك الأعلام من المحدثين والفقهاء الذين كتبوا في الطب النبوي من أمثال ابن حبيب وعلي الرضا وابن القيم والذهبي والسيوطي وغيرهم مع أن الطب الحديث لم يعد يعترف بهذه النظرية، انظر: المرجع السابق ص 28. (¬2) ابن حبيب الإِمام العلامة، فقيه الأندلس، أبو مروان، عبد الملك بن حبيب بن سليمان بن هارون بن جاهمة بن الصحابي عباس بن مرداس، السلمي العباسي الأندلسي القرطبي المالكي، أحد الأعلام، ولد في حياة الإِمام مالك بعد السبعين ومئة، وكان موصوفًا بالحذق في الفقه، كبير الشأن، بعيد الصيت، كثير التصانيف إلا أنه في باب الرواية ليس بمتقن، قال أبو القاسم بن بشكوال: قيل لسحنون: مات ابن حبيب، فقال: مات عالم الأندلس! بل -والله- عالم الدنيا. سير أعلام النبلاء، الذهبي 12/ 102. وانظر ترجمته في: المرجع السابق ص 13 وما بعدها. (¬3) المسند برقم (24884)، طبعة بيت الأفكار الدولية، وقال محقق (خمسون فصلًا في التداوي والعلاج والطب النبوي، لابن مفلح) عادل آل محمد ص 13: أخرجه الإِمام أحمد ورجال الإسناد كلهم ثقات.

علاقة بصحة الإِسلام، بحيث يضع القواعد الكلية لهذا الباب المنبثقة من التصور الإِسلامي ويترك ما سوى ذلك لجهد البشر. تقوم صحة الإنسان في التصور الإِسلامي على أصول إسلامية مهمة بحيث تكون هذه الأصول الإطار الإرشادي لجانب الطب، ويعارضها أصول علمانية ترتبط بالتصور العلماني الذي تأثر به المتغربون فيتحرك الطب هنا مع البدن، وكأنه جسم مادي لا روح له، يكفي عندهم اكتشاف المرض ودوائه وعندها يتخلص الإنسان من أمراضه ويعيش سعادته الدنيوية، بينما واقع البشرية يكشف عن تطور المرض مع تطور الطب، بل ظهور أمراض جديدة لم يعرفها العالم من قبل واستعصى بعضها عن العلاج، مما جعل هذا الأمل المقطوع عن الإيمان بالله وهمًا وزيفًا، ولهذا يعارض التصور الإِسلامي النظر للإنسان كجسم مادي فقط غير مرتبط بروح تحتاج لقيم وإيمان، وبهذا يتكامل الطب في الإطار الإِسلامي مع جانب القيم والدين، فالطب في الإطار العلماني ينظر للإنسان مفصولًا عن حاجته للإيمان وعن حاجته لتشريع سماوي، لهذا يتم علاج البدن والنفس دون مراعاة لعلاقة البدن بالروح، ويتم بحث ذلك دون مراعاة للحلال والحرام والقيم. وفي هذا الإطار يأتي الإرشاد النبوي في أبواب صحة الإنسان مرتبطًا بهذا التصور الإِسلامي الشامل، تلك الصحة التي تعد نعمة من الله سبحانه، ومن ثم فحفظها يرتبط بالإيمان بواهبها، فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ" (¬1)، يقول د. محمَّد البار: "فلا غرو إذن أن يهتم نبي الإِسلام - صلى الله عليه وسلم - بتنبيه المؤمنين على نعمة الصحة، واتخاذ جميع التدابير للمحافظة عليها. . . ." (¬2). وعندما يأتي التوجيه النبوي في باب صحة الإنسان، فهو يأتي من قبل العليم الحكيم، ولهذا يأتي الإرشاد النبوي ليعالج أكثر من جانب بسبب الشمول والتكامل النابع من علم المرشد وحكمته، فيتجاوز بذلك المسألة الجزئية إلى ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب الرقاق، باب لا عيش إلا عيش الآخرة، برقم (5933). (¬2) من مقدمة د. البار لكتاب الطب النبوي لابن حبيب ص، وانظر: مقدمة خمسون فصلًا في التداوي والعلاج والطب النبوي، لابن مفلح، بعناية عادل آل محمد ص 7.

الإطار العلماني وأثره في مجال التداوي الجسدي والنفسي

جوانب كلية يعالجها دون أن ينتبه لها الإنسان، ولذا نجد الالتزام بحديث واحد من أحاديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - الوقائية يمكن أن يقي ملايين البشر من مجموعة من الأمراض، مثل النهي عن التبول والتغوط في الماء الراكد، فهناك خمسمئة مليون مصابون بالبلهارسيا التي يمكن الوقاية منها بتنفيذ هذا الحديث، فكيف لو التزم الناس بكل ما جاء عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - (¬1). الإطار العلماني وأثره في مجال التداوي الجسدي والنفسي: تؤكد فلسفة العلم وجود انقطاع تام بين علم الطب القديم وعلم الطب الحديث، فذاك له نسقه وهذا له نسقه، أساس القديم المذهب الحيوي الكلي بنزعته العضوية، يقابله الطب الحديث بأساسه المادي ونزعته الآلية، العضوية تعد الفارق بين الحيوان والجماد فارقًا في الطبيعة بخلاف الحديث، فتراه فارقًا في الدرجة فقط بحيث ترد الظواهر البيولوجية إلى فيزيقية وكيميائية، العضوية ذات نظرة واحدية كلية إلى الإنسان تراه كـ"بنية متكاملة" بخلاف الحديثة التي تُجَزئه (¬2). يتعايش في الطب القديم أنماط مختلفة من العلاج مثل: السحر والتمائم والأعشاب والتجريبي، وقد كان للجوانب غير العلمية منه أثرها -رغم غيبيتها- في استثارة الطاقات الكامنة في الإنسان للشفاء، وذلك بتركيزها على الجانب المعنوي، وقد رفضها العلم الحديث، بينما الحديث التجريبي يرفض أي شريك في العلاج؛ إما لاستحالة التعايش مع الخرافة أو لعدم خضوعها للتجريب (¬3)، وهنا يدخل التصور الإِسلامي الوسطي، ليقدم النموذج الصحيح، فهو مع الطب الحديث في اعتماد الدواء العلمي، وسبقه في رفض الخرافة أو الشعوذات المحرمة حتى وإن نفع بعضها في ظاهر الأمر، ولكنه لا يتخذ هذه الخرافات ذريعة لنفي الحق، وهو أهمية الأدوية الروحية الصحيحة فيكون طريقًا ثالثًا، فيمنع السحر ويصدق بالغيب لورود النص به ويعتد بالتجريبي. ¬

_ (¬1) من مقدمة د. البار لكتاب الطب النبوي لابن حبيب ص 6، وانظر: الطب النبوي والعلم الحديث، د. محمود النسيمي ص 5. (¬2) انظر: في فلسفة الطب، د. أحمد صبحي، د. محمود زيدان ص 7 - 13. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 20.

أما الاتجاهات الفلسفية العلمانية فقد رفضت هذا الطريق الوسط، وأسسوا لمجال طبي رغم دعواه العلمية، إلا أنه في حقيقته يتأسس على أصول الفلسفة المادية، ومن ذلك ما نجده في كتاب "كلود برنار" مدخل: "الدراسة الطب التجريبي" ممثلًا للطب البدني، أو في كتب "فرويد" ممثلًا للطب النفسي. فقد رفض "كلود" المذهب الحيوي، ولكنه تبنى المذهب المادي الآلي، ومع تبرئة كلود طبه من المذهبية، إلا أنه في الحقيقة يتبنى المقولات المادية، ومن ذلك إشارته لمبدأ الحتمية وإدخالها الطب، كما أن التطرف في العلمية يقود إلى صورة من المذهبية مع النزعة العلمية المغالية لعلم الطب الحديث تُدعى "التعالمية أو العلموية - Scientism"، فهي تقوم على قواعد تجريبية جيدة، إلا أنها قد تتحول مع هؤلاء المتعصبين إلى علموية (¬1)؛ أي: إلى مذهب علماني لا علاقة له بالعلم. لقد قامت الفلسفة العلمية المادية بنقد النسق القديم لعلم الطب من أجل التحول نحو المادية، ومن ذلك نقد الغائية، وبنقدها ينفتح الباب للمادية الميكانيكية الحتمية (¬2)، ونقد وجود القوة الحيوية، والأجسام الحية والجامدة شيء واحد، والفارق بينهما في الدرجة وليس في الطبيعة (¬3)، وهما خاضعان للحتمية، ويذكر ليدرمان في كتابه: "الفلسفة والطب" الوجه المادي الحديث وأساسياته وأصوله، وهي "المادة هي الوجود الوحيد؛ أي: مبحث علمي لابد أن يلتزم بالتفسير المادي وإلا عد مبحثًا غيبيًا غير علمي، إذ المادية مرادفة للتفكير العلمي، الفارق بين الجماد والحي، إنما هو في التركيب الكيمائي، وهو فارق في الدرجة لا الطبيعة" (¬4). تفيد المقارنة بين النسقين القديم والحديث في الطب "أن النزعة التجريبية ¬

_ (¬1) انظر: في فلسفة الطب ص 30 - 33. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 32 - 33. (¬3) انظر حول نقد إنكار وجود معنى مميز للحياة، وأن هذه آراء تجاوزها الطب المعاصر الذي عاد إلى تأكيد المقولة بالفارق في الطبيعة لا في الدرجة بين الكائنات الحية والأجسام الجامدة، المرجع نفسه ص 50 - 53. (¬4) انظر: المرجع السابق ص 38 ص 44، وانظر: فلسفة العلم من الحتمية إلى اللاحتمية، د. يمنى الخولي ص 210 وما بعدها.

أثر الأسس الفلسفية للممارسة الطبية الحديثة

في الطب الحديث لم تحرره من كل تصور فلسفي؛ لأن هذه النزعة المستندة إلى مقولة: "ما ليس تجريبيًا فهو ليس علميًا" إنما هي بدورها اتجاه فلسفي تعارضه مذاهب فلسفية أخرى متكافئة معه. . . . وتكشف عن بعض السلبيات في المسيرة الطبية الحديثة دون أن تبهرنا إنجازاتها إبهارًا يغشي أبصارنا" (¬1). أثر الأسس الفلسفية للممارسة الطبية الحديثة: أولًا: أثر التجزئة والنظرة الجزئية لكل عضو، وتخصص طبيب لكل عضو، وذلك قد يكون له صلة بالرؤية المادية التي تنظر للمادة على أنها عناصر منفصلة يمكن دراستها وهي مفككة، بينما الإنسان كل مركب من أجزاء، وهنا ترابط انتبهت له الممارسة الطبية المعاصرة (¬2)، فكيف إذا أضافت لذلك النظر للإنسان بعيدًا عن حاجته للدين. ثانيًا: ومن آثارها الفصل بين الجسم والنفس، كأنهما كائنان غريبان في ذات واحدة وكيان واحد، وقد تركت أثرًا بالغًا على الطب، حتى غدا لفظ الطب البشري مرادفًا للطب الجسمي دون اعتبار للنفس، وقد عزز ذلك علم النفس الفسيولوجي، وكما يقول كارليل: لقد دفعت الحضارة الأوروبية ثمن ذلك: انتصار العلم وانحلال الإنسان. بل قد كشف الطب المعاصر أثر النفس على الجسد (¬3)، بل الأثر المعنوي الإيماني وفي ذلك يقول كارليل: "في جميع البلدان والأزمان آمن الناس بالشفاء من المرض في أماكن مقدسة، غير أن تيار العلم في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر جعل هذا الإيمان يختفي اختفاء تامًا؛ لأنه في نظر العلم مستحيل الحدوث، غير أن الملاحظات خلال الخمسين سنة الأخيرة أضعفت الإصرار على هذا الموقف. إنه في خلال فترة وجيزة تلتئم الجروح بأسرع من المعدل المقرر لها وتختفي الأعراض الباثولوجية ويسترد المريض عافيته، هذه الظواهر تدل على الأهمية البالغة للنشاط الروحي الذي أهمل الأطباء أمره إهمالًا تامًا (¬4). ¬

_ (¬1) المرجع السابق ص 45. (¬2) في فلسفة الطب ص 47، وانظر: الإنسان ذلك المجهول، ألكسيس كاريل ص 60، ترجمة شفيق فريد. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 48. (¬4) الإنسان ذلك المجهول، ألكسيس كاريل ص 171.

هذا في الجانب الجسمي، "والأمر في الأمراض النفسية أشد وضوحًا، فقد ذهب كارل يونس إلى أن أكثر من نصف مرضاه بعد منتصف العمر كان الدين عاملًا مؤثرًا في شفائهم. وهكذا تبنى الطب المعاصر مقولات فلسفية كانت طابع الطب القديم تتلخص فيما يلي: 1 - الصلة العضوية بين النفس والجسم. 2 - الطب الإيكولوجي بالاعتراف بأثر البيئة الطبيعية والاجتماعية على صحة الإنسان. 3 - الاعتراف بأثر الجانب المعنوي ممثلًا في الدين ودوره في الشفاء" (¬1). وإذا كانت الكتابات الفكرية لا تصرح بأثر الدين عمومًا والطب النبوي خصوصًا في الشفاء، فإن الطب الإِسلامي يتجاوز هذا التلميح الخجول إلى التصريح بدوره ومكانته الحقيقية، ومن ذلك أثر الرقية: ويرى الدقر أن أثر الرقية الحسنة تكون بأحد أمرين: الإيحاء الذي يرفع معنويات المريض، والطب الحديث يُقرّ بدور الإيحاء، والأمر الثاني: المعونة الإلهية بإجابته سبحانه دعوة المضطر، وكلما حسنت صلة العبد بربه كانت له من الأدوية غير ما يجده من لم تكن له تلك الصلة، وهذا باب اعترف به حتى بعض عقلاء الغرب حيث قال أحدهم: "دلت الإحصائيات أن 80% من المرضى في جميع المدن الأمريكية، ترجع أمراضهم إلى حد كبير إلى مسببات نفسية وعصبية. ومما يؤسف له أن كثيرًا ممن يشتغلون بالعلاج النفسي يفشلون؛ لأنهم لا يلجؤون إلى بث الإيمان بالله في نفوس المرضى مع أن الأديان جاءت لتحريرنا من هذه الاضطرابات. ." (¬2). ثالثًا: وقد كان من آثارها أيضًا التسلط على جسد الإنسان، كما تم التسلط على الطبيعة، حيث كان هدف المنهج العلمي بغلوه المادي السيطرة على الطبيعة، ثم تجاوز ذلك إلى التدخل في طبيعة الإنسان الداخلية، وأداء أعضائه ¬

_ (¬1) في فلسفة الطب ص 49. (¬2) انظر: روائع الطب الإِسلامي، الجزء الأول: القسم العلاجي، د. محمَّد الدقر ص 303 - 305 وما بين القوسين ص 305، وانظر كلام ابن القيم حول هذا الموضوع: زاد المعاد 4/ 150.

في الجانب النفسي

الباطنية لوظائفها البيولوجية لا من أجل التخلص من علة فيها، بل بالتعديل فيها حينًا، وبإيقاف عملها أحيانًا (¬1). في الجانب النفسي: يدخل الجانب النفسي ضمن ما سبق من قضايا، ولكنه يتميز عنه بقضايا أشدَّ تعقيدًا وأكثر خطرًا، وقد ظهر العلاج النفسي الحديث في نهايات القرن الثالث عشر / التاسع عشر في الأجواء السابقة نفسها، وبقدر التقدم المهم الذي أحرز في هذا الجانب، إلا أن أثر البيئة العلمانية والمادية على هذا المجال، لاسيّما مع بروز الإلحاد في رموز مهمة في هذا المجال قد تسبب بوعي أو بغير وعي في الإضرار بمنافع هذا العلم وتقريبه للإلحاد والمادية. كما سبق فقد اتصف العلم في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر بما يمكن أن يُطلق عليه بالمادية العلمية التي ترى أن الحقيقة كلها تكمن في المادة، وإن كان العلم في القرن الرابع عشر/ العشرين قد وقعت له تغيرات جوهرية، لاسيّما في عملية إبعاد تدريجي للإنسان عن المادية (¬2)، وقد كان من بين خصائص المادية العلمية "الحتمية والميكانيكية" التي انتقلت إلى مدارس مشهورة لعلم النفس ومن ثم الطب النفسي مثل "التحليل النفسي" و"السلوكية"، وهي جميعًا تتفق مع التصور المادي للطبيعة البشرية (¬3)، ومع ذلك فهناك تحولات تنزع لتخفيف هذا الطغيان للمادية على علم النفس وعلى الطب النفسي، ومع هذا التخفيف من شأن المادية فتبقى مشكلة الإطار العلماني للفكر الغربي الذي تقع فيه مثل هذه التطورات في ميدان العلم. وقد تكون الفرويدية من أشهرها في الغرب وقد حملت "طابع العصر من نزعة علمية تستبعد أي دور للغيبيات سواء في تشخيص المرض أو في العلاج" (¬4)، إلا أن العلاج النفسي في القرن الرابع عشر/ العشرين بدأ يبتعد عن ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق ص 53. (¬2) انظر: نحو وجهة إسلامية لعلم النفس، أ. د. فؤاد أبو حطب ص 139 - 140، من أبحاث ندوة علم النفس، المعهد العالمي للفكر الإِسلامي. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 147 - 148. (¬4) في فلسفة الطب ص 108.

بعض مشكلات الطرح التغريبي حول المجال الطبي والتداوي

هذا الطابع، فكما "تحرر العلم بعامة من وصاية المذهب المادي، كذلك تجاوز الطب النفسي أفكار فرويد في التحليل النفسي وأولها استبعاد دور الدين في العلاج من الأمراض النفسية، وتمثل أول تمرد من زميله كارل يونج في عبارته: أن كل المرضى الذين استشاروني خلال الثلاثين سنة الماضية من كل أنحاء العالم كان سبب مرضهم نقص إيمانهم وتزعزع عقائدهم ولم ينالوا الشفاء إلا بعد أن استعادوا إيمانهم، وفي عبارة أخرى يقول: من بين مرضاي بعد منتصف العمر -فوق سن الأربعين- لم يحل بواحد منهم المرض، إلا لأنه افتقد ما تمنحه الأديان لمعتنقيها، ولم يستعد واحد منهم الصحة إلا باستعادته الإيمان الديني" (¬1). بعض مشكلات الطرح التغريبي حول المجال الطبي والتداوي: أين هي المشكلات في هذا الباب؟ 1 - تأتي أولًا من رفض اشتغال الطب ضمن المجال الإِسلامي، بحجة أن العلم لا دين له، فقد ينجح في الطب المؤمن والكافر، وهؤلاء لا يفرقون بين ما يهدي الله له البشر من الاكتشافات والنجاحات وبين كيفية تبيئتها في المجال الإِسلامي، وذلك أن الإِسلام عندما جاء، فإنما جاء ليؤسس لحياة جديدة تهتدي في جميع شؤونها بهدي الإِسلام، ومن ذلك أهمية الحركة ضمن مجال التصور الإِسلامي للإنسان وبدنه وروحه وصحته وعلاقته بمن حوله وعلاقته بخالقه، والحركة ضمن التشريع الإِسلامي للحلال والحرام والقيم والأخلاقيات، وبهذا يكون مجال الطب أنفع للمسلم، والعالم بدأ يدرك أهمية الدين لرعاية هذا المجال، فقد أصاب الغرور مسيرة العلم الحديث مما جعله ينغمس في ماديته، ومن ثم اختزال الإنسان في هذا الجانب، فظهرت تعقيدات لم تفلح فيها الرؤى المادية والعلمانية في علاجها "وإذا كانت القيم الدينية والخلقية قد استدعيت على عجل بعد أن استفحل مرض كـ"الإيدز"، فإنها قد استغيث بها لتنقذ ضحايانا من "الهيروين" والمخدرات بعد أن تبينت آثارها النفسية المدمرة حتى في أكثر الدول تبنيًا للعلمانية. . . . وحينما يكون العجز عن حل المعادلة الصعبة بين كفالة حرية ¬

_ (¬1) المرجع السابق ص 108.

نموذج عن الإشكال التغريبي في هذا الباب

الفرد من جهة، وبين صيانة قيم المجتمع من جهة أخرى، فإن التشريع يقف عاجزًا ولا يجد أولو الأمر مناصًا -حتى لو كانوا علمانيين- من طلب العون من الدين" (¬1). 2 - وتأتي ثانيًا من الإصرار على البقاء في ظل الظواهر المادية دون ربطها بمدبر الأمور سبحانه، فمع انفصال العلم عن الدين وقع الانحراف في باب الربوبية بحيث تنسب كل الأحداث لأسبابها الطبيعية مع إغفال تام لما وراء ذلك، ومن ثم إحالة المريض مثلًا في اعتماده على السبب المادي وعدم النظر فيما وراء ذلك، فيقطعون الصلة بين المريض وبين ربه حتى في أشدّ حالات الإنسان ضعفًا وفقرًا واحتياجه لعون الله سبحانه، ولا يعني هذا التنكر للأسباب التي وضعها الله في الأدوية، بل إن حديث التداوي يرشد لذلك بصراحة تامة، وهكذا يجتمع في التصور الإِسلامي قوله تعالى {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)} [الشعراء: 80] مع قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء". 3 - وتأتي ثالثًا من رفض الأسباب المعنوية للأمراض، لاسيّما في رفض ما كسبت أيدي الناس، وهو أوسع في مجال النفس، فهناك رفض لما ورد من أسباب صرّح بها الدين عن المرض النفسي لاسيّما الذنوب بكل أشكالها أو الأثر الذي يأتي من قبل السحر والحسد، ومن ثم إنكار العلاج النبوي لهذه الأمراض، لاسيّما: العلاج بالرقية، والدعاء، والصدقة، وغيرها، وذاك يرتبط برفضهم للتصور الديني عن النفس والروح وعلاقة ذلك بالطاعات والمعاصي وعلاقة النفس بالجن وبالابتلاء وبغيرها من الأمور التي جاء الدين بذكرها وبيان الحق فيها، وهذه أمور لا يستطيع البشر إدراك حقيقتها بأدواتهم البشرية، ومن ثمّ فهم في حاجة لمصدر آخر يعرفهم بها. نموذج عن الإشكال التغريبي في هذا الباب: النموذج الأول: يمكن ذكر مثال عن طلب علاج المشكلات النفسية كالقلق، وهي حالة انتابت الإنسان المعاصر، وهي تجد علاجها في الطب النبوي في ظل التصور الإِسلامي القائم على تحقيق الصلة الإيمانية العميقة بالله ¬

_ (¬1) المرجع السابق ص 109.

سبحانه (¬1)، ولكن التيارات التغريبية لا تتحمس لمثل هذا العلاج، وعندما تبحث عن العلاج في العلم الحديث تبالغ هذه التيارات في الاحتفاء بالجوانب اللادينية منه والإلحادية لاسيّما المثال الذي يُذكر هنا: لقد كوّن "غالي شكري" الماركسي خليطًا مميزًا من العلاج النفسي لظاهرة القلق أثناء دراسته لفكر أستاذه "سلامة موسى" يجمع بين التماسه الثناء لمواقف أستاذه سلامة موسى الفرويدية - الدارونية وبين مواقفه الماركسية التي يقدمها كبديل أفضل لمعالجة القلق، فأستاذه يميل لفرويد مع خليط من الدارونية الاجتماعية بينما يذهب "غالي" إلى الماركسية، وبهذا يَعرض هنا رأيين للعلاج النفسي التغريبي بشكل مختصر كما عرضها غالي شكري. يستعرض "غالي شكري" الماركسي علاج القلق من خلال دراسته لسلامة موسى الذي تقلب بين علماء النفس الغربيين، مثل "فرويد" و"بافلوف" و"واطسن"، حيث كان سلامة موسى أول حياته أقرب لفرويد بخلاف تلميذه "غالي" حيث كان لماركسيته متحمسًا لبافلوف (¬2)، وقد "أثبت بافلوف أن "ما يحدد أساسًا شعور الإنسان ليس جهازه العضوي وظروفه البيولوجية، كما يعتقد الماديون السطحيون ورجال التحليل النفسي، بل ما يحدده على عكس ذلك المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان والمعرفة التي يحصل عليها منه، فالظروف الاجتماعية للحياة هي المنظم الحقيقي للحياة العضوية والذهنية". وبذلك أكد بافلوف ما تقوله الماركسية بأنه ليس شعور الناس هو الذي يحدد وجودهم، بل إن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد شعورهم" (¬3). وقد قدم "سلامة موسى" كتابه: "محاولات سيكلوجية" كمحاولة علمية نفسية لدراسة المجتمع وعوامل تغيره، ويقابل في أثناء الدراسة مجتمعًا بعواطف حائرة، كالقلق والخوف، والفراغ، واليأس. ومع معالجات سلامة الفرويدية الدارونية، فإن غالي يحولها للماركسية فيقول: "وعدم الاستقرار النفسي، هو ¬

_ (¬1) انظر: العلاج النفسي لدى ابن القيم، أ. أحمد المطيلي ص 7 وما بعدها من أبحاث ندوة علم النفس، المعهد العالمي للفكر الإِسلامي. (¬2) انظر: سلامة موسى وأزمة الضمير العربي، د. غالي شكري ص 178. (¬3) المرجع السابق ص 179.

الدلالة الأولى لعدم الاستقرار الاقتصادي" (¬1)، فالقلق "الذي اختلفت المدارس النفسية البرجوازية في تفسير نشأته ليس "توترًا غريزيًا" كما يقول فرويد، وليس "ضعفًا عامًا في الجهاز العصبي أو خطأ في التركيب العضوي كاختلال في الأوعية الدموية أو في القلب" كما تقول المدارس السلوكية. إن القلق -كما يرى هندرسون وجيلزيا- "هو خلاصة المواقف الإحباطية" المعوقة، كالحالة الاقتصادية، والفشل في الحب أو الزواج أو العمل، أو أسلوب التربية الخاطئ. والحق أن هذه الأشياء جميعها هي وجوه مختلفة للتكوين الاقتصادي الواحد" (¬2)، فيكون علاجها الماركسي كما هو المعتاد بتبني الماركسية التي تغير هذا الاقتصاد الذي يسبب القلق. أما "سلامة موسى" فيميل لـ"فرويد" أكثر ويجمع معه بعض أصول الدارونية الاجتماعية، فشارك في بعض الهيئات الاجتماعية لمعالجة صور من هذا القلق النابع عن الأزمة الجنسية، ورأى تحت تأثير فرويد تخفيف الفصل بين الجنسين وتيسير الاختلاط، "ففي المجتمع العلمي يعيش الذكور مع الإناث منذ ميلادهم إلى وفاتهم، لا ينفصل جنس عن الآخر؛ لأن هذا الوضع الطبيعي الذي تصرخ به الطبيعة. والمجتمع الذي يعارض الطبيعة مجتمع فاسد. وهو لن يستطيع أن يهزمها؛ لأن الطبيعة ترد اللطمة، فيكون من الانفصال بين الجنسين تلك الشذوذات الجنسية التي شاعت في أمم شرقية عديدة، بل قد يكون الجنون. . . ." (¬3). وكتعليق مختصر لابد من التفريق بين علم النفس الصحيح والنافع والمتطور يومًا بعد يوم على أيدي العلماء وبين المشكلات التي أحاطت به بسبب العلمنة والمادية والإلحاد في البيئة الغربية أو بسبب التغريب في البيئة الإِسلامية، فالمتغربون يتخذون من مشكلات هذا العلم أداة لمهاجمة الدين مباشرة، أو بصورة غير مباشرة بجر المشكلات النفسية هنا إلى مجال علاجي لا علاقة له بالعلاج، مثل ربط المشكلات النفسية بالجنس مع الفرويديين المتغربين. ومن ثمّ الدعوة للاختلاط كما سبق تصور "موسى" للمجتمع العلمي الطبيعي، فإن الشذوذ والقلق هو أكثر وضوحًا في المجتمعات الغربية التي تبنت ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق ص 181. (¬2) المرجع السابق ص 182. (¬3) المرجع السابق ص 183.

هذا العلاج، ومن ذاك العاقل الذي ينكر حجم الشذوذ في بيئات ساد فيها التعري والاختلاط؟ ولهذا يتحول العلاج مع الماركسي شكري إلى علاج اقتصادي، فسبب القلق يعود بحسب الرؤية الماركسية إلى الاقتصاد، ولذا يكون العلاج أيضًا بتغيير طبقي يعالج الوضع الاقتصادي الذي تسبب بهذا المرض، وهكذا ينتقلون من مرض لمرض وهم يحسبون أنهم يتبعون أفضل العلوم الطبية النفسية في معالجة القلق، ومع ذلك لم يظهر أثر نافع لذلك، وقد رأينا شهادات لعلماء النفس المعالجين -مثل يونغ- أن المشكلة ترتبط حقيقة بفقد الدين في المجتمع الحديث. النموذج الثاني: يمثل النموذج الثاني مشكلة عدم التفريق بين الأنواع الثلاثة من العلاج: العلاج النبوي والعلاج العلمي والعلاج السحري، فنقصد بالنبوي ما جاء ذكره في الطب النبوي مرفوعًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والعلاج العلمي ما قام على المنهج العلمي التجريبي التطبيقي، والسحري ما قام على الخرافة والاحتيال والاستعانة بالجن، ويعد كتاب "د. عبد المحسن صالح" "الإنسان الحائر بين العلم والخرافة" من الكتب الجيدة التي تحارب الجانب الخرافي والسحري، وهو أمر من صلب المنهج الإِسلامي الذي شدّد في النهي عن هذا النوع، لاسيّما إذا خالطه السحر، وهو بهذا يدفع المسلم نحو النافع له من علاج ديني أو دنيوي صحيح، ولكن قد يختلط الأمر على بعض من لا يحيط علمًا بالتصور الإِسلامي، وبسبب نفوره من السحر والخرافة يشتط فيقيس ما جاء به الشرع بمثل هذا النوع، ويتعمق عند بعضهم عندما يظن أن ما جاء به الدين هو ما يحصل من مدّعي الولاية من علاجات ينسبونها للدين، مع أن حالهم بعيدة عن ذلك؛ فقد تلبسوا بالبدع والمفاسد التي نهى عنها الدين، فتكون هذه الأحوال مدعاة لشطط آخرين في نبذ العلاج الديني. ففي أثناء حديثه عن التعاويذ المحرمة يدمج معها قضايا هي من الرقية الشرعية الصحيحة، ومن ذلك: "يقوم الطب الخرافي في أحيان كثيرة على تعاويذ وأحجبة، ووضع يد الشيخ المداوي على موقع الجزء المريض مع تمتمة ودعوات قد تكون غير واضحة، ولا مفهومة" (¬1)، ويقول بعد ذلك: "ومن الغريب حقًا أن ¬

_ (¬1) الإنسان الحائر بين العلم والخرافة، د. عبد المحسن صالح ص 78.

كثيرًا من المتعلمين والمثقفين "ودعك من العوام"، لا يزالوا يعتقدون حتى الآن في أن بعض الأمراض النفسية والعصبية تنشأ أساسًا من مس الجن أو العفريت للإنسان، أو أنه يتقمص جسده،. . . ." (¬1)، ومع خلطه بين الرقية الشرعية وغير الشرعية يقع في إشكال آخر، حيث يظهر من كلامه إنكاره للمسّ وأثره في الأمراض النفسية مع ثبوته بنصوص شرعية. وبقدر ما نؤكد منع الإِسلام من التداوي السحري أو الخرافي أو المحرم نثبت ما جاء إثباته في الطب النبوي من أبواب العلاج الشرعية التي دلنا عليها رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم -، والعجيب أن العالم اليوم يعود للأدوية الطبيعية مع أن الطب النبوي قد جاء بالكثير منها (¬2)، ويعودون للشرق الأقصى (¬3) ويتقبلون أدويته بديلًا عن أدوية الحضارة المعقدة ومع ذلك يتركون ما أرشد له الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الصحة وحفظ النفس والعقل وغيرها من أمور الوقاية العلاجية. وبعد، فإن الطب وإن كان من علوم الدنيا إلا أن له أصولًا ترتبط بالتصور الإِسلامي، وما كانت هناك مشكلات في الزمن الماضي حول هذا الباب باستثناء نوعين من التداوي، وهما التداوي بحرام أو التداوي بالسحر، ومع ظاهرة العلمنة للعلوم دخل أثرها إلى الطب أيضًا، ومن ذلك ما دخل باب التداوي من المشكلات تحت مسمى العلمية، وهي غالبًا إما بنفي ما لم يحيطوا به علمًا، من مثل نفي الرقى الشرعية والأدوية النبوية، أو بفتح الباب لأدوية محرمة جديدة تحت مسمى العلمية مثل بعض صور العلاج النفسي. وقد شارك المتغربون في هذا الباب، فصرنا نقرأ ونسمع عن مشكلات الكبت ودورها في العُصاب والعلاج لها يكون بإزالة الكبت بطرق ابتدعوها، وإذا بها في حقيقة أمرها ترتبط بتصور إلحادي. ومن هنا جاء خطر التعامل مع الطب المُعَلْمَن دون جهد في التنقية لاسيّما في باب الطب النفسي. نترك هذا المثال وننتقل إلى مثال جديد من الانحراف التغريبي في باب الشريعة. ¬

_ (¬1) المرجع السابق ص 81. (¬2) انظر: الأسس الإبستمولوجية لتاريخ الطب العربي. رؤية معرفية في تاريخ الحضارات، د. خالد حربي ص 147. (¬3) انظر: في فلسفة الطب ص 46.

الثالث: في باب حكم التعامل بالربا

الثالث: في باب حكم التعامل بالربا: القسم الأول: مدخل: يأتي الاقتصاد كأحد الأبواب التي دخلها العلم الحديث فرتب أوضاعها، وجعل لها شأنًا مهما في العصر الحديث، وأصبح لهذا العلم نظرياته ومذاهبه ومدارسه وعلماؤه ومناهجه، وله كليات وجامعات تهتم به فضلًا عن مراكز البحوث ومعاهدها المهتمة بالشأن الاقتصادي، فضلًا على أن التطورات الحديثة قد وضعت الاقتصاد في قمة الاهتمامات البشرية، وهناك جانب كبير من هذا العلم يدخل في حيز العلم الصحيح والمقبول الذي أبدع فيه الغرب. ولا شك أن في ذلك مكاسب مهمة للبشرية بتحسين وتنظيم أحوالها المادية، لاسيّما مع كل هذه التعقيدات التي صاحبت تغيرات الأحوال المادية في العصر الحديث، ولكن بسبب ارتباط هذا العلم بالتحولات الغربية -لاسيّما من جهة تأسيس الحياة بكل مناشطها بعيدًا عن الدين وأصوله الكبرى- جعلها ذات مشكلات خطيرة، لاسيما للمسلمين الذين يؤسسون حياتهم على أصول دينهم. ومن أخطر المسائل التي ارتبطت بعلم الاقتصاد الحديث إدخال الربا عنصرًا أساسيًا في النظام الاقتصادي (¬1)، وذلك أنهم جعلوا من هذا النظام أشبه بالبناء الذي يعتمد على مكونات لا يستقيم إلا بها، ومن ذلك الربا الذي جعلوه عنصرًا أساسيًا في هذا النظام وأصلًا مهما من أصوله تحت اسم الفائدة، بينما يعد الربا في النظام الإِسلامي أشبه بالتيار الجهنمي الذي يعاكس بالفعل انسياب الخير في الاقتصاد (¬2)، فهي نقلة كبيرة وخطيرة لوضع الربا في تاريخ البشرية، الذي كان في الأساس عملية مرذولة أغلب تاريخها، وارتبط بفئات معينة اشتهر عنها التعامل بالربا لاسيّما اليهود، حتى جاء الاقتصاد الحديث ليقلب الوضع ويدخل هذه المعاملة الخبيثة ضمن المعاملات المحمودة، بل الضرورية للتقدم ¬

_ (¬1) (النظام الاقتصادي هو الهيكل العام الذي تجتمع فيه مقومات الحياة المادية للإنسان، ومن ثم يقال بأن الاقتصاد هو "العلم الذي يدرس سلوك الإنسان في معيشته العادية، أو في شئون معاشه") [وضع الربا في البناء الاقتصادي، د. عيسى عبده ص 53]. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 39.

الاقتصادي، فكيف حدث هذا التحول تحت دعاوى العلمية؟ وما أبعاده في العالم الإِسلامي؟ من بين أهم المداخل التي دخل بها الربا داخل النظام الاقتصادي مدخلًا العلمانية والعلمية، فمن خلال العلمانية تم إقصاء التوجيه الديني عن المناشط الجديدة التي بدأ تأسيسها على العلم، وعندما انفلت العلم الحديث عن الدين انطلق -لأن الدين الذي كان يقيده ليس هو الدين الحق، بل دين محرف- ولكن انطلاقته دون توجيه رباني واعتماده فقط على الوهم بقدرة العلم على تصحيح المسار جعله يشتط في باب المعاملات المحرمة، فأدخلها هذا العلم الجديد ضمن البناء الاقتصادي تحت مسمى العلمية، مما يجعل الاعتراض عليها من باب الاعتراض على العلم. وفي مقابل هذا الشطط الذي أدخل المعاملات المحرمة -لاسيّما الربا- ضمن الاقتصاد جاء تيار آخر أكثر شططًا، فسّر تحت مسمى العلمية أيضًا ظاهرة الربا كظاهرة مرضية خطيرة، ووضع مقترحاته العلمية من أجل نزعها من النظام الاقتصادي. ويُعدّ النظام الاشتراكي لاسيّما في صورته الماركسية أبرز ممثل للتوجه الثاني يقابل في ذلك النظام الرأسمالي الذي يمثل التوجه الأول المدافع عن الربا، ويتكون من هذين النظامين أشهر التوجهات الاقتصادية الحديثة. وفي مقابلهما يظهر النظام الإِسلامي للاقتصاد بخصائصه العظيمة، لاسيّما من جهة ربانيته وشموليته ومرونته (¬1)، ويبقى الجهد كبيرًا وملحًا على علماء المسلمين في إخراجه للعالم، والعجيب أننا بينما نجد في المسلمين من يزهد في النظام الاقتصادي الإِسلامي نجد من الغربيين من يلمح فيه "اقتصادًا فريدًا يمكن للآخرين أن يجدوا فيه شيئًا ثمينًا، ويقول: "إن التصور الإِسلامي للحياة الاقتصادية في غاية التميز، وفي منتهى السمو الأخلاقي، وليس أقل فعالية من أي شيء قدمه الغرب المادي المتهور". ويقول أيضًا: "لو عرف الاقتصاديون الغربيون المزيد عن القرآن، لفهموا قيمة الاقتصاد الإِسلامي" .. يقول ذلك في معرض رده على هنتيغتون. ." (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: خصائص إسلامية في الاقتصاد، د. حسن العناني ص 19 وما بعدها، تقديم د. أحمد النجار. (¬2) الربا والفائدة. دراسة اقتصادية مقارنة، د. رفيق المصري، د. محمد الأبرش ص 10.

ولكن للأسف فقد غلب على الكتابات العربية الجانب الوصفي والنقلي أو التحمس للخيار الرأسمالي أو الاشتراكي، فكانت تتحدث عن النظريات الغربية كما هي؛ أي: عما هو واقع، بينما يواجه الفكر الإِسلامي جهدًا أشق، وهو الكتابة عن الشيء المأمول أو عن الشيء الذي نفقده ونسعى للحصول عليه وفق التصور الإِسلامي (¬1)، ويزداد الأمر صعوبة مع احتكار الغرب دراسة هذا العلم لأكثر من قرنين حيث عبّأه بكل خصائصه وظروف بيئاته هناك، متأثرًا بالظروف الموضوعية والخلفية التاريخية والأخلاقية لتلك الأرض التي نشأ عليها. ورغم تباين الدراسات إلا أنها تصدر عن أصل واحد: الفصل بين النشاط الاقتصادي والأخلاق، فعالم الاقتصاد لا يعنيه أن يكون النشاط أخلاقيًا أو غير أخلاقي، حرامًا أو حلالًا، عدلًا أم ظلمًا، وإنما يعنيه أن يحقق منفعته الآنية حتى ولو كان ذلك على حساب غيره وعلى حساب قيمه وعلى حساب دينه، وبهذا الفصل يتم إبعاد الدين عن التوجيه (¬2). الربا في الفقه الإِسلامي: قبل دراسة صورة تأثير النظريات العلمية الاقتصادية حول الربا في الفكر التغريبي أذكر باختصار تعريف الربا في الفقه الإِسلامي مع الأدلة: قال ابن قدامه في خلاصة مركزة هي خلاصة الفقه الإِسلامي حول الربا: "الربا في اللغة: هو الزيادة. قال الله تعالى: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ}، وقال: {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ}؛ أي: أكثر عددًا، يقال: أربى فلان على فلان، إذا زاد عليه. وهو في الشرع: الزيادة في أشياء مخصوصة. وهو محرم بالكتاب، والسنة، والإجماع؛ أما الكتاب، فقول الله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} وما بعدها من الآيات. وأما السنة، فروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "اجتنبوا السبع الموبقات". قيل: يا رسول الله ما هي؟ قال: "الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا ¬

_ (¬1) انظر: خصائص إسلامية في الاقتصاد، أعدّه د. حسن العناني، وتقديم د. أحمد النجار ص 11. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 12 - 13.

بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات". وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لعن آكل الربا، وموكله، وشاهديه، وكاتبه. متفق عليهما في أخبار سوى هذين كثيرة. وأجمعت الأمة على أن الربا محرم" (¬1). أدلة تحريمه في الكتاب والسنة: ومن تأمل في الآيات والأحاديث الواردة في الربا عَلِم شدّة النهي وأهمية إبعاد الربا عن النظام الاقتصادي الإِسلامي، وعن تعامل المسلم، فما وجد من تشديد فيه قلّ أن يوجد مثله في باب المحرمات، وهذا بعض ما ورد عنه في الكتاب والسنة: اشتمل القرآن على اثنتي عشرة آية في الربا (¬2)، صريحة في الربا وشديدة فيه: قال -تعالى-: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)} [البقرة: 275 - 281]. وقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)} [آل عمران: 130]. ¬

_ (¬1) المغني، ابن قدامة 6/ 51 - 52، وانظر: التعريفات الفقهية وتحليلها عند الدكتور عمر المترك في: الربا والمعاملات المصرفية. . . . ص 37 وما بعدها. (¬2) انظر: النظرية الاقتصادية في الإِسلام. . . .، فكري نعمان ص 225.

وقال -تعالى-: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161)} [النساء: 160 - 161]. وقال -تعالى-: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)} [الروم: 39]. ونختار من الأحاديث النبوية الكثيرة بعضها: فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اجتنبوا السبع الموبقات"، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: "الشرك بالله، والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات" (¬1). وعن جابر قال: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال "هم سواء" (¬2). وعن عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست وثلاثين زنية" (¬3). عودة العناية بموضوع الربا وفوائده: ومن أهم الصور التي تطغى على التعاملات الاقتصادية هي القرض بفائدة، وهي صورة بارزة في النظام المصرفي الحديث وتقوم عليها كثير من التجارات المعاصرة، فمن يحصل على قرض يُردّ بفائدة غالبًا ما تكون محددة بنسبة معينة فـ"الفائدة هي الزيادة "في رأس مال القرض" في مقابل الزمن" (¬4). ولهذا السبب ¬

_ (¬1) متفقٌ عليه، البخاري برقم (2766) كتاب الوصايا، باب قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)}، ومسلم برقم (145) من كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها. (¬2) مسلم، برقم (1598) من كتاب المساقاة، باب لعن آكل الربا ومؤكله. (¬3) رواه أحمد، 36/ 288 طبعة بإشراف د. عبد الله التركي، وقال المحققون: إنه ضعيف مرفوعًا ويصح موقوفًا على كعب الأحبار، وصححه الألباني في غاية المرام برقم (172) ص 127، حيث قال إن له حكم المرفوع فمثل هذا لا يقال بالرأي، وصححه في السلسلة الصحيحة برقم (1033). (¬4) الربا والفائدة. دراسة اقتصادية مقارنة، د. رفيق المصري ص 18.

أخذ موضوع الفائدة الربوية مساحة كبيرة داخل الفكر الاقتصادي العربي المعاصر، وكما يقول مفكر اقتصادي: "فإن الفائدة والربا من أكثر المسائل تعرضًا للجدل في الدين والاقتصاد، حتى يومنا هذا"، وقد ظهر النقاش أول الأمر مع ظهور البنوك، ثم عاد النقاش مع التحول الصحي المهم نحو البنوك الإِسلامية (¬1)، لهذا فتح الفكر الإِسلامي باب الحديث عن الفائدة الربوية نقدًا ونقاشًا مهمًا، وفي ذلك يقول مفكر اقتصادي: "ومما يزيد في أهمية الموضوع أن الاقتصاد الإِسلامي أول ما بدأ إنما بدأ بمسألة الفائدة والربا والمصارف" (¬2). [أصل منهجي في هذا الباب]: ليست مشكلة الربا من عدم مطابقته لمعادلات رياضية صحيحة أو من عدم استجابته لبعض الخصائص البشرية، فإنه قد يقع الصواب الرياضي والتوافق مع بعض الخصائص النفسية ومع ذلك فهذا لا يعني صوابها الشراعي إلا إذا تطابقت مع الأمر الشرعي؛ أي: أن ما يكون واقعًا قد لا يصح شرعًا، وهي مسألة في غاية الأهمية، فقد يظهر في البحوث العلمية سلامة أمر من بعض مجالاته من جهة مادية، ثم لا تصح من جهة الشرع؛ لتعلقات أخرى بالموضوع. وقد وقع الإشكال في هذا الباب بعد فصل العلوم عن الدين، ومن ذلك ما يرد في الدراسات الاقتصادية، فهو علم يركز على الثروة ورأس المال (¬3)، وكيفية تنميتها ومن ثم إدخال الرفاه على الناس، وقد يصل إلى طرق سريعة في تنمية الثروة، وهنا لا تكذيب بسرعتها في تنمية الثروة ولكنه قد لا يصح في الشرع، كما هو مثلًا في موضوع الربا، فمن يشكك في كونه طريقًا سريعًا للثروة! وهي ثروة لفئة محدودة لئيمة الطباع، ترضى بسرقة جهد الآخرين، ومن هنا جاء خطورة إغفاله من جانب العلاقة الإنسانية والعلاقة بالقيم والعلاقة بالتماسك الاجتماعي التي رعاها الشرع، فليس الأمر فقط تنمية ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق ص 18. (¬2) المرجع السابق ص 17. (¬3) الثروة ورأس المال: الثروة أعم من رأس المال، فالثروة في الفكر الاقتصادي المعاصر: مجموع ما تحت يد الأفراد والمجتمع من قيم الاستعمال. بينما رأس المال ذلك الجزء من الثروة الذي يشارك إيجابيًا في العملية الإنتاجية. انظر: الإِسلام والاقتصاد. . . .، د. عبد الهادي النجار ص 96. وانظر: النظرية الاقتصادية في الإِسلام. . . .، فكري نعمان ص 220.

ثروة، وإنما ما أثرها على هذا الإنسان؟ فتنمية المال والثروة أمر مرغوب فيه ويقوم الدين بوضع الأصول الموجهة لهذا الباب، إلا أنه يعد الربا واحدًا من أخطر صور الانحراف بالمال التي جاء بمنعها وتحريمها. وغالبًا ما يكون مثل هذا الباب -الذي يختلط فيه الأمر بين النفع السريع ولو لطائفة من جانب والفساد من جانب- مدار إشكال وموضع اختلاف، ولكن هذا الباب قد جاء الشرع فيه بالمنع الصريح مما يرفع الالتباس ويقطع الاختلاف. عندما تكون للمعاملة المالية ثمرة قد تظهر للبعض ومع ذلك يأتي الشرع بتحريمها، فهذا يعني أن تطبيقاتها المادية أو معادلاتها الرياضية قد تحقق الثروة السريعة ولكن علاقتها بالإنسان غير صحيحة، ومن هنا جاء التحريم، ومع ذلك فإننا لا نجد مثل هذا التحريم إلا وعثر على البديل الصحيح الحلال، ولا يشترط أن يكون في سرعة المحرم في الوصول للنتائج ولكنه الأسلم، ولذا لا يصح أن تُلبِّس علينا مفاهيم العلمية التي تُصبَغ على القضايا العملية؛ لأنه لا يكفي في مثل هذه المسائل الصحة التطبيقية، بل لابد من صحة قيمية يصبغها الشرع عليها. وغالبا يأتي التحمس لهذه المحرمات من قبل أصحاب المصالح، ومن ذلك تحمس المستغلِين لعلمية الربا في نمو الثروات وتقدم المجتمعات، وقد ظهر في الفكر الغربي من عارض المفهوم الرأسمالي للربا مثل الاشتراكية، وقامت تجربة دنيوية ناجحة، وهي تدعي أيضًا العلمية، ولكنها بنفس إشكال الرأسمالية، فقد تصح منها جوانب تطبيقية وتبقى من الناحية الشرعية محرمة، ومع ذلك فهي تكشف الإمكانيات المتنوعة في تنمية الثروة، مع أنها جميعًا لا ترقى للجائز شرعًا. أضرار الربا خصوصًا والاقتصاد العلماني عمومًا: للاقتصاد العلماني أضرار تخفى على الكثير، فتقدم الغرب يؤثر فيهم فلا يرون السلبيات التي يحتوي عليها هذا النظام، لاسيّما حجم ما ملأ به عالمنا من الربا (¬1)، ولاسيّما أنه يتطور وينمو داخل الحقل العلمي مما يضفي عليه طابع الفتنة، بينما الغرب بقدر تقدمه المادي يشعر بمشكلات الربا وآثارها على ¬

_ (¬1) انظر: الربا والفائدة. دراسة اقتصادية مقارنة، د. رفيق المصري ص 17.

المجتمع، ويقوم بجهود تصحيحية ويعمل بإمكانيات ضخمة لتلافي الأضرار، ويسن تشريعات مضادة أو يوجد أوضاع جانبية تمتص المشكلات الناتجة عن الربا وتضع مسكنات لامتصاص تلك الآثار (¬1)، وهنا تذكير بطرف من هذه الأضرار: يصعب ذكر ما كتبه المفكرون الاقتصاديون المسلمون عن هذه الأضرار، فهي كثيرة ومخيفة، ويكفي هنا التنبيه على صورتها الإجمالية وبعض مراجعها العلمية، فمن هذه الأضرار على الأمة: تأخرها وهو عكس ما يروج له المدافعون عن نظام الربا، والغلاء والانحرافات المالية، وتعطيل المواهب الناشئة، وتجميع المال في أيدي الأنانيين (¬2)، ويقوم النظام المصرفي والاقتصاد الربوي المعاصر بإفساد الجميع، المقرض والمقترض (¬3)، ولعل هذا من أسباب اللعن الذي ورد في الحديث الصحيح للطرفين ومن معهما، فقد لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء" (¬4)، ولا يشك المسلم بأن له آثارًا عظيمة يكفي في الدلالة عليها مثل هذا النهي الشديد الذي يقل نظيره في باب المنهيات الشرعية. وقد عقد "محمد رامز" فصلًا مهمًا لأضرار الربا الخُلُقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ولكل فقرة مبحث عن أضرارها (¬5). ومن أسوأ آثار النظام المعتمد على الربا "خلق اقتصاد مثقل بالديون، ذلك أن المنظمين والحكومة وعددًا كبيرًا من المستهلكين يكونون مكبلين بالدين الذي يترتب في ذمتهم للممولين، ولذلك آثار اقتصادية واجتماعية ونفسية وسياسية هامة يتعين أن تؤخذ في الحسبان" (¬6)، فهذا النظام يلتهم الناس ليدخلهم في طاحونة ¬

_ (¬1) انظر: وضع الربا في البناء الاقتصادي، د. عيسى عبده ص 142. (¬2) انظر: المعاملات المصرفية الربوية وعلاجها في الإِسلام، نور الدين عتر ص 43 وما بعدها. (¬3) انظر: الإِسلام والربا، أنور قرشي ص 201 وما بعدها. (¬4) سبق تخريجه. (¬5) انظر: الحكم الشرعي. . . .، د. محمَّد رامز ص 117 - 122، وانظر: الربا والمعاملات المصرفية. . . .، د. عمر المترك ص 166 وما بعدها، وانظر: وضع الربا في البناء الاقتصادي، د. عيسى عبده ص 90 وما بعدها. (¬6) انظر: الدين والاقتصاد، مجموعة مؤلفين ص 68 - 70.

القسم الثاني: الإطار الاجتماعي العام للتحول الاقتصادي الغربي

الديون التي لا تنتهي (¬1)، فمع الربا أصبحت "الديون في عصرنا من المشكلات، بل من المعضلات. . . . يقول موريس آليه: "يقوم الاقتصاد العالمي برمته على أهرامات هائلة من الديون، يعتمد بعضها على بعض في توازن هش. . . . إن جميع الأزمات الكبرى في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، ناشئة من الزيادة المفرطة في الائتمان ووعود الدفع. . . . وليس هناك أي سابقة في الماضي لوحظ فيها مثل هذا التزايد الطائش في الائتمان والاستدانة"" (¬2). وقد رصد الدكتور رمزي زكي في عدد من دراساته حجم الغرق الذي يتخبط فيه العالم العربي من جراء ديون الفوائد الربوية، وإن جزءًا مما ذكره ليكفي للاعتبار بحجم مضار هذا الوباء الاقتصادي، ففيه من الأرقام المهولة مع قلة الثمرة وتوسع المخاطر ما هو أوضح دليل على خطورة الربا (¬3). القسم الثاني: الإطار الاجتماعي العام للتحول الاقتصادي الغربي: انطلقت نظريات الفائدة من أوروبا وقد جاء ذلك بعد تحول كبير وخطير نحو العلمنة، فمع الأوضاع السيئة للكنيسة بمشاركتها مفاسد الواقع الأوروبي، فهي -وإن حرمت الربا- فقد ساندت نظام الإقطاع بكل ما فيه من مساوئ (¬4)، إلا أن ميول الكثير من الناس الوحشية الأنانية كانت تتوارى خلف ستار الكبح بقوة الدِين، ولكن الحدث الأوروبي المشهور في التحول العلماني قد أبعد الدين عن ممارسة تأثيره، ومع انحسار قوة الدين جاء الاعتراف بهذه الغرائز الجامحة عند الإنسان، وتمّ إعطاؤها المبررات العلمية للانطلاق، فتحرك الناس في دنياهم بقوى الأنانية، ومن ذلك الانفتاح على الربا بعد أن وجد تبريره الاقتصادي تحت مسمى الفائدة، ولو حدثت أي فرصة لتراخي القانون أو إمكانية التحايل عليه لما أمكن السيطرة على معدلات الفائدة (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: الإِسلام والربا، أنور قرشي ص 201 وما بعدها. (¬2) الربا والفائدة. دراسة اقتصادية مقارنة، د. رفيق المصري ص 46. (¬3) انظر مثلًا: الاقتصاد العربي تحت الحصار. . . .، د. رمزي زكي. (¬4) انظر حول الكنيسة والنظام الإقطاعي: النظرية الاقتصادية في الإِسلام. . . .، فكري نعمان ص 50 - 54، وانظر: العلمانية. . . .، سفر الحوالي ص 260 - 268، وانظر: جاهلية القرن العشرين، محمَّد قطب ص 155. (¬5) مستفاد من الإِسلام والربا، أنور القرشي ص 34.

اختلافاتهم حول الفائدة: ومن بين أول المشاكل التي تواجه الاقتصاديين الغربيين المتحمسين للفائدة الاتفاق على نظرية حولها، وقد ذكر باحث غربي: "إن نظرية الفائدة كانت منذ أمد بعيد، وما تزال، نقطة ضعف في علم الاقتصاد، وإن تبرير معدل للفائدة وتحديده ما يزالان يثيران الاعتراض بين الاقتصاديين، أكثر من أي فرع آخر من فروع النظرية الاقتصادية العامة" (¬1)، وعلق "أنور قرشي": "برغم وفرة المؤلفات بين أيدينا، فليس ثمة نظرية تحظى بتقبل عام أو كاف عن الفائدة، نظرية تستطيع أن تبرر منشأ أو أسباب "الفائدة" ومعدل الفائدة" (¬2)، ولا شك أن هذا الاضطراب يبعدها عن العلمية من جهة كما أنه يفتح الباب للربا المجنون من جهة أخرى. بدأت نظريات الفائدة مع التجاريين الأوائل الذين دافعوا عن معدل فائدة منخفض من أجل تشجيع التجارة (¬3)، ثم جاءت التحولات الكبيرة في الوضع الاقتصادي الغربي التي ظهر معها علم الاقتصاد الحديث المعلمن، وتعد النظرية الاقتصادية الكلاسيكية هي أبرز مدرسة اقتصادية صاغت "مصير علم الاقتصاد" الحديث (¬4). وفي كتب الاقتصاد نظريات عديدة للفائدة، ومن النظريات التي تبرر لمشروعية الفائدة: نظرية المخاطرة، والتثمين، والاستعمال، وإنتاجية رأس المال، والزمن، والتفضيل الزمني، والسيولة، وأجر الادخار، والعمل المتراكم، والندرة، والتأمين (¬5). علق "رفيق المصري" فقال: "استطاعت نظريات الفائدة، في مجملها، أن ¬

_ (¬1) الإِسلام والربا، أنور قرشي ص 25 - 26، ترجمة فاروق حلمي، وانظر: مدخل للفكر الاقتصادي في الإِسلام، د. سعيد مرطان ص 200. (¬2) المرجع السابق، قرشي ص 26. (¬3) انظر: المرجع السابق، قرشي ص 35. (¬4) انظر: المرجع السابق، قرشي ص 37. (¬5) انظر: الربا والفائدة. دراسة اقتصادية مقارنة، د. رفيق المصري ص 64 - 74، فقد عرف بها بلغة سهلة. وفي نفس الكتاب عرض آخر لـ د. محمَّد الأبرش، 161 - 171، وانظر: الإِسلام والربا، أنور قرشي ص 43 - 73، وانظر: النظرية الاقتصادية في الإِسلام. . . .، فكري نعمان ص 221 وما بعدها.

تبرر عائدًا لرأس المال، ولكنها لم تستطع أن تبرر هذا الشكل المخصوص: الفائدة. فلماذا لا يكون الشكل المبرر حصة من الربح؟ هذا ما لم تجب عنه هذه النظريات. إن هذه النظريات تصلح لمواجهة الاشتراكية التي حرمت على رأس المال الفائدة والربح، ولا تصلح لمواجهة الإِسلام الذي حرم الفائدة في القرض، وأجازها في البيع الآجل. . . ." (¬1). المعترضون على الفائدة: من أشهر صور النقد الموجهة لها جاءت من اقتصادي غربي مشهور "كينز" الذي "وضع الألغام من تحت أسس التعامل بالفائدة" (¬2)، ولا شك بوجود أصوات غربية تكشف مشكلة الفائدة الربوية، وتنتقده بشدة، وتكشف في تحليلاتها عن ربًا فاحش وتجارة بالعرض وبحياة الآخرين، وقد تعرّض من قام بذلك النقد لإقصاء من قبل المرابين الذين يتحكمون بالحياة في الغرب (¬3)، "وإنه مما يدعو إلى الأسف أن يقول اللورد "كينز" وغيره بما قدمت أمثلة قليلة منه، ثم نجد من بعض المتخصصين عندنا من ينادي بتفكيك الحكم الإِسلامي وتوهينه، لعله يتسع لمعاملات مرذولة، يقال بأنها نموذج العصر الحاضر للنشاط المثمر" (¬4). المصارف الربوية: أكبر من يقوم على الربا في هذه الأزمان هي المصارف، تحت مسمى القروض بالفائدة، وقد نشأت في أوروبا بعد ما حدث من توافق بين أصحاب المهن التالية "الصيارفة، الصاغة، التجار والمرابون" في أوروبا، وقد نشأ مع هذا الثلاثي الربا المنظم بطرق تناسب كلًّا بوضعه، ثم توحدت في المصرف أو ¬

_ (¬1) انظر: الربا والفائدة. دراسة اقتصادية مقارنة، د. رفيق المصري ص 75، 76. (¬2) انظر: وضع الربا في البناء الاقتصادي، د. عيسى عبده ص 183 وما بعدها، وانظر: الإِسلام والربا، أنور قرشي ص 40 - 43، وانظر: النظرية الاقتصادية في الإِسلام. . . .، فكري نعمان ص 231 - 234، 237، وانظر: مدخل للفكر الاقتصادي في الإِسلام، د. سعيد مرطان ص 202 وما بعدها. (¬3) انظر: وضع الربا في البناء الاقتصادي، د. عيسى عبده ص 67 وما بعدها، وانظر: الربا والفائدة. دراسة اقتصادية مقارنة، د. رفيق المصري ص 42. (¬4) انظر: المرجع السابق، عبده ص 190.

البنك (¬1)، وقد أصبح لهذه المصارف عدد من المعاملات المهمة في حياة الناس (¬2) ولكن أخطر ما فيها أنها احتفظت بمعاملة الربا، وأهمها وهو أخطرها "القروض" لقاء فائدة، وقد يكون عملها الأساسي (¬3)، وقد تحايلت المصارف في بلاد المسلمين على التحريم بتسمية الربا بغير اسمه، فأسموه فائدة وذلك بعد افتتاح أول بنك في البلاد العربية (¬4)، وهذه الفوائد قد وقع في إجازتها بعض الاقتصاديين (¬5) بل بعض المنتسبين للفقه الإِسلامي (¬6). الفائدة - الربا وحقيقة التقدم: يفرق بعض المسلمين بين الفائدة والربا، ويقولون تحت ضغط الحضارة الغربية: إن ما يحرمه الإِسلام الربا وليس الفائدة، وذلك تبعًا لما يقوله الغربيون، ففي معجم أكسفورد يُعرف الربا بأنه "مزاولة إقراض المال بمعدلات فائدة فادحة، وخاصة بفائدة أعلى من المسموح بها قانونًا"، وتبقى مشكلته عدم وجود معيار موضوعي للتفريق بين الفادح وغيره (¬7)، وبعد دراسة اقتصادية مطولة لقرشي وصل إلى أنه لا فرق بين الفائدة والربا، ومن ثم فكل ما تجاوز الصفر للفائدة فهو من الربا (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: الحكم الشرعي للاستثمارات والخدمات المصرفية التي تقوم بها البنوك الإِسلامية، محمّد رامز ص 99 - 101. (¬2) مثل: الودائع والحساب الجاري، والقروض، والاعتماد، وخطاب الضمان، والاستثمار، وغيرها، انظر: الإِسلام والاقتصاد. . . .، د. عبد الهادي النجار ص 104 وما بعدها، وانظر: المرجع السابق، رامز ص 105 وما بعدها. (¬3) انظر: الربا والفائدة. دراسة اقتصادية مقارنة، د. رفيق المصري ص 48. (¬4) انظر: المرجع السابق، رامز ص 110 وما بعدها، وانظر: الربا والفائدة. دراسة اقتصادية مقارنة، د. رفيق المصري ص 56 وما بعدها. (¬5) قارن المرجع السابق، النجار ص 107 مع الرد عليها. (¬6) انظر مثلًا: العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب ص 52 ص 259، وانظر: الشبه مع إبطالها في: الربا والمعاملات المصرفية. . . .، د. عمر المترك ص 192 - 214، وفي البنوك الإِسلامية بين النظرية والتطبيق، د. عبد الله الطيار ص 80 وما بعدها، وانظر: النظرية الاقتصادية في الإِسلام. . . .، فكري نعمان ص 236 وما بعدها. (¬7) انظر: الإِسلام والربا، أنور قرشي ص 140. (¬8) انظر: المرجع السابق ص 140 - 160.

القسم الثالث: الأصول النظرية العلمية للاقتصاد الحديث

وقد أضاف هؤلاء الذين لا يفرقون بين الربا والفائدة محمدة للفائدة لا تستحقها؛ حيث جعلوها شرط التقدم الاقتصادي، فيحذر القرشي من هذا الانهزام الناتج عن ضخامة المد الرأسمالي فـ "مع وجود الاكتساح الاقتصادي الرأسمالي، يصبح من روح العصر "المودة" الاعتقاد بأن المجتمع الحديث لا يمكن أن تقوم له قائمة بدون الـ "فائدة"، وأن الإِسلام أيضًا لم يحرم الفائدة، بل حرم "الربا" فحسب" (¬1)، صحيح إن الغرب في الظاهر قد خفف من الربا الفاحش بطريقة الفائدة، ومع ذلك فهي في حقيقتها استمرار لصورة الربا، أيضًا من "المهم الانتباه لمسألة: أن أسلوب المعاملة بالفوائد لم يكن من عوامل التقدم المادي، وهذه تفرقة مهمة؛ لأن أخطر الأخطاء التي يمكن الوقوع فيها هو القول بأن مشروعية الفائدة وإصدار التشريعات المنظمة لها. . . . قد كان من عوامل التقدم الصناعي والتجاري. . . . أو كان من أسباب تحقيق الرفاهية الاقتصادية للبلاد المتقدمة في الصناعة. . . . هذا خطأ لا يغتفر، إذ للتقدم أسباب ثابتة. ومن أهمها التحكم في الطاقة، وجمع الطاقة إلى الحديد فيما يعرف بالآلة والأداة الآلية،. . . . ولا تقع المعاملات بالفائدة في نطاق هذه المجموعة المميزة من عوامل التقدم. ." (¬2). القسم الثالث: الأصول النظرية العلمية للاقتصاد الحديث: يوجد إطار نظري لعلمية الربا المزعومة نقف هنا مع بعض أصولها، فمع التحولات العلمية وما صاحبها من تقدم دنيوي بارز ظهرت -في ظل النظام الرأسمالي البشع- "نظريات "علمية! " تقول: إن الاقتصاد له قوانينه الخاصة .. قوانينه الحتمية التي لا علاقة لها بالأخلاق .. بل لا علاقة لها "بالناس" على الإطلاق" (¬3). ويلخص لنا الباحث الإِسلامي "فكري نعمان" الأصل النظري العلمي لهذا التوجه الاقتصادي الجديد فيقول: "منذ بدء الدراسة العلمية للاقتصاد ساد في مجال الدراسات الاقتصادية فكرتان وضعهما رواد الاقتصاد الكلاسيكي. ¬

_ (¬1) المرجع السابق ص 26، وانظر: الإِسلام والاقتصاد .. ، د. عبد الهادي النجار ص 99. (¬2) المرجع السابق، عبده ص 143 - 144 بشيء من الاختصار. (¬3) جاهلية القرن العشرين، محمَّد قطب ص 156.

الأولى: أن الحياة الاقتصادية تسير وفقًا لقوانين طبيعية محددة تسيطر على الكيان الاقتصادي للمجتمع، وواجب العلماء تجاه تلك القوى المسيطرة على الحياة الاقتصادية هو تتبعها بالبحث والتقصي والدراسة بهدف استكشاف قوانينها العامة وقواعدها الأساسية. الثانية: أن تلك القوانين الطبيعية كفيلة بضمان السعادة للبشرية إذا عملت في جو "حر" وتيسر لجميع أفراد المجتمع التمتع بالحريات الرأسمالية. وقد نشأ عن الفكرة الأولى: البذرة العلمية للاقتصاد الرأسمالي ووضعت الفكرة الثانية بذرته المذهبية. وهكذا قدم الليبراليون نظامهم مدعين أنه ليس من اكتشافهم أو اختراعهم، بل هو نظام قائم على قوانين الطبيعة الكفيلة برخاء الإنسانية؛ فكل تدخل من جانب الإنسان في هذا القانون هو جريمة في حق القوانين الطبيعية العادلة" (¬1). ويربط "صادق العظم" بين المادية الميكانيكية المبنية على فيزياء "نيوتن"، وبين التوجه الجديد للاقتصاد مع "سميث"، فقد وضع العظم مدخلًا للتصور العلمي - المادي للكون وتطوره، ليحولها إلى مادية ميكانيكية قاسية امتدت بظلالها لكثير من العلوم، ومن ذلك علم الاقتصاد، فيقول: "أما في مجال النشاط الاقتصادي فتصبح الوحدة البسيطة "الإنسان الاقتصادي" "كما سماها آدم سميث"، الذي يتحرك دومًا وبصورة أوتوماتيكية بدافع زيادة أرباحه إلى أقصى حد ممكن وخفض خسائره إلى أدنى حد ممكن. ويتركب النشاط الاقتصادي العام للمجتمع من مجموع التأثيرات المتبادلة بين "الذرات الإنسانية الاقتصادية" وفقًا لحركتها الآلية، وذلك ضمن مجال السوق الحرة بخصائصها وقوانينها الثابتة" (¬2). وسبب الدور الذي أُعطي للقوانين الطبيعية أنه بعد تحول الغرب نحو العلمانية بحث عن مصدر جديد كلي مكان الدين فكان الطبيعة، وقد أصبح لها ¬

_ (¬1) النظرية الاقتصادية في الإِسلام. . . .، فكري نعمان ص 56 - 57. (¬2) نقد الفكر الديني، د. صادق العظم، 134 - 135، وانظر: تاريخ الفكر الاقتصادي. . . .، د. محسن كاظم ص 127، وانظر: العلمانية. . . .، سفر الحوالي ص 273.

جرس خاص عند أغلب المفكرين الجدد، وامتدت إلى الاقتصاد (¬1)، يقول باحث غربي: "وصار لزامًا على الذين نبذوا الإيمان بالله كلية أن يبحثوا عن بديل لذلك، ووجدوه في الطبيعة، أما الذين ظلوا على استمساكهم بالدين ولو باللسان -وإن لم يكن في الواقع كما هو أغلبهم- فقد اعتقدوا أن الله يعبر عن إرادته عن طريق الطبيعة وقوانينها، وليس بوسيلة مباشرة، وبذلك لم تعد الطبيعة مجرد شيء له وجود فحسب، وإنما هو شيء ينبغي أن يطاع، وصارت مخالفتها دليلًا على نقص في التقوى والأخلاق" (¬2)، فأُطلق على رواد علم الاقتصاد الحديث اسم الطبيعيين، وتحول إلى نظام له اسمه ومفاهيمه، ويمكن تسميته بالاقتصاد الطبيعي. ويمكن "اعتبار الأفكار الاقتصادية للطبيعيين مشتقة من نظام أعم وأكثر شمولًا، ألا وهو النظام الطبيعي. . . . وبعبارة أخرى تعتمد الأفكار الاقتصادية الطبيعية على نظرة الطبيعيين للعالم. . . . فلقد اعتقد الطبيعيون أن العالم محكوم بقوانين عامة وثابتة لا تتغير، وأن هذه القوانين لا تقتصر على العالم الطبيعي فحسب، بل وتشمل المجتمع الإنساني أيضًا. وما وظيفة العالم سواء في المجال الطبيعي أم الاجتماعي إلا السعي لاكتشاف هذه القوانين الأزلية حتى يتسنى ضمان التوافق والانسجام بين هذه القوانين والنشاط الإنساني في جميع صوره وأشكاله. وأكد الطبيعيون أن البؤس الاجتماعي واستحواذ الفقر في زمانهم إنما يعود إلى التباين الكبير بين القوانين الوضعية ومقتضيات النظام الطبيعي" (¬3). وقد قامت لهم تصورات اقتصادية تبعًا لهذا التصور، ومن ذلك مبدأ الحرية الاقتصادية التي تتوافق مع القوانين الطبيعية في نظرهم، وستتوسع هذه الحرية لتقتحم مجال الربا المحرم دينيًا، إلا أن الحلال والحرام لا مكان له في النظام العلماني القائم على الطبيعة وقوانينها، فالمهم في العلمانية أن يكون النظام الاقتصادي علميًا بزعمهم من وجهة اقتصادية وقانونيًا من جهة اجتماعية. وقد اتصل "آدم سميث" الشخصية الأبرز في الاقتصاد الحديث بهؤلاء الطبيعيين ¬

_ (¬1) انظر: العلمانية. . . .، سفر الحوالي ص 269 وما بعدها. (¬2) هو جورج سول في كتابه "المذاهب الاقتصادية الكبرى" ص 51، عن المرجع السابق ص 272. (¬3) تاريخ الفكر الاقتصادي. . . .، د. محسن كاظم ص 80.

وبالبيئة العلمية الجديدة القائمة على البحث عن قوانين طبيعية لكل شيء (¬1) فأسس لعلم الاقتصاد الحديث وجعله متماشيًا مع هذه الحرية والعلمية الطبيعية، وقد بلغ الانسياق مع العلمية الطبيعية الحتمية حدًا متطرفًا في عدم أخلاقيتها مع "مالتس" الذي يرى أن هذه القوانين الطبيعية الحتمية تؤدي للتفاوت الطبقي، وينتج عنها أن الفاقة والبؤس هما النصيب الحتمي للغالبية العظمى من الشعب، "وأن كل محاولة للتخفيف عن كاهل الطبقة المعدمة بصرف النظر عن دوافعها الإنسانية النبيلة لابد وأن تؤدي في النهاية إلى زيادة بؤس وفاقة الطبقة العاملة. وعليه فالإنسان المستنير بحسب رأي "مالتس" يجب أن يشجب إعادة توزيع الثروة وغيرها من السبل الرامية لتحسين أوضاع الطبقات الفقيرة، كما يجب أن يسفه هؤلاء المصلحين السذج الذين لو أخذ المجتمع بآرائهم المبنية على الخيال لا الواقع لازداد بؤسًا وتعاسة" (¬2). نموذجان للانحراف في باب التعامل بالربا: النموذج الأول: الرأسمالي: نجد دفاعًا قويًا عن الفائدة عند عدد من الاقتصاديين، ويربطون مصير التقدم الاقتصادي بالربا، فمثلًا الدكتور "سعيد النجار" الذي يرى أن سعر الفائدة يؤدي وظيفة حيوية، وأن إلغاءها بدعوى اندراجها في الربا، يعود بأوخم العواقب وأفدح الأضرار على الأمة الإِسلامية، وأن سعر الفائدة هو الجهاز العصبي للنظام المصرفي، وأن السير لإلغائها قد يكون نهاية الاقتصاد المصري (¬3). وقد علق عليه د. رفيق المصري فقال: "إن الذين قالوا بأن علينا أن نقبل الحضارة الغربية بخيرها وشرها، وحلوها ومرها، أرى قولهم مقبولًا في حالة واحدة: عندما تستغلق على مفكرينا وقادتنا أي قدرة على التمييز، فننضم إلى القافلة، فإذا تقدموا تقدمنا معهم، وإذا سقطوا سقطنا. إن الدكتور النجار يبدو لي أنه، ككثيرين غيره، قد يقبل الابتكار، لكن من جهة الرأسماليين، لا من جهة المسلمين، وهو عالم، ولكنه مقلد "للمذهب ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق، د. محسن كاظم ص 128 - 129. (¬2) المرجع السابق، د. محسن كاظم ص 171. (¬3) انظر: الربا والفائدة. دراسة اقتصادية مقارنة، د. رفيق المصري ص 30 - 31.

الرأسمالي" غير مجتهد فيه، ولا في غيره" (¬1). ومن بين المتحمسين للفائدة الربوية نجد الدكتور "محمَّد الأبرش"، عادًّا إياها شرطًا للاقتصاد الحديث مع اتفاقه مع من يحرم الربا على التحريم لكنه يخصه بربا النسيئة الذي يكون أضعافًا مضاعفة، ويرفض دخول الفائدة المقننة تحت مسمى الربا، وهو في كل ذلك يزعم لموقفه الالتزام بالعلمية الحديثة ومبادئها. تظهر هذه العلمية ابتداء في المنهجية التي ينظر بها ومنها للاقتصاد، فيفرق بين أصحاب منهجيتين، بين مَنْ مصدره الدين، الذي يحب أن ينظر إلى الحياة والعالم -بما في ذلك الاقتصاد- كعلم اجتماعي وسياسي تابع للدين، ويساوي من جعل منهجه الدين مثل من جعل منهجه الماركسية، كلاهما في نظره سواء أصحاب نظرة شمولية، بينما الرأسمالي كأنه "المفكر المستقل الموضوعي النزعة الذي يقوده العلم الحديث والأخلاق الإنسانية"، فالمتدين يُخلط بالماركسي، وهما غير مستقلَين وغير علميين وبعيدان عن الأخلاق الإنسانية "يفتقرون إلى الموضوعية، متحيزون في نظرتهم بحكم عقائدهم وإيمانهم بصحة ما يقولون، اجتماعيون سياسيون أو متسيسون في توجهاتهم، أنصار فكر شمولي مرجعي يؤولونه على طريقتهم، وبما ينسجم مع تصوراتهم المتشددة. . . ."، بخلاف الرأسمالي الذي يفتح الباب للاستغلال والتجارات المحرمة القائمة على الغرر والغش والغبن فيُعَد عند هذا المفكر علميًا وموضوعيًا وأخلاقيًا (¬2) بينما تعد الرأسمالية غير أخلاقية عند كل عاقل (¬3). إن هذه النظرة محكومة بأيديولوجيا علمانية شديدة لا تقدر المرجعية الدينية، ولا تنتبه لشمولية الدين، وإلا كيف يقارن من مرجعيته الإِسلام بمن مرجعيته الماركسية، كما أن ما يقوله حول علمية المفكر العلماني وموضوعيته وأخلاقيته من الأمور المبالغ فيها، وفي المقابل اتهام من جعل النور مصدره بالافتقار للموضوعية والعلمية وهذا من أعجب ما نسمع ونقرأ، قطعًا هذه حملة ¬

_ (¬1) الربا والفائدة. دراسة اقتصادية مقارنة، د. رفيق المصري ص 33. (¬2) انظر: الربا والفائدة. دراسة اقتصادية مقارنة، د. محمد الأبرش ص 95. (¬3) انظر: العلمانية. . . .، سفر الحوالي ص 274.

كلامية مزيفة عن مدح المنهجية العلمانية -الرأسمالية- وذم المنهجية الإسلامية، وهذه المنهجية أوصلته إلى قوله الآتي: "ومع ذلك، وعلى كل، وبدون تحيز لأحد، فأنا أومن كاقتصادي مفكر -وهذا ليس محاولة لتطويع الاقتصاد أو الإسلام لبعضهما البعض, لأني أومن أن كلًا من علم الاقتصاد المعاصر أو الإسلام مجالان مختلفان ولكنهما يمكن أن يكونا متلازمين وغير متعارضين في نفس أي اقتصادي مسلم- أن الفائدة غير الربا من حيث اللغة والمفهوم" (¬1)، "ولهذا ما زلنا نقول: إن الربا حرام وإن الفائدة بالمفهوم الحديث لا علاقة لها بالربا لا كمبدأ ولا كممارسة" (¬2)، والربا "لا علاقة له مباشرة بالفائدة التي اعتبرها علم الاقتصاد الحديث شرعية علمية، فهي نتاج آلية سوق مفتوحة، وأجر عمل، وتفضيل وقت، ومكافأة على إحجام عن استهلاك وشيك أو فوري، لا استغلال لأحد فيها، يتم تحديدها بعرض وطلب حقيقيين يتم في سوق شفافة مفتوحة للمراقبة. . . ." (¬3). فالتشريع عند الكاتب لعلم الاقتصاد، فهو الذي اعتبرها "شرعية علمية"، وإذا أمكن تصور اعتبارها أجر عمل وتفضيل وقت ومكافأة فإنه لا يمكن تصور حقيقة قوله: إنه لا استغلال لأحد فيها، ولا قوله: بهذه السوق الشفافة المفتوحة، ومع ذلك فمن قَبِل بتحريم الربا لوجود الدليل الصريح فعليه أن يُرجع الفائدة أيضًا لحكم الشرع، فإن علم الاقتصاد العلماني ليس مقياسًا للعلمية المقبولة لوحده بل هو في حاجة بعد ذلك لتحكيم شرع الله فيه. ومن تَعصُب هذا الباحث للفائدة الربوية هجومه على من أظهر القول بخلافها، ولو كان علميًا بحجم المتحمسين لها من علماء الاقتصاد الغربيين مثل "كينز"، ويعده من الانحراف عن المسار الصحيح، ويرى بأن اعتراضاته قد ذهبت مع سقوط الشيوعية إلى غير رجعة (¬4). وفي المقابل يشن هجومًا شديدًا على الفكر الاقتصادي الإِسلامي في صفحات كثيرة، نتركها فهي معتادة، ويُكتفى هنا من كلامه بمسألة مهمة، وهي هجومه على المشروع الإِسلامي البديل، فيقول: "نعود إلى مشكلة البديل للنظام ¬

_ (¬1) الربا والفائدة. دراسة اقتصادية مقارنة، د. محمد الأبرش ص 101. (¬2) المرجع السابق ص 97. (¬3) المرجع السابق ص 104 ص 152، 158. (¬4) انظر: المرجع السابق ص 106.

الرأسمالي الحر بصيغه المتعددة، فالربا والفائدة ليستا أكثر من مدخل إلى الهجوم على الثقافة الغربية، والبديل لهذا كله هو النظام الإسلامي الذي تشكل البنوك الإِسلامية رأس حربته" (¬1)، ثم صبّ عليها نقده، ولم يسمح لها حتى من باب التجريب والتنويع بالوجود وإعطائها الفرصة (¬2). ونختم آراء هذا الاقتصادي بتساؤل طرحه يقول فيه: "هل الفائدة أمر أساسي لا غنى عنه في مجتمع اليوم؟ الإجابة: نعم ما دام الاقتصاد يتبع المبادئ الطبيعية والإنسانية والرأسمالية، ومن الممكن نظريًا تصور وجود اقتصاد ذي طابع طوباوي أخلاقي أو عقائدي "إيديولوجى" سواء أكان ماركسيًا أم دينيًا، لا يحتاج الفائدة، ولكن مثل هذا الاقتصاد سيكون بالتأكيد اقتصادًا بدائيًا ومتخلفًا ومنعزلًا، إذ سيعتمد على الأخلاق الحميدة لبعض البشر، يعتمدون على الإيثار فيما بينهم، لا على مبدأ تبادل المصالح بالتساوي، وهذا يعني استطرادًا أن إلغاء الفائدة بشكل كامل يؤدي إلى انكماش الاقتصاد، ليصبح مجرد اقتصاد متكلف مصطنع" (¬3). وقد رد عليه الدكتور "رفيق المصري" فقال: "وحتى رجال الفكر الاقتصادي الغربي، فإنهم لا ينكرون المثالي، بل يفردون له فرعا علميًا، هو الاقتصاد المعياري "أو القيمي أو التقديري". . . . واهتموا به في نطاق السياسة الاقتصادية، وحاول بعضهم استبعاده في نطاق النظرية الاقتصادية، محاولة منهم لإضفاء صفة العلم على الاقتصاد، وتقريبه ما أمكن من العلوم الدقيقة، أو الطبيعية، أو التجريبية" (¬4). النموذج الثانى: اليساري: تنطلق علمية النظام الرأسمالي المزعومة من دعوى مسايرة قوانين الطبيعة، والتشبه بها، فكما نعرف قوانين الطبيعة فنستفيد منها كذلك تقوم معرفة قوانين الاقتصاد فنستفيد منها، هذه هي العلمية، ومن ذلك التسليم بمعاملة الفائدة؛ ¬

_ (¬1) المرجع السابق ص 141. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 141 - 148. (¬3) المرجع السابق ص 141. (¬4) الربا والفائدة. دراسة اقتصادية مقارنة، د. رفيق المصري ص 187.

لأنها تتفق مع هذه القوانين، وأما الأخلاقيات الدينية فلا مكان لها في العلم الموضوعي. وبما أن النتائج كانت وخيمة، إذ وصلت الأمور لباب مسدود داخل الغرب، فولّد إلانحراف انحرافًا أشدّ، فجاءت الأفكار الاشتراكية الرافضة للربا والرأسمالية الشرهة بمذهبها الاقتصادي، وكان أشهرها الماركسية ذات النموذج الشيوعي المنهار قبل سنوات، ومع ذلك تبقى الاشتراكية مذهبًا مؤثرًا في الأوضاع الغربية، وتعد عامل كبح -رغم ضعفها- للغلو الرأسمالي، وسيبقى الوضع الاقتصادي هناك متأرجحًا بينهما رغم الغلبة للرأسمالية زمن العولمة، وكما هي موجودة في الغرب فكذلك هي في بلاد المسلمين، فما زال هناك من يدافع عن الرؤية الماركسية بعد تقريبها من الإِسلام، ومن ذلك هذا النموذج الذي نعرضه الآن. تبدأ المسألة مع النموذج اليساري ببيان أصل الربا، فإذا كان الرأسماليون يرونه وضعًا طبيعيًا تحت اسم الفائدة؛ لأنه موافق للقوانين الطبيعية الاقتصادية، فإن الماركسيين يرونه مرضًا أفرزته أوضاع اقتصادية غير سوية، ويرجعونه إلى الاستغلال الطبقي، وتبقى مشكلتهم في الحل المطروح القائم على دعوى إلغاء الطبقية وسيادة البوليتاريا، فبتغيير الوضع الطبقي يختفي الربا. وتدّعي الماركسية لتصورها العلمية، وقد سوقها دعاتها في العالم الإِسلامي تحت اسم الاشتراكية العلمية، وهي ترتبط بالجدلية المادية التى سبق الحديث عنها مرارًا، ومن صور دعوى العلمية ما يأتي في هذا النموذج الذي يحدثنا عن أصل الربا فيقول: "لقد نشأ رأس المال الربوي مع ظهور الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج "الماعون". ومع تطور التبادل والعلاقات السلعية النقدية في المشاعية البدائية. لقد أصبحت الملكية الخاصة الناشئة أداة تمايز واختلاف بين الناس، أدى إلى تركز المال بيد القلة من ناحية، ونشر الفقر والبؤس بين الأكثرية الكادحة. ومنذ ذلك الوقت انقسم المجتمع إلى طبقات، القلة منها مسيطرة وثرية، والأخرى تئن تحت نير العبودية والاستغلال وتمثل الجماهير الواسعة" (¬1). ¬

_ (¬1) القرآن والاقتصاد السياسي، محمد غانم ص 93.

مع التحولات الأوروبية وظهور التجار والصناعيين وقع صراع مع المرابين حول مستوى الربا، فصدرت قوانين تحدد مستوى الفائدة في حدود 5 - 8%، إلا أن أثرها كان محدودًا ويسهل التحايل عليه. عندها لجأ التجار والصناعيون لطريقتين: إقراض بعضهم وتجنب المرابين مع مواصلة حملاتهم على المرابين من خلال البرلمانات، فأنشأ البنك وسيلة للإقراض فيما بينهم في مواجهة بيوت الربا، فظهر هنا مفهوم الفائدة في مقابل الربا، وانكمش رأس المال الربوي لظهور رأس المال الصناعي، وهما من حيث الشكل يعطيان فائدة ربوية، ولكن هناك بعض الفروق من جهة مستوى الفائدة فهي محددة، وأطراف الاقتراض (¬1). تظهر أسئلة حول النظرية: عن أصل نشأة الربا؟ وعن حتمية الوقوع فيه عند وجود الطبقات؟ فالملكية أمر فطري وغريزي، ولا يمكن أن يكون الربا سببًا حتميًا للملكية، نعم الملكية تُعد مشكلة لمن لم يضبطها بالدين، وقد ظهرت مجتمعات متدينة لا تعرف الربا مع وجود الملكية فيها. كما أن الطبقات قد وجدت في مجتمعات دون وجود الربا. وبهذا فلا تلازم بين الملكية وبين الفروق الاجتماعية وبين الربا، فإذا وجدت ملكية محكومة بالدين فإنها لا تسمح بوجود الربا وغيره من المعاملات الاستغلالية. وهذا التقرير مهم؛ لأن الماركسي يُرتب على الحتمية المادية مواقف عملية من أجل القضاء على الربا، قد تكون نتائجها موازية لسلبيات الربا وأكثر، وهذه المواقف العملية المغلوطة نجدها مع الكاتب السابق، وذلك في الحل الذي يقترحه وفق مذهبه، فـ "الحل: البطشة الكبرى {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)} صدق الله العظيم. والبديل هي الجماعة الإِسلامية فـ "الإِسلام ليس أيدلوجيًا فحسب، بل إنه ثورة اجتماعية أيضًا. ثورة ترمي إلى بناء مجتمع لا طبقي حر، مؤسس على "القسط والعدل". مجتمع يتكون من أفراد أحرار وواعين وشاعرين بالمسؤولية"" (¬2). ويأخذ على الفقهاء غموض قولهم عن أصل الربا ومصادره حتى يمكن القضاء عليه، ويأخذ عليهم عدم ربطه بالاستغلال الطبقي، ويأخذ عليهم نظرتهم للغنى والفقر بحيث يردّون الغنى والفقر لاختلاف المواهب والقدرات وليس ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق ص 95 ص 105 وما بعدها. (¬2) المرجع السابق ص 97.

للملكية الخاصة التي هي مصدر الثراء والسيطرة والاستعباد والشر (¬1). وبعد استعراضه لآيات تحريم الربا قال:"نلاحظ هنا أن الآيات لا تأمرنا بترك الربا فحسب، وإنما تأمرنا بالقضاء عليه، باعتباره مصدرًا من مصادر الظلم الاجتماعي. ولن يتحقق ذلك إلا في مجتمع لا طبقي. وقيام النظام الإسلامي الجماعي كبديل وهذه هي الحرب "الثورة" الثي أذن الله لنا بها لإلغاء الربا، وكل أشكال السحت لكونه استغلالًا لا طبقيًا. والجماعة هي الموكولة بالحرب "الثورة"، وذلك عن طريق الصراع والدفع الطبقي. . . . ولذلك كانت رسالات السماء كلها ذات طابع اشتراكي. وجميع الرسل وأتباعهم وحوارييهم كانوا يدعون إلى الجماعية والاشتراكية. . . ." (¬2). إن التصور الضيق لأصل الربا وربطه بالجدلية المادية وعلاقات الإنتاج المادي جلب الضيق أيضًا للعلاج المقترح، وليس العلاج بالتلاعب بالوحي وعسف نصوصه لتتوافق مع الرؤى الماركسية، وإنما بالعودة إليه كما هو وكما جاء به رسول الهدى، وكما بينه لأمته وأخذه سلف الأمة، لقد نجح هؤلاء في كشف مفاسد الربا ولكنهم تكلفوا في تحديد أصل نشأته تحت دعوى العلمية، كما أنهم شطحوا بعيدًا في طريق العلاج المطروح تحت دعوى العلمية أيضًا، والنماذج الحية شاهدة على فساد الاتجاهين -المتحمس للربا تحت مسمى الفائدة، والمحارب له تحت مسمى الاستغلال الطبقي- فمع الغرب الرأسمالي نجد ضحايا الفوائد الربوية بينما نجد في البلاد الشيوعية الانهيار الاقتصادي الذي أعقب التطبيقات الاشتراكية، فتحول الاستغلال الطبقي من فئة الرأسماليين إلى طبقة الحزب الشيوعي الحاكم (¬3)، فبقي الشر كما هو على الإنسان الذي ابتعد عن دين الله. وما أجمل ما قاله الدكتور "عيسى عبده" في مثل هؤلاء: "ولا أريد أن أقسو في النقد، وإنما أحذر من التورط في الظن بأن الأنظمة التي وضعها الإنسان، قد فاقت نظامًا وضعه الرحمن، وأحذر من الظن بأن كتاب الله ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق ص 98 ص 110 وما بعدها. (¬2) المرجع السابق ص 100. (¬3) انظر حول المذهب الاقتصادي الماركسي مع نقده في مذاهب فكرية معاصرة، محمد قطب ص 410 - 439.

الرابع: في باب حجاب المرأة المسلمة

قد خلا من تقرير كل قاعدة فيها صلاح البشر. إما تفصيلًا أو إجمالًا" (¬1). وبعد، فقد عُرض موضوع اقتصادي مهم وخطير وهو موضوع الفائدة والربا، وصورة عن تطوره في الفكر الاقتصادي الحديث المتشبع بالعلمانية، وقد ظهر في هذا العلم نظريات مختلفة ترتبط بالبيئة الثقافية الغربية العلمانية، وقد ظهر موقفان يرتبطان بالعلم، موقف متحمس للفائدة والربا وموقف رافض له، ويطرح الرافض للربا بديلًا أكثر شططًا. وقد وجد من العرب من تحمس للأول ووجد من تحمس للثاني، وقد عُرض مثال عن الأول ومثال عن الثاني، وبيان ما فيهما من تبعية عمياء للنظريات الغربية، وهروب من الشرع الرباني. وسنترك هذا الباب ونذهب لباب آخر من الأبواب العملية التي وقع فيها الانحراف تحت مسمى العلمية، وهو حجاب المرأة المسلمة. * * * الرابع: في باب حجاب المرأة المسلمة: قد لا يبالغ الباحث إذا قال: إنه قد كُتب شيء ضخم عن المرأة، لاسيّما حول حجابها، وأن ما كتب في هذا القرن لم يكتب مثله في كل أزمنة المسلمين، وربما يعود السبب في اتساع الموضوع إلى دخول مرجعية أخرى غير المرجعية الإسلامية، وهي المرجعية التغريبية، التي تسللت في وقت مبكر إلى المجتمع الإِسلامي لتمارس دورها الخطير، حيث كان هناك ضعف وتخلف يرجع للبعد عن الدين، وهذا الضعف والتخلف مدّ بظلاله على أغلب أوضاع المسلمين بما في ذلك وضع المرأة المسلمة، فلم يكن حالها بحسن كحال العالم الإِسلامي عمومًا، ويرجع سبب تردي وضع المرأة المسلمة إلى ما طرأ على المسلمين من البدع والانحرافات وما صحب ذلك من جهل وتخلف، مما يجعل الوضع متأزمًا وفي حاجة لإصلاح، وفي هذه الظروف دخل التغريب كخط جديد لمناقشة وضع المرأة من بين قضايا كثيرة أصبحت في ساحة النقاش بين المرجعية الإِسلامية والمرجعية التغريبية. الغالب في التغيرات الاجتماعية إنما تأتي من وجود نموذج مغاير، يتم ¬

_ (¬1) وضع الربا في البناء الاقتصادي، د. عيسى عبده ص 190.

تقليده أو التأثر به، وربما لهذا السبب نجد التأكيد الإسلامي في النهي عن التشبه بنماذج اجتماعية ذات مكونات تخالف الشرع (¬1)، وبهذا تحافظ الأمة الإسلامية على تميزها وشخصيتها دون أن تذوب في مجتمعات أخرى، ومن هنا يأتي النهي عن التشبه بالمخالفين للمسلمين لما لهذا التشبه من أثر على المجتمع الإِسلامي. وقد وقع تفريط من بعض المسلمين في هذا الأمر في العصر الحديث، فأسرتهم نماذج يخالطونها أو سافروا إليها وبدؤوا في نشرها داخل المحيط الإسلامي، ثم توسع الأمر عندما أصبح الأمر يتعلق بنشر ما يعارض الشرع، وفي هذه الحالة بالذات، تم التوجه إلى ما هو أبعد من نشر الظواهر وذلك بالبحث عن تأصيل ثقافي لها، وهنا تم الانتقال إلى مجال الفكر للبحث عن مستندات تسوغ مثل هذه الدعوات الجديدة، فمنهم من اكتفى بالمرجعية الإسلامية ولكن بعد تأويلات متعسفة أو اجتهادات غير صحيحة من أجل تشريع الواقع الجديد، وهناك من ذهب للغرب فغرف من تياراته الفكرية فيما يخص المرأة، وقد وجدت المجموعة الثانية شيئًا كثيرًا مما قيل حول المرأة والأسرة والعلاقة بين الجنسين والمجتمع وغيرها، يتنازع ذلك تيارات كثيرة ذات رؤى مختلفة بل متناقضة وقع هؤلاء في أسرها وتورطوا في تناقضاتها، فنقل كل طرف من النقلة ما وقع عليه أو ما قيد إليه، وعاد به للبيئة الإسلامية، كل ينشر من وجهة النظر التي تأثر بها، لينتقل ذاك الخوض إلى العالم الإسلامي وبصورة أشدّ؛ ذلك لأن الغرب قد أنهى علاقته بالدين مع نجاح العلمنة وبقي الاختلاف دائرًا عندهم بين التيارات العلمانية، أما في العالم الإِسلامي فالخلاف أشدّ؛ لأنه اختلاف يدور من جهة بين التيارات العلمانية المقلدة للغرب فيما بينها، ومن جهة أخرى بين هذه التيارات المتعلمنة وبين الفكرالإسلامي. بدأ النموذج المغاير حول شخصية المرأة المسلمة يظهر في العالم الإسلامي بعد الحضور المكثف للأوروبيين في البلاد الإسلامية، ولاسيّما بعد حملة "نابليون" وما أظهره من إفساد لحال المرأة، ثم دخول نظام الامتيازات والحماية، ثم الاستعمار الذي سمح بوجود مكثف للأوروبيين والمرأة المتعلمنة ¬

_ (¬1) انظر: التشبه المنهي عنه في الفقه الإسلامي، جميل اللويحق، ولاسيّما ص 165 وما بعدها، وانظر: حجاب المرأة المسلمة، الشيخ محمد الألباني ص 78 - 109.

المصاحبة له، وقد افتتن البعض بهذا النموذج الجديد القائم على سفور المرأة ومخالطتها الرجال، فبدأ بعضهم في تقليد هذه النماذج ويتحايلون على التشريع الإسلامي من أجل ذلك، ولكن التأسيس الفكري لم يبرز بوضوح إلا لمن سافر للغرب ولاسيّما للدراسة وعايش النموذج الجديد في أوروبا، فانبهر بحال المرأة هناك، وأغراه جوانب من تميزها عن جوانب من المهالك التي وقعت فيها، وربما يكون حال المرأة التي يعرفها في بلاد المسلمين -من تخلف وجهل وضعف وأخلاقيات رديئة والظلم الذي يلحقها من الأعراف أو من كثير من الرجال الذين لا يلتزمون الشرع- قد أغراه بهذا النموذج الغربي، ولاسيّما إذا كان المبتعث ضعيفًا في العلم الشرعي وغير عارف بحقيقة التصور الإسلامي عن المرأة، فيظن أن واقع المرأة المسلمة الذي عايشه هو الممثل للتصور الإِسلامي فيهرب منه إلى التصور العلماني، بينما هو يترك نموذجًا منحرفًا ليدخل في نموذج علماني أشدّ انحرافًا وأكثر خطورة على شخصية المرأة المسلمة. [الطريقان]: نجد طريقين خطيرين للتأثر، طريق وجود النموذج العلماني للمرأة في بلاد المسلمين، وطريق مشاهدته من قبل المبتعثين في بلاده الأوروبية، ويتحدث الجبرتي عن أول صور الطريق الأول في أثناء الحملة الفرنسية المشهورة، وبما أحدثوه من أثر على حجاب المرأة المسلمة، فقال في حوادث سنة (1252 هـ): "ومنها تبرج النساء وخروج غالبهن عن الحشمة والحياء؛ وهو أنه لما حضر الفرنسيس إلى مصر ومع البعض منهم نساؤهم، كانوا يمشون في الشوارع مع نسائهم وهن حاسرات الوجوه لابسات الفستانات والمناديل الحرير الملونة ويسدلن على مناكبهن الطرح الكشميري والمزركشات المصبوغة، ويركبن الخيول والحمير ويسوقونها سوقًا عنيفًا مع الضحك والقهقهة ومداعبة المكارية معهم وحرافيش العامة، فمالت إليهم نفوس أهل الأهواء من النساء الأسافل والفواحش، فتداخلن معهم لخضوعهم للنساء وبذل الأموال لهن، وكان ذلك التداخل أولًا مع بعض احتشام وخشية عار ومبالغة في إخفائه، فلما وقعت الفتنة الأخيرة بمصر وحاربت الفرنسيس بولاق وفتكوا في أهلها وغنموا أموالها، وأخذوا ما استحسنوه من النساء والبنات صرن مأسورات عندهم، فزينوهن بزي نسائهم وأجروهن على طريقتهن في كامل الأحوال، فخلع أكثرهن نقاب الحياء بالكلية، وتداخل مع أولئك المأسورات غيرهن من النساء الفواجر. ولما حل

بأهل البلاد من الذل والهوان وسلب الأموال واجتماع الخيرات في جور الفرنسيس ومن والاهم، وشدة رغبتهم في النساء وخضوعهن (¬1) لهن وموافقة مرادهم وعدم مخالفة هواهن ولو شتمته أو ضربته بتاسومتها، فطرحن الحشمة والوقار والمبالاة والاعتبار واستملن نظراءهن واختلسن عقولهن؛ لميل النفوس إلى الشهوات وخصوصًا عقول القاصرات، وخطب الكثير منهم بنات الأعيان وتزوجوهن رغبة في سلطانهم ونوالهم، فيظهر حالة العقد الإسلام وينطق بالشهادتين؛ لأنه ليس له عقيدة يخشى فسادها، وصار مع حكام الأخطاط منهم النساء المسلمات متزييات بزيهم ومشوا معهم في الأخطاط للنظر في أمور الرعية والأحكام العادية والأمر والنهي والمناداة، وتمشي المرأة بنفسها أو معها بعض أترابها وأضيافها على مثل شكلها وأمامها القواسة والخدم وبأيديهم العصي يفرجون لهن الناس مثل ما يمر الحاكم ويأمرن وينهين في الأحكام. ومنها أنه لما أوفى النيل أذرعه ودخل الماء إلى الخليج وجرت فيه السفن وقع عند ذلك من تبرج النساء واختلاطهن بالفرنسيس ومصاحبتهم لهن في المراكب والرقص والغناء والشرب في النهار والليل في الفوانيس والشموع الموقدة وعليهن الملابس الفاخرة والحلي والجواهر المرصعة وصحبتهم آلات الطرب، وملاحو السفن يكثرون من الهزل والمجون، ويتجاوبون برفع الصوت في تحريك المجاديف بسخيف موضوعاتهم وكنائف مطبوعاتهم، وخصوصًا إذا دبت الحشيشة في رؤوسهم، وتحكمت في عقولهم فيصرخون ويطبلون ويرقصون ويزمرون ويتجاوبون بمحاكاة ألفاظ الفرنساوية في غنائهم، وتقليد كلامهم شيء كثير. وأما الجواري السود فإنهن لما علمن رغبة القوم في مطلق الأنثى ذهبن إليهم أفواجًا، فرادى وأزواجًا، فنططن الحيطان وتسلقن إليهم من الطيقان ودلوهم على مخبآت أسيادهن وخبايا أموالهم ومتاعهم وغير ذلك" (¬2)، وهو نص -رغم طوله- يعبر أوضح تعبير عن هذا التحول الخطير في بيئة إسلامية، وطريقة انتشار النموذج العلماني الجديد في شأن المرأة، ودور المحتل في نشر نمط ¬

_ (¬1) كأنّ "وخضوعهم" أنسب للسياق. (¬2) تاريخ عجائب الآثار. . . .، الجبرتي 2/ 304 - 305.

جديد سيكون له شأنه الخطير فيما بعد، ولكنه بقي على مستوى طائفة من المجتمع مع الشعور عند الناس بأن هذا انحراف، وليس لذلك أي مشروعية (¬1)، ولكن سيأتي من يشرع لهذا الأمر فيما بعد من قبل المبتعثين ودعاة المذاهب الفكرية الجديدة. أما الطريق الثاني فهو الأقوى والأعمق والأخطر، وهو القائم على مشاهدة النموذج العلماني في بلاده من قبل المبتعثين لدراسة العلوم، ثم عودتهم لتأصيل ما رأوه من ناحية فكرية، معتمدين على الجهود الفكرية الضخمة الموجودة في الغرب، ومن أبرز الأمثلة نجد الطهطاوي وقاسم أمين، وإن كان بينهما فارق كبير، فالأول ابن الأزهر، وكان ممن تعلم العلوم الشرعية وبرع فيها، ثم جاءت رحلته لأوروبا للإشراف الديني على طلاب البعثة، أما الثاني فقد درس في المدارس العصرية، ثم درس الحقوق وجاءت رحلته لأوروبا تكميلًا لهذا الباب. اشتهر الطهطاوي منتصف القرن الثالث عشر / التاسع عشر والثاني أول القرن العشرين، الأول وقت التحولات الكبيرة في العالم الإسلامي وشارك فيها بقوة، والثاني وقت الاستعمار وما فيه من تغريب خطير. يظهر إعجاب الطهطاوي بوضع المرأة في أوروبا مع ملاحظاته النقدية الأخلاقية على أوضاعها الجديدة، ومع ذلك جاءت دعوته للعناية بالمرأة من منظور محافظ وأكثر قربًا من المفاهيم الإسلامية وأغلب ما قاله هو من الأمور الصحيحة والمقبولة حول أهمية تربية الفتاة المسلمة وتعليمها وإصلاح حالها، ولكن هناك نموذج يبرز أمامه ورآه في الغرب وقد يصف بعض صوره بإعجاب بما في ذلك ما يخالف الشرع من أبواب الاختلاط المنهي عنه، ولكن للطهطاوي جذور في الأزهر التي تحميه بإذن الله من الانغماس في الشطط؛ لهذا نجد عنده توازنًا معقولًا بين إصلاح وضع المرأة مع عدم الوقوع فيما وقعت فيه المرأة الأوروبية، وقد كان موقفه من الحجاب موقف الداعي إلى المحافظة عليه، بحيث تتحجب باستثناء الوجه والكفين على اجتهاد فقهي معروف، وبيّن أن هذا لا يمنعها من التعليم النافع (¬2)، مع أنه قد يقع الانحراف من بعض المتخصصين في الشريعة والله المستعان. ¬

_ (¬1) انظر: ودخل الخيل الأزهر، محمد كشك ص 395 - 417. (¬2) انظر: رفاعة الطهطاوي. . . .، د. محمد عمارة ص 350 وما بعدها، وانظر: المؤامرة على المرأة المسلمة. . . .، د. السيد فرج ص 38 وما بعدها.

وقد اختلف الأمر مع قاسم أمين وأمثاله، فهم من جهة أصحاب صلة ضعيفة بالعلم الشرعي وضعف في فهم التصور الإسلامي حول هذه القضايا الكبرى، ومع ذلك دخل قاسم أمين في الاهتمام بشأن المرأة، ولاسيّما بعد عودته من أوروبا وهو ضعيف الإمكانيات الشرعية مما يجعله فريسة سهلة لتيارات التغريب، فامتلأ بشبهاتهم حول المرأة ومن ذلك حجابها، وبرز كداعية لهذه الأفكار الجديدة حول المرأة، وأصبح فيما بعد رمزًا من رموز العناية بوضع المرأة، ولاسيّما في مسار تغريبها، فتشكّلَ طريق جديد حول وضع المرأة يجعل مرجعيته غربية كما يجعل النموذج المثالي -بصريح العبارة أو دون الشعور بها- للمرأة العصرية هو النموذج الغربي. تحول شأن وضع العناية بالمرأة من شأن إسلامي إلى إسلامي وتغريبي، وقد اتسعت دائرة التغريب مع الاحتلال الغربي، فظهرت تيارات تغريبية تتنافس في نشر التغريب في بلاد المسلمين، فلم يعد اتجاه واحد بل اتجاهات، وكل واحد منها يتبع مدرسة غربية: ينشر أصولها ويدافع عنها بما في ذلك نشر موقف المدرسة الغربية المُتبَعة حول وضع المرأة (¬1). وقد وجد المتغربون العرب ترسانة فكرية ضخمة حول وضع المرأة، ونقلوها إلى العالم الإسلامي، بما في ذلك ما يتعلق بالعلاقة بين الجنسين، ومسائل الزي والزينة والمظهر المتعلقة بالمرأة، ووضع المرأة في المجتمع، وغيرها من المسائل، ومن تلك الترسانة ما يخالف التشريع الإسلامي فيما يخص المرأة المسلمة وما يخالف التصور الإسلامي عمومًا حول المرأة، والعلاقة بين الجنسين، والأسرة، والإنسان. ومن هذه الترسانة ما يزعمون بأن له علاقة بالعلم، الذي يعد عندهم الفيصل الحاسم في مسائل البشرية اليوم. مجمل القول حول الحجاب في الإسلام: يشكل الحجاب الشرعي أصلًا مهمًا من أصول الوضع الاجتماعي الإسلامي، ويأتي هذا الأصل في ظل التصور الإسلامي الأوسع عن المجتمع وعلاقة أفراده بعضهم ببعض وعن طريقة العيش التي يسلكونها. ومزيته العظمى ¬

_ (¬1) انظر: حجاب المرأة بين الأديان والعلمانية، د. هدى درويش ص 6، وهي من الدراسات المميزة في هذا الباب.

أنه يطابق الفطرة السوية التي خلق الله الإنسان عليها، فلا يغفل عن شيء من هذه الفطرة كما أنه لا يفرض عليها شيئًا ليس في تركيبها الأصيل قال -تعالى-: {ألَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} [الملك:14]، وقال -تعالى -: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49)} [الذاريات:49]، وقال -تعالى-: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)} [الروم:21]، وقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} [النساء:1]. فهذا مقطع ورد في الكتاب الحكيم حول صورة المجتمع، فالرب سبحانه قد خلق الزوجين، وجعل بين الزوجين علاقة تجاذب، ومن خلالها يقع السكن والمودة والرحمة واللباس، ويبثّ منهما المجتمع الكبير الكثير من الرجال والنساء. والكثير يحتاج لتنظيم "دقيق محكم يمنع الخلل الذي ينشأ -كلما اتسعت الدائرة- من الفوضى التي لا يضبطها دليل. لقد استلزم وجود رجال كثير ونساء -لا رجل واحد وامرأة واحدة- تنظيم صورة التجاذب الذي يحدث حدوثًا فطريًا بين الرجال والنساء. لكي لا يصبح فوضى تصطدم فيه مختلف التجاذبات، فتؤدي إلى ضياع السكن المرجو لكل نفس من جهة، وتؤدي إلى فساد روابط المجتمع من جهة أخرى" (¬1). وفي هذا السياق يمنع الإسلام الاختلاط، وإن وقع بسبب فيكون مع الحجاب، ويمنع التبرج والفتنة، ويكره خروج المرأة دون سبب، ويمنع إبداء الزينة للأجانب، وهنا يقع التعارض التام بين الثقافة التغريبية ببعدها الفكري والثقافي والاجتماعي، حيث تقوم على الإغراء والتبرج وإبراز الفتنة، وقد صحب ذلك نمو رأسمالي بشع يهتم بتسليع الأنثى وتعبيدها للموضة والأزياء والجمال. وهنا تتحقق المعادلة المهمة في تحقيق غاية التجاذب الفطرية دون الانحراف بها، ومن هنا جاء التشريع الإسلامي للحجاب بوصفه منظومةً متكاملةً من الأفعال والقيم المرتبطة بها، ونزل في ذلك آيات محكمات ومنها آيات ¬

_ (¬1) انظر: التطور والثبات في حياة البشرية، محمد قطب ص 198.

خاصة بالحجاب, قال -تعالى-: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53)} [الأحزاب: 53]، وقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)} [الأحزاب:59]، وقال -تعالى-: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)} [النور: 30 - 31] , وقال -تعالى-: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)} [النور:60] ,وقال -تعالى-: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)} [الأحزاب:32 - 33] (¬1). فهذه الآيات المحكمات في باب الحجاب الإسلامي تأتي ضمن التصور الإسلامي المتكامل والشامل والمتوازن في الشأن الاجتماعي وفي تنظيم المجتمع ¬

_ (¬1) قد جمع الأدلة في هذا الباب جمعٌ من العلماء والدعاة المعاصرين، انظر مثلًا: الحجاب أدلة الموجبين وشبه المخالفين، مصطفى العدوي، وانظر: حجاب المرأة المسلمة في الكتاب والسنة، الشيخ محمد الألباني، وانظر: عودة الحجاب، محمد المقدم، ولاسيّما المجلد الثالث، وغيرها، وليس الحديث هنا عن الخلاف الوارد حول صفة الحجاب وإنما المراد بيان أن علماء الإسلام يتفقون على أن الحجاب شريعة إسلامية ضمن التنظيم الاجتماعي الإسلامي وإن وقع خلاف بينهم حول صفته، وهذا الاتفاق يخالف ما يذهب إليه المتغربون من نفي شرعية الحجاب.

المسلم وفي تنظيم العلاقة بين الجنسين، وعندما يقع الإخلال بهذا الجزء المهم يتأثر تبعًا لذلك التنظيم الاجتماعي الإسلامي، وبتأثره يقع الفساد العريض في المجتمع، وهو فساد تعرفه المجتمعات المعاصرة، ولكنها تدعي إمكانية التعايش معه وأنه ضريبة الحداثة والتقدم ورفض بحث طرح الحل الإسلامي للموضوع، مع أن جميع المؤشرات تبيّن ذاك المسار الخطير للبشرية بسبب الانفلات في باب العلاقة المفتوحة بين الجنسين وباب إهمال الأخلاقيات الدينية المتعلقة باللباس وأخلاقيات العلاقة بين الجنسين (¬1). نماذج من الانحراف في باب الحجاب: النموذج الأول: قاسم أمين والمراحل الثلاث لموقفه من الحجاب: إذا جاء الحديث عن الحجاب في العصر الحديث يبرز اسم قاسم أمين كرمز ارتبطت به قضية الحجاب، ويُعد ما عرضه من قضايا حول المرأة -عمومًا والحجاب خصوصًا- مدار الحديث عند أغلب من جاء بعده، وتبحث هذه الفقرة علاقة ما عرضه تحت دعوى العلمية ونظريات العلم فقط. يذكر الدارسون لنشاط قاسم أمين حول المرأة -ولاسيّما حجابها- ثلاث مراحل: [المرحلة الأولى] الرد على كاتب أوروبي "داركور" الذي ألف كتابًا في نقد المجتمع المصري ونقد فيه وضع المرأة في مصر وأعاد السبب للحجاب، فتألم "قاسم" من هذا الهجوم وقام بتأليف كتاب باللغة الفرنسية في الرد عليه، ومن ذلك دفاعه عن حجاب المرأة المسلمة وعن حكمة منع الإِسلام من الاختلاط بين الجنسين (¬2). جاءت [المرحلة الثانية] بعد عودته من فرنسا، وقد رأى في فرنسا صورة جديدة للحياة، وتأثر بها، واطلع على الفكر الأوروبي الحديث وأصحابه ومنهم "نيتشه" و"داروين" و"ماركس" و"سبنسر" و"رينان" و"فولتير" وغيرهم، كما أن هناك حركات نسائية عُرفت في القرن ¬

_ (¬1) انظر حول مشكلة الفساد الناتج عن إهمال القيم الدينية في هذا الباب: الحجاب، أبو الأعلى المودودي ص 55 وما بعدها، وانظر: المرأة بين الفقه والقانون، د. مصطفى السباعي ص 209 وما بعدها. (¬2) لم يترجم هذا الكتاب للعربية إلا بعد وفاة المؤلف، وقد أخرجه محمد عمارة ضمن الأعمال الكاملة لقاسم ص 219.

الثالث عشر / التاسع عشر داخل أوروبا وأمريكا (¬1)، كما أنه في هذه المرحلة قد خالط دعاة الاتجاه الإِسلامي الجديد في مصر جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وتأثر بهم، كما أنه بعد عودته من البعثة عاش واقعًا جديدًا تحت الاحتلال البريطاني وعاصر تغيرات ضخمة في العالم الإسلامي، وفي هذه الأجواء أخرج كتابه الثاني بعنوان:"تحرير المرأة"، وقد ناقش فيه مشكلات مختلفة حول وضع المرأة المصرية، وناقش فيه مسألة الحجاب معتمدًا في هذه المسألة بالذات على التراث الإسلامي، فاختار منه القول بجواز كشف الوجه والكفين. ولكن الإطار الذي بحث فيه هذه المسألة يختلف عن سابقه، فقد برز التأثير الخارجي عليه من جهة مرجعية أفكاره الجديدة، أما عودته للتراث فهي من باب البحث عن سند تراثي لأفكاره الجديدة، ويقال: إن المباحث الفقهية التي في الكتاب قد اعتمد فيها على الشيخ محمد عبده إن لم يكن الشيخ هو من كتبها (¬2). ومن تفحص كتابه يعلم أن مشكلته تكمن في الإطار الذي وضع فيه مباحث كتابه أو في الرؤية الموجهة لتلك المباحث وليس في تفاصيل ما ذكره؛ أي: في إطار الأفكار الجديدة التي تأثر بها وإطار التحول الاجتماعي التغريبي الذي جرّه إليه، وقد اختلط في هذا الكتاب بعض المحتوى الجيد بالإطار الخطير الموجّه لمسار كتابه؛ وذلك أن وضع المرأة لم يكن بذاك الوضع الجيد في الواقع الاجتماعي، وكان بحاجة لإصلاح كغيره من المسارات التي وقع فيها الانحراف والضعف والظلم، فلامست كتاباته بعض تلك الأوجاع، ولكن الإطار الذي تحركت فيه كتابته قد بدأ يميل اتجاه التغريب، ومع ذلك فليس كل المحتوى تغريبيًا، فالأخطاء التي فيه مألوفة في الحقل الإسلامي ويمكن معالجتها ضمن هذا الحقل، حتى جاء كتابه الثالث ممثلًا للمرحلة الثالثة الذي جمع فيه بين الإطار التغريبي والمحتوى التغريبي "المرأة الجديدة" الذي صدم به المجتمع المسلم وحيّر الباحثين في فكره، فاختلفت آراؤهم حول مشكلة هذا الكتاب، ¬

_ (¬1) انظر: مقدمة د. محمد عمارة في قاسم أمين الأعمال الكاملة ص 22، وانظر: عودة الحجاب، محمد المقدم 1/ 34. (¬2) انظر كلام محمد عمارة في تقديمه الأعمال الكاملة لقاسم أمين ص 124، وانظر: المؤامرة على المرأة المسلمة، د. السيد فرح ص 63 وما بعدها.

فهناك من يراه الامتداد الطبيعي لمسيرته وكأنه يسلك التدرج (¬1)، وهناك من يراه ردة فعل على تلك المواجهة العنيفة التي لقيها من الأزهر والفقهاء مما دفعه لموقف انتقامي يدفع للأسى (¬2). أما مضمون الكتاب -وهو ما يهمنا- فهو إعلان تغريبي صريح عن رأيه في مشكلات المرأة، وهو دعوة دون مواربة لتقليد حال المرأة الأوروبية، فالمرأة الجديدة هي المرأة الأوروبية، ومع أنه أحال لكتابه السابق عن رأيه في الحجاب إلا أن الحقيقة أبعد من ذلك، فالرؤية الجديدة لم تعد تسمح بالعودة لكتابه السابق؛ وذلك أن الكتاب الجديد يقطع أي طريق للعودة. [دعوى العلمية للمرحلة الثالثة]: ومن صور الانفصال بين الكتاب السابق "تحرير المرأة" وهذا الكتاب "المرأة الجديدة" دعوى العلمية التى برزت بوضوح في كتابه الثالث، وترتبط العلمية هنا في الغالب بالعلوم الاجتماعية المعروفة داخل فرنسا نهاية القرن التاسع عشر (¬3)، والمتأثرة إلى حد بعيد بالفكرة التطورية المستمدة من نظرية "داروين"، ومع أنها لم تكن غائبة في كتابه السابق إلا أنها كانت مضمرة أما هنا فقد صرح بها. يقول د. محمد عمارة: "ولقد كان طبيعيًا أن يؤمن قاسم أمين بالتطور والتقدم كقانون علمي، ليس في نطاق الظواهر الطبيعية فقط كما اشتهر عند تشارلز داروين (1809 - 1882 م) في ذلك العصر، بل في الظواهر الخاصة بالحياة الإنسانية،. . . ." (¬4) وهي الدارونية الاجتماعية التي اختطفت لفترة من الزمن الفكر الغربي وسار معها أغلب المتغربين باسم العلمية. وتقول د. ليلى الأحيدب من قسم الاجتماع: "وقد خطا قاسم أمين بهذه الأفكار خطوات مهمة عندما أخضع قضية تحرير المرأة وغيرها من القضايا الاجتماعية للمنطق العلمي، فقد كان من المؤمنين بتطبيق مبادئ المنهج العلمي عند تناول قضايا المجتمع والأسرة، متأثرًا في هذا بأوغست كونت،. . . . وقد أراد قاسم أمين أن يصلح الخلل القائم في مسألة المرأة بناء على ما أثبته العلم ¬

_ (¬1) انظر: عودة الحجاب، محمد المقدم 1/ 62. (¬2) انظر: أسس التقدم عند مفكري الإسلام، د. فهمي جدعان ص 470، 482. (¬3) انظر: النهضة والسقوط في الفكر المصري الحديث، د. غالي شكري ص 205. (¬4) قاسم أمين الأعمال الكاملة، د. محمد عمارة ص 38.

الطبيعي الحديث من أن المرأة مساوية للرجل عقلًا. . . ." (¬1)، وأنه "حاول أن يطرح القضية طرحًا علميًا مستندًا إلى المنهج العلمي في دراسة التاريخ والمجتمع" (¬2). وتمدح زينب الخضيري علمية "قاسم" وتصفها قائلة: "فمنهج قاسم أمين هو منهج عالم الاجتماع الذي وقف على آخر ما وصلت إليه هذه المناهج"، ويدلّ "على إحاطة دقيقة بنتائج شتى العلوم الحديثة الطبيعي منها والاجتماعي، والذي أتاحته لقاسم أمين ثقافته الغربية" (¬3)، وقد يقلل بعض المتغربين من هذه العلمية باعتبارها غير متماسكة وذات انتقائية براجماتية وتفقد أصلها المادي العلمي (¬4). لا شك أن هذه الشهادات من قبل المعجبين به تحمل مبالغة لا يحتملها مضمون الكتاب، ولكنها العادة مع المعجبين أو أصحاب الأهواء، نعم هو يقلد الدراسات الاجتماعية المعلمنة ولكن التقليد لا يعني العلمية، فقد انساق في نمط من الدراسات ذات البعد العلماني، وانغمس في نظريات اجتماعية ينقض بعضها بعضًا دون أن يملك زمام الاختيار والتصحيح والنقد، إنها في الحقيقة تبعية عمياء، مفادها أن المدنية الغربية قد قدمت الجواب الكامل في وقتها وما بقي إلا أخذه وتربية الأبناء عليه، وهذه لا تتوافق مع مزاعم العلمية التي يحرص أتباعه على إلصاقها به، فهو يقول مثلًا: "هذا هو الداء الذي يلزم أن نبادر إلى علاجه (¬5)، وليس من دواء إلا أننا نربي أولادنا على أن يعرفوا شؤون المدنية الغربية ويقفوا على أصولها وفروعها وآثارها. إذا أتى هذا الحين -ونرجو ألا يكون بعيدًا- انجلت الحقيقة أمام أعيننا ساطعة سطوع الشمس، وعرفنا قيمة ¬

_ (¬1) تأثير التيارات الدينية في الوعي الاجتماعي للمرأة العربية، ليلى الأحيدب، ضمن كتاب الدين في المجتمع العربي ص 285. (¬2) المرجع السابق ص 287. (¬3) المرجع السابق ص 287 هامش 18. (¬4) وهذه من وجهة نظر ماركسية، انظر: النهضة والسقوط. . . .، د. غالي شكري ص 209 - 210. (¬5) الداء الذي يقصده: تمسكنا بالماضي رغم أن مدنيته سبب تخلفنا، مع أن الواجب أن ننهض لمحاربته ص 114.

التمدن الغربي. وتيقنا أنه من المستحيل أن يتم إصلاح ما في أحوالنا إذا لم يكن مؤسسًا على العلوم العصرية الحديثة، وأن أحوال الإنسان مهما اختلفت، وسواء كانت مادية أو أدبية خاضعة لسلطة العلم" (¬1) ويقول: "من هذا يتبين أن نتيجة التمدن هي سوق الإنسانية في طريق واحد. وأن التباين الذي يشاهد بين الأمم المتوحشة أو التي لم تصل إلى درجة معلومة من التمدن منشؤه أن أولئك الأمم لم تهتد إلى وضع حالتها الاجتماعية على أصول علمية. هذا الذي جعلنا "نضرب الأمثال بالأوروبيين" ونشيد بتقليدهم، وحملنا على أن "نستلفت الأنظار إلى المرأة الأوروبية". ." (¬2)، ومن ذلك تقليدهم في ما توصلوا إليه حول المرأة؛ لأنها علمية وليست من قبل العادات ولهذا بحسب كلامهم لا نجد اختلافًا عند الغربيين حول تلك المسائل وهو دليل على علميتها، والعلم لا يختلف من مكان لمكان "فهذه أولًا مسألة اجتماعية، فهي بذلك مسألة علمية، ولا غرابة بعد ذلك في حصول الاتفاق فيها" (¬3). فهو يجعل من هذا الاتفاق دلالة على علميتها، وهو لم ينتبه إلى أن هذا الاتفاق لا يشترط فيه العلمية بقدر ما يكون الاتفاق أحيانًا بسبب الإطار العام الذي تتحرك فيه جميع المدارس، وهو هنا الإطار العلماني الذي وحّد تلك المدارس في قضايا، وهذا التوحيد لا علاقة له بالعلمية إذا كان المراد بها القول الصواب الذي لا تغير فيه، بل إنه حتى في الدراسات الغربية المعاصرة نجد الحديث عن النظام السائد في مرحلة زمنية معينة ويدور الجميع ضمن هذا النظام "الإبستمي" كما طرحه ميشيل فوكو (¬4)، أو النموذج الإرشادي "البرداي" الذي يجتذب الجميع لفترة زمنية كما شرحه كون في "بنية الثورات العلمية" (¬5)، وبهذا تكون المعارف البشرية ذات بعد نسبي مهما بلغت دقتها وإجماع الناس عليها ما ¬

_ (¬1) المرأة الجديدة، قاسم أمين ص 114 - 115. (¬2) المرجع السابق ص 115. (¬3) المرجع السابق ص 129. (¬4) انظر: ميشيل فوكو في الفكر العربي المعاصر، د. الزواوي بغورة ص 29 وما بعدها. (¬5) انظر: التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية .. ، د. إبراهيم رجب، 49 وما بعدها، وانظر: بنية الثورات العلمية، توماس كون، كلام المترجم ص 12، وكلام المؤلف ص 83.

لم تجد مصدرًا حقيقيًا لتوثيق هذا الاختيار أو ذاك، ولن يكون ذلك إلا بالوحي. مع العلم أن القول بهذا الاتفاق داخل العلوم الاجتماعية لا حقيقة له، فالاختلاف بين المدارس الاجتماعية شأنه كبير، لدرجة أن هناك من يعلن نهاية هذه العلوم وفشلها وحاجتها إلى مسار جديد (¬1)، فاتفاقهم لا يعني علميتها كما أن الاتفاق مُنَازع عليه، وأسوأ من ذلك ضيق العلمية بحيث جعل العلم هو ما قاله الوضعيون بشتى مدارسهم وُيخرج من ذلك أساس العلم وهو الوحي. [أصل الحجاب]: يبدأ الاختلاف عند قاسم أمين بين منهجه القديم القائم على أن الحجاب شريعة يجب المحافظة عليها وبهذا يكون أصله الأمر الإلهي، وبين منهجه الجديد الذي يعتمد فيه العلمية -كما يقول ويقول أصحابه- القائم على وضع تصور جديد عن أصل الحجاب، وبهذا تختلف النتائج، ففي الأول يصل إلى أهمية المحافظة عليه بالصورة الشرعية التي اختارها بالتحجب ما عدا الوجه والكفين وخروج المرأة للتعلم والعمل، أما مع الثاني فيصل إلى أهمية تمزيق الحجاب. وقبل مناقشة هذه العلمية نعرض رأيه الجديد، وهو رأي يعتمد الأفكار الاجتماعية حول أصل العائلة والقيم المرتبطة بها، الذي يبدأ عادة بالإقرار أن الحجاب يعد ظاهرة اجتماعية بالمفهوم العلمي للظاهرة، ومهمة علماء الاجتماع دراسة هذه الظواهر، وغالبًا ما يجعلون محورها العائلة وأصل تكونها، وغالبًا ما يعتمدون على عينات من شعوب أمية ونائية في إفريقيا وأستراليا غيرها، باعتبار هذه القبائل تقترب من الأصل القديم للنظام العائلي، ثم ينطلقون منه في خط تطوري إلى النموذج الغربي على أنه أعلى درجات هذا التطور، وقد انساق قاسم أمين مع هذا التصور، فيبدأ ببيان المنهج "لا يمكن معرفة حال المرأة اليوم إلا بعد معرفة حالها في الماضي. تلك هي قاعدة البحث في المسائل الاجتماعية"، وهي تقوم على ادعاء إمكانية استقراء الحوادث الماضية عبر المؤرخين وما نجده من تأييد عبر السياح الأوروبيين في المجتمعات البدائية التي تؤكد ما ذكره المؤرخون، ومنها يقوم الباحث الاجتماعي بدراساته (¬2)، ثم ذكر خلاصة أبحاثهم: في المرحلة الأولى وقبل تكوّن العائلة ¬

_ (¬1) انظر: الفصل الثاني من الباب الثالث من هذا البحث. (¬2) انظر: المرأة الجديدة، قاسم أمين ص 11.

كانت المرأة ذات الشأن في الهيئة الاجتماعية، وكانت الحياة الجنسية مشاعية، لا زواج، ولما ودّع الإنسان بداوته واشتغل بالزراعة ظهر نظام البيت، ودخلت المرأة في نظام العائلة الجديد، فحرمت من استقلالها وامتلكها الرجل، وقد تسبب ظهور الدولة في تخفيف هذه العبودية على المرأة، ومع ذلك لم تنل كامل حقها أيام اليونان والرومان، وحتى مع الكنيسة التي مارست دورًا سلطويًا في أوروبا، ومع دخول الدولة أصبح الحال مرتبطًا بالسياسة (¬1)، ثم لخصه في مكان آخر: عاشت حرة في العصر الأول .. ثم وقع الاستعباد لها مع تشكيل العائلة .. ثم مع ظهور المدنية خف الرق ولكن بقي الاستبداد على المرأة .. حتى جاء الطور الرابع بعد مبلغ الإنسانية مبلغها من المدنية، فنالت المرأة حريتها الكاملة وتساوت مع الرجل، أما المرأة المصرية فهي في الطور الثالث (¬2)، ومع أنه أدخل النصرانية دينًا له دوره في وضع المرأة، فقد سكت عن دور الإسلام في هذا التاريخ البشري كعادة أهل التغريب، فلا ينظرون للتاريخ إلا من خلال تاريخ الآخرين، وكأن تاريخهم هو التاريخ الكوني الوحيد، بينما التواريخ الأخرى حتى ولو كانت بحجم التاريخ النبوي مع الأنبياء أو تاريخ الإسلام الضخم فإنه يختفي. ضمن هذا الإطار التاريخي للتاريخ الإنساني الذي يتصوره الوضعيون الاجتماعيون يضع قاسم أمين رؤيته تبعًا لهم عن الحجاب فيقول: "ولكن ما العلاقة بين حريتها وكشف وجهها واختلاطها بالرجال ومعاملتها لهم؟ فالجواب: إن إلزام النساء بالاحتجاب هو أقسى وأفظع أشكال الاستعباد؛ ذلك لأن الرجال في أعصر التوحش كانوا يستحوذون على النساء، إما بالشراء كما بيناه وإما بالاختطاف. وفي كلتا الحالتين كانوا يعتبرون أنفسهم مالكين نساءهم ملكًا تامًا وتبع ذلك أن الرجل جرد امرأته عن الصفات الإنسانية وخصصها بوظيفة واحدة وهي أن تمتعه بجسمها. فأقرها في مسكنه. وألزمها بأن تلازمه ولا تخرج منه حتى لا يكون لأحد غيره حظ في أن يتمتع بها ولو بالنظر أو بالحديث، شأن المالك ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق ص 11 - 14. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 22 - 23.

الحريص على ملكه الذي يريد أن يستأثر بجميع مزايا المتاع الذي يملكه. ولما كان من المحال ألا تعرض ضرورة تقضي على المرأة بالخروج من منزلها في بعض الأحيان أراد أن يتبعها بالحجاب حيث سارت فألزمها بستر وجهها إذا خرجت. هذا الحجاب الذي قرره الرجل في الأصل على زوجته تعدى بعد ذلك إلى البنات والأمهات والأخوات وإلى عموم النساء؛ لأن كل امرأة هي زوجة أو كانت زوجة أو مستعدة لأن تكون زوجة. فالحجاب هو عنوان ذلك الملك القديم، وأثر من آثار تلك الأخلاق المتوحشة التي عاشت بها الإنسانية أجيالًا قبل أن تهتدي إلى إدراك أن الذات البشرية لا يجوز أن تكون محلا للملك لمجرد كونها أنثى. . . ." (¬1). ويجيب عن سبب بقائه إلى اليوم فيقول: "وليس من الغريب بقاء الحجاب بعد زوال السبب الذي أوجده؛ أي: بعد خروج المرأة عن ملكية الرجل. . . ."، فـ"سنة التدرج أن تعيش النساء في حالة وسط بين الرق والحرية، حالة اعتبرت فيها المرأة أنها إنسان، لكنه ناقص غير تام، كبر على الرجل أن يعدّ المرأة التي كانت ملكًا له بالأمس، مساوية له اليوم" فأبقاها في مرتبة أقل منه وزعم أن الله أوجد هذه الحال، ولذا يلزم بقاؤها في بيتها وتستر وجهها إذا خرجت (¬2). وبعد هذا العرض العلمي كما يزعم يصل للنتيجة الخطيرة التي يحرص المتغربون عليها: "وذلك هو السر في ضرب الحجاب، وعلة بقائه إلى الآن، فأول عمل يعد خطوة في سبيل حرية المرأة هو تمزيق الحجاب ومحو آثاره" (¬3). ونجد فارقًا شاسعًا بين هذه النتيجة مقارنة بما في "تحرير المرأة" الذي يقول فيه: "ربما يتوهم ناظر أنني لا أزال أرى الآن رفع الحجاب بالمرة، لكن الحقيقة غير ذلك، فإنني لا أزال أدافع عن الحجاب وأعتبره أصلًا من أصول الأدب التي يلزم التمسك بها، غير أني أطلب أن يكون منطبقًا على ما جاء في الشريعة الإِسلامية وهو -على ما في تلك الشريعة- يخالف ما تعارفه الناس ¬

_ (¬1) المرجع السابق ص 34 - 45. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 35. (¬3) المرجع السابق ص 35.

عندنا. . . ." (¬1)، وقوله: "ولو أن في الشريعة الإِسلامية نصوصًا تقضي بالحجاب على ما هو معروف الآن عند بعض المسلمين لوجب علىّ اجتناب البحث فيه، ولما كتبت حرفًا يخالف تلك النصوص، مهما كانت مضرة في ظاهر الأمر؛ لأن الأوامر الإلهية يجب الإذعان لها بدون بحث ولا مناقشة. لكننا لا نجد نصًا في الشريعة يوجب الحجاب على هذه الطريقة المعهودة. . . ." (¬2)، وبعد عرضه أقوال المجيزين كشفها الوجه والكفين عند أمن الفتنة قال: "ولا ريب أن ما ذكرنا من مضار التحجب يندرج في حكمة إباحة الشرع الإِسلامي كشف المرأة وجهها وكفيها -ونحن لا نريد أكثر من ذلك" (¬3). لاريب أن هناك فارقًا كبيرًا بين الحالين، بين الدعوة للتمسك بالحجاب وبين الدعوة لتمزيقه، ولا يكون مثل هذه الحال إلا مع تغير كبير أصاب هذا الباحث. ونبحث الآن هذا المزعم العلمي حول أصل الحجاب. [حقيقة هذا الأصل]: تأتي المسائل عند قاسم وأمثاله بعد ذلك متفرعة عن هذا الأصل حول تكون العائلة والحجاب، وكأنه مسلمةٌ لا يعتريها النقاش والشك، وبهذا يحملون متبعهم في قطار ذي سكة واحدة، فمن ركب معهم لم يبق له إلا هذا المسار، ومن هنا كان من المهم قطع الطريق من أوله. ويأتي الإشكال هنا من جهتين: إما أن الطريق الذي صنعوه غير صحيح، وهو الغالب في مثل هذه المسائل، إذ أغلبها مبني على ادعاءات نعلم بطلانها من صحيح الوحي، ولا يستطيع عاقل جاهل بالوحي الجزم بصحتها أو علميتها، أو أن الطريق صحيح ولكنه يصح على أحوال بعينها، يغلب عليها في هذا الباب أن تكون أحوالًا منحرفة عن الفطرة السوية والشريعة المستقيمة، فيُحول المرض إلى قاعدة عامة، تعمّ كل الأحوال، وفي التعميم يقع خطأ المتعاملين مع مثل هذه المناهج. يقول "محمد أمزيان": إن "البحث في مجال النظم الاجتماعية من حيث أصولها ونشأتها والعوامل التي تخضع لها في تطورها تتعرض لكثير من الأخطاء، ولا يمكن أن تحقق قدرًا من العلمية لكثرة اعتمادها على التخمين والظن ¬

_ (¬1) تحرير المرأة، قاسم أمين ص 60. (¬2) المرجع السابق ص 62. (¬3) المرجع السابق ص 67.

والافتراض، وهذا النوع من الدراسات يمثل الجانب الميتافيزيقي أو الغيبي لعلم الاجتماع" (¬1)، وقد غلب البحث عن الأصل الأول للنظم الاجتماعية على نشاط الجيل الأول من علماء الاجتماع، وأمثلتهم التي يمثلون بها من الشعوب البدائية، تُعرض في قالب تطوري من أثر الدارونية، ثم أعقب هذه المرحلة مرحلة جديدة من الدراسات التي تتفحص الوضعية التطورية وتعارض الكثير من استدلالاتها ونتائجها، ومن ذلك مثلا: دراسات جديدة تدحض مسلمة القول بأن إباحية الحياة الجنسية كانت أولى مراحل تطور الأسرة الإنسانية (¬2). ومهما تكن الجهود المبذولة في هذا المضمار "فإن الاختلاف سيظل قائمًا بينهم ولا يمكن التوصل إلى نتائج قطعية بالاستناد إلى معلومات الإثنوغرافيا وحدها" (¬3)، فالعودة لأصل التاريخ الإنساني عبر عينات من أي باب كانت لا يمكن أن تكون الدليل القاطع، ومعلوم أن تلك الأصول البعيدة لا نملك أدلة كافية تبين لنا حقيقتها، وبهذا تكون النتيجة المنطقية أن "المنهج الوضعي قاصر عن الكشف عن حقيقة النظم الاجتماعية من حيث أصل نشأتها؛ لأنه قاصر على إدراك أبعاد التطور الإنساني الضارب في التاريخ، ولابدّ من البحث عن مصدر آخر غير المعلومات التاريخية والإثنوغرافية والإنثروبولوجية والأركيولوجية. . . .، فمهما كانت طبيعة هذه المعلومات فهي ناقصة. . . ."، وإذا كان الأمر بهذه الحال فنحن في حاجة لمصدر آخر قادر على إطلاعنا بتلك الحقبة البعيدة وقادر على هداية البحث العلمي البشري، وهذا المصدر لن يكون إلا الوحي (¬4). ويتواصل الإشكال مع النظريات المطروحة لتفسير التطور من ذلك الأصل الأول إلى الصورة الحالية التي وضعها أهل تلك النظريات آخر حلقة في السلم، ومن بين أشهر الاتجاهات في ذلك: الاتجاه الوضعي والاتجاه الماركسي (¬5)، ¬

_ (¬1) منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية، محمَّد أمزيان ص 86 - 87. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 87. (¬3) المرجع السابق ص 88. (¬4) منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية ص 90. (¬5) انظر: المرجع السابق، حول الاتجاه الوضعي ص 96، وحول الاتجاه الماركسي ص 99، ويقترب منهج قاسم أمين هنا من الاتجاهات الوضعية، وسيأتي مثال يقترب من الاتجاه الماركسي.

فهي من جهة مبنية على أصل غير مسلم به، ولم يسلم به إلا أتباع الاتجاه فقط، كما أن القانون الذي يفسر عملية التطور يلحقه ما لحق مبحث الأصل، والشواهد والأمثلة تخالف العمل العلمي لما فيها من انتقائية مع استبعاد ما يخالف فرضيات الاتجاه، ولذا فهم ينجحون عند تفسير الواقع ولكنهم يتيهون عند العودة للماضي أو عند وضع قانون عام للظواهر الاجتماعية، ولا يشترط أن يكون الواقع الصحيح من جهة التفسير هو الصحيح من جهة الحق والخير، فقد يكون الواقع هو المرض وينجح المفكرون في تشخيص المرض، ولكن صحة تفسير المرض لا يعني خيريته. الاستعانة بالعلم في تأكيد نتائج أصل الحجاب الاجتماعي: لقد بني قاسم دعواه على انحرافات علمية أو على أحسن الأحوال أوهامٍ علمية، ومع أن النتيجة التي وصل إليها باسم العلم لا تعد علمية فإنه مع ذلك أنهى الوضع وانتقل إلى استدلالات أخرى من ميادين للعلم لتأكيد سلامة النتيجة، وهو باب واسع وضبابي، مما يسمح بتسرب الأوهام تحت دعوى العلمية، حيث يغلب على المدعي فيها أن يذكر الدليل العلمي، وفي الفكر العلمي الحديث ما يعارضه تمام المعارضة، مما يجعل الجميع في حاجة لمرجعية أخرى، وعليا تحكم بين الطرفين. وهنا بعض ما ذكره في هذا الباب: [1] من ذلك الاستدلال بالتساوي في التكوين الجسدي للرجل والمرأة، فلماذا في رأيهم تُكلف بالحجاب! ولكن هذا الاستدلال تجد ما يعارضه من حقل العلم ذاته؛ أي: أننا نجد الدليل وضدّه، مما يعني وجود خطأ ما في التعامل مع العلوم الطبيعية التي تدرس جسد الإنسان. يرى قاسم أن أهم مسألة تسببت في استعباد المرأة، ثم حجابها هي تهمة نقصان العقل فيقول: "ولما كانت تهمة المرأة بنقصان العقل هي الحجة التي اتخذها الرجل لاستعبادها، وجب علينا أن نبحث في طبيعة المرأة لنعلم إن كانت، كما يقال أحط من طبيعة الرجل أم لا؟ " (¬1)، إلى أن قال: "يلزمنا لحلها أن نرجع إلى الأصول العلمية لنعلم ما تقرره فيها. . . . غير أنهم حكموا بأن المرأة ليست مثل الرجل في الخلقة، وأنه يوجد بين الصنفين اختلافات تشريحية ¬

_ (¬1) المرأة الجديدة ص 35 - 36.

وفسيلوجية يمتاز بها كل صنف عن الآخر. ولكن ليس في هذه الاختلافات ما يدل على أن أحد الصنفين أرقى من الآخر أو أحط منه" (¬1)، وهو يخلط هنا بين آراء البشر وقت انحرافهم عندما يحكمون بأفضلية مخلوق على آخر باللون أو الجنس، وهذا يخالف ما قرره الإِسلام عندما فرق من جهة الوظائف بين الذكر والأنثى، فهناك وظائف تناسب الرجل وأخرى تناسب المرأة، أما الأكرم فهو الأتقي، قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)} [الحجرات:13] ,قال ابن كثير في تفسيره: "فجميع الناس في الشرف بالنسبة الطينية إلى آدم وحواء سواء، وإنما يتفاضلون بالأمور الدينية، وهي طاعة الله ومتابعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -". ثم ذكر حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" (¬2). ولكنه يترك هذه المعاني العظيمة التي قررها الإسلام، ويذهب إلى أمر قد لا يخالف في معلوماته، ولكن يخالف في النتائج التي يريد الوصول إليها، يقول: "والحقيقة أن المرأة أمام علم التشريح ليست أقل درجة من الرجل ولا أرقى منه، وإنما تختلف عنه؛ لأن لها وظائف تقوم بها غير وظائف الرجل" (¬3). بل إننا نجد شهادات أخرى أكثر توازنًا من الناحية العلمية مع أن الدخول في هذا الباب دون الاستناد لركن قوي، يعرض الأطراف لتجاذبات قد لا تنتهي، ومع ذلك نذكر اتجاهًا آخر من داخل العلم يقول صاحبه: "إن الاختلافات الموجودة بين الرجل والمرأة لا تأتي من الشكل الخاص للأعضاء التناسلية، ومن وجود الرحم والحمل، أو من طريقة التعليم. إذ إنها ذات طبيعة أكثر أهمية من ذلك .. إنها تنشأ من تكوين الأنسجة ذاتها ومن تلقيح الجسم كله بمواد كيميائية محددة يفرزها المبيض. ولقد أدى الجهل بهذه الحقائق الجوهرية بالمدافعين عن الأنوثة إلى الاعتقاد بأنه يجب أن يتلقى الجنسان تعليمًا واحدًا، وأن يمنحا قوى واحدة ومسؤوليات متشابهة، والحقيقة أن المرأة تختلف اختلافًا كبيرًا عن ¬

_ (¬1) المرجع السابق ص 36. (¬2) تفسير ابن كثير ص 1243، والحديث رواه مسلم برقم (2564)، باب تحريم ظلم المسلم وخذله. . . . من كتاب البر والصلة والآداب. (¬3) المرأة الجديدة ص 37.

الرجل. فكل خلية من خلايا جسمها تحمل طابع جنسها .. والأمر نفسه صحيح بالنسبة لأعضائها. وفوق كل شيء، بالنسبة لجهازها العصبي. فالقوانين الفسيولوجية غير قابلة للين مثل قوانين العالم الكوكبي .. فليس في الإمكان إحلال الرغبات الإنسانية محلها. ومن ثم فنحن مضطرون إلى قبولها كما هي. فعلى النساء أن ينمين أهليتهن تبعًا لطبيعتهن دون الرجال، فيجب عليهن ألا يتخلين عن وظائفهن المحددة" (¬1). والمسلم ليس في حاجة لتلك أو هذه إلا بقدر ما ينفعه منها، ولكن المقصود أن العلم الذي يستدل به على دعواه، الصحيح منه لا يخالف ما جاء به التشريع الرباني، وما سوى ذلك فستجد القول ونقيضه، وكلاهما ينتميان لحق العلم، ولا حلّ للمختلفين إلا بالحق، قال -تعالى-: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)} [البقرة: 213]. [2] ومن ذلك إدخال الدراسات النفسية كحجة على المشكلات التي تترتب على الحجاب، ليصلوا إلى أهمية إزالته أو تخفيفه لأبعد حد ممكن، وتأتي النظريات النفسية حول الكبت والعقد النفسية ذات البعد العلماني في قمة التأثير، وفي ذلك تقول باحثة اجتماعية عن قاسم: "بل يذهب إلى أبعد من ذلك عندما يتناول تناولًا علميًا تأثير الحجاب في البناء النفسي والجسدي والعصبي للمرأة، فيقول: "إن الحجاب من شأنه أن يخل بنظام الجسد، وهو يضعف الأعصاب مما يجعل القوى النفسية تختل" (¬2)، ونجد هذه الحملة عند متغرب آخر من نسبة كل أمراض المرأة الجسدية والعقلية والنفسية لدرجة البلاهة إلى الحجاب (¬3)، ونجد عند مفكر آخر "فؤاد زكريا" دعواه بوجود ازدواجية للخطاب الإسلامي حول الحجاب "تتعلق بالسلوك المنتظر من المرأة المحجبة نفسها، فالمطلوب ¬

_ (¬1) الإنسان ذلك المجهول، ألكسيس كاريل ص 108 - 109، ترجمة شفيق فريد، وانظر: التطور والثبات في حياة البشرية، محمد قطب ص 213 وما بعدها. (¬2) تأثير التيارات الدينية في الوعي الاجتماعي للمرأة العربية، ليلى الأحيدب، ضمن كتاب الدين في المجتمع العربي ص 286. (¬3) انظر: سلامة موسى بين النهضة والتطوير، د. مجدي عبد الحافظ ص 95 - 98.

منها أن تكون متقشفة المظهر، حاجبة لنظرات الآخرين وأطماعهم، متباعدة قدر الإمكان عن الجنس الآخر، وفي الوقت ذاته أن تكون أنثى كاملة مع الزوج. . . . ولكن المشكلة من الوجهة النفسية أشد تعقيدًا بكثير؛ لأنها تفترض من المرأة القدرة على الجمع بين العفة المفرطة من ناحية، والإقبال المفرط على الجنس من جهة أخرى؛ ذلك لأن على هذه المرأة نفسها أن تعوض زوجها عن خشونة مظهرها الخارجي، وتثبت له أنها لا زالت الأنثى القادرة على تحقيق جميع رغباته. فكيف يمكن أن تجمع شخصية واحدة، ونفسية واحدة، بين هذين النقيضين؟ ألا يؤدي هذا التناقض بين المظهر الخارجي والممارسة الخاصة إلى أزمة نفسية أو تعقيد في التكوين الداخلي للمرأة؟ " (¬1). أول ما نجده حول قاسم أمين هو تضخيم مواقفه ذات البعد العلمي، ومن ذلك مسائل ذات صلة بعلم النفس بكل مذاهبه المتنافرة ونظرياته المتناقضة والمعقدة، وتتوقع أنك ستجد هذا الطرح العلمي النفسي بذكر النظريات والأدلة والنتائج فإذا نظرنا لما قاله فلا نجد إلا سطرًا أو سطرين، فأين هي العلمية! فمن ناحية شرعية يمتنع أن يوجد في شرع الله ما يضرّ جسد الإنسان أو نفسه، فما جاءت الشريعة إلا لسعادة الإنسان وصلاح حاله ومآله، كما أن الواقع لا يقدم أي دليل علمي، وإنما هو من رمي التهم وهي عادة كل من تأثر بالعلمنة والتغريب، وإلا فما يحصل للمرأة المتبرجة والتي تخالط الأجانب من إضعاف أعصابها، وما يصيبها من ضغط نفسي هو الأبرز، ولكنهم يتنكرون للفطرة، ويدّعون أن ما أصابها من جراء الاختلاط مرض لابد منه فهو ضريبة الحضارة. كما أنهم يصورون المتحجبة، وكأنها في كيس مغلق لا ترى النور ولا تشم الهواء، بينما الحجاب الإسلامي هو نوع من اللباس يغطي جمال المرأة وزينتها أمام الأجانب فقط ولا يمنعها من أي نشاط، كما أنه لا يحرمها من أي احتياج، قد نتصور تلك العقد والأمراض النفسية لو تخيلنا وجود امرأة في كيس، ولا تدري عن العالم حولها شيئًا ولا ترى نور الشمس ولا الهواء النقي ولا تتحرك ولا تمشي ولا تمارس نشاطًا بدنيًا، وهذا غير موجود في الحجاب الإسلامي. بل إننا لو سرنا في مسار الاستشهادات العلمية فسنجد دراسات من ميدان العلوم ¬

_ (¬1) الصحوة الإسلامية في ميزان العقل، د. فؤاد زكريا ص 147.

الاجتماعية تثبت عكس ما يدّعون، حيث تثبت الجانب النفسي الجيد للمتحجبة وذلك بالاعتماد على دراسات ميدانية متكئة على معرفة جيدة بميدان العلوم الاجتماعية ونظرياتها (¬1). النموذج الثانى: النموذج المادى الماركسى: سبق أن رأينا أن الدراسات العلمية حول المرأة والأسرة تنتمي لعلم الاجتماع الوضعي الذي تأثر كثيرًا بفكرة التطور الدارونية، وقد ظهرت اتجاهات اجتماعية مختلفة منها الوضعية التي تأثر بها "قاسم أمين"، ومنها "المادية" ولاسيّما في صورتها الماركسية، ويأتي هذا النموذج مثالًا عنها، وبقدر ما يتفقون في النتيجة حول وضع الحجاب، إلا أن الاختلاف فقط حول الأصول النظرية، وكما سبق فإن الاتفاق على خلع الحجاب لا يأتي بسبب علمية النتيجة، وإنما بسبب علمانية العلم، وهو الإطار العام الذي يضبط جميع الدراسات المنطوية تحته. نجد هذا المثال في تطورية دارونية ومادية صريحة مع سلامة موسى. ساق "موسى" مسار تطور الإنسان حيث بدأ بحسب زعمه مثل القرد يتسلق الأشجار ويعيش عليها، ثم حدثت ظروف حملت الإنسان على ترك الأشجار والعيش على الأرض، وبدأت تتطور أعضاء الإنسان بما يناسب المشي على الأرض، وقد كانت حياة الإنسان في هذه الفترة مشاعية، وفي هذه المرحلة تطور دماغه وانتقل لممارسة الصيد مما تعني الحاجة للتعاون والحاجة للغة فنشأت اللغة، وفي مرحلة الصيد نشأت "معظم خرافاته، جاءت من هذه الحقبة حين كان يستعين على الصيد بعقائد السحر والدين. ذلك أن الصيد خطر، والصائد عرضة لأن يكون فريسة ما يصيد، ولذلك كان الخوف يعم الصائدين ويحملهم على التشبث بأية عقيدة تلهمهم بعض الاطمئنان. وظهر حجاب المرأة في ذلك الوقت؛ ذلك أن أشأم كلمة أيام الصيد كانت كلمة الدم. إذ هي تحمل معنى القتل، ولما كانت المرأة تحيض كل شهر كانت لذلك يحرم على الرجل الاقتراب منها أو حتى رؤيتها قبل الخروج للصيد حتى لا يتشاءم بالدم" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر مثلًا: سيكولوجية الحجاب. القيم النفسية لارتداء الحجاب مع دراسة ميدانية على عيّنة عربية، د. عبد الرحمن العيسوي. (¬2) المرجع السابق ص 13.

فهذه صورة أخرى حول أصل الحجاب، وهي تشترك مع ما طرحه قاسم أمين في باب تحول المرأة ضحية الاستعباد، وقد انتقل من أصل الحجاب إلى واقعه، فزعم أنه أكبر عائق من تحررها وتقدمها، وألصق بالحجاب أقذع الأوصاف، واعتبر "أثر الحجاب على المرأة أقسى ما يمكن أن تُبتلى به الأمة، حتى ولو كان زلزالًا أفضى إلى موت عشرة ملايين مواطن، ولم يبق سوى مليون؛ لأنه قد خلص إلى نتيجة، مفادها أن هبوط مستوى المرأة من الإنسانية إلى الحيوانية، سبب لهذا الحجاب" (¬1)، ورآه المرض الحقيقي لتأخر نسائنا (¬2). نجد تصحيحًا ماركسيًا لكلام "سلامة" من أحد المعجبين به حول أصل الحجاب وذلك بوضع سكة قطار مادية أحادية: "وهذا صحيح، وإن كانت "النجاسة" في مفهوم المجتمع القديم، لم تتعلق بالدم كما يرى سلامة؛ لأن التفسير العلمي للحجاب هو الإحساس الجديد بالملكية. ففي المجتمع المشاعي -حيث العلاقات الجنسية غير مقيدة- لا نجد الحجاب. وإنما وجد -لأول مرة- مع ميلاد الملكية الفردية. فالنجاسة هناك "اقتصادية" في الأغلب "كما بدأ انتشار ستر العورة كطريقة صريحة لامتلاك النساء". بالرغم من أن "سلامة موسى" يرى أن ستر العورة كان عملية تزيين مثيرة للجنس. وهذا صحيح أيضًا. ولكن هذه الزينة المثيرة نفسها لم تبدأ إلا مع إحساس المرأة بحاجتها "الاقتصادية" للرجل. فلم يصبح ساعداها، وإنما جسدها، مركز الإغراء. ولما كانت الفروق التي حدثت للمجتمع الإنساني، بعد تطوره من العبودية إلى الرأسمالية المعاصرة، لم تصنع تغييرًا حاسمًا لمركز المرأة، فإن جسدها ظل بؤرة إغرائها للرجل .. أو لمستقبلها الاقتصادي، ولذا بقي "الحجاب" و"الفصل بين الجنسين" و"الثأر للشرف". . . . كرواسب حية نامية على العمود الفقري للنظام الطبقي، الممتد من بداية المجتمع العبودي حتى مجتمعنا الرأسمالي الحديث" (¬3)، ثم قال هذا الماركسي: "والحجاب -في النهاية- ليس جدران الحريم، ولا البراقع السود، وإنما هو نظام اجتماعي بأكمله"، ويرى أن كل المساواة بين الذكر والأنثى الموجودة في النظام الرأسمالي لن تنجح إلا إذا تغير النظام الاجتماعي ¬

_ (¬1) سلامة موسى بين النهضة والتطوير، د. مجدي عبد الحافظ ص 95. (¬2) انظر: النهضة والسقوط. . . .، د. غالي شكري ص 31. (¬3) المرجع السابق ص 168.

الطبقي (¬1)، ثم هو يبشر بما يحدث في نصف العالم الذي ينتقل لطور جديد طور "المرحلة الاشتراكية في الاقتصاد والاجتماع على السواء، إذ إن أدوات الإنتاج التي كانت تملكها طبقة فحسب، أعيدت -أو في سبيل إعادتها- إلى القوى المنتجة .. للرجل والمرأة جميعًا" عندها يختفي "ذلك الوضع الشاذ -وهو سيطرة الرجل على المرأة- بدخول المرأة ميادين الإنتاج، إذ تنتفي الدوافع التي كانت سببًا في سيطرة الرجل" (¬2)، ويسقط مع سقوط المجتمع الطبقي الحجاب، وكل نظام يقترب من الفطرة، من زواج وأسرة وتربية للأبناء وممارسة الجنس وغيرها (¬3). تقع هذه النظرة في نفس الإشكاليات التي تقع فيها النظرة السابقة من جهة أصل العائلة، فهي تقع في بؤرة إشكالية إقامة دعوى عن إباحية جنسية أول الوجود الإنساني، إلا أن الحجاب هنا ولد مع الملكية الفردية وما تبعه من ظهور المجتمع الطبقي، فيختزل الأمر في الجانب الاقتصادي، ويختزل تبعًا لذلك تاريخ الإنسانية في هذا الجانب، ثم يربط الحل بالجانب نفسه، ويطرح النموذج الشيوعي نموذجًا طوباويًا لمجتمع في اتصال جنسي قائم على الحب دون الحاجة لنظام الأسرة، ويقوم المجتمع بتربية الأطفال، وتختفي كلمة لقيط، والشرف والعار وكل الأمور التي هي إفراز شاذ لمجتمع طبقي، ولا شك أن ذلك النموذج الذي يعرضونه قد سقط سقطة مهولة، وقد كان من أكبر ضحاياه المرأة في تلك المجتمعات، حيث تشير التقارير الدولية عن أكبر عملية تجارة للرقيق الأبيض من الجمهوريات الاشتراكية التي بشر بها هذا الماركسي وأمثاله. وفي الختام قد يكون من المناسب ذكر موقف منسوب لقاسم أمين في آخر حياته: "لقد كنت أدعو المصريين قبل الآن إلى اقتفاء أثر الترك، بل الإفرنج في تحرير نسائهم، وغاليت في هذا المعنى حتى دعوتهم إلى تمزيق ذلك الحجاب، وإلى إشراك النساء في كل أعمالهم ومآدبهم وولائمهم .. ولكني أدركت الآن خطر هذه الدعوة بما اختبرته من أخلاق الناس، فلقد تتبعت خطوات النساء في كثير من ¬

_ (¬1) المرجع السابق ص 169. (¬2) المرجع السابق ص 172. (¬3) انظر: المرجع السابق، 172 - 174.

أحياء العاصمة والإسكندرية لأعرف درجة احترام الناس لهن، وماذا يكون شأنهم معهن إذا خرجن حاسرات، فرأيت من فساد أخلاق الرجال بكل أسف، ما حمدت الله على ما خذل من دعوتي، واستنفر الناس إلى معارضتي .. ، رأيتهم ما مرت بهم امرأة أو فتاة إلا تطاولوا إليها بألسنة البذاء، ثم ما وجدت زحامًا في طريق فمرت به امرأة إلا تناولتها الأيدي والألسنة جميعًا .. إنني أرى أن الوقت ليس مناسبًا للدعوة إلى تحرير المرأة بالمعنى الذي قصدته من قبل" (¬1). وفي خاتمة هذا المبحث نصل إلى أن التغريب قد تلبّس بالعلم ونظرياته من أجل علمنة الحياة العملية، وأن العلم لم يكن سوى قناع لتلك المهمة، أما العلم الصحيح النافع فلا يكون مخالفًا لما جاء به الدين، وقد ظهر أن ما يقولون: إنه علم ويعارض الدين أنه ليس كذلك، سواء في باب الأخلاق، أو في باب الربا، أو في باب التداوي، أو في باب الحجاب، وأن العلم الصحيح والنافع منه تجده يسير بجانب الدين ويتفق معه دون مشكلات بخلاف ما ادعي علميته مع المتغربين فهو يصطدم بالدين. وبهذا ينتهي الحديث عن الأمثلة المقترحة، ومعها ينتهي الفصل الثالث، وبذلك يختم الباب الثاني. وقد بُحث في هذا الباب التأثر المنهجي في الفكر التغريبي بالانحراف المصاحب للعلم الحديث، وذلك في ثلاثة فصول: الفصل الأول عن التأثر المنهجي في مصدر التلقي وطرق الاستدلال، وقد نوقش ذلك في مبحثين الأول عن المصدر وأثر الانحراف في هجر الوحي، والثاني عن أثر الموضوعية في استبعاد الدين. والفصل الثاني كان عن التأثر المنهجي في طريقة التعامل مع القضايا الغيبية الاعتقادية، وقد نوقش في مبحثين: الأول عن الأصل المنهجي الذي يسبب مثل هذا الانحراف، وهو الانحراف في الغيب، بينما المبحث الثاني يطرح أمثلة وقع فيها الانحراف. والفصل الثالث كان عن التأثر المنهجي في طريقة التعامل مع القضايا الشرعية العملية، وقد نوقش في مبحثين: الأول عن الأصل المنهجي الذي يسبب مثل هذا الانحراف وهو أثر العلمنة ومفاهيمها، بينما المبحث الثاني يعرض أمثلة وقع فيها الانحراف. ¬

_ (¬1) عودة الحجاب 1/ 72 - 73، وقد ذكره عن أنور الجندي من كتابه "رجال اختلف فيهم الرأى".

الباب الثالث صور لدعاوى باطلة ونظريات منحرفة ظهرت في الفكر التغريبي حول الدين والعلم وخطورتها وفيه فصلان: • الفصل الأول: صور لدعاوى أظهرها الاتجاه التغريبي باسم العلم الحديث. • الفصل الثاني: صور من ثأثر الفكر التغريبي بنظريات علمية منحرفة حول مفهوم الدين.

الباب الثالث صور لدعاوى باطلة ونظريات منحرفة ظهرت في الفكر التغريبي حول الدين والعلم وخطورتها

الباب الثالث صور لدعاوى باطلة ونظريات منحرفة ظهرت في الفكر التغريبي حول الدين والعلم وخطورتها بعد النجاح الباهر للعلم في العصر الحديث، واستقلاله عن الفلسفة وعن الدين في إطار الحضارة الغربية، أصبح يمثل عند تيارات الفكر أيدلوجيا جديدة تنافس الفلسفة والدين في تلك الحضارة، وقد نشبت صراعات فكرية كبيرة بسبب ذلك، وهي مشكلة خاصة بالبيئة الغربية أساسًا، وترتبط بالتطورات والتغيرات التي شهدها واقعهم، ولكن أهل التغريب أبوا إلا نقل تلك المشكلات للبيئة الإِسلامية، وتصويرها وكأنها مشكلات كونية، ومن ذلك الرؤى الجديدة حول: "العلاقة بين الدين والعلم"، أو "حول رؤية العلم للدين". فمن جهة "العلاقة بين الدين والعلم" ظهرت مجموعة دعاوى أبرزها "ثلاث": الأولى، دعوى أهمية إبعاد الدين عن العلم تحت مبدأ علمنة العلم، فقد أوحت التجربة الغربية الناتجة عن الصراع بين الكنيسة والعلم وبتشكل مجتمع علماني دنيوي بأهمية علمنة العلم. والثانية، تجاوزت مسألة الفصل بين المجالين إلى دعوى وجود تعارض بين الدين والعلم، وذلك لصالح العلم؛ لأن العلم مبني

على الحقائق، ومن ثم فنتيجة رفع دعوى التعارض الاهتمام بالعلم وإهمال الدين، وهنا تظهر الدعوى الثالثة كبديل عن الدين المُهمَل، وهي القول بكفاية العلم لشموليته، فما من باب إلا طرقه، فليُترك الدين ويكتفى بالعلم. وقد خصصت لهذه الدعاوى الفصل الأول، وأتناول كل واحدة منها بمبحث مستقل على النحو الآتي: الفصل الأول: صور لدعاوى أظهرها الاتجاه التغريبي باسم العلم الحديث. المبحث الأول: دعوى أهمية علمنة العلم ورفض التأصيل الإِسلامي مظاهرها وخطرها. المبحث الثاني: دعوى التعارض بين الدين والعلم الحديث. المبحث الثالث: دعوى كفاية العلم الحديث لحاجة الإنسان وشموليته بدلًا عن الدين. ومن جهة "رؤية العلم العلماني للدين" ظهرت مجموعة علوم تهتم بدراسة الدين بعد دعوى استقلال العلم عن الدين، بحيث أصبح بإمكانه دراسة أي شيء بما في ذلك الدين الذي انفصل عنه؛ أي: أن الدين يُدرس دراسة علمية، ومن هنا تدخل النظريات العلمية حول الدين، وقد كثرت في الغرب، ولكن أهمها مع المتغربين "ثلاث": أوّلها، نظريات التطور حول الدين التي ارتبطت بداروين ثم بالدارونية الاجتماعية، وثانيهما، نظريات حول الدين ظهرت في علم النفس، وثالثها، نظريات حول الدين ظهرت في علم الاجتماع. وقد خصصت لهذه النظريات حول الدين الفصل الثاني، في ثلاثة مباحث، يتناول الأول النظرية التطورية في تفسير الدين، والثاني عن النظرية النفسية، والثالث عن النظرية الاجتماعية، على النحو الآتي: الفصل الثاني: صور من تأثر الفكر التغريبي بنظريات علمية منحرفة حول مفهوم الدين. المبحث الأول: التأثر بنظرية داروين التطورية من علم الأحياء حول الدين. المبحث الثاني: التأثر بنظريات من علم النفس حول الدين. المبحث الثالث: التأثر بنظريات من علم الاجتماع حول الدين.

إذًا، يبحث الباب الثالث في الفصل الأول المشكلات التي أثارها المتغربون بين الدين والعلم من جهة العلاقة، مثل: "العلمنة" و"التعارض" و"الكفاية", بينما يبحث الفصل الثاني المشكلات التي أثارها المتغربون بين الدين والعلم من جهة دعوى التصور العلمي للدين، مثل "التطورية" و"النفسية" و"الاجتماعية".

الفصل الأول صور لدعاوى أظهرها الاتجاه التغريبي باسم العلم الحديث وفيه ثلاثة مباحث: • المبحث الأول: دعوى أهمية علمنة العلم ورفض التأصيل الإسلامي: مظاهرها وخطرها. • المبحث الثاني: دعوى التعارض بين الدين والعلم الحديث. • المبحث الثالث: دعوى كفاية العلم الحديث لحاجة الإنسان وشموليته بدلًا عن الدين.

الفصل الأول صور لدعاوى أظهرها الاتجاه التغريبي باسم العلم الحديث

الفصل الأول صور لدعاوى أظهرها الاتجاه التغريبي باسم العلم الحديث يبحث هذا الفصل في دعاوى تغريبية حول العلاقة بين الدين والعلم، فإن للعلم نظرياته التي سببت صراعًا حادًا داخل الحضارة الغربية بين الكنيسة والعلم، مما دفع بدعوى "العلمنة" للواجهة كحل، وهي مبنية على وجود "تعارض" بين الدين والعلم ونظرياته، وكانت في الحضارة الغربية قائمة بين الكنيسة والعلمانية في جوهرها، ومن نتائج ذلك القول مع طائفة كبيرة بـ"كفاية" العلم. وقد انتقلت هذه المشكلات للبيئة الإِسلامية مع المتغربين، فنشروا نظريات هدفها إثارة المشكلات، ومن ثم تحمسوا لـ"علمنة" العلم بحجة تخليصه من قيود الدين، ورفعوا من شأن "التعارض" بين الدين والعلم، وما ترتب على ذلك من مواقف اتخذوها، وانساقت طائفة من المتغربين في دعوى "كفاية" العلم. فهذه ثلاثة مباحث تناقش هذه الانحرافات التي أقامهما المتغربون بين الدين والعلم حول "العلمنة" و"التعارض" و"الشمول".

المبحث الأول دعوى أهمية علمنة العلم ورفض التأصيل الإسلامي مظاهرها وخطرها

المبحث الأول دعوى أهمية علمنة العلم ورفض التأصيل الإِسلامي مظاهرها وخطرها تتميز الأمة الإِسلامية بمركزية العلم فيها، فالعلم ركن أصيل في الإِسلام، لهذا يرتبط العلم بالدين ارتباطًا وثيقًا، وقوة الدين وصحته وسلامته تعني قوة العلم، بخلاف الحضارة الغربية الحديثة، حيث ارتبط تقدم العلم فيها بالانفصال عن الدين، وبما أن المتغربين مقتدون بالغرب، فقد ظنوا أنه لا علم إلا بالانفصال عن الدين. يرتبط العلم في التاريخ الإِسلامي بهذا الدين الحق الذي أوجد هذه الأمة، وجعلها خير أمة أخرجت للناس، وكلما ارتبط العلم بهذا الدين العظيم نمى وازدهر ونفع، فإن انفصل عن الدين انحسر أمره وظهر ضرره. وقد وقع ضعف في عصور المسلمين الأخيرة أصاب كل شيء بما في ذلك العلم، ومع ذلك فما كان يتوقع أحد أن يأتي ذلك اليوم الذي يُدْعى فيه للفصل بين الدين والعلم؛ لأن الأمة تعرف أن الدين هو سبب ظهور هذه الأمة العالمة، فكيف يأتي يوم يُطلب فيه تنحية الدين عن نشاطات حياة المسلم! وكذا الفطرة السليمة لا تجد مشكلة

تعريف العلمانية

بين الدين والعلم (¬1)، ومع ذلك جاء من يتحمل وزر هذه الدعوى، ويزعم أنها الطريق لنهضتنا العلمية، فكيف برزت هذه الدعوى؟ وما علاقتها بالعلم الحديث ونظرياته؟ ومن خلفها؟ وما حقيقتها؟ وما خطرها؟ وأسئلة أخرى يتناولها هذا المبحث بالتحليل والدراسة. وبما أن المظلة التي استظلت بها هذه الدعوى هي العلمانية "أي: طلب علمنة العلم" فستكون الدراسة من خلال هذه المظلة. تعريف العلمانية: يُطلق على المجتمعات الغربية أنها مجتمعات علمانية، وكذا دولها حيث يقال: هي دولة علمانية وتنصّ دساتيرها على العلمانية، وتكون الدولة ومؤسساتها تبعًا لذلك علمانية، بما في ذلك العلم الحديث الذي برع فيه الغرب، وأول ما يواجه الباحث هنا مشكلات التعريف والاختلافات حوله؛ لأن منها ما يركز على صورته الفكرية الذي عُرف في الوسط الفلسفي والفكري، ومنها ما يركز على صورته الاجتماعية من تبني تيارات واتجاهات لهذا المفهوم والدعوة له ونشره، ومنها ما يركز على صورته القانونية البارزة في دساتير الدول الغربية، ومن قلدها بعد أن نُص عليها في تلك الدساتير، ومنها ما يركز على ثماره ونتائجه التطبيقية في مجالات الحياة من تعليم وسياسة واقتصاد وفكر وثقافة وفنون وآداب وعلاقات وغيرها. وما يهمنا أنه مصطلح ظهر للتعبير عن أمرين، وتبعًا لذلك تكونت له رؤية، والأمران هما: "الفصل بين الدين ودنيا الناس، والاهتمام بالدنيا وإغفال الآخرة"، ولن يحقق المفهوم عمله إلا برؤية، ومن هنا ظهر المصطلح برؤية جديدة تعارض الرؤية الدينية. وأكتفي هنا بالتعريف اللغوي والترجمة العربية له، ثم أنتقل لأحدث التعريفات له في اللغة العربية: مصطلح "العلمانية" مصطلح له شهرته في السنوات الأخيرة، وقد جمع أستاذنا الكريم الدكتور "السيد أحمد فرج" في كتابه: "جذور العلمانية" مجموعة أبحاث حول تحديد هذا المصطلح، نختصرها هنا: "العلمانية" مصطلح أفرزته ¬

_ (¬1) انظر: مذاهب فكرية، محمَّد قطب ص 479.

الحياة الأوروبية، ويراد به كما جاء في "المورد": "عدم المبالاة في الدين، أو بالاعتبارات الدينية" (¬1)، وفي معجم "ويبستر" "علماني: (secular)، دنيوي: (worldly)، أو لا ديني: (pagan) ، ومن معانيها: الشيء الذي يحدث مرة واحدة في عصره، أو جيل أو شيء مرتبط بعصره. وأشهر معانيه الآن: الأمور الدنيوية المتمايزة عن الأشياء الروحية، غير العقدية، وغير التي لها صفة الخلود "الأخروي"" (¬2). (والعلمانية: secularism، فهي رؤية للحياة، أو في أي أمر معين يعتمد أساسًا على أنه يجب استبعاد الدين، وكل الاعتبارات الدينية وتجاهلها، ومن ثم فهي نظام أخلاقي يعتمد على قانون يقول: بأن المستويات الأخلاقية، والسلوكيات الاجتماعية يجب أن تحدد من خلال الرجوع إلى الحياة المعيشية، والرفاهية الاجتماعية، دونما الرجوع إلى الدين" (¬3)، ويختصر "الخطيب" أهم دلالاتها في المعاجم الفرنسية فيقول: "دنيويّ، أو زمني، أو عامي، أو قرني، أو دهري، أو ترابي، أو عالمي" (¬4). وتقول "دائرة المعارف البريطانية" في تعريف كلمة " secularism": " هي حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس عن الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بالحياة الدنيا وحدها. ذلك أنه كان لدى الناس في العصور الوسطى رغبة شديدة في العزوف عن الدنيا، والتأمل في الله واليوم الآخر. ومن أجل مقاومة هذه الرغبة طفقت الـ" secularism" تعرض نفسها من خلال تنمية النزعة الإنسانية، حيث بدأ الناس في عصر النهضة يظهرون تعلقهم الشديد بالإنجازات ¬

_ (¬1) المورد، بعلبكي ص 827، العلمانية: تاريخ الكلمة وصيغتها، أ. د. عبد الصبور شاهين ص 117 من كتاب جذور العلمانية، وقد ذكر شاكر النابلسي أنها من إضافة صاحب المورد على القاموس المترجم، انظر: الفكر العربي في القرن العشرين 2/ 168 هامش:1. (¬2) عَلماني وعَلْمانية تأصيل معجمي، د. السيد فرج ص 135، وانظر له ص 109 من كتاب: جذور العلمانية. (¬3) عبد الصبور شاهين ص 136 - 137، وانظر: سيد فرج ص 112 من كتاب: جذور العلمانية. (¬4) قصة دخول العلمانية في المعجم العربي، أ. د. عدنان الخطيب ص 156 من كتاب: جذور العلمانية.

الثقافية البشرية، وبإمكانية تحقيق طموحاتهم في هذه الحياة القريبة. وظل الاتجاه إلى الـ" secularism" يتطور باستمرار خلال التاريخ الحديث كله باعتبارها حركة مضادة للدين ومضادة للمسيحية". "وهكذا يتضح أنه لا علاقة للكلمة بالعلم، إنما علاقتها قائمة بالدين ولكن على أساس سلبي؛ أي: على أساس نفي الدين والقيم الدينية عن الحياة. وأولى الترجمات بها في العربية أن نسميها "اللادينية" بصرف النظر عن دعوى "العلمانيين" في الغرب بأن "العلمانية" لا تعادي الدين، إنما تبعده فقط عن مجالات الحياة الواقعية: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية .. إلخ، ولكنها تترك للناس حرية "التدين" بالمعنى الفردي الاعتقادي، على أن يظل هذا التدين مزاجًا شخصيًا لا دخل له بأمور الحياة العملية" (¬1). وتتفق كلمة الباحثين السابقين على أنه لا صلة للعلمانية بالعلم، وفي ذلك يقول "الخطيب" بعد السرد السابق لها في المعاجم الفرنسية: "فكل واحدة من هذه النسب تصلح أن تكون مقابلًا للكلمة الفرنسية (seculaire), إلا العلم فلا يدخل في مدلولاتها في أي مرجع غير عربي. . . ." (¬2)، وهي النتيجة نفسها التي توصل إليها الدكتور السيد فرج (¬3)، وتبعًا لذلك تذهب الأبحاث السابقة إلى أن المصطلح العربي العَلمانية مشتق من العَالَم بفتح العين، ويذهب إلى هذا مجموعة من المدافعين عن العلْمَنة أيضًا (¬4)، وفي المقابل هناك طائفة من المدافعين عن العلمانية يرون أن أصلها مشتق من العِلم، بكسر العين (¬5). وإذا كانت الكلمة بعيدة عن العلم من جهة الترجمة، إلا أن المدافعين عن ¬

_ (¬1) مذاهب فكرية، محمَّد قطب ص 445. (¬2) المرجع السابق (جذور العلمانية) ص 156. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 139 - 140، وكذا أ. د. عبد الصبور شاهين ص 123 - 124 من (جذور العلمانية). (¬4) انظر: الفكر العربي في القرن العشرين. . . . 2/ 165، وانظر: الصحوة الإِسلامية في ميزان العقل، د. فؤاد زكريا ص 46، وانظر: مجلة "الطريق" حيث محور عددها الرابع سنة (1995 م) العقلانية والعلمانية، مقال (العلمانية بوصفها أيدلوجيا. . . .)، د. أحمد برقاوي ص 46 - 47. (¬5) انظر: العلمانية من منظور مختلف، د. عزيز العظمة ص 17 - 18.

العلمنة يعودون من النافذة بعد خروجهم من الباب لإثبات الصلة بين العلمانية والعلم من جهة جوهر رؤيتها، فيجتهدون في ربط العلمانية بالعلم بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ومن ثم يدافعون عن علمنة العلم لتعليلات يأتي الوقوف معها لاحقًا، ففي "الموسوعة الفلسفية العربية" المشهورة تعريف بالعلمانية، ويقرّ المعرِّف بها أنها غير مشتقة من العِلم، بل هي من العَالَم، ثم يقول: "ولكن ليس من قبيل الصدفة أن تذهب الأذهان إلى العِلم عند ذكر العلمانية، فما ذلك لتشابه في اللفظ فحسب، بل كذلك للصلة المضمونية. فالعلماني هو بالإجمال من يأخذ بالتصور العلمي للعالم في مقابل التصور الديني" (¬1)، ويقول "العظمة": "والحال أن العلمانية في توصيفها الفكري تحتمل الاثنين وتتضمنهما معًا، فالعلمانية تستند إلى النظرة العلمية بدل الدينية الخرافية إلى شؤون الكون والطبيعة على العموم، وتؤثر الكلام في علم الفلك على الكلام القرآني حول التكوير، والكلام في الجغرافيا الطبيعية على الكلام حول جبل قاف، والأخذ بالاعتبار العقلي بدل الاعتبار الإيماني والخرافي لأمور كالمعراج والطوفان وانقلاب العصي أفاعيَ، والمشي على الماء وإحياء الموتى، وشق البحر. ." (¬2). والحقيقة أن التصور العلمي للعالم ليس لعلميته الكاملة، فهي علمية نسبية وغير مكتملة، ولكنه أصبح يشارك الدين في أمور حول العالم والإنسان والحياة، ويجيب بأجوبة فيها، قد تتفق مع الدين وقد تختلف معه، وبما أن العلماني يهرب من الدين، فإنه يدّعي ذهابه للعلم بسبب دخول العلم مجالات كان الدين هو الذي يتحدث عنها، وقد لا يقدم العلم الجواب المقنع في كثير من المسائل، ولكنه يقدم أجوبته باسم العلمية، فيلتصق العلماني بالعلم كبديل عن الدين، فموقفهم علماني وليس علميًا؛ لأن الموقف العلمي هو الذهاب مع الحق، فإن وجد في الدين ذهب معه وإن وجد في العلم أخذ به، وما في العلم من حقائق لا تتعارض مع الدين الحق. ويقدم الدكتور "فؤاد زكريا" حجة أخرى لهذا الربط بين العلمانية والعلم بعد أن رجّح عدم الصلة الاشتقاقية، فربطها من جهتين: فالعلم بمعناه الحديث ¬

_ (¬1) الموسوعة الفلسفية العربية 2/ 914، أعدّ التعريف جورج طرابيشي. (¬2) العلمانية تحت المجهر، د. عبد الوهاب المسيري، د. عزيز العظمة ص 156، والكلام للعظمة المدافع عن العلمنة.

وقفتان حول المصطلح: "تاريخية المصطلح، وعلاقته بالعلم"

لم يظهر إلا بعد انتزاع أمور الحياة من المؤسسات الدينية، والعلم مرتبط بهذا العالم الذي تهتم به العلمانية ويترك ما وراءه لأنواع أخرى من المعرفة، دينية كانت أم صوفية، "ولم يصبح العلم علمًا إلا منذ أن ركز اهتمامه على فهم هذا الكون المنظور، وترك شؤون الآخرة للدين، ورفض أية محاولة للخلط بين المجالين" (¬1). ولهذا يروّج دعاة العلْمَنة للعلمانية تحت ستار العلم، ومن ذلك قولهم: "إنها الأسلوب الوحيد لتحرير العلم من الدين" (¬2)، حتى شاع عند بعض الناس أن العلمانية وإن جافت الدين فهي "تشتمل على الأفكار والمبادئ التي تشكل الفكر "العلمي" الذي يمكن أن يعين علي بناء النهضة وصنع التقدم والمساهمة "العلمية" في حل مشكلات التاريخ والاجتماع والاقتصاد والأمية. . . . أي: استقر في خلد البعض أنها هي "العلمية" التي ترتكز على النظر العلمي والبحث المنهجي والاستقراء والملاحظة. . ." (¬3). وقفتان حول المصطلح: "تاريخية المصطلح، وعلاقته بالعلم": أقف الآن وقفتين مع المصطلح، الأولى حول الظرف التاريخي لظاهرة العلمانية، والثانية حول حقيقة الصلة بين العلمانية والعلمية، فأما [الأولى] فتتفق الدراسات على أن العلمانية برزت في مرحلة الصراع الثقافي والاجتماعي بين الكنيسة وخصومها، وقد ارتكبت الكنيسة حماقات كبيرة في صراعها مع العلوم البشرية وأهلها، وادّعت تمثيل الدين في خصومتها، وما كانت أهلًا لتمثيله بما تحمله من جهل وظلم، جهل بالدين الحق وظلم للناس باسم هذا الدين المحرّف الذي تتبناه، وأخطر ما في الأمر أنها أصبحت سُلطةً ذات مكاسب من فرْض جهلها وظلمها، فجاء مشروع العلمنة كحل لفصل الكنيسة عن حياة الناس السياسية والاقتصادية والعلمية والشأن العام كله، فيبقى التدين شأنًا فرديًا، ولكن العلمانية لا يمكن أن تكون عملية فصل محايدة سلبية، وإنما كانت حركة ذات رؤية جديدة بلغت ذروتها في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر. ¬

_ (¬1) انظر: الصحوة الإِسلامية في ميزان العقل، د. فؤاد زكريا ص 46. (¬2) الإلحاد الديني في مجتمعات المسلمين، د. صابر طعيمة ص 131. (¬3) المرجع السابق ص 210، بتصرف يسير للاختصار، وقد أبطل الكاتب ذلك.

وفي هذا المقام نعرض حديث القرآن عن هذه السلطة الكنسية الفاسدة ودعوته لمقاومتها والعودة للدين الحق، فالله سبحانه قد أخبر عن هذه السلطة الباطلة فقال -تعالى-: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} [التوبة: 31]، قال ابن كثير -رحمه الله-: "روى الإِمام أحمد، والترمذي، وابن جرير من طرق، عن عدي بن حاتم، - رضي الله عنه -، أنه لما بلغته دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرَّ إلى الشام، وكان قد تنصر في الجاهلية، فأسرت أخته وجماعة من قومه، ثمَّ منَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أخته وأعطاها، فرجعت إلى أخيها، ورَغَّبته في الإِسلام وفي القدوم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقدم عَدِيّ المدينة، وكان رئيسًا في قومه طيء، وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم، فتحدَّث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي عنق عَدِيّ صليب من فضة، فقرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم! فقال: بلى، إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم" (¬1)، فالأحبار والرهبان قد وضعوا أنفسهم في مقام من يُشرعّ ويمارس ذلك باسم الرب، وقَبِل الأتباع بهذه الحالة فوضعوا الأحبار والرهبان موضع الرب، ولا شك أنها سلطة عالية حصلوا عليها، وقد حرّم الله سبحانه قبولها وأوجب نبذها. وقال الشيخ السعدي في هذه الآيات: " {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} أي: كيف يصرفون على الحق، الصرف الواضح المبين، إلى القول الباطل المبين. وهذا -وإن كان يستغرب على أمة كبيرة كثيرة، أن تتفق على قول- يدل على بطلانه أدنى تفكر وتسليط للعقل عليه، فإن لذلك سببًا وهو أنهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ} وهم علماؤهم {وَرُهْبَانَهُمْ} أي: العُبَّاد المتجردين للعبادة {أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} يُحِلُّون لهم ما حرم الله فيحلونه، ويحرمون لهم ما أحل الله فيحرمونه، ويشرعون لهم من الشرائع والأقوال المنافية لدين الرسل فيتبعونهم عليها" (¬2). ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير ص 596، والحديث رواه الترمذي برقم (3095) باب ومن سورة التوبة من كتاب تفسير القرآن .. ، وقال عنه: حديث غريب، وحسنه الألباني في غاية المرام، حديث رقم (6) ص 19 - 20. (¬2) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، الشيخ عبد الرحمن السعدي ص 335.

وقال القرطبي -رحمه الله-: "قوله -تعالى-: {أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} قال أهل المعاني: جعلوا أحبارهم ورهبانهم كالأرباب حيث أطاعوهم في كل شيء" ثم استشهد ببيت معبرٍ لعبد الله بن المبارك: "وهل أفسد الدين إلا الملوك ... وأحبار سوء ورهبانها" (¬1) وفي هذا البيت تنبيه لطيف لمثل هذه السلطات الباطلة: سلطة السياسة الفاسدة التي عرفتها أوروبا في عصورها الوسطى، وسلطة الكنيسة مع الأحبار والرهبان، فأفسدوا دين الناس ودنياهم. وللقرطبي -رحمه الله- وقفة مهمة مع قوله -تعالى-: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)} [البقرة: 78 - 79]: "قال علماؤنا -رحمة الله عليهم-: نعت الله تعالى أحبارهم بأنه يبدلون ويحرفون فقال وقوله الحق: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ}، الآية. وذلك أنه لما درس الأمر فيهم، وساءت رعية علمائهم، وأقبلوا على الدنيا حرصًا وطمعًا، طلبوا أشياء تصرف وجوه الناس إليهم، فأحدثوا في شريعتهم وبدلوها، وألحقوا ذلك بالتوراة، وقالوا لسفهائهم: هذا من عند الله، ليقبلوها عنهم فتتأكد رياستهم وينالوا به حطام الدنيا وأوساخها" (¬2)، وهو إشارة واضحة إلى البحث عن الرياسة والشهرة والسلطة بما كذَبوا به على الله من أخبار أو شرائع، فبهذه السلطة الفاسدة يتحكمون في الأتباع بالباطل وبالظلم، ويظهر بذلك الفساد في دنيا الناس ودينهم مما يوجب على العقلاء نبذها والبحث عن الحق. أما الوقفة الثانية فهي عن الصلة بين العلمانية والعلمية، وقد آن الأوان لرفع هذا التلاعب الدلالي بالمصطلحات الحادثة، وكشفها بكل أبعادها، ومن ذلك الخلط المتعمد بين العلم والعلمانية، فالعلمية قبل أن تكون مطلبًا علمانيًا إن صح ذلك فهي مطلب إسلامي، فالإِسلام يطلب من أهله أن يقيموا دينهم ودنياهم ¬

_ (¬1) تفسير القرطبي 8/ 120. (¬2) المرجع السابق 2/ 6 - 7.

على العلم، ويندهش كل عاقل من مكانة العلم في الإِسلام، رسالته تقوم على الانتقال بالأمة من الجهل للعلم، وأن تقيم حياتها على العلم، وقد سبق بيان ذلك. ولو صح حرص العلمانية على العلم فهو علم ناقص وفقير، فهو ناقص من جهة اهتمامه بعلم الدنيا فقط، وفقير لغياب التصورات والقيم التي تحيطه وترعاه، فالعلمانية تريد علمية خالية من الدين حتى فيما هو ضروري للعلم من الدين، بينما العلمية في الإِسلام علمية مستضيئة بنور الوحي ومهتدية بالدين، العلمانية منهج حياة يبعد الدين عن شؤون العالم وهذا لا علاقة له بالعلمية البشرية التي هي نشاط لمعرفة القوانين (¬1). والعلمية قد نشأت أساسًا في الحضارة الإِسلامية في ظل الإِسلام، بخلاف العلمانية، فقد نشأت في حضارة هاربة من الكنيسة، ومن رجع لتاريخ الفكر الغربي يجد أن الحركة العلمية انطلقت من أناس لا يرفضون الدين، فقد قامت الثورة العلمية والفكر المرتبط بها من قبل متدينين أو لا يرفضون الدين، ومنهم رجال كبار في الكنيسة، فلم تقم معهم دعوى للفصل، وإنما جاء الفصل الحقيقي "مع عصر التنوير وبلغ ذروته مع الوضعيين"، وما زالت آراء الوضعيين ذات تأثير إلى اليوم (¬2)، وقد ساد تبعًا لذلك في القرنين الماضيين الاعتقاد بأن هناك تصادمًا لا يمكن تجنبه بين المعرفة العلمية والإيمان الديني، وقد آن الأوان -بحسب زعمهم- للاستعاضة عن العقائد الدينية بالعلم (¬3). ومع ذلك فمن المسلم به أن العلمانية تبنّت العلم الحديث ودافعت عنه ولكن بالصورة التي تراها, وليس ذاك العلم المحايد الموضوعي، وإنما العلم المنخرط في صراع فكري داخل الغرب المختلط بتصورات فلسفية وفكرية لا دينية؛ أي: العلم العلماني وليس العلم المحايد الموضوعي. والعلم طاقة من طاقات الإنسان، وهو في حاجة إلى منهج وروح وليس أمامه سوى الدين أو العلمنة (¬4)، والعلمنة قد أثبتت فشلها أن تكون روحًا للعلم، ¬

_ (¬1) انظر: العلمانية النشأة والأثر في الشرق والغرب، زكريا فايد ص 159 - 161، وانظر: المرجع السابق، طعيمة ص 210 - 211، وانظر: الإِسلام والعلمانية .. ، د. يوسف القرضاوي ص 63 - 71. (¬2) انظر: الأسس الميتافيزيقية للعلم، د. حسين علي ص 8. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 27. (¬4) انظر: المرجع السابق، طعيمة ص 221.

فما بقي إلا تصحيح المسار بالعودة للدين، وربط كل شئوننا به. ومع أن الفطرة السليمة ضد هذه القسمة وكذا العقل الصحيح، ومع أنها ترتبط بواقع تاريخي أساءت فيه الكنيسة باسم الدين أيما إساءة، ثم بواقع متطرف معارض لها تمثل في الملحدين وأمثالهم النابذين للدين كونه دينًا فقط، مع كل هذه الحقائق الجلية التي تجعل من الدفاع عن العلمنة أمرًا سخيفًا بمنطق العقلاء، فإن أصرّ هؤلاء على الاستشهاد بواقع الحركة العلمية في أوروبا العلمانية، فنضيف هنا تحليلًا للمسألة حتى نكشف أبعادًا أخرى يتجاهلها العلمانيون: تحتاج الظواهر المعقدة إلى تحليل دقيق، ومن ذلك هذا التصاحب بين الثورة العلمية والنجاح العلماني، وهنا تقدم سؤالًا نقديًا مهمًا: هل يعني هذا التصاحب وجود سببية؟؛ أي: أن العلمانية كانت سببًا في تقدم العلم كما هو قول أكثر المتغربين أو أن التقدم العلمي يؤدي للعلمانية كما هو قول طائفة أخرى، وهل يعني وجود ظاهرتين في عصر واحد وجود السببية أم أنه قد توجد ظواهر متجاورة وتكون العلاقة بينها غامضة وتفتح الباب للاستثمار من قبل القوى الاجتماعية الفاعلة بما يتوافق مع هواها؟ لم يتيسر لي رؤية دراسة عربية تبحث هذه القضية وتجيب عن هذه التساؤلات المهمة، ولاسيّما أن هناك شواهد وظواهر تُضعف من مسألة السببية الإيجابية بين العلمانية والعلم، ومن ذلك أن بداية الثورة العلمية جاءت مع متدينين، بل بعضهم من رجال الكنيسة، فالانحراف جاء من الكنيسة ولا علاقة له بالدين، كما أن العلمنة ارتبطت بأشخاص لهم موقف سلبي من الدين مما يفتح الباب للسؤال عن علاقة الحقيقة بالهوى عند هؤلاء، فإن صاحب الهوى يختلط عنده الأمر ويلتبس عليه، فتظهر دعاوى غير صحيحة، ولاسيّما إذا تعلق الأمر بأفكار وأيدلوجيات وحركات اجتماعية مثل العلمنة وغيرها. يبقى الانتباه لمسألة: وهي أن العلمنة إنْ اهتمت بالعلمية، فهو العلم الذي ينفع في جانب ويقصر عليه، وهو العلم الدنيوي، فإذا كانت العلمانية هي الدنيوية فعلمها يرتبط بالدنيا, ولا شك أن أمةً تتفرغ لهذا الباب ستبرع فيه كما برعت أمم وثنية في حضارات تاريخية سالفة وأتت بعلوم وصناعات خلدتها في التاريخ, مثل الفراعنة والإغريق وغيرهم، ولكنه قَصُر عن مجالات مهمة في حياة البشر، وهذه هي الحضارة الغربية التي بلغت في العلوم الدنيوية مبلغًا لا مثيل له، ومع ذلك فهي

فقيرة جدًا في حاجات الإنسان الشمولية، ولا يعني ذلك الإنقاص من أهمية العلوم التي برعوا فيها, ولكن إنما هو بيان خطرها عندما تُفصل عن الدين، وها هم يبحثون عن بديل للدين لكي يملؤوا به حياة الإنسان كالفنون والآداب والمتع لعلها تلبي حاجته ومع ذلك لم تُلبَّ تلك الحاجات، وكان الظن بأن العلم الدنيوي هو البلسم للإنسان فإذا هو يزداد بهم شقاء، ولم تتحقق الأمنية، وكان الجدير بالمتغربين إذ اطلعوا على ثقافة الغرب وحياته أن ينتبهوا لهذه المشكلة النابعة من علمنة الحياة، وأن ينبهوا من خلفهم، وأن يشاركوا في تقديم البديل الإسلامي. قد يفتتن البعض بتجاور بعض الأمور، فيعتقد مثلًا أن تقدم العلم في الغرب جاء مع نجاح العلمانية في تلك البلاد، بسبب التجاور بينهما, ولا شك أن العلمانية خففت من تسلط الكنيسة الفاسدة والموروثات الباطلة والعقيمة، ولكن التقدم العلمي عمومًا يرتبط بمن يفتح له المجال ويشجعه وهذا ما نجده بارزًا في الإِسلام، فقد صاحب وجود الإِسلام ثورة علمية حقيقية في البيئة الإِسلامية، وارتباط العلم بالإِسلام أوضح من ارتباطه بالعلمانية؛ يرتبط بالعلمانية تقدم العلوم الدنيوية والصناعية ولكنه ظاهر الحياة الذي يفرح به الكفار بينما العلم الكامل والحقيقي هم في غفلة عنه، فالإِسلام يرتبط به تقدم العلم الديني والدنيوي وتكاملهما، أما العلمانية فيرتبط بها التقدم الدنيوي مع خسران الإيمان بالله وخسارة الآخرة، وعلى هذا فالتجاور لا يعني السببية وإن وجدت فينظر في حقيقتها، وهي هنا قد تكون مصاحبة لتقدم العلم في الغرب ولكنها ليست الوحيدة كما تقدم في الباب الأول، كما أنها لا تُقارن بدور الإِسلام (¬1) بربانيته ¬

_ (¬1) انظر: المؤلفات المعاصرة التي تتحدث عن خصائص التصور الإِسلامي أو بعضها مثل: خصائص التصور الإِسلامي، سيد قطب، الشمول .. ، د. عابد السفياني، واقعية التشريع الإِسلامي وآثارها، زياد صالح، المنهاج القرآني في التشريع، د. عبد الستار سعيد، خصائص الشريعة الإِسلامية، عمر الأشقر ص 33، شريعة الإِسلام خلودها وصلاحها للتطبيق في كل زمان ومكان، يوسف القرضاوي ص 18، ميزات الشريعة الإِسلامية على القوانين الوضعية، عبد الحميد طهماز ص 51، وغيرها، كما أن المكتبة الإِسلامية تحوي على بابين كبيرين تحدثا عن الموضوع وفيهما كتب كثيرة، وهما: تاريخ الفقه الإِسلامي أو التشريع الإِسلامي، ومدخل الفقه الإِسلامي أو التشريع الإِسلامي.

وشموليته وتوازنه من جهة كونه فتح الباب ودفع بالأمة نحو العلم، كما أنه جعل ذلك التكامل بين الديني والدنيوي. ونصل من كل ما سبق إلى أن من فحص حقيقة العلمانية في الغرب يجد أن دورها في خدمة العلم إن ثبت فمحدود بالدنيوي، ومع ما فيها من محاسن فتلك المحاسن لم تكن مجهولة في الدين الحق، ويفْضل الدين الحق بقدرته على معالجة مشكلات العلم وإعطائه منظومة من القيم فضلًا عن دور الغائية الدينية في وزن بوصلة العلم. تعد العلمانية جهدًا لتقليص حجم مساحة الدين في حياة الناس، ولكن الحياة بعد ذلك تبقى مفتوحة للآراء والأهواء، آراء العقول وأهواء النفوس وميولها، فتدار الحياة بعقول متناقضة وبأهواء متصارعة، فلا يوجد عقل واحد ولا توجد رغبة واحدة، العقول محكومة بحدودها وإمكانياتها، والأهواء محكومة بتمايزات أصحابها بين الغنى والفقر أو القوة والضعف، فليس هناك هوى واحد كما أنه ليس هناك عقل واحد، قد يمكن الوصول لقواسم مشتركة توفرها عقلية متبعة من العقليات وتلم أهواءَها المتناثرة مصلحة، ولكنها عقلًا وتاريخًا لا تكفي، فهي في حاجة لمرجعية عليا تنير العقل وتهذب الرغبة، وليس إلا الدين الحق يحقق ذلك. الدين الحق على العكس من العلمانية، يجمع بين الدين والدنيا، وبين الأولى والآخرة، فهو لا يقلص الدنيا، وإنما يرعاها ويضعها في وضعها الحقيقي، بخلاف المعادلات الخاطئة التي عرفها الغرب الوسيط والحديث، ففي الوسيط أهملوا الدنيا حتى فسدت أحوال الناس فهلكوا بحجة الاكتفاء بالدين، وفي الحديث أهملوا الدين حتى فسدت حياة الناس فهلكت أرواحهم بحجة الاكتفاء بالدنيا، ويشترك الدين الباطل مع العلمانية الخبيثة في إفساد دين الناس ودنياهم، فالدين الباطل مثله مثل العلمانية الخبيثة في الأثر الخطير على البشر، فالأديان المبدلة أو المخترعة تفسد دنيا الناس ودينهم، ولذا يجد دعاة العلمنة راحة مؤقتة عند تحييد الدين وعزله، ويجدون تقدمًا دنيويًا يغرهم ويفتنهم، ولكنه يجلب معه معاناة بسبب غياب المعنى الكلي والهدف من الحياة والإجابات الحقيقية عن الرب سبحانه وعلاقة الوجود به، وعن الإنسان: أصله ومصيره، وعن الكون وموجده وغايته. نختم هذه الوقفة بطبيعة ظهور مجال علمنة العلم، فكما أنه ظهر في ظروف

غربية تابعة لمشكلة انحراف الكنيسة والنصرانية، فقد ظهر من البدايات في العالم الإِسلامي مرتبطًا بالنصارى العرب، وقد سبق في فقرة الصحافة [الفصل الرابع من الباب الأول حول دور الصحافة] ذكر شيء من ذلك، ومن بين أشهر المؤسسين لهذا التوجه الجديد بطرس البستاني، الذي تأثر بالمنصرين الأمريكان فأخذ بطريقتهم في فصل العلم عن الدين مع الاجتهاد في خدمة النصرانية، حيث شارك في أول ترجمة عربية للتوراة مع رعايته المدارس العصرية والجرائد والتأليف ومن ذلك وضعه أول موسوعة بالعربية أنجز منها ستة أجزاء، وقد زاد نشاطه بقوة بعد أحداث (1860 م) وما صحبها من تدخل الغرب لدعم النصارى وحمايتهم في لبنان وما حولها، وقد صحب بطرسُ المنصرَ الأمريكي المشهور "فان ديك" وشاركه أعماله، وأكتفي هنا بالتوقف مع دوره في صناعة فضاء علماني للعلم، وفي ذلك يقول د. المحافظة: "وسار في هذا التيار العلمي - العلماني، في بلاد الشام، أحمد فارس الشدياق،. . . . وبطرس البستاني. . . ." (¬1)، فقد أصبح من المشهور وصفهم بالتيار "العلمي - العلماني", وقد يستغرب لرجل مهتم بالدين مثل بطرس كيف يسعى لعلمنة العلم؟ ومن أشهر الأجوبة أن هذا التيار النصراني في ثقافته قبول الفصل بين ما لله وما لقيصر، ولكن الأهم هو أن علمنة العلم تمكنهم من اختراق المجتمع الإِسلامي، ومن ثم توظيف هذا المجال الجديد توظيفًا يخدم وضعهم، وقد أشار لذلك في مدح أكثر من كاتب علماني، مثل عزيز العظمة وهشام شرابي وغيرهما (¬2). حقيقة العلمانية: من أحدث الكتابات حول تعريف العلمانية ما ذكره "المسيري"، حيث قسمها إلى قسمين: علمانية شاملة وأخرى جزئية، ثم عرف كل قسم، فـ "العلمانية الشاملة: رؤية شاملة للعالم ذات بعد معرفي "كلي وجزئي" تحاول -بكل صرامة- تحديد علاقة الدين والمطلقات الغيبية "الميتافيزيقية" بكل مجالات الحياة، وهي ¬

_ (¬1) انظر: الاتجاهات الفكرية عند العرب. . . .، علي المحافظة ص 238، وحول نشاطه بعد 1860. انظر: رواد النهضة الأدبية .. ، د. كمال اليازجي ص 92. (¬2) انظر: العلمانية من منظور مختلف، عزيز العظمة ص 88، 188، المثقفون العرب والغرب، هاشم شرابي ص 125 وما بعدها، العرب النصارى .. ، حسين العويدات ص 194.

رؤية عقلانية مادية تدور في إطار المرجعية الكامنة والواحدية المادية التي ترى أن مركز الكون كامن فيه غير مفارق أو متجاوز له. "فالعلمانية الشاملة وحدة وجود مادية"، وإن العالم بأسره مكون أساسًا من مادة واحدة، ولا قداسة لها, ولا تحوي أية أسرار، وفي حالة حركة دائمة لا غاية لها ولا هدف، ولا تكترث بالخصوصيات، أو التفرد، أو المطلقات، أو الثوابت. في هذه المادة -بحسب هذه الرؤية- تشكل كلٌّ من الإنسان والطبيعة؛ فهي رؤية واحدية طبيعية مادية" (¬1)، وهذا المعنى الشمولي هو الأقرب لأغلب دعاتها العرب، فقد لخص الدكتور خالد منتصر -أحد المدافعين عن العلمنة- دعوات العلمانيين في مصر فقال: بأن "العلمانية في جوهرها ليست سوى التأويل الحقيقي والفهم العلمي للدين" وأنها "نظرية في المعرفة وليست نظرية في السياسة، ذلك أن العلمانية محاولة في سبيل الاستقلال ببعض مجالات المعرفة عن عالم ما وراء الطبيعة وعن المسلمات الغيبية. . . ." علق الدكتور أحمد برقاوي: "وهذا ما يتفق عليه معظم العلمانيين في الوطن العربي" (¬2). فإذا نظرنا لمعالم هذه الرؤية الشاملة التي تحوي العلم وغيره نجد ما يلي: 1 - أنها رؤية ذات أصول وتصورات، تقوم على أن الكون مستقل غير محتاج لغيره وأنه مكتف بذاته. 2 - هدفها الصريح تحديد العلاقة بين الدين والحياة بحيث يُلغى الدين أو يبعد. 3 - لا غيبيات ولا قداسة. ¬

_ (¬1) العلمانية الشاملة والعلمانية الجزئية، د. عبد الوهاب المسيري ص 113، ويظهر من كتاب المسيري في تقسيمه بين علمانية شاملة وأخرى جزئية قبوله أو تفهّمه على الأقل للجزئية ورفضه للشاملة، وهو رأي غير مستقيم؛ فتميّزُهُ في المجالات الفكرية وقصور بضاعته الإِسلامية جعله يتبنى مواقف تظهر في نهايتها لصالح الفكر التغريبي أكثر من خدمتها الفكر الإِسلامي، ولكن تعريفه للشمولي منها هو المهم وهو السائد عند المتغربين، أما الجزئية فهي جزئية مقارنة بالشاملة ولكنها لوحدها ومن وجهة النظر الإِسلامية هي نظرة شاملة في بابها، فهي تمنع شرع الله من ذلك الجانب الذي استثنته. وانظر له أيضًا: العلمانية تحت المجهر ص 58 - 60، 120 - 124. (¬2) مجلة الطريق، العدد الرابع سنة (1995 م)، مقال (العلمانية بوصفها أيدلوجيا. . . .)، د. أحمد برقاوي ص 50.

4 - لا غاية ولا هدف. 5 - لا خصوصيات ولا مطلقات ولا ثوابت. 6 - مادية العالم، وهو أظهر في التيارات الفكرية المادية (¬1). وقد سارت علمانية العلم المسار نفسه، فكان لها مظاهر خطيرة، منها ما هو في صلب النشاط العلمي ومنها ما هو من المتخيل حول العلم، ومن تلك المظاهر: 1 - تصور بديل عن الخالق سبحانه لتفسير الظواهر المختلفة، بحيث يرفضون إعادة الأمر لله، فالعلمانية تُبعد الله عن أي تفسير للعالم المخلوق، والعالم يحوي داخله ما يكفي لتفسيره دون حاجة إلى اللجوء إلى أي شيء خارج النظام الطبيعي (¬2). 2 - ترك البحث في الغايات والاكتفاء بالتفسير، أو ذكر غايات مثالية ذهنية لا تجيب عن حيرة الناس وتساؤلاتهم الفطرية، وهو مرتبط بالمظهر الأول، كما أنه يرتبط بإغفال العلمانية للبعد الأخروي. 3 - التذبذب بين "آلية - ميكانيكية - وحتمية" الظواهر، ومنع أي تغير فيها إلا ما تقره عقولهم المرتبطة بالتصور النيوتني، وبين النسبية واللايقين المتروكة للمادة المرتبطة بالتصور المعاصر "النسبية والكوانتم"، وعدم الإقرار بالربوبية، ورفض الإيمان بالخلق والقدر. 4 - رفض أي تفسير ديني وإن كانت النفوس تقبله وتقر به الفطر وتقبله العقول السليمة، وذلك يعود لمرض الشبهات وأمراض النفاق والإلحاد. 5 - انشغال العلم بمجالات ليست من اختصاصه، ولاسيّما في الجانب الديني، وقد برز ذلك مع غرور التيارات العلموية التي تزعم شمولية العلم العلماني، وسيأتي لها مبحث مستقل. 6 - إغفال العلاقة بالأصول الدينية، فنشاط العلم يكون في التصور العلماني ¬

_ (¬1) انظر: العلمانية تحت المجهر، د. عبد الوهاب المسيري، د. عزيز العظمة ص 62 - 63، 86 - 89 والكلام للمسيري. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 57، من كلام المسيري.

بعيدًا عن النظر في العلاقة بالرب والغيب والدين والرسالات والآخرة والكون المخلوق، وقصة "لابلاس" وأمثاله مشهورة، والكلام هنا ليس عن الجزئيات العلمية مثل معادلات رياضية أو تفاعلات كيميائية، وإنما المقصود عن الأطر العامة التي هي أساسية في التصور الإِسلامي لكل نشاط بشري. 7 - رفض أي ضابط ديني قيمي للعلم، ويرى العلمانيون أن هذا من باب فتح الباب لحرية العلم حتى وإن خالف الحق الديني، وهذا يكثر في باب العمليات، فقد نجد الشرع يعارض بعض الأمور العلمية لمفاسدها وليس لعدم إمكانها، وهم يرون أن العلم لا يعرف هذه الموانع إلا ما تمنعه عقولهم. 8 - جعل العلم مقياسًا لما يُقبل أو يرفض من الدين، والحق هو في العكس، مع توسيع مفهوم العلم هنا بحيث يدخل فيه ما هو محل اشتغال داخل العلم وإن لم يكن علمًا، وفي المقابل يرفضون جعل الدين مقياسًا للمجال العلمي. 9 - ما يترتب على هذا التصور من جعل العلم ومؤسساته ومراكزه بعيدة عن الدين منفصلة عنه، فينطلق التصور الذهني إلى واقع مؤسساتي رافضًا للدين وطاردًا له، كما هو حال مؤسسات التعليم وجامعاته، مما دفع بالمتدينين في الغرب إلى فتح مدارس خاصة بهم لا تتبع الدولة (¬1). فهذه أبرز معالم العلمانية، وهي تعد قاسمًا مشتركًا عند أغلب التيارات الفكرية الغربية، وقد نجحت تلك التيارات في جعل العلمانية من صلب دستور الدولة الغربية الحديثة، وهي علمانية نجحت في فرض رؤيتها على المجالات المهمة في الحياة الغربية بما في ذلك المجال العلمي، فامتدت المعالم السابقة إليه، تُمدّه بالتصور البديل والروح والغذاء، وهي نفسها التي نراها تدخل في دعوى علمنة العلم، وهي التي يواجهها الفكر الإِسلامي بكل قوّة. ¬

_ (¬1) قد سبق عرضها في مباحث مختلفة ولاسيّما في الفصل الأول من الباب الثاني، والمبحث الأول من الفصل الثاني من الباب الأول.

مشكلة الفصل العلماني بين الدين والعلم وأثره: ليست عملية الفصل العلماني فقط في إبعاد الدين عن العلم بمعنى عدم الاستدلال بآية أو حديث على مسائله الرياضية أو الطبيعية، فهذه لا يقول بها حتى الاتجاه الديني الداعي للتأصيل الإِسلامي، والاتجاه العلماني يذكر هذا عادة من باب السخرية من التيار الإِسلامي وإلا فالعلمانية ليست إبعاد الدين فقط وإنما هي إبعاد الله عن العلم، وهنا بالذات يقع الفرق بين الرؤيتين الدينية والعلمانية، فالعلمانية عندما تمتنع عن ذكر الله سبحانه في ميدان العلم يرتبط بذلك عدد كبير من التصورات والنتائج، يصبح العالم لوحده ويسبح في هذا الفراغ المظلم، مجرات بنجومها وأرض صغيرة توجد فيها هذه الحياة، ويشتغل العلم العلماني في هذا العالم التائه، وعندما يوضع سؤال: من أين جاء هذا العالم؟ يرفض العلم العلماني إعادة ذلك لله؛ لأنه بحسب العلم العلماني جواب غير علمي. وعندما يأتي سؤال عن غاية العالم أو عن مصيره، عندها يمنع العلم العلماني البحث في الغايات؛ لأنه غير علمي، ومصير العالم يبحث فقط في حدود العلم الذي يحدد مصير الكون دون ربط ذلك بمصير أخروي فهذا مبحث غير علمي. وعندما يأتي تعليل للحوادث الكونية بربطها بتدبير الخالق سبحانه، فهذا في العلم العلماني تعليل غير مقبول، وتجدها في النهاية مرتبطة بإبعاد الله سبحانه عن العلم بسبب علمانيته، وفي ذلك يقول محمَّد قطب عن علمانية العلم في أوروبا: "ولكن أوروبا بدأت من هذه الحماقة ثم لجت فيها إلى أبعد الحدود .. مجرد ذكر اسم الله في البحث العلمي يعتبر إفسادًا للروح العلمية، ومبررًا لطرح النتائج العلمية كلها ولو كانت كلها صحيحة بمقياس العلم ذاته الذي جعلوه إلهًا من دون الله! بل مجرد الاعتقاد بوجود الله، وأنه هو خالق الخلق وخالق الكون كفيل بإخراج العالم من دائرة العلماء الذين يعتد بهم ويؤخذ بآرائهم ولو كانت آراؤه صحيحة بمقياس البحث العلمي، بل إنه يحيط ذلك العالم بالارتياب والشك في كل ما يقول، ويجعله موضع الزراية من العلماء "الحقيقيين" الذين لابد أن يكونوا ملحدين لتكون آراؤهم موضع التسليم! " (¬1). ¬

_ (¬1) مذاهب فكرية، محمَّد قطب ص 481.

بحسب هذا التصور قامت العلمانية أولًا بتفريغ العلم من كل صلة بالدين ومفاهيمه، ثم وضعت تصورًا جديدًا ورؤية جديدة لا تسمح بدخول أي مفهوم ديني، حتى وإن كان هو المفهوم الصحيح أو المناسب، وقد يعترف بعضهم بخطل قوله، ولكن إن لم يقل به، فالمصير هو الاعتراف بالدين، فالعلماني يعيش رؤية مفادها أن العالم كون مغلق مكتفٍ بقوانينه مستقل، وأن الإنسان مستقل بعقله لا حاجة له إلى شيء خارج عنه، منفصل عن الرب وعن الآخرة، وهما ركنان مهمان في الدين يتجاهلهما العلماني، فتجده في تفسيراته العلمية منفصلًا عن الرب سبحانه، وفي غاياتها منفصلًا عن الآخرة، والمقصود هنا أثر الإيمان بهذين الركنين على مسيرة العلم، وليس المقصود أن نأتي بذكرهما لإثبات تفاصيل العلوم الرياضية والفيزيائية والكيميائية، وإنما المقصود الابتعاد عن التصور العلماني القائم على الاعتقاد بكون مستقل مستغنٍ عن موجده، وقد عرف حسين أمين العلمانية بأنها: "محاولة في سبيل الاستقلال ببعض مجالات المعرفة عن عالم ما وراء الطبيعة، وعن المسلمات الغيبية" (¬1). والمسلم يرفض هذه الرؤية حتى مع من لم يقتنع بعمومها، فهي من جهة منفصلة عن الإيمان بالله وما يلزم ذلك من لوازم، وهي من جهة أخرى تُهمل الحياة الأخروية، وهما من أخطر ما وقعت فيه علمانية العلم. يقوم التصور الإِسلامي على ربط هذا الوجود بخالقه، على الإيمان بربوبية الرب سبحانه ومقتضيات ذلك الإيمان من تدبيره سبحانه لأمر العالم، كما يقوم على الإيمان بألوهيته سبحانه ومقتضيات ذلك من عبودية، كما يقوم على ربط هذا العالم بمستقبله الحقيقي وهو اليوم الآخر، ومقتضيات ذلك، وهذا عكس الرؤية العلمانية التي تفصل العالم عن خالقه كما تفصلهم عن مستقبلهم الحقيقي. يتضح خطر فصل العلم عن الله، الخالق المدبر العليم الحكيم، في العلوم الطبيعية ونظرياتها، كما يتضح خطر فصل العلم عن الآخرة في العلوم الاجتماعية والإنسانية ونظرياتها؛ فوجود الكون والحياة والإنسان وسير العالم غير مرتبط عندهم بالرب سبحانه، هناك فصل حاد وهو أشد مع الماديين منهم، كما أن ¬

_ (¬1) نقلًا عن العلمانية تحت المجهر، د. عبد الوهاب المسيري ص 64.

الإنسان -عندهم- ونشاطه ومجتمعه وحياته لا تربط بالآخرة؛ لذا تتحدد هذه الأمور مجتمعة بحياة دنيوية مع غفلة عما بعدها. إذًا فالانفصال عن الإيمان بالله وعن اليوم الآخر أمر يخالف تمامًا التصور الإِسلامي، ولا يُعد المعتَقِد به مسلمًا؛ لأن أهم أصول الإِسلام هي الإيمان بـ"الله سبحانه" "وجوده وربوبيته وأسمائه وصفاته وألوهيته"، والتصور العلماني ينقض هذا الأصل تمامًا. كما أن "اليوم الآخر" هو أصل آخر من أصول هذا الدين الذي ينقضه التصور العلماني. يريد التصور العلماني في أخف صوره دينًا علمانيًا تُشكِّله العلمانية كما تريد، لا كما جاء في الوحي وجاءت به الرسل ونزلت به الكتب، ولذا تجد عند بعضهم تهويمات حول الاعتراف بوجود أعلى مطلق معنوي هو سرّ وجود العالم وسر سننه، ولا يتجاوزون ذلك، ويرفضون تجاوز ذلك. من آثار الفصل بين العلم والدين: وقع الغرب بإبعاد هذين الأصلين العظيمين "الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر" عن الحياة والعلم في مشكلات تفوق المكاسب في الجوانب الإنسانية العليا (¬1)، والعاقل هو من اتعظ بغيره؛ فمع افتراض حسن النية لدى البعض من دعاة علمنة العلم بسبب انبهارهم بتلك المنجزات فإن العاقل لا يعميه جانب عن جانب. لقد سبق في الفصل الأول من الباب الأول صور من تلك المشكلات، مثل: الغرور العلمي المتمثل في التيارات العلموية التي أضرت بالعلم والحاجات الإنسانية العليا. وانفتاح الباب للملحدين لينشروا إلحادهم بواسطة العلم. وانفتاح الباب للعبثيين ليعبثوا بواقع البشر من خلال الاستثمار البشع لمكتشفات العلم دون مراعاة للعالم من حولهم؛ لعدم ارتباطهم بأصول كبرى توجه مسار العلم. كما أوصلت الثقة بالعلم إلى بدائل عن الدين موهومة وخطيرة أوصلتهم إلى القلق والنكد والمرض ويصرّون على تجرعها بحجة أنها ضريبة التقدم، فقد كان الظن بأن العلم العلماني سيجيب عن كل التساؤلات، ويعالج كل ¬

_ (¬1) انظر: العلمانية تحت المجهر، د. عبد الوهاب المسيري ص 128 - 145.

المشكلات ويحقق كل الرغبات، فلما تعقد الوضع ظهر من قال: إن العلم هو من سيتولى بنفسه معالجة نقصه من خلال العلوم الاجتماعية (¬1)، وهو فرار من مواجهة المشكلة والبحث عن بدائل وهمية لمعالجتها. ربما رفعت العلمانية من شأن العلم الدنيوي ولكنهم خسروا ما هو أعلى منه، وصدق الله: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)} [الروم: 7]، فالآخرة وما يرتبط بها من الإيمان بالله والقبول بالدين والتسليم لصورة الإنسان فيه وإمكانياته وحدوده وحاجاته تمّ إغفالها في التصور العلماني للعلم، ومن غفل عن الحقيقي واكتفى بالظاهر بقي قلقًا وشقيًا ومضطربًا؛ لأنه لا يملك سوى الظاهر ولا يركن لباطن يثبته، "قال ابن عباس في قوله -تعالى-: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)} [الروم: 7]؛ يعني: الكفار، يعرفون عمران الدنيا، وهم في أمر الدين جهال" (¬2)، وقد تأكد هذا المعنى وظهر لنا بوضوح مع علمنة العلم الحديثة. بالنظر إلى واقع علمنة العلم الغربية، نجد أنها قامت على أسس وارتبطت بمسببات لا توجد في الإطار الإِسلامي، فمن الأسس هذا الفصل الذي ابتدعته العصور الوسطى الغربية بين الديني والدنيوي تحت شعار: "دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، وصورة العلاقة بين المخلوق وخالقه؛ إذ هي من الجهتين الدينية الكتابية والدينية الوثنية تقوم على الصراع والمغالبة، حيث يجتهد المخلوق في الاحتيال على خالقه، واقتناص الفرص في سرقة العلم والمعرفة والأسرار، وقد سمحت مثل هذه التصورات الباطلة بنجاح مفهوم العلمنة. كما أن هناك مسببات اجتماعية في الحياة الغريبة، تمثلت بوضوح في ذلك الصراع العنيف بين الكنيسة والعلم والفكر، وما نتج عنه من غلبة التيار العلماني وإقصاء للجانب الديني (¬3). ولكن الثمار بعد ذلك كانت خطيرة، فقد تسبب هذا الفصل في نشوء تيار متطرف، قام أولًا بطرد كل المسلمات الدينية من مجال العلم، وثانيًا بوضع تصورات جديدة بديلة، وإن لم تكن مقنعة ولكن لابد من بديل، وثالثًا بحراسة ¬

_ (¬1) انظر: ذلك في المبحث الثالث من هذا الفصل: دعوي شمولية العلم. (¬2) تفسير ابن كثير ص 1022. (¬3) انظر: العلمانية. . . .، سفر الحوالي ص 329 - 334.

شديدة تمنع تسرب أي مفهوم ديني إلى العلم. وإذا فحصنا هذه الأسس والمسببات والتيار المتطرف العلموي العلماني، ثم بحثنا عن مبررات انتقالها إلينا، فلا نجد شيئًا يبرر ذلك، فالأسس الإِسلامية تدفع نحو العلم والنظر والعقل والتفكر والتدبر والاعتبار والتبصر واليقين والحجة والبرهان، مع عدم وجود مشكلة انفصال بين الخالق والمخلوق، وعدم وجود أساطير مؤثرة، فلا يوجد إلا الحق الذي لا يأتيه الباطل، ولم يظهر انفصال بين الديني والدنيوي، ولم يقع صراع بين الإِسلام والعلم، ولم يقف علماء الإِسلام موقفًا معارضًا للعلوم، فقد سَلِمت الأمة من كل هذه المشاكل، بل على العكس من ذلك، فالحضارة الإِسلامية هي التي حفظت العلوم وطورتها وأوجدت أرضية لنمو مناهج علمية جديدة، مناهج لعلوم الدين كعلم الإسناد والتخريج الذي لم يُعرف في أية أمة قبل أمة الإِسلام، مما حفظ لنا الوحي، وكعلم أصول الفقه الذي يزن طريقة تعامل العقل المسلم مع مصادر الدين في التفسير والتجديد، وكالمنهج التجريبي في العلوم الدنيوية الذي وضع تلك العلوم على السكة الصحيحة, ويبقى بعد ذلك من يقود القطار، وقيادة القطار ليست في منزلة من دلّ على السكة، فضلًا عن مكتشفات علمية جديدة، ومع ذلك لم يظهر معها ومع أهلها أي صراع، وبهذا يصبح الإصرار على علمنة العلم مرضًا فكريًا وليس فيه شبهة مصلحة ترجى، فلماذا يتشدد دعاة العلمنة في تقليدهم في أمر لا ثمرة منه بل ضرره بيّن من المنظور الإِسلامي؟! مواجهة علمنة العلم بالتأصيل الإِسلامي للعلوم: عندما وجد الفكر الإِسلامي أن علمنة العلم في العالم الإِسلامي قد اشتد ضررها، وبأن خطرها دفع إلى الواجهة أهمية التأصيل الإِسلامي للعلوم الحديثة بعد أن أثرت فيها العلمنة كثيرًا؛ فبسبب اعتمادنا على الغرب في هذه العلوم، وهي هناك مُخترقة من قبل التيارات العلمانية، فقد دخلت إلينا محملة بأحمال فكرية خطيرة، ولذا فلابد من اجتهاد إسلامي لمواجهة هذه المشكلة، وقد تمثل ذلك في أهمية التأصيل الإِسلامي لها. وقد عُرِض هذا المشروع بمسميات كثيرة يهمنا في النهاية الهدف المشترك وهو: تبيئة هذه العلوم بجعلها متلائمة مع التصور الإِسلامي عن الرب سبحانه والكون والإنسان والدين والغيب واليوم الآخر، وهذه الأصول الكبرى لم يراعها العلم الحديث بسبب مشكلة العلمنة، لذا وقع في انحرافات خطيرة.

ولابد بعدئذٍ من تصحيح مسار النهضة والتحديث والإصلاح؛ لأن هناك من يجرّه نحو التغريب والعلمنة، بينما مشروع الأمة لتصحيح المسار هو مشروع إسلامي، وإذا كان كذلك فيجب أن يندرج كل نشاط ضمن هذا المشروع في الإطار الإِسلامي، ومن ذلك طلب العلوم العصرية، وهذا ما ترفضه تيارات التغريب المُخترقة بأمراض العلمنة، ولذا انبرى منهم مجموعة لمحاربة دعوى التأصيل الإِسلامي لعناصر التحديث المختلفة المقتبسة من الحضارة الغربية، ومنها العلم، بحجة أن فكرتها -في الغالب- تقتضي أن العلم لا دين له. أحسنهم حالًا من يرى أن الدين يبقى في مجاله الغيبي الوجداني الشخصي بينما العلم بمجاله الحسي العقلي الموضوعي، ويسيران في تجاور دون أن يتدخل أحدهما في مجال الآخر، بحيث يخرج الدين من مجال العلوم تمامًا وتسير بنهجها لوحدها ويبقى الدين في مجاله الغيبي، وربما يستندون تراثيًا بموقف ابن رشد الذي يقول بوجود حقيقتين: إحداهما للخاصة وأخرى للعامة، ولا يصلح أن تدخل إحداهما على الأخرى، ويكون طريق التعامل مع النص بالتأويل (¬1)، ولا يُدرَى عن حقيقة مقولة المعاصرين، هل هي من التكتيك أم هي قناعة؟؛ لأن مرجعها القلب ولا أحد يطلع على ذلك، ولكن مع افتراض التسليم بصدق قناعتهم بالدين، فإن تصورهم عنه تصور خطير يناقض الدين تمامًا، ويهمنا هنا ما له صلة برفض التبيئة الإِسلامية للمقتبس الغربي، حيث جعلوا من فكرة المجالين أداة لرفض الأسلمة، بحجة ترك مجال العلم لوحده، والحقيقة أن هذه الدعوى هي جوهر العلمانية؛ لأن العلم الذي فرض استقلاله بمجاله لم يترك الدين، بل هو مع ذلك قد تطفل على مجال الدين ذاته بتوزيع تصورات جديدة أو بعرض تأويلات وتفسيرات أو بتحليل أو نقد، بينما يمنع الدين في المقابل من ذلك. إن هذا الفصل بين المجالين رغم انحرافه من جهة التصور للدين، فهو تصور صوري لا حقيقة له؛ لأنه فتح المجال للعلم المعلمن على حساب الدين، وساق الناس في البيئات العلمانية لإقصاء الدين وإهماله ونسيانه ثم الكفر به والتنكر له. ¬

_ (¬1) حظي ابن رشد بعناية كبيرة من قبل المتحمسين للحضارة الغربية، ومن أولئك عاطف العراقي في مصر والجابري من المغرب، وانظر: ابن رشد اليوم، الأصولية والعلمانية في الشرق الأوسط, ولاسيّما ص 35 وما بعدها.

يرجع الموقف الرافض للتأصيل الإِسلامي في حقيقته إلى مرض القلب الشاك الموسوس الذي لم يعمر الإيمان قلبه، وذلك أن من آمن بالله وآمن برسله علم أن الذي خلق الكون هو أعلم به والذي خلق البشر هو أعلم بهم، وخالق الكون أخبرنا بأمور عن هذا الكون المخلوق الغائب منه والمشهود لا يستطيع الإنسان معرفتها على وجه التفصيل، وخالق البشر شرع ما يصلح حال البشر مما لا يستطيع الإنسان إدراك تفاصيله، فالعلوم التي تبحث في عالم المخلوقات ثم تتجاوز إمكانياتها أو تدرس الإنسان والمجتمع وتتجاوز إمكانياتها، هي تنبع ممن لم يُسلّم بصلة بين الخالق والمخلوق ومن عدم وجود طمأنينة تُذهب الشك، لهذا يرفضون الدين ويعتمدون على العقل والعلم وغيرهما، وقد يكون في البيئة الغربية التي عرفت التطور العلمي الحديث ما يؤجج هذا الشك في الدين والاشتباه به، ولاسيّما مع الصراع السيئ الذي وقع باسم الدين من قبل الكنيسة مع العلم، ولكن ذلك يختلف في بيئة إسلامية لم يظهر في دينهم ما يثير عند أهله أي شك؛ فمصدرهم القرآن الكريم، فهو المحكم وهو المتشابه، قال شيخ الإِسلام ابن تيمية: "قال الله -تعالى-: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود: 1]، فأخبر أنه أحكم آياته كلها، وقال -تعالى-: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر: 23]، فأخبر أنه كله متشابه"، إلى أن قال: "وإحكام الشيء إتقانه، فإحكام الكلام إتقانه، بتمييز الصدق من الكذب في أخباره، وتمييز الرشد من الغي في أوامره، والقرآن كله محكم بمعنى الإتقان"، إلى أن قال: "وأما التشابه الذي يعمه، فهو ضد الاختلاف المنفي عنه في قوله: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]. . . . فالتشابه هنا: هو تماثل الكلام وتناسبه: بحيث يصدق بعضه بعضًا. . . ." (¬1). نعم صمدت أديان باطلة من حولنا ولكنها في مواجهة العلم خسرت كل شيء، ولهذا لم يكن لأهلها إلا القول بمجالين والأخذ بالعلمانية بخلاف الإِسلام، فقد تعرضت الأمة لزلازل فصمد الإِسلام، ثم لما جاء العلم الحديث صمد أيضًا؛ لأنه الحق، فهو في كل مجال خاضه لم يأت أحد بما يناقضه وهنا إحكامه، وما زالت تظهر السنن في الآفاق والأنفس التي تُثبت أن هذا من عند الله، قال -تعالى-: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ ¬

_ (¬1) التدمرية. . . .، شيخ الإِسلام ابن تيمية ص 102 - 104، تحقيق محمَّد السعوي.

اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)} [فصلت: 52 - 54]، قال شيخ الإِسلام عند "سنريهم": "أي: أن القرآن حق فأخبر أنه سيري عباده الآيات المشهودة المخلوقة حتى يتبين أن الآيات المتلوة المسموعة حق" (¬1)، وقال الشيخ السعدي -رحمه الله-: "فإن قلتم، أو شككتم بصحته وحقيقته، فسيقيم الله لكم، ويريكم من آياته في الآفاق كالآيات التي في السماء وفي الأرض، وما يحدثه الله تعالى من الحوادث العظيمة، الدالة للمستبصر على الحق، {وَفِي أَنْفُسِهِمْ} مما اشتملت عليه أبدانهم، من بديع آيات الله وعجائب صنعته، وباهر قدرته، وفي حلول العقوبات والمثلات في المكذبين، ونصر المؤمنين {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ} من تلك الآيات، بيانًا لا يقبل الشك {أَنَّهُ الْحَقُّ} وما اشتمل عليه حق" (¬2)، وأنه لو كان من عند غير الله لدخله الاختلاف، قال -تعالى-: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} [النساء: 82]. يستميت التيار التغريبي في مواجهة التأصيل وكأنه الحريص على العلم مع أن الحقيقة هي حرصهم على العلمنة أكثر من العلم؛ لأن هذه الدعوى يكذبها ما نشاهده من حال الصحوة الإِسلامية المعاصرة التي تميزت بوجود نخبة كبيرة من المتخصصين في العلوم الحديثة وبشهادات عليا، ونجدهم يجتهدون في نشر العلوم النافعة وتأصيلها في بيئتنا الإِسلامية، فربما تنطلي شبهتهم لو لم تهتم الصحوة بهذه العلوم ويبرع فيها نخبة كبيرة منهم، وربما تُقبل دعوتهم لو افترضنا وجود معاداة لهذه العلوم من قبل علماء الإِسلام، وهذا لم يقع، بل إن ما وقع هو حثّ علماء الإِسلام على هذه العلوم كما رأينا في الباب الأول، وهذا يزيد من قناعة المتجرد عن الهوى أن مانعي التأصيل لا حجة لهم، فلا يوجد في المسلمين من يحارب هذه العلوم، كما أن انخراطها ضمن التصور الإِسلامي لا يمنع تقدمها، فجميع الادعاءات ملغاة ويضاف لذلك المكاسب العظيمة من تأصيل هذه العلوم في البيئة الإِسلامية. ¬

_ (¬1) الفتاوي 18/ 241. (¬2) تفسير السعدي ص 752.

ولا شك أن العقيدة العلمانية تعمي هؤلاء عن التبصر في قيمة مشروع "الأسلمة"، ولهذا تجد قائمة من المفردات السبابية الجاهزة، وهي من محصول ضخم قد تجمع حول كل نشاط تتبناه الأمة من منطلق ديني لمواجهة التحديات، وليست هناك مشكلة أن يوجد نقد لمشروع التأصيل، فالنقد جيد لمشروع ناشئ، وإنما المشكلة أن يكون النقد صادرًا من أناس أعمتهم العلمنة، ولاسيّما عندما يكون هدفه فقط معارضة الدين ورفضه دون مبرر سوى أنه دين أو بالتركيز على أخطاء ونقائص في مشروع الأسلمة يعترف بها أصحاب المشروع سلفًا، ويجاهدون في تخفيفها، والأصل أن لا يوقف مع هذه النواقص والأخطاء ما دام أهلها يريدون تجاوزها، فليست حجة في رفض المشروع وانتقاصه وإنما هي طبيعة المشروعات في بداياتها. وهذا بخلاف مشروع العلمنة، فإنه مشروع يقوم على أصول لا يمكن قبولها في الإطار الإِسلامي، إنه ليس مشروعًا يحمل نواقص أو مشروعًا في بداياته ويعاني تلك البدايات، وإنما هو مشروع من بداياته يحمل معارضة صريحة للدين، مع العلم أن بعض من يتبنى بعض صورها وهو قريب من الفكر العلماني يصرح بأن هدف العلمانيين العرب هو هدم الإِسلام، فيقول: "صرح مصلحون كثيرون في ماضٍ قريب أنهم من أنصار الحداثة في حين أنهم كانوا مصرين على العلمانية. وقد ادعى كثير من العلمانيين اليوم حق التلاعب بالإِسلام مستترين بقناع الإصلاح والرقي في حين أنهم يتمنون خراب الإِسلام" (¬1). شبهتان: التعارض والموضوعية من مسوغات علمنة العلم: من دعاوى العلمانية في المجال العلمي قول بعضهم: إن العلمانية لا تتعارض مع الدين، وقولهم: إن علمانية العلم تعني موضوعيته وحياديته، أما الأولى فمن التناقض قول طائفة: إن علمانية العلم لا تتعارض مع الدين، وهي دعوى يركز عليها دعاة العلمنة العرب، وقد جاءت معهم بوضوح في السنين الأخيرة، وهي مرتبطة للمدقق بظهور الصحوة الإِسلامية وجهدها المهم في كشف زيف العلمانية، مما يجعلها دعوى ذات مضمون صراعي هدفها فقط تمرير ¬

_ (¬1) الشخصية العربية الإِسلامية والمصير العربي، د. هشام جعيط ص 112.

العلمنة بعد الأزمة التي مرّت بها، ربما لا تتعارض مع الدين الذي توهموه أما دين الرسل فهي تتعارض معه تمامًا، فهي رؤية جديدة تريد منافسة الدين، وهي رؤية لا تهتم بالآخرة، ورؤية لا تهتم بالدين، ورؤية تلغي من حسابها مسألة الإيمان بالله بالصورة التي جاء بها الرسل، ولها مزيد نقاش في المبحث الثاني من هذا الفصل. وأما الثانية فهي ربط بعضهم بين مفهوم علمانية العلم والموضوعية، بحيث يؤكدون أن الدفاع عن علمانيته هو دفاع عن موضوعية العلم وتقدمه دون ضغوط خارجية، ولكن من أدرك حقيقة العلمانية علِم أنها رؤية أيديولوجية، وأدرك أن علمانية العلم هي ضد موضوعيته؛ لأنها في الحقيقة هي إبعاد لرؤية وفرض رؤية أخرى، إن منع وجود تصور ديني هو معارض للموضوعية، وإلا فلماذا تُفرض تصورات وتمنع أخرى بحجة دينيتها! لماذا لا يدَعون هذه التصورات كغيرها تأخذ حظها دون منع! ثم يأتي التمحيص لها بالوسائل المناسبة! ولذا فلا علاقة لها بالموضوعية. لقد كان هذا المنع لأي تصور ديني سائدًا مع انتفاشة التيار المادي، بينما هي قد ضعفت بصورتها الوقحة في القرن الأخير، ولكنهم لا يملكون البديل فوضعوا تصورات ميتافيزيقية بديلًا للدين أو مساوية له (¬1)، ولا شك بأن الموقف الجديد يكشف انحراف العلمانية بالعلم ويكشف استحالة وجود بديل عن الدين، ولكنه وإن كشف الانحراف فما قدموه من بدائل ما زال بعيدًا عن الدين الحق، وعلى المسلمين تحمل واجبهم نحو العالم بتقديم البديل الحق، وقد سبق الحديث عن الموضوعية في الفصل الأول. أمثلة تغريبية على دعوى أهمية علمنة العلم ورفض التأصيل الإسلامي: تخصص مجموعة من المتغربين في الدفاع عن العلمنة باعتبارها مصيرًا لابد منه عند البعض أو باعتبارها الطريق الحقيقي للتقدم والحداثة والقوة والعلم، ¬

_ (¬1) يمكن الرجوع للمدافعين عن الميتافيزيقا لكتاب الدكتور محمَّد رجب: الميتافيزيقا عند الفلاسفة المعاصرين، وكتاب الدكتور حسين علي: الأسس الميتافيزيقية للعلم، وأما أشهر معارضيها في الفكر العربي فنجد الدكتور زكي محمود، انظر له: موقف من الميتافيزيقا.

ومن أشهرهم ولاسيّما في مجال الفكر والثقافة والعلم ثلاثة: "عزيز العظمة" و"محمَّد أركون" و"فؤاد زكريا"، فالأول: يدافع عنها بمنهجية تاريخية ذات بعد ماركسي، أما الثاني: فيعتمد على العلوم الاجتماعية المعاصرة، وأما الثالث: فجعل من نفسه منافحًا عن العلمانية العلمية، وفي مجال العلم بالذات نجد دفاعهم المستميت حول أهمية علمنته، وربطهم مستقبل العلم بالعلمنة فضلًا عن غيره، وفي المقابل لهم جهد بارز في محاربة مشروعات التأصيل الإِسلامي ومعاداة جهود المسلمين في أسلمة المعرفة. المثال الأول: جاء التحمس للعلمنة مع الدكتور: "عزيز العظمة" فأخرج كتابه: "العلمانية من منظور مختلف" مدافعًا فيه عن العلمانية ومبشرًا بها من خلال رصد تاريخي مطول، وكانت نتيجته أن المستقبل هو للعلمانية، ففي مبحث "علمانية الفكر ونكوص الإصلاحية" توصل إلى أن "الثقافة العلمانية، خصوصًا العلمية والتاريخية منها. . . . قد تغلغلت إلى طليعة المفكرين الإِسلاميين الإصلاحيين" (¬1)، وقد وصلت العلمانية بآخرين إلى نقد الدين، واستند نقدهم إلى أساسين: النزعة العلموية الوضعية والعلمانية الاجتماعية والفكرية، "ومؤدى الاثنين فصل الدين عن الحياة العقلية فصلًا تامًا، والبحث في أموره بحثًا عقليًا، وتاريخيًا، واجتماعيا يتقصى أصوله الدنيوية دون أن يرفض بالضرورة إمكانية صدق بلاغه عن وجود إلهي" (¬2). أي: أن الحياة العقلية تنفصل عن الدين، ويبحث حتى في الدين وفق العقل المنفصل لا المتصل، ويُصبح "النظر العلماني" معممًا على "المجال الإِسلامي" (¬3) وهذا يؤدي إلى تنازع على "المرجعية" بين العقل الديني والعقل العلماني، "العقل الديني الإيماني الغيبي الذي كان لا يزال مسيطرًا على قطاعات هامة من العملية التربوية كما رأينا. . . . وبين المثقفين الجدد في الجامعات والصحف والمجلات وبعض الأحزاب السياسية"، وذلك في أثناء حديثه عن الحالة المصرية، ويقوم هذا التنازع "على مقاومة الأزهر الأفكار الجديدة وثقافتها ¬

_ (¬1) العلمانية من منظور مختلف، د. عزيز العظمة ص 221. (¬2) انظر: العلمانية من منظور مختلف ص 224. (¬3) المرجع السابق ص 229.

الشاملة، مغلبًا المعرفة الدينية على المعرفة العلمانية" (¬1)، وهذا يؤدي إلى الصراع بين العقلين "فكانت من نتائج المعارضة الدينية للعلم أن تعرضت المعرفة الدينية لنقد علماني ظل محصورًا اتقاء لشر الدينين. ولكنه لم يكن غائبًا. فصار التشديد على الفصل بين المعرفة العلمية والمعرفة الدينية، والدعوة لإخضاع الثانية للأولى، بل إلى التأكيد على أن الملحد المطمئن إلى المادة أعود بالنفع على البشرية من المواطن الذي لا يعرف من الإيمان إلا التعصب. . . ." (¬2)، وبالفصل يستطيع الفكر أن يمارس حريته عند العلماء، عندها تبرز أفكار جديدة لم تكن موجودة من مثل تدريس الجيولوجيا بدلًا من سفر التكوين، ومن مثل "المماهاة بين الرقى والعلمانية في مقابل قران الدين والانحطاط". وبعد استعراض لهذا التنافس ثم الصراع يقول: "كانت النتيجة المنطقية والمنطلق الأساس على حد سواء لمجابهة تدخل الدينين في شؤون الفكر والثقافة. . . . الدعوة إلى تثبيت الفصل بين الدين والعلم وتمايزهما، وإلى حصر كل منهما بمجال، الواحد معرفي وضعي، عقلي تاريخي، والآخر إيماني اعتقادي أخروي" (¬3)، ويكون الدين شأنًا فرديًا وقلبيًا وعضدًا للأخلاق. ثم يأخذ على هذا المشروع العلماني نكوصه، حيث غلب على المفكرين المصريين المتغربين تخفيف حدة العلمنة وتصريح بعضهم بالهجوم عليها، ومع ذلك فالكاتب لا يرى في ذلك حالة إيجابية، وإنما حالة طارئة لها ما يفسرها، مع أن المنطق يقول إن مواقف هؤلاء جاءت في وقت الحكمة والاعتدال وبعضهم في مكانة اجتماعية كبيرة لا يخشى من شيء فيكون، هذا هو الأقرب لاختيارهم وأقرب للصواب، والمؤلف هنا يعلي من الشذوذات الفكرية ويلمعها دليلًا على المصير السائر نحو العلمانية، فإذا جاء للأمور المبطلة لهدفه والناقضة له عرضها كحالات شاذة لا يعُتدّ بها وطارئة سيتجاوزها التاريخ. والحقيقة أنه قد أنصف من نفسه عندما ذكر بعض صور النقد الموجهة له في أحد كتبه، أجدها مفيدة في هذا الباب، ومنها: ¬

_ (¬1) المرجع السابق ص 229. (¬2) المرجع السابق ص 229 - 230. (¬3) العلمانية من منظور مختلف ص 230 - 231.

- قول "رضوان السيد": "وقد جمع المؤلف -والحق يقال- مادة جيّدة؛ لكن المادة المجموعة انتقائية، والنتائج تعسفية. . . ." (¬1). - ويقول: "وهو أخيرًا في عدائه للدين، والإِسلام على الخصوص، يقزم الدين إلى مجموعة من النصوص غير العقلانية، والميتافيزيقا، والطقوس والشعائر، التي هدفها الأول والأخير استغلال البشر. . . .، ولأن الدين هو كذلك عنده، فكل نشاط أو ازدهار حضاري، وكل تطور ثقافي أو سياسي "دنيوي"! في تاريخنا كله هو بالضرورة ضد الدين، ونشأ في مواجهة معه" (¬2). - ومنها: "فأي طرف أيًّا كانت مقولاته أو تصرفاته، لا يتنكّر للإسلام هو مُدان. . . ." (¬3). - ومنها: "الوصول إلى العلمانية العصرية لا يكون إلا بتحطيم قدسية النص الديني. . . ." (¬4). - ويقول "وجيه كوثراني" أيضًا: "وأرى أن المؤلف قد ظلم كتابه عندما أقحم استنتاجاته وأحكامه في خدمة بعض الأقلام "اليساروية" و"العلمانوية" المعادية عقائديًا ومزاجيًا للإسلام وتراثه وتاريخه"، مع أن وجيه ليس من المعارضين للعلمانية (¬5). لا شك أنه يعترض على هذه الردود، ومن السهل المكابرة، ولاسيّما مع من خاض في مجالات الإلحاد فما دونه يكون عنده أهون، وهي حالة قد أصابت أغلب اليساريين بعد سقوط دولتهم الأم حيث تميزوا من جهة بالانقلاب السريع نحو الرأسمالية مع هجوم حاد على الدين ولو بالأمور الملفقة، وأما الردود السابقة فهي تركز على أمرين: الأول: أثر الأيديولوجيا على المؤلف مما يجعلها متحكمة في استدلالاته ونتائجه، وهي مقبولة مع من يرجع لركن يعتمد عليه من وحي السماء، وليست ¬

_ (¬1) دنيا الدين في حاضر العرب، د. عزيز العظمة ص 148. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 155. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 155. (¬4) انظر: المرجع السابق ص 156. (¬5) انظر: المرجع السابق ص 166.

مقبولة مع الأيدلوجيات إلا أن يكون الاستدلال بعيدًا عن الانتقائية، ولا تكون النتيجة واضحة من البداية، وإنما تكون فعلًا حصيلة أسباب وأدلة حقيقية متكاملة. الثاني: الكُرْه البارز للدين، المعلن والمضمر، وهذا بارز في إعلائه من كل موقف إلحادي واهتمامه بكل سباب للدين، ولا شك أن لهذا علاقة بأيدلوجية المؤلف السابقة. عندها لا تكون العلمانية حتى من باب التنزّل فصلًا بين المجالين الديني والعلمي للرقي بهما أو بأحدهما كما هو في التجربة الغربية، ولا تكون العلمانية رؤية جديدة قائمة على العقل والعلم بدل الرؤية القديمة القائمة على الدين، وإنما هي أداة لهدم الدين أو تحجيمه وفي المقابل تقديم أيدلوجيا جديدة في الساحة. ومما يؤكد هذا المعنى أن مفهوم "العلم" الذي يريد فصله عن الدين لا علاقة له في الحقيقة بالمجال العلمي الذي يشتغل عليه العلماء في العلوم الرياضية أو الطبيعية أو حتى الاجتماعية، وإنما هو فلسفات تم إحياؤها أو إبداعها في الغرب الحديث توازي النشاط العلمي الذي عرفه الغرب، على العكس من ذلك فإن هذه العلوم لو تركت على طبيعتها لما حدث ذاك التوتر المزعوم مع الدين، وأمثلته الكثيرة التي حشى بها كتابه لا يوجد منها في الحقيقة شيء من العلوم العصرية الحيادية التي لم تقحم في صراع مع الدين من خلال الفلسفات والأيدلوجيات العلمانية التي عرفها الغرب، وبهذا لا يكون هناك مبرر لتحمسه للعلمانية تحت ذريعة الفسح للعلم؛ لأن ما يريد الدفاع عنه ليس هو العلم المعروف في دوائر العلوم الطبيعية وإنما هو من دوائر الأفكار والفلسفات المرتبطة عادة بظروف حضارية تختلف من عصر لعصر ومن مجتمع لآخر، فليس لها صفة الموضوعية والعمومية وليست ضرورة إنسانية، وإذا كانت كذلك فمن العقل وضعها في الموضع الذي تستحقه، أو تسمى الأمور باسمها بحيث يُقال: إن العلمانية هي لخدمة أيدلوجيات شاذة وليس لها أي علاقة بالعلم. في هذا السياق المنافح عن اللادينية والمعارض للدين يأتي موقفه الرافض لأي جهد حضاري للمسلمين، ومن ذلك جهدهم في تجاوز الدور السلبي القائم على نقل العلوم العصرية من الغرب دون أي موقف إيجابي، ولاسيّما الجهد الثقافي الأشق وهو ما يصطلح عليه بـ"الأسلمة أو التأصيل الإِسلامي".

يركز "العظمة" على التحليل التاريخي في رفضه لمشروع الأسلمة ببعده الماركسي، فالأسلمة -عنده- عبارة عن مشروع له ملابساته التاريخية الداخلية والخارجية، داخليًا يرتبط ببروز الإِسلام السياسي بعد الأفول النسبي للأفكار القومية (¬1)، ولها "بنيه تحتية" مؤسسية ومالية (¬2)؛ أي: أنها ظاهرة تجد تفسيرها في التحليل التاريخي المعاصر. وكذا الحال خارجيًا، فهناك إطار كوني جديد هو المحفز الخارجي لهذه الظاهرة وهو "ما بعد الحداثة" التي تعني إنجاز الحداثة في الغرب واكتمالها هناك وعدم إمكانيتها للآخرين لعدم قابليتهم لها، فتأتي إسلامية المعرفة تأكيدًا متخلفًا عن عدم مسايرة الحداثة (¬3). والنتيجة من هذا التحليل هو التقليل من مشروع الأسلمة والانتقاص منه، ولكنه تحليل متسرع في تعميم النتائج، قد يكشف لنا التحليل التاريخي أسباب انتشار الصحوة الإِسلامية الهائل، ولكن ليس لهذا علاقة بمشروعاتها، فإن مسألة التأصيل ترتبط بالمنهج الإِسلامي منذ أن وجد الإِسلام، فما إن تعود الحياة للأمة وتحتاج إلى تأصيل قضايا جديدة حتى تجدها منخرطة في هذا العمل؛ لأنه من صميم الإِسلام، فالإِسلام يدعو إلى أن تكون الحياة كلها لله، ولذا تجد هذا الجهد التأصيلي مستمرًا ولا ينقطع، ولا يرتبط بمرحلة تاريخية. إذًا فالتحليل التاريخي ينقلب على صاحبه، إنه بمنطق العقل عليه وليس له، وهو إن أراد منه انتقاص المشروع الإِسلامي، فهو في الحقيقة يؤكد فاعلية الأمة وحيويتها وقدرتها على تجاوز التقليد الأعمى. ولكن يبقى سؤال مهم قام بعرضه ومثّل عليه بأمثله، وهو: "ما الذي يستفاد من القول بالمعرفة الإِسلامية؟ وما الذي يجعل من الاقتصاد الإِسلامي اقتصادًا ليس كالاقتصاد؟ وما الذي يجعل من النعت الإِسلامي لعاديات الحياة ولعمليات الحس والوجدان نعتًا يفوق صفات الحياة والعقل ويتعالى عليها؟ وهل ثمة فائض معرفي يتبقى من التعيين الإِسلامي للمعرفة كما لفروعها كالطب والاقتصاد وإن وُسما بالصفة الإِسلامية إذا ما جردنا عن هذا التعيين قيامه على مشروع سياسي ¬

_ (¬1) دنيا الدين في حاضر العرب، عزيز العظمة ص 52. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 60. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 52 , 60.

مباشر وعلى شهوة جامحة إلى السلطة؟ " (¬1)، ومن الأمثلة التي ذكرها: علم الاجتماع، فأكد أن أسلمته لا تفيد إلا "رفض علوم الاجتماع العالمية بحجة غرابتها وإجرائها حكم سنن المجتمع على الدين مما ينزع عنه صفة الوحي"، وعندما يضعون القرآن مصدرًا للمعرفة التاريخية فإنهم لا يراعون الوقائع التاريخية، فلا يوجد نقد تاريخي للنص ذاته، واستخراج قوانين اجتماعية من القرآن فيه تحميل للنص ما لا يحتمل، وتوضع الأمور الأخلاقية وكأنها قوانين طبيعية (¬2). يحمل المقطع السابق تجاهلًا غير مبرر لنشاط إسلامي ضخم يجيب عن تساؤله حول فائدة الأسلمة، وهو الذي ألمح إلى كثرة الدول والجامعات والمراكز التي تبحث الموضوع ثم تجده يكتفي بهذا التقليل من قيمة هذا النشاط عبر تجاهل فائدته وأهميته. إن تساؤلات المقطع السابق هي أوضح في باب العلمنة وليس في باب الأسلمة، فالعلمنة ليست هي العلم وإنما هي إطار يعمل فيه العلم، ولذا لا تُساءل عادة عن الفائض المعرفي الذي تحققه العلمنة للعلم وإنما عن أثر الإطار في رعاية العلم وحيويته وتقدمه ونفعه، وهنا يقع المشروع الإِسلامي الضخم، إنه في إبدال الإطار العلماني بإسلامي، ويكفي هذا المشروع شرفًا أنه يزيل المشكلات التي أعاقت نموه في البلاد الإِسلامية، من أهمها إدخاله لبلاد المسلمين بمشكلاته مع الدين هناك، وهي مشكلات صنعها العلمانيون هناك وأراد المتغربون نقلها إلينا، فوقع التصادم فتعطل النفع الحقيقي بهذه العلوم وتعطل نموها وتطورها، فالاتجاه العلماني الذي شارك بقوة في نقل الحضارة الغربية مصمم على إدخالها بكل ما فيها، كل مجموعة بما سبق إلى أذهانهم من تصورات تيارات الفكر الغربي، وقد جاء الوقت الذي يجب فيه إيقاف هذه الفوضى، فإن النموذج الغربي ليس نموذجًا كونيًا مطلقًا يجب احتذاؤه حذو القذة بالقذة وإنما هو نموذج تاريخي ارتبط بوضع مأساوي مع الدين ولابد من تجاوزه. ليس هنا مجال ذكر الفوائد المرجوة من مشروع التأصيل الإِسلامي ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق ص 53. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 58.

للمعرفة، فهي موجودة في كتب كثيرة تجاهلها المؤلف، وإنما المقصود بيان تهافت العلمنة في رفضها لمشروع أسلمة المعرفة، وإلا ففي المقطع دعاوى تكشف حقيقة موقفه، مثل: أن الأسلمة لا تعني إلا رفض العلوم العالمية، فهذا مما يستسخفه أي عاقل، فما رُفض منها إلا ما يعارض الدين وهو الذي لا يصدق عليه اسم العلم؛ إذ نجده خليطًا من الأفكار والآراء والأهواء. ومثل اعتراضه على صور التأصيل، ولاسيّما قوله بعدم وجود نقد تاريخي للنص، والنقد التاريخي هنا هو في الحقيقة النقد الماركسي الذي لا يؤمن بوحي. ويبقى بعد ذلك في مشروع الأسلمة سلامة الاستدلالات وصحة الاستنباطات وقوة النتائج، فهذا باب اجتهاد المجتهدين، ومحل النظر والتصويب المستمر، فلا تعني الإِسلامية بأنها إجابات قطعية، وليست كل مشروعات التأصيل مما يقبله الفكر الإِسلامي، ومع ذلك -ومع التسليم بما سبق- فإن صاحب المقطع السابق غير مؤهل لنقد موضوعي في الأبواب الاجتهادية؛ لأنه في الأصل كاره للدين من خلال ما سطر في كتبه. المثال الثاني: تأخذ العلمنة عند الدكتور "محمد أركون" معنى أوسع، فهو يراها "موقفًا للروح وهي تناضل من أجل امتلاك الحقيقة أو التوصل إلى الحقيقة" (¬1)، "العلمنة هي: موقف للروح أمام مشكلة المعرفة. بمعنى: هل يحق للإنسان أن يعرف أسرار الكون والمجتمع أم لا يحق؟ هل نثق بعقله في استكشاف المجاهيل وقيادة التاريخ أم لا نثق؟ هل هو قادر بواسطة عقله، وعقله فقط، على فهم الأشياء واتخاذ القرار أم غير قادر؟ هنا يكمن الرهان الأخير للمسألة في نهاية المطاف. فالبعض يقول: إن الإنسان بحاجة إلى قوة خارجية "فوق طبيعية" لكي تسيّره وتسير أموره. والبعض الآخر يقول: لا، إن الإنسان قادر بحدّ ذاته على تسيير أموره وحلّ مشاكله وتشكيل الصيغة الأجمل والأفضل للحياة في المجتمع. وفي الحالة الأولى نكون من أتباع الإنسية الدينية، وفي الحالة الثانية من أتباع الإنسية الحديثة. . . ." (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: العلمنة والدين - الإِسلام، المسجية، الغرب، محمَّد أركون ص 10، ترجمة هاشم صالح. (¬2) نقد واجتهاد، محمَّد أركون ص 278، ترجمة هاشم صالح.

وهو يراها عقيدته بالمعنى الإيماني لكلمة عقيدة (¬1)، وكما يرى الباحث الجزائري "عبد الرزاق قسوم" بأن العلمانية عند "أركون": "هي الوسيلة العظمى أمام المجتمع الإِسلامي لتحقيق التقدم والحداثة" (¬2)، ويرى "أركون" بحسب الباحث نفسه "أن العقل الديني في الإِسلام يخنق البحث العلمي" ثم يرد على مقولته المشينة (¬3). وتواجه هذه العلمنة عند "أركون" مسؤوليتين أولاهما: "كيف نعرف الواقع بشكل مطابق وصحيح؟ أي: كيف يمكن أن نتوصل إلى معرفة تحظى بالتوافق الذهني والعقلي لكل النفوس السائرة -بغض النظر عن اختلافاتها- نحو التوصّل إلى الحقيقة. . . . هذا يفترض من الباحث أن يتجاوز كل الخصوصيات الثقافية والتاريخية حتى الدينية -أي: أن يتجاوز حتى الخصوصية الدينية التي وُلد عليها" (¬4)، وثانيتهما: "بعد أن نتوصل إلى معرفة ما بالواقع، فإنه ينبغي أن نجد صيغة أو وسيلة ملائمة لتوصيلها إلى الآخر دون أن نشرط حريته أو نقيدها" (¬5)، فهذا المعنى الذي يعرضه "أركون" هو مشترك بين كل الدعوات، بل هو دعوة لأهل الدين، وهو دعوة لأهل الحق، ولكن العبرة هنا هي في المضمون، والمضمون تكشفه التطبيقات المختلفة، وهي في جوهرها توضح العلمنة الأركونية في حقيقتها، فهي لا تعني الفصل السلبي بين الدين والعلم الذي يُركز عليه في أغلب الكتابات، ولا تعني فقط رؤية جديدة تحل محل الرؤية الدينية مع إقصاء الدين وهجره وإغفاله كما هي حال العلمانية المتطرفة، وإنما هي تزيد على ذلك بأنها مهمومة بدراسة الدين من منظور علماني معاصر، فهي لا تنفصل عنه ولا تقصيه فقط، وإنما تريد إدخاله ضمن العمل العلماني، وهو عمل يأخذ مسارات مختلفة، وأهمها: البحث التاريخي والبحث اللغوي والبحث الاستشراقي والدراسة الاجتماعية ثم النقد الفلسفي، ويبرز فيها مثلًا تطبيقات للعلوم ¬

_ (¬1) أين هو الفكر الإِسلامي المعاصر، محمَّد أركون ص 41، ترجمة هاشم صالح. (¬2) ابن رشد اليوم -الأصولية والعلمانية في الشرق الأوسط ص 16. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 18. (¬4) العلمنة والدين .. ، محمَّد أركون ص 10. (¬5) انظر: المرجع السابق ص 11، وانظر: الإِسلام، أوروبا، الغرب: رهانات المعنى وإرادات القوة، محمَّد أركون ص 102، ترجمة هاشم صالح.

الاجتماعية على الإِسلام تحت مسمى "الإنتروبولوجيا الدينية -نحو إسلاميات تطبيقية" (¬1)، أو "نقد العقل الإِسلامي" (¬2)، وأن روح هذه المنهجية "مقتبسة من كتاب عالم الإناسة الفرنسي روجيه باستيد: الإناسة التطبيقية" (¬3)، وفي ذلك يقول أركون: "وبحوثنا تسير في الخط نفسه" (¬4). تصبح العلمانية بحسب الفهم الأركوني مفهومًا يراد منه إفساح المجال للمناهج السابقة حتى تدرس الدين، فالدين يدرسه أهله بطرقهم الخاصة أو يدرس بمناهج استشراقية وصفية باردة، ولكنه بقي بعيدًا عن المنهج اللغوي والتاريخي المعاصر، وأبعد عن العلوم الاجتماعية، فأهل الدين يرون خطورة على دينهم من تطبيق هذه المنهجيات والاستشراق عاجز أو كسول، وهنا يأتي مشروع أركون، ولكنه كمهتم بالدين ودراسته يجد الإطار المناسب هو العلمانية، فالعلمانية تحرر صاحبها من أي احتراز عند دراسة الدين وتعطيه الحق في تطبيق ما يشاء من منهجيات، ونجد مثاله في مبحث "الإِسلام والعلمنة" وفي فقرة "نحو ممارسة علمانية للإسلام" بأن هذه الممارسة تعني وضع الإِسلام ضمن "اتجاه الشك المستمر" الذي عرف بقوة في أوروبا القرن الثالث عشر/ التاسع عشر مع ماركس ونيتشه كنقد طال الدين والقيم، ولكن لم يظهر نقد للإسلام مع أن الإِسلام عند أركون مثل المسيحية، "كلاهما يشتغل بالطريقة نفسها. وإنما هو عائد إلى أن المجتمعات "الإِسلامية" لم تعرف أن تولّد حتى الآن فكرًا نقديًا كبيرًا تجاه تراثها الخاص كما فعل الغرب. إن عملًا كهذا لا يوجد في الإِسلام، أو بالأحرى أنه يكاد يشرع في الوجود" (¬5). وحتى تبرز العلمنة بهذا المفهوم الأركوني فهي في حاجة إلى "حداثة فكرية وعقلية" تعضد التغيير السياسي والاقتصادي، وإلا فلن تنتشر ولن تعرف إيجابياتها ولن تظهر "مجابهة خصبة بين الرؤيا العلمانية للعالم والرؤيا الدينية للعالم: أي ¬

_ (¬1) انظر: تاريخية الفكر العربي الإِسلامي، محمَّد أركون ص 51، ترجمة هاشم صالح. (¬2) انظر: نقد العقل الإِسلامي عند محمَّد أركون، د. مختار الفجاري ص 19 وما بعدها. (¬3) المرجع السابق ص 21. (¬4) انظر: تاريخية الفكر العربي الإِسلامي ص 275. (¬5) المرجع السابق ص 295، وانظر له: معارك من أجل الأنسنة. . . . ص 267 وما بعدها، ترجمة هاشم صالح.

بين طريقين مختلفين في الإدراك والوعي والتفكير والعمل والخلق والمعرفة" (¬1). ويعترض أركون على المفهوم القديم للعلمنة القائم على استبعاد الدين وإهماله مع دفاعه عن نجاحه في الفصل بين "الكنيسة والدولة" وذلك أن هذا العمل لم ينجح، والدليل مثلًا في البلاد الإِسلامية التي طبقت المفهوم بشكل جذري "تركيا وتونس" ومع ذلك تظهر فيها "حركات سياسية دينية" ناجحة، ولذا فهو يدعو إلى إعادة النظر في العلمانية من جديد "عن طريق إعادة التفكير بمسألة العامل الديني والعامل الدنيوي بصفتهما بُعدين لا يتجزّآن من أبعاد الإنسان" (¬2)، ويدعو إلى الاهتمام بالدين بالصورة المذكورة سلفًا: "التعليم الديني الذي ندعو إليه ليس هو ذلك التعليم العقائدي أو الشعائري السائد في المعاهد والأوساط التقليدية. وإنما هو بكل بساطة تعليم علماني لتاريخ الأديان؛ أي: تعليم حديث يتقيد بالوقائع التاريخية وبأحدث المناهج التاريخية"، وهذا التعليم لا يوقظ المذهبية والطائفية وإنما ينمي الحس النقدي وإدراك نسبية العقائد الدينية ويمكنهم الخروج من مذاهبهم الضيقة، ويكتشف الطالب مدى تشابه الشرط البشري على الرغم من التجليات المختلفة للأديان والتقديس، ولا يعود التلميذ يعتقد أنه هو وطائفته في الجنة فقط، ومع ذلك فهي مرحلة تالية تعقب العلمانية القديمة (¬3). إذا كان الموقف الأيدلوجي لأركون واضحًا من جهة التصور والحياة والمصير وهو ما لا يُبحث هنا إلا أنه في موقفه من العلمانية نجده متوترًا متذبذبًا، صحيح أنه يخاطب الغرب بخطاب والمسلمين بخطاب، ولكن الأمر فوق ذلك، إنه فعلًا يكشف عن أزمة عند المفكرين الغربيين، فالعلمانية الضخمة التي عرفها الغرب لم توصلهم إلى حلّ جذري أمام مشكلات وجودية إنسانية، ولهذا نجد هذا النكد ونجد هذه الظواهر -التي يعترف بها أركون ويكرر ذكرها- في الغرب من بروز روحانيات شاذة وعجيبة وذهاب بعضهم إلى الديانات الوثنية في الشرق، ليست المسألة هنا أن الغرب قد شبع من العلمانية ويبحث عن موضة بقدر ما هي أزمة يعبر عنها القرآن: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} ¬

_ (¬1) الفكر الإِسلامي قراءة علمية، محمَّد أركون ص 181، ترجمة هاشم صالح. (¬2) الفكر الإِسلامي نقد واجتهاد، محمَّد أركون ص 278، ترجمة هاشم صالح. (¬3) انظر: الإِسلام، أوروبا، الغرب. . . . ص 209.

[طه: 124] , ولكنهم يرفضون الاعتراف بهذه الأزمة الروحية، ونجد هذا المعنى مضمرًا بكثرة في كتابات أركون ومصرحًا به أحيانًا، ومن بين ما نجده من كلامه قوله: "إن التعليم العلماني للظاهرة الدينية، كما أتصوره وأمارسه في جميع دروسي ومحاضراتي عبر العالم، ينبغي ألَّا يقبل إطلاقًا بإعادة إدخال التعليم الديني التقليدي إلى المدارس. هذه نقطة ينبغي أن يتفق عليها الجميع وبطريقة فكرية وعلمية لا مرجوع عنها. ينبغي أن نتبع منظورًا آخر مختلفًا تمامًا. والشيء الجديد حقًا في هذا المنظور، بل والحديث والتحريري المثري هو أن نعيد للأديان حقيقة مقاصدها، ووظائفها التاريخية، وإسهاماتها الثقافية، وطاقتها الإلهامية. وهذه المكانة والوظائف التي احتلتها الأديان سابقًا لم يعوّض عنها حتى الآن من قبل أي شيء آخر. فلا النزعة الأدبية والتجريدية التي هجرت الآن وبحق استطاعت أن تعوض عنها, ولا العقل التلفزي -التكنلوجي- العلمي الذي يقود حركة العولمة الحالية استطاع أن يغنينا عنها. بل إن هذا الأخير أكثر عجزًا من غيره عن القيام بذلك. إن مهمة أنْسَنة الإنسان لا تنتهي أبدًا، وكذلك مهمة السيطرة على العنف، والتحكم بالمخيالات الجماعية، ورفض الشموليات الاستبدادية الملتبسة بلباس العلم أو الأديان. . . . وهكذا نرى أنه ضمن هذا المعنى فإن كلمة العلماني اخترعت في ظل الصراع على السلطة أكثر مما هو صراع على المعنى. أقصد الصراع الذي جرى في القرن التاسع عشر بين الكنيسة والدولة في فرنسا. وبالتالي فإن هذه الكلمة لم تعد كافية الآن. ويمكن القول بأنها أصبحت خادعة، بل وحتى خطرة ضمن مقياس أنها تقوم بنوع من الاستبعاد والحذف. . . ." (¬1)، والتدريس العلماني للدين يواصل حظر تعليم العبادات والعقائد "وإنما الشيء الجديد والحديث فعلًا هو أن نكشف عن حقيقة أهداف الأديان، وعن وظائفها التاريخية، وعن منجزاتها الثقافية، ومكانتها التي لم تستطع أية نزعة إنسية حديثة أن تملأ الفراغ الذي خلّفته حتى الآن بشكل كامل، أقصد بمكانتها هنا تلك المهمة التي لا تنتهي أبدًا بالنسبة إلى الإنسان، والتي تكمن في أنْسَنَة الإنسان والسيطرة على العنف وضبط المتخيّلات الجماعية ورفض الأيديولوجيات الاستبدادية والتوتاليتارية التي تتلبّس بلباس ¬

_ (¬1) معارك من أجل الأنسنة. . . . ص 290 - 291.

العلم والأديان أيضًا" (¬1). وإن كان مترجمه وشارح أفكاره يوضح أن أركون مع اعترافه بهذه المشكلات التي جلبتها العلمانية، ولاسيّما ذاك الفراغ المخيف إلا أنه بسبب عقيدته العلمانية يرفض الدين، يقول الشارح: "يقصد أركون بأن الفلسفات الحديثة التي حلّت محلّ الأديان في المجتمعات الأوروبية، لم تستطع أن تقدم المعنى المطلق أو الممتلئ الذي كان يقدمه الدين في العصور الوسطى. وهذا هو سبب الإحساس بفقدان المعنى والغائية وانتشار العدمية في أحدث المجتمعات الأوروبية. ولكن الحل لن يكون في العودة التقليدية إلى الدين. فهذا شيء غير ممكن وغير معقول. وإنما الحل بالنسبة إلى أركون هو في البحث عن صيغة جديدة للعلمنة الروحية أو للإنسية الروحية من خلال الدراسة المقارنة لكل التجارب الروحية في كل المجتمعات البشرية. وهذا هو المنظور الإنتربولوجي الواسع لدراسة الأديان" (¬2). إن هذه النصوص تفضح فكرهم وتكشف تناقضه، فمع الاعتراف بعمق الأزمة العلمانية، إلا أنه يرى الحل بتعميق العلمنة والاستمرار فيها وترك ما جاء به الأنبياء من رب العالمين والارتماء في فلك دراسات معلمنة إلى العمق مثل الإنتربولوجيا، وهذا يعني مزيدًا من ذاك الفراغ والضياع والبقاء في عالم الضنك الذي لا يرتفع إلا بالدين الحق. نجد في هذا النص اعترافًا بأزمة العلمانية، فهي أوصلتهم إلى صحراء قاحلة، ولم تنفع البدائل المقترحة من قبل العقلية العلمانية، فلماذا الإصرار عليها وهذه هي نتائجها؟! وفي المقابل نجد في النص اعترافًا بمكانة الدين والحاجة إليه، ولكنه يرى أن المناهج القديمة غير قادرة على تفعيل دور الدين، ومن هنا تأتي دعوته لدراسته دراسة علمانية، ولكن أليس من التناقض أن ندرس الدين بمناهج ثبت في مجالها فقرها وإفقارها للجانب المعنوي من حياة البشر، فكيف حالها عندما تطبق على الدين! ¬

_ (¬1) أين هو الفكر الإِسلامي المعاصر ص 42. (¬2) المرجع السابق ص 51 هامش (ش).

ثم هو وبتحليل جيد يكشف خداع مصطلح العلمانية، بالفعل هو كذلك، لأنه خادع في مسماه وخادع في عمله، ولاسيّما عندما استولى عليه طائفة من الملحدين ووظفوه في صراعهم ضد الدين، فكيف لمصطلح أن يقدم خدمة للإنسان وهو الذي أدى إلى صور الأزمات السابقة! المثال الثالث: يتميز الدكتور "فؤاد زكريا" بانتمائه لاتجاه يهتم بالعلم والعلمية، وفي الوقت نفسه مدافع مشهور عن العلمانية ومحارب شديد للاتجاه الإِسلامي، مما يجعل الباحث عن حجج لعلمانية العلم يتوقع أن يجد عنده ما لا يجد عند غيره بسبب كل هذه المميزات، ولكن يظهر أن اندفاعه للعلمنة وخوضه معارك تبرير وجودها قد جرّته إلى أقوال ومواقف مخالفة للعقل والحكمة حتى في بعض الأمور الواضحة. لقد جمع كل ما يستطع من أساليب وحجج وأدلة للإقناع بأهمية العلمنة، وأن التقدم مرتبط بها، وبما أن العلمنة مفهوم واسع عنده فأكتفي بما له صلة بموضوع علمنة العلم، وبما له صلة برفض مشروع التأصيل الإِسلامي للعلوم. يرى "زكريا" بأن العلمانية ضرورة حضارية، ويقدم لهذا الاعتقاد كل ما يسانده، ولكنه يواجه مجتمعًا لم يصدق بهذه الضرورة، وهو يركز على أثر الاتجاه الإِسلامي في مهاجمة العلمانية، ويحلل في المقابل دور العلمانيين في علمنة المجتمع، ليميز بين مرحلتين: مرحلة القوة ومرحلة الضعف، المرحلة الأولى جاءت أول القرن العشرين (14 هـ)، فترة انبهار المفكرين العرب بالغرب وتأكيدهم تبعًا لذلك "أن الخلاص من تخلف القرون الوسطى. . . . لن يتحقق إلا بأخذ النموذج العلماني الأوروبي بكل عناصره" (¬1)، وقد كان غالبهم من النصارى، ثم جاءت مرحلة الضعف للعلمانية بعد بروز الاتجاه الإِسلامي، عندها أصبحت العلمانية في حالة دفاعية، في وقت اتساع نشاط الحركة الإِسلامية "من مجرد دعوة تستهدف تقوية الدور الذي يلعبه الدين في حياة الأفراد، إلى المناداة بتوجيه المؤسسات ذاتها. . . . وإخضاع كافة أنظمة المجتمع لسلطة الدين. . ." (¬2)، وهكذا يتحول العلمانيون من نشر العلمانية إلى مقاومة التيار الإِسلامي، وهو تيار ¬

_ (¬1) الصحوة الإِسلامية في ميزان العقل، د. فؤاد زكريا ص 47. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 48.

خليط يضمّ اليوم "القومي واليساري والليبرالي والمثقف غير المسيس" (¬1). وكعادة المدافعين عن العلمنة يخفون الأسباب الحقيقية للقوة أو الضعف، فإن سبب القوة في المرحلة الأولى لا علاقة له بصدق العلمانية وصحتها، وإنما هو عائد إلى رعاية الاستعمار لطائفة من النصارى المتعلمنين، وعندما زال الاستعمار انكشفت أمام المسلمين بزيفها, ولاسيّما بعد النقد الإِسلامي الذي عرّاها وكشف أنها كانت أداة بيد المستعمر لهدم مقومات الأمة، ولهذا تحولت في المرحلة الأخيرة إلى الدفاع، ومع ذلك فليس سبب ضعف العلمانية هو فقط في فقد السند المادي لها، وإنما في فقد المبررات المنطقية؛ لأننا لا نقوّم الأفكار فقط بسبب وجود مؤيد لها كان موجودًا ثم فقد، وإنما الأهم ما تقدمه من مبررات لوجودها، وقد اجتهد "زكريا" في تقديم الكثير من ذلك، ومنها ما كان في مجال علمنة العلم. نقف الآن مع خمس قضايا أثارها "فؤاد زكريا" حول العلمانية وعلمنة العلم، وتأتي أهميتها في دائرة الفكر العلماني من المكانة التي أخذتها العلمانية عند زكريا، وهذه القضايا هي: 1 - العلمانية ضد الاستعانة بالسماء لطرف ضدّ آخر. 2 - العلمانية لا تعني المادية أو اللادينية. 3 - العلمانية ضد السلطة الدينية "الكنيسة وشبيهاتها". 4 - العلمانية تعني الخروج من العصور الوسطى المظلمة. 5 - العلمانية ضد إسلامية المعرفة. 1 - العلمانية ضد الاستعانة بالسماء لطرف ضدّ آخر: يقول "زكريا" في هذه: "يؤكد العلمانيون أن إقحام "السماء" أو الاستعانة بها من أجل تغليب طرف على طرف يشوه جميع القضايا ويعطل حلولها ويضع الصراعات كلها في إطار زائف. . . . وكل ما يريده العلمانيون هو أن ينزل كل طرف إلى ساحة الصراع وهو معترف بأنه يمثل وجهة نظر بشرية تحتمل الصواب أو الخطأ، وأن يدور هذا الصراع على أساس البقاء للأصلح عقلًا والأكثر إقناعًا ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق ص 48، وانظر: الأسس الفلسفية للعلمانية، عادل ظاهر ص 5.

والأقدر على الحل، لا على أساس أن "السماء" تنحاز إلى طرف واحد دون الآخرين" (¬1). يصور "زكريا" الاتجاه الإِسلامي وكأنه يدخل معركة مع خصم ويستخدم الدين معينًا له في تحقيق معركته من بين أمور يستعين بها، بينما الاتجاه الإِسلامي يدخل بالإِسلام ذاته ومن أجله وعلى أنه الأصلح للخلق والأكثر إقناعًا لمن سلم من الهوى والأقدر على الحل، الاتجاه الإِسلامي لا يتخذ الإِسلام كمطية ووسيلة لتحقيق مكاسب أو مآرب كما وقع من الكنيسة مثلًا، فقد أخبر تعالى عن حال الأحبار والرهبان بأنهم أصبحوا أربابًا من دون الله، وأنهم اشتروا بآيات الله ثمنًا قليلًا (¬2)، فيصدق في حق هؤلاء استغلال الحديث باسم السماء من أجل إضلال الخلق أو ظلمهم، ولكنه يصبح انحرافًا عندما ينتقل هذا الحكم على الإِسلام الذي يقوم على الهداية والعدل والحق، فإن الاستعانة به هي عين الحق، وهذا لا يمنع اشتغال العقل الإِسلامي في معالجة مشكلات عصره أو تطوير أوضاع قائمة أو ابتكار الجديد، وأن تتنافس العقول في ذلك، وفيها الصواب والخطأ والنافع والأنفع والحسن والأحسن، ويقع التنافس بينها، ويكون منها الأقرب للصواب والأنفع للخلق، وقد يقع من المجتهد الخطأ فله أجر اجتهاده ما دام أن ذلك في مجالات لم يقطع الدين فيها بشيء، وما أوسع المجلات التي أمام العقل، ولكن هؤلاء يتركونها ويذهبون إلى ما قُسم أمره من رب العالمين ويريدون وضعها تحت البحث والاختلاف والجدل. 2 - العلمانية لا تعني اللادينية ولا تعني المادية: يفترض العقل من مدعي العقلانية بيان ما في المفهوم من حسنات وسيئات، ولاسيّما مع مفاهيم نشأت في بيئات ذات صراع طويل مع الدين، ومن ذلك العلمانية، ومع ذلك فلا نجد لها عند "زكريا" أية سلبية، بل هي مفهوم إيجابي دون عيوب. وعندما واجههم الاتجاه الإِسلامي بمشكلتها اللادينية وبجوهرها المادي، اجتهد في تبرئتها من ذلك، مع أن دعاتها في الغرب إنما يركزون على روحها اللادينية، أما مسألة الفصل بين الدين والدنيا على أنها عملية ¬

_ (¬1) الصحوة الإِسلامية في ميزان العقل ص 50. (¬2) انظر: ما كتب حولها أول هذا المبحث.

حيادية ولا تعني اللادينية فهو زعم بارد لا حقيقة له، فإن باحثًا أعقل من زكريا يُثبت تطرف العلمانية في الغرب، وأنها الآن في طور تشكل جديد تحاول فيه إعادة الاعتبار للجانب الروحي من الإنسان، ولكن بسبب لادينية العلمانية فإنها ترفض أن يكون طريق إعادة الاعتبار عن طريق الدين (¬1). يتهم "زكريا" الاتجاه الإِسلامي بأنه يستخدم "اللادينية والمادية" من أجل تشويه العلمانية، وإلا فالحقيقة أن العلمانية لا تعني الأمرين بحسب زعمه، وإنما تعني الزمانية، وكيف يقال: إنها لادينية مع أن العلماني في الغرب مثلًا يتزوج في الكنيسة والعلماني المسلم يتزوج بوثيقة شرعية (¬2)، ثم يقول: هي لادينية فعلًا إذا كان المقصود إبعاد الدين عن التنظيم السياسي في المجتمع بينما لا يعني ذلك رفض الدين (¬3)، والسياسي هنا يشمل جميع مناشط الحياة باستثناء الجانب الشخصي القلبي أو الروحي بحسب ما عرضه من أمثلة في كتبه. والحقيقة أنه هنا قد قزم الدين كثيرًا، حتى جعله لا يكاد يرى، ثم حصره في مكان ضيق، وترك الحياة بعد ذلك لغير الدين، ولا أدري هل يوجد ما هو أبلغ من هذا في جعل العلمانية لا دينية إذا كانت بمثل هذه الصرامة مع الدين. إذا كان الاتجاه الإِسلامي بحسب زكريا هدفه تشويه العلمانية باستخدام مصطلح اللادينية؛ فإن زكريا يكذب على العلمانية عندما يبرئها مما لا تتبرأ منه، إن التركيز عند البعض على جعل العلمانية هي الفصل بين الدين والسياسة، فإنما هو يتحدث عن جزء من العلمانية ولا يتحدث عن العلمانية، إن العلمانية هي في الحقيقة رؤية لادينية جديدة، ولا عبرة في تنوع المصطلحات من زمانية أو العالم أو الدنيوية وإنما العبرة في روحها ورؤيتها. فإنها في المقام الأول لم تأت إلا كصراع مع الدين، وضد الدين، وهي لم تأت للدفاع عن دين جديد أو استبدال القديم بآخر، ولكن أيضًا لن تستطيع بسهولة منع الدين جذريًا، لهذا يبقى مثل هذا التلاعب العلماني بإبقاء مساحات غير مهمة يشغلها الدين. ¬

_ (¬1) انظر: كلام "أركون" السابق في المثال الثاني، وانظر: إدراك بعض الغربيين الجوانب المظلمة للتجربة العلمانية، العلمانية تحت المجهر، د. عبد الوهاب المسيري ص 144. (¬2) انظر: الصحوة الإِسلامية. . . . ص 55 - 56. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 56.

يأتي في هذا السياق مناقشته لبعض الكتابات الإِسلامية، ومن ذلك نقده لـ"أنور الجندي" عندما قال: إن العلمانية هي ترجمة لـ (secular) وتعني لاديني. فصححها بأنها تعني زمني، ثم قال: "وهكذا يبدأ مفكرنا كتابه الكبير بتشويه أساسي" (¬1). فلنفرض وجود خطأ في الترجمة الحرفية إلا أن المهم هو الترجمة الاصطلاحية، وفي المعاجم الغربية أنها اللادينية كما في معجم ويبستر، وفيه علماني "دنيوي أو لاديني - pagane worldlg " (¬2) ، ولهذا لا نظن أن في المسألة ذاك التشويه الذي يعيق صحة النتائج، وهي أنها في جوهرها لادينية، فأحيانًا لا يهم أصل الكلمة، وإنما المهم هو المفهوم السائد الآن، وهو مفهوم يركز على دنيوية دون دين، ولهذا تُعرف بأنها دنيوية أو زمانية أو من العالم وهذا ما يراه الاتجاه الإِسلامي مشكلتها الكبرى. على العكس من ذلك فإن ما أخذه "زكريا" على "الجندي" ينطبق على تعريف زكريا أكثر مما ينطبق على الجندي، فإن زكريا عند تعريفه لها بيّن أنها -وإن لم تكن ذات صلة بالعلم حيث الراجح أنها زمانية-، إلا أنه عاد ليربط بينها وبين العلم، ليجعل منها صديقة للعلم، ويربط بين تقدم العلم وتحقق العلمانية، فلما جاء من يربط بين العلمانية واللادينية نفر من ذلك، مع أنها في السياقات الغربية تُربط بالأمرين؛ أي: بالعلم وباللادينية، وإن كان المدقق يعلم أن ذلك غير مُسلّم به بإطلاق، فهو في حاجة إلى تحليل أعمق؛ لأن السياقات الغربية غلب عليها نجاح الاتجاهات العلمانية، فهي من يكتب التاريخ الغربي المعاصر، ولذا فهي تكتبه كما تريد، وتقصي الحقائق المزعجة لها, ولذا فالأقرب أن الكاسب من العلمانية إنما هو اللادينية وليس العلم، والعلم وإن تقدم في الغرب فقد التصق به مشكلات كثيرة بسبب تقدمه في إطار علماني. أما العلم فقد تطور في بيئات متدينة وأخرى علمانية مما يعني أن العلمانية ليست شرط العلمية ولكن الإلحاد الصرف ومحاربة الدين من جهة الفكر لم يبرز إلا مع سيادة العلمانية، لهذا يصل الاتجاه الإِسلامي إلى النتيجة المعقولة: أن العلمانية هي لادينية في جوهرها، وأنها تمثل خطرًا على المناشط الإنسانية بما فيها ¬

_ (¬1) المرجع السابق ص 57. (¬2) انظر: جذور العلمانية، د. السيد فرج ص 109.

العلم، وإن تجربتنا الإسلامية المعاصرة إن أرادت السلامة من ثمارها النكدة في الغرب فعلينا بإبعاد العلم عن العلمانية. أما تبرئته العلمانية من المادية فهي حتى عند "زكريا" تبرئة غير كاملة، فهو يعترف أن الاتجاه المادي قد أسهم في تكوين الفكر العلماني، ولكن يقابله في الغرب الاتجاه المثالي، وهو الأكبر والأشهر في الغرب، كما أن في الغرب إنتاجات روحية هائلة للفنانين والشعراء والأدباء وحتى مكتشفي العلوم، فكيف نطمس كل هذا (¬1)؟! ومع اعترافه بأن المادية جزء من العلمانية، إلا أنه يتهم بعض المفكرين المسلمين إما بجهلهم أو بمغالطتهم إن كانوا غير جاهلين، والأصوب أن الفكر الإسلامي لا يجهل هذه التصنيفات في تيارات الفكر الغربي بين مادي ومثالي أو غيرها، وإنما الوصف هنا عندما لا يُراد منه التفصيل فيأتي بالأعم والأبرز، والبارز في العلمانية هو ميلها المادي، أليست تُعرّف بأنها الدنيوية؟ والدنيا يغلب عليها المادي، ليس عنصرًا فحسب، وإنما رؤيةً وروحًا عامة تسود تلك المجتمعات، حيث غفلوا عن الدين والآخرة واكتفوا بهذه الحياة الدنيوية حتى مع المثاليين منهم، فهي مثالية في إطار الحياة الدنيوية فقط. 3 - العلمانية ضد السلطة الدينية "الكنيسة وشبيهاتها": يستخدم التيار العلماني مفهوم السلطة لأنه يجده منفرًا، فالناس لا يحبون من يتسلط عليهم، لهذا يستخدمونه بكثرة، وقد جاء هذا في سياق نقاشه لموقف السلطة الدينية من العلم، حيث وجدت أوروبا مشكلتها بين الكنيسة الممثلة للسلطة الدينية وبين العلم، ولم تُرفع هذه المشكلة إلا بالعلمانية، وقد فنّد الاتجاه الإسلامي طريقة إسقاط المتغربين مشكلات مجتمعات أخرى على المجتمع الإسلامي، فالإسلام لم يعرف كنيسة متسلطة وعلماء الإسلام وقفوا مع الحق والعدل والعلم في كل عصر، وهذا العنصر بالذات هو أكبر مبرر قدمه الغرب للعلمانية في سعيهم لتخليص أوروبا من تسلط الكنيسة، وهي حالة واضحة ولا يوجد شبيه لها في العالم الإسلامي. ¬

_ (¬1) انظر: الصحوة الإسلامية. . . .، ص 56 - 57.

عندها ينبري "زكريا" رافضًا هذا التفريق بين العالمين، وأن ما في الغرب موجود في العالم الإسلامي، معتمدًا على شواهد شاذة لا تصلح أن تكون دلالة على ظاهرة أو ذاكرًا لشواهد أخرى، الحق فيها لخصوم العلمانية، ولهذا فإن هذا العنصر بالذات سيبقى جدارًا في وجه دعاة العلمانية: بأن المبرر التاريخي في الغرب للعلمانية غير موجود في الحضارة الإسلامية، وكل مقارنة هي مكابرة إن ادعت التشابه، وهي تسقط قيمة الحجج وصاحبها، وهذا ما يؤكده سياق زكريا هنا، فهو يدافع عن التشابه بين الأمرين، ويستشهد على ذلك بشاهد تاريخي وشاهد معاصر، فالقديم ما حدث من اضطهاد للمعتزلة و"ابن رشد" و"السهروردي" و"الحلاج"، والمعاصر ما نجده "في تعامل رجال الدين الإسلامي مع كثير من النظريات العلمية والفكرية الحديثة. فما زال دارون وفرويد حتى اليوم موضوعين في القائمة السوداء لدى جميع المفكرين الإسلاميين، وبخاصة رجال الدين منهم، وما تزال تعاليمهما ونظرياتهما تُلعن كل صباح ومساء على أيدي أشخاص لم يقرؤوا عنهما إلا ما كتبه شركاؤهم في الفكر. بل إن مجرد الإشارة إلى اسميهما، ومعهما ماركس بالطبع، يُعد من المحرمات في أكثر البلاد تمسكًا بالتعاليم الشكلية للإسلام. . . ." (¬1). فلنتأمل الآن في مغالطات هذا النص، والذي يُكرر عادة عند دعاة العلمانية، إن رجعوا إلى الماضي رجعوا إلى اضطهاد "المعتزلة" و"الحلاج" وأمثالهم، وإن بحثوا في الحاضر بحثوا في موقف الفكر الإسلامي من "داروين" و"فرويد" و"ماركس"، ولكن أين هي المؤسسة الدينية المتسلطة؟! وأين هو العلم؟! فإنك إن بحثت في الأمرين وجدت أحدهما غائبًا، بخلاف الغرب، فالكنيسة ذات سلطة واضحة وتراتيب معينة مع جهل وظلم، والعلم واضح مع علماء العلوم الرياضية والطبيعية، والصراع بينهما واضح، فهذه مغالطة واضحة. ونزيد من الكشف لتلك المغالطات ببيان أهمية التفريق بين تدخل محمود وآخر مذموم، بين تدخل بالحق والعدل والعلم وبين تدخل يكون بالجهل والكذب والظلم، فالثاني يمنع حتى وإن جاء باسم الإسلام -والإسلام منه براء- كأن توجد هيئة دينية إسلامية نُصّبت دون أن تملك المؤهلات، أما ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق ص 67.

إذا كان الاعتراض على طائفة أو على فرد أو فكرة بشيء يقرّه الإسلام ويكون على أمر مخالف له، فهذا ليس من الاعتراض على العلوم والمعقولات الصحيحة؛ ولهذا فإن المسلم يقبل العلم النافع ولا يُكذّب العلوم الصحيحة، حتى وإن جاءت من غير المسلمين، ولكن لا يعني هذا قبول كفر الكافر وإلحاده بحجة أنه عالم، ومن هذا رفض الفكر الإسلامي لـ"تعاليم" داروين وفرويد وماركس، فهي فعلًا من التعاليم بحسب اصطلاح زكريا وليست من العلوم، وإلا فالمسلم يقبل النافع ويصدق بالصحيح من علم الأحياء أو من علم النفس أو من علم الاقتصاد، والثلاثة لهم جهود في هذه العلوم، إلا أن ذلك لا يعني أن يقبل المسلمون لا دينيتهم أو إلحادهم بحجة مشاركتهم في هذه العلوم، فإن التعاليم الإلحادية التي ميزت فرويد وماركس ليست من العلم حتى يقبلها الفكر الإسلامي. إن تحكيم الإسلام في الحياة وجعل الوحي مصدرًا ومعيارًا لا يُعد من قبيل تدخل سلطة الكنيسة، وإنما هذا من كمال الإيمان بالله سبحانه والتصديق بأن قوله سبحانه هو الحق وأنه المصدر وأنه المعيار والميزان، ورفض تعاليم داروين وفرويد وماركس، ليس لأنها من العلوم الصحيحة، وإنما بسبب الإلحاد الذي مدّ جذوره في تعاليمهم فجعلها مظلمة. 4 - العلمانية تعني الخروج من العصور الوسطى المظلمة: لهذا المعنى صلة بالمعنى السابق، فكما يحرص هؤلاء على مقارنة وضع الكنيسة بوضع الإسلام، فهناك مقارنة بين العصور الوسطى المظلمة في أوروبا بالعصور الوسطى المشرقة عند المسلمين، يصرّون على التسوية بين المختلفات، ولكن ماذا يُقصد بالعصور الوسطى التي نجحت العلمانية في إخراج الناس منها؟ وهل فعلًا يعود الفضل إلى العلمانية؟ العصور الوسطى هي أسلوب في التفكير يقوم على الاستشهاد بما في الكتب المقدسة أو بما ورد على ألسنة شخصيات مشهورة في الماضي، إنها سلطة النص أو سلطة القائل المشهور (¬1). وهذا عند المسلمين لا يكون إلا لكلام الله سبحانه ولكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فالكتاب المقدس ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق ص 69.

هو القرآن والشخصية التي يرجع إليها المسلمون هو الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان زكريا لم ينصّ ولكن قد يكون الإضمار أحيانًا أبلغ من الإفصاح، وهو يقول قياسًا على الحالة الغربية: "ألسنا في عالمنا الإسلامي المعاصر محتاجين إلى من يقول لنا، كما قال كبار مفكري عصر النهضة وأوائل العصر الحديث لمعاصريهم: إذا كانت الطبيعة أمامكم، ومشاكل الناس والعالم أمامكم، فلماذا ترجعون في كل شيء إلى النصوص؟. . . ." (¬1). هنا لابد من التفريق بين العودة إلى نصوص وبين العودة إلى الوحي، وبين العودة إلى أشخاص وبين العودة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، واقتحام الطبيعة ودراستها ومواجهة مشاكل الناس والعالم ودراستها لا تمنع من العودة إلى الوحي؛ فالوحي عند المسلم مصدر المعرفة والتوجيه والعمل، فما كان فيه فهو الكفاية، وكل بحث في غيره بعد ذلك ضلال، وأما الجانب الدنيوي من علوم الطبيعة وغيرها فهي مجال إعمال العقل بكل حرية، المهم أن يكون هذا الإعمال في إطار التصور الإسلامي للكون والإنسان والحياة ومنسجمًا مع أخلاقه وقيمه، المرجعية العليا عند المسلم هي الوحي وليس هذا بمعنى تدخل الكنيسة؛ فإنها تدخلت بالباطل والجهل والظلم؛ ولذا يجب دينًا وعقلًا إيقافها عن عبثها، ولكن ليس البديل هو استبدال الكنيسة الدينية الضالة بكنيسة علمانية تتدخل بالجهل والظلم وتحرم الناس من النور والحق. وهنا تسقط النتيجة الفاسدة التي توصل إليها "زكريا": "تكون العلمانية ضرورة لازمة لكل مجتمع يتراجع فيه التفكير المستقل ويحل محله التفكير العاجز الذي يرتكن دائمًا على مصدر خارجه" (¬2)، وسبب سقوطها أن الارتكان إلى ركن متين ليس طريق العاجز، وإنما طريق الواثق بدين الله والواثق بكلام الله سبحانه، والتفكير المستقل جملة زائفة حيث لا يوجد تفكير مستقل، والمطلب هو الفكر السليم الذي يستند إلى دليل من الخبر أو الحس أو العقل، وأعلاه ما استند إلى الخبر الصادق من الوحي، وما لم يكن كذلك فهو فكر ينزلق في لجج الهوى ولا نجاة له إلا بنور الوحي. ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق ص 71. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 72.

5 - العلمانية ضد إسلامية المعرفة: يرفض المدافعون عن علمنة العلم مشروع إسلامية المعرفة، وهو رفض مفسر في ظل التصور العلماني عن الدين وعلاقته بالحياة، ولذا يكتفي أكثرهم بلمز هذا المشروع وغمزه والسخرية منه؛ وذلك أنهم إذا لم يُقرّ بأثر للدين يتجاوز الشأن الفردي والشخصي لمن أراده، فمن باب أولى عدم نظرهم حتى في مشروع إسلامية المعرفة؛ أي: أنهم لم يكلّفوا أنفسهم النظر في حقيقة المشروع والآمال المعقودة عليه، ومن ثم مناقشتها لمن أراد الاعتراض؛ والسبب أن الأصل الذي يعتمد عليه مشروع إسلامية المعرفة مرفوض عند المدافعين عن العلمانية، وهذا الأصل هو أن الإسلام ليس شأنًا شخصيًا فرديًا، وإنما هو أوسع من ذلك، كما أن الوحي هو المصدر الأعلى المعتبر عند المسلم. في إطار صراعه مع بعض المفكرين المسلمين كان زكريا يناقش ما عرضه أحد المفكرين من كون العلمنة تمارس دورها الخطير في فصل الدين عن مناهج التعليم، فيرد زكريا ساخرًا: "ولعل ما يعنيه بفصل الدين عن المناهج، هو أننا لم نعد ندرس في معاهدنا الكيمياء الإسلامية أو علم الفلك الإسلامي أو الجيولوجيا الإسلامية، ولم نطبق الدعوة إلى "أسلمة العلوم" وهي دعوة تتردد بقوة في كثير من الأوساط الإسلامية المعاصرة. . . ." (¬1)، واكتفى في رده بأن: العلم ينبغي أن يُلتمس في موطن تقدمه ولا أظنه في العالم الإسلامي (¬2). وقد نكتفي في الرد عليه بالقول: إن أية أمة تحترم ذاتها لا تمانع من التماس العلوم في موطن تقدمها ولكن ذلك لا علاقة له بموضوع التبيئة الإسلامية لها، فإن فلسفة العلم تكشف أن العلوم تتأثر بالإطار الحضاري الذي تتطور فيه، ومن المعلوم أن ذلك الإطار يختلف عن هويتنا، وهذا يتطلب من الأمة المسلمة تجاوز النقل الحرفي إلى الإبداع بصورتيه المهمتين: استيعاب تلك العلوم استيعاب القادر على التقدم بها خطوة للأمام، والثانية تصفيتها مما يرتبط بها من تصورات تتعارض مع التصور الإسلامي، ومن المؤكد أن الدكتور فؤاد ليس جاهلًا عن حقيقة المشروع الإسلامي ولكنه متجاهل له بسبب العمى العلماني الذي يوجه تفكيره. ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق ص 58. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 59.

المثال الرابع: يأتي في هذا الإطار القائم على الدفاع عن العلمنة مواقف لعدد كبير من المفكرين المتغربين، بل قد تكون الدعوى للعلمنة من الجوامع المشتركة لأغلب المتغربين، وبما أن الموضوع بهذا السعة والوضوح فالمقصود هو التمثيل وبخاصة بما له صلة بمزاعم فائدة العلمانية للعلم والفكر، ومن هؤلاء الدكتور حسن حنفي. ففي دفاعه عن مشروعه العلماني ضد خصومها القائلين بأنها ستقضي على التراث القديم والموروث الروحي والآثار الدينية، يجيب مدافعًا عن العلمانية: "قد نشأت العلمانية في الغرب استجابة لدعوى طبيعية تقوم على أساس رفض الصور الخارجية، وقسمة الحياة إلى قسمين، واستغلال المؤسسات الدينية للجماهير، وتواطئها مع السلطة. . . .، نشأت العلمانية استردادًا للإنسان لحريته في السلوك والتعبير، وحريته في الفهم والإدراك، ورفضه. . . . لأي سلطة فوقه إلا من سلطة العقل والضمير. . . . العلمانية إذن هي أساس الوحي، فالوحي علماني في جوهره، والدينية طارئة عليه من صنع التاريخ، تظهر في لحظات تخلف المجتمعات وتوقفها عن التطور" (¬1)، فهذا النص يعبر عن موقف متطرف، موقف غير مُبالٍ حتى بأدنى درجات التماسك العقلاني، ومثل هذه المواقف المتهورة تأتي في ظل التحمس للآراء والأهواء، وإلا فمن ذاك الذي يجمع بين الدين والعلمانية وهي التي أصلت لموقف ينبذ الدين تمامًا، أما ما ذكر من فوائد لها، فهي ممكنة ولكنها قاصرة، وهي موجودة في غيرها، فلم تتفرد العلمانية بهذه الأمور النافعة، مثل انطلاقة الفكر الحر المثمر وغيرها من الأمور التي أعاقها واقع أوروبا فترة من الزمن. المثال الخامس: من بين المتحمسين للعلمنة والمدافعين عنها تحت أغطية مختلفة منها الغطاء العلمي نجد "هشام شرابي"، حيث عرض في كتابه المشهور "المثقفون العرب والغرب" لتجارب النخب المثقفة العربية مع الثقافة الغربية، وقد تحمس بقوة لكل توجه نحو العلمنة للفكر والثقافة والمعارف العلمية الجديدة والحياة عمومًا، ومن بين الشرائح التي تكلم عنها "المثقفون المسيحيون" و"العلمانيون المسلمون"، مع تقديمه للمثقف النصراني على العلماني المسلم في ¬

_ (¬1) التراث والتجديد، د. حسن حنفي ص 63 مع الاختصار.

قدرته على الحداثة والعلمنة والنظرة الجديدة، وهو واحد من الكتاب الذين تظهر عندهم العلمنة بأبعادها الخطيرة في مجال العلم، ومن ذلك ما نقف معه هنا: أثناء حديثه عن المثقفين المسيحيين امتدح استقبالهم للوافد الغربي، وذكر سبقهم لعلمنة الفكر والعلوم الجديدة أثناء حديثه عن الشوام منهم ثم من تبعهم من المصريين، وهو مع ذلك يذكر في أكثر من مكان أن لعلمنة المعارف الجديدة أسبابًا أكثر من كونها خدمة للمعارف ذاتها، فهو يبين غرضهم من التمسك "بالعقلانية والمنهج العلمي" في المهاجمة غير المباشرة للواقع المتحكم بهم -أي: الواقع الإسلامي-، ومن هنا كان نشاطهم في علمنة الفكر من أجل علمنة وجودهم الاجتماعي، وذلك من أجل تأهيلهم لاختراق المحيط الإسلامي (¬1)، فهاشم هنا يلامس حقيقة خطيرة ولكنه يغض الطرف عنها، فعلمنة العلم نشأ أساسًا مع النصارى العرب ليس من أجل العلم ولكن حتى يجدوا منفذًا إلى المسلمين، ومن ثم كانت هذه العلمنة مفتاحًا لهم يُدخلون من خلاله ما يساعدهم في تحقيق وجودهم، سواء كان ذلك بزيادة قوتهم أو بإضعاف المجتمع الإسلامي. ومن ذلك أن الكتَّاب النصارى قد بحثوا عن أسس أخرى بعيدة عن الدين تفسر الواقع المادي، ووجدوا في المادية واحدًا من تلك الأسس المهمة التي تبعد هذا الواقع عن الدين، وحتى يتسنى عملهم هذا كانت العلمنة أداة مهمة لسحب هذا الواقع من التفسير الديني إلى تفسير مادي يدعي العلمية، متمثلًا آنذاك في المادية التطورية الدارونية، وفي مثل هذه الأجواء يمكن قبول التصور المادي للعالم متحررًا من سيطرة ماورائية، وسيتم بهذا زحزحة المرجعية الدينية الإسلامية التي تمثل للمثقفين النصارى عقبة تصدهم عن اختراق المجتمع الإسلامي بخلاف التفسير المادي الذي يوحد بين معتنقيه ويدمج الجميع في رؤية واحدة مشتركة (¬2). ومثل هذا التحليل صحيح في جملته، وقد سبق في دور الصحافة النصرانية ذكر الأمثلة على ذلك، ولكن الخطير هنا هو موقف كاتب مسلم مثل شرابي من ¬

_ (¬1) انظر: المثقفون العرب والغرب. . . .، هشام شرابي ص 125، 129 - 130، 136. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 149 - 155.

حقيقة هذا الوضع، فهو يمتدحه ويراه علامة نضوج للمثقفين النصارى، وهذا من حجم التغرب الأعمى الذي أصاب طائفة من المسلمين. المثال السادس: يأتي في هذا الإطار بصورة أصرح، إطار علمنة الحياة عمومًا، الكتاب النصارى وبخاصة أن أغلبهم قد انقاد مع أشد تيارات الفكر الغربي إلحادًا مثل الماركسية وغيرها، ومن هؤلاء الدكتور لويس عوض، تلميذ سلامة موسى وصاحب العلاقات المشبوهة بمنظمات خفية وعلنية، فالإسلام برأيه لا يملك نظامًا سياسيًا خاصًا به، والتجربة الإسلامية الناجحة الأولى هي في حقيقتها جمهورية شرعية بقيادة رجال، وفيه تتضح الأبعاد العلمانية، فنجاح تجربة الإسلام الأولى ترجع بسبب علمانيته (¬1)، وقد رصد الدكتور حلمي القاعود صور علمنته ومعاداته للإسلام بوصفه نقيضًا للعلمانية، فوجده ناشطًا في إلصاق كل اتهام بالإسلام ورافعًا من شأن علمنة الحياة (¬2)، ومن تتبع أهم إنتاج فكري له حول تاريخ الفكر المصري الحديث، يجد تركيزه في كل مناسبة على هذا البعد، الرفع من العلمنة والخفض من الإسلام (¬3). هذه بعض معالم دعوى علمانية العلم، صورتها وأضرارها، وبعض صورها عند المتغربين، وصور محاربة أسلمة المعرفة الحديثة، ويدور الأمر فيها غالبًا إلى قياس حال تاريخية معينة على حال أخرى لا تناسبها، حيث هناك نزعة للتشبه بوضع المشكلة في البيئة الغربية وتقليدٍ لها دون مبرر. نترك هذه الدعوى إلى دعوى أخرى تقوم على القول بوجود تعارض بين العلم والدين. ¬

_ (¬1) رأيهم في الإسلام، مجموعة كتاب ص 112. (¬2) لويس عوض - الأسطورة والحقيقة، د. حلمي القاعود ص 29، 32، 250 وما بعدها. (¬3) انظر مثلًا: تاريخ الفكر المصري الحديث من عصر إسماعيل. . . .، د. لويس عوض ص 177، 193.

المبحث الثاني دعوى التعارض بين الدين والعلم الحديث

المبحث الثاني دعوى التعارض بين الدين والعلم الحديث تقول هذه الدعوى بأن في الدين موضوعات تتعارض مع موضوعات في العلم، وقد وقع بسبب مثل هذه الدعوى فتنة كبيرة في الماضي والحاضر، وقد تكون في الحاضر أكثر فتنة بسبب فتنة العلوم الحديثة. ظهرت هذه الدعوى في النصف الثاني من القرن الثالث عشر/ التاسع عشر في العالم الإسلامي، قبلها كانت هناك دعوى من نوع آخر، هي دعوى التعارض بين العقل والنقل، عرفها التاريخ الإسلامي ودار حولها جدل ضخم ما زال امتداده في الاتجاهات الإسلامية الكبرى إلى اليوم، فما الفرق بينهما؟ الفرق بين دعوى التعارض التراثية والدعاوى الحديثة: الدافع لتبيان الفرق هو ما يلاحظه الباحث من إغفال بعض الدارسين للفرق، حيث تُجعل الصورة القديمة هي الصورة الحديثة نفسها؛ لذا قد يكتفي بعضهم بنقل ما ذكره علماء الإسلام قديمًا حول هذه المشكلة، وينزلها على المشكلات الجديدة دون أي تعديل أو تغيير يتناسب مع الإشكالات الجديدة، ومن ثمّ تبقى دون معالجة، أو تترك لاجتهادات تفتح من المشكلات أكثر مما تقدمة من حلول.

مع العلم بأن هناك من العلماء من انتبه للفرق، ونبّه عليه، واعتنى بالرد على الشبهات الجديدة، مثل الشيخ مصطفى صبري الذي عاصر فترة التغريب الأولى، وفترة سقوط الدولة العثمانية حيث كان شيخ الإسلام في الدولة العثمانية، فأخرج كتابه المشهور والمهم: "موقف العقل والعلم من رب العالمين وعباده المرسلين"، فذكر أن الذين لا يقدرون الدين حق قدره على درجات متفاوتة في زعمهم الباطل، ولخص مواقفهم المتغربة في موقفين: 1 - موقف يرى أصحابه بالتعارض التام بين الدين وبين العقل والعلم. 2 - وموقف يرى أصحابه بأن العقل يوافق أساس الدين ولكن العلم يخالفه، ومرادهم من العلم: العلم الحديث المبني على التجربة والمشاهدة، ويجعلونه المقدم؛ لقيامه على التجربة، ولا يسلمون بالاستدلالات العقلية واللاهوتية. ثم ذكر بأنه يعتني بالرد على الفريق الثاني؛ لأن مزاعمهم أشبه بالحق مع بعدها عنه، ولخطرها على المتعلمين العصريين (¬1). والشيخ هنا كحال أغلب أهل زمانه قد استعان بالمنهجية الكلامية الأشعرية، ومع ذلك فجهاده معروف ومحفوظ ومشكور. ولكن هناك اختلاف: فالعقل في المرحلة التاريخية هو العقل الفلسفي الصوري الذي تُنتج مسائله اللاهوتية عن إعمال العقل في مسائل الدين، بينما العلم في المرحلة الحديثة هو ناتج عن قياسات رياضية دقيقة وتجارب في المختبرات مضنية وملاحظات طويلة؛ ولذا غلب عليها الرياضي والطبيعي لإمكان تحقيق معرفة جيدة بها تقبل الاتفاق، ولهذا نجد الاختلاف مع إنتاجات العقول من مذاهب ورؤى، وتظهر مذاهب جديدة تنسخ سابقتها بخلاف الوضع في العلم، فهو ألصق بالاستنباط الرياضي الدقيق والتجريب في ميدان الطبيعي. فيحتاج من يناقش أهل المذاهب العقلية إلى قدرة عقلية للتحليل، ومعرفة خداع اللغة أو الصور أو الأقيسة، أما من يناقش أهل المذاهب العلمية فهو يحتاج ¬

_ (¬1) انظر كتابه: موقف العقل والعلم من رب العالمين وعباده المرسلين 2/ 71 - 73، وقد استعرض الدكتور مفرح القوسي جهود الشيخ مصطفى صبري في مقاومة هذه الأفكار وغيرها في بحثه المميز: الشيخ مصطفى صبري وموقفه من الفكر الوافد.

إضافة إلى ما سبق إلى المعرفة الرياضية والتجريبية والملاحظة والمختبرات وأجهزة القياس والتجريب. وإدراك الفرق بين نوعي التعارض لا يعني عدم الاستفادة من الجهود التاريخية التي وقفت أمام دعاوى التعارض بين النقل والعقل، أو بين النقل والذوق، أو بين النقل والمصلحة، وهي أبرز ثلاث صور عرفها تاريخنا الإسلامي من التعارض، فوقف أمامها أعلام السنة وقفتهم المشهودة، فرفعوا عن الناس الاشتباه ونقضوا دعاوى المدّعين. بعد أن بسط الإسلام نوره على الأرض واتسع نطاقه الجغرافي وقع الاحتكاك بأمم وحضارات وثقافات أخرى أثّرت بتساؤلاتها أو بثقافتها في المحيط الإسلامي، ولكن كان هناك العلماء الكبار، فما إن تقع عند أحد المسلمين شُبهة حتى يذهب إليهم، فيذكر توهمًا من التعارض بين آية وآية، أو بين آية وحديث، أو بين نص وفهم، فيزيل العلماء ذاك التوهم بجواب مقنع، ثم اتسع الأمر، حيث قلّ أهل العلم مقارنة بالدولة الإسلامية المترامية الأطراف وكثرت الشُبه، ثم تحولت هذه الشبه إلى علوم عند طائفة من الناس، فجاء من أهل الإسلام من أراد وضع قواعد ضابطة للوضع الجديد وعاصمة من الزلل، إلا أن الأمر التبس عليهم، فوثقوا في قوة تلك الثقافات المعارضة للإسلام، وخافوا على الإسلام، فاخترعوا مناهج وأدوات هدفها رفع التعارض بين النقل والعقل، فأدخلوا في العقل ما اجترحته عقول العلماء والمفكرين والفلاسفة ومن في حكمهم، ولاسيّما ما يقع عليه اتفاق طائفة كبيرة منهم، ثم تحول ذلك النشاط إلى قانون، يرجع الدور الأكبر في تأسيسه إلى علماء الأشاعرة الكبار الذين ظهروا ما بين القرن الثالث والثامن، وقد جمع كل ذلك مبرزهم المشهور الرازي -صاحب التصانيف الكبيرة في علوم شتى- ووضعه في قانون، وأصبح هذا القانون الصغير هو أداة للتطبيق على كل حالة من حالات التعارض (¬1)، وإذا كان القانون يتركز في باب التعارض بين العقل والنقل، إلا أن النتيجة المتمثلة في "المقدم منهما" وفي الموقف من "المؤخر" بالتفويض أو التأويل، هي مما يمكن ¬

_ (¬1) انظر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة، د. عبد الرحمن المحمود 2/ 818، وانظر: موقف المتكلمين من الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة. . . .، د. سليمان الغصن 1/ 340 - 347.

تطبيقه على حالات أخرى من التعارض، وفي باب دعوى التعارض بين الدين والعلم سيكون المقدم قياسًا على قانون المتكلمين هو العلم، وإن لم يُقدم بإطلاق، فسيبقى هناك التفويض والتأويل كأداتين لرفع التعارض. قد يقع خلاف بين الصورة القديمة والجديدة في أمور مثل: هل يمكن وضع العلم في مساواة مع العقل عند هؤلاء؟ فإن لم يضعوه فيبقى الاختلاف الواضح هو في إبطال ما يُعارض به النقل من العلوم، وهنا يأتي الاختلاف بين الحالين، ويصطحب معه صعوبات كبيرة لا يشعر بها إلا من خافها، وأراد إجابة بأجوبة تخرج عن أسلوب التفويض أو التأويل إلى تحليل المعارض العلمي ذاته، والتحقق من حقيقة ما يعرضه من شبهة على المتأثرين به، وتأتي الصعوبة أن الباحث لا يجد مادة يطمئن إليها قلبه من جهة، كما أن صعوبة الموضوع وسعته وتعقيداته لا تساعده على مناقشة تفاصيل تلك المعارضات. ولست أذكر هذه الصعوبة للاعتذار بقدر ما أذكرها لبيان حقيقة المشكلة في الجهود المعاصرة، إن البعض قد استغرق في تكرير النقاش للصورة القديمة مستفيدًا من جهود علماء الإسلام -ولاسيّما ما سطره شيخ الإسلام في عدد من كتبه- بينما إذا جاء الحديث عن الصور المعاصرة تركها أو اكتفى بالإحالة على ما يشبهها في الماضي. وإدراك مثل هذه المشكلة يدفع الباحثين إلى مواجهة مثل هذه التحديات الجديدة، وتكوين جهد تعاوني؛ إذ لا يكفي فيه جهد الباحث المفرد، أو حتى المجموعات القليلة. وأذكر نصًا مهمًا لشيخ الإسلام -رحمه الله- يوضح النقطة التي تختلف بها الدعوى الجديدة عن القديمة، وفي الوقت نفسه تبرز المساحة التي تحتاج من الباحثين المعاصرين مناقشتها بأسلوب جديد، حيث يقول حول مسألة دعوى التعارض بين النقل والعقل: "إن الكلام هنا أربعة أنواع: أحدها: أن نبين أن ما جاء به الكتاب والسنة فيه الهدى والبيان. الثاني: أن نبين أن ما يُقدّر من الاحتمالات فهي باطلة، قد دل الدليل الذي به يُعرف مراد المتكلم على أنه لم يردها. الثالث: أن نبين أن ما يُدّعى أنه معارض لها من العقل فهو باطل. الرابع: أن نبين أن العقل موافق لها معاضد، لا مناقض لها معارض" (¬1). ¬

_ (¬1) درء التعارض .. 1/ 279.

أين تختلف الدعوة الجديدة عن القديمة؟ وأين هي مساحة العمل الصحيحة؟ إنها بالذات في الثالث والرابع؛ أي: في بيان أن ما يدّعي المدعي أنه معارض من العلم فهو باطل، فلم يكن في زمن العلماء السابقين إلا المعارض العقلي، وقد خصّها شيخ الإسلام -بحسب كلام الشيخ المحمود- بثلاثة أوجه في كتابه المشهور، هي: الوجه الثاني عشر، وهو مختصر جدًا، والثامن عشر، والتاسع عشر، الذي أطال فيه بحيث شمل بقية المجلد الأول والمجلد الثاني والثالث والرابع بكاملها، وتحدث أثناء ذلك عن أهم شبهتين يزعمون عقليتها ومعارضتها للنقل في باب الأسماء والصفات، إحداهما شبهة التركيب والتجسيم، والأخرى حجة الأعراض (¬1)، كما أنه أبطل العقليات التي يقال عنها: إنها أصل السمع وإنها تعارضه، فذكر أنها ليست مما يتوقف العلم بصحة السمع عليها، وخصص لها: الوجه الثالث والأربعين "الذي بدأ في أثناء الجزء السابع واستغرق أغلبه مع الأجزاء: الثامن والتاسع والعاشر الذي هو في آخر الكتاب"، ومن هذه العقليات: طريقة الأعراض وطريقة التركيب والاستدلال بالاختصاص (¬2). فهذه ما يقرب من ثمانية أجزاء فضلًا عن كتب شيخ الإسلام الأخرى -التي تتناول فيها المشكلة نفسها- جعلها للنوع الثالث، فإذا انتقلنا إلى الذين يرفعون العلم الحديث، هل يأتون على شيء مما سبق؟ الجواب على عكس ذلك تمامًا، فإن كثيرًا من تيارات الفكر الحديث ترى كل ما سبق من اللاهوت والميتافيزيقا الذي يأباه العقل الحديث المعتمد على العلم، ولاسيّما التيارات المادية والوضعية؛ أي: أن العلميات المزعومة تختلف عن العقليات المزعومة، ومع الاختلاف يختلف النقد والنقض وصور رفع الالتباس، حيث نجد اليوم نظريات الفلك والفيزياء والأحياء وعلم الأرض "الجيولوجيا" والأحافير وغيرها، كما نجد كشوفات علمية وأجهزة متطورة خلفها، وكل هذه لا يوجد لها أثر في عملية النقد عند العلماء السابقين؛ لأنها لم تظهر بعد. ويوضح النوع الرابع: "أن نبين أن العقل موافق لها معاضد، لا مناقض لها معارض" صورة أخرى من الاختلاف بين النقدين، وهو درجه في الفضل، وكمال ¬

_ (¬1) انظر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة 2/ 853 وما بعدها. (¬2) انظر: المرجع السابق 2/ 863 وما بعدها.

صور الدعاوى التغريبية

في المناقشة حول هذه الدعوى، فإن جاء أصحاب الدعوى بزعم أن العقل يعارض النقل، فيُبطل أولًا المعارض العقلي، ثم نرتقي درجة في بيان أن العقل الصريح يوافق النقل، وليس مقصد العلماء حاجتنا إلى إثبات صحة النقل بشيء خارج عنه، فإن التسليم والاطمئنان والثقة بالوحي لا يعلو عليها بشيء، وإنما كان ذلك من أسباب التنزّل مع الخصم لبيان خطئه وبيان أن ما معه من دليل ليس له، بل عليه. فإذا أتينا إلى العصور الحديثة فقد نجد بعض التيارات الفكرية المتغربة لا تُقرُّ أصلًا بتلك الأمور العقلية التراثية (¬1) ولكنهم يعرضون المستجدات في الميدان، ولاسيّما في ميدان البحث وهو ما له صله بالعلم، فيكون الردّ بإثبات أن العلم الحقيقي النافع الواضح لا يمكنه بحال معارضة الدين، وهذا ما وصل إليه أهل العلوم أنفسهم في مرحلة ما بعد الغرور العلمي والوضعي كما سيأتي بإذن الله. وإذا كان النوع الثالث والرابع هما المساحة التي يتحرك فيها الباحث المعاصر، فلا يعني هذا إمكانية الحركة دون الرجوع لشيخ الإسلام ابن تيمية، فإنه حتى من سلك طريقة أهل الكلام أو الفلسفة من الإسلاميين المعاصرين لا يجدون بُدًّا من العودة إلى هذا الجهد الضخم، إنه جهد من المنزلة والقوة والحجة والبيان ما يجعله أساس كل باحث في هذه المشكلة الخطيرة -مشكلة دعوى التعارض، إن الأداة النقدية هي التي نحاول استيعابها، أما الأمثلة والتطبيقات فهي التي تتغير، والمطلوب منا نحن الباحثين إنشاء قواعدنا الصلبة وتأسيسها بالاعتماد على ما أبدعه هذا الإمام الكبير، ثم نتحرك بذلك في ميادين عصرنا بما ينفع البحث العلمي. لهذا أحاول قدر المستطاع تأسيس ما يمكن من أدوات من خلال هذا العَلَم الإمام وأطبق ذلك على مشكلة البحث والله الموفق. صور الدعاوى التغريبية: تُثار هذه الدعوى منذ مئة وخمسين سنة تقريبًا، ولكنها لم توضع في صياغة واضحة كما وضعها مثلًا أهل الكلام في تاريخنا الإسلامي وإنما أُبقيت ملتبسة في صياغتها، تُرمى دون أن تحقق، وقد يكون لهم فائدة في ذلك؛ فإنها إن بقيت ¬

_ (¬1) كان المثال الذي مثّل به شيخ الإسلام على هذا النوع (صفة العلو) وقد أخذ ذلك ما يقرب من مجلدين من كتاب الدرء، انظر: المرجع السابق 2/ 859 وما بعدها.

بالتباسها سرى تأثيرها وأدّت وظيفتها المبتغاة؛ ذلك أن التحليل لدعوى المتغربين حول التعارض لا يجدها نتيجة أزمة روحية للباحث أو معرفية، وإنما يصل إلى أنها أداة تُرفع لمآرب أخرى. فقد يوجد فيهم من يلتبس عليه الحق ويظن بأن هناك تعارضًا بين الدين والعلم، ويُصدّق بدعاوى المبطلين ويسير في ركابها، إلا أن مجموعة من المتغربين هم منخرطون في تيارات فكرية علمانية معادية للدين، ويفرحون بأية أداة أو فكرة أو مفهوم أو دعوى ضد الدين، ولا أفضل عندهم من استخدام العلم الحديث، وهنا الفرق بين الأزمة الروحية والفعل الأيدلوجي. فإذا كانت الدعوى لم تخرج -أو لم يُرَد لها أن تخرج- في صياغة دقيقة وواضحة، فلابد لنا من التحليل لهذه الدعوى، فالنقد التحليلي هو الأنسب لمثل هذا النوع من الأمور الملتبسة، وهو الذي يكشف في النهاية حقيقة الدعوى فيوصلنا إلى ما يمكن وضعه في باب التعارض وما لا يمكن، ثم رفع الإشكال وكشف الخطأ أو الهوى. عُرفت دعوى التعارض بين العلم داخل أوروبا، واشتهرت بعد الصراع الكبير الذي تولّد عن إعلان نظرية الفلك الحديثة، ثم تحولت الدعوى إلى ما هو أوسع مع بروز تيارات فكرية علمانية، ولاسيّما الوضعي منها والمادي، وفي تلك الخصومة وفي ذروتها جاء احتكاك المسلمين بهم، فنقلها طائفة صغيرة إلى الصحافة وتركّز الأمر على بعض النظريات، الفلك والتطور، وكان الأمر أخف حتى جاء الاستعمار البغيض للعالم الإسلامي، فنشأت في ظلّه تيارات فكرية علمانية كان أشدّها إلحادًا تلك التيارات اليسارية التي انقلبت مع ضعف الاتحاد السوفيتي سابقًا إلى تيارات حداثية أو ليبرالية، فكانت الدعوى أوسع من التحرك في مجال العلوم البحتة بل كانت على مستوى المذاهب الفكرية، فإذا حللنا هذه الدعوى -وهو تحليل يعتمد على النظر في تشكلها لأكثر من مئة عام- يمكننا إعادتها إلى الصور الآتية: 1 - دعوى التعارض بين موضوعات دينية وموضوعات علمية. 2 - دعوى التعارض على مستوى الإطار العام: الديني والعلمي. 3 - دعوى التعارض على مستوى المنهج بين الدين والعلم. 4 - دعوى التعارض على مستوى الأمر الشرعي والنشاط العلمي.

ففي الصورة الأولى: يأتي مثلًا دعوى التعارض في مسائل الفلك، وأبرزها نظرية الفلك الحديثة حول ترتيب المجموعة الشمسية وصورة حركتها، وهي صورة أقرب لتوهم التعارض بين موضوعات جزئية؛ أي: موضوع محدد، وهذا النوع هو أقوى ما يمكن أن يقع فيه الالتباس والاشتباه ولكن مسائله قليلة. أما الصورة الثانية: التي على مستوى الإطار، فهذه برزت مع المذاهب الفكرية وكانت أكثر وضوحًا فيها، ولم يكن خروجها من ميدان أهل العلوم بصورة واضحة، حيث يرى أصحاب هذه التيارات أن الإطار العلمي يختلف عن الإطار الديني، إنهما متعارضان تمامًا ولا يلتقيان في مستوى الحقائق، فالدين يخاطب القلب والوجدان بينما العلم يخاطب الحواس والعقل، الدين مثل الآداب والفنون أقرب للعاطفة والعلم لا علاقة له بذلك، ثم هم آراء بعد ذلك حول أهميته: فمنهم من يرى أنه مهم مثل الأدب والفنون والأساطير لحاجة الوجدان له، ومنهم من يراه وهمًا خطيرًا لابد من التخلص منه، وأبرز صورة للطرفين في المتغربين العرب هما: "الوضعيون واليساريون". الصورة الثالثة: هي جزء من الصورة السابقة ولأهميتها أفردت، وهي التعارض على مستوى "المنهج"، ويُركز هنا عادة على المعيار الحسي والتجريبي للعلم مقارنة بالجانب التسليمي للدين؛ لاعتماده على الغيب، فكل ما ليس بمحسوس أو لا يمكن التحقق منه فهو يتعارض مع العلم عندهم؛ لأن العلم لم يدل عليه، فجعلوا عدم دلالة المنهج العلمي عليه دلاله على عدم علميته، وبهذا فهو يتعارض مع العلم، مع أنه لا يعني عدم دلالة الدليل المعين على مسألة هو عدم صحتها أو عدم وجودها بإطلاق، فلا تلازم هنا، حيث قد يوجد دليل آخر يثبته، فالمعتبر هنا هو هل يوجد دليل يدل عليه أم لا، فالأدلة تتنوع: منها العقلي الاستنباطي ومنها العلمي التجريبي الاستقرائي ومنها الخبر المتواتر. أما الصورة الرابعة: فهي أضعفها حجة وإن كانت أكثر الصور حضورًا، وهي القول بوجود تعارض بين الأمر الشرعي "الدين" والنشاط العلمي، فهذا إن وجد في مسائل فلا يُسمى في الحقيقة تعارضًا بين حقائق وإنما هو معارضة لأمر الله سبحانه وشرعه، وهو أمر من الناحية التصورية مُسلّم به في كل الأمم: حيث نجد لكل أمة ثقافة ومعايير قيمية تحدد مسار النشاطات، وربما تكون في صلب القوانين، فلا يسمى هذا تعارضًا، ولكن أهل التغريب يحرصون على جعله

من التعارض، فهو إن لم يكن تعارضًا على مستوى الخبر فهو تعارض على مستوى الأمر الشرعي، ولله الخلق والأمر، فلا يمكن وجود مسألة علمية خبرية تتعارض مع ما أخبر الله به، ولا يمكن وجود مسألة عملية علمية تتعارض مع أمر الله سبحانه. ومن الأمثلة على الثاني ما تأتي به النشاطات العلمية في ميدان العلوم الاجتماعية أو حتى في مجال العلوم الطبيعية، ومن أمثلتها الحاضرة موقف الشرع من الاستنساخ أو تغيير الجنس أو حتى تحديد نوع الجنين، ومثل ما يقال من تعارض بين علم الاقتصاد والدين أو علم السياسة والدين أو علم النفس والدين أو علم الاجتماع والدين وهكذا مما يرتبط بالجانب الشرعي من الدين، فقد يُحرم الله سبحانه أمورًا مثل الربا، ويأتي علم الاقتصاد ويدعي ضرورته للنمو الاقتصادي، ثم يقولون: إن هناك تعارضًا بين الدين والعلم، علم الاقتصاد يريد التقدم للبشر والنمو وهذا يتحقق بالربا بينما الدين على عكس ذلك، فهذه دعوى باطلة، وهي معارضة لأمر الله سبحانه، ولكن أهل التغريب يدخلونها ضمن التعارض بين الدين والعلم، ويقولون: انظر لمجتمع يقوم على العلم، فهم في الاقتصاد يرجعون لعلماء الاقتصاد وفي السياسة إلى علمائها وفي الاجتماع إلى علمائه، وهكذا، بينما الناس عندنا يرجعون إلى الدين، والحقيقة أن الرجوع عندنا أيضًا يكون في كل بابه إلى علمائه، فيكون عندنا علماء للاقتصاد، ينمو بالأمم والمجتمعات، فالجميع يعود إلى العلماء ولكن الاختلاف هو في الإطار الموجه، فهناك من يجعل إطاره علمانيًا وهناك من يجعله دينيًا. تمثل الصور الأربع لدعوى التعارض بين الدين والعلم نموذجًا لتحليل الدعوى، تحليلها إلى عناصرها الأساسية، لا أقصد منه الحصر الدقيق بقدر ما أهتم بتحليل يساعدني على تصور الموضوع ومناقشة إشكالاته، فتكون الصور الأربع أنسب لي في بحثي، وهي التعارض على مستوى "الموضوعات" أو "الإطار" أو "المنهج" أو "النشاط". وإذا كانت الصور الأربع تحلل صور التعارض فإنها لم تحدد بوضوح الموقف الذي سلكوه بعد ذلك، فالموقف مثلًا في التاريخ الإسلامي قد عُرف عند طوائف في قانون التأويل وذلك بتقديم العقل أولًا، أما النقل فيؤول أو يفوّض.

ولكن الوضع هنا يختلف؛ لأنه لا يوجد شيء في الدين إلا تركوه وذهبوا إلى الغرب يستقون منه كل تصوراتهم الجديدة مكانه، ورغم فساد القانون عند المتقدمين، إلا أنهم أحسن حالًا من المعاصرين، فالمسائل عند المتقدمين محدودة على الأقل في أبواب، أما مع المتأخرين ولاسيّما في الصور الثلاث: "الإطار - المنهج - النشاط" فما يبقى شيء في الدين إلا يُنتهك؛ لهذا جاء الموقف التغريبي في الدعوة إلى علمنة الحياة، يريدون إدارة الحياة بما أخذوه من الغرب، ويبقى الدين للشأن الشخصي الفردي، الفرد هو وما يريد، أما الحياة بما فيها جانب العلوم فتترك لتقليد الغرب، قطعًا يصعب على بعضهم القول بتقليد الغرب، سيقولون مكانها عبارات جميلة مثل: "الإبداع والنشاط العقلي والعلمي"، ثم لا تجدهم إلا على موائد المذاهب الغربية، لا أحد فيهم يريد الإبداع والتفكير والاختراع والعقل والعلم في ضوء الإسلام وهديه وإنما في هدي مذاهب فكرية علمانية، وضعية أو مادية أو غيرها من المذاهب الغربية. يحصرون الحل في رفع التعارض بإبعاد الإسلام عن الحياة وجعله شأنًا شخصيًا ويستبدلون به ما يستطيعون نقله من الفكر الغربي، وفي ذلك انحطاط فكري لا مثيل له في تاريخنا الإسلامي، فإن الانحرافات القديمة كانت تحرص على إبقاء الإسلام رغم ما تُحدثه من تشويهات له بواسطة مبضع التأويل، ولكنهم لم يصلوا إلى درجة إقصائه بعيدًا عن حياتنا بمثل ما حصل في هذا الغلو التغريبي. أول مواجهة لهذه الدعوى بصورتها التغريبية كانت من قبل الاتجاه الإسلامي التوفيقي، ولاسيّما مع أبرز رموزه الشيخ "جمال الدين الأفغاني" والشيخ "محمَّد عبده"، حيث استند الأفغاني إلى الطريقة الفلسفية في التوفيق بينما استند محمَّد عبده إلى الطريقة الكلامية، وهناك مجموعة تأثروا به، فكانوا أقرب إلى التوازن من شيخيهما في أبواب من أمثال الشيخ "حسين الجسر" في الشام أو "محمَّد رشيد رضا" السوري في مصر أو الشيخ "ابن عاشور" في تونس أو "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين" أو الشيخ "الحجوي" في المغرب (¬1)، ¬

_ (¬1) هناك دراسات حديثة تذكر في الجملة تأثر علماء المغرب بالدعوة السلفية رغم عدم تركهم للمذهب الأشعري، انظر مثلًا: الخطاب الإصلاحي في المغرب. . . .، عبد الإله بلقزيز ص 50 وما بعدها، وانظر: العقل والنقل في الفكر الإصلاحي المغربي .. ، حسن الحجوي ص 160 وما بعدها. =

وغيرهم من العلماء الأفاضل، ممن أعجب أو تأثر بدعوة الأفغاني وعبده ومع ذلك أفادهم اطلاعهم على تراث ابن تيمية وابن القيم وغيرهما من أهل السنة في اعتدال موقفهم. هذا الاتجاه الكبير قام بأعمال كبيرة في القرن الرابع عشر، إلا أن العلاقة بين الدين والعلم وما يثيره أهل التغريب من دعاوى حول هذا الباب قد أخذت باهتمامهم وشكلت جزءًا من نشاطهم، فحرصوا على معالجتها ورفع الالتباس الذي فيها، ولهم في ذلك جهد عظيم لا ينكره أحد، فقد عاشوا فترة الاستعمار ونشاط تيارات التغريب، فواجهوا تلك الحملة الرهيبة واجتهدوا، فأصابوا وأخطئوا، يختلفون في ذلك، كل بحسب الظروف التي تُحيط به بحسب الإمكانيات العلمية والمعرفية التي يمتلكها. غلب عليهم استثمار قانون أهل الكلام، لقد وجدوه آلة مناسبة لمواجهة المشكلة الجديدة، فكما واجه هذا القانون العقلَ قديمًا يمكنه مواجهة العلم حديثًا، مع الاجتهاد في التأويل عند الحاجة أو التفويض والتسليم عند عدم الاستطاعة، مع الاعتقاد أن للنص معنى لم تدركه عقولنا. مع أن هناك تعديلات تقع في التطبيق أجدها والعلم عند الله من التأثر بما اطلعوا عليه من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، فتجد عند بعضهم الاحتياط في إبداء الرأي، وتجد العناية بصحيح السنة، وتجد محاولة تجاوز بعض الأصول العقدية الكلامية أو الصوفية التي تؤثر في التصور الصحيح للدين وعلاقته بالحقائق العقلية أو العلمية، وهي ميدان بحث واسع لا يتسع له المقام (¬1). ¬

_ = وقد صرح الشيخ "محمَّد بن الحسن الحجوي" بأنه وجد بعد سنتين من كتابته في الموضوع كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية، وفيه يقول: "ولقد وجدته مجموعًا واسعًا في مجلدات، ولكنه نحى غير المنحى الذي انتحيته. . . . وقد توافقنا والحمد لله في المبدأ الذي هو موافقة المعقول للمنقول غير أنه سلك طريق ابن خلدون في تقديم المنقول بل زاد هو ولو ظنيًا، فكأنه نقض مبرمه، وتنبغي مراجعة كتابه ومقابلته مع هذه الرسالة، فرب ساقية أنفع من بحر. . . ."، انظر: التعاضد المتين بين العقل والعلم والدين، له ص 92 هامش 2، بتحقيق د. محمَّد عزوز، وكتعليق لابد منه: فإن شيخ الإسلام ابن تيمية سلك طريقة السلف، فلا علاقة له بابن خلدون، وابن خلدون بعيد عن ابن تيمية، كما أن شيخ الإسلام كما سيأتي لم يقدم الظني. (¬1) انظر: شيئًا من ذلك في المبحث الثاني من الفصل الخامس من الباب الأول.

أصول عامة حول دعوى التعارض بين الدين والعلم

لقد كان الهدف نبيلًا عند الاتجاه التوفيقي وصاحبه جهد عظيم لا يمكن الاستهانة به، ومع ذلك فقد تلبّس بما يُضعفه وهو الاعتماد على آلة كلامية ثبت عدم صلاحيتها لحل الإشكال، ولاسيّما بعد النقد الجذري لهذه الآلة مع شيخ الإسلام ابن تيمية، فلا يصح من عالم عاقل قد اطلع على ذاك النقد العظيم أن يتغافل عنه ويعود من جديد لمثل هذه الآلة، وهذا هو المأخذ المهم على الاتجاه التوفيقي، ولهذا سيبقى ابن تيمية -رحمه الله- حيًا بعلمه ما وجد دعوى للتعارض، ولاسيّما إذا استعيد قانون التأويل الكلامي المشهور. ولكن عمل الاتجاه التوفيقي لم يكن كله سعي للتوفيق، بل هناك إلى جانبه عمل نقدي مهم، استلم دعاوى المتغربين وأنهكها وكشف الكثير من باطلها وزيفها والأهواء التي خلفها، وهي مساحة كبيرة من نشاطهم، وهي مادة جيدة لا يستغني عنها الفكر الإسلامي المعاصر. وخلاصة القول إن الاتجاه التوفيقي قدم نقدًا مهمًا للاتجاه التغريبي حول دعوى التعارض، وهي مادة ثرية تحتاج إلى تمحيص لإخراج المفيد منها، ومع ذلك ففي الجانب الآخر، أي جانب ما سلّموا به من توهم التعارض قد عالجوه بأداة لا تصلح لذلك، فمفاسدها أكثر من مصالحها، وكثير من مسلماتها خطأ محض سبق لأهل السنة بيانها. فإن جاء مفكر أو باحث إسلامي يخالف هذا الاتجاه في مسعاه التوفيقي فلا يعني أنه لا يستفيد من مسعاه النقدي، كما أن الاستفادة من الاتجاه التوفيقي من نقده لا يعني عدم التنبيه إلى خطأه في عمله التوفيقي. أصول عامة حول دعوى التعارض بين الدين والعلم: هناك أصول عامة يُسلّم بها الفكر الإسلامي قبل تنزله في مناقشة الاتجاه التغريبي في مسألة دعوى التعارض، وأهمها: 1 - اليقين التام بما في الوحي، وهذا اليقين عند المسلم لا يزعزعه شيء، فإنْ التبس عليه أمرٌ رجع إلى الكتاب والسنة وإلى أولي العلم بهما، مع تمام التسليم بأن الرب سبحانه كلامه حق وصدق، قال -تعالى-: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا} [النساء: 87]، وقال -تعالى-: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا} [النساء: 122] وأنه العليم الحكيم، فلا يكون في أمره إلا ما يوافق علمه وحكمته

سبحانه. وينتج عن هذا الاعتقاد العظيم ثقته بأنه لا توجد حقيقة علمية أو عملية تعارض آيات الله سبحانه ووحيه إلى رسله، وإن ادعى أحدٌ خلاف ذلك لم يتزلزل إيمانه ويقينه وثقته بما بين يديه من الوحي. 2 - أن ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو حق وصدق، وكل من ادعى معارضته فهو مخالف للرسول - صلى الله عليه وسلم - ومعتقد في حقه أسوأ الاعتقاد، وفعله من فعل جنس معارضي الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذين قال الله فيهم: {مَا يُجَادِلُ في آيَاتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ في الْبِلَادِ (4)} [غافر: 4]، وقال -تعالى-: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوَا (56)} [الكهف: 56]. ويلزم منه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يبين للناس هذا الوحي حتى يتركهم لتلك المعارضات، أو أنه لبّس عليهم وهو أشنع، أو أنه على غير علمٍ بما أخبرنا به. ففيه اتهام بعدم القدرة على البيان وهو أفصح الخلق - صلى الله عليه وسلم -، أو عدم الصدق مع أمته وهو أنصح الخلق لأمته - صلى الله عليه وسلم -، أو عدم العلم واتهامه بالجهل وهو أعلم الناس - صلى الله عليه وسلم -. فكل من يزعم بوجود معارضة للوحي فهو يعارض الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ويتهمه بواحدة من التهم الثلاث، وإن لم يصرح بذلك، ولكنها لازم قول من ادعى المعارضة. 3 - أن الأدلة تتنوع، وأعلاها وحاكمها والمهيمن عليها هو كلام الله تعالى المنزل ثم الخبر عن الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم -، فالقرآن الكريم قطعي الثبوت وكذا السنة "المتواترة" أما حديث "الآحاد" فمنه القطعي الذي احتفت به القرائن وتلقته الأمة بالقبول ومنه الظني، أما من حيث الدلالة فمنها القطعي ومنها الظني وذلك في القرآن والسنة، وهي تحوي الخبر المحض وتحوي الدليل العقلي والحسي، فتكون بذلك أدلة شرعية كما سبق بيانه في فصل سابق (¬1). وهنا يأتي ضلال من لم يتبع الهدى ويترك الوحي ولا يعتمد إلا الدليل العقلي أو الدليل الحسي ويرفض غيرهما، وما لم يدلّا عليه عندهم فلا يعدّونه من العلم، فيقع الإعراض عن الوحي بسبب هذا الاشتراط الفاسد، وقد قال {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: 124]، فتجدهم يخرجون ما دلّ عليه الوحي من دائرة العلم، مع أنه أعلى درجات العلم، فيعيشون عيشة ضنكًا. ¬

_ (¬1) انظر: المبحث الأول في الفصل الأول من الباب الثاني.

مناقشة الدعوى

4 - إذا كان من مذهب أهل السنة عدم وجود التعارض فإنهم أيضًا لا ينكرون الدليل العقلي أو الدليل الحسي، ولا يدّعون بطلانهما، فهما من الأدلة الصحيحة المعتبرة، ولكنهما ليسا على هيئة واحدة، فالدليل العقلي منه ما هو حق ومنه ما هو باطل ومثله الحسي، وكما أنهم يعلمون أن الدليل النقلي قد يكون فيه الضعيف والموضوع فلا يحتجون به، فكذا الحال مع الأدلة العقلية والحسية؛ لذا لا يرفضون ما صح منه أو ما هو مفيد، بل هو من الحق الذي لا يكذب به أحد. 5 - أن أهل السنة عند مناقشة دعاوى التعارض فليس لوجود شك عندهم أو حيرة أو تلبيس، فهم واثقون في الوحي متمسكون به مصدقون بما فيه، ولكن المناقشة فقط لدفع تلك الدعاوى الكاذبة أو الملتبسة حتى لا يتخذها أعداء الأمة وسيلة لتشكيك الناس في دينهم أو حرمان آخرين من الإقبال على الإسلام (¬1). مناقشة الدعوى: وستكون مناقشة الدعوى من خلال خمسة مداخل: أولًا: أهمية رفع التعميم والإجمال: نجد عادة مثل هذا الادعاء: هناك تعارض بين الدين والعلم، فلابد أن نفهم ماذا يُقصد بالدين وماذا يقصد بالعلم، ولهذا نجد الاحتراز عند شيخ الإسلام في التعارض القديم، فينص أنه لا تعارض بين النقل الصحيح والعقل الصريح، ومثله نقول إنه لا تعارض بين الدين الصحيح والعلم الصريح؛ لأن الدين هنا أول ما أطلق كان يراد به النصرانية أساسًا واليهودية تبعًا لظهور المشكلة في مجتمع نصراني في الأساس. فلا يصح اتخاذ دين واحد ذريعة للتعميم إلى كل دين إلا إذا ثبت أن كل الأديان فيها هذه المعارضة، وهذا من باب التنزل مع المخالف. ¬

_ (¬1) انظر حول هذا الباب: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية ولاسيّما الجزء الأول والثاني، وانظر: الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، لابن القيم، الجزء الثالث والرابع، ومن الدراسات المعاصرة: موقف ابن تيمية من الأشاعرة، د. عبد الرحمن المحمود 2/ 818، وانظر: منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد، د. عثمان حسن 1/ 351، وانظر: موقف المتكلمين من الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة .. ، د. سليمان الغصن 1/ 259.

ثانيا: ما المقدم عند التعارض؟

كما أن العلم هنا ليس درجة واحدة بل هو مستويات، فضلًا عن أن أغلب ما يُقال إنه علم يعارض الدين هو من المجال الفكري الذي لا علاقة له بميدان العلم إلا علاقة الاستغلال والاستثمار لما يخدم أهداف هذا التيار الفكري أو ذاك. فأجمل لفظ العلم هنا، وعندما حُلل ما يريدون به من مفردة "علم" ظهرت ثلاث صور قد يقع منها التعارض مع الدين؛ لأنها في الحقيقة ليست من العلم، ولذا فهي معارضة للدين وليست تعارضًا، فمن يتحرك من خلال "الإطار العلماني" أو "المنهج الحسي" أو "النشاط العملي" فهو لا يأتي بحقائق واقعية خارجية تتعارض مع الدين، وإنما يأتي بفلسفة يعارض بها الدين. وعلى هذا فالتحليل للمفردتين الأساسيتين، ورفع الإجمال والتعميم عنهما يحيلان الموضوع من دعوى التعارض إلى عمل معارضة للدين، وهي من جنس الصدّ عن دين الله سبحانه، قال -تعالى-: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)} [آل عمران: 99]. فمن يتحرك في الإطار العلماني ويرى بأن العلم مصدره البشر ولا علاقة لنا بالوحي، فهو يعارض دين الله ويصد عن سبيله، ومن يجعل الحسي هو شرط العلم وما سواه فليس بعلم هو ممن يصدّ عن سبيل الله، ومن يأتي بنظريات في العلوم الاجتماعية "العملية" ويصادم بها دين الله فهو ممن يصدّ عن سبيل الله. وهذه في الحقيقة لا يُقال عنها أنها تتعارض مع الوحي تعارض الحقائق، وإنما هي معارضة للوحي. ثانيًا: ما المقدم عند التعارض؟ فإذا رُفع "الإجمال والتعميم" فإنه لا يُقال بتقديم العلم على الدين بحجة أن العلم يعتمد الحقائق المحسوسة، مع أنه ليس كله كذلك، وإنما -وهذا من باب التنزل مع الخصم- نقول كما قال علماء أهل السنة، هل الدليل النقلي والعلمي هما القطعيان أو الظنيان؟ أو ما كان أحدهما قطعيًا والآخر ظنيًا؟ فأما إن أريد بهما القطعيان، فلا نُسلم بإمكان التعارض حينئذ؛ لأن القطعي لا يعارضه قطعي آخر، وأما إن أريد بهما الظنيان، فالمقدم هو الراجح مطلقًا، سواء كان الدليل النقلي أو الدليل العلمي، وجاء التقديم بسبب الرجحان

ثالثا: "موضوعات الغيب وموضوعات الشهادة - الأكثر إشكالا"

وليس بسبب كونه نقليًا أو عقليًا أو علميًا. وأما إن أريد به أن أحدهما قطعي، فالقطعي هو المقدم مطلقًا، وإذا قُدر أن العقلي أو العلمي الحسي هو القطعي كان تقديمه لكونه قطعيًا لا لكونه عقليًا أو عمليًا حسيًا، وبهذا يُعلم أن تقديم العقلي مطلقًا خطأ أو العلمي الحسي كذلك، كما أن جعل جهة الترجيح كونه عقليًا أو علميًا حسيًا خطأ أيضًا (¬1). قال ابن القيم -رحمه الله- بعد ذكره للأقسام الثلاثة: "فهذا تقسيم متفق على مضمونه بين العقلاء. فأما إثبات التعارض بين الدليل العقلي والسمعي والجزم بتقديم العقلي مطلقًا، فخطأ واضح معلوم الفساد عند العقلاء" (¬2). وهو الذي يُرفع به التوهم، فإن جاء شيء من العلم فلا يُقدم بإطلاق، وإنما يُنظر فيه هل هو قطعي أو ظني، ثم يُنظر فيما يتوهم معارضته من الدين هل هو قطعي أو ظني، فلا يمكن وجودهما في التعارض القطعي، وإن جاء أحدهما قطعيًا قُدم لأنه قطعي، وإن كانا ظنيين انتقلنا إلى الترجيح بينهما. وقد يظن من يجهل حقيقة الدين أن في مثل هذا التقسيم شيء من تقليل شأن الدين (¬3)، والحقيقة أن هذا من تعظيم الدين، فالكلام هنا ليس عن الدين أو العلم، وإنما هو عن أدلة ومسائل توجد فيهما، وإلا فالمقدم هنا هو الدين مطلقًا وهو الوحي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولكن إذا جاءت أدلة ومسائل توَهم المتوهمُ فيها تعارضًا، فإن الدين يأمر أصحابه بالعلم والبرهان وتقديم الحق على غيره، وهذا التقسيم الذي ذكره أهل السنة هو الذي يستقيم به الأمر. ثالثًا: "موضوعات الغيب وموضوعات الشهادة - الأكثر إشكالًا": يرتفع الكثير من الإشكال بالأصلين السابقين؛ أي: بتجاوز "التعميم والإجمال" أولًا، فهما مظنة الالتباس، ثم بالاعتماد على القطعي دون القول بأنه ¬

_ (¬1) ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في الدعوى بين الدليل النقلي والدليل العقلي، وقد أضفت ما هو عند طائفة من المعاصرين أعلى من العقل وهو العلم، انظر: درء التعارض 1/ 79 - 80، 1/ 86 - 87. (¬2) انظر: الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، ابن القيم 3/ 797 - 798. (¬3) قارن كلام الشيخ عبد الرحمن المحمود في كتابه موقف ابن تيمية من الأشاعرة 2/ 827.

النقلي أو العقلي أو الحسي. وباصطحابهما ندخل إلى أكثر صور التعارض المزعومة اشتباهًا وهي النوع الأول: أي: التعارض بين الموضوعات الجزئية، حيث يتكئ عليه أهل التغريب في جعله أداة لإقصاء الدين أو التكذيب بنصوصه، بحجة أن ما يقدمه الدين من معلومات عن موضوعات بعينها يتعارض تمامًا مع العلم الحديث، وليكن النموذج على ذلك إقامتهم التعارض بين ما ورد في الدين عن أمر الكون، ولاسيّما موضوعات الفلك وبين ما يرد في العلم الحديث حول الموضوع نفسه، وذلك أنها أول مسألة سببت نزاعًا في الفكر الحديث، في الغرب أولًا ثم في العالم الإسلامي، وما زالت تُثير بعض المشاكل، من أبسط مسائلها كالقول بكروية الأرض ودورانها حول نفسها ودورانها حول الشمس والمجموعة الشمسية ونظامها إلى الأعقد والأغمض وهو الكون الكبير، كما أن هذا العلم يُعدّ من أقوى العلوم الطبيعية التي اكتسبت مقدارًا كبيرًا من الدقة والعلمية. وبمثلها يفرح المعارض للدين أو الهارب منه ويرفعها أداة اتهام للدين، وعلى عكسه المؤمن الذي قد يلتبس عليه الأمر ويقع في حيرة وألم، بينما إذا حُقق الأمر وُجد أنه لا تعارض حقيقي في الموضوع وأن مدّعي التعارض قد غلبه هواه عن النظر الموضوعي للإشكالية. وذلك أن الموضوعات التي يُدّعى فيها التعارض، إما أنها موضوعات كبرى عن خلق الكون والحياة والإنسان وأمثالها، أو موضوعات جزئية مثل بعض مسائل الفلك، وهي أيضًا قد كان خلقها في الماضي البعيد وقبل وجود الإنسان، وما بقي منها هو الجزئي الظاهر المستمر في الحدوث، وبهذا فنحن أمام أمر غيبي قديم أو أمر ظاهر موجود، الغيبي يتعلق بأمور كبرى مثل وجود الكون والظاهر مثل كروية الأرض وحركتها حول نفسها وحول الشمس. فإذا رجعنا إلى الدين وجدنا فيه حديثًا حول الأمرين ولهدف معين، وإذا رجعنا إلى العلم الحديث في الفلك والفيزياء الكونية وجدنا فيه حديثًا حولهما أيضًا، ومن الواضح أنهما لا يتشابهان ولكن عند المحقق يعلم أيضًا أنه لا يشترط من عدم التشابه وجود التعارض. 1 - الموضوعات الكونية الكبرى التي هي من الغيبيات: يُعد خلق العالم من الأمور الغيبية، ولكن الغيب منه ما هو غيب مطلق،

فلا يعلمه أحد إلا بالخبر، ومنه ما هو نسبي قد يعلمه قوم ويجهله آخرون، أو يُجهل في وقت ويُعلم في وقت. ومن معتقد أهل السنة أن للغيبيات الوارد ذكرها في النصوص معنى يعرفه المخاطب وحقيقة لا يعرفها، ومن ذلك الجنة ونعيمها أو الباري سبحانه وصفاته، فما ورد من نعيم الجنة نعرف معناه ولكن لا نعرف حقيقته؛ أي: لا نعرف كيف هو، ومثل ذلك صفات الباري سبحانه نعرف معناها ولكن لا ندرك حقيقتها، ويدخل في ذلك الأمور الكونية، ومن ذلك مثلًا ما نجده في الوحي من خلق السموات والأرض في ستة أيام، فإن المعنى واضح ولكن حقيقته من أمور الغيب، فمن الذي يستطيع الجزم بما حدث في هذه الأيام؟ ومن الذي يستطيع الجزم بتحديد طول هذه الأيام؟ فالذي نعلمه أن هناك أيامًا ستة، الله أعلم بطولها، وقع فيها خلق السماوات والأرض، الله أعلم بكيفيته، وبحسب القاعدة المشهورة: "المعنى معلوم والكيف مجهول"، وإن كان مجهولًا فقد لا يكون كلّه من الغيب المطلق، فقد يصل البشر إلى بعض المعرفة ببعض أموره. فلو جاء زاعم ثم قال: إن هناك تعارضًا مثلًا في الزمن، ففي الوحي نجد ستة أيام بينما يذكر أهل العلوم غير ذلك من الأزمان، فلا يدخل هذا النوع في أبواب التعارض؛ لأن الزمن الذي ورد في القرآن غير الزمن الذي يتحدث عنه أهل العلوم الحديثة، ذاك زمن غيبي نعرف معناه ونجهل حقيقته، بينما زمن أهل العلوم زمن يقاس بعالم الشهادة وبالمحسوس، وبالمعاش، وهذا هو ما يستطيعون بحثه إن سلّم أهل الاختصاص لهم بصحة ما ذهبوا إليه وأجمعوا عليه. ومثل هذا لا يقع فيه التعارض، نعم لو جاء من يقول بأن العلم يثبت أن الكون أزلي، ولم يخلق فهذا فيه تعارض بيّن، وهو ما تبناه الماديون رغم أن العالم الفيزيائي الذي اعتمدوا عليه لا يقول بهذا القول وهو نيوتن، كما أن الفيزياء المعاصرة ضدّ هذا القول ومن أبرز نظرياتها نظرية الانفجار العظيم، وهي نظرية تُسلم بزمن معين ظهر فيه هذا الكون (¬1). فيكون هناك إطار زمني جاء في الدين، وإطار زمني ذكره أهل العلوم الحديثة، أما حقيقة ما ورد في الدين فالله أعلم به، الذي نعلمه هو المعنى وأنه ستة أيام، أما أهل العلوم فيقولون بأنه زمن ¬

_ (¬1) انظر مثلًا: الفيزياء ووجود الخالق، د. جعفر إدريس ص 82 مع الفصل الرابع.

طويل إذا قيس بالمُشاهد، وهو أمر الله أعلم بحقيقته وإن كنا نعلم معناه؛ فإن الله تعالى خاطبنا بما نعلم. أما أهل الاختصاص الطبيعي فلهم مقاييسهم وحساباتهم وملاحظاتهم، وهو أمر لا نتحدث عنه، فليس الأمر مما يتطلب منا تكذيبهم أو تصديقهم، فبما أنه لا يوجد لدينا دليل قطعي فإنه لا يصح لنا التكذيب بأمر نجهله وإنما يُترك لأهل الاختصاص، ولكن في المقابل فمن غير الصحيح الاستعجال بتفسير النصوص الدينية بمثل هذه المعلومات العلمية. إن بحث أهل العلوم في المثال السابق، حول "الزمن" إنما هو فيما نجهله نحن؛ أي: في جانب الكيف، وهو أمر غيبي، ولكنه من الغيب النسبي الذي لا يمنع من وجود طائفة من البشر في زمن من الأزمان يعرفون بعض المعلومات عنه، ولاسيّما إذا توفر لهم من الأجهزة والمقاييس والأدوات ما يساعدهم على ذلك، ولكن ما يصلون إليه ليس من القطعي، وإنما هو من النظريات التي تُطرح، والنظرية تُعد محاولة للإجابة، وهي في فلسفة العلم ظنية الدلالة؛ وقد يأتي في زمن لاحق ما يغير فيها أو يطورها أو يلغيها، وعلى هذا فما قدمه العلم في هذا الباب يكون في أحسن أحواله دليل ظني، ومعلوم أن المقدم عند التعارض بين القطعي والظني هو القطعي. 2 - الموضوعات الجزئية: تأتي الموضوعات الكبرى غالبًا عن أمور غيبية في الماضي أما الموضوعات الجزئية فهي أمور حادثة مشاهدة ظاهرة للبشر، فالدين والعلوم البشرية في النوع الأول يتكلمان عن أمر غيبي، أما في النوع الثاني فعن أمور ظاهرة مشاهدة ليست من الغيب. فمن الغيب وجود الكون، ومنه أمور من الغيب النسبي، ومن المشاهد حركة الأرض والشمس والنجوم. ومن الغيب خلق آدم وحواء -عليهم السلام-، وهو أيضًا من الغيب النسبي، ومن المشاهد خلق الجنين، فخلق آدم من أمر الغيب الذي يُعلم في الأساس بالخبر، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في تفسير سورة العلق: "فأما خلق آدم من طين، فذاك إنما علم بخبر الأنبياء أو بدلائل أخر. ولهذا ينكره طائفة من الكفار الدهرية وغيرهم الذين لا يقرون بالنبوات. وهذا بخلاف ذكر خلقه في غير هذه السورة. فإن ذاك ذكره لما يثبت النبوة وهذه السورة أول

ما نزل وبها تثبت النبوة فلم يذكر فيها ما علم بالخبر بل ذكر فيها الدليل المعلوم بالعقل والمشاهدة والأخبار المتواترة لمن لم ير العلق" (¬1)، والشاهد من هذا هو التفريق بين الغيب والشهادة، فما ورد من الغيب نعرف معناه ونجهل الكيفية، إلا إن جاء في الخبر ما يوضحها لنا، أما الشهادة، فإن تحدث عنها الدين فهو يتحدث عما نشاهده، فإذا أتينا إلى هذا الباب فإن العاقل من أي ملّة تصيبه الدهشة وهو يرى أنه لا يوجد شيء مما ورد في الإسلام يعارضه شيء من العلم، بل إن العقلاء تصيبهم دهشة وهم يجدون في القرآن أمورًا من التفاصيل لم يكتشفها العالم إلا بعد قرون، ومن هنا لم تظهر مشكلة في دين الإسلام مع الحقائق العلمية بخلاف الأديان الأخرى: المبدلة والوضعية، فقد عرفت مشاكل كثيرة مع الحقائق العلمية. ومع ذلك فليست كل الموضوعات بالوضوح نفسه، فهناك موضوعات معقدة في باب العلوم، وهذه الموضوعات قد جاء الحديث عنها في القرآن الكريم، وقد وجد فيها بعض المتغربين فرصة للتشهير بالدين وإثبات تناقضه أو تعارضه مع العلم الحديث، ومن بين ما يكثر الحديث عنه نظرية الفلك، لهذا أجعلها النموذج في الإشكال مع بيان عدم صحة جعلها وسيلة لإثبات التعارض بين الدين والعلم. لقد سبق الحديث عن صورة إثارة هذه المشكلة في الفصل الرابع من الباب الأول، وقد رأينا أنها كانت مشكلة في الطائفة النصرانية في الأساس، وأن من عاصر المشكلة من المسلمين لم يجدوا فيها ما يصح جعله من التعارض بين الدين العلم الحديث، وكانت نتيجة الفقرة آنذاك أنها لم تُشكل مشكلة عند المسلمين. ومع ذلك فقد لا تبحث في كتاب من كتب المتغربين، له صلة بالموضوع إلا ذُكِر التعارض بين الدين والعلم مُمثِلًا بها، وقد وجدت عند مجموعة يتناقلون فرية افتروها ويتناقلونها عن أحد العلماء المعاصرين من قوله بأن الأرض لا تدور وعند بعضهم أنه مسطحة وأن من قال بغير ذلك فهو كافر (¬2). ومع ذلك فمرادي في هذه ¬

_ (¬1) الفتاوى، 16/ 261، وانظر: العقيدة الإسلامية وأسسها، عبد الرحمن الميداني ص 23 - 28. (¬2) انظر مثلًا: عرش المقدس. . . .، د. عبد الهادي عبد الرحمن ص 90، وانظر: العقل الإيماني، حسن أحمد ص 73، 78، 116.

الفقرة إثبات الجانب المنهجي والمعرفي، وإلا فالظاهر من أحوالهم هو سيطرة اتجاهاتهم العلمانية عليهم وفرحهم بأي شيء يوهم التعارض حتى يجعلوه دليلًا في إثبات المعارضة ومن ثم إقصاء الدين. فماذا يقال في هذا النوع؟ من المعلوم بأن القرآن جاء بلسان عربي مبين، وأنه نزل بلسان العرب، ولهذا هو مفهوم عندهم، فلابد عند فهم النصوص من مراعاة معهود العرب في خطابها، وعندما تكلم على أمور الكون والمخلوقات المشاهدة فهو يتكلم بما هو معهود عندهم، وهدفه تحقيق التوحيد والعبودية لله، وقد ذكر الإِمام "الشافعي" -رحمه الله- صورًا من معهود العرب في خطابها، ومن ذلك: 1 - أنها تخاطب بالشيء منه عامًا ظاهرًا تريد به العام الظاهر، ومثاله من القرآن الكريم قوله -تعالى-: {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: 13] فهذا يعم جميع الناس. 2 - وتخاطب بالشيء عامًا ظاهرًا تريد به العام ويدخله الخصوص، ومثاله من القرآن الكريم قوله -تعالى-: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} [النساء: 75]، فكل أهل القرية لم يكن ظالمًا، لكنهم كانوا مغلوبين على أمرهم. 3 - وتخاطب بالشيء عامًا ظاهرًا تريد به الخاص، مثاله من القرآن الكريم قوله -تعالى-: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6]، ودل القرآن على أن وقودها إنما هو بعض الناس، لا كلهم، كما في قوله -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)} [الأنبياء: 101]. 4 - وتخاطب بالشيء ظاهرًا يعرف في سياقه أنه يراد به غير ظاهره، مثاله من القرآن الكريم قوله -تعالى-: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} [يوسف: 82]، المراد أهل القرية، وأهل العير (¬1). وقد ذكر الشيخ "محمَّد بن عثيمين" -رحمه الله- من القواعد حول أدلة الأسماء والصفات بعض ما يفيدنا في موضوعنا، ومنها القاعدة الثانية: "الواجب في ¬

_ (¬1) انظر: الرسالة، الإِمام الشافعي ص 53 - 64، وقد رتب المعاني السابقة واختصرها الدكتور عثمان حسن ومنه أخذت الترتيب بعد الرجوع للأصل، انظر: منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد، د. عثمان حسن 2/ 439.

نصوص القرآن والسنة إجراؤها على ظاهرها دون تحريف لاسيما نصوص الصفات حيث لا مجال للرأي فيها"، واستدل بقوله -تعالى-: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194)} [الشعراء: 193 - 194]، وقوله -تعالى-: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)} [يوسف: 2]، وقوله -تعالى-: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3)} [الزخرف: 3]، وعلق: "وهذا يدل على وجوب فهمه على ما يقتضيه ظاهره باللسان العربي، إلا أن يمنع منه دليل شرعي" (¬1)، وفي القاعدة الرابعة يقول: "ظاهر النصوص ما يتبادر منها إلى الذهن من المعاني، وهو يختلف بحسب السياق، وما يضاف إليه الكلام، فالكلمة الواحدة يكون لها معنى في سياق ومعنى آخر في سياق. وتركيب الكلام يفيد معنى على وجه ومعنى آخر على وجه" (¬2). فإذا انتقلنا من هذه القواعد إلى موضوعنا ونظرنا في النصوص المتعلقة بالكون لوجدناها نزلت بما يفهمه العرب من لسانهم، والظاهر من النص لا يعني بأية حال أنه يخالف الحقيقة، وإنما هو بحسب سياقه كما ورد في استقراء الشافعي -رحمه الله-، فمن استعجل من المعاصرين في نسبة معنى إلى آية من الآيات المتعلقة بأمور الكون دون انتباه لقواعد أهل العلم فقد يغلط، وكذا من جاء من أهل العلوم الحديثة أو ممن قرأها وزعم وجود آية تعارض هذه الحقيقة العلمية، فإنما أوتي من جهله بالنص القرآني وجهله باللسان العربي، فيقع في الغلط، ومن الأمثلة على الموضوع ما يُقال من تعارض في موضوع حركة الأرض والشمس بين العلم والدين. فالنظرية الحديثة تقول بدورة الأرض حول نفسها ودورتها حول الشمس، كما أن الشمس تدور حول نفسها وتتحرك ضمن المجرة التي هي فيها، فيأتي أحدهم ويقول بأن القرآن يتعارض مع العلم في الموضوع، ويستشهد مثلًا بقوله -تعالى-: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ في فَجْوَةٍ مِنْهُ} [الكهف: 17]. فإذا رجعنا إلى قواعد علماء الشريعة فالأصل أن تبقى هذه الآية على ظاهرها ما لم يدل دليل على خلاف الظاهر، وفي ذلك يقول أحد علماء الشريعة ¬

_ (¬1) القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى، محمَّد العثيمين ص 33. (¬2) القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى ص 36.

المعاصرين الشيخ محمَّد بن عثيمين -رحمه الله-: "وفي قوله -تعالى- {إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ} {وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ} دليل على أن الشمس هي التي تتحرك وهي التي بتحركها يكون الطلوع والغروب خلافًا لما يقوله الناس اليوم من أن الذي يدور هو الأرض، وأما الشمس فهي ثابتة، فنحن لدينا شيء من كلام الله، الواجب علينا أن نجريه على ظاهره وألا نتزحزح عن هذا الظاهر إلابدليل بيّن، فإذا ثبت لدينا بالدليل القاطع أن اختلاف الليل والنهار بسبب دوران الأرض فحينئذ يجب أن نؤول الآيات إلى المعنى المطابق للواقع، فنقول: إذا طلعت في رأي العين، وتزاور في رأي العين، تقرض في رأي العين، أما قبل أن يتبين لنا بالدليل القاطع أن الشمس ثابتة والأرض هي التي تدور وبدورانها يختلف الليل والنهار فإننا لا نقبل هذا أبدًا"، إلى أن قال: "ولكن لو تيقنا يقينًا أن الشمس ثابتة في مكانها وأن الأرض تدور حولها، ويكون الليل والنهار، فحينئذ تأويل الآيات واجب حتى لا يخالف القرآن الشيء المقطوع به" (¬1). والتأويل الذي ذهب إليه الشيخ عند ثبوت النظرية الحديثة يستفاد من سياق الآيات؛ لأن أهل العلم يحملون القرآن على ظاهره، وقد يأتي في الآية أو في آيات أخرى ما يجعل له احتمال معنى آخر، وهذا هو الظاهر الاصطلاحي عند الأصوليين، وكما في مختصر الروضة: "الكلام: نص وظاهر ومجمل" ووجه انحصار الكلام في ذلك "هو أن اللفظ إما أن يحتمل معنى واحدًا فقط، أو يحتمل أكثر من معنى واحد، والأول النص، والثاني: إما أن يترجح في أحد معنييه أو معانيه، وهو الظاهر، أو لا يترجح، وهو المجمل" (¬2). و"النص" في اصطلاح الفقهاء والأصوليين هو الصريح في معناه؛ أي: كونه خالص الدلالة عليه، لا يشوبه احتمالُ دلالة على غيره، وحكمه ألا يُترك إلا بنسخ (¬3). ¬

_ (¬1) تفسير القرآن الكريم (سورة الكهف)، محمَّد العثيمين ص 32 - 33. (¬2) شرح مختصر الروضة، الطوفي 1/ 553، بتحقيق د. عبد الله التركي، وانظر: المستصفى، الغزالي 3/ 37. (¬3) انظر: المرجع السابق 1/ 554، وانظر: الجامع لمسائل أصول الفقه .. ، د. عبد الكريم النملة ص 191، وله أيضًا: المهذب في علم أصول الفقه المقارن 3/ 1193، إرشاد الفحول، الشوكاني ص 291، المستصفى، الغزالي 3/ 84.

أما "الظاهر" فهو اللفظ المحتمل معنيين فأكثر، هو في أحدها أظهر، ولا يعدل عنه إلا بتأويل (¬1). وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أربعة شروط لصحة هذا التأويل (¬2). وأما "المجمل" فهو اللفظ المتردد بين احتمالين فصاعدًا على السواء، فلا رجحان له في أحدهما عن الآخر (¬3). وهذا التقسيم أيضًا ذكره أهل العلم في أبواب العقائد ومجادلة المخالفين، ولاسيّما في موقفهم من النصوص، فقال ابن القيم -رحمه الله-: "ألفاظ القرآن والسنة ثلاثة أقسام: نصوص لا تحتمل إلا معنى واحدًا. وظواهر تحتمل غير معناها احتمالًا بعيدًا مرجوحًا. وألفاظ تحتاج إلى بيان، فهي بدون البيان عرضة الاحتمال". القسم الأول: يفيد اليقين بمدلوله قطعًا، "وعامة ألفاظ القرآن من هذا الضرب، هذا شأن مفرداته، وأما تركيبه فجاء على أصح وجوه التركيب، وأبعدها عن اللبس، وأشدها مطابقة للمعنى. فمفرداته نصوص أو كالنصوص في مسماها، وتراكيبه صريحة في المعنى الذي قصد به. . . ." (¬4). القسم الثاني: "ظواهر قد تحتمل غير معانيها الظاهرة منها، ولكن قد اطردت في موارد استعمالها على معنى واحد، فجرت مجرى النصوص التي لا تحتمل غير مسماها" (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق 1/ 558، وانظر: الجامع لمسائل أصول الفقه .. ، د. عبد الكريم النملة ص 193، وله أيضًا: المهذب في علم أصول الفقه المقارن 3/ 1199، إرشاد الفحول، الشوكاني ص 298، المستصفى، الغزالي 3/ 84. (¬2) انظر: الفتاوى 6/ 360، وانظر: الصواعق المرسلة، ابن القيم 1/ 288، ومن أفضل ما وجدته حول ضوابط التأويل الصحيح، المبحث الذي وضعه: د. سليمان الغصن بنفس العنوان في كتابه: موقف المتكلمين من الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة .. 2/ 798 وما بعدها. (¬3) انظر: شرح مختصر الروضة 2/ 648، وانظر: الجامع لمسائل أصول الفقه .. ، د. عبد الكريم النملة ص 197، وله أيضًا: المهذب في علم أصول الفقه المقارن 3/ 1219، إرشاد الفحول، الشوكاني ص 283، المستصفى، الغزالي 3/ 37. (¬4) الصواعق المرسلة 2/ 670 - 671. (¬5) المرجع السابق 2/ 671.

وأما القسم الثالث: "إذا أحسن رده إلى القسمين قبله عرف مراد المتكلم منه، فالأول يفيد اليقين بنفسه، والثاني يفيده باطراده في موارد استعماله، والثالث يفيده إحسان رده إلى القسمين قبله. . . ." (¬1)، فإن المجمل يجد بيانه في نصوص أخرى. إذا علمنا هذا التقسيم حول دلالة النصوص عندها نفهم الموقف الصحيح عند التعارض في باب الموضوعات، ونفهم في السياق نفسه موقف علمائنا مثل موقف الشيخ ابن عثيمين السابق، فأهل السنة الأصل عندهم هو الوحي وهو المقدم، وعند وجود تعارض فالمقدم هو القطعي، وما لم يكن قطعيًا فالأصل هو البقاء على ظاهر النص لا نتحول عنه إلا بيقين، وإذا صرفناه إلى معنى آخر فإننا سنجد من النصوص ما يدل عليه، والشيخ عندما فسر الآية بما يظهر للعين وليس بما يتعلق بحركة المجموعة الشمسية فإن في نفس السورة ما يدل على هذا المعنى، قال -تعالى- عن ذي القرنين: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ في عَيْنٍ حَمِئَةٍ} [الكهف: 86]، قال الشيخ -رحمه الله-: "ومعلوم أنها تغرب في هذه العين الحمئة حسب رؤية الإنسان" (¬2)؛ أي: أن الظاهر هنا بحسب كلام الإِمام الشافعي غير مراد، ولكن من وقف على شاطئ البحر عند غروب الشمس يرى بعينه كأنها تغرب في الماء، ومعلوم أنه لا أحد يقول بذلك، وبهذا نفهم ما ورد من آيات حول الموضوعات الكونية. لا يعني أن الشيخ -رحمه الله- قد سلّم قطعًا بالنظرية الجديدة، ولكنه يضع القاعدة الصحيحة في الموضوع، فمن عادة أهل السنة تعظيم الوحي، وعدم ترك الظاهر المتبادر إلا بحجة بيّنة، وهو لم يقتنع مثلًا بالمعارض، ولكنه في الوقت نفسه يفتح الباب لمن ثبت عنده القطع بأنه يجب عليه بيان معنى للآية لا يخالف المحسوس القطعي، وبما أنه لم يتأكد من المسألة فإنه لا يجزم بخطأ المخالف، فأهل العلم لا يعدون هذه من مسائل الاعتقاد، ولذا لم يرد منها شيء في كتب العقائد، وإنما جاءت من أجل هداية الناس إلى التوحيد، وتؤخذ بهذا المقدار، أما التوسع في هذه العلوم فهو لأهل الاختصاص فيها، وبسبب إدراك أهل العلم ¬

_ (¬1) الصواعق المرسلة 2/ 671 - 672. (¬2) تفسير القرآن الكريم (سورة الكهف)، محمَّد العثيمين ص 127.

لهذا الأمر لا تجدهم يشنعون على من خالف اجتهادهم أو ما يرونه أولى بالصواب، وهذه النظرية تُدرّس في المدارس، ومع ذلك لم يقف ضدها العلماء المبرِّزُون عند الأمة موقفًا مشنِّعًا، وإنما بعضهم يرى عدم ترك الظاهر إلا بدليل قطعي، وهو الأمر المتفق مع مذهبهم أنه لا يُقدم إلا القطعي، فلو ثبت أن ما قاله العلماء المحدثون قطعيًا لما حمل أحدهم آية على خلاف الحقيقة لعدم جواز ذلك، ولكن العالم إن لم يجزم بشيء فإنه يحترز من التشنيع على من اعتقد صحة هذه النظرية أو تلك، ولهذا لا نجد لأهل العلم تشنيعًا على من أخذ بالنظرية، رغم أن بعضهم يتحرج من تقديم ما دلت عليه على ظاهر النص لعدم تأكده من صحة النظرية، فهو يرى أن أغلب المسلمين إنما هم يقلدون الغربيين. وإنني أجد من بعض المنتسبين لأهل الدين من يتقحّم هذه الأبواب العظيمة ويقطع بأن النصوص تدل على ثبات الأرض ودوران الشمس حولها، وتبديعه لمن خالف رأيه، مع أن أهل العلم المعتبرين يرونها تُدرّس في مدراس المسلمين ولم ينكروا ذلك، فلو تأكد الأمر عندهم ما سكتوا عن باطل، وإنما سكوتهم رغم تحفظ بعضهم بسبب عدم ترجح الأمر عندهم. لهذا يجدر بمن تقحم هذه الأبواب من غير أهل العلم أن يتقي الله سبحانه، فإنه قد يفتح على المسلمين من الشرور بسبب جهله أو تسرّعه أكثر مما يظن من الخير، والمعادون للدين يفرحون بمثل هذه الاجتهادات ويجعلونها دليلًا على التعارض بين الدين والعلم، والأولى بهم الاقتداء بعلماء الشريعة والرجوع إلى قواعد أهل العلم، وهذا الكلام نقوله حتى لا نترك للمخالف سبيلًا علينا، فإنه يذهب إلى بعض كتب التفاسير ويجد فيها "الإسرائيليات" و"الموضوعات" فيجعلها من الدين وينسبها له، أو يذهب إلى بعض من اجتهد وأخطأ أو أتى بقول شاذ من المعاصرين ويجعله حجة على مذهبه الباطل، والحق أحق أن يتبع، ومن أراده فلا يذهب إلى نص مكذوب أو إسرائيلي، ولا يذهب إلى قول ضعيف أو خطأ أو شاذ ويجعله حجه لمذهبه، فهو حجة عليه وليس له. وخلاصة القول إن الآيات عن الأمور الكونية التي تحدثت عنها العلوم الطبيعية، إما أنها حدثت في الغيب، فما جاء من آيات عنها نعلم معناه ونجهل حقيقته، ولكن تلك الحقيقة ليست دائمًا من الغيب المطلق، وإنما هي من الغيب النسبي الذي قد يُمكّن الرب سبحانه بعض خلقه من المعرفة ببعض أمورها، ومثل

رابعا: ملابسات الدعوى التاريخية والأيدلوجية

هذه لا يكون التعارض فيها؛ لأن ما في النصوص يتعلق بغيب لا نعرف حقيقته على وجه التفصيل ككل المغيبات. أو أنها من أمور الشهادة، وما ورد فيها من النصوص أغلبه من الظاهر أو من المشتبه الذي عادة أهل الإيمان رده إلى المحكم، والأصل فيها هو الظاهر منها، إلا أن يدل دليل قطعي على غير الظاهر، عندها يُفسر النص بأقرب معنى يجمع بين بقاء النص مع بيان المعنى المقطوع به. وهذا يعني أنه لا يوجد تعارض حقيقي بين منقول صحيح قطعي وشيء من العلوم الحديثة الصحيحة القطعية، والله أعلم. رابعًا: ملابسات الدعوى التاريخية والأيدلوجية: يكشف التحليل التاريخي بأن دعوى التعارض بين الدين والعلم تاريخية؛ أي: ترتبط بالتاريخي أكثر من ارتباطها بالحقائق، إنها مشكلة تاريخية ترتبط بأحداث تاريخية من جهة وببعض المذاهب الفكرية دون غيرها من جهة أخرى، ومن بين أوضح ما يكشف ذلك وجود علماء مشهورين يرفضون دعوى التعارض. أما الجانب التاريخي للدعوى فيرتبط أساسًا بما حدث في أوروبا مع الثورة العلمية، وما دار من صراع كبير بين أنصار أهل العلوم وبين الكنيسة الممثل السيئ للدين داخل أوروبا، ولا تجهل الأمة الإسلامية خطورة ما تحويه الكتب المقدسة بحسب زعمهم من معلومات، فإنه قد وصل إلينا بعضها في بعض كتب التفسير من الإسرائيليات مما جعلها تُمثل إشكالًا جاهد العلماء في رفعه بعد ذلك. فقد كان هناك أمور كونية ورد ذكرها في القرآن الكريم، ومن عادة النفوس تطلعها لمعرفه مثل هذه الغيبيات، وكان أهل الكتاب عندهم الشيء الكثير حولها، فأخذ بها بعض المسلمين وأدخلوها من باب الاستئناس في توضيح ما ورد به النص معتمدين على الأذن النبوي في الحديث عن بني إسرائيل (¬1). وقد أضافت الكنيسة في الغرب على تلك العجائب تسلطًا على المخالف مع سوء تعامل مع الناس مما جعل العقلاء ينفرون منها ويتبعون ما دلّ عليه العقل والعلم. ولم تظهر مثل هذه الصورة في بلاد المسلمين إلا في فترات الجهل ¬

_ (¬1) انظر: مقدمة ابن خلدون 3/ 1031 - 1032، بتحقيق د. علي وافي.

الشديدة، وهي فترات لا تطول بفضل الله؛ لوجود العلماء المجددين الذين يجددون أمر الدين، ولذا لم يُعرف أن أحد المشتغلين بالطب أو الحساب أو الفلك أو غيرها قد أنكر عليه أحد شيء من علومه إنما يكون الإنكار على أبواب العقائد الباطلة وهي ليست من العلم. وأما الجانب الأيدلوجي للدعوى فيرتبط أساسًا بما حدث في أوروبا بعد فصل الدين عن الدولة، وبروز العلمانية التي نشأ معها مذاهب إلحادية من جهة الدين، واشتهرت في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، وهؤلاء لم يكونوا يعترفون بالدين حتى يقولوا بوجود تعارض بينه وبين الدين، ومع ذلك فبسبب حربهم ضد الدين أبرزوا هذه الدعوى معتمدين على ذاكرة الأوروبيين حول الصراع القديم ومبرزين التناقضات التي لم تسلم منها علوم الكنيسة، وبرز ذلك مع اليسار الهيجلي، ولاسيّما "فيورباخ" و"ماركس" أو مع الوضعية من "سيمون" إلى تلميذه "كونت" وغيرهما (¬1). فهناك أخطاء تاريخية غربية، وخطأ المتغربين العرب إطلاقها وتعميمها، وهناك مذاهب أيدلوجية غربية، وانحراف المتغربين اتباعها وتقليدها، ويحرص المتغربون على تجاهل الأمرين: "تاريخية المشكلة وأيدلوجيتها" مع أن الانتباه لهما يكشف لنا نسبية المشكلة وارتباطها إما بواقع معين أو بتيار معين. هذا ولا تعني تاريخية المشكلة عدم وجودها، فإنه كما يقول أحد المشتغلين بفلسفة العلم: "لم تخل فترة من فترات التاريخ البشري من ظهور دعاة التناقض بين الدين والعلم"، ولكن التحليل التاريخي يكشف أن السبب يعود إما إلى أديان باطلة كما أن معسكر العلم بحسب تعبير الباحث السابق لديه: "عدم اكتراث بتوضيح موقفه أحيانًا، أو بتبادل الهجوم في أحيان أخرى، وكأن الدفاع عن العلم يقتضي الهجوم على الدين. وهذا كله موقف مغلوط كما سنرى، والمستقبل يقتضي تجاوزهما تمامًا" (¬2)، ولا يرجع الأمر إلى معسكر العلم فقط، بل إلى المذاهب المادية والوضعية التي جعلت خيارها العقدي هو الإلحاد، ولهذا تقف من كل موضوع ديني موقف العداء، ففي البلاد العلمانية التي تتيح ¬

_ (¬1) انظر: الفصلين الأول والثاني من الباب الأول. (¬2) إلا العلم يا مولاي، د. أحمد شوقي ص 18.

حرية الرأي نجدها تحاول تجاهل المتدين مثل ما حدث مع "بيير دوهيم" العالم الفيزيائي المعروف وهو كاثوليكي متدين، فبعد موته لم يكمل طباعة مؤلفه المشهور في تاريخ العلم، وعلل "الكسندر كويري" مؤرخ العلم البارز السبب: في سعي المؤلف إلى التدليل على أن جذور العلم الحديث توجد في إلهيات القرون الوسطى، مما دعى الجهات العلمية ذات النفوذ إلى منع صدوره بشكل خفي (¬1). ونجد في جزء آخر من هذه البلدان كالاتحاد السوفيتي سابقًا بحسب دستور سنة (1936 م) بأنه يحق لكل شخص أن يتكلم أو يكتب ضد الدين كما يشاء أما الدفاع عن الدين فممنوع (¬2). فمثل هذه الأيدلوجيا تؤثر في التوازن والاعتدال في البحث عن الحقيقة وتجعل من دعوى التعارض مسلمة لا رجعة عنها، ويؤثر ذلك في المحتكين بها، وعند التحقيق التاريخي والثقافي يتبدى تاريخيتها وزيفها، ومما يدل على ذلك أنه في دائرة العلوم الحديثة هناك من يرفض مثل هذه الدعوى ويرفض تحويلها إلى نزل مطلق، ولنأخذ أبرز علماء الفيزياء في العصر الحديث "نيوتن" الذي بنت عليه الأيدلوجيا المادية مذهبها في دعوى التعارض، ففي إحدى الدراسات نجد النتيجة الآتية: "وخلافًا لكثير من المفكرين اليوم، لم ير نيوتن تعارضًا بين العلم والدين، وكتب أن الكون لا يمكن أن يعمل دون وجود إله، وأنه لولا الرعاية الربانية المستمرة لتوقف الكون ثم لانهار. . . ." (¬3)، ويشدد "على أن الحكمة ونفاذ البصيرة لا توجدان في كتاب الطبيعة فحسب، بل في الكتب المقدسة أيضًا. . . ."، وقد كانت كتاباته حول الدين أكثر من كتاباته الأخرى (¬4). وبقدر ما يكشف التحليل "لتاريخية الدعوى وأيدلوجيتها" عدم سلامة تلك الدعوى في "الموضوعات" فإنه يكشف بصورة أوضح مدى عمقها في بقية صور التعارض، في تعارض "الإطار" و"المنهج" و"العمل"، والأغلب يستندون في بقية التعارضات إلى صحة الدعوى الأولى، فعليها يقوم دعوى التعارض الكلي بين ¬

_ (¬1) انظر: من العلم العلماني إلى العلم الديني، مهدي كلشني ص 36. (¬2) انظر: موقف الدين من العلم، د. علي باشكيل ص 23 من الحاشية. (¬3) إسحاق نيوتن والثورة العلمية، جيل كريستيانسن ص 101. (¬4) انظر: إسحاق نيوتن والثورة العلمية ص 97 - 98.

خامسا: التفسير العلمي للنصوص الدينية

إطارين "الدين" و"العلم" أو بين منهجين "الخبر" و"الحس" أو بين مرجعيتين "النص" و"التاريخ". خامسًا: التفسير العلمي للنصوص الدينية: مما يقلب الدعوى إلى نقيضها ما ظهر من صنوف التفسير العلمي للنصوص الشرعية فضلًا عن جهود لدراسة الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة، لتُثبت بأن العلم لا يعارض الوحي، بل إن الوحي قد سبقت فيه إشارة أو نص إلى موضوعات ما عرفها البشر إلا في العصور المتأخرة، ليقيم الله سبحانه حجته على خلقه بما برعوا فيه، فإن كان العرب قد برعوا في اللسان فقد نزل عليهم الوحي بإعجازه البياني، وإذا كان الناس اليوم قد برعوا في العلوم، فقد جاء الوحي بما يدل أنه من خبر السماء عندما رجعوا إلى نصوص تتعلق ببعض المكتشفات الحديثة، قال -تعالى-: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا في الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)} [فصلت: 53]، قال ابن كثير -رحمه الله-: "على كون القرآن حقًا منزلًا من عند الله، -عَزَّ وَجَلَّ-، على رسوله - صلى الله عليه وسلم -" (¬1). يتفق هذا الوضع الجديد مع مبدأ من مبادئ الباحث وهو: أن البشر كلما اجتهدوا للبحث عن الحقائق بعقولهم أو علومهم، فإن ما يصلون إليه من حقائق لا يعارض الوحي إن لم يجدوا في الوحي ما يدل عليه، وأن البشر كلما بلغ بحثهم عن الحقيقة قوةً وإتقانًا ووضوحًا، فإنهم يقتربون أكثر من حقيقة الوحي في أموره الكونية والخلقية. وإن هناك لدلالة مهمة فيما أبداه أهل التفسير العلمي للنصوص الشرعية أو أهل الإعجاز العلمي أو أهل التأصيل الإسلامي للعلوم، هذه الدلالة تؤكد بأن دين الإسلام لا يمكن بحال من الأحوال أن يتعارض مع العلوم الصحيحة، لا شك بوجود مشاكل في هذا النوع من النشاط، وهناك أخطاء، وهناك تجاوزات، يرجع الكثير منها بسبب دخول أناس إلى هذا الميدان وهم ليسوا أهلًا لذلك، إما ¬

_ (¬1) انظر: تفسير ابن كثير ص 1177، وقد عرض الدكتور كارم السيد ذاك النشاط الكبير للتفسير العلمي في كتابه: الإشارات العلمية في القرآن الكريم ص 34 وما بعدها، وانظر حول تقييم هذا النشاط: التفسير العلمي للقرآن في الميزان، أحمد أبو حجر.

أن عندهم معرفة بالعلم الشرعي ثم اقتحموا العلوم العصرية دون أن يُلموا بها جيدًا، فوقع بسبب ذلك أخطاء وتجاوزات، هذا إذا استبعدنا متاجرة بعضهم بمثل هذه الكتابات إذ نكتفي بالجانب المنهجي منها. فأقول إن لمثل هذا النشاط فيما صحّ منه وسَلِم من الأخطاء والتجاوزات لدلالات مهمة لا يمكن لعاقل أن يتنكر لها، وهي: أن العلم الصحيح لا يعارض بحال النقل الصحيح، بل إن العلم الصريح الصحيح المحقق ليدل على ما دلّ عليه النقل، ويكفينا من كل هذا النشاط الكبير في بابنا هذا مثل هذه النتيجة. دراسة لبعض النماذج التغريبية التي ترفع من شأن دعوى التعارض: سبق في الباب الأول نموذج دخول المشكلة -أي: مشكلة دعوى التعارض- عبر الصحافة من خلال كُتاب نصارى تأثروا بالاتجاهات المادية في أوروبا (¬1)، ومع ذلك فقد حاولوا عرضها بأسلوب غير مستفز رغم ما أثاره ذلك من عاصفة، واشتهر في أثناء عرض نظرية الفلك الجديدة ونظرية التطور، وقد كانت العاصفة داخل النصارى رغم أن الصحف التي يتولاها النصارى موجهة للجميع. فلقد حرصوا على عدم التصادم ولوّحوا بمنهج التأويل كحل للمشكلة، وقد سبق تحليلها بما يناسب وضعها في سياق التفاعل والتأثر في الباب الأول، إلا أنه بعد دخولها جاء من يتجاوز التأويل ويدعوا بزعمه إلى ترك تلك الأوهام الدينية والاكتفاء بالعلم، نأخذ مثلين مؤشرًا على التوجه الجديد عبر الصحافة في بدايات إثارة المشكلة: المثال الأول: كانت مجلة "الهلال" تركز على الجانب التربوي، وفي أحد الأعداد عرضت مقالًا لـ"أمير بُقْطُر" عن "الجيل المصري المقبل - تكوينه من ناحيتي الأخلاق والشخصية" فذكر نماذج للتربية في مدارس الغرب، ثم لفت إلى أهمية الحوار والسؤال ومن ذلك مثلًا قوله: "إذا تعارض الدين مع العلم فأيهما تصدق؟ ما الفائدة من الدعاء لله أن ينزل الغيث "المطر" في فترات الجفاف، طالما نحن نعلم أن المطر خاضع لقوانين طبيعية جوية هيهات أن يعمل الخالق ¬

_ (¬1) انظر: الفصل الرابع من الباب الأول، مبحث الصحافة ص 611.

على كسرها" (¬1). المثال الثاني: نجده في الصحافة التركية بعد تحولها إلى دولة علمانية فكتب أحدهم مقالة: "على أبواب افتتاح الجامعة"، ومما قاله: "إننا بينما ندرس نظرية داروين في النشوء والارتقاء من جانب، نلقن الصغار في المدارس الابتدائية في دروس الدين معلومات غير علمية من جانب آخر، فمثلًا نلقنهم مثل هذا الدعاء: "يا رب! أنت خالقي وخالق أبي وأمي وخالق الأحياء والجمادات وأنت رازقنا"" (¬2). يلفت المثالان السابقان النظر إلى وجود توجه جديد، فلم يعد الأمر مكتفيًا بعرض المشكلة في الصحافة بطريقة غير مستفزة ولم يعد هناك الحرص على عرض وسائل منهجية للتوفيق، بل أصبح التحيز مع التغريب، ومع إثبات صحة الدعوى، ومع إقصاء الدين، ومع تعميق المشكلة، حتى داخل التعليم ذاته، وحتى مع الأطفال، أصبحت الدعوى ستارًا لإعلان الإلحاد ذاته، فمن الواضح في المثالين أن الأمر تجاوز دعوى التعارض بين موضوعات إلى إطار جديد لا مكان فيه للدين. ننتقل الآن إلى بعض النماذج الفكرية، نراها تتحرك بين مستويات مختلفة من أنواع التعارض الأربعة، هي لا تعرض الدعوى إلا لانتقاص الموقف الديني وإحلال الموقف اللاديني مكانه، وتتميز النماذج الفكرية بعدم حرصها على العرض العلمي للإشكالية؛ لأن هدفها في الأساس هدف أيدلوجي يوجه نشاطهم الفكري. نجد أولًا أحد المدافعين عن العلمانية ممن يتبنى نشر الدعوى حجةً للعلمانية، وهو الدكتور "عزيز العظمة"، ففي عرضه لطائفة الصحفيين النصارى في بداية القرن من أمثال: "شبلي شميل" و"سلامة موسى" التي تبنت الإلحاد "ظاهرًا" وأخذت بمادية صريحة ترتب "عليها الإفصاح بكل وضوح عن تعارض أساسي تغاضت عنه الإصلاحية الإسلامية والاعتذارية المسيحية، وهو تعارض الدين والعلم، وبذلك ليس للإنسان شرائع منزلة إلا ما أنزله جهله عليه من ¬

_ (¬1) انظر: الاتجاهات الوطنية. . . .، د. محمَّد محمَّد حسين 2/ 352. (¬2) انظر: موقف الدين من العلم، د. علي باشكيل ص 44 - 45، من الحاشية.

الخرافات والأوهام، فشرائع الإنسان من صنع الإنسان وهي تابعة لحاله من الانحطاط والارتقاء" (¬1)، وأن الإسلام بحسب أحد أتباع "شميل" لا صلة له بالعلم، وأنه لا يساير العلم، وهو يتحدث عن نار موسى والنفخ في فرج مريم (¬2). والدكتور "العظمة" أثناء عرضه لهذا التيار الذي يغرس في تاريخنا الفكري المعاصر بذور هذه الدعاوى يعرضه كتيار يمتثل الحضارة الكونية العالمية ويمثلها في فكرنا. ويظهر في كلام "العظمة" بأن التعارض الأساسي ليس بين الدين والعلم، وإنما هو بين الدين والمادية الملحدة، فقد صرّح بأنها أخذت بمادية صريحة ملحدة، وهنا تبرز عادة هذه التلاعبات الفكرية بالمصطلحات، ومن ذلك وضع مصطلح على معنى لا يوافقه، أو وضع المصطلحات المعممة لمعاني ليست بعامة طريقةً لإنعاش تلك الدعوى وغرسها في فكرنا المعاصر. نجد في الأفكار المتغربة عدة نماذج، من أشهرها نموذجان، الأول: يرى بوجود تعارض بسبب جعل الدين والعلم على صفة واحدة مع أنهما يشكلان مجالين مختلفين، وبسبب عدم إدراك ذلك بحسب الدعوى يقع التعارض، ولهذا تظهر عند أصحابها أهمية الفصل بينهما والتوفيق عند الحاجة، والثاني: يرى وجود التعارض مع استغلال هذا التعارض لإثبات خرافة الدين ومن ثم أهمية التخلص منه. النموذج الأول: التوفيقي: يعد المفكر المشهور "زكي نجيب محمود" أشهر من تبنى هذا الموقف، وقد تقلّب منهجه الفكري في مراحل، وصل بعضها من التطرف إلى تبني "الوضعية" عادًّا إياها الفلسفة الأمثل في التمذهب، وتأثر بها إلى أبعد حد، لدرجة انفصاله عن هويته وتاريخه وثقافته، وتبني النموذج الغربي، ثم جاء له تحول في آخر حياته نحو التراث، فأبرز أهمية التوفيق بين الفكر الحديث والتراث، فيظهر في مشروعه دعوى التعارض العام دون ذكر محدد للموضوعات، ولكن الذي يتميز به هو منهجه التوفيقي. ¬

_ (¬1) العلمانية من منظور مختلف، د. عزيز العظمة ص 183. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 186.

حافظ "زكي" على مبادئ معينة من مرحلته الوضعية، أبرزها أن الحقيقة لا توجد إلا في العلم، وهي إما استنباطية كالرياضيات أو حسية استقرائية كالطبيعيات، ويكون العلم في النهاية إما الاستنباطي أو الاستقرائي، أما الدين فهو لا ينتمي إلى العلم، ولكنه موجود فأين نضعه؟ بما أن الإنسان مكون من عقل ووجدان، فيكون حظ العقل العلم وحظ الوجدان الدين، الوجدان هو فضاء الدين والأدب والفن وكل ما ليس بعلم. ويجد أن التقسيم: "العقل والوجدان" يرفع مشكلة التعارض، فالعلم لا يقبل إلا بما يمكن أن نتأكد منه؛ أي: بما يقبل التحقق، أما الوجدان فيقبل ما نرتاح إليه، حتى وإن لم نجد وسيلة للتحقق من صحته. وهنا يختفي التعارض لا لعدم وجوده وإنما لاختلاف المجالين، فلا يقال مثلًا بأن الأدب والفن يتعارض مع العلم؛ لأن أصحابها إنما يعبرون عن مشاعرهم، ولكن "زكي" لا يبين لنا الفرق بين الدين وهذه النشاطات الوجدانية، لو كان الدين تعبيرًا عن المشاعر لجعلناه في قسم الوجدان ولكنه ليس كذلك، إنه أخبار وشرائع وعقائد جاء بها الوحي. قد يأتي موضوع علمي يخالف مجال الآداب والفنون فلن تجد من يعترض وينكر ذلك، سيقول الجميع باختلاف المجالين، ولكن لو جاء ما يوهم التعارض مع الدين فلن تجد من يسكت؛ لمجيء ما يُصادم ما يعتقده الإنسان من إطار للتصور والعمل، فهو أتى بحل يزيد من المشكلة ولا يحلها، هذا إن كان هناك مشكلة. يقول: "الإنسان يعش في حياته الإدراكية في دائرتين -دائرة العقل ودائرة اللاعقل- اللاعقل هذا يشتمل على مصادر فرعية كثيرة، من بينها ما ذكرته من فن وأدب ودين وغير ذلك. أما دائرة العقل فتنحصر فقط في ما يمكن أن يخضع لقوانين الفكر والاستدلال .. أكرر أن محتوى الدائرة الثانية يعتمد على إدراكات مباشرة، فورية؛ ففي الدين، الإدراك إيماني وليس برهانيًا. إذا قيل لك هنا إن الله موجود، ففي إمكانك أن تصدق وتؤمن، من غير أن تطلب برهانًا على ذلك. هذا إيمان -هكذا أيضًا الأدب والفن: تعطي لوحة أو قصيدة، ففي مثل لمعة البرق تتعلق بها أو تنفر منها. . . ." (¬1). ¬

_ (¬1) طريقنا إلى الحرية، زكي نجيب محمود ص 134 حاوره "أحمد عثمان".

من الواضح عند الوضعيين إفقارهم العقل وحصره في أبواب ضيقة ومنعه من التوسع، وله حسناته وسلبياته، ولكن الخطأ هو إخراج الدين من مجال العقل؛ وذلك أن الدين قد جاء بأعظم الأدلة العقلية التي يصل بها العاقل إلى الحق، وقد سبق بيان ذلك في الباب الثاني، والخطأ الأعظم هو جعل الدين يوازي الأدب الفن، فيُحبس هناك ويمُنع خروجه من تلك الدائرة غير البرهانية "إن المكان -أي: مجال العقل- لا يدخله إلا من في يده جواز دخول إليه. وليس للدين أو الإيمان جواز دخول إلى بيت العقل. في الدين أنت تؤمن بالآيات الكريمة أو بوجود الله، دون أن تطلب انتقالات استدلالية أو برهانية" (¬1). تجاهلت هذه الرؤية -حول مجال العقل- القسمة الأصوب، فإن العلم قد يكون مصدره الاستنباط كالرياضي، وقد يكون مصدره الاستقراء والحس كالتجريبي، وقد يكون مصدره الخبر الصحيح كالنبوات وما فيها من دين، فإن الخبر المتواتر أقوى من الرياضي والطبيعي، والنبوة حدث وقع وانتهى فلا يُطلب فيه الإثبات بالتجريب؛ لأنه لا نبي بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولكن المطلوب هو صحة الخبر، وبهذا يكون الخبر ذا حقيقة موضوعية خارجية، ولا يرتبط قبوله بالوجدان فقط مثل قصيدة بلمعة البرق فيُقبل أو يرفض، وإنما بإثبات صحته عن طريق التواتر، وعلى هذا فالتصور لهذه الثنائية غير سليم. وكما وقع الإشكال في التصور الثنائي وقع في طريقة التوفيق بين المتعارضين، فهو يذكر ضرورة الجمع بين الشرع والعقل ولكن كيف؟ "فنقول: إن أهم ما وصل إليه "العقل" البشري، بحركته الاستدلالية التي أشرنا إليها، هو "العلوم" وماذا يكون أي علم إلا مجموعة أحكام، أو قوانين، استدلها الباحثون من الظواهر التي تقع في مجاله؟ فإذا كان هنالك نص شرعي، فيه ما يتصل من بعيد أو من قريب، بموضوع ذلك العلم، فإن "العقل" يقضي بألا يتناقض فهمنا للنص الشرعي مع ما قد قرره جانب العلم، وإلا كان العقل هنا بمثابة من يحكم بالصواب للنقيضين معًا وفي آن واحد" (¬2)، وهذا القسم الذي يتحدث عنه يناسب ¬

_ (¬1) المرجع السابق ص 152، والجملة المعترضة من الباحث. (¬2) رؤية إسلامية، د. زكي نجيب ص 208.

ما جعلته من باب التعارض بين "الموضوعات" وهو النوع الأول، وقد ذكر القسم الأخير، أي الذي هو من باب التعارض في العمليات، فيقول: "بل ربما كانت -وكثيرًا جدًا ما تكون- مقابلة بين نص شرعي في ناحية ومشكلة اجتماعية أو فردية، في ناحية أخرى، بحيث لا تجد تلك المشكلة حلها العقلي -أي: حلها العلمي- متفقًا مع ما يدل عليه ظاهر النص الشرعي، فماذا نحن صانعون؟ " (¬1). يرجع "زكي" في الحل إلى الشيخ "محمَّد عبده" مستعينًا بآلته التأويلية (¬2)، ولكن بعد بعض التعديلات عليها، وسؤالنا قبل الذهاب إلى التوفيق -وهو مطلب صحيح في العموم- هل يصح هذا التعارض؟ وأي طريق يخدم التوفيق هنا؟ بالرجوع إلى معياري: "تحديد المراد، وتعيين القطعي" الذين سبق ذكرهما نجد أن هذه الدعوى يذهب جزء كبير منها، ولكن على العكس من ذلك فالمفكر التوفيقي لا يريد ذلك -بحسب ظاهر النص وبحسب المشروع الفكري له- لأن حقيقة التوفيق هنا تنحصر في أخذ ما له صلة بالفكر الحديث مع التضييق المتدرج لمساحة الدين، وهي بارزة في جانب العمليات. لذا فهو يرفض التوفيق بمعنى: حذف المفكر المسلم ما يراه متعارضًا مع عقيدته؛ لأنه هنا لا يضيف شيئًا جديدًا بحسب كلامه (¬3)، وهذا غير صحيح فإنه يضيف النافع الصحيح ويترك ما سوى ذلك. يوضح منهجه بمثال: فلو كان الدين هو "أ. ب. ج" والعلم هو"س. ب. ج"، فيظهر أن الاختلاف هو بين "أ"، "س" والسؤال: هل هما يتعارضان أو يتكاملان، فإذا كان التوفيق مستحيلًا فهما متعارضان، وإن كان ممكنًا فهو تعارض ظاهري، وعليه فالتوفيق هو في "التعارض الظاهري" وذلك بأن أبتكر صورة جديدة تدمج بين "أ. س" "دمجًا يلد لنا مخلوقًا جديدًا، لا هو الطرف الأول كما كان، ولا هو الطرف الثاني كما كان"، وتكون حقيقة التوفيق ضربًا من رؤية الشيء الواحد من جانبين يتكاملان ولا يتعارضان (¬4). ¬

_ (¬1) المرجع السابق ص 209. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 209. (¬3) انظر: رؤية إسلامية ص 210، (لأنه لو كان الأمر كذلك، فكأن المسلمين ما نقلوا عن غيرهم شيئًا). (¬4) انظر: المرجع السابق ص 210 - 212.

تعد فكرة الابتكار السابقة صورة جيدة رغم بعض المشاكل التي تخترقها، وهي فكرة يجتهد أصحاب التأصيل الإسلامي في إبداعها، ولكن من منظور مختلف، وأبرز المشاكل التي تُفسد هذا التصور أن الأصل العام لمفكر الوضعية العربية ما زال قائمًا -أي: القسمة الثنائية إلى: "عقل ووجدان"-، بينما مثل هذا الابتكار يتوجه إلى الحقائق الموضوعية الخارجية، كما أن هذا الرأي يُخفي خلفه الهمّ الفكري الذي يقوم على التوسع في أخذ الحضارة الغربية كونها النموذج الأرقى، ولا يبقى من هويتنا إلا القالب اللغوي فقط، يقول في أحد كتب المرحلة الأخيرة من حياته: "نريد لأبناء عصرنا أن يستخلصوه من تراثهم -شكلًا لا مضمونًا- وهو ألا يجعلوا بين العقل والإيمان تعارضًا، بل أن يجعلوا بينهما تعاونًا على الوصول إلى هدف واحد، فلكل من الأداتين قسطها من الفهم وتنظيم السلوك؛ وإذا كان الأولون قد جعلوا التعارض مقصورًا على النص القرآني والأحاديث، هل يعملون فيها العقل بالتأويل، أو يقبلونها بظاهر لفظها، فنحن اليوم نجعل التعارض أو التعاون بينهما في ضدين آخرين، هما: الدين من ناحية، والعلم من ناحية أخرى؛ فإذا شئنا أن يكون لنا موقف نستمده من تراثنا، فليكن هو موقف المعتزلة والأشاعرة معًا، فمن المعتزلة نأخذ طريقتهم العقلية، ومن الأشاعرة نأخذ الوقوف بالعقل عند آخر حد نستطيع بلوغه، وبهذا نجعل الدين موكولًا إلى الإيمان، ونجعل العلم موكولًا إلى العقل، دون أن نحاول امتداد أي من الطرفين ليتدخل في شؤون الآخر" (¬1)، ويقول في الكتاب نفسه: "وأحسب أني لو سألت الآن: كيف ننتقل من فكر قديم إلى فكر جديد؟ كان الطريق إلى الجواب واضحًا، وهو أن أستخدم الألفاظ -التي هي في الحقيقة دالة على رؤوس الموضوعات- استخدامًا يساير العصر في مفهوماته ومضموناته حتى ولو كانت هي نفسها الألفاظ التي استخدمها الأولون، لكنهم استخدموها بمفهومات ومضمونات مختلفة" (¬2). يصبح الابتكار هنا في الحقيقة صورة من صور التأويل المعروفة، والمصطلحات لا تغير الحقائق، فالابتكار هو في النهاية تأويل، فنأخذ من تراثنا ¬

_ (¬1) تجديد الفكر العربي، د. زكي نجيب ص 136. (¬2) المرجع السابق ص 183.

اللفظ ونملؤه بمضمون جديد، ومع أنه أخذ بطريقة أهل التأويل من المعتزلة والأشاعرة، إلا أنه عاد إلى نتيجة تناقض ما أخذ به، حيث عاد إلى القسمة الثنائية، ومنع دخول أحد القسمين على الآخر، وكان الأصح لتجنب كل هذا: أن نحدد ما هو الديني وما هو العلمي؟ وهل هما قطعيان؟ ثم ننظر كيف يتم التوفيق بينهما، وإلا فبهذه الصورة المفتوحة تكون النتيجة التلاعب بالدين بحجة قبول كل ما جاء في الحضارة الحديثة. وللأسف فكل هذا التنظير لا يخلق شيئًا على مستوى التطبيق حتى لو أبقيناه على المستوى الذي يريده مفكر الوضعية، ومن ذلك ما قاله من أمثلة في أثناء حديثه عن بعض معوقات النهضة العربية، من "عدم القدرة على خلق الروح العلمية كجزء عضوي في رؤيتنا للأشياء بحيث يتعود الناس جميعًا، عن طريق التدريب على رد النتائج إلى أسبابها الحقيقية" وذكر مثالين على ذلك: 1 - كتب البعض عن سبب الانتصار في حرب أكتوبر (1973 م): "أن التدريب الجيد والروح الجديدة هما اللذان أديا إلى هذا النصر المبين، فاحتج كتاب آخرون بقولهم: "كيف يكتبون ذلك وينسون عون الله، إذ حضر الملائكة وحاربوا في صفوف جنودنا؟ "". 2 - "يحتج البعض عندما يرد شفاء المريض إلى مهارة طبيبه المعالج، ويقولون إن الشافي هو الله"، ثم علق: "هذا المنحى من التفكير يعطل، على نطاق واسع تفكيرنا العلمي" (¬1). من الواضح أن النظرة العلمية عند هذا المفكر ترجع إلى تحديد سبب النصر بالإعداد الجيد، وشفاء المريض إلى مهارة الطبيب، وهي فعلًا من الأسباب ولا اعتراض عليها عند أهل السنة، وإن كان يوجد بعض طوائف المسلمين يقولون بمذهب الجبرية وينكرون الأسباب. وقد تظهر علوم تنجح في تحديد هذه الأسباب فنرجع الفضل إلى هذا العالم أو ذاك في كشفه للأسباب، ولكن هل هذه النظرة العلمية تتعارض مع إعادتها إلى الرب سبحانه، الذي بيده كل شيء، وهو الفعال لما يريد؟ نعم توجد معارضة لو افترضنا أن هناك من ينكر الأسباب، مع أن العلم عمدته على السببية، فيقع التعارض، وعندها يقوم من ¬

_ (¬1) انظر: طريقنا إلى الحرية، د. زكي نجيب ص 38 - 39.

توهم هذا التعارض بطلب الحل. ولكن أهل السنة يرون أن الأسباب مؤثرة في مسبباتها مباشرة، لكن من الذي جعلها مؤثرة؟ إنه الله سبحانه، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما أهل الهدى والفلاح. . . . فيؤمنون بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو على كل شيء قدير، أحاط بكل شيء علمًا، وكل شيء أحصاه في كتاب مبين". إلى أن قال: "ومع هذا لا ينكرون ما خلقه الله من الأسباب، التي يخلق بها المسببات، كما قال -تعالى-: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف: 57] وقال -تعالى-: {يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} [المائدة: 16] وقال -تعالى-: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة: 26]، فأخبر أنه يفعل بالأسباب. ومن قال يفعل عندها لا بها، فقد خالف ما جاء به القرآن، وأنكر ما خلقه الله من القوى والطبائع، وهو شبيه بإنكار ما خلقه الله من القوى التي في الحيوان التي يفعل الحيوان بها مثل قدرة العبد. كما أن من جعلها هي المبدعة لذلك فقد أشرك بالله، وأضاف فعله إلى غيره، وذلك أنه ما من سبب من الأسباب إلا وهو مفتقر إلى سبب آخر في حصول مسببه، ولابدّ له من مانع يمنع مقتضاه إذا لم يدفعه الله عنه، فليس في الوجود شيء يستقل بفعل شيء إلا الله وحده" (¬1)، وبمثل هذا القول المبني على الفهم والعلم بالوحي يقع التوفيق ويسقط التعارض، فليجتهد علماء العلوم المختلفة في اكتشاف الأسباب لكن دون أن تُجعل هي الفاعلة وحدها. توجد في المثالين بعض الإشكالات التي تحتاج إلى تصحيح، فإن قوله بحضور الملائكة قول يحتاج إلى دليل، فإن الناس ربما يتساهلون في القول بهذه الأمور المغيبة، وهي من الأمور التي لا تُعلم في الغالب إلا بالوحي، وليس حضورها مما ينفي الأسباب، كما أن القول بأن الشافي هو الله سبحانه لا يعني إنكار السبب من مهارة الطبيب أو القوة المؤثرة الموجودة في الدواء، فكل سبب مؤثر في حصول مسببه ولكن كل سبب مفتقر إلى سبب آخر. إن الروح العلمية التي يدعو إليها المؤلف هي مما يتعارض مع الدين؛ لأنه ¬

_ (¬1) التدمرية، لابن تيمية ص 209 - 211، بتحقيق محمَّد السعوي.

يريد النظر فقط في الأسباب وإغفال النظر في مسبب الأسباب، وفي مدبر الكون والفعال لما يريد سبحانه، فأين التوفيق الذي يطرحه في مشروعه؟ بينما النظرة الصحيحة في حقيقة الموقف الديني وموقف أهل العلوم يظهر منها عدم وجود تعارض، فهي تثبت السبب وتحث على معرفته، ونسبة المُسبَبات إليه، مع إدراك عدم خلو سبب من مؤثر، وافتقاره دائمًا إلى سبب آخر، وأن كل ذلك لا يتعارض مع الإيمان بتقدير الله سبحانه لها. ومن نظر في أغلب ما يعرضه أهل الفكر مما يزعمونه تعارضًا بين الدين والعلم يجده يدخل في مبحث السببية (¬1)، وذلك أن العلوم في الغالب إنما هي في النهاية البحث عن قانون أي عن سببية، فيُقصر أهل العلوم في الاكتفاء بما اكتشفوه من سبب، ويقصر بعض أهل الدين بنفي هذا السبب، فيُظن بأن هناك تعارضًا، أو يُظن أن أهل الدين عندما يربطون كل شيء بالله سبحانه أنهم ينكرون الأسباب، وكيف ينكرونها والرب سبحانه هم من أخبرنا بوجودها. فليكتف أهل العلوم في بحثهم بإدراك الأسباب الظاهرة ولكن لا ينكروا وجود مسبب الأسباب وخالقها ومدبرها، والغالب أنهم لا ينكرونها، وإنما يقع الإنكار من أهل المذاهب الفكرية، وهو أوضح مع تلك التي اتخذت موقفًا معاديًا من الدين، وهو أبرز ما يكون في الماديين والوضعيين بسبب إلحاد الكثير من زعمائهم، وقد سبق ذكر قول "نيوتن" أحد أهم علماء العصر الحديث في الفيزياء من "أن الكون لا يمكن أن يعمل دون وجود إله" (¬2). كانت الوقفة مع أحد أبرز النماذج الفكرية المعاصرة، توقفت معه؛ لأنه يرتبط بمذهب فكري له صلة كبيرة بالعلوم، وهو المذهب الوضعي، وقد اجتهد صاحب هذا المذهب في رفع شأن العلم وأحسن في ذلك، ولكنه وقع في الغلو عندما جعله الممثل الوحيد للحقيقة، وجعله الوحيد الذي يملك جواز الدخول إلى العقل بينما الدين مع الأدب والفن في ساحة الوجدان، ولم يفرق بين أن الدين يملك أخبارًا وحقائق موضوعية بينما الأدب والفن إنما هما تعبير عن المشاعر، وقد كشف البحث أثر ذلك في جعل الدين في مسار والعلم في مسار، ¬

_ (¬1) انظر: الفصل الثاني من الباب الثاني، مبحث المعجزة ص 1031. (¬2) إسحاق نيوتن والثورة العلمية، جيل .. ص 101.

وما تبعه من منهج للتوفيق بينهما، وإذا كان التصوّر غير صحيح فإن عملية التوفيق تكون من العبث. ورغم ما يلحظه الباحث من أشياء جيدة في فكر هذا المفكر إلا أن أثر التصورات الفاسدة أفسدت عليه مشروعه الفكري، وهو يبقى أحسن حالًا من الصنف الثاني الذي لم يُظهر أي اعتبار للدين، بل انخرط في اجترار مقولات إلحادية، بينما هذا المفكر الوضعي قد اجتهد في التحليل والنقد لكثير من الأوهام والانحرافات في عصرنا وأمتنا ولكن جهله بالإِسلام الذي اعترف بأنه لم يقرأ فيه إلا في سن متأخرة جعله يتحرك بغشاوة فكرية أفسدت مشروعه الفكري، وجعلته يصب في خدمة التغريب والوجهة العلمانية. النموذج الثاني: اللاتوفيقي: يتبنى أصحاب هذا النموذج موقفًا عدائيًا فجًا من الدين، ويرفعون تبعًا لذلك دعوى التعارض لأقصى حدٍ ممكن، ولا يتبنون من الفكر الغربي إلا ما يعارض الدين، فإن ظهر رمز فكري غربي له رؤى يُشتم منها الاقتراب من الدين هاجموه تبعًا لمهاجمة من ينتمون لهم من الغربيين، لا تظهر عندهم حالة التعارض إشكالًا معرفيًّا يحتاج إلى بحث ومعالجة، وإنما أداة في صراعهم مع الدين، ولهذا نجدهم يركزون على إسرائيليات موجودة في كتب التفسير أو أحاديث موضوعة أو أقوال شاذة أو حتى نصوص من المتشابه الذي حقه الرد إلى المحكم، وفي المقابل يتوسعون في الاغتراف من الثقافة الغربية بما في ذلك ما يُعارض الدين، بحجة أن ما ينتمي إلى الحضارة الغربية فهو ينتمي إلى العلم. ينتمي مجموعة من أفراد هذا النموذج إلى الاتجاهات اليسارية التي عرفها العالم الإسلامي من خلال الأحزاب الشيوعية وغيرها، ومن لم يكن منتميًا لهم فقد استفاد منهم فيما يتعلق بمعارضة الدين؛ ذلك أن الاتجاهات اليسارية جعلت من أصولها تحطيم الدين، وكوّنت بذلك تراثًا كبيرًا، أصبح كل كاره للدين يغترف منه وإن لم ينتسب إلى هذا التيار، وقد برز الموقف اليساري بعد أن تبنت مجموعة من الأحزاب العربية الاشتراكية وازداد حماسها لغيها مع ظهور الصحوة الإسلامية. أذكر أربعة أمثلة، أولها ماركسي "د. العظم"، والبقية وإن لم يكونوا كذلك

فإنهم يُعلنون مواقف شديدة على الطريقة الماركسية، أولهم متعصب للعلمانية ومحارب للموقف الديني "د. زكريا"، والثاني يعطي صورة لأساليب التلاعب دون أن يكون هناك مضمون فكري "د. عيد"، والثالث يمثل المرحلة الأخيرة من الأفكار المتعلمنة تحت شعار الليبرالية "د. النابلسي". المثال الأول: صاحب دعوى المعارضة المطلقة "الماركسي": هذا هو حال الماركسيين، ولا شك أن هناك تعارضًا مطلقًا، فلا يوجد أي إمكانية التقاء بين الإلحاد والإيمان، وتبعًا لذلك فهو يذهب بالدعوى إلى أقصى درجات الغلو دون أن يُقدم أي دليل، فيستخدم الألفاظ العامة ويتبنى أفكارًا مريضة ويجعلها دليلًا على التعارض، فإن بحثت عن شيء من العلوم التي معه فلا تجد شيئًا. يعترض على وجهة النظر "السائدة" التي ترى أن النزاع بين الدين والعلم نزل ظاهري ويرى العكس "إن الدين، كما يدخل في صميم حياتنا وكما يؤثر في تكويننا الفكري والنفسي، يتعارض مع العلم ومع المعرفة العلمية قلبًا وقالبًا، روحًا نصًا"، ثم يتحدث عن الإسلام: "يحوى الدين الإسلامي آراء ومعتقدات تشكل جزءًا لا يتجزأ منه عن نشوء الكون وتركيبه وطبيعته، عن تاريخ الإنسان وأصله وحياته خلال العصور. وليس من الضروري أن نشدد بأن هذه الآراء والمعتقدات تتعارض تعارضًا واضحًا وصارخًا مع معلومتنا العلمية عن هذه المواضيع بالذات" (¬1)، وهذا النوع يمكن أن نسميه تعارض الموضوعات، وهناك تعارض المنهج الذي يقول عنه: "إن الخلاف والنزاع بينهما يجريان إلى أعمق من ذلك بكثير عندما يمسان مشكلة المنهج الذي يجب اعتماده في الوصول إلى قناعاتنا ومعارفنا في هذه المواضيع المذكورة، والطريق التي يجب أن نسلكها للتيقن من صدق هذه القناعات أو كذبها. إن الإسلام والعلم في هذا الأمر على طرفي نقيض"، فمصدر الأول هو النقل بينما الثاني يعتمد على الملاحظة والاستدلال (¬2). ثم يتحدث عن رؤية فيورباخية ماركسية حول الإشكالية فيقول: "هناك تشابه ¬

_ (¬1) نقد الفكر الديني، د. صادق العظم ص 15. (¬2) نقد الفكر الديني ص 15 - 16.

بين الدين والعلم في أن كليهما يحاول أن يفسر الأحداث وأن يحدد الأسباب، إن الدين بديل خيالي عن العلم"، إلى أن قال: "إن محاولة طمس معالم النزاع بين الدين والعلم ليست إلا محاولة يائسة للدفاع عن الدين" (¬1). تعطي هذه الشواهد صورة عن التصور الماركسي، وهي تصح لو وضع مكان العلم مصطلح الماركسية، ولاسيّما رؤيتها حول الدين الحق. إن العبارات المستخدمة لتَدُل على ذلك، مثل: يتعارض قلبًا وقالبًا، نصًا وروحًا، ومثل: تعارضًا واضحًا وصارخًا، ومثل: إنهما في طرفي نقيض، ومثل: إنه خيالي. لو كان هذا التعارض بكل هذا الوضوح المزعوم لما رأينا من أصحاب هذه العلوم في الغرب من يرفضه، ويرى بعدم وجود التعارض، ولما رأينا الكثير من عقلاء المسلمين وأذكيائهم قد درسوا هذه العلوم في الغرب، ولم يصلوا إلى ما وصل إليه الماركسي وأمثاله، فكل هذه الجمل من التلاعب اللغوي بالكلمات التي لا حقيقة لها إلا عند من يرى بأن الماركسية هي علمية وحقائقها من الأمور المسلمة. من الأمثلة التي يكررها المثبتون للتعارض: "وجود الكون ووجود الإنسان"، وهي مثلان أثيران عند أهل هذا الاتجاه، وهما المثلان اللذان تُركز عليهما المادية لإنكار الدين بحجة مخالفته للعلم فيهما، حيث عرف القرن التاسع عشر في أوروبا نجاحًا للتيار المادي الذي أراد إثبات أزلية الكون وأبديته معتمدًا على نظرية "نيوتن"، وأنه يمكن تفسير ميكانيكيته بقوانين تُقْصي حاجة العالم إلى افتراض وجود خالق مدبر وحافظ للكون، وكما يقول "لابلاس": "بأن الله فرضية لست في حاجة إليها"، مع أن "نيوتن" نفسه الذي تعتمد عليه ماديتهم لا يقول بهذا القول، إلا أن الفيزياء الحديثة أصبحت تختلف عن النظرة المادية الميكانيكية للكون، فما بقي يُصرّ على النظرة المادية إلا الماركسيين وأمثالهم. وبالمثل -فإن مادية القرن التاسع عشر- تعززت بنظرية داروين حول الإنسان، مفترضة أسبقية المادة وأنه بالصدفة ظهرت خلية في طينة ما، وعبر ملايين السنيين تطورت إلى هذا الإنسان العجيب، فمن السخافة جعلها ندًا لما جاء به الدين، لهذا جاء من الدارونيين أنفسهم من أثبت أن الإنسان خلق مستقل ¬

_ (¬1) المرجع السابق ص 17.

أو له وجود مستقل، قد تكون الدارونية القديمة أو المطورة جزء من علم الأحياء الحديث، ولكن هناك في المقابل تيار علمي غير مقرّ بهذه النظرية، فضلًا عن وجود تيار ثالث يرى إمكانية رفع التعارض بين الدين والدارونية. والمقصود هنا بأن من يرى التعارض بين الدين والعلم في وجود الإنسان إنما هم الماديون باعتمادهم على نظرية داروين في صورتها القديمة، ويُغفلون ما سوى ذلك، وهذا ليس لقناعة علمية؛ فإن "العظم" وأمثاله ليسوا من علماء الأحياء حتى نقول بأنه أخذ النظرية عن قناعة، فإذا كان الأمر كذلك فلما يقال بالتعارض مع أن هناك من طورها بحيث تقترب من الدين، وهناك من رأى إمكانية التوفيق بينها وبين الدين، وهناك من يعتقد عدم صحتها ولكنه يعزي المشكلة إلى أن البديل لها هو الاعتراف بالخلق وهذا ما يرفضه العلم بسبب تمكن بعض الملحدين من زمامه (¬1). يكشف لنا مثل هذا التصرف البعد الأيدلوجي الذي غلب على البعد المعرفي، المادية هنا تطغى على العلمية، فكُره الدين أعمى أبصارهم وجعلهم يتحمسون لكل ما يعارضه. فمن النوع الأول: ينبه هذا الماركسي بأنه سيتوجه "إلى مثال يبين بجلاء كيف يقودنا البحث العلمي إلى قناعات وتعليلات تتنافى مع المعتقدات الدينية. . . ."، ثم ذكر بأن "القارئ يعرف التعليل الإِسلامي التقليدي لطبيعة الكون ونشأته ومصيره: خلق الله هذا الكون في فترة معينة من الزمن بقوله كن فكان"، ثم ذكر "حادثة طرد آدم وحواء من الجنة"، وذكر أن الله "يتدخل من وقت لآخر في نظام الطبيعة فتكون المعجزات، أما الطبيعة فقد حافظت على سماتها. . . .". (أما النظرية العلمية حول الموضوع ذاته فلا تعترف بالخلق من لا شيء، ولا تقر بأن الطبيعة كانت من البداية كما هي عليه الآن"، ثم انتقل فجأة ليؤكد هذه النظرة العلمية بما نقله عن فيلسوف ملحد مشهور، فقال: "لقد عبر الفيلسوف والعالم الإنكليزي المعاصر برتراند رسل عن هذه النظرة العلمية في قطعة أدبية جميلة"، ثم ساقها في ما يقرب من صفحة ثم قال: "هذا المقطع الذي كتبه رسل يلخص لنا بكل بساطة النظرة العلمية الطبيعية للقضايا التالية: نشوء الكون وتطوره، نشوء الحياة وتطورها، أصل الإنسان ونشأته وتطوره، نشوء ¬

_ (¬1) سبق الحديث عن شيء من ذلك في الفصل الثاني من الباب الثاني ص 1014.

الديانات والعبادات والطقوس وتطورها، وأخيرًا يشدد على أن النهاية الحتمية لجميع الأشياء هي الفناء والعدم ولا أمل لكائن بعدها بشيء، إنه من السديم إلى السديم يعود" (¬1)، والنظرة العلمية لا مكان فيها للاعتراف بالغيبيات حتى ولو كان الخالق سبحانه فلا مكان له، وهذا "لابلاس" يقول: "الله فرضية لا حاجة لي بها في نظامي"، وهذا "نيتشه" يعلن موت الإله، وأن الله الذي مات في أوروبا بدأ يحتضر في بقية العالم مع التقدم العلمي (¬2). ينعدم إمكانية النقاش الفكري مع مثل هذا الهذيان، ومع مثل هذه المادية الفجة، ولكن يبقى التأكيد على أهمية التفريق بين "الرؤية المادية" وبين "الرؤية العلمية"، فالرؤية العلمية تبقى عند الظواهر، ولكن عندما تتجاوز ذلك إلى إنكار العلل والغايات فهي تتحول إلى "رؤية مادية ملحدة"، وقد وقع بعض العلماء في ذلك، حيث تجاوزوا ميدانهم إلى ميدان ليس من تخصصهم، فجعلوا ما لم يدل عليه العلم غير علمي حتى الغيبيات، ومثل هذا لا يعد تعارضا مع الدين، المعارض للدين هو ما يثبتون وجوده ويثبتون في الوقت نفسه أنه يعارض الدين، وهذا الذي لم يقل به عقلاء العلماء -وهو الذي ينفي وجوده أهل الإِسلام- فهناك طائفة مهمة من العلماء يرون ضحالة الرؤية المادية، كما أن هناك تيارات فكرية وفلسفية تعادي هذه الرؤية المادية، أما أهل الدين الحق فهم ينظرون فيما يثبت من العلم فلم يجدوا شيئًا في العلم يعارض الدين معارضة معتبرة. ومن النوع الثاني، حول آدم -عليه السلام-، فيقول: "جاء في القرآن مثلًا أن الله خلق آدم من طين، ثم أمر الملائكة بالسجود له فسجدوا إلا إبليس، مما دعا الله إلى طرده من الجنة. هل تشكل هذه القصة أسطورة أم لا؟ "، إلى أن قال: "إن كانت هذه القصة القرآنية صادقة صدقًا تامًا وتنطبق على واقع الكون وتاريخه "إنها كلام منزل" لابد من القول إنها تتناقض تناقضًا صريحًا مع كل معارفنا العلمية، ولا مهرب عندئذ من الاستنتاج بأن العلم الحديث على ضلال في هذه القصة" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: نقد الفكر الديني ص 18 - 19. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 19. (¬3) نقد الفكر الديني ص 25 - 26.

فانظر إلى هذا الهوس المادي في قوله: "تتناقض تناقضًا صريحًا مع كل معارفنا العلمية" مع أن بعض الدارونيين يرون بأن الإنسان له وجود مستقل، كما أن هناك من العلماء من يعارض هذه النظرية، فضلًا عن وجود الكثير من المفكرين يرفضونها، فأين نجد لقوله: "كل معارفنا العلمية" مكانًا نضعه فيه؟ أما إذا كان مقصده قصة خلق آدم، فإنها أمر لم يكن ليُعلم إلا بخبر الصادق، وهو أمر لم يأت إلا عن طريق النبوات، ولذا فيقال هل يوجد في العلم ما ينفيها؟ أما قولهم إنه لم يدل عليها، فقد سبق بأن عدم دلالة العلم على شيء لا يعني عدم صحته، فإن العلم له حدود من جهة كما أنه يتطور من جهة أخرى، ومع ذلك فإذا جاءنا شيء من الغيبيات ولا يوجد عليه دليل استقرائي أو استنباطي، فإننا نبحث عن صحة الخبر، وخلق آدم -عليه السلام- مما تواتر ذكره عند أهل النبوات. والخلاصة أننا مع هذا المثال لا نجد "العلم" حتى نبحث عن حقيقة تَعَارُضه مع الدين وإنما نجد "المذهب المادي"، في صورته الإلحادية الفجة. ولا شك بأن التعارض بين الدين والرؤية المادية الإلحادية قائم إلى أقصى حدوده، بل إن كثيرًا من أهل العلوم يعارضون المذهب المادي إلى أقصى الحدود فمن باب أولى أهل الدين. المثال الثاني: على دعوى تعارض الإطار والتشريع والتعصب للعلمانية: يعد الدكتور "فؤاد زكريا"، أحد الرموز الفكرية العربية المعاصرة، وهو من المدافعين بقوة عن العلمانية، والمجادل بقوة للصحوة الإِسلامية حول مشروعها الإِسلامي، وهو ذو صلة بفلسفة العلوم، وله جهود مميزة فيها، إلا أن تعصبه للعلمانية أعماه عن الحق، ومع صلته بالعلم عبر الفلسفة فهو لم يقدم شيئًا حقيقيًا يؤكد إشكالية التعارض بين الدين الحق والعلم الصريح، وتحرك عوضًا عن ذلك في مستوى التعارض بين الإطار الإِسلامي والإطار العلماني، أو في مستوى الجانب العملي والتشريعي. نجده في المستوى الأول -وفي أثناء خصامه مع الصحوة الإِسلامية- ناقدًا قولها بأن الغرب عرف الصراع بين الدين والعلم فاحتاجت للعلمانية بخلاف الإِسلام، ويردّ بأن ذلك الصراع وقع عندنا أيضًا. ونتوقع أن يذكر شواهد

صحيحة على تعارض حقيقي بين الإِسلام والعلم وتتفاجأ بتحويله المسار إلى جانب آخر، فيقول بأنه وقع عندنا "تصادم بين الدين والعلم في ظل الحضارة الإِسلامية. فماذا يقول هؤلاء عن المحن التي ألمت بالمعتزلة، وابن رشد، والسهروردي، والحلاج، على سبيل المثال؟ "، ويُعد هذا شاهدًا من القديم، ويضيف شاهدًا معاصرًا فيقول: "ماذا نقول عن الاضطهاد الذي ألحقه رجال الدين، أو مؤسسة الأزهر، بطه حسين، وعلي عبد الرازق، ومحمد أحمد خلف الله، وكثير غيرهم من المفكرين"، ثم قال: "قد يقال إن الحالات السابقة تتعلق بشخصيات كانت تتحدى مبادئ دينية أساسية، وكان الصدام معها محتومًا. ومع عدم اعترافنا بصحة هذا الدفاع، فإنا سنجد الوضع مماثلًا في تعامل رجال الدين الإِسلامي مع كثير من النظريات العلمية والفكرية الحديثة. فما زال دارون وفرويد حتى اليوم موضوعين في القائمة السوداء، لدى جميع المفكرين الإِسلاميين، ولاسيّما رجال الدين منهم، وما تزال تعاليمهما ونظرياتهما تُلعن كل صباح ومساء على أيدي أشخاص لم يقرؤوا عنهما إلا ما كتبه شركاؤهم في الفكر. بل مجرد الإشارة إلى اسميهما، ومعهما اسم ماركس بالطبع، يُعد من المحرمات في أكثر البلاد تمسكًا بالتعاليم الشكلية للإسلام" (¬1)، وأقف مع هذا النص: 1 - كنا نتوقع أنه سيذكر أمثلة على التصادم بين "الدين والعلم" فهذا هو ينقلنا إلى صراعات اجتماعية وسياسية وفكرية لا علاقة لها بميدان العلم، وكان الأولى الوقوف مع الدعوى دون الالتفاف عليها، فقد وجدنا أنفسنا أمام أسماء أشخاص وليس أمام علوم ونظريات حقائق. كان الصراع في أوروبا واضحًا في ميدان العلم قبل طرح العلمانية، بين دين محرف وعلوم جديدة، فهي نظرية علمية تنتمي للعلم سواء كانت صحيحة أو خاطئة أو مجرد إجراء نظري، المهم أنها تنتمي لميدان العلم، وهذا لا نجده في الأمثلة التي ذكرها من العالم الإِسلامي، فلا أحد ينتمي إلى العلوم الرياضية الاستنباطية أو العلوم الطبيعية التجريبية وإنما هي أسماء في ميدان الفلسفات والأفكار. كما أن الأسماء العربية المعاصرة لا يُسلم له بحصول اضطهاد في حقهم، ¬

_ (¬1) الصحوة الإِسلامية في ميزان العقل، د. فؤاد زكريا ص 67.

إذا توحي العبارة بصنوف التعذيب والحرمان والسجن والقتل والوحشية التي عرفتها أوروبا، بينما هو نزاع فكري على الصحف، وفي الحياة الثقافية مما يوجد في كل مكان. أيضًا أين هو الاضطهاد مع تلك المكاسب الكبيرة التي حصل عليها هؤلاء والمناصب العالية التي ارتقوها؟ 2 - أما الاتهام بوجود تصادم بين الدين والعلم بسبب الموقف السلبي للمفكرين الإِسلاميين مع دارون وفرويد وماركس والتعامل السلبي لرجال الدين الإِسلامي "مع كثير من النظريات العلمية والفكرية الحديثة"، فإن هذا الموقف السلبي لا علاقة له بموضوع العلاقة بين الدين والعلم، فهو صراع على مستوى الأفكار وليس على مستوى العلم، فإن "دارون وفرويد وماركس" ليسوا هم العلم، وإنْ انتمى نشاط بعضهم إلى العلم، فليس من واجب المسلمين إدخال كل ما صادفوه من الأفكار والعلوم أو التوافق معها، قد يصح هذا في أمة لا دين لها ولا تاريخ لها ولا هوية لها، وقد يصح في أمه لا يوجد لديها ما تزن به ما حولها. فليس كل ما ظهر في الغرب يجب علينا اتباعه -حتى وإن انتمى لمجال العلم- إلا بعد تمحيصه والتأكد من حاجتنا إليه، وعند الصحوة الإِسلامية -التي يخاصمها الكاتب- من المتخصصين في العلوم ما يؤهلها لإبداء الرأي في "فرويد" و"ماركس" وغيرهم، كما أن الأمة الإِسلامية عمومًا فيها من أهل العلوم ما يؤهلهم لبيان المناسب من غير المناسب، وليست خصومتهم مع أفكار "ماركس" و"فرويد" خصومة مع العلم وإنما مع موقفهما الإلحادي، فإنهم يرون بأن نشاطهما العلمي يصل لنتائج غير علمية مثل قولهما بأن الدينَ وهمٌ وخرافة وخطر على البشرية، ثم تبحث عن سند علمي لدعواهما فلا تجد، عندها تعلم بعدها عن العلم. فمن الطبيعي أن يقع التصادم والتعارض بين الفكر الإِسلامي والفكر الماركسي مثلًا، ولكن هذا لا يُعد من التعارض بين الدين والعلم. ننتقل إلى مستوى آخر -الثاني- من التعارض يدّعيه الكاتب بين الدين والعلم، وهو التعارض العملي فيقول: "قد يقال أيضًا إن تلك النظريات كانت تنطوي على نتائج تهدد القيم تهديدًا خطيرًا، ولكن، حتى لو صح هذا الدفاع، فماذا نقول عن كشوف علمية محايدة لم تكن تستهدف المساس بالدين من قريب أو بعيد، كالهندسة الوراثية وأطفال الأنابيب؟ إن أمثال هذه الكشوف ما زالت تحتاج إلى مباركة هيئات دينية عليا قبل أن تصبح مشروعة في المجتمع

الإِسلامي. . . ." (¬1)، فتحمس الكاتب للعلمانية جعله ينفر من كل إطار إسلامي لحياة المسلمين، فإنه في كل مكان لابد من إطار، وكل المجتمعات البشرية لا تعيش دون قيم وثقافة ونظام وأخلاقيات وتشريعات تحيط أي نشاط له صلة بالمجتمع، فهناك فرق بين الجانب العلمي وتطبيقاته، والأمران يحاطان بالتوجيه في الإطار الإِسلامي، فرائد المسلم وموجّهه هو الدين، وهو لا يجد نفسه إلا في البحث عن حكم الله سبحانه والامتثال له. فهذا النوع لا يدخل في باب التعارض بين الدين والعلم، وإنما هو في حاجة إلى تشريع، وشريعتنا هي الإِسلام، فما كان موافقا للإسلام قبلناه وما كان مخالفًا لأوامره ونواهيه من التطبيقات لم نقبل به ويصبح معارضًا للشرع، فليس كل ما صح في العلم تقبله الأمم والثقافات والشرائع فما بالك بشريعة الإِسلام الخاتمة، عندها لا يكون حرص المسلمين على الحكم الشرعي من المعارضة للعلم، وإنما هي من باب البحث عن موافقته للشرع، فالعلم هنا صحيحٌ من وجه، ولا ينكر الدين قيامه وتحققه، ولكن ليس كل صحيحٌ بجائز أو نافع؛ لوجود جوانب أخرى تكتمل الصورة بها، فإن الجوانب العملية قد يصح وجهها المادي ولكن لا يصح وجهها الإنساني، كما سبق بيان ذلك في الفصل الثالث من الباب الثاني. لقد كشف لنا هذا المفكر عن نوعين من دعوى التصادم والتعارض لا حقيقة لهما، حيث جعل التصادم بين الدين والأفكار هو من التصادم بين الدين والعلم، وليس الأمر كذلك، وفي المثال الثاني جعل التطبيقات العملية هي دليل على التصادم، ولا أدري كيف لمفكر مشهور أن يقول بمثل هذا القول وهو يعلم أنه حتى في البلاد العلمانية عندما يراد تطبيق بعض الاكتشافات العلمية فلابد من تشريع لذلك. المثال الثالث: مثال على أساليب التلاعب بدعوى التعارض: تفاجئك بعض دور النشر التغريبية بإخراجها مجموعة من الكتب في طباعة فاخرة ذات مضمون ومحتوى سقيم، ومن ذلك ما تخرجه دار "الطليعة" للدكتور "عبد الرزاق عيد". أقف مع أحد كتبه (¬2) حيث أظهرَ فيه دعوى التعارض ودافع ¬

_ (¬1) الصحوة الإِسلامية في ميزان العقل ص 68. (¬2) بعنوان: (سدنة هياكل الوهم/ نقد العقل الفقهي (يوسف القرضاوي بين التسامح والإرهاب)، د. عبد الرزاق عيد).

فيه وبقوة على العلمانية، فهو كاتب عنده قدرة على التطويل دون أن يأتي ببينة على دعواه سوى تشكيل الألفاظ بصور مختلفة، فقد خصّ الشيخ "يوسف القرضاوي" بكتاب وجعل نقده ستارًا للدعوة إلى العلمانية. تكلم في القسم الثالث منه على دعوى التعارض، ومن ذلك قوله: "ومن ثمّ فإن أخطر الجهالات إنما تتم باسم العقل والعلم، وأكبر دلائل هذا الجهل المقنّع بالعلم، حديث الشيخ عن عدم التعارض بين "حقائق العلم وقواطع الإِسلام، فلا مجال للصراع بينهما كما حدث في ظل أديان أخرى، فالدين عندنا علم، والعلم عندنا دين". إن فكرة عدم التعارض بين الدين والعلم التي طالما يرددّها العقل الفقهي بطمأنينة تدعو للدهشة، وكأنهم يكفي أن يقولوا ذلك حتى تكون الأمور كذلك، كأوليات التفكير السحري، القائم على الحقيقة الكامنة في الكلمات وليس في الواقع. . . ." (¬1). نتوقع أن نجد بعد هذا النص الساخن إشكاليات حقيقية مستعصية على الجميع، ومنذرة بتعارض لا حلّ له، وصعوبات تزلزل مقولة الشيخ القرضاوي، ثم نبحث في كل القسم المخصص للموضوع فلا نجد إلا كلمات وجمل مزعجة لا تسمن ولا تغني من جوع، كلها استهزاء وسخرية، ثم تبحث خلفها عن قضايا فكرية جوهرية تستحق النقاش فلا تجد، بل تجد مع السخرية شيئًا من الكذب الذي لا يشك فيه عاقل (¬2). يعود بعد صفحات من السباب والشتائم فيقول: "والعجب أن الفقهاء سُعاة بريد السماء من مديري المقدس، لا يفتأون يرددون في كل مناسبة أن الإِسلام لا يتناقض مع العلم، مضيفين عبارة "كما حدث في ظل الأديان الأخرى" بحسب تعبير الشيخ" (¬3). ونتوقع أن نجد بعد هذا النص أيضًا شيئًا ذا بال التي سيوردها كدلائل، فلا نجد إلا كلامًا قد سبق وقاله في الصفحات السابقة، ثم بعد عدد من المقاطع يتفضل علينا بمثال دليلًا على دعوى التعارض: "أعني قصة نشأة ¬

_ (¬1) المرجع السابق سدنة هياكل الوهم ص 233. (¬2) وكمثال ادعاءه بتجويز الشيخ البوطي للأفلام الإباحية على اعتبارها لأجساد صليبية ص 234، ومع أنه قد خصص أحد كتبه في نقد البوطي (سدنة هياكل الوهم: نقد العقل الفقهي "البوطي نموذجًا")، وتوقعتُ أن أجد هذا النص موثقًا فيه، فلم أجده. (¬3) المرجع السابق ص 236.

الكون. فكلها -الديانات- تتفق حول أن بداية نشأة البشر كانت مع آدم وحواء، ومن ثم فإن عمران الأرض كان نتاج خطيئة آدم وطرده من الجنة، وأن البشرية بكاملها تدفع ضريبة خطيئة آدم هذه التي أغوته بها زوجه حواء، فكانت رفيقته في اللعنة" (¬1)، هكذا يقول بمثل هذه السخرية والاستخفاف بآدم وحواء -عليهما السلام-، فكيف بما هو دون ذلك. وبعد هذه الفجاجة عاد بعد جولة من الكلام ليتساءل: "أليس جميع الديانات قد رفضت نظرية داروين مثلًا؟ هل الإِسلام الذي لا يرى تعارضًا بين العلم والدين "كما حدث في الأديان الأخرى" على حد زعم القرضاوي، أخذ موقفا خاصًا .. واعترف بنظرية داروين. . . ." (¬2)، وكأن شرط إثبات صحة الإِسلام مرتبط بقبولنا لنظرية "داروين"، في حرص منه على الخلط بين الأمور، فهؤلاء لا يفرقون بين الأمور المختلفة، فإن الإِسلام إذا وجد حقائق أثبتها العلم وتأكد منها العالَم فلن تجده رافضًا لصحته؛ لأن الإِسلام أوجب على أتباعه الاعتراف بالصواب مهما كان، ونظرية "داروين" ليست من الحقائق التي تجبرنا على التوفيق والتسليم بها. يفضل الكاتب موقف النصرانية عندما انسحبت وتركت العلم، وما مارسته من المكر والدهاء أمام أعنف الأفكار، مثل ما عبر عنه "نيتشه": "بموت الله" بأن الذي مات هو إله الفلاسفة التجريدي، "فلم تشأ الكنيسة أمام الحقائق العلمية الجبارة في شتى حيزات الوجود الطبيعي والإنساني أن تعود للتشدق بفتاوى قروسطية في رفض هذا وإدانة ذاك، وتكفير خيرة ما أنجبه العقل البشري في القرون الأخيرة كما يفعل مشايخنا الإجلاء. ." (¬3)، وإلى الآن تتواصل الألعاب الكلامية دون أن نجد خلفها أي قضايا تستحق التوقف باستثناء هذا الغلو العلماني الذي لم يتقبله حتى اليهود والنصارى، ثم أتحفنا بعد هذا الهجاء بدليل للدعوى، حيث قام بنقل صفحات من كتاب "صادق العظم": "نقد الفكر الديني" دليلًا على صحة دعواه، فأصبحت كل هذه المقدمات الكلامية من أجل نقل ¬

_ (¬1) سدنة هياكل الوهم ص 237، ولفظة (الديانات) المعترضة من الباحث، وهي مأخوذة من سياق كلامه. (¬2) المرجع السابق سدنة هياكل الوهم ص 238. (¬3) المرجع السابق ص 239.

بعض صفحات كتاب العظم، التي هي في النهاية مقولات ماركسية لا علاقة لها بميدان العلم. ومع ما تلقاه الماركسية من نقدٍ حتى من قبل الماركسيين المتحولين، وعدم القبول للتيار الماركسي في تيارات التغريب الغربي، إلا أن مسألة الطعن في الدين التي قام بها الماركسيون تلقى رواجًا عند المتغربين المعاصرين، وهذا النموذج يتكرر بكثرة، أي النموذج الشتائمي الذي يُكثر من ادعاءات التعارض بين الدين والعلم ثم يُحيلك في النهاية إلى مقولات ماركسية على أنها هي العلم. المثال الرابع: المثال الليبرالي: كان المصطلح الغالب في وصف المتغربين في النصف الثاني من الرابع عشر/ العشرين: اليسار والحداثة والقومية، ولكن مع انحسار اليسار في العالم، ولاسيّما بعد سقوط الاتحاد السوفيتي طفح على السطح مصطلح الليبرالية ليأخذ بمجموعة من المفكرين القدامى فضلًا من استئثاره بالشباب الجدد. ويبرز الدكتور "شاكر النابلسي"، كأحد المنافحين عن الليبرالية والمهتمين بعلمنة المجتمع، أكتفي من هذا المفكر بما أثاره في موضوع دعوى التعارض. ففي أثناء حديثه عن رؤية ما يسميه باليمين العربي عن العلمانية، وسبب رفضهم لها بأنها نُقلت إلينا ملتبسة بمشاكل غربية لا علاقة لنا بها، والمشكلة هنا بأن الغربي يرى الدين والعلم متضادين متعارضين، بينما وبحسب رأي أهل اليمين فإنهم لا يرون تضادهما ولا اختلافهما، فلماذا تُنقل إلينا بهذه الإشكالية؟. فجاء "النابلسي" مدافعًا عن صحة رؤية الغربي في دعوى التعارض قائلًا: "ولكن ما تفسير الشواهد الآتية في العالم الغربي المسيحي وفي العالم الإِسلامي، التي تشير كلها إلى تعارض الدين مع العلم وتضاد الدين للعلم. وأن كل واحد منهما يسعى لإلغاء الآخر. . . ." (¬1)، وعندما نبحث عن الشواهد إذا بها الشواهد نفسها التي يكررها أغلبهم، لا جديد فيها، ولا علاقة لها بالعلم، ولا صحة لكونها شواهد على دعوى التعارض، يقذف أحدهم بالدعوى ثم يعيد تكرير الشواهد التي يذكرونها في العادة، وسأذكر بعض ما قاله: ¬

_ (¬1) الفكر العربي في القرن العشرين، شاكر النابلسي 2/ 210.

1 - لماذا قتْل أو طرْد أو تشريد عشرات المفكرين والفلاسفة في تاريخ المسلمين لولا التعارض بين رجال الدين ورجال العلم (¬1). 2 - لماذا ترفض الماركسية التي هي بحسب قوله: "تُشكل علميًا نصف التاريخ الحديث الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للبشرية"، فهذا عنده من التعارض بين رجال الدين والعلم (¬2). 3 - "لماذا ما زال تطبيق المناهج العلمية الغربية المختلفة على التاريخ الإِسلامي وشواهده وآلياته وكيفية كتابته ومصادره وإخضاع هذا التاريخ للحفر والتفكيك والتأويل والتفسير على ضوء النظريات الإبستمولوجية "المعرفية" الحديثة غير مرغوب فيه وممنوع. . . ." (¬3). وفي باب النظريات العلمية يقول: 1 - "لماذا ما زالت بعض المدارس والمعاهد العلمية التي تشرف عليها الكنيسة حتى الآن في الغرب، وخاصة في أمريكا، تمنع تدريس كافة النظريات العلمية التي فيها رائحة معارضة لتعاليم الدين وخاصة ونظرية التطور لداروين. . . .؟ " (¬4). 2 - "لماذا ما زالت كثير من المدارس في أنحاء مختلفة من العالم العربي تُحرّم وتمنع الكثير من النظريات العلمية التي تعارض نظرية الخلق والتطور التي جاءت في القرآن وعلى رأسها نظرية التطور والنشوء ونظريات فرويد في علم النفس. . . ." (¬5). وفي باب المعارضة الشرعية يقول: 1 - لماذا يمنع تدريس علم الجنس لولا التعرض بين رجال الدين ورجال العلم (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: الفكر العربي في القرن العشرين 2/ 218. (¬2) انظر: المرجع السابق 2/ 226. (¬3) المرجع السابق 2/ 218. (¬4) المرجع السابق 2/ 210. (¬5) الفكر العربي في القرن العشرين 2/ 210 - 211. (¬6) انظر: المرجع السابق 2/ 216.

2 - لماذا تمنع المرأة من تخصصها في الأمراض التناسلية للرجال ما دامت هذه رغبتها لولا التعارض (¬1). هذه أهم الشواهد التي قدمها الكاتب دليلًا على تعارض الدين والعلم، ومن ثم خطأ من قال بعدم وجود التعارض، ويتضح أن متقدمهم ومتأخرهم يكرر الشواهد نفسها بنصّها أو بمعناها أو بنوعها، وأن المقصود الدفاع عن العلمانية وليس البحث عن الحقيقة، ولا يفرقون بين التعارض المعتبر والتعارض الأيدلوجي، والثاني غالب على شواهدهم، وهو تعارض غير معتبر؛ لأنه تعارض غير صحيح، ونحن إنما نتكلم على وجود تعارض حقيقي بين الدين والعلم بالشروط المعتبرة عند العقلاء. والكاتب هنا لا يعيد التعارض إلى مشكلة بين الدين والعلم، وإنما إلى مشكلة بين رجال الدين ورجال العلم، ورغم أنه يضعها بين رجال المجالين إلا أن الشواهد والسياق يجعلها بسبب من يسميهم رجال الدين، فهم سبب إشكاليه التعارض "ونحن نقول هنا رجال الدين، وليس الدين نفسه لأن رجال الدين بفقههم وتفسيراتهم وتحليلاتهم وبإسقاطاتهم الشخصية الخاصة هم الذين في النهاية يحرمون ويحللون الكثير من المحرمات ويحرمون الكثير من المحللات" (¬2)، فإذا رجعنا إلى الشواهد السابقة نجد فيها: 1 - التضليل، فقد يشعر القارئ مع الشاهد الأول بأن هناك مجزرة تاريخية ارتكبت في حق العلماء من قبل رجال الدين كما حدث في أوروبا في الصراع بين الكنيسة والعلم، وإن حدث شيء من العقوبة أو الاعتداء على أحد فليس ذلك بسبب ما عنده من علم. 2 - الخلط بين العلم والمذاهب الفكرية، فالماركسية مثلًا أو بعض المناهج الفلسفية التي عرفها الفكر الغربي لا تُعد هي العلم، فالعلم له موضوعاته وله مناهجه، وللفلسفة موضوعاتها ومناهجها، فالرؤية الماركسية حول الدين لا يمكن قبولها مطلقًا ولا علاقة لها بالعلم، كما أن المناهج التاريخية التي تحوّل الإِسلام إلى "ظاهرة تاريخية" لا علاقة لها بالسماء والملائكة والوحي والنبوة ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق 2/ 217. (¬2) المرجع السابق 2/ 211.

الرسالة لا يمكن قبولها مطلقًا ولا علاقة لها بالعلم. إن ما يدعيه الكاتب هو تعارض حقيقي ولكنه ليس بين الدين والعلم وإنما بين الدين والإلحاد. أما بقايا الأفكار الماركسية التي لا علاقة لها بالدين أو المناهج المعرفية غير الأيدلوجية، فهي كغيرها من المعارف، تقبل الصواب والخطأ وليست هي مما يبحث هنا. 3 - يكرر هؤلاء في العادة نظرية "داروين" أو "ماركس" أو "فرويد"، وقد سبق الكلام عليها، ولكن هنا لفتة ذكرها الكاتب، فإن الغرب وإن منعها في بعض مدارسه لم يمنع ذلك من تقدمه؛ لأن التقدم المادي والمعرفي لا يرتبط بنظرية "داروين" أو "فرويد"، ولذا يكون الامتناع أحيانًا عن الشيء؛ لعدم وجود فائدة له أو لعدم تحوله إلى حقيقة علمية، فنظرية "فرويد" خالفها مجموعة من الفرويديين، فما بالك بمدارس أخرى لعلم النفس، وبما أننا أمة مستهلكة للمعرفة، فلماذا نأخذ كل شيء؟ لماذا لا نكتفي بما تحققت صحته وبانت منفعته؟ فضلًا عن أن نرفع ذلك إلى موقع الحقائق الكبرى التي تجد ما يؤهلها لمعارضة الدين! 4 - نجد في النموذج الأخير "تدريس الجنس أو دراسته" موضوعًا لا علاقة له بالتعارض بين الدين والعلم، فالدين هنا لا يعارضها بمعنى إلغاء حقائقها وإنما يوجه الدين إلى أولى الصور بتعلمها وتعليمها، بينما الكاتب هنا يدخل أمورًا -كغيره- لا علاقة لها بمفهوم التعارض الذي يُبرز كإشكالية في المجال الثقافي. فلا يوجد أحد يقول إن هذه المعلومات غير صحيحة، ولكن ما الضوابط لنشرها في المجتمع؟ وكيف يكون ذلك؟ وهي مسألة تختلف كما سبق في الأمثلة السابقة عن دعوى التعارض. جاء التنويع في الأمثلة؛ لأن كل مدعي للتعارض يبرز الدعوى في سياق، ثم يركز على جانب من الجوانب في دعواه، بينما الآخر يركز على جانب آخر، وثالث يركز على جانب ثالث وهكذا، وإن كانت في نهاية الأمر وعبر تحليلها تعود إلى شواهد محدودة يغلب عليها سياسة التعميم أو الإجمال أو التلبيس، وما قدموه من شواهد في باب العلم قليل، وهو مع ذلك ليس من الحقائق القطعية، وليس مما يترتب عليه تخلّف أمتنا وضعفها. فلماذا يحرص هؤلاء على ما يعارض الدين، ويرون أنه سبيل تقدمنا؟ بينما المجال واسع في العلوم النافعة والصحيحة والمقطوع بصوابها! لماذا لم تتوجه هممهم إلى تصفية الوافد ونقد ما يصطدم بديننا منه؟ لولا

هواهم فيما يُعارض الدين وتأثرهم بمذاهب غربية لا تبالي بالدين! أليس من المفترض من هؤلاء المطلعين على الأفكار الحديثة والعلوم العصرية وفلسفاتها أن يختاروا لأمتهم: أزكاها وأنفعها وأصوبها، بدل تهافتهم على الظنيات أو على فلسفات لا علاقة لها بالعلم، أو هي مما ينطبق على أديان باطلة وليس على الدين الحق، أو على أفكار مريضة معادية للدين؟ لماذا كل هذا الإصرار على نظريات معينة هي مجال اعتراض حتى داخل ميدان العلم ذاته؟ إن هذه الأسئلة تأتي بحق بعد أن رأينا بأن ما يقدمونه من شواهد على التعارض لا يدل على إشكال معرفي واشتباه منهجي، وإنما عن هوى أو أيديولوجيا قبيحة وصريحة. المثال الخامس: لم يسلم مجال علمي أو فكري دخله المتغربون من إثارة التعارض بين الدين والعلم الحديث، مستندين في ذلك إلى نظريات العلم، وقد يصرحون بذلك وقد يفعلون ما هو أخطر من بثّ السمّ دون تصريح، ومن ذلك هذا المثال: فقد أخرج لويس عوض كتابًا حول فقه اللغة العربية بعنوان "مقدمة في فقه اللغة العربية"، واعتمد فيه كثيرًا على بحوث المستشرقين التي تعاملت مع اللغة العربية غالبًا بانتقاص واضح، وما يهمنا هنا هو ذكر إقحام مشكلة التعارض في باب بعيد عن مشكلة العلاقة بين الدين والعلم، ففي حديثه عن نشأة اللغة العربية مرّ بمسألة ذات علاقة بالموضوع حول إنكار أن تكون أرض اليمن قد عرفت الخصوبة في يوم من الأيام، وانتقل إلى نظريات جيولوجية تثبت وجهة نظره، مع أنه يوجد رأي جيولوجي آخر يثبت مرور أرض اليمن في مرحلة قديمة بخصوبة، وهذا ما نجده من حديث القرآن حول أرض سبأ وما كان فيها من خصوبة، وهو يعترض على القول الثاني ويؤيد الأول، ولا شك أن في هذا نوع من إبداء رأي يخالف ما ورد في القرآن، مع أنها مسألة تحتاج حتى عند القول بالخصوبة لتفسير شرعي يعطي نوعًا من التوضيح عن حدود تلك الخصوبة، وليس هذا مجال بحثها، وإنما المقصود كيف أنه تثار مثل هذه المعارضات للوحي باسم العلم في كل فرصة يجدونها (¬1). ¬

_ (¬1) انظر كلامه ص 39 من كتابه: مقدمة في فقه اللغة العربية، وانظر: بعض مناقشات =

وفي النهاية يمكن القول أن دعوى التعارض هي أكبر دعوى تاريخية عرفها الفكر البشري، وأن هذه الدعوى تظهر بأشكال مختلفة، وهي دعوى عندما تقام ضدّ الدين الحق ذات نسب بدعوى إبليس عندما امتنع عن السجود مدعيًا التعارض فقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12] (¬1)، وما كان من هذا النوع فهو قابل للتجدد ما بقي إبليس، وهو باق إلى قيام الساعة. ومع ذلك فقد يلتبس الأمر على بعض الناس، وعلاج ذلك يكون بالعلم القطعي. وبعد أن عُرض معنى التعارض وصوره وطرق الناس في التعامل معه، وصور تعامل المتغربين معه، ينتقل البحث إلى دعوى ثالثة حول العلاقة بين الدين والعلم، وهي: دعوى كفاية العلم الحديث لحاجة الإنسان وشموليته بدلًا عن الدين. ¬

_ = المخالفين له، نفس الكتاب ص 19 - 20، وقد تكونت لجنة وقت طباعة الكتاب ومنعته من التوزيع لما فيه من أخطاء دينية وعلمية، ومن بين الدراسات الموسعة في نقد لويس ما أخرجه محمود شاكر -رحمه الله-، بعنوان: أباطيل وأسمار. (¬1) انظر: الصواعق المرسلة .. ، لابن القيم 3/ 998، بتحقيق د. علي الدخيل الله.

المبحث الثالث دعوى كفاية العلم الحديث لحاجة الإنسان وشموليته بدلا عن الدين

المبحث الثالث دعوى كفاية العلم الحديث لحاجة الإنسان وشموليته بدلًا عن الدين الكفاية من "كفى يكفي كفاية، إذا قام بالأمر. وفي الحديث: من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه؛ أي أغنتاه عن قيام الليل، وقيل: تكفيان الشرّ وتقيان من المكروه، وفي قوله سبحانه: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}. معناه أو لم يكف ربك أو لم تكفهم شهادة ربك، ومعنى الكفاية هاهنا أنه قد بين لهم ما فيه كفاية في الدلالة على توحيده" (¬1). والشمول من "شملهم الأمر يشملهم شملًا وشمولًا عمّهّم واشتمل عليه الأمر أحاط به" (¬2). وبين الكفاية والشمول علاقة، فعندما يكون الشيء كافيًا في شيء فهو شامل له، ومن ذلك مزعم المتغربين بأن في العلم الحديث كفاية عن غيره، وفيه غنية، فيكون فيه عموم وسعة تعطي الكفاية. ومشكلة الدعوى هنا زعم أصحابها ¬

_ (¬1) انظر: لسان العرب، مادة (كفي)، 15/ 225، وانظر: القاموس المحيط، الفيروز آبادي ص 1712. (¬2) انظر: القاموس المحيط، مادة (شمل) ص 1319، مع لسان العرب فمنه معنى الإحاطة.

أن العلم الحديث وما فيه من نظريات، وما بني عليه من ثقافة، يُغني عن الدين، ويغطي ما كان يغطيه الدين، مع مزية في العلم لم تكن في الدين، وهو أنه بديل صحيح عن أوهام وخرافات عند الغلاة منهم، أو هو البديل الأنسب لواقع البشرية اليوم بعد تطورها، وُيقلص الدين من مجاله الواسع الذي عُرف به إلى مجال ضيق يتعلق بالروحانيات والقيم عند الأكثر من المتغربين. ويسمى هذا الاتجاه بـ (العلموية scientism)، ويعرفها "طه عبد الرحمن" فيقول: العلموية تقابل اللفظ الإِنجليزي (scientism) " هي عبارة عن النزعة التي يعتقد أهلها أن العلم قادر على الإحاطة بحقائق الأشياء وعلى النهوض بحل المعضلات التي تواجه العقل الإنساني وعلى تلبية مختلف مطالبه من المعرفة" (¬1)، ويقول الدكتور "أحمد شوقي": "العلموية scientism" تعني "القدرة غير المحدودة للعلم على تفسير كل ما في الكون، وبأنه في رأى بعض غلاة العلموية الوسيلة الوحيدة للمعرفة التي تملك الحل السحري لكل مشكلة" (¬2)، وكذا عند الدكتور خليل أحمد: (scientism - العلموية) "الفكرة المركزية في العلموية هي أن العلم يجب أن يعقب الفلسفة وأنْ يَجُبَّها، وأنّ العلم قادر على إشباع التطلعات الإنسانية كافة" (¬3). بينما المنهج الإِسلامي ضد هذه الدعوى، ولا يعترف بها، ويجد فيها هلاكًا للناس لو أخذوا بها، مع الإقرار بأن الإِسلام هو منهج حياة شامل، فهو من عند الله سبحانه، العليم الحكيم الخبير، أنزله على خلقه ليستمسكوا به، ويأخذوا به في كل جزء من حياتهم، وأن الدين الحق وحده هو الذي له الشمولية والكفاية، وغيره لا يكون إلا جزئيًا يناسب ما وضع له بما في ذلك العلوم البشرية التي يناسب كل علم منها ما يخصه، ولكن في النهاية يأتي الإِسلام ليكون حاكمًا على الجميع وموجهًا له. يتفق العقلاء أن الإنسان في حاجة إلى تصورات وأعمال، والإنسان يريد المعرفة والعمل، وهو إما أن يستقل بذاته في ذلك، وهذا مستحيل حتى مع ¬

_ (¬1) سؤال الأخلاق .. ، طه عبد الرحمن ص 113. (¬2) إلا العلم يا مولاي، د. أحمد شوقي ص 17. (¬3) مفاتيح العلوم الإنسانية .. ، د. خليل أحمد ص 297.

الشمولية في الإسلام وحاجة الناس إليه فوق كل حاجة

مزاعم عصر التنوير حول مفهوم التنوير بأنه استقلال الإنسان واعتماده على نفسه وعدم حاجته إلى مصدر خارجي، حيث كان غاية ما عندهم أن تركوا عقولهم تُنظر وتشرع، ثم وجدوا ثمرتها النكدة بعد سنين، مما رفع من صيحات الإعلان بموت التنوير وفشله وتحويله إلى عكس ما زعمه. وقد كان البديل المقترح مع أهل التنوير عن الدين هو العقل، ثم جاء تحوّل مع الوضعية نحو العلم، وغالب التيارات العقلانية إما أن تتحمس للعقل أو تتحمس للعلم، ولكن ثمار الاثنين أتت على عكس ما يأملون أو يزعمون، فأهل التنوير يزعمون قدرة العقل لوحده على الاستقلال بحياة أصحابه، وأهل الوضعية يزعمون قدرة العلم على الاستقلال بحياة البشرية واستغنائها به عن غيره. كانت هذه الحال مع الفكر الغربي، أما المتغربون فقد انساق أكثرهم مع تلك التيارات وقلدوها، وزاد الأمر شبهة عليهم بأن أعينهم القاصرة لم تنظر في الغرب إلا إلى دنياه، فوجدوها دنيا متقدمة، وأن العلم الحديث وراء كل جانب من جوانب تقدمها، فتوهموا أن الحل في الاكتفاء بهذا العلم وإعطائه خاصية الحاكمية على حياة البشر إن أرادوا حياة سعيدة، فأعجبهم جانب الكمال الحيواني فيها الذي يرتبط بالجسد ومُتَعِهِ من فنون وآداب، وغفلوا عن جانب الكمال الروحاني الذي فقد كثيرًا في الحضارة المعاصرة. ولمناقشة هذه الدعوى أبدأ ببيان شمولية الإِسلام وحاجة البشرية إليه، وصورة ذلك، ثم أعرج على الدعوى بتحليلها ونقدها وعرض نماذج منها في الكتابات المتغربة. الشمولية في الإِسلام وحاجة الناس إليه فوق كل حاجة: يقوم الإِسلام على أنه الحاكم لحياة المسلمين فهو من العليم الحكيم الخبير سبحانه، وبما أن الإِسلام هو الدين الخاتم، وهو المهيمن على غيره؛ لذا كمل الدين به، وأوجب الله اتباعه، مما يدل أنه يحقق الشمولية والكفاية لما يحتاجه البشر، ومن طلب ذلك في غيره ضل وهلك وأضل وأهلك. ومما ورد في هذا الباب من الآيات القرآنية الكريمة قوله -تعالى-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. ووُصف القرآن بأنه "مفصل" كقوله -تعالى-: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ

عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)} [الأعراف: 52]، وقوله -تعالى-: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} [الإسراء: 12]، وقال -تعالى-: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)} [الأنعام: 114]، وقال -تعالى-: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37)} [يونس: 37]، وقوله -تعالى-: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)} [يوسف: 111]، وقال -تعالى-: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)} [هود: 1]. فهذه الآيات وما في بابها تدل على أن التفصيل من رب العالمين، وهذا التفصيل يجعله شاملًا لمطالب البشرية، بحيث تجد ذلك في الوحي إما عامًا أو مفصلًا. ومن الأدلة قوله -تعالى-: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]، وقوله -تعالى-: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)} [آل عمران: 138]، قال ابن كثير: أي القرآن (¬1). وقوله -تعالى-: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)} [الأنعام: 38]. وقوله -تعالى-: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]. قال الشاطبي -رحمه الله- بعد ذكر بعض الآيات السابقة: "وأشباه ذلك من الآيات الدالة على أنه هدى وشفاء لما في الصدور، ولا يكون شفاء لجميع ما في الصدور إلا وفيه تبيان كل شيء" (¬2)، ومن تأمل عمومًا في ما وصف به القرآن الكريم يعلم علم اليقين بأنه شامل لحياة الإنسان، وأنه لا يغني عنه شيء، وقد ذكر شيخ الإِسلام "أصل جامع في الاعتصام بكتاب الله ووجوب اتباعه وبيان الاهتداء به في كل ما يحتاج إليه الناس من دينهم، وأن النجاة والسعادة في ¬

_ (¬1) انظر: تفسيره لآية آل عمران ص 261. (¬2) الموافقات في أصول الشريعة، الشاطبي 3/ 276، وذلك في المسألة السادسة: القرآن فيه بيان كل شيء. . . .

اتباعه والشقاء في مخالفته". ثم ساق آيات كثيرة، كل آية هي أصلٌ عظيمٌ في الباب أكتفي بواحدة منها، قال -تعالى-: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)} [الأعراف: 157] (¬1)، فالفلاح في الدنيا والآخرة هو باتباع النور الذي أنزل مع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقد زجر الرب سبحانه من لم يكتف بالكتاب فقال سبحانه: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)} [العنكبوت: 51]. قال الشافعي -رحمه الله-: "فليست تنزل في أحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها، قال الله تبارك وتعالى: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)}، وقال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}، وقال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}، وقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)} " (¬2). وقد يَرِدُ على أحدهم كيف يكون هذا القرآن فيه هذا الشمول مع كثرة فروع الحياة وظهور نوازل جديدة ووقائع جديدة؟ وجوابه أن الوحي جاء بقواعد كلية وأصول كلية يدخل فيها كل ما يستجد مما يحتاج إلى تشريع، وفي هذا يقول الشاطبي -رحمه الله-: "تعريف القرآن بالأحكام الشرعية أكثره كلي لا جزئي؛ وحيث جاء جزئيًا فمأخذه على الكلية، إما بالاعتبار أو بمعنى الأصل، إلا ما خصه الدليل مثل خصائص النبي - صلي الله عليه وسلم -" (¬3)، ويقول أيضًا حول قوله -تعالى-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} المراد منه إكمال الكليات "فلم يبق للدين قاعدة يحتاج إليها في الضروريات والحاجيات أو التكميليات، إلا وقد بينت غاية البيان" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: الفتاوى، 19/ 76 - 81، وانظر: مفتاح دار السعادة، ابن قيم الجوزية 2/ 2 وما بعدها، الإِسلام يتحدى، وحيد الدين خان ص 110، العقيدة الإِسلامية، عبد الرحمن الميداني ص 271، رسالة التوحيد، محمَّد عبده ص 47 - 57. (¬2) الرسالة 1/ 20، تحقيق الشيخ أحمد شاكر. (¬3) الموافقات 3/ 274. (¬4) الاعتصام، للشاطبي ص 477، وانظر: الشمول .. ، السفياني ص 145.

وفي قوله -تعالى-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، يقول ابن كثير -رحمه الله-: "هذه أكبر نعم الله - عز وجل - على هذه الأمة حيث أكمل -تعالى- لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم، صلوات الله وسلامه عليه؛ ولهذا جعله الله خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه، ولا دين إلا ما شرعه، وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق لا كذب فيه ولا خُلْف، كما قال -تعالى-: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام: 115]؛ أي: صدقًا في الأخبار، وعدلًا في الأوامر والنواهي، فلما أكمل الدين لهم تمت النعمة عليهم؛ ولهذا قال -تعالى-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} أي: فارضوه أنتم لأنفسكم، فإنه الدين الذي رضيه الله وأحبه وبعث به أفضل رسله الكرام، وأنزل به أشرف كتبه" (¬1). وأجد نفسي مضطرًا في باب له أهميته كهذا الباب أن أنقل مقطعين طويلين معبرين عن الموضوع وتشفع أهميتهما لطولهما: أولهما: عن شيخ الإِسلام ابن تيمية حيث قال: "قاعدة نافعة في وجوب الاعتصام بالرسالة، وبيان أن السعادة والهدى في متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأن الضلال والشقاء في مخالفته، وأن كل خير في الوجود -إما عام وإما خاص- فمنشؤه من جهة الرسول، وأن كل شر في العالم مختص بالعبد فسببه مخالفة الرسول أو الجهل بما جاء به، وأن سعادة العباد في معاشهم ومعادهم باتباع الرسالة. والرسالة ضرورية للعباد لابد لهم منها، وحاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كل شيء. والرسالة روح العالم ونوره وحياته فاْي صلاح للعالم إذا عدم الروح والحياة والنور؟ والدنيا مظلمة ملعونة إلا ما طلعت عليه شمس الرسالة، وكذلك العبد ما لم تشرق في قلبه شمس الرسالة ويناله من حياتها وروحها فهو في ظلمة؛ وهو من الأموات قال الله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122]، فهذا وصف المؤمن ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير آية المائدة ص 384.

كان ميتًا في ظلمة الجهل فأحياه الله بروح الرسالة ونور الإيمان وجعل له نورًا يمشي به في الناس، وأما الكافر فميت القلب في الظلمات. وسمى الله تعالى رسالته روحًا، والروح إذا عدم فقد فقدت الحياة قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]، فذكر هنا الأصلين وهما: الروح والنور، فالروح الحياة والنور النور"، إلى أن قال: "فإن الله سبحانه جعل الرسل وسائط بينه وبين عباده في تعريفهم ما ينفعهم وما يضرهم، وتكميل ما يصلحهم في معاشهم ومعادهم، وبعثوا جميعًا بالدعوة إلى الله، وتعريف الطريق الموصل إليه، وبيان حالهم بعد الوصول إليه. فالأصل الأول يتضمن إثبات الصفات والتوحيد والقدر وذكر أيام الله في أوليائه وأعدائه، وهي القصص التي قصها على عباده، والأمثال التي ضربها لهم. والأصل الثاني يتضمن تفصيل الشرائع والأمر والنهي والإباحة، وبيان ما يحبه الله وما يكرهه. والأصل الثالث يتضمن الإيمان باليوم الآخر؛ والجنة والنار؛ والثواب والعقاب. وعلى هذه الأصول الثلاثة مدار الخلق والأمر، والسعادة والفلاح موقوفة عليها، ولا سبيل إلى معرفتها إلا من جهة الرسل؛ فإن العقل لا يهتدي إلى تفاصيلها ومعرفة حقائقها، وإن كان قد يدرك وجه الضرورة إليها من حيث الجملة"، إلى أن قال: "والرسالة ضرورية في إصلاح العبد في معاشه ومعاده، فكما أنه لا صلاح له في آخرته إلا باتباع الرسالة، فكذلك لا صلاح له في معاشه ودنياه إلا باتباع الرسالة؛ فإن الإنسان مضطر إلى الشرع؛ فإنه بين حركتين: حركة يجلب بها ما ينفعه؛ وحركة يدفع بها ما يضره. والشرع هو النور الذي يبين ما ينفعه وما يضره، والشرع نور الله في أرضه وعدله بين عباده وحصنه الذي من دخله كان آمنا. وليس المراد بالشرع التمييز بين الضار والنافع بالحس؛ فإن ذلك يحصل للحيوانات العجم؛ فإن الحمار والجمل يميز به بين الشعير والتراب، بل التمييز

بين الأفعال التي تضر فاعلها في معاشه ومعاده كنفع الإيمان والتوحيد؛ والعدل والبر والتصدق والإحسان؛ والأمانة والعفة. . . ."، إلى أن قال: "ولولا الرسالة لم يهتد العقل إلى تفاصيل النافع والضار في المعاش والمعاد فمن أعظم نعم الله على عباده وأشرف منة عليهم: أن أرسل إليهم رسله؛ وأنزل عليهم كتبه؛ وبين لهم الصراط المستقيم. ولولا ذلك لكانوا بمنزلة الأنعام والبهائم بل أشر حالًا منها، فمن قبل رسالة الله واستقام عليها فهو من خير البرية، ومن ردها وخرج عنها فهو من شر البرية، وأسوأ حالًا من الكلب والخنزير والحيوان البهيم"، إلى أن قال: "وليست حاجة أهل الأرض إلى الرسول كحاجتهم إلى الشمس والقمر؛ والرياح والمطر، ولا كحاجة الإنسان إلى حياته؛ ولا كحاجة العين إلى ضوئها والجسم إلى الطعام والشراب؛ بل أعظم من ذلك؛ وأشد حاجة من كل ما يقدر ويخطر بالبال، فالرسل وسائط بين الله وبين خلقه في أمره ونهيه"، إلى أن قال: "وقال صلوات الله وسلامه عليه: "إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب" (¬1)، وهذا المقت كان لعدم هدايتهم بالرسل فرفع الله عنهم هذا المقت برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبعثه رحمة للعالمين ومحجة للسالكين وحجة على الخلائق أجمعين"، إلى أن قال: "أرسله الله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فختم به الرسالة؛ وهدى به من الضلالة؛ وعلم به من الجهالة وفتح برسالته أعينًا عميًا وآذانًا صمًا وقلوبًا غلفًا، فأشرقت برسالته الأرض بعد ظلماتها؛ وتألفت بها القلوب بعد شتاتها، فأقام بها الملة العوجاء وأوضح بها المحجة البيضاء، وشرح له صدره؛ ووضع عنه وزره؛ ورفع ذكره؛ وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره، أرسله على حين فترة من الرسل ودروس من الكتب، حين حرف الكلم وبدل الشرائع واستند كل قوم إلى أظلم آرائهم وحكموا على الله وبين عباده بمقالاتهم الفاسدة وأهوائهم، فهدى الله به الخلائق وأوضح به الطريق، وأخرج به الناس من الظلمات إلى النور" (¬2). ¬

_ (¬1) مسلم برقم (5109)، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار من كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها. (¬2) انظر: الفتاوى 19/ 93 - 105، مع الاختصار.

والثاني ذكره سيد قطب حول هذه الآية {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، في "في ظلال القرآن" فقال: ". . . . إن بعض دلالته أن شريعة الله كل لا يتجزأ. كل متكامل. سواء فيه ما يختص بالتصور والاعتقاد؛ وما يختص بالشعائر والعبادات؛ وما يختص بالحلال والحرام؛ وما يختص بالتنظيمات الاجتماعية والدولية. وأن هذا في مجموعه هو "الدين" الذي يقول الله عنه في هذه الآية: إنه أكمله. وهو "النعمة" التي يقول الله للذين آمنوا: إنه أتمها عليهم". . . ."أكمل الله هذا الدين. فما عادت فيه زيادة لمستزيد. وأتم نعمته الكبرى على المؤمنين بهذا المنهج الكامل الشامل. ورضي لهم الإِسلام دينًا؛ فمن لا يرتضيه منهجًا لحياته -إذن- فإنما يرفض ما ارتضاه الله للمؤمنين. ويقف المؤمن أمام هذه الكلمات الهائلة؛ فلا يكاد ينتهي من استعراض ما تحمله في ثناياها من حقائق كبيرة، وتوجيهات عميقة، ومقتضيات وتكاليف. ."، إلى أن قال: ". . . . حتى إذا أراد الله أن يختم رسالاته إلى البشر؛ أرسل إلى الناس كافة، رسولًا خاتم النبيين برسالة "للإنسان" لا لمجموعة من الأناسي في بيئة خاصة، في زمان خاص، في ظروف خاصة .. رسالة تخاطب "الإنسان" من وراء الظروف والبيئات والأزمنة. . . . وفصل في هذه الرسالة شريعة تتناول حياة "الإنسان" من جميع أطرافها، وفي كل جوانب نشاطها؛ وتضع لها المبادئ الكلية والقواعد الأساسية فيما يتطور فيها ويتحور بتغير الزمان والمكان؛ وتضع لها الأحكام التفصيلية والقوانين الجزئية فيما لا يتطور ولا يتحور بتغير الزمان والمكان .. وكذلك كانت هذه الشريعة بمبادئها الكلية وبأحكامها التفصيلية محتوية كل ما تحتاج إليه حياة "الإنسان" منذ تلك الرسالة إلى آخر الزمان؛ من ضوابط وتوجيهات وتشريعات وتنظيمات، لكي تستمر، وتنمو، وتتطور، وتتجدد؛ حول هذا المحور وداخل هذا الإطار"، إلى أن قال: "وقال الله -سبحانه- للذين آمنوا: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} .. فأعلن لهم إكمال العقيدة، وإكمال الشريعة معًا. . فهذا هو الدين .. ولم يعد للمؤمن أن يتصور أن بهذا الدين -بمعناه هذا- نقصًا يستدعي الإكمال. ولا قصورًا يستدعي الإضافة. ولا محلية أو زمانية تستدعي التطوير أو التحوير .. وإلا فما هو بمؤمن؛ وما هو بمقر بصدق الله؛ وما هو بمرتض ما ارتضاه الله للمؤمنين!

إن شريعة ذلك الزمان الذي نزل فيه القرآن، هي شريعة كل زمان، لأنها -بشهادة الله- شريعة الدين الذي جاء "للإنسان" في كل زمان وفي كل مكان، لا لجماعة من بني الإنسان، في جيل من الأجيال، في مكان من الأمكنة، كما كانت تجيء الرسل والرسالات. الأحكام التفصيلية جاءت لتبقى كما هي. والمبادئ الكلية جاءت لتكون هي الإطار الذي تنمو في داخله الحياة البشرية إلى آخر الزمان؛ دون أن تخرج عليه، إلا أن تخرج من إطار الإيمان! والله الذي خلق "الإنسان" ويعلم من خلق؛ هو الذي رضي له هذا الدين؛ المحتوي على هذه الشريعة. فلا يقول: إن شريعة الأمس ليست شريعة اليوم، إلا رجل يزعم لنفسه أنه أعلم من الله بحاجات الإنسان؛ وبأطوار الإنسان! ". . . . (ويقف المؤمن ثانيًا: أمام إتمام نعمة الله على المؤمنين، بإكمال هذا الدين؛ وهي النعمة التامة الضخمة الهائلة. النعمة التي تمثل مولد "الإنسان" في الحقيقة، كما تمثل نشأته واكتماله. "فالإنسان" لا وجود له قبل أن يعرف إلهه كما يعرفه هذا الدين له وقبل أن يعرف الوجود الذي يعيش فيه كما يعرفه له هذا الدين. وقبل أن يعرف نفسه ودوره في هذا الوجود وكرامته على ربه، كما يعرف ذلك كله من دينه الذي رضيه له ربه. و"الإنسان" لا وجود له قبل أن يتحرر من عبادة العبيد بعبادة الله وحده؛ وقبل أن ينال المساواة الحقيقية بأن تكون شريعته من صنع الله وبسلطانه لا من صنع أحد ولا بسلطانه. إن معرفة "الإنسان" بهذه الحقائق الكبرى كما صورها هذا الدين هي بدء مولد "الإنسان" .. إنه بدون هذه المعرفة على هذا المستوى؛ يمكن أن يكون "حيوانًا" أو أن يكون "مشروع إنسان" في طريقه إلى التكوين! ولكنه لا يكون "الإنسان" في أكمل صورة للإنسان، إلا بمعرفة هذه الحقائق الكبيرة كما صورها القرآن .. والمسافة بعيدة بعيدة بين هذه الصورة، وسائر الصور التي اصطنعها البشر في كل زمان! "، إلى أن قال: "ويقف المؤمن ثالثًا: أمام ارتضاء الله الإِسلام دينًا للذين آمنوا .. يقف أمام رعاية الله -سبحانه- وعنايته بهذه الأمة، حتى ليختار لها دينها ويرتضيه .. وهو تعبير يشي بحب الله لهذه الأمة ورضاه عنها، حتى ليختار لها منهج حياتها". . . ."إن ارتضاء الله الإِسلام دينًا لهذه الأمة، ليقتضي منها ابتداء أن تدرك قيمة هذا الاختيار. ثم تحرص على

الاستقامة على هذا الدين جهد ما في الطاقة من وسع واقتدار .. وإلا في أنكد وما أحمق من يهمل -بله أن يرفض- ما رضيه الله له، ليختار لنفسه غير ما اختاره الله! .. وإنها -إذن- لجريمة نكدة" (¬1). ومن المهم إدراك أن شمولية الإِسلام وكفايته وحاجة الناس إليه، والتي هي فوق حاجتهم لكل شيء، لا يعارض مطلب الحاجة إلى العلوم العصرية، فلا تعارض بين حاجة الناس للدين وحاجتهم لهذه العلوم، بل إن طلب هذه العلوم يُعد جزءًا من الدين عندما يرتبط الطلب بالنافع منها، كما ذُكر ذلك عن أهل العلم الشرعي في مباحث سابقة (¬2). ولذا فإنه لا حاجة لهذه الدعوى، ولا ندري كيف تظهر في المسلمين، فعلاقة العلوم البشرية النافعة بالدين هي علاقة الجزء بالكل والفرع بالأصل، فما يكون من الدين له صور، منها: أنه مما يأمر به الدين، ويحث على طلبه، مما ينفع الناس في دينهم أو دنياهم. والدين يحث على ما ينفع، وعلى طلب القوة، ويقع الانحراف عندما يُكتفى بالجزء وُينبذ الكل، ويؤخذ الفرع ويترك الأصل، هنا تكون هذه العلوم مفصولة عن حياتها ونورها، فتعوم دون هداية، وتتحول إلى أداة إفساد، عندما تفقد الإطار والتوجيه والإرشاد الرباني. يظهر بين الأسباب الاغترار بالعلم الحديث والفتنة به، ومن ثمّ الفتنة بالحياة الدنيا، وذلك ما حذرنا منه القرآن الكريم فقال -تعالى-: {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان: 33]، وقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)} [فاطر: 5]، وقال -تعالى-: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20]، وقال -تعالى-: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [البقرة: 212]، وقال -تعالى-: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185]، وقال -تعالى-: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)} [الروم: 7]، وآيات كثيرة أخرى تحذر من الفتنة بهذه الحياة، وإن كان ذلك لا يعني إهمالها، وإنما يكون ذلك بعمارتها كما أراد خالقنا سبحانه. فإذا اجتمع مع الفتنة بالدنيا مرض قلبي وبغض للدين، ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن 2/ 842 - 846، مع الاختصار. (¬2) انظر: المبحث الأول في الفصل الخامس من الباب الأول.

فهذا مما يدفع بأصحابه إلى مثل هذه الدعوى القائمة على شمولية العلم وكفايته وعدم الحاجة للدين. وقد برزت هذه الدعوى أول ما برزت في أوروبا مع ازدهار العلوم البشرية فيها ونمو تيارات فكرية علمانية ومادية -فأظهرت دعاوى منها الوضعية والعلموية القائمة على الغلو في العلم الحديث، وقد ذكر سيد قطب بأنه جاءت دعوات لهجر "التصور الإيماني المشرق الصادق الواضح الجميل" من بعض عشاق الفلسفة ومن بعض عشاق العلم، إلى "التصورات الفلسفية الكئيبة الغامضة المعقدة الجانبية" مع الفلاسفة، وكذلك "يلح علينا بعض عشاق "العلم" .. تارة مع التواضع والاعتراف بأن العلم لن يصل إلى هذه الحقيقة، وتارة مع الادعاء العريض بأن في العلم الكفاية والغناء عن "الدين"! " (¬1). ثم ذكر منهم "جوليان هاكسلي" المتبجح مستندًا إلى جهالات دينية كدليل على الاستغناء عن الدين كله، وفي ذلك يقول: "والحالة الخاصة التي تواجه الدين في المدنية الغربية هي: أن الاعتقاد في الله أدى كل ما يستطيع من فائدة، وليس في وسعه أن يفعل أكثر من ذلك. . . . ولقد أوصلنا تقدم العلوم، والمنطق، وعلم النفس، إلى طور أصبح فيه الإله فرضًا عديم الفائدة، وطردته العلوم الطبيعية من عقولنا حتى اختفى كحاكم مدبر للكون، وأصبح مجرد أول سبب أو أساسًا عامًا غامضًا"، وقد سبقه إلى هذا القول العالم الرياضي والفلكي المشهور "لابلاس" عندما سأله "نابليون" عن مكانة الرب في نظامه المقترح عن الكون، فقال: إنه فرض لا أحتاجه، وهكذا حال بعض المسلمين عندما يؤلفون كتبًا في العلوم الطبيعية، ثم لا تجد شيئًا من ربط هذا الكون المخلوق بخالقه، وغفلتهم مع قوانينه وسننه التي يسير بمقتضاها عن واضع كل ذلك وخالقه ومدبره. يقول "هكسلي" بعد ذلك: "وبإحلال المعرفة محل الجهل في هذا الميدان، وزيادة سيطرة الإنسان على بيئته نتيجة لتفكيره، يتلاشى الإله كما يتلاشى الشيطان قبله، وآلهة الدنيا القديمة، وجنيات الغابات والبحيرات، والأرواح المحلية" (¬2). يستند هذا الإلحاد الأحمق على دعاوى متناقضة وتعميمات كاذبة ترفضها ¬

_ (¬1) مقومات التصور الإِسلامي ص 51. (¬2) الإنسان في العالم الحديث، هكسلي ص 221 - 223، ترجمة حسن خطاب.

العقول الصحيحة، ولكنه الإلحاد الحاقد الذي يدفعهم لهذا الغلو والتناقض، وقد جاء الرد عليهم سريعًا كما سبق في الفصل الأول من داخل العلم ذاته: حيث انقلب العلم المعاصر على كثير من دعاوى الغلو التي عرفتها تيارات "الوضعية" و"العلموية" و"المادية"، وجاء الرد من واقع المجتمعات المعاصرة، التي عرفت التقدم في العلوم العصرية، كيف تساوى شرها مع خيرها، وضرها مع نفعها، وأصبحت مشكلات العلم تُخيف العقلاء وتحبط كل تلك الدعاوى بكفاية العلم. اكتسب العلم الحديث ولاسيّما في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر -بحسب كلام "باشكيل"- مفهومين هما: أنه معرفة مطلقة قطعية وغيره ليس كذلك. كما أنه معرفة مطلقة شاملة؛ لذا فهو يبحث في كل شيء وما لا يدخل فيه يطرد من عالم الحقيقة، وقد تسبب هذا التوسع للعلم بصراعه مع الدين، فالعلم يوسع كل يوم من ساحته ويخطو نحو السيطرة على عقل الإنسان وروحه (¬1). فظهرت نزعة المغالاة في العلم التي تخضع له سائر الأشياء في ضوء نجاحاته الكبيرة، ومع ظهور كتب كثيرة في الغرب تعالج هذه المشكلة، إلا أنها لم تحظ بعناية كتلك الوضعية التي حظيت بعناية (¬2). ولكن هذه "الوضعية" و"العلموية" و"المادية" قد اصطدمت بتحديات وأسئلة تخفف من غلوها وتدفع العاقل للبحث عن إجابات خارج دائرة العلم الحديث، ومن ذلك: ماذا توصلنا إليه تلك الوضعية والغلو في العلم؟ وما القيم التي توصلنا إليها في النهاية؟ فقد غمرتهم إنجازات العلم ومكتشفاته وأنستهم الجانب المظلم الذي ولد بجانبه عندما انفصل عن التوجيه السماوي. يكفي حتى في الجانب المادي أن نرى الجانب المخيف المرتبط بالعلم: الحروب المدمرة والمهولة في القرن الرابع عشر/ العشرين، الدمار البيئي المخيف، اليأس وفقد معنى الحياة؛ فكيف تكون الحياة في المقابل عندما لا يكون هناك إيمان بالرب سبحانه أو باليوم الآخر (¬3). عندما يحصر العلم همّه في هذه الآلة الكونية لفحص أجزائها وتعرف قانون ¬

_ (¬1) انظر: موقف الدين من العلم، د. علي باشكيل ص 57 - 59. (¬2) انظر: من العلم العلماني إلى العلم الديني، مهدي كلشني ص 49 - 50. (¬3) انظر: موقف الدين من العلم ص 148 - 161.

سيرها، إنما يعنيه من وراء هذا البحث تنظيم الجهد الإنساني وتنسيقه على وفق ذلك القانون الآلي، ويُهمل السؤال عن صانع هذه الآلة وواضع ذلك النظام لعدم تخصصه في ذلك، وتُلام إذا جعلت ذلك الحد قيدًا للعقل حيث يغرق في اللحظة الحاضرة ويقتنع بها هاربًا عن الماضي السحيق والمستقبل البعيد والغيب المحيط، فيهبط من عرش إنسانيته إلى صف الحيوانية "ويسكت ذلك الصوت السماوي الذي يناديه من أعماق روحه، مستحثًا له على استكمال فطرته، زاجرًا له عن الاكتفاء بنظره في حاضر الأشياء وحاضره، عن التطلع إلى مبدئها ونهايتها، وإلى مبدئه ونهايته" (¬1). رغم أن الاتجاه الوضعي والحسي والمادي "العلموي" قد جعل المرجعية العليا للعلم إلا أنه -في الغرب- واجه أسئلة صعبة، واعترف بها مفكرون في دائرة العلم ذاته، وبحسب "كلشني" فمن هذه الأسئلة: التشكيك في قدرة العلم على تامين إجابات حيال الأسئلة الرئيسية التي تشغل الإنسان: كيف ابتدأت الأشياء؟ من أجل ماذا نحن هنا؟ ما هدف الحياة؟ البدايات والنهايات؟ وغيرها. لقد كان الثمن باهظًا عند الاستسلام لذلك الغرور بالعلموية والحسية، وغيرها (¬2). ولهذا لم يعد مستغربًا نقد العلم، بل أصبح ظاهرة فكرية صحيحة في الغرب وذلك -وبحسب "أحمد شوقي"- لا يتعارض مع الدفاع عنه وعن منجزاته، والنقد هو روح العلم (¬3). ثم ذكر ثلاثة اتجاهات يصب فيها نقد العلم هي: "العلموية - العلاقة بين الدين والعلم - مدى حيادية العلم"، ويهمنا منها الأول: "وتعني العلموية باختصار الاقتناع بالقدرة غير المحدودة للعلم على تفسير كل ما في الكون، وبأنه في رأي بعض غلاة العلموية الوسيلة الوحيدة للمعرفة التي تملك الحل السحري لكل مشكلة. . . . وينتقد هذا الاتجاه بأن العلم لا يستطيع الإحاطة بالجوانب المعرفية ذات الطبيعة الأخلاقية أو الجمالية أو الدينية، أو الروحية بشكل عام. كما أن لامحدودية قدرته أمر لا يتسق مع الواقع" (¬4)، إن هؤلاء يقدمون صورة من صور عبادة العلم التي لا تتفق مع كون ¬

_ (¬1) انظر: الدين، د. محمَّد دراز ص 51 - 52 وما بين القوسين ص 52. (¬2) انظر: من العلم العلماني إلى العلم الديني ص 95 - 104. (¬3) انظر: إلا العلم يا مولاي، د. أحمد شوقي ص 16. (¬4) انظر: المرجع السابق ص 17.

العلم يواصل تقدمه (¬1)، كما "أن هذا الإيمان شبه الديني بالتقدم العلمي لم يدم أكثر من قرنين. فقد تلقى أول ضربة موجعة له مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، وتلقى الضربة الثانية مع الحرب العالمية الثانية"، حيث عادت أمة العلم تتقاتل فيما بينها بوحشية مدهشة (¬2). ربما يكون من مناسب الاستفادة من تواضع بعض العلماء المشهورين في هذا العصر رغم قصور تصورهم عن الدين، فهذا أحد أبرزهم في الغرب "أينشتين" يقول: "إن العلم حادّ البصر حين يكون متعلقًا بالأدوات والمناهج، ويكون فاقد البصر حين يتعلق الأمر بالقيم والأهداف"، ولم يكن بحسب "د. عفيف" "في عداد الذين يعتقدون أن التقدم العلمي والثقافي يفضي بالضرورة إلى السعادة أو حتى إلى الحضارة: "إن تحسين شروط حياة الإنسان لا تعتمد على المعرفة العلمية بالضرورة، وإنما على تحقيق المثل الأخلاقية والتقاليد الإنسانية"" (¬3)، ومع أنه يؤكد وجود إنجازات من داخل العلم، ومع ذلك فهو يقول: "لكن الأمر الذي لا يقل وضوحًا هو أن المعرفة بما هو موجود لا تقود تلقائيًا إلى معرفة ما يجب أن يوجد. فقد يحيط الإنسان بمعرفة الوجود بالكامل، ويبقى رغم ذلك عاجزًا عن الاستدلال على الهدف الذي يجب أن تتجه نحوه مساعينا وتطلعاتنا" (¬4)، وعن العلاقة بين الدين والعلم يقول: "إن علمًا بدون دين هو علمٌ أعرج، ودين بدون علم هو دين أعمى" (¬5). فهذه الشهادة من أحد أبرز علماء العصر في العلوم الحديثة يبطل مقوله كفاية العلم، وقد يكون تصوره الديني معوجًا وفقيرًا كغالب من عاش في تلك الحضارة الفقيرة في باب الدين، إلا أنه من خلال معرفته الجيدة بالعلم يبطل مقولة شمولية العلم وقدرته على إجابة كل الأسئلة وتغطيته الحاجات الكبرى للإنسانية. وقد جاءت المواجهات للعلموية من داخل الفكر المعاصر، وينتقدونها "بأن ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق ص 18. (¬2) انظر: مدخل إلى التنوير الأوروبي، هاشم صالح ص 241. (¬3) رؤية آينشتين لليهودية ودولة اليهود، د. عفيف فراج ص 21 - 22. (¬4) المرجع السابق ص 43. (¬5) المرجع السابق ص 45.

مناقشة دعوى كفاية العلم وشموليته

العلم لا يستطيع الإحاطة بالجوانب المعرفية ذات الطبيعة الأخلاقية أو الجمالية أو الدينية، أو الروحية بشكل عام. كما أن -دعوى- لامحدودية قدرته أمر لا يتسق مع الواقع"، وما إن يظهر أحد من غلاة العلموية حتى يجد من يرد عليه ويبطل غلوه (¬1)، كما أن التقدم العلمي ذاته عندما ابتعد عن الدين انقلب عكس ما يريدون (¬2). مناقشة دعوى كفاية العلم وشموليته: تحليل هذه الدعوى يكشف وهمها وزيفها ويكشف خطرها، كما يكشف الثغرات التي فيها، ويكشف زخرفها الكاذب {زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112]، فماذا يُقصد بكفاية العلم وشموليته عند دعاة العلموية؟ 1 - إما أنه شارك في كل باب ومن ذلك الأبواب التي غطاها الدين. 2 - أو أنه قد كفى في كل باب. أما دخوله كل مجال ومشاركته في أغلب أبوابها فأمر وارد، ولكن ليس كل مشارك للدين في موضوعاته تكون مشاركته صحيحه ونافعة، فإن كل الفلسفات والوثنيات والأديان الباطلة والأيديولوجيات العقلية قد شاركت وبحثت بشكل شمولي لأغلب القضايا وقدمت إجاباتها لأغلب الأسئلة الإنسانية، ولكن هل كانت مشاركتها صحيحة؟ ثم هل هي مع هذه المشاركة قد كفت الناس وشملت حاجتهم، وأفادتهم؟ في أكثر المزاعم في هذا الباب. ولكن بالعودة إلى عقلاء العالم، ولاسيّما طائفة من العلماء تجدهم يعترفون بعدم كفاية العلم، إلا أن عيشهم في حضارة علمانية وانتماءَهم لدين محرف جعلهم يحتارون في ذكر البديل أو ذكر الأصل العام الذي يحتوي الحياة ويوجهها. فمشاركة العلم إذًا لكل مجالات الحياة لا تعني الصحة فضلًا عن دعوى الكفاية، والإنسان كما يقول -سيد قطب- محدود في الزمان والمكان ¬

_ (¬1) إلا العلم يا مولاي، د. أحمد شوقي ص 17 والكلمة الاعتراضية من الباحث. (¬2) من بين الكتب التي تكشف الوجه الآخر للتقدم العلمي، وهو وجه قبيح يعيده المسلم للبعد عن الدين، نجد كتابًا مهمًا من شهاداتهم بأنفسهم هو: خدعة التكنولوجيا، جاك الول، ترجمة د. فاطمة نصر.

والوظيفة. . . . كما أنه محكوم بضعفه وميله وشهوته ورغبته فوق ما هو محكوم بقصوره وجهله. . . . فالإنسان "وهذه ظروفه، حينما يفكر في إنشاء تصور اعتقادي من ذات نفسه، أو في إنشاء منهج للحياة الواقعية من ذات نفسه كذلك، يجيء تفكيره محكومًا بهذه السمة التي تحكم كينونته كلها. . . ." (¬1)، إلى أن قال: "فأما حين يتولى الله -سبحانه- ذلك كله .. فإن التصور الاعتقادي، وكذلك المنهج الحيوي المنبثق منه، يجيئان بريئين من كل ما يعتور الصنعة البشرية من القصور والنقص والضعف والتفاوت .. وهكذا كان "الشمول" خاصية من خواص "التصور الإِسلامي"" (¬2)، ثم ذكر صورة الشمول الحقيقية للإسلام التي لا يحققها العلم ولا غيره كما يدعيها المنحرفون عن الحق، ومن ذلك: رد هذا الوجود كله إلى المدبر الخالق سبحانه، وذلك يعطينا تفسيرًا مفهومًا لوجود الكون ابتداء، ثم لكل حركة فيه بعد ذلك، وكل انبثاقة، ولاسيّما انبثاقة ظاهرة الحياة. ثم إن التصور الإِسلامي يوضح حقيقة الألوهية بصورتها النقية، كيف لا وهي من الإله ذاته سبحانه، وما يرتبط بها من عبودية، فتعرفنا بربنا سبحانه تعريفًا متكاملًا وشاملًا، ولذلك آثاره. ثم تعرفنا بطبيعة الكون الذي نعيش فيه وخصائصه وارتباطه بخالقه، ثم تعرج على الحياة والأحياء ورابطة العبودية بينهم وبين ربهم، ثم الإنسان من هو؟ وما دورهُ؟ كما أن هذا التصور الإِسلامي يوجه خطابه للكينونة الإنسانية بكل جوانبها مع ردها إلى مصدر واحد تتلقى عنه، فيكون الإِسلام منهجًا متكاملًا للعبادة والمعاملة (¬3). ولا شك أن هذه المساحة كلها لا يستطيع العلم أن يأتي بشيء ذي بال حولها، وإن شارك فلا تعني مشاركته صحة كل مسألة شارك فيها فضلًا عن دعوى كفايته. ويغلب على الملحدين دعوى المشاركة، فهم يعترفون بأن العلم يشارك الدين في موضوعاته، وأنه قد لا يريح الناس كما يفعل الدين، كما أنه قد لا يكون صحيحًا في كل مسألة. ولكنهم بسبب إلحادهم وإنكارهم للدين يجعلون مقولات الدين حول تلك الأصول هي نظريات أبدعها البشر. تكون في تخلفها ¬

_ (¬1) انظر: خصائص التصور الإِسلامي ومقوماته، سيد قطب ص 91. (¬2) المرجع السابق ص 92. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 92 - 109.

بحسب المرحلة والعصر الذي قيلت فيه، حتى جاء العلم وبدأ يقدم نظرياته في تلك الأصول نفسها، وقد لا يريح وقد لا يصيب إلا أنه كعلم يقبل النقد والتطور والتصحيح بخلاف الدين الذي لم تثبت صحته أو لم تثبت فائدته. وهنا أربعة أصول فاسدة: "عدم صحة الدين" و"انتهاء فائدته" و"صحة العلم" و"وشمولية فائدته"، ويغلب عليها مشكلة البيئة التي ظهرت فيها، فإن عدم صحة دينٍ ما لا يعني عدم صحة الدين، فقد برزت في الغرب دراسات نقدية حول دينهم ثبت عندها بطلان كثير من أصوله الدينية، ثم ظهرت الدراسات الإنتربولوجية فاعتنت بالأديان البدائية وربطت هذه بتلك وخرجت بقاعدة حول عدم صحة الأديان وأنها إنتاج بشري -كما سيأتي الحديث عنه في الفصل الأخير- ولا شك أن الدين الباطل تنتهي فائدته المتوهمة سريعًا، ولكن ذلك لا علاقة له بعموم الدين وبالدين الحق، ومن هنا تبقى حاجات بشرية لا يجيب عنها إلا الدين، ومما يدل على هذا: بأن صحة العلم في أبواب لم تؤهله لتلبية تلك الحاجات البشرية حول الوجود وموجده، والإنسان وعمله ومصيره، وغاية الكون وما بعده، والغيب والآخرة، والغايات والقيم، فمع صحة العلم وفائدته في أبوابه إلا أنه لا يوجد علم مطلق يفيد في حاجات البشرية السابقة. فضلًا عن أن العلم حتى في أبوابه لم يجلب فقط الفائدة، بل جلب معه مشكلات ضخمة لم يجلبها غيره في تاريخ البشرية من جهة حجم شرها وضخامته، ويكفي النظر إلى تلك الأسلحة الحديثة وضحاياها في القرن الأخير. فهذه الأصول الفاسدة جعلتهم يُشبهون الانحرافات التي اخترعها بعضهم في الدين أو آراء وضعوها حوله، مثل تلك التي يخترعها العلماء في مجالات العلوم الرياضية والطبيعية والاجتماعية، ولا يصح هذا التشبيه، فما ابتدع الناس في أبواب الدين هو من الباطل الذي يُرد، أما ما يبدعه العلماء في أبوابهم فإن مقياسه هو مقياس العلم من أساليب التحقق المختلفة. ولذا فإن الدين الحق لا يستطيع شيء أن يغطي مكانه، أما الدين الباطل فكل ما عندهم هو إثبات بطلانه دون قدرتهم على وضع بديل عنه، وما يزعمونه في العلم إنما هو دعوى لا تصح؛ لأن الأسئلة البشرية التي سبق ذكرها حول الوجود والموجد والإنسان ودوره ومصيره والكون وغاياته وحاله ومصير الوجود مما يُقلق البشر لا يجيب عنها العلم، ويبقى مكتفيًا بأنها مسائل لا تدخل في

إطار العلم، وما لا يدخل في إطاره فليس بعلم، ولا يقبل، وهذا أصل فاسد آخر؛ فإنه ليس كل ما لم يدل عليه العلم ليس بعلم؛ لأن الأدلة كما سبق في باب المنهج متنوعة، منها التجريبي الحسي ومنها الاستنباطي ومنها خبر الصادق. وقد يكابرون بأن العلم وإن لم تتحقق له الشمولية والكفاية -الآن- فإنه في الطريق إليها، ولكن هذا المزعم مع المفكرين الماديين وغيرهم يبطله علماء من دائرة العلم ذاته، ويبطله التفكير الصحيح، فالإنسان يبقى محكومًا بطبيعته ومحكومًا بوظيفته، فأما طبيعته فهي طبيعة أنه مخلوق حادث، ولهذا يبقى إدراكه محدودًا بما تحده به طبيعته. وأما وظيفته فهي وظيفة الخلافة في الأرض لتحقيق معنى العبادة لله، فوُهب من الإدراك ما يناسب هذه الوظيفة (¬1). وبما أنه محدود فهناك أمور تخرج عن قدرته للإحاطة بها، وإن استطاع بعقله إدراك بعض أمورها، فإن العقل الصحيح يصل إلى أمور من الدين، ولكنه لا يستطيع الإحاطة بها، فإن لم يهتد بالوحي ضلّ فيها؛ ولهذا جاءت الرسالة والنبوة وتنزيل الكتب، فأرسل الله رسله حتى لا يبقى للناس حجة، قال -تعالى-: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)} [النساء: 165]. وإن الإنسان في ما أُذِنَ له بالعلم والبحث من أمور المخلوقات ليجهل الكبير، فكيف بما لم يُأذن له به (¬2)! بل قد تفتح بعض الاكتشافات عقول المكتشفين إلى مساحات أكبر من العالم المجهول وهم يظنون أن تلك المساحات ستضيق مع تلك الاكتشافات فإذا هي تتسع، وهم أمام مجال مأذون لهم فيه، ومجال محدود بين أيديهم، ويكفي النظر في عالم الذرة، وعالم الخلية، من عالم المادة أو عالم الحياة، لنرى تلك المساحة الهائلة من جهل الإنسان بهما، وهما المحدودان الصغيران الموجودان بين اليدين فكيف الأمر مع قضايا غير محسوسة من أمور المعاني أو من أمور غيبية كبيرة (¬3)، وقد كان الأصل للعقلاء أن يدفعهم مثل هذا الأمر إلى الإيمان والتسليم والبحث عن الدين والإيمان، ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق ص 47 - 49. (¬2) انظر: كمؤشر على ذلك كتاب كاريل: (الإنسان ذلك المجهول)، فهو شهادة من ميدان العلم. (¬3) انظر: الفصل الثاني من الباب الثاني، ولاسيّما المبحث الأول.

نماذج من الانحراف التغريبي حول هذا الباب

وهذا ما نجده مع مجموعة ممن ارتبط بهذه العلوم من اندفاع نحو الدين والإيمان بحسب ما يجده حوله أو يمليه عليه عقله ووجدانه. وفقه شمولية الإِسلام يريح البشرية، فهو يريحهم من الحركة في أبواب لا يستطيعونها فيقفون عاجزين أمامها أو منكرين لها دون دليل، فيأتي الوحي بالحديث عنها بما يكفي ويشفي ويريح، ويفتح لهم أبوابًا للحركة، فيتحركون فيها: فيكتشفون ويبدعون، وهذا فيه رد على من يفهم من الشمولية أن فيها تعطيلًا للعقل والعمل الحر والإبداع والابتكار والاكتشاف، فكل شيء بحسب فهمهم للشمولية موجود سلفًا، وهذا لا يصح؛ فإن العقل يعمل في إطار الإِسلام في أبواب الدنيا بما ينفع ويفيد، بل حتى في أبواب الدين فهناك الاجتهاد الذي يُعد من إعمال العقل في المستجدات والتجديد الذي يعد من إعمال العقل في التصحيح، بحيث يكون الاجتهاد للمستجدات والبحث عن إطار إسلامي لها، بينما التجديد هو إزالة ما لحق بالدين من انحراف شوّه صورته وفتح الباب لانتقاصه أو الزهد فيه؛ فيُصفي الدين وينقي ما ابتدعه الناس، وعندما يكون بصفائه يكون قادرًا على الشمولية والكفاية. نماذج من الانحراف التغريبي حول هذا الباب: النموذج الأول: إذا عدنا إلى النموذج التغريبي الأول -"الداروني"- الذي ظهر قبيل الاستعمار وانتفش بعد حلوله نجده يُعلن باقتراب نهاية الدين واختفائه وزواله، وأن المساحة التي كان يشغلها الدين سيشغلها العلم ويتكفل بسدّها بحسب زعمهم، والحلّ عند "شميل" مثلًا في العلم، ولكن العلم عنده هو "المذهب الداروني" (¬1)، ولاسيّما في صورته البوخنرية -نسبة إلى "بوخنر"- وهو مذهب فكري نشأ على هامش العلم وليس علمًا، ومع ذلك فهو يصوره على أنه علم، وأنه البديل الذي يقوم مقام الدين، ومع ما في هذا من تضييق شديد لمفهوم العلم لا يقبله حتى بعض العلمانيين بحيث يصبح الجزئي علاجًا للكلي، ففيه دلالة مَرَضية خطيرة تدفع أصحابها لدخول جحر الضب إن دخله المتبوع. ¬

_ (¬1) انظر: الفلسفة النشوئية وأبعادها الاجتماعية. . . .، د. محمود المسلماني ص 97.

والأمر أشدّ وضوحًا عند تلميذه "سلامة موسى"، فالعلم ليس بديلًا عن الدين فقط، بل يتحول العلم إلى دين (¬1)، فالدين الذي كان فيه السعة والشمول ومعالجة مشكلات لا يستطيعها غيره سيكون العلم مع غلاة المتغربين الدين الجديد الذي يغطي مساحات شغلها الدين سابقًا. ومع اعتراف "سلامة موسى" بأن المدينة الأوروبية -التي هي مدينة العالم أجمع؛ لتقدم العلوم فيها بجميع فروعها- توشك أن تقع في هوة الفوضى بسبب التفاوت بين التقدم العلمي وبين القيم والنظم والأخلاق والآداب (¬2). . . .، وهذه الهوة لن يكون علاجها بالرجوع للدين الحق وإنما وتبعًا لاقتراح كاتب إنجليزي -"ولز"- في "أن تؤلف توراة جديدة توافق العصر الحاضر، تضعها فئة منتقاة من العلماء والفلاسفة والأدباء، وينبغي تنقيحها كل عام وفق مطالب الحياة، ثم تترجم إلى جميع اللغات في العالم، فتكون دستورًا للناس" (¬3)، ثم قال: "والخلاصة أنه لكي تنتفي الفوضى الراهنة، يجب أن تجعل الأخلاق وفق المستكشفات والمخترعات العلمية الحديثة. . . ." (¬4). وبقدر ما نرى من غلو في الذات ومركزية (¬5) مدهشة عند "ولز" بحيث هم من يؤلف التوراة الجديدة، ثم على العالم الانصياع لها، بقدر ما نجد هذا الانسحاق المدهش من قبل المتغربين، وإن كان الجيل الأول منهم يتماهون كثيرًا مع الغربيين بسبب الاشتراك في أصل الديانة ثم في العلمنة، فلا يستغرب ذلك منهم كما يستغرب من المتغربين في المراحل اللاحقة. وما يهم -الآن- في هذا النص هو الاعتراف بأزمة العلم الذي جُعل بديلًا عن الدين ومغطيًا مكانه بحيث يحقق الشمول ثم هو عاجز عن إسعادنا، وعاجز عن رفع الخوف والقلق حتى فيما هو ماهر فيه، فكيف بما هو ليس من مجاله من المطالب الإنسانية العالية. ثم يكون البديل هو نوع من الاحتيال على الدين الحق، ¬

_ (¬1) انظر: سلامة موسى بين النهضة والتطوير، د. مجدي عبد الحافظ ص 18. (¬2) انظر: اليوم والغد، سلامة موسى ص 114. (¬3) المرجع السابق ص 115. (¬4) المرجع السابق ص 117. (¬5) انظر حول مفهوم المركزية الغربية كتاب د. عبد الله إبراهيم، (المركزية الغربية - إشكالية التكون والتمركز حول الذات).

النموذج الثاني

فإنه لاعتراف عجيب بحاجة الناس إلى توراة، أليس هذا هو ما يهربون منه ثم هم يقعون فيه؟! فلماذا لا يكون هو الدين الحق وتُختصر كل تلك المسافة؟! النموذج الثاني: قريبًا من النموذج السابق -ولا سيّما في طريقة العلاج، وإن بصورة أذكى- ما نجده عند أحد المهتمين بالمجال العلمي مع اجتهاده في الدفاع عن العلمنة، وهو الدكتور "فؤاد زكريا"، تقتصر النظرة الشمولية عنده على الدنيا ومشكلاتها في العلاقة بالعلم مثل: الغذاء والسكان والبيئة والموارد الطبيعية والوراثة وغيرها، فهي مشكلات ناتجة عن تقدم العلم ذاته، فالتلوث مثلًا في البيئة هو بسبب التقدم العلمي، عندها يأتي السؤال في مثل هذا المثال: هل يعالجها العلم؟ (¬1) مع أن الأمر أعم من هذه النظرة الجزئية للحياة الدنيوية؟ فالإنسان ليس فقط بدنياه وإنما هناك أمور أخرى تشغله وتأخذ بتفكيره واهتمامه، أما الأمور الجزئية الدنيوية فقد يقال: إن العلم يمكنه الإسهام في حلها، ولكن في ذلك هروب عن الأسئلة الأعلى، ولنأخذ جوابه عن هذه الجزئية: "الآراء تختلف في هذا الموضوع، بين أولئك الذين يؤمنون بأن العلم هو الذي يستطيع أن يحل كافة المشكلات التي خلقها تقدمه السريع، وأولئك الذين ينادون بضرورة الاستعانة بمصادر أخرى غير العلم لكي نعيد ذلك التوازن الذي أخل به العلم. . . ." (¬2). فأهل الرأي الأول يرون بأن تقدم العلوم الإنسانية كفيل بمعالجة الأضرار الناتجة عن تقدم العلوم الطبيعية (¬3)، ولكن ألا يمكن أن يُقال باحتمال بروز مفاسد منها كما وقع من العلوم الطبيعية! وستأتي شهادات من أهل التخصص فيها بأنها تعيش أزمة لا تؤهلها لأن تكون قادرة على القيام بذاتها فضلًا عن معالجة مشكلات كبيرة كهذه. أما أهل الرأي الثاني المعترضرن على إمكانية قدرة العلم على معالجة تلك المشكلات، "فحين نتحدث عن طريقة توجيه حياة الإنسان وتنظيم مجتمعه، ¬

_ (¬1) انظر: التفكير العلمي، د. فؤاد زكريا ص 281. (¬2) المرجع السابق ص 282. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 282 - 284.

النموذج الثالث

نخوض مجال القيم والغايات الإنسانية، وهو مجال يهم البشر جميعًا، لا العلماء وحدهم. . . . وإنما الواجب أن يشارك فيه المفكرون والأدباء والفنانون والفلاسفة، وكل من يهمه مصير الإنسانية ويفكر في هذا المصير بنزاهة وتجرد" (¬1)، ثم النتيجة بأنه لو "وصل عالمنا إلى المرحلة التي يكون فيها لهؤلاء العلماء مع الفلاسفة والأدباء والفنانين والمفكرين والاجتماعيين والأخلاقيين، كلمتهم المسموعة، لأمكنه أن يوازن بين تقدمه العلمي وتنظيماته الاجتماعية، وأن يحقق للبشرية ذلك الرخاء، وتلك الحياة الغنية -ماديًا ومعنويًا- التي يستطيع العلم "بقدراته الحالية" أن يحققها لنا. . . ." (¬2). لا تختلف فكرة المعالجة تلك التي قدّمها "سلامة موسى" عن "ولز"، ومما يلاحظ بأن الكاتب قد أعطى مكانة مميزة للعلم، ولا مانع من ذلك، ولكنه في الوقت نفسه يرفض إدخال الدين كمجال يجلب التوازن ويحقق السعادة والطمأنينة، وإن شيئًا من التوازن لا يمنع من إدخال الدين وعلمائه في قائمة الفنانين والأدباء والمفكرين، فليسوا نَكِرة حتى يتم استبعادهم لولا هذا المرض العلماني الذي يدافع عنه الكاتب في نشاطه. فإذا تجاوزنا ما سبق فإن هذه النظرة يعيبها اختزال حياة الإنسان في النواحي الحيوانية من حياته، والوقوف فقط مع تلك الحاجات وفي حدود الدنيا فقط، وتغفل عن الآخرة، وعن ما هو أعلى من ذلك: وهو الحاجة للإيمان بالله والصلة به والشعور به وعبادته، وهذه لا يستطيع العلم الدنيوي ولا ذاك الفريق المقترح أن يحققها، ولذا تبقى الحياة القلقة النكدة، ويبقى دمار الأرض ما لم يربط الحل بالدين. النموذج الثالث: وكان الدكتور "زكي نجيب محمود" يسير في هذا الاتجاه بسبب انتمائه لمذاهب "الوضعية"، الذي يرى بأن العلم وحده يكفينا، ولكنه منذ أول الستينات بدأ يُدخل الوجدان كحاجة إنسانية، فظهر في كتابه: "الشرق الفنان" مساحة للوجدان في بناء الحضارة (¬3). ¬

_ (¬1) المرجع السابق ص 285. (¬2) المرجع السابق ص 287. (¬3) انظر: الفكر الديني عند زكي نجيب محمود، د. منى أبو زيد ص 236.

ومع ذلك تبقى الرؤية العامة لهذا المفكر متأثرة بدعوى شمولية العلم وقدرته على تغطية كل المساحات أو أغلبها، حيث بقي جانب النظام في الحياة موكولًا للعلم، بينما الجانب الوجداني يمكن أن يدخل فيه الدين مع غيره من الأمور الوجدانية، وواصل الثبات على الدعوة للعلمانية وإنْ بصورة أقلّ حدّة من سابقيه (¬1)، فحصر دور الدين في تقديم "المبادئ الأساسية التي نسلك على هداها، والتي من شأنها أن تبلور لنا رؤية خاصة، وموقفًا معينًا من الكون والحياة بصفة عامة" (¬2)، فهو يُضيق من شمولية الدين ويوسع من شمولية العلم، ومع كل هذه التحولات لهذا الكاتب نحو تخفيف غلوّه الوضعي فقد بقي معه من آثارها أن بقي العلم الحديث هو المقدم، والعودة للدين تكون عند الحاجة. أعطى للعلم مطلق ثقته وأعطى للدين مساحة ضيقة تتبع الوجدان، وحاصل الحال أن الحياة تُركت للعلم وأبقى جزءًا ضئيلًا للدين، ويكون دور الدين -في المرحلة المتأخرة من فكره- مع هذه الحضارة المادية التي تطغى على حياتنا المعاصرة هو إعطاء القيم، بينما حقيقته أوسع من ذلك، إنه يشمل الإنسان كله، قال -تعالى-: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)} [الأنعام: 162]، ذكر "السيوطي" في "الدر المنثور": "عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: وددت أن كل مسلم يقرأ هذه الآية مع ما يقرأ من كتاب الله" (¬3). وقال "الثعالبي" في تفسيره: "وفي إعلان النبي - صلي الله عليه وسلم - بهذه المقالة ما يلزم المؤمنين التأسي به؛ حتى يلتزموا في جميع أعمالهم قصد وجه الله - عز وجل -" (¬4). فالمحيا يكون بكل ما فيه لله سبحانه، إما أنه لله؛ أي: لوجهه سبحانه، أو أنه لله؛ أي: ملك لله (¬5)، وبهذا يكون الدين شاملًا لحياة الإنسان؛ لأن الإنسان هو ملك لله وعليه تبعًا لذلك أن يعيش وفق دينه الذي أمره به. قد يلحظ الباحث التقلبات حول العلاقة بالدين مع التيار التغريبي المهتم بالعلم وفلسفته، فمع الجيل الأول كانت هناك أوهام بزوال الدين وتوحد العلم ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق ص 13 وما بعدها. (¬2) قيم من التراث، د. زكي نجيب محمود ص 331. (¬3) الدر المنثور. . . .، السيوطي 6/ 306. (¬4) تفسير الثعالبي 1/ 523. (¬5) انظر: زاد المسير، ابن الجوزي 3/ 123.

النموذج الرابع

بالساحة. ثم ظهرت مشكلات فأحيلت مع جيل لاحق إلى العلم ذاته، ولكن إلى شق آخر منه، بحيث يولّد المشكلات ويعالجها في الوقت نفسه ولكنه لم ينجح في ذلك. فظهر مع جيل معاصر إعادة الحديث عن دورٍ ما للدين، وإن كان دورًا ضيقًا وهامشيًا، ولا يُستغرب ذلك، فتمكن العلمنة والتغريب والشُبَه من القلوب مع ما ينازع عقلاءَهم من مشكلات يرون الدين هو الأقدر على حلها، تجعلهم بمثل هذا الاضطراب والحيرة في علاقتهم بالدين، ولكن هناك مؤشر آخر له أهميته: أن الدين ذاته يفرض نفسه بقوة ولا يمكن حتى مع المتغربين أن يتم تجاهله تمامًا، والخطورة هنا أن ينساق بعض الناس خلف المجالات التي يريد المتغربون جعلها للدين، بينما الدين أوسع من ذلك، فليس أخذ الدين من أجل الترقيع وإكمال ثغرات وحل مشكلات، وإنما أخذ الدين يكون بحق وبقوة، والاستمساك به والاعتصام به يكون أصلًا وغيره فرع عنه وتابع له. النموذج الرابع: يصعب القول بأن العلم الحديث -لوحده- فيه كفاية وأنه يشمل حاجات البشرية، ولهذا نجد المتغربين يضيفون له الثقافة التي نشأ فيها، والحضارة التي ظهرت معه، وهي هنا الثقافة والحضارة الغربية، فإذا كان العلم الحديث قد نشأ في الغرب فلنأخذه ولنأخذ ما حوله كما يقولون. يتحول العلم هنا إلى ذريعة لجلب الحضارة الغربية بكل مكوناتها لتكون بديلًا عن هويتنا وثقافتنا التي يريدون منا تركها، هذا بارز في دعاة التغريب والعلمنة من غير المهتمين بالعلم ذاته وإنما همهم الفكر والأدب الفن والثقافة الغربية، ويجعلون العلم وسيلة لذلك الهدف، ويتذرعون بمصطلح الكونية والشمولية والعالمية للثقافة الغربية. من بين أبرز من أصّل لهذا المصطلح "الكونية" "عزيز العظمة"، فهو يروج للعلمانية تحت دعوى "الكونية"، ويستند إليه لتبرير انسياق التيار التغريبي نحو أخذ كل ما في الغرب، وأن كل ثقافتنا مصيرها الفناء لتترك الباب خلفها لكونية غريبة لا محالة، وهو البديل عندهم لثقافتنا وحضارتنا وديننا. إن الغرب الحديث بكل ما فيه هو مصير العالم كله، وتاريخ الغرب هو التاريخ الكوني الذي يبتلع كل التواريخ "فالتاريخ الكوني هو تاريخ طبيعي ينتظم كل التواريخ ويصحح

اعوجاج كل تاريخ مفوت بابتلاعه في كونيته الناجزة" (¬1). وقد داهمتنا -بحسب كلامه- هذه الثقافة الكونية الجديدة من القرن الثالث عشر/ التاسع عشر وما بعده، وأصبحت هي ثقافتنا الرسمية الجديدة التي تأسست على الثقافة والعلوم الأوروبية بينما انزوت ثقافتنا الدينية على هامشها (¬2). وأبرز من طبق هذه الثقافة الكونية هو "كمال أتاتورك"، ولذا تُعدّ التجربة الكمالية العنيفة والغاشمة نموذجًا مميزًا عند هذا المتغرب، فألغى أتاتورك الخلافة ومؤسساتها الدينية في مجال التشريع "في زمان لا يحتمل الغيب والمفاهيم اللاتاريخية" كما يقول، وأبعد المؤسسة الدينية عن مجال التربية والثقافة مجاراة لوجهة تاريخية كونية لا تحتمل الدين وغيبياته أسسًا مقبولة للمعرفة والعلم، لقد "جاءت العلمانية الكمالية انخراطًا تامًا في الزمانية العالمية. . . . واستطاعت الانخراط في الكونية"، وأن مجتمعنا العربي كان له توجه عالمي ومشروع تحديثي كوني حضاري أعاقته المؤسسة الدينية بمؤازرة سياسية (¬3). الحقيقة أن العلم الحديث يضيق هنا لدرجة الاختفاء لصالح مذاهب إلحادية، بما في ذلك الإلحاد الماركسي الذي يعدّه نقدًا كونيًا ينطبق على الإِسلام؛ لأنه لا يخرج عن طبائع الأديان (¬4)، وهكذا يتخذ العلم ونظرياته غطاءً لهذا الاغتراب الرهيب والتبعية العمياء في صورة افتخارية عجيبة، مفادها أن المتغرب إنما هو أداة نافعة في كونية عالمية عقلانية. ويسير في المسار نفسه كاتب آخر هو الدكتور "عبد الرزاق عيد"، يُكثر من التركيز على الكونية كتعبير عن الثقافة الغربية التي يحق لها أن تحكم العالم، وكل من وقف ضدها فهو يقف ضد "العقل الكوني الحديث" (¬5)، وهو "العقل الكوني المحض" الذي بلغ "الحقيقة العقلية المجردة"، وفيه نجد الحقيقة وليس ¬

_ (¬1) العلمانية من منظور مختلف، د. عزيز العظمة ص 280. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 143، وانظر: كثرة ترديده لهذا المصطلح مثلًا ص 174، 193، 197، 267، 281، وغيرها. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 140، بتصرف. (¬4) انظر: المرجع السابق ص 276. (¬5) انظر: سدنة هياكل الوهم. . . .، د. عبد الرزاق عيد ص 9.

الحقيقي، فالحقيقة مدارها العقل الكوني المحض، أما الحقيقي فمداره العقل القومي المحكوم بتراثه (¬1). . . .، وهذا "العقل الكوني الحديث يعتبر نظريات الثلاثة "داروين - ماركس - فرويد" مكونات لابد منها لنظام العقل، لكي ينتمي الإنسان لزمنه وعصره الراهن، فلا يمكن للعقل أن يمارس ذاته بشكل عقلاني -وليس خرافيا وسحريًا- إذا لم يكن قد تشرّب الرؤية الثلاثية هذه للكون والطبيعة والمجتمع والنفس، رغم أن الثلاثة يتعرضون للنقد الدائب والمستمر لا لإثبات حقيقة نظرياتهم أو بطلانها، بل لإدخال هذه الحقائق في السيرورة النسبية للمعرفة، حيث العقل الحديث لا يؤمن بحقيقة نهائية معطاة وإلى الأبد. . . . وإذا كانت الرؤية المعرفية لهؤلاء الثلاثة تلتقي مع الرؤية المادية العلمية الموضوعية لسيرورة الكون، مما يجعلها متناقضة مع العقائد الذاتية والمشاعر الدينية، إلا أن صياغة هؤلاء لأسس الفكر الكوني الحديث وتشبع العقل الغربي بنظرياتهم، لم يقض على الإيمان في هذه المجتمعات. . . ." (¬2). من تناقضات هذا الكاتب -د. عيد- أن جعل الحقيقة المرتبطة بالدين "قومية" مع أن دين الإِسلام دين عام وللبشر جميعًا، أما الحقيقة المرتبطة بفكر أوروبا فهي "مطلقة" مع أنه محكوم فعلًا بواقعه، وإن كان يعود ليجعل المطلق نسبيًا، فهو يعترف بأن ماركس وداروين وفرويد ينالهم النقد لجعل أفكارهم نسبية. مع العلم أن النقد الذي تتعرض له نظريات الثلاثة ليس لإدخالها في سيرورة نسبية، فهذا إن وجد، فمن تيارات متعصبة للعلمانية، ولكن هناك تيارات أخرى تنتقدهم باسم العلم مُبيّنة بطلان مجموعة أساسية من أفكار هؤلاء، ولا شك بأن الطرف الأخير أفضل خدمة للفكر الحديث؛ وذلك أن إزالة الأخطاء والأمراض أو الاعتراف بخطئها أفضل من دمجها في سيرورة الفكر. والذي يهم الآن التركيز عليه هو هذا التحامل على ثقافتنا وتراثنا وهويتنا، الذي لا يصدر حتى من بعض أعدائنا، في مقابل تعصبٍ لا يقوم به حتى عقلاء المفكرين الغربيين، وهي حالة من الاغتراب المدهش يتفاعل مع التمركز الغربي ليولد لنا فكرًا مريضًا، فكما أن المركزية الغربية ترى عبر دعاتها أن ثقافتهم هي ¬

_ (¬1) المرجع السابق ص 16. (¬2) المرجع السابق ص 19.

الممثل لنهاية التاريخ وقمة التطور العقلي، فإنها تلقى في المقابل من المتغربين من يتمثل هذا المرض الأيدلوجي، ويكون من أقوى الدعاة له في بيئتنا. وهي حالة مدهشة فعلًا، حيث يزعم كونية الآخر ويدعو لإلغاء ذاتيتنا، وتصوير الدين وكأنه خرافة أو سحر أو مشاعر، أما "ماركس" و"داروين" و"فرويد" فبعيدون عن ذلك. قد يأتي أحد الغربيين باكتشاف معرفي مهم مما يُقْدره الله عليه، ويناسب هذا الاكتشاف أن يُعمم بحيث يكون أحد المكتشفات في دائرة العلم، وهذا لا يعارضه عاقل، ولكن لا يوجد عاقل أيضًا يجعل من فكر ذلك المكتشف ونظرياته صورة كونية، وإلا فهذا يعني جعل نظرية "ماركس" و"فرويد" حول الدين باعتباره وهمًا وخطرًا -ولابُدّ من التخلص منه إما بالعلاج النفسي مع "فرويد" أو الثورة والصراع الطبقي مع "ماركس"- ذات صورة كونية يجب استيعابها. والخلاصة أن دعاة الكونية وافتراض شمولية ثقافة الغرب العلمانية يعيشون حالة اغتراب خطيرة، تضيع فيها الفواصل والفروق، ويختلط الأمر، ويصبح المغترب مهمومًا في استيعاب ثقافة الآخرين ونشرها، دون امتلاك معايير الاختيار النافع من الفكر العالمي، ودون امتلاك الهوية المميزة. ونجد في المقابل بعض العقلاء العرب -إن كانت لهم توجهات فكرية غربية- يهاجمون هذه العملية، من دعاوى لكونية النظريات والعلوم دون الوعي بحقيقة الفوارق، وفي ذلك يقول "د. علي الكنز": "وبالفعل فإن علاقتنا بالنظريات الغربية، كأية علاقة وضعية براغماتية "ذرائعية" لا يمكن أن تؤدي إلا إلى النتائج التي توصلت إليها النظريات الغربية قد نتجت عن علاقتها بالعاملين التاليين: خصوصية مجتمعاتها وقضاياها الاجتماعية والتاريخية، من ناحية، والحقل المعرفي الذي نمت بداخله وطورت قضاياها النظرية المحددة. يكمن خطأ علماء الاجتماع العرب -في نظرنا- في اعتقادهم أنه من الممكن استيراد نظريات الغرب بغض النظر عن ارتباطها بهذين العاملين. خطأ فادح يمكن اعتباره "التباسًا تاريخيًا" حقيقيًا" (¬1)، وهذه المقولة صحيحة حتى في ميدان العلوم الأخرى. ¬

_ (¬1) نحو علم اجتماع عربي ص 100 - 101، نقلًا عن علماء الاجتماع وموقفهم من الإِسلام ص 31.

النموذج الخامس

النموذج الخامس: كما اختزل الدارونيون العرب العلم في الدارونية، وأعطوه الشمولية، فقد اختزل الماركسيون العلم في الماركسية، وأعطوه الشمولية، والجميع يصرّ أن ما يقترحه ويعرضه هو آخر صورة للعلم، ومن بين الأمثلة الماركسية ما نجد عند الكاتب "صادق العظم"، فالدين الذي كان يغطي الحياة قديمًا يعد عنده بديلًا خياليًا عن العلم، رغم اشتراكهما في تفسير أحداث وتحديد الأسباب إلا أنه بديل خيالي عن العلم (¬1)، ولذا سيكون الدين في طريقه إلى الانهيار مع تقدم العلم (¬2)، لصعوبة قبوله في ظل ثقافة علمية أتى بها الغرب (¬3). ويحاول العظم استيعاب كل عفن الفكر الإلحادي الحديث تحت اسم العلم، ويقدمه على أنه البديل الوحيد للدين الخيالي، ففي "مدخل إلى التصور العلمي - المادي للكون وتطوره" الذي تحدث فيه بأن كل حضارة امتلكت نظرة عامة وشاملة حول طبيعة الكون والإنسان والحياة ولها طرق في التعبير عنه (¬4)، إلا أن العصر الحديث عرف ثورة علمية أتت بالبديل العلمي لكل التصورات السابقة، تمثلت أولًا في المادية المبنية على فيزياء "نيوتن"، وهي المادية الميكانيكية (¬5). ثم حدث لها تطورات، وصلت ذروتها في المادية الجدلية الماركسية، وهي النظرة البديلة عن كل التصورات السابقة "ومن المؤكد أن المادية الديالكتيكية هي أنجح محاولة نعرفها اليوم في صياغة صورة كونية متكاملة تناسب هذا العصر وعلومه، وأعتقد أن هذا جزء مهم مما عناه سارتر حين قال: "الماركسية هي الفلسفة المعاصرة"" (¬6). يتم هنا اختزال العلم في الماركسية، فهلّا مع هذه التبعية العمياء قد وسّع الأمر ليشمل المذاهب الغربية، فحتى "سارتر" الذي يستشهد به كان له فلسفته الخاصة، ولكنه توجه إلى أكثر ما عندهم من إلحاد، وأخطر ما عندهم من ¬

_ (¬1) انظر: نقد الفكر الديني، د. صادق العظم ص 14. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 14. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 20 - 21. (¬4) انظر: المرجع السابق ص 127. (¬5) انظر: المرجع السابق ص 128 - 129. (¬6) انظر: المرجع السابق ص 154.

النموذج السادس

تيار انحرف بالعلم، ليجعل من ذلك البديل العلمي عن الدين. لا شك أن الماركسية تريد أن تكون رؤية شاملة وتجيب عن كل الأسئلة البشرية ولكنها فشلت عن تحقيق الحد الأدنى من كرامة المجتمعات التي انتشرت فيها في حياتهم الدنيا، أما مجالات الحياة المعنوية وما فوق الحياة الدنيا فلم تقدم إلا ما يجلب الخواء واليأس والنكد. نعم لقد سقطت الماركسية سقطة مدوية في زمننا هذا، وأفلست فلم تُقدم ما يُقنع أهلها ويقنع المدافعين عنها لأكثر من سبعين سنة، فكيف يمكن بعد ذلك قبولها كمذهب فكري فضلًا عن قبولها بديلًا شموليًا قادرًا على تقديم بديل حقيقي للبشرية، ولهذا نجدها تبقى مع المتغربين أداة هدم فقط دون أن تقدم بديلًا مقنعًا، فمع التحولات المدهشة للماركسيين العرب نحو مذاهب أخرى، وهم من كان لهم شأن في تعصبهم للماركسية حتى تظن أن ما عندهم حقيقة لا يمكن التفريط فيها، ثم هاهم يهجرونها ولكنهم يستبقون منها ما يهدمون به الدين حتى وإن دخلوا جحر ضب آخر. النموذج السادس: ممن يرفض شمولية الإِسلام طائفة من متغربي النصارى، ومنهم لويس عوض الذي تطرف في موقفه العلماني وأخذ بالرؤية الشيوعية الماركسية، كما تجاوز الموقف الفكري إلى العمل الخفي عبر منظمات مشبوهة، ففي جوابه عن سؤال: "هل يحافظ الإِسلام حتى يومنا هذا على دعوته الشاملة؟ " فأجاب: "كلا، إذا تمكن الإِسلام من التغلب على "بيزنطيا" سابقًا، فلأنه كان دينًا علمانيًا أكثر من الدين المسيحي في القرن السابع. . . . ويبدو أن ما تحلم به الجماعة الإِسلامية هو الإِسلام البيزنطي" (¬1)، فالشمولية ترتبط عنده بالموقف العلماني فقط، أما الإِسلام فلا يكون بزعمه شاملًا لحياة الإنسان إلا إذا كان علمانيًا. وفي نهاية الفصل الأول، يصل الباحث إلى أن هناك عددًا من الدعاوى التغريبية ارتبطت بعلاقة العلم الحديث ونظرياته بالدين، ومن أشهرها: دعوى أهمية علمنة العلم وما صاحب ذلك من معارضة أي مشروع إسلامي لتأصيل ¬

_ (¬1) رأيهم في الإِسلام، مجموعة كتاب ص 112.

المعرفة العلمية الحديثة، ودعوى التعارض بين الدين والعلم، ودعوى كفاية العلم. وقد ظهر أن علمنة العلم ترتبط بوضع تاريخي لا علاقة لنا به، وبمشكلات لم نعرف مثلها، وأن دعوى التعارض تُرفع عند المتغربين كأداة لإقصاء الدين أكثر من كونها تعبر عن اشتباه حقيقي أو مشكلة منهجية ومعرفية، وأن دعوى شمولية العلم وكفايته تعبر عن مرض خطير عند طائفة من المتغربين، حيث يراد منها الانتهاء من أمر الدين واستبعاده وأنّى لهم ذلك. وقد عرض خطر مثل هذه الدعاوى ونقدها مع أن كل واحدة منها تستحق دراسة مستقلة. نتركها وننتقل إلى مواقف تغريبية من الدين تحت غطاء العلوم الاجتماعية.

الفصل الثاني صور من تأثر الفكر التغريبى بنظريات علمية منحرفة حول مفهوم الدين وفيه تمهيد وثلاثة مباحث: • المبحث الأول: التأثر بنظرية داروين التطورية من علم الأحياء حول الدين. • المبحث الثاني: التأثر بنظريات من علم النفس حول الدين. • المبحث الثالث: التأثر بنظريات من علم الاجتماع حول الدين.

الفصل الثاني صور من تأثر الفكر التغريبي بنظريات علمية منحرفة حول مفهوم الدين

الفصل الثاني صور من تأثر الفكر التغريبي بنظريات علمية منحرفة حول مفهوم الدين التمهيد يعد الدين من أهم ما يميز المجتمعات البشرية عبر تاريخها الطويل، ولا يوجد مجتمع دون دين، إما دين الحق أو أديان الباطل. وقد كان كل مجتمع يدين بدين، ثم يطرأ عليه ما يحرف ذلك الدين أو ما يزيله ليحل مكانه دينٌ جديدٌ، وسار الأمر في الغالب على الاعتراف بعدم إمكانية العيش دون دين؛ لذا لم تنجح أي طائفة تبنت إلغاء الدين في الفكر القديم، حتى وقع ما وقع من أحداث تاريخية خطيرة داخل القارة الأوروبية أسهصت في إيجاد تيار قوي نجح مع الأيام وزاد أتباعه، حيث يرى أن الدين عبارة عن وهم وقعت فيه البشرية ولابد من التخلص منه، ثم بدأت رموز ذلك التيار كل يدلي بدلوه في أصل هذا الوهم وسبل التخلص منه، فتعددت آراؤهم في ذلك لحد التعارض والتناقض، إلا أن ما يجمعهم في الغالب هو عدم وجود دين حقيقي ذي صفة موضوعية خارجية إلا في أوهام الناس، وأن كل عناصر الدين الكبرى وأصوله من الإقرار

بوجود إله ووجود عالم غيبي ووجود عالم أخروي فضلًا عن وجود النبوات وما أنزل على الرسل كله في زعمهم من الوهم. ولا شك أن الأديان المؤولة أو المبتدعة هي من أوهام الناس وثمار عقولهم القاصرة المجانبة للهدي السماوي، فهي مما ينطبق عليه الكثير من تلك المقولات، إلا أنها لا تقف عند هذا الحد؛ وإنما تتجاوز ذلك إلى نفي الوجود الموضوعي الحقيقي للدين بأصوله، ومن ثم نفي الوجود الحقيقي للدين المنزل. ربما لو وقفت تلك الحركة الفكرية في نقدها لمفهوم الدين عند ما يبتدعه الناس وتخترعه المجتمعات؛ لكان فيها ما ينفع المنغرسين في الوهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، ولكنها قفزت من نقد الوهم إلى نقد الحق والتكذيب به، فضلوا وأضلوا وسببوا للبشرية انحرافًا خطيرًا بما سنوه من سنة سيئة فتبعهم عليها الكثير ممن تأثر بهم. إذا استعيد ما سبق الحديث عنه من الصراع الكبير بين الكنيسة والحركة العلمية والفكرية الحديثة، وما نتج عن ذلك من بروز تيارات مناهضة للكنيسة ومن ثم مناهضة للدين، ونجاح هذه التيارات في الانتشار والاتساع بسبب تذمر الناس من أفعال الكنيسة ونشاط التيارات في دعوتها، إذا استُحضر كل ذلك وما تبعه من أمور؛ فإن أغلب رواد تلك التيارات لم يكونوا ضد فكرة الدين كما هم ضد الكنيسة، بل كانت لهم كتابات لاهوتية وميتافيزيقية ذات إقرار بمسلمات دينية من نوعٍ ما، حتى جاء الانعطاف مع أصحاب الدين الطبيعي الذين رفضوا أصل النبوة وأقرّوا فقط بوجود الرب سبحانه ليفتحوا المجال لرافضي الدين ولدعاة الإلحاد (¬1) من أمثال من يطلق عليهم "اليسار الهيجلي" أو "المتحررون الهيجليون" أو ما شابه ذلك من مصطلحات، يهمنا مدلولها القائم على الإلحاد وإنكار الدين، وكان أبرزهم وأشهرهم الفيلسوف الألماني "فيورباخ". لقد تفرغ "فيورباخ" لدراسة الدين ولكن من منظور إلحادي، وأخرج دراساته في ذلك، ثم أصبح في الغرب مرجعية للملحدين في الموقف من الدين، يقول باحث معجب به "د. أحمد عطية": "لا يوجد أحد من الفلاسفة المحدثين ¬

_ (¬1) انظر: تيارات الفكر الفلسفي. . . .، كريسون ص 153 - 175.

قد شغل نفسه بمشكلة اللاهوت مثلما فعل فيورباخ" (¬1). ورؤيته تتلخص في أن ""الأنثروبولوجي هو سر [حقيقة] اللاهوت"؛ أي: أن جوهر وحقيقة الدين ومعناه الباطني العميق هو الجوهر الإنساني" (¬2)، ففي رؤيته بأن ما يُعتَقد بأنه الله ليس سوى الإنسان، حيث قام الإنسان بإسقاط صفاته على الإله (¬3)، ويقوم الإلحاد الفلسفي الفيورباخي بعد ذلك في دعوى تخليص الإنسان من هذا الوهم. وقد نجد بعد ذلك من العرب من يرى أن عمل "فيورباخ" يُعدّ من مجال البحث العلمي في الدين، وأنه يتجاوز الفهم الضيق للدين بحسب زعمه، ففلسفة "فيورباخ" "تؤسس لكثير من العلوم التي تهتم بتحليل الدين من قبل: تاريخ الأديان، ومقارنة الأديان، وعلم الاجتماع الديني، وعلم النفس الديني، وفلسفة الدين التي تعد أوسع هذه العلوم في النظر إلى الدين، وتلك كانت أساس أبحاث فيورباخ" (¬4)، ومن أجل ذلك يقول: "نذرت جهدي من الآن من أجل تقديمه إلى الثقافة العربية" (¬5). لقد أخرجت الرؤية الفيورباخية إطارًا جديدًا يدخل فيه كل الأنشطة التي ترى الدين هو في حقيقته نابع من الأرض، ولا يشترط بعد ذلك العودة لفيورباخ نفسه بقدر ما تكون العودة للإطار بعد أن تعمم في الثقافة العلمانية. ولكن "فيورباخ" بقي محسوبًا على الفلسفة، وهي في الأغلب ذات واقع معارض للدين مما يجعل الناس لا يكترثون لدعوته، لولا أن دعوته قد تحملها المنتسبون لميدان العلم ولاسيّما العلوم الاجتماعية، حيث شكلت رؤيته مناخًا وإطارًا ورؤية لمن بعده، فالبعض يصرح في اعترافه منها، والبعض الآخر يتحرك في ذلك الإطار دون أن يعلن انتسابه لفيورباخ. ¬

_ (¬1) أصل الدين، فيورباخ، دراسة وترجمة، د. أحمد عطية ص 9 من الدراسة، وانظر له أيضًا: الإنسان في فلسفة فيورباخ ص 185، وانظر: مبادئ فلسفة المستقبل، لودفيغ فويرباخ، من مقدمة إلياس مرقص ص 42. (¬2) انظر: أصل الدين ص 10، من المقدمة. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 21 - 23. (¬4) انظر: الإنسان في فلسفة فيورباخ ص 220 - 222 والنص ص 220، انظر: المرجع السابق، أصل الدين ص 12. (¬5) الإنسان في فلسفة فيورباخ ص 4.

وفي هذا الإطار الفيورباخي برزت نظريات تدّعي انتماءها للعلم ولكنها فيورباخية في حقيقتها، وذلك في موقفها من الدين، وأهمها -ولاسيّما تلك التي عُرِفَ لها صدى في الفكر التغريبي- ثلاث وهي: "المذهب الداروني"، و"مدرسة التحليل النفسي الفرويدية"، و"علم الاجتماع" ولاسيّما الماركسي منه. يتناول هذا الفصل الحديث عن امتداد هذا المفهوم الفيورباخي عن الدين إلى ميادين مختلفة من ميادين العلوم، وقد يختفي اسم فيورباخ ولكن يبقى المفهوم سائدًا في أعمال مجموعة من الملحدين الذين اشتهروا بالنشاط في العلوم الاجتماعية والطبيعية، وجعلوا تصوره عن الدين هو الصورة أو الإطار الذي يفهمون به الدين.

المبحث الأول التأثر بنظرية داروين التطورية من علم الأحياء حول الدين

المبحث الأول التأثر بنظرية داروين التطورية من علم الأحياء حول الدين قليلة هي النظريات العلمية في العلوم الطبيعية التي تثير إشكالًا مع الدين مقارنة بنظريات العلوم الاجتماعية، إلا أنها الأكبر أثرًا والأكثر إشكالًا إذا ظهرت معارضتها للدين أو تُوهم ذلك، فالعلم الحديث داخل أوروبا بدأ صراعه مع دين أوروبا بنظرية في ميدان العلوم الطبيعية، وامتدت أكثر من مئة عام حتى جاء الدوي الثاني بنظرية من علم الأحياء/ البيولوجيا في منتصف القرن الثالث عشر/ التاسع عشر ذات الأثر الضخم في أوروبا والغرب وربما العالم. ولا شك أن أوروبا تأثرت كثيرًا بسبب ما حدث من آثار "نظرية الفلك" مع "كوبرنيكوس" وأصحابه"، ومع "نظرية التطور" مع "لامارك" و"داروين" وصديقه "الاس"" (¬1)، ولاسيّما في علاقة الغربيين بدينهم وبتصورهم للعلم والإنسان فالعلاقة بالدين كانت متوترة، وجاءت النظريتان لتوظّفا في صالح الاتجاه العلماني، كما أنها ¬

_ (¬1) انظر: الدارونية والإنسان. . . .، د. صلاح عثمان ص 116، والتطور والثبات في حياة البشرية، محمد قطب ص 19.

تضع تصورًا جديدًا للعلم والإنسان يمثل بديلًا عن التصور الديني. ورغم كثرة النظريات العلمية والفلسفية إلا أنه لم يقع مثل أثر هاتين النظريتين من ميدان العلوم الطبيعية، وحتى تلك التي من ميدان العلوم الاجتماعية هي ذات صلة بالدارونية ولاسيّما "الماركسية" و"التحليل النفسي" و"الدوركايمية" و"التطويرية". يأتي "داروين" في قائمة علماء الأحياء، وربما يكون هو الأبرز في تاريخها الحديث، وقد عرف هذا العلم بعد "داروين" تطورًا مذهلًا وشهد ثورات خطيرة أبرزها ما حدث في باب الجينات ومسألة الاستنساخ، إلا أن أهم ما يرتبط بهذا العلم هو نظرية التطور، وهي نظرية ما زالت مثار جدل إلى ساعتنا هذه. للنظرية جانب علمي يُبحث في ميدان علم الأحياء مع علوم أخرى تُستمد منها الحجج، وهي أمور ليس في مقدور أي مفكر أو باحث مناقشتها وهو من خارج تلك العلوم، إلا أن لها جانبًا فلسفيًا ظهر بارزًا في مذهب مستقل وهو "الدارونية" أو "التطورية" أراد له أصحابه أن يكون مذهبًا شاملًا إلحاديًا في إيدلوجيته يكون بديلًا عن الدين، غير أنه لا يعترف بعقائد الدين مستبدلًا لها بعقائد من اختراع مؤسسيه، ومن المهم التفريق بين النظرية وبين إيحاءاتها الفلسفية والتطبيقات الأيدلوجية التي لا علاقة لها بالعلم (¬1). إذا بحثنا في أخطر ما أثارته النظرية والمذهب النابت حولها ووظف في الصراع مع الدين نجد أمرين: الأول: إيجاد تصور عن وجود الحياة ووجود الإنسان يراد له أن يكون منافسًا للتصور الديني إن لم يكن بديلًا عنه، فالحياة وجدت صدفة في خلية ما في هذا العالم المادي، ونبعت عن الطبيعة، والإنسان جاء نتيجة تطور، لم يكن نتيجة خلق إلهي مستقل (¬2). الثاني: إذا كان العلم يخالف رؤية الدين في الموضوعين: "الحياة" و"الإنسان"، والعلم هنا هو الصورة الدارونية له؛ فقد وصلت الدارونية بشقها الملحد وهو الأبرز والأشهر إلى دعوى خرافة الرؤية الدينية، ومن ثم البحث عن أصل ظهور الدين من خلال المنظور الداروني التطوري. وفي النصف الثاني من ¬

_ (¬1) انظر: العلمانية .. ، سفر الحوالي ص 181. (¬2) انظر: الدارونية والإنسان. . . .، ص 95 - 115.

القرن الثالث عشر / التاسع عشر (¬1) برزت "محاولات تطبيق النظرية التطورية على الدين بالذات، التي لاقت رواجًا هائلًا"، وإن كانت ظهرت دراسات بعدها بينت ضعف النظرية التطورية. يقول "كرين برينتون": "حقًا أن صراعًا هامًا بين الدين والعلم احتل مكان الصدارة على أثر صدور كتاب داروين أصل الأنواع. . . . في عام (1859 م). وبدأ فكر داروين في نظر كثير من المسيحيين، خاصة بعد أن روج له تلامذته في الخارج، ليس فقط منافيًا للتفسير الحرفي لسفر التكوين، بل إنه في رأيهم إنكار صريح لأن يكون الإنسان مختلفًا بأي وجه من الوجوه عن الحيوانات الأخرى إلا فيما يتعلق بالتطور الطبيعي المحض لجهازه العصبي الذي استطاع بفضله أن يغرق في التفكير الرمزي، وأن تكون له أفكاره الدينية والأخلاقية الخاصة. ." (¬2). لقد بُذلت جهود جبارة من أجل تحويل فروض الأمر الأول "مادية الحياة" و"تطورية المخلوقات" إلى حقائق ومع ذلك لم تُكلل بالنجاح، فلم ينجحوا في إيجاد حياة من المادة (¬3) وإن كان فيهم من يتنبأ مع التطورات في علوم الجينات بإمكانية تحقيق ذلك في المستقبل. ومثلها ضخامة ما جمعوا من شواهد من شتى العلوم لإثبات صحة التطور، ومع ذلك يأتي ما بين فترة وأخرى ما يضرب تلك الشواهد، مما يجعلها في دائرة الفرض (¬4)، ويصبح المعتقد بها ليس لوجود موضوعي حقيقي خارجي لها بقدر ما هو ميل وهوى نحوها، والميل يرتبط غالبًا بالقناعات والرغبات الشخصية لا بالحقائق الموضوعية الخارجية. وإذا كان الأمر الأول مما يمكن للمعترض مطالبتهم بالإثبات العلمي؛ لأنه لو افتُرض صحته فلابد له من شاهد يقبل التصديق أو التكذيب، إلا أن الأمر الثاني لا علاقة له بالعلم وإنما هو من باب الفلسفة والفكر والأيدلوجيا، ولهذا كانت الدارونية والتطورية كمذهب فلسفي تدخل في باب المنافسة مع مذاهب أخرى، فقد تبرز في وقت أو في بيئة، ثم تضعف أو تصبح مثار استهجان ¬

_ (¬1) انظر: الموسوعة الفلسفية العربية 1/ 444 (المصطلحات والمفاهيم). (¬2) تشكيل العقل الحديث، ترجمة شوقي جلال ص 221 - 222. (¬3) انظر: العلمانية .. ، الحوالي ص 338 - 346. (¬4) انظر: ما كتبه يحيى هارون عن الدارونية، وانظر: ما ذُكر في الفصل الثاني (إنسان بلتدوان).

ويتجاوزها الناس إلى غيرها في وقت آخر، كما هو الحاصل مع الدارونية التي غطّت عليها مذاهب أخرى ظهرت في القرن الرابع عشر/ العشرين. هناك من ربط ظهور الدارونية بأوضاع التحولات الأوروبية، وقد كانت في مجال الدين والقيم تحولات خطيرة (¬1)، وهناك من تحدث عن أثرها في كثير من الأوضاع السياسية والاقتصادية والفكرية في الغرب، بل تأثيرها في العلم ذاته ولاسيّما العلوم الاجتماعية (¬2)، مما يجعل تجاوز ما أفرزته من مشكلات يحتاج لوقت طويل، وقد جاءت دراسات تتناول تلك الأبعاد، إلا أن هذا المبحث يقف فقط مع ما أثّرت به على أتباعها المتغربين في موقفهم من الدين. والمُلفت للنظر أن الدارونية قد جذبت طائفة مهمة من أصحاب الخيار الإلحادي، فـ"ماركس" و"أنجلز" قائدا أبرز مذهب مادي إلحادي أُعجبا بها، ووجدا فيها أرضًا خصبة لمذهبهما، فضلًا عن الدارونيين البارزين الذين تبنوا مذهبًا ماديًا إلحاديًا أو آخرين خارج الدارونية مثل "فرويد" أو"نيتشه" أو غيرهما، فقد أخذت شهرة في فترة ما، ولا شك أن المرحلة التي تمر بها أوروبا أسهمت في ذلك، ولكن الوضع لم يستمر على هذه الحال، حيث بدأت خيارات أخرى تتصدى للإلحاد متبنية في الوقت نفسه مصادر علمية. لم يكن الفكر الغربي الحديث خاليًا من المشكلات مع الدين، ولكن النظرية الدارونية أضافت مشكلاتها ولاسيّما في ادعاء أصحابها أنها تُمد الفكر المعارض للدين بأدلة علمية من ميدان العلم، ومما ركزت عليه نفي "صفة الخلق عن الخالق -سبحانه وتعالى-، ونسبته إلى الطبيعة. فقال دارون: "الطبيعة تخلق كل شيء ولا حد لقدرتها على الخلق. . . . ونفت الغاية من الخلق. فالإله الجديد -الطبيعة- يخبط خبط عشواء. . . ." وأخيرًا ركزت على حيوانية الإنسان وماديته" (¬3). وقد أخذ مجموعة من المفكرين بهذه الأبعاد إلى أقصى مداها، ونظروا للإنسان كحيوان داروني متطور (¬4)، أوجد في أثناء تطوره تصورات كثيرة وصلت إلى ¬

_ (¬1) انظر: العلمانية .. ، الحوالي ص 188 وما بعدها. (¬2) انظر: الدارونية والإنسان .. ، د. صلاح، الفصل الثاني والثالث والرابع. (¬3) حول التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية، محمد قطب ص 27 - 28. (¬4) انظر: المرجع السابق ص 56.

ظهور الدارونية العربية

تصوره للدين والإله والروح والغيب والآخرة وغيرها من الأمور. ومع أن الجميع يتفقون بأن نظرية داروين لم تقل بشيء من هذا، ولكن الفلسفة التي قامت عليها أتت بكل هذه الأمور، ثم يزعمون ارتباطهم بأحدث نظرية علمية ومن ثم بالعلم في أبرع صوره، فإذا أتيت إلى النظرية وجدت بأن لها مشكلتها في إطار العلم ذاته، وإذا أتيت إلى الدارونية الاجتماعية؛ وجدت نفسك أمام تيار أيدلوجي مادي يريد استغلال العلم وتقويله فيما يخدم أيدلوجية صاحب المذهب. يقول "محمد قطب" بعد أن استعرض استثمار ثلاثة من اليهود البارزين لنظرية داروين وأبعاد ذلك: "ومن حصيلة هذا كله حدثت حركات ضخمة في المجتمع الغربي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين"، والتقوا "عند نقطة رئيسية، متصلة ومتصاحبة: الحملة على الدين والأخلاق والتقاليد، ونفي القداسة عنها، وتشويه سمعتها أو التشكيك في قيمتها. والقيام بهذه الحملة باسم "العلم" والبحث العلمي. والربط بين هذا التحليل الديني والانحلال الخلقي وبين "التطور"" (¬1). لا تبتعد الدارونية الاجتماعية التطورية والمتأثرون بنظرية داروين من خارج الدارونية الاجتماعية عن الإطار الفيورباخي المادي الذي يذهب إلى هدم الدين باعتباره وهمًا وخرافة، إلا أن الفئة الجديدة تزعم ابتعادها عن النظرية الفلسفية -الفيورباخية مثلًا- واتصالها بالنظريات العلمية -الدارونية أساسًا- وإن وصلت إلى نفس نتائج الفئة الفيورباخية وأصبحت الدارونية تيارًا كبيرًا في أوروبا. ظهور الدارونية العربية: إذا تركنا أوروبا على حالها في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر وانتقلنا إلى العالم الإسلامي نجد صورة أخرى، حيث كان العالم الإسلامي كما رأينا في مباحث سابقة يمر بتحولات خطيرة، وقد برزت أوضاع كثيرة منها التوجه الاستعماري الأوروبي وما صحب ذلك من أدوات استخدمها الغرب لتحقيق توجهه، وأخطر ما قابل ذلك بروز فئة نصرانية علمانية -بناها الغرب ثم الاستعمار- تبنت بعض المذاهب الغريبة الشاذة ووظفتها في تدمير الدين أو إقصائه عن الحياة، وأشهر ¬

_ (¬1) التطور والثبات في حياة البشرية، محمد قطب ص 56.

تلك الفئات مجموعة اعتنقت الدارونية في أقبح صورها، وروّجت لأسوأ ما فيها، مدعية بشكل قطعي أن هذه حقائق علمية ستكون بديلًا عن الدين. كان هذا الحدث في الربع الأخير من القرن التاسع عشر في وقت لا يوجد تيارات كبرى تتبنى الدعوة لها، أو أحزاب سياسية تجعل ذلك من ضمن أنشطتها، كما لا يوجد مجتمع قابل لمثل هذه الآراء يستطيعون الحركة فيه بيسر وسهولة، بل لا يتصور أحد إمكانية حركتهم في المجتمع الإسلامي بمثل تلك الأفكار، إلا أنهم مع ذلك نجحوا في إثارة الجدل ونشر أفكارهم وإشغال الفكر لأكثر من نصف قرن عبر ما اصطلح عليه آنذاك بـ"النشوء والارتقاء"، فكيف حدث ذلك؟ التنظيمات الوحيدة التي لها نشاط في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر هي "المحافل الماسونية"، فكانت إلى حدٍ ما الميدان الوحيد لاستقطاب أصحاب الأفكار الشاذة ودعمهم آنذاك، ومع ذلك فنشاطهم محدود بالنخب من قادة سياسيين أو اقتصاديين أو عسكريين، وهي دائرة مغلقة لا تتصل بالمجتمع. إلا أن هناك منفَذَين مهمين ظهرا في تلك المرحلة، هما: "المدارس العصرية" التي أنيط بها تحقيق المعرفة بالعلوم العصرية المهمة، و"الصحافة". فانخرط هؤلاء المتأثرون بالمذاهب الغربية الشاذة في المدارس العصرية لمعرفتهم بلغة أجنبية وتحصيلهم بعض المعارف العصرية، إلا أن نطاقها محدود في طلاب المدارس رغم أهميتهم، لهذا جاء العمل الفعلي عبر الصحافة، حيث كانت الصحف الأبرز آنذاك تحت إدارة مجموعة من النصارى العرب، ولم تكن الصحافة في تلك المرحلة صحافة أخبار بقدر ما كانت صحافة أفكار، وكانت الأفكار الجديدة التي فتحت لها صفحاتها هي أفكار المتأثرين بمذاهب غربية وعلى رأسها الدارونية. وإذا كانت صحافة أفكار فإن الفكرة التي طغت على تلك الصحافة هي "الدارونية -التطورية- النشوئية" في المقام الأول وكل ما له ارتباط بها. وقد سبق في مبحث الأسباب ذكر دور الصحافة في نشر الدارونية (¬1)، وإشغال القراء بها، حتى وصل الأمر بتحويلها كرؤية جديدة توجه فكر طائفة من المفكرين. ¬

_ (¬1) انظر: الباب الأول، الفصل الرابع، دور الصحافة.

برزت أسماء تبنت الدارونية أهمها "شبلي شميل، وسلامة موسى" (¬1) مع آخرين مثل "فرح أنطون"، "جورجي زيدان"، "إسماعيل مظهر"، وغيرهم، وكان ميدانهم الفعلي للحركة هو الصحافة لعدم إمكانية ذلك في مواقع أخرى، ولا مجال للبحث عن سبب جرأتهم في عرض هذه الأفكار الشاذة واستئثارهم بالصحافة البارزة في تلك المرحلة؛ لأن السبب واضح في الحماية التي حصلوا عليها من قبل البلاد الغربية مما جعلهم في ظل الامتيازات الممنوحة لهم يتحركون ضد دين الأمة ومصالح المجتمع المسلم بما يتوافق مع مصالح الغرب، فكان منهم من تحرك على صعيد العمل الميداني؛ ومنهم من تحرك على صعيد النشاط الفكري الهدام، وأبرزهم دعاة الدارونية. فتحت مجلة قال "المقتطف" صفحاتها لـ"شبلي شميل" فضلًا عن إصداره لمجلة "الشفاء" وكتابته في صحف ومجلات لبنانية ومصرية كثيرة (¬2)، أما "سلامة موسى" فبعد عودته من أوروبا سنة (1913 م) احترف الصحافة "باعتبارها الوسيلة المثلى التي يستطيع من خلالها التأثير في محيطه"، ثم أصدر مجلته الأسبوعية "المستقبل"، ثم في سنة 1920 يسهم في إنشاء أول حزب اشتراكي مصري، حيث يتحول عمل هؤلاء من "المحافل الماسونية" إلى أحزاب سياسية مصرح بها من قبل إدارة المستعمر، ثم يتولى لمدة سبع سنوات رئاسة تحرير مجلة "الهلال" المشهورة، ثم يتحول لإنشاء مجلته "المجلة الجديدة" من (1929 - 1942 م)، لحوالي أربع عشرة سنة (¬3). ويأتي في موقف أخف منهما في الدارونية موقف فرح أنطون صاحب مجلة "الجامعة" و"جورجي زيدان" صاحب مجلة "الهلال" و"إسماعيل مظهر" صاحب مجلة "العصور"، و"إبراهيم حداد" صاحب مجلة "الدهور" (¬4)، حيث نلحظ أن الجميع جعل منفذه نحو نشر الدارونية أو الفكر المرتبط بتطورات أوروبا هو الصحافة الفكرية. ¬

_ (¬1) هما أفضل من مثله، انظر: العلمانية من منظور مختلف، د. عزيز العظمة ص 182. (¬2) انظر: الفلسفة النشوئية .. ، د. محمود المسلماني ص 241. (¬3) انظر: سلامة موسى بين النهضة والتطوير، د. مجدي عبد الحافظ ص 29 - 32. (¬4) انظر: العلمانية من منظور مختلف ص 232 - 233، وانظر: تحولات الفكر والسياسة .. ، محمد الأنصاري ص 29.

أصبح المصطلح المعبر به عن مذهبهم هو "مذهب النشوء والارتقاء"، حيث تواضعوا على إطلاقه مُعبّرًا عن مجمل أفكارهم المقتبسة من العلوم الطبيعية والكيميائية والاقتصادية والتاريخية المعروفة في أوروبا القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، ولاسيّما "داروين"، "والاس"، "ليل"، "سبنسر"، و"هيكل" الذي جاهر بالنتائج الفلسفية الإلحادية المترتبة على اكتشاف "داروين"، و"بخنر" وغيرهم (¬1)، وأصبحت "الدارونية" أشبه بالإطار المفاهيمي المرجعي لإنتاجهم الفكري الذي يطرحه أصحاب الموسوعة العربية بوصفه إنتاجًا نهضويًا (¬2)، مع أنها في حقيقتها دعوة إلحادية لا علاقة لها بنهضة أمتنا. مع أن الموسوعة السابقة ألمحت على استحياء أن الدارونية العربية أقرب إلى كونها دعوة أيدلوجية إلا أنها لم تتجاوز ذلك، ومما ألمحت إليه: - الترابط الذي يلاحظه الباحث بين طرح قضايا علمية مثل مبدأ التولد الذاتي، وطرح قضايا دينية مثل وجود الله وعقيدة خلود النفس والخلق من عدم وغيرها. - الترويج لأكثر أشكال المذهب غلوًا وتطرفًا من أفكار علمية وفلسفية إلحادية والتي نادى بها غلاة المذهب الداروني في أوروبا. - استخدامهم لمناهج نقدية جذرية للإطاحة بمقومات ثقافة المجتمع وتصوراتهم عن الكون والإنسان التي تشكلت عبر ثقافتهم الدينية (¬3). تُشكل مجموعة الأعمال السابقة صورة واضحة لأبشع صور الانحراف التغريبية الحديثة، فتَحْتَ مسمى العلم ونظرياته أُدخلت أفكار ومناهج ودعوات للإطاحة بالدين، وصوّروا العلم وكأنه عدو للدين، بل كأن هدفه الحقيقي هو إزالته، مما يجعلنا أمام تيار يناقض تمامًا رسالة الأمة إلى العالم، رسالتها في إقامة الإسلام ونشره، بينما هذا التيار على العكس يحمل رسالة هدم هذا الإسلام. أقف مع النموذجين البارزين في هذا الاتجاه الداروني وهما: "شبلي ¬

_ (¬1) الموسوعة الفلسفية العربية، مادة الدارونية العربية 2/ 558 - 559. (¬2) انظر: المرجع السابق 2/ 559. (¬3) انظر: المرجع السابق 2/ 560.

شميل" و"سلامة موسى"، فهما في أغلب الكتابات التغريبية زعيمان فكريان مهمان، ويوضعان عادة كقيادة للفكر العلمي في فكرنا الحديث (¬1)، حيث نجد أنهما في النهاية وقعا ضحية مراهقة فكرية قادتهما إلى الإلحاد وتبني نماذج فكرية غربية فجة لا علاقة لها بالعلم بقدر ما هي حالات مرضية تحاول عبر الالتصاق بالعلم استغلاله وتوجيهه في خدمة أهوائها. إذا رجعنا إلى أعمال "شميل" و"موسى" نجد أن النظرية الدارونية قد أخذت حيزًا كبيرًا من كتاباتهما، سواء كان ذلك في الجانب العلمي منه -بعيدًا عن صحته من عدمها- أو الجوانب الأيديولوجية المرتبطة بتلك النظرية، فألّف "شميل" "فلسفة النشوء والارتقاء"، وترجم "شرح بخنر على مذهب دارون" مع مقالات في الصحافة، أما "سلامة موسى" فألف الكثير منها تحت تأثير الدارونية، مثل: "مقدمة السبرمان"، "نشوء فكرة الله"، "نظرية التطور وأصل الإنسان"، "الإنسان قمة التطور". وهذه من مجموعة كتب تصل إلى خمسين كتابًا تدور في الغالب بحسب كلامه حول فلسفة التطور. وبما أنهما يتحركان في إطار "الفكر العربي" وداخل "الأمة الإسلامية" في فترة التحول الحديثة فإن هناك سؤالًا: هل كان ما ينقصنا هو الدارونية؟ إنه سؤال مهم يكشف جوابه عن سرّ تركيزهم على الدارونية. لماذا أخذت الدارونية كل هذه المساحة في مشروعهما الفكري وفي كتابات مجموعة عاصرتهما وعاصراها؟ لقد كان ينقص الأمة الإسلامية أشياء مهمة برع فيها الغرب، فلماذا أخذت تلك الأمور مستوى أدنى؟ بينما رُفع من سنان الدارونية وكأن ما ينقصنا هو الدارونية، وأن شرط النهوض أن نتحول إلى دارونيين! إن مجموعة من يكتبون عن الفكر العربي المعاصر -ويضعون دعاة الدارونية كرواد لنهضتنا- لا يبحثون مثل هذه الأسئلة، وينطلقون في تبجيل أيديولوجي غير أخلاقي وغير عقلاني. بينما هم في الحقيقة رواد لتيار عربي المظهر واللسان، غربي القلب والعقل ممن تغربوا وانساقوا لأكثر المذاهب تطرفًا في عدائها للدين، وليست المسألة فقط تقليدًا وانهزامًا حضاريًا أمام الغرب؛ بل هو أوسع مع تلك الفئة التي نبتت في وقت انهيار العالم الإسلامي، أمام ¬

_ (¬1) انظر: هموم الفكر والوطن، د. حسن حنفي 2/ 436 وما بعدها.

الاستعمار الغربي، لقد أصبحوا أداة فكرية للاستعمار في هدم الإسلام. فركزوا على نشر ما لا نفع فيه، أو ضرره أكبر من نفعه، أو هو ضرر محض، وتركوا نشر العلم النافع، وكونهم أداة هدم هو الأوضح في تفسير مثل هذه الظاهرة؛ لأنهم انسلخوا عن بني جلدتهم من النصارى ثم اشتغلوا بهدم أمتنا الإسلامية. وقد يُخيّل إلى بعضهم من عمق ضلاله أنه على الحق، وأنه يهدي الأمة العربية روائع التقدم البشري، ولاسيّما إذا أقصي عن ملته ولم يجد أحدًا يقف معه، ثم جاء بعض الغربيين ليتبناه أو يدعمه بصورة مباشرة أو غير مباشرة، فإنه يحول ولاءه إلى الآخرين ويرى أنهم الأولى بالنُصرة والتأييد. ستجد لهؤلاء المبجلين للدارونيين العرب دفاعًا عنهم بأنهم يقومون بنقد للدين الفاسد، وهنا يأتي دور التفريق بين الدين الحق والأديان الباطلة "المبدلة أو المخترعة"، فإذا جاء مفكر بأداة منهجية تفيد في تخليص الناس من الدين الباطل فهو مقبول، ولكن هل يدخل فيه مثل هؤلاء؟ لا يوجد ملحد يمكن دخوله في هذا الباب، الملحد يدفعه إلحاده إلى التنكر للحقائق الدينية، ويرفض التفريق بين الدين الحق وأديان الباطل، فلا يفرق بين المختلفات، فهو يمتلك أداة يهدم بها الدين، فالمتعصب له يراها أداة للتحرر، بينما من يزن الأمور بميزان الحق والعدل ويفرق بين الأمور المختلفة، يعلم أن مثله مثل المجرم الذي حصل على سلاحه فاستخدمه في جرائمه، وهذا يقع في مجرمي الأفكار عندما يتعرفون على مناهج وأدوات فكرية فيوظفونها في الباطل، وانظر إلى ما يقوله أحد المعجبين بسلامة موسى: "ومن هنا كانت أهمية داروين لديه. . . . أن مصدر إعجابه بداروين يعود إلى أنه قد ساعده في هدم التقاليد، والوصول إلى بشرية تنأى عن الغيبيات، حينما استطاع أن يعلل علميًا كيفية ارتقاء الإنسان، وبالتالي سد الطريق على قضية الخلق الغيبية، والتي قالت بها الأديان. وهذا نفسه ما دعا البعض إلى القول بأن إنتاج سلامة موسى لخطاب الدارونية إنما كان لمواجهة الغيبيات. . . ."، و"وضعوا استخدام سلامة موسى للدارونية في إطار بناء جبهة ثقافية نقدية" (¬1). فتكون الدارونية بهذا المعنى وسيلة هدم في المقام الأول. ¬

_ (¬1) سلامة موسى بين النهضة والتطور، د. مجدي عبد الحافظ ص 85.

من البحث في أصل الحياة إلى المادية الإلحادية

من البحث في أصل الحياة إلى المادية الإلحادية: خلاصة النظرية أنه في وقت ما، خرجت الحياة من المادة أو من الطبيعة، ومع مرور ملايين السنين وعبر قانون الانتخاب الطبيعي تطورت الحياة إلى كائنات حيوانية، ومنها إلى الإنسان. وهذه هي الدارونية التقليدية. وقد جاءت معارضات داخلية مما أوجد الدارونية الجديدة، وفي بعض المعارضات أن الإنسان خلق مستقل بينما التطور قائم في بقية المخلوقات، وهي نظرية ملأت آلاف الصفحات في الأخذ والرد، وكما سبق فقد جاء من بني على هذه النظرية مذهبًا فلسفيًا، كما أن الكثير من النظريات العلمية في ميادين العلوم الاجتماعية قد تأثرت بها. إذا أتينا إلى وجهها القبيح في الفكر العربي المتغرب، فإن هذه الفكرة قد وظفت -كما سبق- كأداة في هدم الدين، وذلك في مسارات أبرزها: 1 - إنكار النبوة عبر التكذيب بقصة الخلق التي وردت عند أهل الكتاب وجاءت في دين الإسلام، فهم يرون أن قصة الخلق أبطلتها نظرية داروين، ومن ثم فلا ثقة في هذه النصوص الدينية. 2 - القول بخالق غير الله سبحانه، والإله الجديد هو الطبيعة، فهي التي أوجدت أول خلية حية، وهي التي تحكمت في سير التطور، وكل ذلك دون غاية، وهنا توضع المادة كحقيقة مطلقة ذات تصرف مطلق دون غاية. 3 - فإذا بطلت النبوات وعرف أنه لا فاعل سوى المادة؛ فالنتيجة النهائية هي عدم الحاجة للإيمان بإله، فجاءت أعلى صور الإلحاد في إنكار الرب سبحانه. 4 - وإذا أمكن تفسير ما هو عسير كوجود الحياة، فإنه بالإمكان تفسير كيف وجد الدين من منظور داروني تطوري، فيكون الدين وهمًا وخرافة تسعى الدارونية إلى تدميره. 5 - وإذا نزعت الدارونية الدين من قلوب أصحابها فهم في حاجة إلى دين، وسيكون الدين البديل هو التطورية وديانة الطبيعة. لا يشترط في هذه المسارات الترتيب أو التسلسل في حركة الداروني أو في حركة الدارونية العربية، فهي تكون متداخلة في الغالب، وإنما القصد بهذا

الترتيب تقريب صورة التأثر التغريبي والعمل الأيدلوجي عند الدارونيين. وليست هذه المجموعة ممن تحسب على "علم الأحياء"؛ فليس فيهم عالم في الأحياء، مما يكشف حقيقة الصلة أنها ليست بعلم الأحياء ونظرياته، وإنما هي بمذهب فلسفي ارتبط بأحد علماء الأحياء، ولهذا يكون التحليل لهذه الحالة على حسب الوجه الذي عُرفت به. المثال الأول: ينكر "شبلي شميل" قضية الخلق الإلهي، فكل الحوادث تقع في الطبيعة، ومنها ولا شيء خارج عنها (¬1)، والإنسان في ذلك كالحيوان من المادة الأزلية، وكل ما فيه مكتسب من الطبيعة "وهذه الحقيقة لم يبق سبيل للريب فيها اليوم، ولو أصر على إنكارها من لا يزال مفعول التعليم القديم راسخًا في ذهنه"، وتتبع هذه المادية القول بإنكار البعث، وإنكار النبوة فليس "للإنسان شرائع منزلة إلا ما أنزل جهله عليه من الخرافات والأوهام، فشرائع الإنسان من الإنسان. ." (¬2)، ويعلق "عزيز العظمة" مادحًا "يستصلح الشميل بذلك أكثر الأفكار تطورًا وطليعية في عصره، ويربطها بأفكار الأنوار التي يستلهم منها كتابات البارون دولباك، ويستنتجها بصورة مباشرة من إطار نشأتها في عموم النظرية التطورية دون مراوغة" (¬3). وفي نفس السياق جاء "سلامة موسى" بالفكرة نفسها، فهو يرى تقليدًا لماديي الغرب بأن الطين قد نبض بالحياة في وقت ما، بالخلية الأولى البدائية، ثم تطورت إلى أن جاء الإنسان في قمتها، فالحياة أصلها مادي رغم كراهية الناس لذلك (¬4)، وبما أنهم لا يستطيعون إيجاد دليل على نشأة الحياة من المادة فقد اكتفى بتعليل أدبي حيث قال: "وأحسن ما قيل عن الحياة بلغة الشعر التي تعتمد على أساس العلم: "إن الحياة نسيج يحوكه الضوء من الهواء" (¬5)، وينتج عن هذه المادية إنكار الغيبيات والدين (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: الفلسفة النشوئية. . . .، د. محمود المسلماني ص 167. (¬2) انظر: العلمانية من منظور مختلف، د. عزيز العظمة ص 183. (¬3) المرجع السابق ص 183. (¬4) انظر: سلامة موسى بين النهضة والتطوير، د. مجدي عبد الحافظ ص 40 - 41. (¬5) الإنسان قمة التطور، سلامة موسى ص 66. (¬6) انظر: سلامة موسى بين النهضة والتطوير، د. مجدي ص 84 وما بعدها.

تنطلق الدارونية العربية المتغربة من هذه النقطة الإلحادية لتتوسع في ماديتها وإلحادها، وأجد أن كثيرًا من الدراسات انخرطت في الاعتراض عليهم مستشهدة مثلًا بوجود علماء أحياء رفضوا هذه النظرية، ولكن مثل هذا الجدل سيبقى دون نهاية إذا بقي الإطار للفريقين مختلفًا، فأهل الدين يقرون بوجود الرب سبحانه وبما أنزله على أنبيائه ورسله من الوحي، وأن هذا الوحي هو الحق، بخلاف الماديين فهم لا يقرون بكل ذلك، وسيبقى علم الأحياء بين نظريات تتجاذبه، تُعارض غالبًا عقيدة الخلق للإنسان وبقية المخلوقات الحية بما أنه علم يتحرك في الإطار العلماني المادي، ومع ذلك وبسبب المنهجية العلمية ففيها أشياء صحيحة، مما يجعلها ملتبسة، لهذا قد يظهر في ناقدي النظرية من ينقدها بكل ما فيها رغم أنها نظرية مجملة فيها عناصر صحيحة وظفت توظيفًا غير صحيح، كما أنه قد يظهر من يسلم بها ويبدأ في محاولة التوفيق بينها وبين الإسلام حتى لا ينفتح المجال للملحدين، أو حتى يرى العالم توافق الإسلام مع العلم، مع أن فيها ظنيات كثيرة بشهادة فلاسفة العلم، وقد وقع في تاريخ الفكر المعاصر هذا وهذا، فكما وظف التغريبيون النظرية فيهدمون الدين بأسلوب أيدلوجي ومذهبي صرف؛ كان هناك من المسلمين من أراد التوفيق بينها وبين الإسلام دون التأكد من صحتها والتثبت عبر المتخصصين من علماء الأحياء والكيمياء والجيولوجيا والوراثة وغيرها من العلوم، بحيث يفرقون بين الحقائق العلمية والفرضيات والأفكار الفلسفية المرتبطة بها، فيكون تقريبها من التصور الإسلامي مبنيًا على علم، إذ لا تكفي النية الحسنة في هذا الباب ما لم يصاحبها العلم الصحيح (¬1). وكان الأقرب والأفضل في هذا الباب -والله أعلم- أن يتفرغ الخطاب الإسلامي لنقد تلك التشوهات المرتبطة بالدارونية العربية (¬2)؛ لأنها الأوضح، دون الدخول في إبطال النظرية أو تصحيحها أو التوفيق بينها وبين الإسلام، كان بين أيدينا أمر في غاية الوضوح وهو الإلحاد والمادية، فكان الأجدر دفعه ¬

_ (¬1) ممن رفضها الشيخ جمال الدين الأفغاني في كتابه "الرد على الدهريين"، وممن سعى للتوفيق بينها وبين الإسلام: إسماعيل مظهر والشيخ محمد رشيد رضا والشيخ طنطاوي جوهري والشيخ حسين الجسر وحفيده نديم. انظر الجمع التوثيقي الموسع لهذه المسألة في كتاب: أصل الإنسان بين العلم والفلسفة والدين، د. سامي عابدين. (¬2) هذا ما تميزت به كتابات محمد قطب عن الدارونية في عدد من مؤلفاته.

ومواجهته وإبطال زيفه وأنه لا علاقة له بالعلم الصحيح الثابت، وإنما هو أيدولوجيا ترتبط بفراغات خطيرة موجودة في العلم، وليس المقصود من هذا الكلام الانتقاص من شأن جهود فكرية مدهشة ناظرت الدارونيين المتغربين وخفف من غلواء المادية والإلحاد رغم الاعتراف بوجود ملحوظات على عملهم؛ وإنما المقصود الاستفادة من تجربة أصبحنا بعيدين عنها بما يكفي للتبصر في الأمر وأخذ الدروس الكافية. أما نقد النظرية في جانبها العلمي فالأولى أن يكون من مفكر مسلم متمكن من علم الأحياء وما يرتبط بها ومتخصص فيها ومشارك في ميدانها، فمثل هذا أقدر على إعطائنا الحدود الفاصلة في كل نظرية، وقادر على توصيف مكونات النظرية: ما الجانب الفرضي فيها؟ وما القوانين أو المعادلات والحسابات الصحيحة؟ وما جوانب الضعف والقوة؟ وما القطعي فيها والظني؟ وما المحدد الواضح وما العام الغائم فيها؟ عندها يكون إبداء الرأي الديني أيسر وأقوى. لقد جعل هؤلاء الدارونيون العرب من الدارونية أداة للقول بالإلحاد ونبذ الدين، فكان الأولى الوقوف مع هذا الإلحاد ذاته قبل التعجل في التوفيق بين الإسلام والدارونية، فإن مصير الأمة ومستقبلها لم يكن مرتبطًا بتقبلنا للدارونية، فهي في مجالها العلمي نظرية أخذت شهرة كبيرة في علم الأحياء، إلا أنه عند افتراض وجود مجتمع لم يعرفها ولم يدرسها في مدارسه وحرص على العلوم النافعة؛ فإنه سيتقدم مع جهله بها، وإذا كان مصير الأمة لا يتأثر بجهلنا بتلك النظرية فإن واقع الأمة يتأثر بوجود الدارونية الملحدة كفلسفة؛ لأنها جعلت من أصولها إنكار الدين وإقامة الإلحاد، فكان الأهم من محاولات التوفيق الاجتهاد في إبطال الإلحاد الداروني. لم يتوقف الدارونيون المتغربون عند إنكار الدين، بل تجاوزوا ذلك إلى إعلان الإلحاد، وتكون المفارقة العجيبة، حيث كان العالم الإسلامي يبحث عن علوم تجعله قويًا بإسلامه، فإذا هو -عبر الدارونيين- يلتقي بالعلم وبدعاته في وجه إلحادي، فظهرت الدعوة إلى الإلحاد باسم العلم ذاته، حيث اعتبر "العلم" هو المطلق "والإله الوحيد" عند "شميل"، ورفض أي توفيق بين العلم والدين لاعتقاده بالتناقض المطلق بينهما، مستندًا في ذلك "إلى معطيات التطورية الدارونية والأفكار العلمية الأوروبية". وأنكر وجود الرب "فالمادة هي المكون

لكل شيء، وهي أبدية أزلية، ومنها نشأت الكائنات. ."، ولا حاجة إلى الاعتقاد بوجود الرب في عصر العلم كما يرى شميل (¬1)، وأطلق على هذا الإلحاد مصطلح "الإلحاد العلمي" في انتساب للعلم (¬2)، وكما يقول أحد المعجبين بشميل: "وهكذا فالله الذي يؤمن به، أمسى مع تطور حياته واتجاهه في مسار العلم الطبيعي، ضربًا من الوهم، لا مكان له بين حقائق تفكيره" (¬3)، وقد استعان شميل بأفكار "بوخنر" (¬4). أما "سلامة موسى" فقد وجد في أحد المتأثرين بداروين "نيتشه" (¬5) أداةً مناسبةً في إعلان إلحاده (¬6)، فضلًا عن طائفة أخرى ذكرهم في كتابه: "هؤلاء علموني". يُعد "الإلحاد" ظاهرة مرضية تصيب بعض الناس، وهو مرض معروف، ولكن الجديد فيه هو دعواه الارتباط بالعلم، وهي أيدلوجيا خطيرة؛ لأن العلم في أذهان الناس يرتبط بالحقيقة والمعرفة الصحيحة وله سمعة طيبة، فإذا جاء من يدّعي بأن العلم يقود بالضرورة إلى الإلحاد، وأن دلائله تشهد بالإلحاد، فذاك أمر خطير، ومع ذلك فإن مما يوقف ذاك التلاعب والعبث بالعلم هم العلماء أنفسهم، فقد رأينا في الفصل الأول من الباب الأول ظاهرة انقسام المجتمع العلمي في الغرب، وبروز النابذين للإلحاد في دوائر العلم المختلفة، مما يجعل الإلحاد فيروسًا خبيثًا ظهر ثم بدأ يختفي، ولولا تغلغل "الماركسية" وأذيالها المعاصرة وأشكالها المطورة داخل الغرب لربما كان حال العلم أبعد بكثير عن دائرة الإلحاد. إذًا فلا علاقة للإلحاد بالعلم وإلا لكان كل عالم حقيقي ملحدًا، إذ كيف تظهر عنده نتائج يقينية ثم يتركها ويستسلم للإيمان بوجود الخالق سبحانه. وينقص هذه الظاهرة الجديدة قيام المسلمين بواجبهم العلمي في تبليغ دين الله إلى خلقه، ومن ذلك إيصاله إلى هؤلاء العلماء البارعين في العلوم ¬

_ (¬1) انظر: الموسوعة الفلسفية العربية 2/ 178. (¬2) انظر: المرجع السابق 2/ 562. (¬3) هو د. محمد المسلماني في كتابه الفلسفة النشوئية .. ص 167. (¬4) انظر: الموسوعة الفلسفية العربية 2/ 179. (¬5) انظر: عن دارونية نيتشه كتاب: الدارونية والإنسان .. ، د. صلاح عثمان ص 122. (¬6) انظر: سلامة موسى بين النهضة والتطور، د. مجدي عبد الحافظ ص 78، 115، وانظر: سلامة موسى وأزمة الضمير العربي ص 64، 89، 113.

المادية والاجتماعية حتى ينقلوهم من الإيمان بالله سبحانه إلى التصديق بالنبوة والإقرار بالدين الحق الذي ينجيهم. وإذا كان الأصل عند "شميل - موسى" هو الإلحاد؛ فلا مجال للاعتراف بالدين، ولكن المجاهرة بالإلحاد قد تصرف الناس عنهم ولاسيّما من يعجب بهم، لهذا نجد عنايتهم بدراسة الدين أكثر من العناية بإبراز الإلحاد، وهدف دراسة الدين إقصاؤه عن الحياة، ومن الملاحظ أن "الغلاة" في ذلك أو من هو قريب منهم كان من النصارى "شميل - موسى - أنطون - زيدان. . . ."، وهؤلاء لا يخسرون شيئًا بتدمير الدين، على العكس فربما يكون دافعًا لمزيد من المكاسب في ظل الاستعمار والدعم الأجنبي. أصبحت الدارونية هي الإطار لفهم الدين فدرس "شميل" "الموضوع الديني وفق مبادئ نظرية النشوء والارتقاء. ناظرًا إلى الدين كظاهرة اجتماعية تنطبق عليها مبادئ فلسفة النشوء شأن الظواهر الطبيعية. . . ." (¬1)، وتبعًا لذلك فإن العلم يرتبط بالمادة، والدين لا يدخل في العلم المادي عندها يخرج الدين من العلم إلى الأوهام، ولهذا كانت الكثير من أصول الدين "تنهل من ينابيع الخيال والأوهام، فالوحي والبعث والخلود والثواب والعقاب والأخرويات وعالم الروح وعلة العلل. . . . كلها مفاهيم ذات مصدر غير مادي. وهي بالتالي تنتمي إلى عالم الأحلام والأوهام. . . ." (¬2). المثال الثاني: وفي المسار نفسه يتحرك "سلامة موسى" فإلى "قبل نحو عشرة ملايين من السنين كنا مثل سائر القردة التي تأوي إلى الأشجار تأكل من ثمارها وحشراتها وتحتمي على غصونها"، واستفاد الإنسان من ذلك تعويد يديه على حركة جديدة غير المشي على أربع كبهيمة الأنعام وإنما للتسلق أيضًا، كما أن الخوف من النهار جعل العمل أكثر في الليل، فاجتمعت العينان في الوجه للحاجة إلى قوة النظر. ثم لسببٍ مجهول ترك الإنسان مجاورة القرود على الأشجار وسعى في ¬

_ (¬1) الفلسفة النشوئية .. ، المسلماني ص 181. (¬2) المرجع السابق ص 183، وانظر: العلمانية من منظور مختلف، العظمة ص 183.

الأرض والسهول والوديان، وتطور المشي على القدمين، وتحررت اليدان أكثر، مما مكنه من توظيفها في الصيد والإمساك، وهنا جاءت مرحلة الصيد، واحتجنا أكثر إلى حاستي السمع والنظر، فأوجدا الوعي -أي: الوجدان- في الإنسان، صاحب ذلك الوقوف بدل السير على أربع مما مكن الإنسان من حمل رأسه مما ساعد في نمو الدماغ، والفضل يعود إلى التطور الذي دفع القدمين للمشي وحرر اليدين فانتصب الإنسان وحمل دماغه، وبدأت الحواس تغذيه. ومع ترك الأشجار والخروج جماعات للصيد ولدت "اللغة" بفضل التطور كحاسة للجماعة، وبدأت أدوات الكلام من رئة وحنجرة ولسان تتطور مع ذلك حتى تقوم بوظيفة الكلام، وفي مرحلة الصيد مرت سنوات طويلة ولدت فيها "خرافاته" لاستعانته على الصيد بعقائد السحر والدين، فالصيد خطر ويحتاجون إلى شيء يلهمهم الاطمئنان فكان ذلك بالتشبث بأي عقيدة. ومع "الصيد" ظهرت رعاية بعض ما يُصاد، فظهرت رعاية القطعان، ومنها ظهر نظام القبيلة، وفيها ظهر الاعتقاد بإله. ثم جاء التحول إلى "الزراعة" فظهرت الحضارة، وظهر "الدين" الذي يجلب الطمأنينة على الزرع (¬1)، فجاء "الدين" في المرحلة الزراعية وإن كانت بداية أصوله من مرحلة الرعي، ويكون منبع "الدين" بحسب هذا التصور الخوف والجهل والبحث عن الطمأنينة، ويغلب على الأمثلة التي يمثلون بها ذكر الأديان الوضعية القديمة عند قدماء المصريين واليونان وغيرها، وهذه التفسيرات حتى على مستوى الأديان الوضعية هي فرضيات تنطلق من حالات حاضرة إلى الماضي البعيد جدًا، وهي موضع خلاف منهجي، إلا أن الدارونيين العرب لا ينتقلون من الحاضر إلى الماضي لدراسة أديان وضعية؛ بل ينتقلون من نتائج تلك الفرضيات حول الأديان الوضعية إلى التعميم على كل دين، ومن ذلك تعميمها على الدين الحق، فهو لا يعدو عندهم عن كونه مرحلة متطورة من تلك الأديان البدائية، وهذا "شميل" يرى بأن الدين بدأ من شعور محبة الذات بعد أن شعر بالخوف من الموت، فبحث عن شيء ينقذه ويهب له البقاء، فبدأ بعبادة آلهة لا تحصى ابتكرها خياله، ثم حصرها مع تطوره في إله واحد أقصاه عن عالم المادة والمحسوس، وتطور الدين إلى أن بلغ "مرحلة من ¬

_ (¬1) انظر: الإنسان قمة التطور، سلامة موسى. . . . ص 6 - 16.

النضج عالية مع المسيحية والإسلام" (¬1). وهذا أقصى ما نجده عندهم حول الدين، وهو تصور طبيعي لمن لا يقر أصلًا بالرب سبحانه، فيكون البحث منصبًا في طريقة تطور الدين كنشاط اجتماعي أو كظاهرة اجتماعية، أنتجها المجتمع بما يتوافق مع تطوره. لا شك أن "سلامة موسى" كان الأكثر كتابة ونشاطًا، حيث عاش فترة طويلة سمحت له بقول كل ما يريد ويبثه في المجتمع، مع الرعاية المميزة التي حصل عليها من هذا الطرف أو ذاك في فترة الاستقطاب الغربي لبعض الشخصيات المتحركة، ولهذا فإن النظر ليس إليه كشخص أو حتى كمفكر مستقل؛ وإنما كأداة تعبر عن أهداف مجموعة أكبر تتخذ من "سلامة موسى" لأكثر من خمسين سنة وسيلة لذلك التعبير، وإن كانت التيارات اليسارية قد تبنته بعد العشرينات من القرن العشرين (14 هـ) إلا أنه بقي وفيًا للدارونية أغلب حياته. فإذا وجدنا من أحدهم ادعاء العلمية، ثم إذا به يتحول إلى عدوّ للدين، فليست المسألة مسألة شخص اقتنع بهذا الاتجاه وإنما هي أوسع من ذلك، إنها فئة قد تكون غير مقتنعة بعلمية العمل ولكنها مقتنعة بفائدته في ضرب الدين، وقد رأينا مدح ماركس لبوخنر؛ لأنه يمثل أداة جيدة في هدم الدين، وإن كان عمله بحسب ماركس غير علمي من وجهة نظره (¬2)، ومثله في العالم الإسلامي عندما ظهرت تلك المجموعة الحاقدة على الإسلام واتخذت من العلم إطارًا لحركتها، فإذا لم يساعدها العلم رمت به واتجهت إلى أي مفكر غربي لا يقبل الدين، وهذا مما يفسر كثرة الأدوات التي استعان بها "سلامة موسى" لضرب الدين، وهي أبعد -كما سبق- من أن تكون خيارات فردية لمشروع فكري، وإنما هو معبّر عن مصالح فئةٍ جديدةٍ رعاها الاستعمار ورأت في تحطيم الدين طريقها الوحيد لتحقيق مصالحها. ولم تُخْف الدراسات المتعصبة لـ"سلامة موسى" ذاك الأمر، فهم يعترفون بسطحيته وسذاجته في فهم العلم الحديث (¬3)، إلا أنهم يرون بأن دوره الحقيقي ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق، المسلماني ص 156. (¬2) انظر: الباب الأول، الفصل الثاني. (¬3) انظر: مثلًا: دراسة د. مجدي عبد الحافظ، سلامة موسى بين النهضة والسقوط ص 83 - 84.

والمهم كان في هدم الدين، وتوظيف مثل تلك الأدوات في هذا المشروع الخبيث، فهو يعترف بأن الدارونية نزعت من قلبه العقائد الدينية، ولحاجة قلبه إلى عقيدة يطمئن إليها فقد وجدها في الدارونية (¬1)، وأصبح الهدف أن يحول الجماهير إلى هذه العقيدة "تأخر الشرق العربي في الأخذ بنظرية التطور وتأخرت بذلك ثقافتها. حتى إننا لا نجد إلى الآن كتابًا عربيًا مثلًا في "تطور الأديان". . . . ولا يمكن أن توجد. . . . إلا بعد أن تسلم الجماهير العربية المتعلمة بأن التطور عقيدة بل ديانة كما هو حقيقة. ." (¬2). يصبح "دينًا جديدًا يتخذ في قلوبنا وعقولنا قداسة الأديان السماوية" (¬3)، ولا يخفي باحث قريب من سلامة موسى حقده على الدين وحرصه على تحطيمه، وهو أمر يعبر به عن رأي طائفة حوله، فيقول حول انعكاس نظرية التطور على أتباعها: "لاكتشفنا أن انعكاس نظرية التطور على الحركة الفكرية المصرية (¬4)، هو "التفريج الكظوم"، وهو "الانتقام"، هو الثورة العارمة على الغيبيات والثقافة الدينية، هو تحويل معنى التطور إلى دين جديد" (¬5). لقد أوصلت الدارونية الفلسفية أصحابها إلى نتائج عجيبة، فهي بعيدة كل البعد عن النظرية ذاتها، فالنظرية وصاحبها لم تتكلم عن الرب سبحانه ولم تتحدث عن الدين ولم تتحدث عن العقائد، صحيح أنها تحمل مفاهيم معارضة للربوبية، ولكن هذا وارد في أغلب الإنتاج الفكري المنتج في بيئة علمانية، ولكن هذا الانحراف يختلف عن تلك المبادئ التي وصلت إليها الدارونية الفلسفية، الدارونية الفلسفية هي في الحقيقة دين جديد يراد له أن يكون بديلًا عن الدين وشرائعه وعقائده وقيمه، وهذا ليس له علاقة بالنظرية في مجالها العلمي. وهذه النتيجة توضح لنا صورة الانحراف بالعلم، وتتمثل في توظيفه ¬

_ (¬1) سلامة موسى وأزمة الضمير العربي، د. غالي شكري ص 89. (¬2) الإنسان قمة التطور، سلامة موسى ص 23. (¬3) سلامة موسى .. ، السابق ص 110. (¬4) علينا الانتباه إلى مسألة التعميم هذه، لأن رغبة الهدم والتدمير إنما هي في الفئة المتغربة (الدارونية والماركسية) وأمثالهما. (¬5) سلامة موسى .. ، السابق ص 110، وانظر: سلامة موسى بين النهضة والتطوير، د. مجدي عبد الحافظ ص 52 - 53.

لأهداف أيدلوجية تناهض الدين وعقائده وشرائعه وقيمه. ولو كانت أداة سليمة لسلمنا بصحة توظيفها في نقد الأديان المبدلة أو المخترعة، ولكنها أداة تشوهت بسبب ارتباطها بمؤسسين ملحدين، وبسبب مرض التعميم الذي يصيب أصحاب المناهج المخترعة. وبقدر ما نكشفُ المسافة البعيدة بين النظرية الدارونية في مجالها العملي بما فيها من أخذ ورد وبما فيها من مفاهيم تصادم الربوبية وبين الفلسفة الدارونية؛ بقدر ما نكشف أن ارتباطها مع دعاتها العرب كان هدفه الإفساد في الأرض بنشر الإلحاد وإبطال الدين، وقد جاء ذلك في ظل صراع دولي استعماري رغب المستعمر آنذاك في إضعاف الدين عنصر القوة في الأمة الإسلامية، لهذا ارتبط ظهورها بوجود الاحتلال البريطاني للهند، حيث ظهرت هناك أولًا، ثم في مصر ثانيًا بعد الاستيلاء عليها سنة (1882 م)، وهي سنة وفاة صاحب النظرية الدارونية. لم يكن بعيدًا عن عين المخططين للاستعمار أثرها في أوروبا وعلى أديانهم فيها؛ لهذا كانت أداة جيدة يُضرَب بها المسلمون وإسلامهم، ولم يكن الاستعمار في تلك المرحلة مستعدًا لأي خطأ يسمح بقوة المسلمين فهذا من الحماقة؛ إذ كيف يتفق مع هدفه في استغلال بلاد المسلمين، فكان دعم الأفكار الشاذة والسماح بوجودها وانتشارها من أفضل الأدوات الفكرية في ذلك الصراع. وبالرغم من انحسار القيادات الفكرية المتحمسة للدارونية إن لم نقل انقراضها؛ إلا أن هناك مجموعة من طلاب سلامة موسى حوّلوا تلك الأفكار والأصول الدارونية الفلسفية إلى ميدان الأدب، وكان أبرزهم في مرحلة السبعينيات الأديب المشهور "نجيب محفوظ"، وفي ذلك يقول أحد مريديه: "يبدو أن تأثير سلامة موسى في جيلنا أقوى من تأثيره في الجيل المعاصر له"، وذكر من الجيل الجديد نجيب محفوظ: "أما الجيل التالي لهؤلاء الرواد فقد أناب عنه الفنان نجيب محفوظ في تصوير الأثر العميق الذي تغيرت به أوزان جيل كامل"، إلى أن قال: "وقد احتضن سلامة موسى الأديب أو الفيلسوف الصغير وقتئذ، إذ إن نجيبًا كان متخصصًا ذلك الحين في الكتابات الفلسفية. . . ." (¬1)، وهذا التلميذ حفظ رسالة ¬

_ (¬1) انظر: سلامة موسى .. ، د. غالي شكري ص 12، وذكر من طلابه -ص 72 - (لويس عوض، محمد مندور، نجيب محفوظ).

أستاذه ونشرها أدبًا روائيًا ضخمًا بدأها بأسوأ البدايات، رواية "أولاد حارتنا" فجعل أبطالها صورة مشوهة للرب سبحانه وأنبيائه والعقائد الدينية، وقد تتبع الدكتور "السيد فرج" تلك الأبعاد الدارونية وغيرها في أدب نجيب محفوظ (¬1) وكيف أهلته مثل هذه الأعمال إلى الإطراء العلماني من هنا وهناك وحصل على تكريم بما قدمه عبر أدبه من هدم للدين. المثال الثالث: يأتي في سياق النظرة القاصرة للدارونية العربية ما نجده من كاتب مشهور هو هشام شرابي، فهو يرى أن هؤلاء الدارونيين وبخاصة النصارى منهم قد قدموا البديل العلمي لقضايا كان التراث يستأثر بها، كما نجحوا في الخروج بها من دائرتها العلمية ضمن علم الأحياء إلى مجال اجتماعي وفلسفي أوسع، ويعيد الفضل لسبنسر الذي وجد فيه الدارونيون العرب والغرب قبلهم مادة جيدة لتوسيع الدارونية لتصبح مذهبًا وحياة لأتباعها، ونتيجة لكتاباته "أضحت أفكار التطور والتقدم الاجتماعي، وصراع البقاء، والبقاء للأفضل، شعارات أيدلوجية العلمية الجديدة التي تبناها التحديثيون التنويريون" (¬2)، ومن بين آثارها على الدارونيين العرب وبخاصة النصارى منهم فكرة الصراع الخاضع لقوانين عمياء طبيعية، فمصير الأفراد والمجتمعات لا يخضع لإرادة إلهية وإنما لإرادة عمياء تعمل بها الطبيعة، وبهذا وكما يقول شرابي أصبح الفكر المسيحي أكثر واقعية (¬3). هذا نموذج من نماذج عجيبة تعرض للدارونية العربية بأسلوب مادح، مع أن ما يمدح لا يستحق المدح، فليست هذه المواقف النصرانية العربية إلا نماذج من المراهقة الفكرية والتهور الذي قد يراد به مسابقة الغير في التبعية، وهم في أحسن الأحوال قد خرجوا من ضلال ليدخلوا ضلالًا أعمق منه، بظنهم أن هذا من علامات التقدم والرقي والعقلانية والعلمية. ¬

_ (¬1) انظر: أدب نجيب محفوظ وإشكالية الصراع بين الإسلام والتغريب، د. السيد أحمد فرح، حول أستاذية سلامة موسى. . . . ص 29 - 44، وحول أثره وأثر الدارونية، انظر: الصفحات التالية: ص 6، 147، 155 - 157، 175، 184، 266 - 268، وحول أولاد حارتنا ص 51 - 58. (¬2) انظر: المثقفون العرب والغرب، هشام شرابي ص 147 - 148. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 162.

والخلاصة أن الدارونية العربية غالبًا قد نظرت إلى الدين على أنه نشأ في الأرض، ولا علاقة له بالسماء، وأنه لا يوجد دين سماوي جاء به الوحي، وأن الدين قد مرّ بمراحل، إلا أن مسير تطوره يتجه نحو الإلحاد ونحو فنائه، والأخطر من كل ذلك أن هذه الدعاوى تُقدم باسم العلم، وذلك بالانتساب لنظرية داروين وما ألحق بها من مذهب. ينتقل البحث الآن إلى مجال آخر، وهو مجالٌ علمي فعلًا، إلا أن المتغربين قد انحرفوا به انحرافًا خطيرًا من جهة تصوره للدين، وهذا المجال هو علم النفس.

المبحث الثاني التأثر بنظريات من علم النفس حول الدين

المبحث الثاني التأثر بنظريات من علم النفس حول الدين تُعد دراسة النفس من أقدم الاهتمامات في تاريخ البشرية، إلا أن إخراج هذه الدراسة من مظلة الدين أو الفلسفة وإخضاعها للأسلوب العلمي وطرائقه ومناهجه لم يظهر إلا في الإطار العلماني الغربي الحديث، وإن كان الأقرب للحقيقة أنها أخرجت من مجال الدين، ولكنها بقيت مقطعة بين الفلسفات والأفكار وبين المناهج العلمية المرتبطة في أصولها بتلك الفلسفات والأفكار. يبرز استقلال هذا العلم عن الدين في الكتابات العلمانية بطريقة افتخارية، وهو حق لو كان المقصود بالدين هنا الدين الباطل، أما إن استقلت عن الدين الحق الذي ما نزل إلا لإصلاح النفس فهو استقلال لا يفتخر به، ولاسيّما عندما تمّ ذلك في إطار علماني وإلحادي، في نهاية القرن التاسع عشر وأول العشرين، فإن تلك المرحلة كانت مرحلة علمانية متطرفة، كما أن أبرز رواد التأسيس كانوا ملحدين أو منكرين للنبوة، وعلم ينشأ بمثل هذه الظروف والملابسات من الطبيعي أن يكون موقفه -من النفس المتدينة، والدين الذي تبحث عنه، والرب الذي هو مصدر دينها- في غاية السوء. قطعًا هناك مجالات كثيرة درسها "علم النفس" من جهة تجريبية بحته، مما

يجعلها بعيدة عن الإشكالات الدينية، ويكون الصواب فيها مرتبطًا بالموضوعية والدقة واكتمال الأدوات المناسبة، وهي خارج إطار بحثنا هنا، إلا أن هناك جوانب أخرى حول تدين الإنسان، وحول الدين، ومن ثم أصل الدين كله وهو الإيمان بالله -سبحانه وتعالى- هي مواطن الانحراف الضخم في ميدان علم نفسٍ نشأ في بيئة علمانية وإطار علماني ومع مؤسسين لهم مواقفهم ضد الدين. بدأت الدراسات النفسية القديمة ببحوث عن الروح، ثم تُركت للفلسفة واهتم هذا العلم بالنفس، ما هي؟ ثم تحول إلى العناية بالعمليات العقلية، وأضاف الاهتمام بالشعور والإحساس، ثم تحول إلى دراسة اللاشعور واللاوعي والعقل الباطن، ثم اهتم أخيرًا بالسلوك الظاهري (¬1)، وإغفال الروح وتزكية النفس والتركيز فقط على الجانب المادي من الإنسان، هو من أثر النظرة الأحادية للإنسان، بحيث يهتم بالجانب المادي للنفس والدوافع والنشاط مع إهمال الجوانب الروحية والخلقية (¬2)، وهو ما ميز النزعة العلمانية المتطرفة في الحضارة الغربية الحديثة ولاسيّما وقت نشأة هذا العلم، فالتركيز على الجانب المادي لا يرجع فقط إلى النزعة العلمية الحسية؛ بل هو في الأساس من الإطار العلماني المادي الموجه لحركة نشاطهم، وتبعًا لذلك كانت النظرة للتدين والتخلق والدين والأخلاق. بدأ ظهور "علم النفس" في البلاد العربية كغيره من العلوم الحديثة عن طريق ابتعاث نفر من الشباب ليدرسوا هذا العلم، في وقت ما زال العلم يشق طريقه عبر مذاهبه المختلفة، ومن هنا جاءت تشكيلة مختلفة لدينا، كلٌ بحسب البلد الذي ابتعث إليه، وبحسب المذهب الذي تخصص فيه (¬3)، ويواجه الطالب هنا علمًا يقبع تحت وطأة "مظلة علمانية"، ويتكون من خليط من الحقائق مع الأفكار والفرضيات والفلسفات والأهواء، وهذه "الخصوصية لعلم النفس الحديث تشكل خطرًا فكريًا وعقائديًا عظيمًا على الطلاب والمسلمين بشكل عام" (¬4)، فمثله قد لا يستطيع التفريق بين النواحي التجريبية ونتائجها المفيدة، ¬

_ (¬1) انظر: علم النفس في التصور الإسلامي .. ، د. عبد الحميد الهاشمي ص 17 - 18. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 21. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 25 - 26. (¬4) من مقدمة مالك بدري في (تمهيد في التأصيل - رؤية في التأصيل الإسلامي لعلم النفس)، عبد الله الصبيح ص 11 - 13.

صراع النظريات النفسية ودلالاتها في الميدان الفكري

وبين "النواحي الفلسفية العلمانية" (¬1). والعجيب أن نجد في دراسة حديثة نسبيًا عرضتها مجلة غربية اعترافًا بأن ما يصدر للعالم الثالث من نظريات وعلوم نفسية هي قضايا مشكوك فيها داخل أمريكا، ودراسة أخرى حول مشكلة سيطرة علم النفس الأمريكي على أوروبا بينما هو يناسب البيئة الأمريكية، وأنه على البلدان الأوروبية تأصيله بما يناسب البيئات الأوروبية (¬2)، هذا وهم أهل ثقافة واحدة وحضارة واحدة. صراع النظريات النفسية ودلالاتها في الميدان الفكري: من المفيد هنا استحضار ذلك الصراع الذي حصل في ميدان علم النفس ولاسيّما في ميدان له علاقة بمبحثنا، وهو ذلك الصراع الذي حصل بين أتباع "بافلوف" من جهة وبين أتباع "فرويد" أو "واطسن" أو "وليم جيمس" من جهة أخرى. حيث تبنت الاتجاهات المادية الماركسية أفكار "بافلوف" (¬3)؛ لأنها الأقرب إلى مبادئ الماركسية ولاسيّما مع تأثر بافلوف بالماركسية، لهذا تبناه "ستالين"، بينما حارب التروتسكيين أتباع "تروتسكي" الذي توجه إلى تعاليم "فرويد" معتبرًا إياها مادية ومنسجمة مع الماركسية (¬4). وفي المقابل نجد الاتجاه الرأسمالي يتبنى "فرويد" مع تيارات أو "واطسن" السلوكي أو "جون ديوي" الوظيفي (¬5). فلو كان علم النفس علمًا واضحًا لأُخذ من الجميع دون التعصب لهذا أو ذاك، كما تؤخذ الرياضيات والكيمياء والفيزياء، ولنُسي "بافولف" و"فرويد" و"واطسن" كما أن الرياضيات والفيزياء تُدرس عند الجميع بإغفال علمائها، ومع ذلك فلا تُذكر الآراء النفسية في الغالب إلا مع أصحابها، وهذا يؤكد أنه ما زال في غالبه ألصق بالمذاهب والفلسفات والتي يكون معيارها يرجع ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق ص 15. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 16. (¬3) انظر: أبحاث ندوة علم النفس للمعهد العالمي للفكر الإسلامي، (نحو وجهة إسلامية لعلم النفس)، د. فؤاد أبو حطب ص 164، وانظر: مفاهيم علماء النفس .. ، هشام البدراني ص 28. وانظر: سلامة موسى. . . .، غالي شكري ص 178. (¬4) انظر: علم النفس في التصور الإسلامي ص 12 - 14، وانظر: فرويد. التحليل النفسي والفلسفة الغربية المعاصرة، فاليري ليبن ص 6. (¬5) انظر: علم النفس في التصور الإسلامي ص 14 - 17.

دخول علم النفس للثقافة العربية والمواقف تجاهه

للاختيار الشخصي وليس للتحقق الموضوعي، وتكون بحاجة كغيرها من الموضوعات التي يتنازع الناس فيها إلى مصدر آخر يرفع هذا التنازع أو يحدد لنا الاختيار الصحيح. وهنا يأتي أهمية التأصيل الإسلامي، فبالرجوع إلى أصوله نستطيع الحكم فيما اختلف الناس فيه، ونحسن الاختيار عند الاحتياج لشيء مما عندهم. دخول علم النفس للثقافة العربية والمواقف تجاهه: إذا كان علم النفس المعاصر قد ارتبط بالحضارة الغربية العلمانية في جوهرها وما زال يحمل إشكالية علميته التي لم تتحقق، فهل نكون ضد هذا العلم؟ قطعًا ليس هذا هدف الباحث، بل الباحث مقتنع بأهمية هذا العلم وحاجتنا إليه، ومقتنع بأن للغربيين جهودًا كبيرة في تطويره، وبأهمية تحصيل النافع منه، وهذا ما يقوم به مجموعة من فضلاء الباحثين في ميدان علم النفس توجت جهودهم بتفاعل حضاري يجتهد في تأصيل إسلامي لعلم النفس أو تقريبه من الإسلام بعد أن أبعدته تيارات غريبة ومتغربة عن الدين (¬1). وإنما جاءت المقدمة المحذرة من مشكلات هذا العلم لتكشف لنا عن تلك المناطق المشتبهة في هذا العلم أو المنحرفة والتي اكتفى بعض المتغربين بالوقوف عليها ونقلها إلينا دون تنبيه إلى مفاسدها، بل ربما يعتبرونها هي علم النفس الذي ينبغي أخذه وفهم أنفسنا من خلاله وفهم النشاط الإنساني وما يحيط بالإنسان ويتفاعل معه بواسطته. وعندما أقول مناطق مشتبهة أو منحرفة فهو ليس من قبلي كباحث؛ وإنما هو اعتراف أهل الميدان، لدرجة أن هناك من يرى صعوبة تعريف علم النفس، إنه نشاط ما زال يتحرك دون أن يأخذ التعريف الذي يميزه عن غيره، وإن وجدنا تعريفًا؛ فإنما هو تعريف من وجهة تلك المدرسة التي عرفته وتعترض عليه بقية المدارس، ففي أحد المعاجم المتخصصة بهذا العلم نجد "أن علم النفس ببساطة لا يمكن تعريفه، وحقيقة لا يمكن تحديد ملامحه. وحتى لو عرفه شخص اليوم؛ فهو سوف يتخلى عن التعريف بسبب عدم كفايته. . . . وجميع التعاريف تعكس ¬

_ (¬1) انظر مثلًا: تمهيد في التأصيل (رؤية في التأصيل الإسلامي لعلم النفس)، عبد الله الصبيح، الفصل الأول والثاني.

حماس صاحب التعريف وتعصبه أكثر مما تعكس طبيعة التخصص الحقيقية" (¬1)، وحتى موضوعاته فلا يوجد اتفاق عام على تصنيفها، ولذا تذكر أشهر الموضوعات التي دار حولها النشاط (¬2)، وتبقى فراغات أو احتمالات في التقديم أو التأخير. يفتح الإشكال السابق الباب لثلاثة مواقف؛ موقف يرى ذلك مبررًا كافيًا لرفض علم النفس، وربما يُخفي صاحب هذا الموقف ضعفه عن التفاعل الإيجابي، فالرفض أقرب إلى الضعف منه إلى القوة. والموقف الثاني الذي يجد في مثل هذا الالتباس فرصة من أجل تسريب أهوائه ورغباته، فيستخدمه كآلة للصراع أو بث أفكاره. والموقف الثالث وهو الذي يرى أهمية العلم ويعرف في الوقت نفسه المخاطر المحيطة به، فيجتهد في تخليصه ولو على مراحل مما علق به، فيتعامل تعامل الواعي الحذر بحقيقة هذا العلم بما فيه من حسنات مع ما فيه من مزالق، ولن يولد عمله كاملًا، والطريق أمامه طويلةٌ، والمهمة المناطة به عظيمةٌ، ولكنه واثق بأن مسيرة الاجتهاد والتنقيح والتصحيح والإبداع سترفع من هذا العلم حتى يكون علمًا في إطار الإسلام ونافعًا للبشرية كلها بإذن الله. البحث يركز على أصحاب الموقف الثاني، وفيهم الحاقد على الإسلام الذي وجد في مشتبهات علم النفس أو انحرافاته فرصة لإبراز حقده بقالب علمي مزعوم، أو الجاهل المنبهر بالحضارة الغربية مما جعله يستسلم لكل ما يجده في هذا الميدان على أنه من العلم أو ما يقبل الالتحاق به، والباحث المدقق يجد من يصرح بالحال الأول ويجد من وقع في أسر الحال الثاني، والذي يهم أنهما يشكلان صورة من التغريب في هذا الميدان. وأغلب علماء النفس الغربيين درسوا الدين؛ لأن الإنسان في حقيقته كائن متدين، فما من إنسان إلا ويولد على الفطرة (¬3)، لهذا حيرهم تدين الإنسان، وبدأت البحوث في تناوله، إلا أن منطلق أغلبهم منطلق إلحادي وعلماني، فيجعل الدين "ظاهرة نفسية" كما أن عالم الاجتماع يجعلها "ظاهرة اجتماعية"، ¬

_ (¬1) تمهيد في التأصيل ص 82، وقد ناقش المؤلف مشكلة تعريفه ص 82 - 85. (¬2) انظر: الإنسان وعلم النفس، د. عبد الستار إبراهيم ص 18. (¬3) انظر: المعرفة الإسلامية .. ، .. الباب الثاني، د. عبد الله القرني، وقد قال بذلك بعض علماء النفس، انظر: نشأة الدين، د. علي النشار ص 167 - 169.

نظرية فرويد النفسية ولاسيما ما له علاقة منها بالدين

لهذا يغلب عليهم دراسة الدين دون أن يصلوا منه إلى إثبات وجود موضوعي لدين موحى به، فهذا ما يرفضونه غالبًا، وأشد من ذلك فهم غالبًا لا يعترفون بأصل الدين وهو الإيمان بالله سبحانه، ثم مع كثرة الدراسات في هذا الميدان فُتحت أقسام خاصة في علم النفس تحت مسمى "علم النفس الديني" فرعًا من فروع علم النفس، يجمع في الغالب كل مباحثهم حول الدين. وعندما وقع الاحتكاك بالغرب وطُلب ما عندهم من علوم، برزت طائفة تنقل من ميادين علم النفس مهملة كل تراثنا الإسلامي في هذا الميدان، مكتفية بما تلقوه عن الغرب إلا في حالات نادرة، وتأثر بعضهم بنظريات حول الدين ظهرت في هذا العلم، وأصبحت تمثل موقف المتغرب من الدين أو يعرضها على أنها صورة من صور العلم التي تفسر لنا الدين. بالرجوع إلى المكتبة العربية المتغربة نجد الماركسيين يعلون من بافلوف وكشوفاته في ميدان علم النفس، بينما نجد فترة الابتعاث لأمريكا قد أثرت في طلابها وحولتهم إلى بحوث "وليم جيمس" في "التجربة الدينية"، إلا أن الطائفة الأبرز والأشهر هي التي ارتبطت بـ "فرويد" و"مدرسة التحليل النفسي"، حيث وجد في الإطار الفكري شعبية ربما لا يشعر بها أهل التخصص في علم النفس بسبب استغراقهم في دائرة علم النفس وعدم نظرهم في حركة الفكر والأدب والفن، وهي الزاوية التي تهتم بها هذه الدراسة في ميدان المذاهب الفكرية. وبسبب هذا الحضور الكبير لـ"فرويد" و"مدرسة التحليل النفسي" التي أسسها؛ فستكون هي النموذج الواضح لهذا المبحث، ولاسيّما أن له موقفًا واضحًا من الدين والألوهية سعى هؤلاء المتغربون إلى نشره بصورة أو بأخرى. نظرية فرويد النفسية ولاسيّما ما له علاقة منها بالدين: نبدأ بمعرفة مذهب "فرويد" في الدين، حيث بحث ذلك في "الطوطم والتابو"، و"موسى والتوحيد"، و"قلق الحضارة"، و"مستقبل وهم"، إلا أن أهمها بحسب أحد أتباعه المهمين "أريك فروم" هو "مستقبل وهم" وقد قدم خلاصة لذلك في كتابه: "الدين والتحليل النفسي"، واختصرها في النقاط التالية: • ينبع الدين من عجز الإنسان في مواجهة قوتين "قوة الطبيعة في الخارج، وقوة الغريزة في داخل نفسه".

• لم يكن الإنسان في مرحلة مبكرة من حياته بقادر على استخدام عقله في التصدي لهاتين القوتين، فتقوم قوى وجدانية بالتعامل مع القوتين بالكبت، وينمي الإنسان بهذه العملية ما أسماه بـ "الوهم"؛ أي: الوهم بالدين والألوهية. • يكون الوهم هنا هو الدين، أي: طاعة إله، ومادة هذا الوهم تكونت في طفولة الإنسان، فالطفل عندما يواجه قوى خطرة يشعر بأن أباه يحميه، فعند أبيه قوة وحكمة، وحتى يكسب حب أبيه، ومن ثمّ حمايته؛ فعليه بطاعة أوامره واجتناب نواهيه. • ونفس هذا الأمر يقع للكبير عندما يواجه قوة لا يستطيع السيطرة عليها أو فهمها، فهو يسترجع ذاك الوهم الطفولي، ويصوره في صورة دين، ويوجد إلهًا مكان الأب، قويًّا وحكيمًا، وحتى يكسب حبه وحمايته فعليه بطاعة أوامره واجتناب نواهيه. • في وقتٍ ما من طفولة البشرية نبع هذا الدين ونبع الإيمان بإله، وحسب نظريته فإن المستقبل يعني اختفاء الدين؛ لأن الإنسان أصبح قويًا وقادرًا على استخدام عقله، وبهذا فإنه بحسب المفهوم الفيورباخي يستعيد القوة والحكمة من الإله ويجعلها لنفسه؛ لأنه لا وجود إلا لهذا الإنسان والعالم المادي من حوله. • يزعم فرويد أن هذه الحقيقة التي وصل إليها تختلف عن أفكار فلسفية شبيهة قالها فلاسفة؛ لأنها بزعمه نابعة من تأمله في مرضاه وتحليل أحلامهم، إلا أنه يزيد درجة على من سبقه، فلا يكتفي بقوله: إن الدين وهم؛ بل هو خطر يجب التخلص منه، فهو يعتبره مرضًا عصابيًا (¬1). • إذا كان الدين وما يرتبط به مرضًا عصابيًا فإن ذلك يعني الرجوع إلى منبعه، ومنبعه هو عقدة أوديب، وكما يقول أحد رموز مدرسة التحليل النفسي من العرب "العقدة الأوديبية، عقدة الخصاء، تمثلان المحور الأساسي الذي يدور حوله كل تحليل نفسي. فمن هذه العقدة تتفرع الأعراض العصابية. . . ."، وهي ¬

_ (¬1) انظر: الدين والتحليل النفسي، أريك فروم ص 15 - 18، وكتاب مستقبل وهم، ترجمه جورج طرابيشي للعربية، وانظر: طريقة التحليل النفسي والعقيدة الفرويدية، رولان .. ، الفصل السابع ص 373 وما بعدها، وانظر: فكر فرويد، إدغار .. ، القسم الثالث ولاسيّما ص 111 وما بعدها.

بحسب رأيه قد "أذهلت الأدباء، والأطباء، والمفكرين، وخلقت تمزقًا في دائرة المحللين النفسيين. . . ." (¬1). • تعمل العقدة الأوديبية في العقل الباطن أو في اللاشعور، وتصبح الأصل لتفسير كل الظواهر، أول دين برز عنها هو "الديانة الطوطمية"، ويعرفها أحد الفرويديين العرب الدكتور "فيصل عباس": ففي زمن سحيق كان الإنسان يعيش ضمن عشيرة بدائية تخضع لنظام أبوي، يستأثر بالنساء ويطرد أبناءه عندما يكبرون إن رغبوا في النساء، عندها اجتمعوا على قتل أبيهم، فقتلوه والتهموه، وأصبحت الوليمة الطوطمية تذكارًا بهذا الفعل، وكان قتله هو الخطيئة الأولى. إلا أنهم شعروا بالذنب والألم؛ فهم من جهة يحبونه بسبب قوته، ويكرهونه بسبب منعه لهم من إشباع رغباتهم، فظهر الندم الذي هو شعور بالذنب. ولكن بعد قتل الأب تعاون الأخوة، ومن ذلك تكوَّن المجتمع، فإنهم بعد اتفاقهم على قتل الأب وقع اختلافهم حول اقتسام النساء، وعالجوا ذلك بإيجاد تحريم زنا المحارم، فيكون الزواج خارجيًا ومن خلاله نشأت العائلة، وبهذا يكبتون رغبتهم نحو نساء الأب (¬2). • أعقب ذلك اختراع "الديانة الطوطمية" التي هي الصيغة الأولى للدين، نشأت "عن شعور الأبناء بذنبهم، كمحاولة ترمي إلى تهدئة هذا الشعور ولمرضاة الأب من خلال الطاعة المستدركة. وأن جميع الأديان اللاحقة تتبدى على أنها محاولات حل نفس المشكلة. . . . وهذه المحاولات تبقى جميعها ردود فعل على الحدث العظيم الذي بدأت به الحضارة والذي ما زال منذ ذلك العهد يقض مضاجع البشرية"، إلى أن قال: "وتحول الأب البدائي القتيل إلى صورة إله" (¬3). • تصبح عقدة أوديب تلك التي تكونت عند الطفل هي منبع الوهم الديني، وهي التي غذت تلك الحادثة وحولت الندم إلى دين وله إله، وحسب الفرويدي ¬

_ (¬1) انظر: التحليل النفسي للرجولة والأنوثة .. ، د. عدنان حب الله ص 102، وقد شرح العقدة عند المدرسة بصورة موسعة ص 102 - 185، وانظر مختصرها في: (الأنا والهو)، فرويد ص 53 وما بعدها. (¬2) انظر: الإنسان المعاصر في التحليل النفسي، د. فيصل عباس ص 145 - 149. (¬3) المرجع السابق ص 153 - 154.

العربي السابق يقول: "يذهب فرويد إلى أن عقدة أوديب. . . . أو علاقة الإنسان بأبويه هي في أساس نشأة المجتمع والأخلاق والدين"، وينسب إليها أهمية بالغة في نشأتها، ويذهب إلى أن هذه العقدة هي "أهم تراث فطري ورثه الإنسان منذ الأزمنة الغابرة عن المجتمع البدائي" (¬1). • قد توجد شروحات عربية مختلفة لنظرته حول الدين، إلا أنها ترجع في الغالب إلى هذا المبدأ، الدين وهم والألوهية وهم، والدين مرض أو عصاب جماعي، والتحليل النفسي عندهم يخلصنا من هذا المرض كتخليصه لبقية الأمراض العصابية. ولا شك أن قصة هذه العقدة تذكرنا بـ "الإسرائيليات" التي دخلت على المسلمين في تاريخهم القديم، وفرويد ممن غاص في تلك الإسرائيليات (¬2)، وجمع إليها أساطير أخرى درسها، ثم خرج منها بمثل هذا المركب الذي يجتهد أتباعه العرب في إدخاله إلى ثقافتنا، ولو أدخلوه على أنه من الإسرائيليات لهان الأمر، ولكنهم يدخلونه على أنه من العلم، وأنه أداة علمية يمكن الاستفادة منها في تفسير الدين وفهمه، وفي توضيح نشأته وتكونه وبيان أصله، وهذا ما تكشفه الفقرات القادمة. المثال الأول: بدأت المرحلة الأولى لإقحام "فرويد" في الفكر العربي عبر العميل الحضاري كما يسميه محمد عمارة (¬3)، أو الرسول العلمي كما يسميه المعجبون به وهو "سلامة موسى"، الرمز التغريبي المشهور، حيث كتب المقالات، وأخرج كتابين أو أكثر في ميدان علم النفس، هي أقرب إلى التفلسف حول هذا العلم مع نشر بعض المفاهيم التي تلبي العمل التغريبي عنده. نجد في مقدمة كتابه "أسرار النفس" ما يلي: "كان موضوع هذا الكتاب جديدًا في اللغة العربية إلى قبل ثلاثين سنة. وهو في اللغات الأوروبية حديث العهد، يقوم بزعامته فرويد، العالم النمسوي، يعاضده يونغ وأدلر. . . .، ولكن ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق ص 158. (¬2) انظر: الفصل الثاني من الباب الأول من هذا البحث. (¬3) انظر: سلامة موسى، اجتهاد خاطئ أم عمالة حضارية، د. محمد عمارة، وانظر: قراءة في فكر التبعية، محمد جلال ص 21 - 90.

فضل الاختراع والابتكار لفرويد وحده" (¬1). وفي نوع من المبالغة ومن الاعتداد بهذا التقليد يقول في خاتمة المقدمة: "واعتقادي أن القارئ إذا قرأ هذا الكتاب بترتيب فصوله، بدون تقديم فصل على آخر، أمكنه في النهاية أن يعرف سريرة نفسه، ويقف على ميوله، ويفسر أحلامه، ويعالج أمراضه النفسية" (¬2). فانظر كيف يتحول قارئ كتيب صحفي إلى شخص يُدرك كل هذا الأمر ويصبح طبيبًا لأمراض نفسه، وهو أمر قد لا يدّعيه أمهر المتخصصين في هذا العلم. ويستسلم لآراء "فرويد"، وتصبح أحكامًا قطعية عنده، ففي حديثه عن "العقل الكامن - اللاوعي" يقول: "فقد أثبتت الأبحاث أنه هو الذي يقرر عقائدنا الدينية والسياسية، ويكوِّن الأخلاق والأمزجة للناس، ويعمل لرقيهم أو انحطاطهم" (¬3). وفي السياق نفسه، وفي كتابه: "دراسات سيكولوجية" يستلهم فرويد وإن كان مع بعض التحفظ، حيث أعلن أنه قد لا يُسلّم بكل ما قاله فرويد، ومع ذلك يقول: "وأحب أن أصف مؤلفات فرويد بأنها فلسفة، بل هي أحيانًا فن أكثر مما هي علم: ذلك أني أحس أنها أنارت بصيرتي أو زادتها. ."، ثم عرف بأهم أفكار فرويد (¬4)، وهنا يتحول من علم إلى مجال آخر. وفي دراسة موسعة لأحد تلامذته خصص فصلًا عن دور "سلامة موسى" في علم النفس، وأخذ عليه أنه جلس أسيرًا لفرويد ولم تصله فتوحات بافلوف، ولاسيّما أن سلامة موسى مال في آخر حياته إلى الماركسية، ولكنه لم يكمل تشرب كل أفكارها، وذكر كيف أصبح سلامة موسى يكتب مقالاته وكتبه من منظور علم النفس الفرويدي: الكبت، الأسرة، الزواج، العلاقات الجنسية، الأخلاق (¬5)، وغيرها. إن ميل "سلامة موسى" للإلحاد وانغماسه في الأحزاب الشيوعية يفسر ¬

_ (¬1) سلامة موسى وأزمة الضمير العربي، د. غالي شكري ص 176، وهناك جهد للرفع من شأنه وكتابات متتابعة عنه من قبل المتغربين انظر بعضها في: المرجع السابق، قراءة في فكر التبعية. (¬2) انظر: أسرار النفس، سلامة موسى ص 5. (¬3) أسرار النفس ص 9 .. (¬4) انظر: دراسات سيكولوجية، سلامة موسى ص 6 - 10. (¬5) انظر: سلامة موسى وأزمة الضمير العربي ص 178 - 188.

إعجابه بكل شخصية غربية ذات موقف حاد من الدين. إن عرض فرويد ليس عرضًا لعلم النفس وإنما هو عرض لأداة يمكن استخدامها في هدم الدين، وهو أمر يُصرّح به أفضل تلامذته. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، أما وقد عُرِّف به فسيأتي دور المنبهرين والتلامذة، إلا أن المزعج أن تجد من المتخصصين في علم النفس من ترجم كتبه دون أن يتكلم بشيء على حقيقة المُترجَم له، وكأن الأمانة والموضوعية تشترط كل هذا البرود، ومع ذلك فهناك أيضًا من فرح بمادة فرويد وترجمها وهو يتوقع منها أثرًا على أمتنا. المثال الثاني: أخرجت دار "الشروق" سلسلة لفرويد تحت عنوان: "مكتبة التحليل النفسي والعلاج النفسي" بإشراف الدكتور "محمد نجاتي"، وهو دكتور له نشاطه المميز في حقل علم النفس ومع ذلك فقد ترجم مجموعة من كتب فرويد (¬1) وأغفل أي حديث عن موقفه الخطير من الدين وأثر ذلك على هذه النفس التي يدرسها، صحيح أنه لم يترجم كتبه سيئة الذكر؛ إلا أنه ترجم كتبه التي تؤسس لنظريته، وفيها مباحث كثيرة هي مدخل لمواقفه الخطيرة من الدين، ومع ذلك لا يوجد أي تعليق. في المقابل قام "جورج طرابيشي" بترجمة القسم الآخر من كتبه، وأعلن في مقدمة بعضها فرويديته الصريحة، ففي مقدمته لترجمة كتاب فرويد "مستقبل وهم"، وهو أبرز كتاب أفصح فيه فرويد عن موقفه الإلحادي وإنكاره لوجود الرب سبحانه، ورأيه الشاذ نحو الدين، ثم نجد المترجم يذكر بأن هذا الكتاب مع كتابين آخرين "قلق الحضارة" و"موسى والتوحيد" قد ظلّت أسيرة الظل، فلم تترجم للعربية، "وليس عسيرًا أن ندرك سر ذلك الإحجام إذا أدركنا أن الكتب الثلاثة المشار إليها اتخذت من الدين وصلته بالحضارة ومصائره في المستقبل موضوعًا مركزيًا لها"، ثم قال: "والحق أن نظرية التحليل النفسي بمجملها قوبلت في البداية، لاقتحامها عالم الجنس المحرم، بعداءٍ شديد آنًا، وبتحفظ وتشكيك ¬

_ (¬1) منها: (الأنا والهو)، (معالم التحليل النفسي)، (الكف والعرض والقلق)، (ثلاث رسائل في نظرية الجنس).

آنًا آخر، من قبل "كلاب حراسة" الأيديولوجيا الرجعية والمحافظة في أوروبا أولًا، ثم في العالم" (¬1). فانظر إلى هذا العمى الأيدلوجي والتبعية العجيبة كيف تقود صاحبها إلى الدفاع عن نظرية خطيرة في بعدها الديني والأخلاقي، ومع ذلك يدافع عنها وكأنه يدافع عن وحي من السماء لا عن نظرية أطلقها ملحد ورعتها مجموعة من اليهود، حتى ذلك النصراني "يونغ" الذي احتواه، لم يستطع التواصل معه ومع مجموعته، فتركهم (¬2) ليؤسس نظرية تخفف البعد الإلحادي والتفسير الجنسي عند فرويد. المثال الثالث: من أخطر عمليات التأثر نقل نظريات فرويد إلى مجال الإسلام ذاته من قبل من يظن أنه يحسن عملًا للإسلام، ويريد بيان سبق الإسلام إلى مثل هذه المفاهيم، لو كان النقل إلى ميدان علم النفس باللغة العربية لبقي في الأمر متسع من النقاش، لكن أن يرتقي بتلك النظرية الإلحادية في جوهرها لتطبق على الإسلام فهذا من الغلو في التأثر، وقد أطلق عليها أحد الباحثين المميزين في مجال علم النفس بعملية الإسقاط (¬3)، إسقاط الإسلام على مفاهيم علم النفس الفرويدي، وذكر لذلك نموذجين: نموذج محسوب على أهل السنة، وآخر محسوب على الشيعة. فالباحث الأول هو "عزت الطويل" الذي حاول الربط بين القرآن الكريم ونظرية فرويد، وهو يريد بذلك التوفيق بين الإسلام وعلم النفس، وقد رد عليه عالم النفس المشهور "مالك البدري" (¬4). وأما الباحث الثاني الشيعي فهو "محمود البستاني" في كتابه: "دراسات في علم النفس الإسلامي"، حيث يحاول التوفيق بين مقولات لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وبين نظرية فرويد (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: مقدمة "جورج طرابيشي" لكتاب فرويد (مستقبل وهم) ص 5. (¬2) انظر: الفصل الثاني من الباب الأول من هذا البحث. (¬3) هو الأستاذ الدكتور "فؤاد أبو حطب" في بحثه (نحو وجهة إسلامية لعلم النفس)، في كتاب "أبحاث ندوة علم النفس" للمعهد العالمي للفكر الإسلامي ص 173. (¬4) انظر: المرجع السابق ص 173 - 174. (¬5) انظر: المرجع السابق ص 184 - 185.

يشكل "المنهج الإسقاطي" خدمة للاتجاه التغريبي عندما نُدخِل نظرية ذات جوهر علماني إلحادي في منظومة دينية إسلامية، وهو يمثل صورة من الضعف أمام الوافد الغربي، والأصل من باحث مسلم أن يقف الموقف النقدي من نظريات ذات جوهر إلحادي وعلماني مهما كانت المنافع الأخرى التي في بعض فصولها، ومهما كانت الإنجازات التي حققتها في ميدان علم النفس، ولاسيّما إذا جاء التعامل مع أعز ما يملك الإنسان ويحياه، وهو المعتقد والدين والقيم. والحقيقة أن هذه الأبحاث المهزوزة قد ضعف شأنها مع بروز نخبة من الأكاديميين المميزين في علم النفس يسعون إلى تأصيله أو توجيهه إسلاميًا. المثال الرابع: اقتحمت -أو أُقحمت- نظرية فرويد حول الدين الكتابات العربية في "علم الاجتماع الديني"، فأغلب كتب علم الاجتماع الديني التي كتبها الاجتماعيون العرب خصصت فقرة لفرويد ورؤيته السيكولوجية، والغالب أن ذلك بسبب كونها استنساخًا لكتابات غربية، فهي تسير خلفها حذو القذة بالقذة، مع أن أصحابها يزعمون التأليف المستقل، ولكن في الحقيقة لا نجد حقيقة الاستقلال المعرفي فيما يكتبونه، ومن ذلك إدراجهم لرؤية فرويد، وكأنها تستحق هذه المكانة لدرجة أننا لا نجد أي تعليق حولها، وكأنها من المسلمات العلمية، مع أنها ذات جوهر إلحادي يتعارض تمامًا مع الدين. يذكر "يوسف شلحت" في أثناء حديثه حول نشأة الدين وتطوره بأن "النظريات في الديانة تكاد تكون على نوعين: إما اجتماعية محضة، وإما نفسية محضة. . . . الفئة الأولى تكتفي بالحدث الديني العام، مهملة العواطف التي تتنازع المؤمن، إذ بالثانية تتخذ من العاطفة الدينية الخاصة دعامة لتشييد صرح الديانة" (¬1)، ثم يتكلم في مبحث طويل على النظرية النفسية التي يحاول دمجها بأخرى من الاجتماع ليخرج برؤية زاعمًا أنها له. وتبدأ النفسية كالعادة من حالة الطفل، قياس حال الإنسانية أول ظهورها بهذا الطفل، ولأنه لا يمكن وجود وثائق عن تلك الحالة الأولى منذ ملايين السنين، فإن الافتراض عندهم بأن ¬

_ (¬1) نحو نظرية جديدة في علم الاجتماع الديني .. ، د. يوسف شلحت ص 140.

القبائل الوحشية في أستراليا وأمريكا وأفريقيا هي صورة من حالة الإنسانية أول وجودها، ودراسة نفسيتهم تعطينا صورة تقريبية لحالة الإنسان الأول. الطفل يرى في والده القوة والعلم والحكمة، ثم تدريجيًا يرفعها عن أبيه إلى إله مفارق للعالم (¬1). ولم أحب التوسع في ذكر ما قاله؛ لأنه قريب من الخلاصة التي ذكرها فرويد. ومن الواضح أن هؤلاء المتغربين حصروا أنفسهم في بيان الدين بالاتجاهين الاجتماعي أو النفسي، وأقفلوا الباب أمام ما جاء به الوحي بحجة عدم خضوعه للأسلوب العلمي (¬2). ومن الأمثلة على ذلك ما نجده عند الدكتور "محمد بيومي"، ففي فقرة بعنوان "فرويد: الدين كبديل للإحباطات النفسية" يقول: "ويمكن مقارنة فكرة ماركس التفاؤلية للمستقبل بنظرية فرويد التشاؤمية للدين"، ثم يذكر بأن أفكار فرويد منها ما هو مستمد من كتابات عصره في ميادين أخرى، إلا أن "ما هو جدير بالفحص هنا هو أن فرويد قد طور نظرية من أفكار استمدت أصلًا من ملاحظاته في عيادته النفسية" (¬3)، ثم ذكر نظريته التي تبدأ بالطفل ونمو "عقدة أوديب"، وكيف أنها أساس الاعتقاد في الإله (¬4). وأهم ما وجهه من اعتراض هو ما نقله عن المصدر الذي أخذ عنه مذهب فرويد، وهو أن تعميماته مستمدة أصلًا من عدد محدود من الشخصيات ثم يعممها على الإنسانية (¬5). وقريبًا منه نجد عند باحث آخر في علم الاجتماع الديني "د. زيدان عبد الباقي"، ففي فصل "النظريات النفسية والاجتماع الديني" ذكر بعضها، ومنها نظرية فرويد، وقد عرضها باختصار كما هي دون أي تعليق، وكأنه يحق لها الدخول ضمن النظريات المهمة في الموضوع (¬6). وفي السياق نفسه عرضها "فراس السواح"، وكان اعتراضه الوحيد عليها بأنها "إرجاعية"؛ أي: تُرجع سبب ظهور الدين إلى سبب غير الدين، وتجعل ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق ص 140 - 167. (¬2) سيأتي الحديث عن الاجتماعي في المبحث الثالث. (¬3) علم الاجتماع الديني، د. محمد بيومي ص 284 - 285. (¬4) انظر: المرجع السابق ص 285 - 287. (¬5) انظر: المرجع السابق ص 189 - 190. (¬6) انظر: علم الاجتماع الديني، د. زيدان عبد الباقي ص 144 - 145.

مصدره سيكولوجي/ نفسي، بينما يرى أن الدين حقيقته في ذاته، نأخذه دون الرجوع إلى غيره (¬1). قد يعتذر الاجتماعيون بعدم تخصصهم في علم النفس فيكتفون بذكر رأي فرويد؛ إلا أنهم في الحقيقة يعرضون كل الآراء الشاذة في الدين من كل الاتجاهات دون أي تحليل أو نقد، وستأتي في المبحث الثالث. وقد يجد بعضهم في مفهوم الموضوعية عذرًا لكسله عن التحليل والنقد، والموضوعية لا تعني كسل الباحث عن التدخل عند الحاجة إلى التدخل، ولاسيّما في ميدان تأسيس العلوم، فإن هؤلاء بكتاباتهم يؤسسون لعلم الاجتماع الديني، ويضعون القواعد لهذا العلم في الفكر العربي، وهنا لابد من ترك زيف الموضوعية الذي يغطون به كسلهم أو هواهم، ولسنا نطلب منهم الشيء المستحيل، فمن عجز منهم عن النقد فعليه على الأقل نقل وجهات النظر المختلفة حول هذا المفكر أو ذاك، فإن فرويد على سبيل المثال ونظريته قد تحمس لها قوم ونقدها آخرون، فليعرضوا مثل هذه الآراء الناقدة حتى لا يقع انطباع عند الطلاب الدارسين والباحثين في هذه الكتب بأن نظرية فرويد نظرية معتبرة في الفكر العلمي. المثال الخامس: ظهرت موضوعات دينية في علم النفس، مما هيأ لوجود مجال حول علم النفس الديني، ومثْله في علم الاجتماع حيث ظهر علم الاجتماع الديني، وعندما يقال: "علم نفس ديني" فلا يعني ذلك علمية هذا العلم، وإنما يعني أنها بحوث تطرح داخل ميدان علم النفس؛ لأن علم النفس ذاته ما زال يعاني مشكلته العلمية وتنوع مذاهبه وتعارضها وهو أكثر في مسائل كبيرة مثل الدين والقيم والتوجيه وغيرها. وقد تفرح عندما تجد كتابًا جماعيًا لمجموعة متخصصين في علم النفس حول "علم النفس الديني" مثل كتاب: "علم النفس الديني" لسبعة أساتذة في هذا الميدان (¬2)، ثم تتفاجأ أنهم في أهم موضوعاته وهو: تحديد المفهوم بهذا القسم ¬

_ (¬1) انظر: دين الإنسان .. ، فراس السواح ص 326. (¬2) على رأسهم الدكتور "رشاد موسى" والكتاب حديث نسبيًا، طبع سنة (1413 هـ - 1993 م).

وتحديد منهجه؛ ينقلون وجهة نظر واحدة حولها شبهات أو على الأقل تبقى نظرة أحادية، وفي الوقت نفسه تجد تغلغل المفاهيم العلمانية حول الدين بحيث يصبح علم النفس أداة لصبغ تلك المفاهيم بالعلمية. ومن ذلك ما نجده في مقدمة هذا العمل الجماعي بأن علم النفس الديني "لا يحبذ "أسلمة" العلوم الإنسانية النفسية أو صبغتها بالمسيحية أو اليهودية، ولكن الهدف من هذا الكتاب في المقام الأول، وضع أساسيات لعلم النفس الديني من وجهة نظر دينية (¬1) بغض النظر عن تنوع وجهات النظر هذه سواء كانت إسلامية أو مسيحية أو يهودية" (¬2). وقد يظن الباحث في كلامهم بوجود معايير موضوعية في هذا الميدان أو اجتهادهم في تحقيقها إلا أن البديل المطروح هو "علمنة العلوم الإنسانية"، فهذه العلوم في صورتها الغربية نشأت في إطار علماني بل أحيانا إلحادي، وهذا الإطار ولاسيّما عند دراسته للدين لا يمكن أن يكون علميًا، وهذا هو الخلل الكبير الذي يخترق هؤلاء، فهم يعترضون على التأصيل الإسلامي حتى في موضوعات تمس الدين، ومع ذلك يحيلون إلى بديل أيدلوجي علماني أو إلحادي. ونجد في مقدمة الكتاب عرضًا لرغبة المقدم في فتح هذا القسم في جامعاتنا بعد أن شاهده في جامعات الغرب وهو يُعدّ لدراساته العليا، ثم ذكر الكتابات المختلفة في الموضوع، وطول هذه الرغبة عنده (¬3)، والأصل أن يصحب هذا الهم الطويل جهد مماثل بحيث يُخرج لنا صاحبه ما يدل فعلًا على أكاديمية الباحث وما يدل على صحة هذا الهم الطويل، ولكننا لا نجد شيئًا يدل على هذه الاعترافات. وأكتفي بأهم "فصلين" في هذا الكتاب من إعداد صاحب الآمال السابقة، وهما الفصل الأول والثاني حول ماهية هذا القسم وحول منهجه، لنرى أن الهمّ الكبير لم يصاحبه عمل حقيقي. يعرف الفصل الأول بـ"علم النفس الديني"، حيث بدأ بتعريف هذا القسم كما هو السائد في الغرب، ثم قام في النهاية بالإسقاط. وما يهمنا هو تحديد ¬

_ (¬1) كأن الأنسب للسياق (علمية) مكان (دينية). (¬2) علم النفس الديني، د. رشاد موسى وآخرون ص 8. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 5 - 7.

هذا العلم وماهيته، إذ نجد أن مادة هذا القسم الأساسية هي نقل حرفي لما كتبه "سيريل بيرت" الإنجليزي في كتابه: "علم النفس الديني"، وهذا الاكتفاء بكتاب واحد وليس حتى بعالم؛ لا يتوافق مع الدراسة الأكاديمية من جهة، والهم المعلن عنه من جهة أخرى في تأسيس فرع جديد لعلم النفس. ومن الأفكار التي يطرحها مسألة البحث عن أساس الدين النفسي: "يستطيع الباحث النفسي دراسة الدين ليس من أجل البرهنة على مصداقيته أو عدمه؛ بل لأنه مرتبط بانفعالات وإدراكات الإنسان، وربما من أولى المشكلات التي يقابلها الباحث النفسي الديني هي في كيفية نشأة الدين وتطوره ونموه، لذا فإنه يحاول النفاذ إلى البواكير الأولى للدين. ولقد افترض الباحثون أن التصورات الدينية الأولى عند الإنسان الأول انبثقت من اعتقاده في الأرواح. . . ."، ثم تحدث عن التعليل النفسي لوجود عقائد من عصر ما قبل التاريخ ومع ذلك ما زالت توجد في ديانات راقية بأن الغرائز لم تتغير بين عهد البربرية وعهد ما بعدها، كما أن الدين مدين بميلاده إلى بعض الغرائز الغامضة (¬1)، ثم يتحدث عن نشأة الدين رابطًا ذلك بحالة الطفل واعتقاده في أبيه إلى أن يصل للاعتقاد بالدين (¬2)، فالدين في مثل هذا التصور النفسي حالة طفولية. قد لا يشعر صاحب الكتاب بتناقض ما يعرضه؛ فإن الباحث الغربي وإن لم يهتم بالمصداقية والمطابقة والحقيقة فلأن حديثه عن نشأة الدين وتطوره تكفي في الموضوع، كما أن حديثه عن أثر غرائزي غامض زيادة في العماية، والتفريق بين ديانات ما قبل التاريخ وديانات راقية، كلها توصلنا إلى نتيجة واحدة: أن الدين ظاهرة نفسية لا علاقة لها بدينٍ موضوعي وبوحي وألوهية، فما يرتبط بالانفعالات والغرائز الغامضة لا علاقة له بالصحة والمصداقية؛ لأنه -عندهم- حدثٌ نفسي فقط، وأغلب المشتغلين في ميدان علم النفس في الغرب من المتأثرين بالإطار الفيورباخي حول الدين؛ لهذا لم يعد يشغلهم البحث عن الدين الحق؛ لأنه في نظرهم لا وجود له، وإنما البحث ينحصر في هذا الدين ¬

_ (¬1) انظر: علم النفس الديني ص 13، وانظر كلام "سيريل بيرت" في: علم النفس الديني ص 9، ترجمة سمير عبده. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 13 - 14، وهو عند "بيرت" ص 13 - 16.

الوهمي، كيف نشأ؟ وكيف تطور؟ وكيف يعيشه الإنسان ويحياه؟. وعندما ينزلق باحث مسلم إلى هذه المشكلة؛ فهو يخدم هدفهم، وهو يحسب أنه يحسن صنعًا، وأنه ملتزم بالعلمية والموضوعية والحياد بينما هو قد أصبح موظفًا في الدعوة للعلمانية ومذاهبها المختلفة. ومع أن تحليل الباحث لماهية الدين لا تبتعد عن الطرح الفرويدي تبعًا لـ"بيرت" إلا بإبعاده "عقدة أوديب"؛ إلا أنه أيضًا خصص فقرة لفرويد، فلا يمكن لعلم النفس الديني في صورته العربية أن تكتمل إلا بذكر مذهب فرويد دون أي تعليق. والمزعج أنه نقل من حاشية ذكرها مترجم كتاب بيرت، حيث قام الباحث برفعها من حاشية الكتاب المُترجَم إلى متن الفصل الأول بنصها دون أي إشارة (¬1). ولكن هناك شيء لم ينقله الباحث عن مترجم كتاب "بيرت"، وهو في مقدمة الترجمة أن مجلة إنكليزية خصصت دراسة عن "بيرت" سنة (1978 م) "مدعية أنه أفّاق اعتمد على التزييف في معظم ما أخرجه للعالم على أنه حقائق علمية لا يطالها الغبار. . . ." (¬2). ويواصل الإشكال حضوره في الفصل الثاني: "منهج البحث العلمي في علم النفس الديني" من جهة الارتباط بمرجع واحد وإسقاط النموذج الإسلامي عليه، دون ظهور أي روح نقدية أو انتباه لمشاكل المناهج التي ارتبطت بالبيئة الغربية بإطارها العلماني، حيث جعل عمدته هنا "جون ديوي" (¬3). عُرض في الفقرات السابقة صورٌ من التأثر الفرويدي: فهناك من يُعرِّف بفرويد كعالم نفس ويعرف بأفكاره، وهناك من يترجم كتبه على أنها جزء مهم في حقل علم النفس، وهناك من يدرج نظريته كأداة لفهم الدين في علمَي: "النفس الديني" و"الاجتماع الديني"، وأختم هذه الصور بفقرتين عن دراسات فكرية تجعل من النظرية الفرويدية حول الدين والألوهية منطلقًا لها، ونركّز على المتشبعين بفرويد والتحليل النفسي. ¬

_ (¬1) انظر: علم النفس الديني ص 15، وهو في حاشية كتاب "بيرت" للمترجم ص 18. (¬2) علم النفس الديني، سيريل بيرت، من مقدمة المترجم ص 7. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 27 وما بعدها، وقد سبق الحديث عن مشكلة المنهج في الفصل الأول من الباب الثاني.

المثال السادس: أنشأ أتباع مدرسة التحليل النفسي مركزًا لهم باسم "المركز العربي للأبحاث النفسية والتحليلية"، وعقدوا مؤتمرهم الأول في وقت قريب (2004 م) من خلال جامعة القديس يوسف، واستفادوا بحسب ورقة اللجنة التحضيرية من الانتشار التدريجي للتحليل النفسي في البلاد العربية (¬1)، موضحين أهمية "خطاب التحليل النفسي" في ثلاثة مجالات: المجال العلاجي الذي يتميز عن غيره منذ اكتشافه عن طريق فرويد "باعتماد سبل الكشف عن المكبوت"، وقد بين التحليل النفسي بأنه وإن كانت الحقيقة المكبوتة مصدرًا للمعاناة النفسية فلها في النهاية فضيلة الشفاء. والمجال الثاني هو المجال اللغوي ولاسيّما بعد أعمال "جاك لاكان". والمجال الثالث هو المجال الاجتماعي فـ"التحليل النفسي لا يقتصر على العلاج النفسي، إنما بفضل منهجيته يفتح آفاق الفكر المغلقة على العديد من القضايا العالقة في مجتمعنا، والتي كانت سببًا في تخلفه وبصورة خاصة حرية التعبير وارتباطها بالديمقراطية. ناهيك عن إرث السلفية التي لم تطلْها التطورات الفكرية الحديثة، فأبقت المجتمع العربي في مشاكل الحاضرة، كل هذه الأمور تجعل من الخطاب التحليلي حاجة علاجية وتنويرية للفكر العربي، أشبه بعصر الأنوار الأوروبي" (¬2). فهؤلاء يتجاوزون عرض فرويد إلى توظيفه علاجيًا ولغويًا واجتماعيًا، ونأخذ مثلًا على المستوى الفكري من مؤتمرهم الأول وهو من بحث "كريم جبالي" "بني الجماعات وقمعها"، ونتذكر هنا أهم معالم نظرية فرويد حول مركزية الجنس في نظريته، وقصة تكوّن "عقدة أوديب"، والأمراض "العصابية" النابعة عنها، ومنها وهم الدين. وصاحب البحث يعتمد على فرويد في تصوره حول الجنس وأثره في ظهور الجماعة ثم الدين، أختصر ما ورد عنده: الغريزة الجنسية هي الأساس، كان الإنسان في أول حياته يسير على أربع مثل الحيوانات، فيكون المثير للغريزة في هذه المرحلة هو الرائحة، ومع تطور الإنسان نحو وضعية الوقوف التي تسهل عليه رؤية الأعضاء التناسلية، ومع كثرة رؤيته لها ازدادت الإثارة الجنسية وارتبط ¬

_ (¬1) انظر: أعمال المؤتمر الأول للمحللين النفسيين العرب (فكرة النفس عند العرب وموقعها في التحليل النفسي) ص 11. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 11 - 13.

بذلك تكوين العائلة، وارتبط بالعائلة ظهور المجتمع. كانت الممارسة الجنسية قبل تكوين العائلة مفتوحة بخلاف الوضع بعد ظهور العائلة إذ منعت العلاقة المفتوحة باستثناء التي تؤدي إلى الإنجاب. وفائض الطاقة الجنسية يصرف نحو الطاقة الاقتصادية وبناء الحضارة. وتلك الجماعة التي ارتبطت بظهور العائلة تتشكل من نظام رمزي "ديانات - أساطير. ."، وظهر هذا النظام من خلال قواعد الزواج وإدارة النشاط الجنسي .. ويستدعي هذا النظام وجود "إله" خيالي (¬1). يشترك هذا الباحث مع غيره في المعادلة الفرويدية: البحث عن قصة متخيلة وقعت للإنسانية أول ظهورها على الأرض، الغريزة الجنسية المحركة، تكوين نظم وعلاقات، وتختم باختراع الدين والإله، هذه المعادلة تجدها عند كل باحث فرويدي في أية قضية يدرسها، وهي مساحة كبيرة يمكن وضع مئات الأمثلة مع المقلدين والمستعبدين لفرويد. المثال السابع: يرتبط هشام شرابي بالفكر الاجتماعي الحديث ويغرف من مقولاته دون مراعاة للأصول الإسلامية، مثل فرويد وماركس والمدرسة الاجتماعية الوضعية، وهذه وقفة مختصرة مع أخذه ببعض المقولات النفسية الفرويدية والاعتماد عليها من أجل زعزعة الثقافة الإسلامية دون شرط التصريح في كل موقف. نجد فرويد في مذكرات شرابي وفي كتابته حاضرًا بقوة وكأنه رمز لا يمكن الاستغناء عنه، فهو يعيب مثلًا على الجامعة الأمريكية في بيروت أنها لم تعطه شيئًا عن فرويد، مع أننا "لو قرأنا فرويد لاكتشفنا بأن ما يدفع الإنسان ويسيره في سلوكه وتفكيره ليست القيم والمثل العليا، التي كان يتحدث عنها أساتذتنا ويبشرون بها، بل قوى ودوافع داخلية تنزع في أعماق النفس وتستخدم العقل الواعي وسيلة من وسائلها" (¬2). وفي هذا غلو فرويدي من هشام، وقد سبق بأن الإنسان فعلًا قد يتحكم به الهوى ويسيره وهو يحسب أنه يحسن صنعًا، ويظن أن ما يوجهه هو مثل وقيم ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق، القسم الثاني منه ص 137. (¬2) الجمر والرماد ص 34، وانظر: ص 44، وانظر: مقدمات لدراسة المجتمع العربي، هشام شرابي ص 47.

عظيمة، بينما هي أهواء خفية وعلنية، ولكن هذا لا يعني إلغاء دور القيم والمثل العليا عن دورها في توجيه الإنسان وبخاصة دور الإسلام والتدين الحق والإيمان الصحيح والعميق في حركة المؤمن، ومثل هذا الكلام لفرويد لا جديد فيه، والجديد الذي لم يذكره هشام وهي المنظومة المعقدة التي ذكرها فرويد والتي سبق عرضها وهي التي لا يسلم له بها علميًا فضلًا عن أن يسلم له بها دينيًّا. ومما يهمنا في هذا الباب استخدام هشام شرابي لبعض مقولات فرويد في جوانب يريد منها هدم الثقافة الإسلامية وذلك بعد خلطها بغيرها مما هو صحيح وفاسد في المجتمع العربي، وقد اتخذ من مصطلح "البطركية" الذي هو النظام الأبوي الذي يسيطر فيها الرجل على الأسرة والمجتمع والثقافة وصفًا لوضع المجتمع العربي، فهو مجتمع بطركي، وحتى يتقدم فلابد من التخلص من هذا الوضع البطركي. ومن بين الأدوات التي ينقد بها هذا المجتمع خالطًا فيه الدين بغيره أداة من أدوات التحليل النفسي في موضوع أثير عند فرويد ومدرسة التحليل النفسي وهو الجنس، فمن مشكلات المجتمع البطركي مشكلته مع الجنس، فهو موضوع تحيطه العائلة بالغموض والسرية والخوف مما يولد عند المراهق عقدًا نفسية، وذلك بسبب الكبت الجنسي الذي مارسته الأسرة والمجتمع. ثم ينتقل لخطورة الكبت حسب رأي مدرسة التحليل النفسي فيقول: "لقد أثبت علم النفس أن الكبت الجنسي يقتل روح التمرد في الفرد ويخضعه لإرادة الأب وللسلطة الاجتماعية التي يمثلها هذا الأخير. وهذا الإخضاع يؤدي بدوره إلى عوارض نفسية مختلفة منها ضعف القدرة على التساؤل الحر والتفكير المستقل؛ أي: إلى التشتت العقلي بشكل عام" (¬1). نجد أن التعامل مع قضايانا لا يدخل فيها الدين من قريب أو من بعيد وذلك بحجة العلمية والعقلانية، فمفهوم الكبت الجنسي يحتاج إلى تحليل ثم إلى وزن بميزان الشرع والنظر في حقيقة الموقف الإسلامي هل هو كابت للجنس كما وقع مثلًا من الرهبانية النصرانية التي ولد هذا المفهوم في ظلّها، أم أنه موجه للغرائز ومشبع لها بصورة منظمة بعيدة عن الانفلات الذي يراد تعميمه من خلال ¬

_ (¬1) مقدمات لدراسة المجتمع العربي، هشام شرابي ص 109.

هذه المفاهيم العلمانية، هذه الأمور لا تعني شيئًا كثيرًا عند المفكر المتغرب ولاسيما من شخص يريد فتح باب المتعة الجسدية التي اعترف كثير منها كان قد اقترفه بنفسه في مذكراته. والمهم هنا أن شرابي أراد الاستفادة من أدوات لدراسة المجتمع الإسلامي الذي يدين بالإسلام ويرجع الناس إليه حتى وإن وقع انحرافات هنا وهناك، ولكن حتى يبتعد عن مشكلة التصادم مع الإسلامي وضع مصطلحه الخاص به، واستخدم عددًا من الأدوات لدراسته. المثال الثامن: وأختتم هذه النماذج الفرويدية الفكرية بدراسة فرويدية حديثة بعنوان: "الإنسان المعاصر في التحليل النفسي" للدكتور فيصل عباس، حيث عرض صاحبها "فرويد" وكأن بيده الحل السحري لفهم الإنسان وفهم مشكلاتنا ومعالجة تخلفنا والانتقال بنا إلى القوة والمجتمع الإنساني المميز، وإلى الطمأنينة والسعادة، ويغطي ذلك بانهزامية كبيرة أمام "العقل الغربي" الذي كال عليه من الثناء والمدح ما يُفهم منه عجز العقل المعارض له (¬1)، ومن هذا العقل جاء "فرويد"، وجاء بحثه عن فرويد في وقت -كما يزعم- يشهد إقبالًا واسعًا على دراسة أعماله (¬2)، "ومما لا ريب فيه أن التحليل النفسي أدى إلى البحث عن صورة جديدة للوجود، وللإنسان في الوجود. وشكّل حافزًا للشروع بتأسيس خطاب فلسفي جديد ملقح باكتشافات فرويد، فلم يعد بوسع المفكر أن يمارس التفكير وكأن فرويد لم يوجد" (¬3). وقد شرح بتوسع مذهب "فرويد" دون ظهور أي حس نقدي، ومع إشارته إلى كثرة الدراسات حوله، إلا أنه اختار ما يمدح فرويد وترك عشرات الدراسات التي تنقد "فرويد" بما فيها دراسات للفرويديين، وإن استعان بشيء منها؛ فمن أجل توضيح فكرة من أفكار فرويد دون المساس الجوهري بها. إن بروز مثل هذه الحالة في وقتٍ نُقد فيه فرويد نقدًا جذريًا ليُعد مشكلة فكرية عميقة في الحقل التغريبي العربي، على الأقل في الفرويديين منهم، وبما ¬

_ (¬1) انظر: الإنسان المعاصر في التحليل النفسي الفرويدي، د. فيصل عباس ص 26 - 27. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 30. (¬3) المرجع السابق ص 19.

أن البحث يركز على تأثرهم بموقفه من الدين؛ فأكتفي برصد صورة هذا التأثر، وهو لا يختلف عما سبق إلا بتوسعه وتوضيحه ما لم يوضح. "لقد حاول فرويد، من وجهة نظر التحليل النفسي، تفسير نشوء الدين والشعائر الدينية، وتعليل دور الدين في تطور الحضارة، والخدمات التي يؤديها للناس"، ثم قال موضحًا ميزة عمل فرويد: "ترجع أهمية فرويد إلى طرح تصوراته النفسانية .. القائلة بأن الدين .. ومعتقداته، ومحرماته ورمزيته، لا يفعل سوا التعبير، على المستوى النفسي، عن الجزع والقلق اللذين تولدهما عقد كل فرد؛ ولاسيّما قلق الإنسان أمام نزواته الخاصة وأمام قوى الطبيعة المعادية. . . ." (¬1)، وهو لا يغفل عن تصور أبعد عند فرويد "يرفض فرويد بذلك كل المسلمات القائلة بأن الدين وحيٌ منزّلٌ، أو أنه إحساس فطري لا علاقة له بعوامل مسببة من عقدة أوديب. ."، ويشرح مذهب فرويد حول الدين باعتباره وهمًا؛ بل مرضًا أو عصابًا وسواسيًا عامًا للبشرية، ينجم مثل عصاب الطفل من عقدة أوديب، وأن أسلوب التخلص من هذا الوهم، وهذا العصاب الوسواسي، عن طريق التحليل النفسي (¬2)، فالتحليل النفسي في النهاية هو أداة لتخليص البشرية من الدين. ولكن هذا الباحث العربي الفرويدي له رأي آخر، فهو يختم هذا البحث بفقرة توضح حاجة الإنسان للأوهام فيقول: "يمكن القول: إن كل ما له طابع ديني إنما يدخل في فئة الأوهام. ولقد أمكن التفكير، في القرن التاسع عشر، على إعادة تأليف مثل الحضارة الغربية على أساس جذري علماني وإنساني؛ أي: غير ديني. ويرجع إلى هذا السبب، جزئيًا، كون فلاسفة القرن التاسع عشر، أخذوا يتساءلون عما إذا كان "الله قد مات"؛ وفي اعتقاد بعضهم أن الله، الرمز التقليدي للألوهية، هو ميت حقًا. إن ما يعتقدونه هو أنه ليس للألوهية أية فائدة للبشر في عصر العلم والثورة العلمية .. غير أن التاريخ بين لنا لاسيما تاريخ القرن العشرين، أن البحث عن أوهام .. ضروري بالنسبة إلى الكثيرين. . . ." (¬3) ¬

_ (¬1) المرجع السابق ص 163. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 170. (¬3) المرجع السابق ص 172 - 173.

على خلاف فرويد فإنه يرفض الدين باعتباره وهمًا مهما كلف الأمر (¬1). يخلط هؤلاء بين حاجة البشرية للدين الحق، مع وجود عِصَابات في الطريق تنحرف كثير من الناس إلى أوهام دينية، وبين هذه الأوهام، فإن الله سبحانه ما بعث أنبياءه ورسله -عليهم الصلاة والسلام- إلا لتحرير الناس من هذه الأوهام وعدم السكوت عنها أو تبريرها وإخراج الناس منها إلى نور الإِسلام. وقطعًا الملحد من هؤلاء يجعل الدين الحق مثل أديان الباطل، كلها تدخل في "فئة الأوهام"، يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم وأنى لهم ذلك، فإن الله مُتمّ نوره ولو كره الكافرون. ترفض تيارات فكرية غربية مهتمة بفلسفة العلم نظرية فرويد باعتبارها نظرية فلسفية وليست علمية، فكثير من المفاهيم التي بنى عليها صرح نظريته لا يمكن إخضاعها بصورة صحيحة ومناسبة لمناهج العلم، ولا يمكن إخضاعها لمعايير التصديق أو التكذيب أو القابلية للتحقق (¬2)، وهو رأي معتبر، وهو الرأي الذي يتبناه المفكر المسلم، إلا أن أصحاب هذا التيار يقعون في مشكلة أخرى، وهي أنه لا يوجد عندهم إلا معيار واحد للتحقق، هو المعيار الحسي في النهاية وإن اختلفت أفكارهم حوله، بينما المفكر المسلم معه طريق آخر للتحقق غير الحس وهو الخبر. ورغم الفائدة التي يقدمها هذا التيار الناقد لفرويد إلا أنه من المهم الانتباه لمشكلتهم الأخرى. ومع ذلك فإن مفاهيم فرويد المتعلقة بالنفس يفضل تركها لأهل علم النفس، فهو علم يسير نحو التقدم ولابد أن يصل إلى رأي مناسب حولها. إلا أن المغالطة الواضحة التي يقع فيها المتغربون هي عدم فصلهم بين الجانب الخاص بعلم النفس وبين فلسفة فرويد وفكره وأيدلوجيته وهواه، حيث تُعرض هذه الأمور وكأنها من ميدان العلم وليست من ميدان الأفكار، فما خرج من ميدان العلم فقد خرج من ميدان التحقق التجريبي المعتمد في العلوم إلى ميدان لا يمكن التحقق التجريبي منه، ويبقى الأمر إما بخبر السماء الذي نزن به صواب الأفكار وخطأها، أو يترك عند غير متبعي الإسلام للعقول، ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق ص 174. (¬2) انظر مثلًا: نقد فيلسوف العلم "بوبر" للفرويدية باعتبارها غير عملية لعدم خضوعها لمعايير التحقق العلمية، في الفكر الفلسفي المعاصر "رؤية علمية"، د. محمد قاسم ص 325.

وما ترك للعقل فلا يخضع لميزان معتبر وإنما يرجع لقناعة هذا الشخص أو ذاك أو قناعة هذه الطائفة أو تلك، وهذا هو المعهود في المذاهب الفكرية والفلسفية والأدبية والفنية، حيث تجد تنوعها في البلد الواحد في باب واحد، ومع ذلك تجد لكل مذهب أتباعه. والمذهب لا يرتبط بالحق إلا بشهادتين أو بإحداهما، شهادة الوحي وشهادة الحس، فإذا فقدهما أو فقد إحداهما فهو يذهب كل مذهب كغيره مما يرتبط بالميول والرغبات، والمسلم قد أبدله الرب سبحانه عنها بهذا الدين الحق، فهذه المذاهب لا تنفعه بشيء ما لم تكن متوافقة مع هدي الله -سبحانه وتعالى-. لكن الفرويديين أو من يعرض نظرية فرويد لا يعرضها في جانبها الفكري على أنها فلسفة رجل متأثر بتاريخه الخاص والتاريخ العام من حوله وأنه خاضع لأهوائه وأيدلوجيته؛ وإنما تعرض وكأنها من المسلمات في ميدان العلم، ويزداد الأمر قبحًا عند عرض موقفه من الدين، فإن إلحاد المرء لا يجعل له قدرة على فهم الدين، إن الإلحاد أيدلوجيا خطرة على المفكر تعمي بصره عن حقائق مثل عين الشمس، يكفيه أنه أنكر الذي لا يُنكَر وجحد من لا يُجحَد سبحانه، فكيف نثق برأيه في موضوع مثل الدين أو ما يرتبط به من عقائد وشرائع وقيم وأخلاق؟! ولعل من المناسب ذكر مقالة لأحد الباحثين في فكر فرويد، حول فرويد وأتباعه، حيث ذكر عن مشكلة فرويد في كتبه أنه "لا يفصل بوضوح طريقته عن عقيدته" (¬1)، كما يذكر مشكلة أتباعه وأنصاره أنهم "بصورة عامة، افتقدوا ما ينبغي لهم من الاستقلال العقلي. وإذا استثنينا عددًا قليلًا جدًا من الفرويديين، فإن هؤلاء ينسخون فرويد نسخ المستعبدين له" (¬2)، والمشكلة في المتغربين العرب أشد وضوحًا في ظاهرة النسخ والاستعباد وأكثر إشكالًا بسبب ما ينتج عن هذا النسخ من مفاسد في تطورنا الثقافي والفكري والعلمي والحضاري. نجد في النهاية نفس المشكلة تتكرر مع المتغربين في ميدان علم النفس تجاه الدين، فالدين كل الدين مصدره من الإنسان، وليس له علاقة بالرب سبحانه، يستوي في ذلك أديان الباطل التي منبعها الإنسان وأهواؤه مع دين الحق ¬

_ (¬1) طريقة التحليل النفسي والعقيدة الفرويدية، رولان دالبير ص 5. (¬2) المرجع السابق ص 6.

الذي أُوحي به لأنبياء الله ورسله. والمشكلة نفسها نجدها في علم الاجتماع مع رواده المتغربين، حيث جعلوا الدين ظاهرة اجتماعية أرضية، أبدعها المجتمع، دون أن يفرقوا بين الحق والباطل، وهذا هو موضوع المبحث القادم.

المبحث الثالث التأثر بنظريات من علم الاجتماع حول الدين

المبحث الثالث التأثر بنظريات من علم الاجتماع حول الدين يهتم علم الاجتماع بدراسة المجتمع، ورغم وجود اهتمام بدراسة المجتمعات في أغلب الحضارات البشرية إلا أنه لم يحدث له الاستقلال الفعلي إلا في العصر الحديث، وتعد مقدمة "ابن خلدون" أوضح ما كتب في هذا الباب بشكل مستقل، ومع ذلك لم يعقبها ما يأخذ بهذا العلم إلى ذراه، حتى جاءت التحولات الكبيرة داخل أوروبا وازدادت اتساعًا مع الثورة الصناعية التي أسهمت في إعادة تركيب خارطة المجتمع الأوروبي، مما حفز في ولادة علم الاجتماع الذي يهتم بدراسة المجتمع. وبما أن علم الاجتماع يدرس المجتمع؛ فإن أي مجتمع يعرف الدين والتدين، ولا يكاد يوجد مجتمع دون دين أو دون وجود للنشاط الديني بداخله، ولهذا كان الدين من بين ما يتهم به علم الاجتماع. وبما أن العلم الحديث يرتبط بمنهج خاص ويعتمد بشكل كبير على إنتاج النظريات؛ فإن علم الاجتماع قد أنتج الكثير من النظريات حول الدين. علم الاجتماع بين العلمية والأيدلوجيا: على الرغم من أن علمية العلم توحي بالموضوعية والبحث عن الحقيقة،

إلا أن الأمر على خلاف ذلك، ولاسيّما في ميدان شائك مثل علم الاجتماع ولاسيّما عندما يتعلق الأمر بالدين، فمن سوء حظ هذا العلم أن ارتبط ظهوره بفترة نزاع شديدة مع الدين، كما أنه ارتبط بمجموعة مفكرين كان موقفهم من الدين هو الإلحاد، مما يجعل هذا العلم المهم يتلوث في رؤيته ومنهجه ونظرياته بموقف عدائي ضدّ الدين. اتسع الاهتمام بعلم الاجتماع في الغرب، وأصبح يدرس في الجامعات، وظهرت له مدارس ومذاهب، وأصبح غابة كبيرة فيها المهم والخطير، والدخول إليها محفوف بالمخاطر رغم المنافع الموجودة فيها، ومع بداية نهضتنا المعاصرة وانطلاقتنا نحو الاهتمام بالعلوم والمعارف؛ جاء علم الاجتماع في قائمة هذه العلوم المطلوبة، معتمدين في ذلك وبصورة كبيرة على النموذج الموجود في الغرب، وغلب على كل جهة من بلاد المسلمين التأثر بالمذهب الموجود في البلد الذي ابتعث إليه طلاب تلك الجهة، فنشأ عندنا علم اجتماع يعاني من تبعات نشأته الأوروبية، فتأثر الكثير بنظرياته ومناهجه، إلا أن أسوأ فئة تعاملت مع هذا العلم هي الفئة المتغربة التي وجدت فيه أداة جيدة للتعامل السلبي مع الدين، ولاسيّما إن كانوا من غير المسلمين، أو ممن اتبع مذاهب فكرية غربية ملحدة، كما هو الحال مع الماركسيين مثلًا. ليس هدف البحث التقليل من قيمة علم الاجتماع، بل هو علم مهم إذا أحسنت أمتنا عبر المتخصصين فيه من إنشائه على قواعد سليمة، وإنما الهدف هو التحذير من الوقوع في أيدلوجيات ارتبطت به، هدفها إقصاء الدين وتكوين مجتمع دون دين أو لا يهتم بالدين، ولا شك أن الوقوف مع المتلاعبين بهذا العلم هو من خدمة هذا العلم، بحيث يُزال عنه ما ليس علمًا، ويقدم بصورة تتوافق مع هوية الأمة، ويكون عندها أقدر على الدراسة العلمية للمجتمع. صحيح أنه أصبح لدينا الآن علم اجتماع في الجامعات والمدارس، وأصبح من مكونات مجالنا الثقافي والفكري والعلمي، وهناك علماء ومتخصصون فيه وله جمعياته ومجلّاته ومجالات نشاطه المختلفة؛ ولكنه في الغالب ما زال يعاني من التغرب، وينتمي إلى هوية أخرى أو حضارة أخرى ومجتمعات أخرى، وكأننا فتحنا أقسامًا لعلم الاجتماع الغربي بمدارسه المختلفة دون أن يكون لنا أي خصوصية في مجتمعنا، وإن كان الفرع ليس كالأصل.

وهذا الاغتراب يدفع المهتمين بالعلم إلى دراسة مجتمعنا وظواهره وفق تلك القوالب الغربية التي تتوافق مع بيئاتهم، بما في ذلك دراسة الدين. ونجد شجاعة من أحدهم في الاعتراف بهذا المأزق الحضاري رغم فشله في طرح البدائل وهو "عبد الباسط عبد المعطي" رئيس الجمعية العربية لعلم الاجتماع، حيث يقول عن صورة العلم في المجتمع العربي: "فجاء في معظم منتجه مغتربًا عن فضائه الاجتماعي والسياسي، وعن المرحلة التاريخية للمجتمع العربي. فاستغرق المشتغلون به في ما عرفوه عن الغرب -بحسب قدراتهم ووعيهم- وبما تم إغراؤهم بمعرفته، كما ساعدت أوضاع الحرية الفكرية والسياسية، والمؤسسات التعليمية والعلمية في تجدد حالة الاغتراب، بالنقل عن الآخرين، وفي الوقت نفسه تعميق القطيعة المعرفية مع تراث الفكر الاجتماعي العربي. وكان من بين مظاهر الاغتراب وأماراته، أن أضحى التابع أكثر محافظة من متبوعه، فقدِّر أن ينشغل الباحثون بالمشكلات الجزئية والطارئة، وبمهام الترجمة والتدريس أكثر من غيرها من الأدوار" (¬1)، وهذا في علم الاجتماع عمومًا ثم يأتي ما هو أشد إشكالًا وهو جانبه الديني، فيقول: "في هذا السياق بمستوياته، أتى اهتمام علم الاجتماع في الوطن العربي بالدين، فكان التركيز على النقل عن المكتبة الغربية، وبخاصة أعمال إميل دوركايم وماكس فيبر وليفي بريل. ولدى دراسة الظواهر الدينية اهتم بالديانات الوضعية الأرضية كالهندوكية، والكونفوشيوسية على سبيل المثال. وحتى من حاول الاقتراب من التراث الإسلامي، عني أكثر بتأويل بعض النصوص، وهو تأويل على العموم "مر" بمصفاة "الفكر الغربي". وظل حال دراسة "علم الاجتماعي الديني" ضمن مقررات "مساقات" علم الاجتماع في الكليات والمعاهد العربية، على النحو المذكور في الغالب من الحالات" (¬2)، ثم ذكر بعدها تحولات آخر القرن العشرين التي دفعت المشتغلين بعلم الاجتماع إلى مناشط أخرى. وقد ذكر باحث آخر عن تيارين برزا واهتما بالمجال الديني ولكنهما يفتقدان النظرية الاجتماعية في تفسير الدين، وعند بحثهم عن نظرية فلا تتعدى كتاباتهم "دوركايم"، تنتقي منه ¬

_ (¬1) الدين في المجتمع العربي ص 9. (¬2) المرجع السابق ص 10.

المقولات والفرضيات التي تودها (¬1)، بما يوحي عن عجز حتى في توسيع دائرة بحثهم لأكثر من مفكر أو مذهب واكتفائهم بعالم اجتماعي واحد. هذا الاعتراف بالتبعية للمدارس الاجتماعية الغربية، ربما هو شعور بالأزمة، وربما هو من آثار اليقظة التي أحدثها بعض المفكرين الإسلاميين، مما جعل المغرقين في التبعية يبحثون أزمتهم ويعون بها, ولا شك في أهمية هذا الوعي لولا أن بدائلهم لا تتفق وهوية الأمة ومكانها، وقد رصد الباحث الإسلامي "محمد أمزيان" أزمتهم واغترابهم وحاول استخلاص أسبابها من اعترافاتهم وكتاباتهم ومن ذلك: ولادة علم الاجتماع برعاية استعمارية فكان من الطبيعي خضوع هذا العلم للتوجيه الاستعماري، قابل ذلك جهل المنخرطين فيه بذاتهم وهوياتهم وإن كان ذلك لا يطول مع التأثير السلبي للرواد المتغربين الذي أخضعوا البحوث الاجتماعية لما تأثروا به في أثناء دراستهم في الجامعات الغربية (¬2). أخطر صور التغرّب عند المتغربين الاجتماعيين هي في استبعاد الإسلام والوحي كمصدر للمعرفة، فالدين عندهم يدرس وفق قوالب لمجموعة من الملحدين والعلمانيين أو المستشرقين وتعتبر قوالبهم هي المصدر، ويُدلَّس على الناس بكونها علمية مع أنها لا علاقة لها بالعلم، وفي ذلك يقول أحدهم: "ولا يخفى أن العالم الاجتماعي لا يستطيع أن يسلم بالوحي والرسل في نظرياته لسببين: 1 - لأن هذا الحل يوحي به الكسل إلينا، ونستطيع أن نفسر به كل ما في الكون، بدون أن نتقدم قيد شعرة في معرفة أسراره وقوانينه. 2 - لأن بعض الديانات تخلو من الوحي والرسل، كديانة الطوطم مثلًا" (¬3). وليس الغريب وجود من لا يُسلم بالوحي والرسل، ولكن العجيب ما ¬

_ (¬1) هو "حيدر إبراهيم"، المرجع السابق ص 50. (¬2) انظر: منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية، محمد أمزيان ص 204 - 207، وانظر: الفكر العربي في معركة النهضة، د. أنور عبد الملك ص 69 وما بعدها. (¬3) نحو نظرية جديدة في علم الاجتماع الديني .. ، د. يوسف شلحت ص 91.

يذكرونه من تعليلات على أنها أسباب جوهرية في رفض التسليم للوحي من مثل السببين السابقين، مما يكشف بأن سبب تركهم الاعتماد على الوحي ليس لأسباب حقيقية بقدر ما هو البحث عن مبرر للهروب من الوحي وابعاده كمصدر (¬1)، فإذا زعزع هذا المصدر أصبح الباب مفتوحًا للغرْف من المكتبة الغربية ولاسيّما تلك التي ترتبط بعداء مع الدين. عندما يتجه التيار التغريبي إلى المكتبة الغربية؛ تظن أنه يتجه إلى ركن متين، بينما هو يستقي من علم ولد في مجتمع متأزم وبقي العلم في أزمته بحسب اعترافات رواده ومبدعيه، فهو يعيش أزمة على مستوى النظريات وعلى مستوى المنهج وفي أرض الواقع، ويحسن تكرير التنبيه بأن هذا الكلام لا يهدف إلى التقليل من قيمة علم الاجتماع بقدر ما يهدف إلى تحمل مسؤوليتنا الحضارية في ترك السلبية القاتلة والتقليد الأعمى، وأن نشارك في وضع هذا العلم على قدميه من خلال تقريبه من هويتنا وتأصيله وفق أصولنا. فهو بسبب ارتباط تأسيسه بالظروف الأوروبية بقي شاردًا من الدين محاربًا له إلا فيما ندر، وعلينا على عكس ما يقوم به المتغربون إعادته لوضعه الصحيح والنافع. إذًا، كان علم الاجتماع نتيجة أزمة، ونتيجة تحولات كبرى في القارة الأوروبية من أيام "سان سيمون" إلى تلميذه "كونت". وهناك محاولات للتفكير ببديل عن الدين الذي انهار في أوروبا الحديثة (¬2)، ومن الملفت للنظر أنه مع نهايات القرن الثالث عشر/ التاسع عشر وأغلب الرابع عشر/ العشرين، وكبار منظري هذا العلم هم من اليهود، وربما أزمتهم أكثر كثافة داخل المجتمع الأوروبي (¬3) مما جعله علمًا محمَّلًا بتلك الأثقال، يقول "أحمد خضر": "إن الأنشطة الفكرية والنظريات الكبرى لعلماء الاجتماع تمت في أثناء أزمات سياسية ¬

_ (¬1) انظر: علماء الاجتماع وموقفهم من الإسلام، الفصل الثالث عشر (فهم الإسلام عبر المكتبة الغربية) ص 197، وانظر: فيه أيضًا ص 18 - 19، وانظر: منهج البحث الاجتماعي .. ، أمزيان ص 94، ثمّ الفصل الثاني من الباب الثالث: (ضرورة اعتبار الوحي ضمن المصادر المعرفية لعلم الاجتماع) ص 165، مع التحفظ على قوله: (ضمن). (¬2) انظر: الفصل الأول والثاني من الباب الأول. (¬3) انظر: الفصل الثاني من الباب الأول.

واقتصادية كانت المجتمعات الغربية تمر بها، وكان على علماء الاجتماع أن يقدموا لمجتمعاتهم صياغة فكرية تمكنهم من تخطي هذه الأزمات" (¬1)، ولكن وبعد سنين من ظهوره برزت مراجعات يعقبها اعترافات مخيبة للآمال، ومن أقربها ما حدث في الاجتماع السنوي لعلماء الاجتماع الأمريكان سنة (1979 م)، واعترافهم بأن أغلب نظريات العلم تعاني أزمة، فـ "لا الماركسية ولا البنيوية ولا الدوركايمية ولا الغيبرية تتمتع الآن بسمعة طيبة. إن الأحلام العريضة التي فتحتها أمامنا لم تتحقق إلا جزئيًا وبصفة هشة. . . . إنه لم يبق أحد ينتظر من كبرى النظريات أن تساهم بصفة إيجابية في القفز بالبحوث الاجتماعية" (¬2)، ثم تحدث المؤتمر عن انتهاء "الوضعية" الكلاسيكية وإفلاس "الوضعية المحدثة"، ثم ما تعرضت له "الوظيفية" بعدهما من ضربات قاصمة، وأن قضايا "الوظيفية" قضايا باطلة، وأنها لا تقل إلحادًا عن النظرية "الماركسية". ومثل ذلك عن "الظاهراتية" و"التفاعلية" و"الرمزية" و"البنائية" و"الوظيفية"، فهي أقرب للتقاليع من قدرتها على الصلة بالمجتمع المعاش، وسقطت "الوظيفية" ولم تنجح النظرية "الصراعية" المعارضة لها (¬3)، وهكذا تسير النظريات في صراع مع بعضها دون الوصول إلى علم معياري حقيقي. كما أن عناوين الكتب للبارزين في هذا الميدان بعد السبعينات تعبر عن هذه الأزمة، مثل: "أزمة علم الاجتماع الغربي القادمة"، الذي ذكر مجموعة عوامل تقود هذا العلم إلى أزمة، وكتاب: "تأملات جذرية وأصل العلوم الإنسانية" ليؤكد صاحبه أن أزمة العلوم الاجتماعية أصبحت واقعًا حقيقيًا مع غياب التشخيص لهذه الأزمة، هناك شكوى دون حل، وكتاب: "أمجاد ومآسي العلوم الاجتماعية"، فيرى صاحبه بأنها ليست في أزمة فقط بل هي أقرب إلى لفظ أنفاسها الأخيرة، ويقول: "ولعل الوقت قد حان للاعتراف بأن العلوم الاجتماعية لم تمدنا حتى الآن إلا بزاد معرفي خيالي"، ومثلها كتاب: "الأساطير المؤسسة للعلوم الاجتماعية"، فـ"يشير المؤلف إلى أن هذه العلوم لم تستطع ¬

_ (¬1) علماء الاجتماع وموقفهم من الإسلام، أحمد خضر ص 43. (¬2) المرجع السابق ص 121. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 121 - 122، وحول كل هذه المدارس التي ذكرها يمكن التعرف عليها في: النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، إبيان كريب.

الالتزام بالموضوعية ولا تحقيق معرفة موضوعية كما يدعي أصحابها منذ ما يقرب من ثلاثة قرون. وعلى هذا فهي تشبه في وظائفها الاجتماعية وظائف الديانات رغم أنها لا تقر بذلك" (¬1)، ولا شك أنه إذا كان على هذه الحال في مواطن إبداعه فإن أزمته ستكون مضاعفة عند المقلدين. ومن الطريف أن المكتبة الغربية جريئة في طرح النقد حول إبداعاتها رغم أثر ذلك على النفس بينما نجد صعوبة ذلك في المكتبة العربية، فلو كتب أحد البارزين شيئًا حول ضرورة الاعتراف بأزمة علم الاجتماع في الفكر العربي والجامعات العربية لهوجم وانتقص من أمره، بينما نجد العرض الأكاديمي الناقد في الغرب ويصاحبه العرض المبسط للجمهور الذي يعترف بأزمة العلم، ومن ذلك كتاب صدر سنة (1999 م) بعنوان "أقدم لك علم الاجتماع"، حيث نجد في خاتمته: "إن النظريات الراسخة التي انطلق منها علم الاجتماع في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر ومفاهيم العلوم العقلانية الإيجابية والموضوعية والحيادية، كل ذلك يبدو الآن سخيفًا ومعوقًا وبعيدًا عن الواقع. ويجب أن يكون واضحًا أن علم الاجتماع هو نتاج عصره، وهو يعكس أفكار اهتمامات تلك الجماعات التي تحكم العصر. ." (¬2)، ثم يتساءل الكاتب: أيعني ذلك موت علم الاجتماع؟ "لقد مات علم الاجتماع كنظرية شاملة، أو كمجموعة من المفاهيم التي تحاول أن تجد تفسيرًا لكل شيء في مجتمع بعينه. أما من حيث كونه نبضًا يسعى لتطوير رؤية نقدية تحاول أن تفهم مما يجعل المجتمع الإنساني ممكنًا، وأن تفهم أن الفرد مخلوق متغير دائمًا؛ فإن علم الاجتماع ما زال على قيد الحياة. ." (¬3)، وهو بالصورة الثانية يكون أقرب للفلسفة ويبعد بذلك عن الصورة الوضعية المعهودة. وما يهمنا أن مثل هذه الاعترافات، فضلًا عن اعترافات أقسى تذكر امتلاء هذا العلم بأفكار مزيفة (¬4)، تدفعنا إلى اتخاذ موقف إيجابي من هذا العلم يتجاوز حالة السلبية والاغتراب ويتمثل في خوض غمار التأصيل الإسلامي، كما ¬

_ (¬1) انظر: إشكالية التحيز .. ، ملامح التحيز والموضوعية .. ، د. محمود الذوادي ص 26 - 28. (¬2) أقدم لك علم الاجتماع، ريشارد وصاحبه ص 181، ترجمة حمدي الجابري. (¬3) المرجع السابق ص 182. (¬4) انظر: علماء الاجتماع وموقفهم من الإسلام ص 127 - 140.

كيف ينظر علم الاجتماع للدين؟

أنه يكشف لنا خطل كثير مما سيأتي من مواقف ومقولات المتغربين العرب في ميدان علم الاجتماع بعد أن أسلموا قيادهم لمقولات وضعوها موضع الحقائق المسلمة، وأخيرًا فهذا الاعتراف بالأزمة يكشف "لنا أن هذه الأزمة ذاتية وليست عابرة، فهي أزمة في الأسس نفسها التي قام عليها علم الاجتماع، بحيث تفقد هذه الأسس إطارًا مرجعيًا موحدًا قادرًا على إعطاء رؤية منهجية موحدة" (¬1). فإذا كان العلم يمر بمثل هذه الأزمة؛ فهو يكشف أن تعامل التغريبيين بمثل تلك القطعية مع الدين والقيم والوحي بحجة الموضوعية والعلمية فيها من الهوى ما فيها، وعندها يحق لنا مساءلتهم عما وراء العلم المزعوم الذي يتسترون خلفه. كيف ينظر علم الاجتماع للدين؟: بما أن علم الاجتماع يهتم بالمجتمع فلابد أن يهتم بالدين، لذا كانت "دراسة الدين من الموضوعات التي نالت اهتمامًا كبيرًا من جانب علماء الاجتماع، وامتدت تلك الفترة الكلاسيكية لعلم الاجتماع من (1850 - 1920 م)، أنجز خلالها كل من دوركايم وماكس فيبر دراساتهم الشاملة للدين" (¬2)، فقد كانت مسألة الدين "عند نشوء السوسيولوجيا نقطة محورية في فكر مؤسسي هذا العلم، ورهانًا أقوى في مجهودهم لتحديد شروط إمكانية قيام علم بالاجتماعي" (¬3)، بل هناك من يقول: "إن ولادة علم الاجتماع كعلم قائم قد ارتبطت بشكل وثيق بالتساؤل حول مستقبل الدين في المجتمعات الغربية" (¬4). تشعرنا هذه النشأة وكأنه علم من علوم الدين، ولكنه في حقيقة أمره ولاسيّما وقت النشأة هو أشبه بالعلم الذي يريد وراثة الدين والقيام بدوره، إلا أنه لا يعترف بكل ما هو غيبي في الدين بما في ذلك ركنه الأساسي وهو الإيمان بالله وما يرتبط بهذا الإيمان من لوازم. ولا شك أن الإطار "الفيورباخي" الذي ¬

_ (¬1) انظر: منهج البحث الاجتماعي .. ، محمد أمزيان ص 123 وما بعدها. (¬2) الدين والمجتمع. دراسة في علم الاجتماع الديني، د. حسين رشوان ص 73، وانظر: الدين في المجتمع العربي ص 139، من بحث: عاطف غضيبات. (¬3) الدين في المجتمع العربي ص 127، من بحث: محمد شقرون، وانظر: نشأة الدين، د. علي النشار ص 15. (¬4) الأديان في علم الاجتماع، جان - بول ص 9، ترجمة بسمة بدران.

ذُكر في مقدمة هذا الفصل كان موجهًا لمثل هذه التصورات، وهو إطار لا يعترف بدين الأنبياء، وإنما الدين عندهم هو نتاج ظروف مجتمعية أو مادية أو نفسية، وهو بهذا ظاهرة اجتماعية، وبذلك يصبح علم الاجتماع مع كبار المؤسسين مثل: "كونت" و"ماركس" و"دوركايم" أثناء دراسته للدين على نقيض ما يقوم به علم العقائد واللاهوت، فإذا كان علم العقيدة يدرس الإيمان بالله والرسل والملائكة والكتب واليوم الآخر؛ فإن علم الاجتماع مع تلك الأسماء يقوم على النقيض، فيهتم بإبطال تلك الأصول باعتبارها وهمًا نابعًا من المجتمع أو من الإنسان. ومن باب التمثيل نقف مع أحد أبرز رواد هذا العلم وهو "ماركس"، فلا تجد كتابًا في تاريخ علم الاجتماع إلا وقد أفرد لماركس مكانة بارزة، وهناك من يعده المؤسس لعلم الاجتماع (¬1)، بينما هناك من يقول بأنه وإن لم يكن عالم اجتماع ففي الماركسية علم اجتماع ولاسيّما أن نقده للدين أصبح "مصدر إلهام لعدة مقاربات للظاهرة الدينية من منطلق علم الاجتماع" (¬2)، فهو تبعًا لتأثره بـ"فيورباخ" يرى بأن الدين وهم، ولكن بينما فيورباخ يُرجع الوهم إلى جانب العجز الإنساني؛ فإن ماركس يراه انعكاسًا للواقع المادي، وأنه بإصلاح الواقع المادي سيزول ذلك الوهم، وأن مستقبل الدين إلى زوال (¬3)، وإن ظهر من الجيل الماركسي الأخير التراجع عن مقولة زوال الدين، ويعترفون "بحدود ماركس وأخطائه في ما يختص بالدين" وإن الأقرب بقاؤه (¬4). ورغم كل هذه الصراحة الإلحادية فإننا نجد أحد الاجتماعيين العرب يُعرّف به دون أي تنبيه أو تلميح لهذا البعد حيث يقول: "وقد بدأ ماركس من النقطة التي انتهى إليها فيورباخ، وسيطرة مشكلة الاغتراب على كل مؤلفاته، ولكنه لم يستمر في معالجتها بوصفها مشكلة فلسفية؛ أي: بوصفها جدلًا حول جوهر الإنسان؛ بل اتجه إلى دراستها بوصفها ظاهرة موجودة في الواقع الاجتماعي ¬

_ (¬1) انظر: مشكلة العلوم الإنسانية .. ، د. يمنى الخولي ص 119. (¬2) انظر: الأديان في علم الاجتماع، جان - بول ص 13، وانظر: تاريخ علم الاجتماع، الجزء الأول مرحلة الرواد، د. محمود عوده ص 108. (¬3) انظر: وضعية الدين عند ماركس وأنجلز، ميشال برتران ص 133 وما بعدها، ترجمة صلاح كامل. (¬4) الأديان في علم الاجتماع، جان - بول ص 20.

المادي. فقد أثار سؤالًا مؤداه؛ في أي ظرف يتخلى الناس عن قواهم وملكاتهم الذاتية ويخلعونها على كائنات فرضية متعالية؟ ما هي الأسباب الاجتماعية لهذه الظاهرة؟ وبهذا المعنى فقط ناقش ماركس الدين، وكان بذلك مؤسس علم الاجتماع الديني الحديث" (¬1)، فكأن علم الاجتماع الديني هو البحث في الأسباب الاجتماعية التي تجعل الناس يتخيلون فرضية متعالية، يخلعون عليها قوتهم، بينما فيورباخ لا يهتم بأسباب اجتماعية وإنما يراه بعدًا إنسانيًا، حين يفترض وجود رب ويخلع عليه رغباته، فيكون العلم بصورته الماركسية على عكس ما تدرس كتب العقائد. ومع ذلك نجد كتابات الاجتماعيين العرب تنخرط في النقل والتعريف، بل التمذهب أحيانًا دون أي وقفة نقدية أو إبداء أي مخالفة. فإذا غلب على هذا العلم في علاقته بالدين مثل هذا الإطار "الفيورباخي"؛ فستكون أيدلوجية هذا العلم صريحة في نقد الدين وهدمه، أي: أن العلاقة بين علم الاجتماع والدين هي علاقة عداء، وللأسف فقد قام مجموعة من الاجتماعيين العرب بنقل ذلك إلى بيئتنا الإِسلامية، حيث قام نشاطهم -على غرار التجربة الغربية- بالدعوة إلى معارضة الدين وتحويل الإِسلام إلى مجرد تراث ثقافي، وحاربوا الأسلوب الديني والمنهج الديني على أساس عجزه عن الموضوعية التي يتحلى بها العلم، "وتصور هؤلاء على غرار رواد الوضعية أنه لا يمكن أن نحقق الأسلوب العلمي في تناول قضايانا الاجتماعية والثقافية إلا إذا حققنا قطيعة ثقافية مع منجزات الماضي الذي ظل في نظرهم غارقًا في الخرافة والوهم والجهالة الدينية،. ." (¬2). وعند حديث أحدهم عن العلاقة بين الاجتماع واللاهوت قال: "تدخل السوسيولوجيا في هذا المجال في صدام مع الدين، وذلك أن الدين مرتبط بالواقع الاجتماعي ومرجع له، فيكون انتقاد الدين جزءًا لا يتجزأ من العمل السيوسيولوجي. كما أن الدين يعتبر تصورًا عرفانيًا لتفسير العالم بحيث يرتبط هذا العالم في هذا التصور بالرب، ولهذا لابد من الصراع بينهما، وهو صراع يتأكد عندما يصبح الدين موضوعًا يدرسه علم الاجتماع، وطموح علم ¬

_ (¬1) تاريخ علم الاجتماع، الجزء الأول مرحلة الرواد، د. محمود عودة ص 113. (¬2) منهج البحث الاجتماعي .. ، محمَّد أمزيان ص 155.

الاجتماع هو دراسة الدين بعد الانعتاق من الدين، ولهذا من الضروري -بحسب رأيه- تفكيك الدين لتحقيق ذلك (¬1). إذا كان علم الاجتماع قد اهتم بالجانب الديني متأثرًا مع مؤسسيه بالإطار "الفيورباخي" القائم على أن الدين وهم، فقد أصبح أيدلوجيا بيد أغلبهم أكثر من كونه علمًا للتعامل مع الدين، وأصبحت علاقته بالدين علاقة صراع، وربما هذا يفسر كثرة النظريات حول الدين، فهي تتساقط تباعًا ولكن مسألة الصراع تفتح الباب لاختراع الجديد منها كالمحارب الذي لا يملّ، والحقيقة أن النظرية في علم الاجتماع عمومًا تعد موطن إشكال فكيف إذا كانت ذات علاقة بالدين، نجد في أحد الكتب الحديثة عن النظرية الاجتماعية هذا النص: "يبدو أن كلمة "نظرية" نفسها تثير في بعض الأحيان الهلع في نفوس الناس، وهو أمر له ما يبرره. فالكثير من النظريات الاجتماعية الحديثة عصية على الفهم أو مبتذلة أو لا معنى لها. ولا يشعر القارئ بأنه يتعلم جديدًا أو بأنه يتعلم شيئًا على الإطلاق. وهو بالتأكيد لا يشعر بالمتعة. والنظرية تحتاج حتى من المتخصصين من طلاب علم الاجتماع ومدرسيه إلى جهد مُضْن للحصول على فهم متواضع. وما أقل من يألفون النظرية أو يستخدمونها بطريقة مثمرة" (¬2)، ثم في موطن آخر: "إن فهم النظرية مسألة تتعلق بتعلم التفكير نظريًا أكثر منها بتعلم النظريات ذاتها" (¬3)، ولا شك أن فهم النظرية على هذا الوجه هو أفضل من فهمها على أنها مفهوم يعبر عن حقائق، على أن المعنى الأخير هو الأبرز في الكتابات المتغربة، حيث يحيل أحدهم في مسألةٍ ما إلى نظرية من نظريات العلم وكأنه يحيل إلى حقيقة قطعية، بينما هي صورة من صور التفكير لهذا الباحث أو ذاك. ونجد اعترافًا طريفًا لأحد المشتغلين بعلم الاجتماع "أحمد خضر" بعد أن قضى أكثر من ثلاثين سنة في ميدان علم الاجتماع ثم تنبه لبعض المزالق التغريبية ونبّه منها، حيث ذكر أنهم في أثناء دراساتهم العليا بُيّن لهم أهمية النظرية، فهي المدخل إلى العلم وإلى البحوث وإلى النشاط الاجتماعي، والنظرية بالنسبة لعالم ¬

_ (¬1) انظر: الدين في المجتمع العربي ص 128 - 129 من بحث: محمَّد شقرون (الظاهرة الدينية كموضوع للدراسة ..). (¬2) النظرية الاجتماعية .. ، إيان كريب ص 21. (¬3) المرجع السابق ص 24.

المتغربون وعلاقتهم بالمدارس الاجتماعية العلمانية

الاجتماع كالدين بالنسبة للجمهور، وتحذيرهم من النظر الذي يعتمد فيه الباحث على مبادئ عقيدته أو دينه، فإن النظرية غير النظر، فالنظرية ترتبط بالعلم بينما النظر يرتبط بأنساق مسبقة، والعقيدة والدين شيء من ذلك. ولكنه بعد عمر طويل اكتشف أزمة العلم وأزمة نظرياته ولاسيّما إذا تعلق الأمر بالدين -سبق ذكر اعترافاتهم حول أزمة العلم- فأصبحت النظرية أداة تشويش (¬1)، بعد أن كان المؤمل منها أن تكون أداة كشف وتفسير وفهم. وهذا الاعتراف نجده حتى مع من حافظ على موقفه التغريبي، وهذا أحدهم يقول: "ومن البديهي أن يكون للنظريات حظ وافر في علم الاجتماع، كما في سائر العلوم، ولكن كثرتها في الموضوع الواحد مما تعافه النفوس، ويجعل الدرس صعبًا بعيد المنال، وإذا كان لنا رأي خاص نبديه، فهو بتقسيم النظريات إلى علمية وفلسفية" (¬2)، مع أن تقسيمه لترتيب كثرتها فقط، وإلا فإن النظرية إذا تعددت في باب واحد كما هو الشأن في كتاب صاحب النص السابق؛ فلا تكون معبرة عن حقيقة بقدر ما هي طرق للتفكير، وطرق التفكير تكثر بتعدد المفكرين، بل إن المفكر الواحد يتغير رأيه في اليوم والليلة، فكيف تُجعل طرق التفكير هي الحقائق ذاتها؛ لأننا نصبح أمام أكثر من حقيقة وهذا ما يهرب منه العلم، إنه لا يريد تضارب الحقائق وإنما يريد الوصول إلى حقيقة واحدة، وهذه هي أزمة علم الاجتماع في ما يتعلق بالدين، بل ربما في بقية فروعه. المتغربون وعلاقتهم بالمدارس الاجتماعية العلمانية: نشأ علم الاجتماع داخل أوروبا في أوضاع مأزومة، وارتبط غالبًا بعلاقة سلبية مع الدين، وقد امتطته بعض التيارات المتطرفة في الإلحاد، ووجّهت العلم نحو إحداث قطيعة مع الدين، وقد سمحت الفراغات الموجودة في العلم مع صورة الدين المعروفة لديهم في إنتاج نظريات حول الدين أو مناهج وقواعد لدراسته ذات شأن نقدي وتدميري للدين، لدرجة أنه أصبح مع أغلب مدارسه يحمل رسالة قلبها النابض هو نقد الدين. ومما ساعدهم على ذلك ما يعرفونه من دين سائد في مجتمعاتهم، وهو دين إما مبدل أو مخترع؛ أي: أنه انحراف بشري بالدين أو ما جمعوه عن الأديان البدائية والوثنية في بيئات معزولة، فإذا كان من ¬

_ (¬1) انظر: علماء الاجتماع وموقفهم من الإِسلام، أحمد خضر ص 117 - 118 .. (¬2) نحو نظرية جديدة في علم الاجتماع الديني، شلحت ص 42.

تحريف البشر وابتداعهم؛ فهو يقبل الدراسة والتحليل والنقد، إلا أن أغلب مدارس الاجتماع لا تعترف أصلًا بوجود دين، وبعض المدارس تفهم أثر الدين الإيجابي على أن ذلك -عندهم- في حدود كونه إبداعًا بشريًّا لا صلة له بحقيقة موضوعية جاء بها الوحي من رب العالمين. وقد أخذ بهذه النظرة جمهرة من المتغربين داخل البلاد الإِسلامية دون تفريق بين دين ودين، وكأن الرؤية الغربية الحديثة المتمثلة في العلوم الاجتماعية حول الدين هي رؤية كونية وقطعية، فمنهم من اكتفى بعرضها كما هي على أنها هي علم الاجتماع، على ما في ذلك السكوت من مغزى، ويكفي أنها تُسمى علمًا، ومنهم من تبناها كرؤية بديلة عن الفهم التقليدي -كما يقولون- عن الدين. وتشعر بغياب وجود مفهوم واضح عن الدين عندهم، فلا يملكون رؤية ولا موقفًا في أثناء دراستهم ثم تدريسهم لعلم الاجتماع الديني، أو للمسائل الدينية الموجودة فيه، وكأنهم ليسوا أصحاب دين الحق والرسالة الخاتمة، وهذا ما حرصت على تبيانه من البداية، أن دراستهم للدين -بما أنه دين مُبدل أو مخترع- فيها الحق والباطل، إلا أن غاياتهم المتمثلة في إقصاء الدين عمومًا تفسد ذلك المشروع العلمي. لقد انتقلت المدارس الاجتماعية الغربية إلينا عبر مراحل بعد أن فُتحت أقسام علم الاجتماع، وكان ذلك في ظرف تاريخي عسير جعل العلم يمتزج بإشكالات ذاك التاريخ, وأجد حالة من التقليد المزعج للمدارس الغربية بما فيها تلك التي حولها نقد شديد في الغرب كنظرية "التطور"، أو تعصب مجموعة أخرى لتفسير أحادي وكأنه الحق المطلق، مثل تبني النموذج "الصراعي الماركسي" ورفض غيره، أو نقل سخافات انتهت إليها النظريات حول أصول الظواهر الاجتماعية رغم اعتراف بعض منتجيها بفشلهم (¬1). بدأ الأمر مع "التطورية" التي ناقشها المبحث الأول من هذا الفصل، ثم تحولت الدراسات نحو "الوظيفية" الدوركايمية، وظلت هذه المدرسة "مسيطرة على توجيه سير الدراسات الاجتماعية في معظم جامعات العالم الإِسلامي. وظهرت قناعة ثابتة بأن هذه المدرسة هي الشكل النهائي الذي انتهى إليه علم ¬

_ (¬1) انظر: منهج البحث الاجتماعي. . . .، أمزيان ص 177 - 179.

الاجتماع ليحقق درجة عالية من الموضوعية العلمية" (¬1)، وفي هذا يقول "د. عبد العزيز عزت": إننا لسنا الآن في العهد الديني ولا في العهد الميتافيزيقي، وإنما في العهد الوضعي؛ أي: العلم والتجربة، وهو العهد الذي عاش فيه دوركايم وأراد بسببه أن يصبح علم الاجتماع بنزعة واقعية" (¬2). ومع بدايات السبعينيات ظهر اتجاه معارض للوظيفية "يركز على نموذج الصراع وتبني النظرية الماركسية، وبذلك سيعكس التراث الاجتماعي في بلادنا ذلك الصراع الآيدلوجي الذي دار بين الاتجاهين، وأصبح علم الاجتماع موزعًا بين اتجاهين: الاتجاه الوظيفي والاتجاه الماركسي" (¬3)، وظهرت الدعوة إلى قيام "مدرسة ماركسية" مع الترجمات لكتب ماركسية في حقل علم الاجتماع تريد أن تنافس "الوظيفية" السائدة إلى نهاية الستينات. ولما كانت الأنماط الثلاثة السابقة: "التطويرية - الوظيفية - الماركسية" موغلة في التقليد، لدرجة اهتمامها بنفس المسائل التي انشغل بها علم الاجتماع الغربي بما يلائم بيئته، فيُدرس الانتحار لأن "دوركايم" اهتم به، مع أنه وإن كان ظاهرة في المجتمع الصناعي فليس ظاهرة في مجتمعاتنا، ويدرس الصراع الطبقي لأن "الماركسية" اهتمت به، مع أنه لا يوجد ما يناسب تطبيقاته في مجتمعاتنا، عندها ظهر البحث عن بديل. ومع التحولات التي شهدها المجتمع العربي بعد انحلال الاستعمار؛ ظهرت الدعوات القومية، عندها برز البديل القومي في الدعوة إلى علم اجتماع عربي (¬4)، ولكن مع غياب إطار لهذا العلم وبسبب كون الكثير في تلك المرحلة ممن تأثر بالفكر الماركسي؛ فقد جُعل هذا الإطار أو الرؤية أو العقيدة الموجهة هي الماركسية عند بعضهم (¬5)، وتأخر البديل الحقيقي حتى جاء ميلاد مشروع التأصيل الإِسلامي للعلوم أو تقريبها من مجال التداول الإِسلامي (¬6). ¬

_ (¬1) المرجع السابق ص 181. (¬2) عن المرجع السابق ص 183. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 183 - 184. (¬4) انظر: نحو علم اجتماع عربي: علم الاجتماع والمشكلات العربية الراهنة، مجموعة من الباحثين. (¬5) انظر: منهج البحث الاجتماعي .. ، أمزيان ص 222. (¬6) من المراجع المهمة: التأصيل الإِسلامي للعلوم الاجتماعية .. ، د. إبراهيم رجب، ومنهج البحث الاجتماعي .. ، محمَّد أمزيان.

علم الاجتماع الديني

علم الاجتماع الديني: بالرغم من اهتمام علم الاجتماع بموضوع "الدين" في أكثر من موضوع؛ إلا أنه في النصف الأول من القرن العشرين (14 هـ) (¬1) استقل قسم منه بدراسة الدين هو "علم الاجتماع الديني"، ويصفه أحد الاجتماعيين بأنه: "الدراسة العلمية للدين وتطوره" (¬2)، ويرى بأنه: "قدم التفسير الكامل للوقائع الدينية، فهو يدرس الدين من خلال الظواهر الدينية وهي: العقائد والطقوس، ويدرسه من خلال الوظيفة الاجتماعية وهي: التي تخضع الفرد لقواعد لن يخضع لها لو ترك إلى نفسه" (¬3). وهو يختلف عن "علم اللاهوت" ومستقل عنه بأنه يعتمد أساسًا على الحقائق؛ بينما اللاهوت يهتم بوضع القواعد (¬4)، والخط الفاصل بحسب أصحاب علم الاجتماع الديني هو الموضوعية (¬5)، فيحدد بحثه فيها، ويرفض ما وراء المادة، أو دراسة الدين من خلال العاطفة الدينية (¬6)، ولذا يبتعد هذا العلم عن الأحكام المعيارية؛ لأن دراسة الحقيقة، ومنها الحقيقة الدينية يتطلب الحيادية والموضوعية (¬7). وقد دخلت كثير من النظريات الاجتماعية حول الدين إلى بلاد المسلمين، إلا أن أقدم كتاب مستقل -فيما يظهر- حول علم الاجتماع الديني هو كتاب "روجيه باستيد" بترجمة د. محمود قاسم سنة (1951 م) (¬8)، ثم جاء كتاب "محمد أحمد بيومي" "علم الاجتماع الديني" (¬9) ليوجه الدراسات في هذا الباب، ثم انطلقت بعد ذلك الكتابة في هذا الميدان الخاص. فأصبح تناول الاجتماعيين ¬

_ (¬1) انظر: علم الاجتماع الديني، د. إحسان الحسن ص 13. (¬2) الدين والمجتمع. دراسة في علم الاجتماع الديني، د. حسين رشوان ص 73، وانظر: نشأة الدين، د. علي النشار ص 15. (¬3) الدين والمجتمع. دراسة في علم الاجتماع الديني، د. رشوان ص 75، بتصرف يسير قصد الترتيب. (¬4) انظر: المرجع السابق ص 62. (¬5) انظر: المرجع السابق ص 64. (¬6) انظر: المرجع السابق ص 73. (¬7) انظر: المرجع السابق ص 76، وانظر: علم الاجتماع الديني، إحسان ص 13. (¬8) انظر: المرجع السابق، رشوان، ص "ب". (¬9) انظر حوله: علماء الاجتماع وموقفهم من الإِسلام، أحمد خضر ص 222 وما بعدها.

العرب للدين إما من خلال علم الاجتماع عمومًا أو من خلال القسم المتخصص به وهو علم الاجتماع الديني، وكلٌ يدرس الدين بحسب المذهب الغربي الذي اتبعه. وإذا تأكد لنا وجود أزمة تحيط بعلم الاجتماع عمومًا -كما هي اعترافاتهم- فكيف هو الحال مع قسم جديد منه ولاسيّما في ظل ملابسات العلاقة السلبية مع الدين في إطاره الغربي؟ إنها تكون أزمة مضاعفة، ورغم فرح أي مثقف بوجود دراسة علمية للأديان المبدلة أو المخترعة تساعد البشرية في النجاة والبحث عن الحق؛ إلا أن ذلك الفرح سرعان ما ينقشع إذا علم حال هذه العلمية، والإطار الذي تتحرك فيه، والأهداف التي تتوخاها, ولاسيّما في تحويلها الموضوعية إلى أداة هدم لكل دين بما في ذلك دين الحق بحجة اشتراكه مع غيره من الأديان في عدم خضوعه للمعايير الموضوعية. ويعتمدون في ذلك على مدخل غير مناسب، وهو أن دراستهم للدين يفرق فيه بين جوهر الدين وبين جانبه الاجتماعي، فيدرسونه كظاهرة اجتماعية تخضع للتحليل الاجتماعي، ومن ذلك ما نجده في الندوة المشهورة التي جمعت أبرز المتخصصين في علم الاجتماع ممن يغلب عليهم التغرب، ومما ذكروه حرص اللجنة التحضيرية على "إبراز الفرق بين الدين كعقيدة وإيمان يسمو على مستوى القداسة والمطلق، وبين الوعي الديني بمستوياته الوجدانية والمعرفية والأيدلوجية. . . . بكل ما هو ذو علاقة بفهم البشر، ووعيهم وممارساتهم وتعاملهم مع الدين، وليس بما هو مطلق وثابت ومقدس في الدين" (¬1)، وهي امتداد لفكرة "ماكس فيبر"، وحسب قول "غانم" هنا: "يبدأ ماكس فيبر بحثه في علم اجتماع الدين بالقول: "نحن هنا لا شأن لنا على الإطلاق في "جوهر" الدين، وإنما تهمنا شروط فعل جماعي من نوع محدد وتأثيره". وهو لا يقصد بذلك الابتعاد عن الأحكام التقويمية للأديان فحسب -ومنها الدفاعية والهجومية- بل يعني أيضًا إقصاء دراسة محتواها عن اهتمام علم الاجتماع. ." (¬2). ومما يفسد على أصحاب الدعوى السابقة صعوبة تحقق تلك المقولة ولاسيّما من قبل ¬

_ (¬1) الدين في المجتمع العربي ص 10 - 11. (¬2) المرجع السابق ببحث عنوانه: (من الأسطورة إلى الدين) ص 83، وانظر: (الدين والصراع الاجتماعي) لحمود العودي، المرجع السابق ص 189.

المجموعة المُعِدة "للندوة" التي يغلب عليها التوجه الماركسي تمذهبًا وتأثرًا. وإذا سلمنا جدلًا بمقولتهم أن اللاهوتي لا يستطيع دراسة الدين بسبب تعاطفه مع هذا الدين ونبذه لذاك؛ فإن عدم الاستطاعة تكون أشد وضوحًا مع الماركسي صاحب المنطلقات الثابتة حول الدين أو حتى من هو دونه من المتغربين الكارهين لسيادة الحياة الدينية. بعد التفريق بين جوهر الدين والجانب الاجتماعي منه، فإنهم يطلقون على الاجتماعي مصطلح "الظاهرة الاجتماعية"، حيث "أصبحت النظرة إلى الدين ليس على أساس صِدْقه أو زيفه، وإنما على أساس أنه ظاهرة اجتماعية. والظاهرة الدينية هي ظاهرة اجتماعية أولًا بسبب وجودها على نمط واحد لدى جميع أفراد المجتمع. . . .، ولأن الظواهر الدينية أساطير كانت أم طقوسًا، تقوم بذاتها على نحو ما، كحقيقة نسيج وحدها بصرف النظر عن الأفراد الذين يعتنقونها. . . .، وأخيرًا بسبب ما تتصف به قوة القهر، فهي تفرض نفسها على المؤمن الذي يخضع لها ويطيعها. . . ." (¬1). والأساطير هنا تقابل المعتقدات، والطقوس تقابل العبادات والشرائع في الدين. وعندما يوجد من المفكرين من ينبه إلى إشكالية المصطلح مثل "رشدي فكار" الذي يرى بأنه من الخطأ تصور الدين كظاهرة اجتماعية وتعميم ذلك على كل الأديان؛ فإنه إن كانت بعض المعتقدات كالوضعية ذات تعبير اجتماعي، فإن الدين السماوي هو من وحي الرب سبحانه عبر رسله وأنبيائه سواء بدّله أهله كاليهودية والنصرانية أو حفظه الرب سبحانه وهو الدين الحق دين الإِسلام، فالخوض في دراسة جوهر الأديان وأصلها من باب المجازفة الفكرية باسم معرفة نسبية قاصرة لا أكثر ولا أقل، إن مثل هذا الاعتراض لا يتقبله بعض المختصين في علم الاجتماع، بحجة صلاحيته لعالم لاهوت لا لعالم اجتماع (¬2). والناقد هنا يحيلنا إلى علم وكأنه يحيل إلى علم فيزيائي أو رياضي بحقائق يقبلها ¬

_ (¬1) الدين والمجتمع، د. حسين رشوان ص 74 - 75 بتصرف يسير للاختصار، وانظر: قضايا علم الأخلاق، د. قباري إسماعيل ص 52. (¬2) انظر كلام "رشدي فكار" والاعتراض عليه من قبل "حيدر إبراهيم" (الأسس الاجتماعية للظاهرة الدينية ..) ضمن كتاب: الدين في المجتمع العربي ص 38 - 39.

الجميع، بينما هو يحيل إلى علم يمرّ بأزمة، وتتهاوى نظرياته مع المدارس المتناقضة ولاسيّما فيما يتعلق بالدين. والأقرب أن هؤلاء في دعوتهم "إلى تطبيق المناهج الحديثة في دراسة الدين باعتباره ظاهرة اجتماعية" هو من منطلق التقليد لما هو جار في علم الاجتماع الوضعي، على أن الخلفيات الموجهة لهذه الدعوة متباينة، فالبعض انساق خلف هذه المقولات بدائع التقليد والرغبة في العلمية والموضوعية من غير وعي بمدى الخطورة التي تؤدي إليها هذه الدراسة من هدم المقومات والمقدسات الدينية، بينما نجد آخرين أصحاب خلفية أيدلوجية ظاهرة للهدم وبحقد على الإِسلام (¬1). وليس الحديث الآن مع أصحاب الدعوى الهدمية، فإنهم يفرحون بأي مصطلح غامض يساعدهم في تحقيق مآربهم؛ وإنما الحديث مع القسم الأول المقلد والحريص على الموضوعية والعلمية، فيقال لهم بأن الظاهرة الدينية وإن كانت في بعض صورها ذات شكل اجتماعي فإن هذا لا يجعلنا نقبل الفكرة على عمومها؛ لأن ذلك سيقودنا بالضرورة إلى مفاهيم إلحادية؛ لأن المصطلح ظهر مع مجموعة مؤسسين كـ"دوركايم" وغيره ممن لا يقر بالأصل الإلهي للدين، ولهذا فهو يدرسها كظاهرة اجتماعية دون إشكال، أما مع من يُسلّم بوجود أصل إلهي للدين فيختلف موقفه تمامًا؛ لأنه يجد للدين أصلًا إلهيًا ويجد له في الوقت نفسه تمثيلًا اجتماعيًا (¬2)، فتحفظ المفكرين الإِسلاميين على مصطلح "الظاهرة الاجتماعية للدين" ليس وقوفًا في وجه المعرفة العلمية للدين بقدر ما هو إزالة الجانب الأيدلوجي الذي فيها، الذي يستثمره خصوم الدين للطعن في الدين. مر بنا فيما سبق إشكالية تغرّب علم الاجتماع عمومًا وما يخص الجانب الديني منه خصوصًا، وهو تغرب يعترف به حتى أصحاب الخيار العلماني، وأثر ذلك التغرب في استبعاد مصدر الوحي في دراسة الدين وأثره في جعل المكتبة الغربية هي القالب لدراسة الدين بالرغم من اعتراف الغربيين بأزمة حقيقية في ميدان العلوم الاجتماعية. ومرّ بنا اهتمام العلم بالدين، ونشأة قسم خاص منه يهتم بالدين، مع مشكلة الإطار العلماني والفيورباخي الموجه لهذه الاهتمامات، ¬

_ (¬1) انظر: منهج البحث الاجتماعي .. ، أمزيان ص 192. (¬2) انظر: المرجع السابق، أمزيان ص 196 - 197.

ورأينا مشكلة تحويل الدين إلى "ظاهرة اجتماعية" حتى يمكن بزعمهم دراسته دراسة علمية، فضلًا عن دعوى جديدة يرفعونها تحت لافتة التفريق بين جوهر الدين والواقع الاجتماعي له. تُوصلنا هذه العناصر إلى مشكلة المشاكل وهي تأثر التغريبيين بتلك النظريات الفلسفية لا العلمية في ميدان علم الاجتماع، وسعيهم لإقناع مجتمعاتهم بصحة ما تأثروا به. وهذا البعد الخطير أتناوله الآن بالتحليل النقدي، وأجعل ذلك في ثلاث فقرات هي: 1 - الدين منتج اجتماعي. 2 - أصل الدين. 3 - وظيفة الدين. توضح الفقرة الأولى عدم اعترافهم بوجود مصدر غيبي إلهي للدين، الدين عندهم شيء واحد، هو نابع من المجتمع، ولا فرق في ذلك بين دين وآخر، والفقرة الثانية تبين كيف أوغلوا في تقليد مفكرين غربيين حول أصل الدين، والمراحل التي أعقبت ذلك، والفقرة الثالثة حول تحولهم من البحث عن أصل الدين بعد أن عجز قدواتهم في الغرب للوصول إلى حقيقة موضوعية حول أصله، فانصرفوا إلى الاهتمام بوظائفه، ومن هنا برز الدور الوظيفي للدين، والغالب أن أهل التغريب ينتظرون إعلان الغرب عن تجاوزهم للمجال الوظيفي بعد إعلان الفشل في دراسته إلى مجال آخر، ويستمر التقليد والتغرب. 1 - مقولة "الدين منتج اجتماعي": توجد مُسلَّمَة توجه البحث الاجتماعي في الغرب تقول: بأن الدين أنتجه البشر، ولا علاقة له بمصدر إلهي. ورغم وجود علماء اجتماع نصارى أو يهود يرفضون مثل هذه المسلمة إلا أن الغلبة في دوائر البحث الاجتماعي هي للملحدين والعلمانيين منهم، وقد وجد هؤلاء في انحرافات النصرانية واليهودية ما يشجعهم على إبراز مسلمتهم دون معارضة حقيقية توقفهم أو تخفف من اندفاعهم. وقد ترسخت هذه المسلمة بسبب إلحاد المؤسسين، فهم جعلوا خيارهم الديني الإلحاد، وعندما نقول: ملحدين فنحن لا نسب أحدهم وإنما نطرح ما يفتخرون به ويدافعون عنه، فـ "كونت" و"ماركس" و"بوخنر" و"دوركايم" وغيرهم من المؤسسين أو المؤثرين في العلم أصحاب خيار إلحادي لا يخفونه

عن أي أحد، ومن السهولة مع مثل هؤلاء أن تكون مقولة "الدين إنتاج بشري" مقولة مسلمة، سواء صرح بها الباحث أم كانت موجهة لبحثه دون تصريح. وقد يوجد مجموعة تقرّ بوجود الرب سبحانه، ويطلق عليهم داخل إطار الفكر الغربي الحديث بالمؤمنين ليقابلوا فقط الملحدين، وإلا فحتى هؤلاء لا يقرون بالنبوات ومن ثم لا يقرون بالدين، نعم يقرون بوجود الخالق سبحانه ولكن لا يعترفون بالدين، ومن اعترف به فيراه محاولة بشرية للاتصال الروحي بالرب سبحانه، فيكون في النهاية إبداعًا بشريًا. ويعترض أهل الدين عمومًا كل من جهته بأن الدين هبة من الله تعالى وليس إبداعًا بشريًا، وللمسلم جواب أخص، فهو يرى بأن الدين في الأساس من الله سبحانه، وأن الدين الحق هو أول ما وجد مع آدم -عليه السلام- وذريته، ثم وقع الانحراف عن الدين الحق بعد قرون، حيث بدأ البشر ينتجون انحرافاتهم الدينية ويطلقون عليها وصف الدين، إلا أن تلك الانحرافات نوعان: نوع هو تبديل لدين قائم مثل ما حدث في اليهودية والنصرانية، فأصله وحي وحق ثم حرَّفه أهله بالزيادة والنقصان أو التغيير، وهذا هو الدين المبدل، وهناك نوع آخر ظهر في بيئات لم تصلها الرسالات السماوية ممن يطلق عليهم أهل الفترة، ولكن فطرتهم تحثهم على التدين؛ لأن كل إنسان يولد على الفطرة؛ أي: على الإِسلام؛ أي: أن الإنسان يولد متدينًا ويبحث عن دين ولكنه يقع في شَرَك حدوده البشرية وفي شرك الشيطان، فيخترعون دينهم، وهؤلاء المخترعون وُجدوا في البيئات القديمة، كما أنهم وجدوا في العصر الحديث مع بعض المنكرين للدين السماوي ممن لا يدخلون في أهل الفترة، مثل اختراع "كونت" ديانة الإنسانية وهو داعية مشروع علم الاجتماع في أوروبا، فهذا هو الدين المخترع. فإذا بحثنا عن المنتج البشري من الدين وجدناه في التبديل والتحريف، إلا أنه ليس دينًا مستقلًا؛ بل له أصله الصحيح المرتبط بالوحي والنبوة، ووجدناه في الدين المخترع سواء نبع من "أهل الفترة" أو نبع من "أهل الإلحاد"، إلا أنه مع أهل الفترة أقرب إلى ملامسة الحاجة الفطرية عند الإنسان، ولكن للإنسان حدوده وللشيطان أثره، فيظهر دينًا يناسب إمكانات مخترعيه، وبظهور الإِسلام الخاتم العالمي تنتهي الحاجة بالاختراع ويبطل التبديل والتحريف. وعند افتراض حسن الظن -وهو مستبعد تمامًا مع الملحدين- في الحرص

على العلمية في علم الاجتماع؛ فإن أخطر ما قاموا به هو التعميم الخاطئ؛ أي: الانتقال من الدين المخترع إلى قاعدة أن الدين منتج اجتماعي. لا شك أن الحصول على نتائج عامة هو حلم كل عالم وهي حقيقة كل علم، ولكن في الوقت نفسه أكثر العمليات العلمية صعوبة وأكثرها مزالق، وهي قنطرة أهل الأهواء حيث يجدون فيها فرصة لتسريب رغباتهم سواء شعروا بذلك أم لم يشعروا. إن الانتقال من الجزئي إلى العام عملية خطرة تساعد على الانزلاق حتى مع حسن النية وأخذ الاحتياطات، فكيف إذا كان الأصل سوء النية والتفريط في الاحتياطات. ومثل هذه التعميمات هي التي دفعت بالمتأخرين من علماء الاجتماع إلى إعلان أزمته، وهو ما لم يحدث في العلوم الرياضية والطبيعية التي تحوي تعميمات صحيحة لا إشكال حولها، ثم تصبح تلك التعميمات قاعدة للتفريعات. القاعدة الإِسلامية تقلب الموضوع وتقول: إن الدين في الأصل من الله سبحانه، والدين الحق هو الأصل، وهو الأول في الوجود، ولا يمكن أن يكون مصدره البشر، فالدين الحق قد أوجده الله سبحانه في فطرة كل مولود، كما أوجده سبحانه عبر أنبيائه ورسله، ثم بدأ الانحراف فيه وعنه، وهذا الأصل بالنسبة للمسلم دليله واضح في الكتاب والسنة، ولذا كان الواجب على المسلمين في أثناء إدخالهم علم الاجتماع أن يتركوا مسلماته العلمانية ويستبدلوها بمسلمتهم، فإن لم يقبل غيرنا بحجة اعتمادها على النقل فهي حجة لا يسلم لأهلها بها؛ لأن النقل بحسب ما أثبت في الفصل السابق يحوي على الدليل الخبري والعقلي والحسي، ولا نقبل تعميمهم وإن قبلنا ببعض الجزئيات، ففرق بين القول بان هناك أديانًا ثبت من خلال التحليل التاريخي أو التحليل العقلي أو التحليل العلمي أنها من إنتاج بشري، وبين القول بأن الدين منتج بشري. لم تأخذ طائفة المغتربين بمثل هذه الاحترازات وغيرها، بل انطلقوا من تلك المسلمة دون مناقشة، وهم في الغالب يتكلمون عن تلك الأصول، ثم يدرجون الإِسلام ضمنًا دون قدح في الإِسلام، ومنهم مجموعة مهمة ولاسيّما من تأثر منهم بالوضعية أو الماركسية، يجعلون تلك المسلمات العلمانية أداة لنقد الدين والدعوة إلى التخلص منه، وقد نجح هؤلاء في جعل علم الاجتماع يولد

في بيئتنا الإِسلامية مشوهًا، وذا علاقة متوترة مع الدين رغم تلك الجهود التي يبذلها مجموعة أخرى لتصحيح الوضع. فسلّموا بمقولة أن الدين منتج بشري والأصل عكس ذلك، وسلّموا أو استسلموا للأبعاد الأيدلوجية المرتبطة بالمقولة من جهة إخضاع كل دين لذاك الأصل، وانتشرت مقولات: "تاريخية الدين" و"تاريخية النص الديني" و"تاريخية العقائد والشرائع". والعجيب أنهم يقفون موقفًا لطيفًا مع الأديان الوضعية وموقفًا نقديًا مع الدين السماوي، ويصرون بأن من مهامهم إنزال الدين من عليائه إلى الواقع البشري، بحيث يكون متساويًا مع الأديان الوضعية. وكان الأصل في علم الاجتماع في أثناء نشأته داخل المجتمع المسلم أن يسلك طُرقًا مغايرة، ويعكسوا المقولة، فعندنا الخبر الصادق عن الحقيقة، وهم لا يملكون سوى وهم التعميم من جزئيات لا يصح أن تكون أرضية للتعميم، وأن يُدرَك بأن مقولة الإنتاج البشري سواء في الأديان المبدلة أو الوضعية المخترعة هي ما جاء الرسل -عليهم السلام- من أجل إزالتها، وهم من أخبرنا بأنها انحراف بشري لا حقيقة لها, لذا كان واجب علم الاجتماع في بلاد المسلمين أن يواصل تلك المهمة، فينقد الأديان الوضعية والمبدلة للوصول إلى الدين الحق، وليس اتخاذها مطية لإنكار الدين الحق، لقد كان علماء الاجتماع الغربيون يذهبون إلى أقوام بدائيين في أمريكا وأفريقيا وأستراليا ليدرسوا دياناتهم الغريبة، ويخرجوا منها بنتائج يريدون تعميمها على كل الدين، وهم مع ذلك لم يسعوا إلى إزالة هذا الوهم عند هؤلاء البدائيين، وإنما تركوهم في ضلالهم كعينة نادرة من المهم المحافظة عليها لتكون مصدر دراسات علماء الاجتماع والأنثربولوجيا. لا شك أن المُسلَّمات التي ينطلق منها عالم الاجتماع تؤثر على بقية عمله، فإذا كانت المسلمة أن الدين مُنتَج بشري فلن يكون هناك حرص على نصح أهله بتركه إلى دين آخر. بخلاف عالم الاجتماع المسلم، فهو ينطلق من مسلمة أن الدين الحق موجود، وأنه نعمة الله على خلقه، وأن مهمة كل مسلم -كل بحسب موقعه- دعوة الناس إليه وإزالة العوائق التي تصرف الناس عنه أو تسد طريقهم إليه. قد يسلم الباحث بوجود أدوات معرفية جيدة في تحليل "الدين المبدل أو

الدين الوضعي"، فالمنهج التاريخي والمنهج المقارن فضلًا عن علم النفس والاجتماع قد أوجدت أدوات في دراسة الدين المنحرف؛ أي: كدين مبدل أو وضعي، وهي مما يمكن الاستفادة منه بعد تخليصها من المسلمات التي انطلقت منها والأيدلوجيا التي تغذيها والغايات التي وضعت لأجلها، وهي عملية شاقة تركها الجيل المتغرب من الاجتماعيين واستسلموا للتقليد والتبعية، وهذا الأمر هو مشروع أهل التأصيل الإِسلامي ومن سار على مسارهم. يذكر "أحمد خضر" -وهو من خَبِرَ علم الاجتماع لأكثر من ثلاثين سنة- ملخص "النظرية الاجتماعية حول الدين" عند علماء الاجتماع الغربيين بقوله: "فيما يتعلق بالحقيقة الدينية نفسها، تقر النظرية العامة في علم الاجتماع ضمنيًا بالإلحاد"، فهم يقرون "بأن نظريات العلم التقليدية عن الدين إلحادية وتجاهر بالعداء للدين، كما يقرون أيضًا بأن نظرياتهم الحديثة وإن كانت غير معادية للدين فإنها إلحادية أيضًا. . . . وفي الوقت الذي تدّعي فيه تلك النظرية التقليدية أن الأفكار الدينية زيف ووهم؛ فإن النظريات الحديثة تحاول تجنب مسألة حقيقة الدين، لكنها تغذي في الواقع هذه التحليلات التي تحقر أي رؤية جديدة للأفكار الدينية، وتنظر إليها على أنها غير حقيقية. . . ." (¬1)، ثم نقل عن أحد علماء الاجتماع (¬2) قوله: "كيف يمكن أن نقول: إنّ هناك التقاء بين الدين وعلم الاجتماع على أساس ادعاء علماء الاجتماع بأن علمهم محايد -لا- يقول شيئًا من الدين أو ضده، في حين إن نظرياتهم تتضمن أحكامًا غير حيادية عن الدين. . . . إن النظريات العامة لعلم الاجتماع وإن كانت تقر ضمنيًا بالدين أو ببعض مظاهره على الأقل؛ فإنها تقر ضمنيًا بالإلحاد أيضًا، لهذا لا نعجب إذا وجدنا أن هذه النظريات تلزم العلماء بالقول بأن كثيرًا من الأمور الدينية طيبة بالرغم من أن أفكاره الأساسية غير حقيقية"، إلى أن قال: "من الصعب أن يقر الإنسان بطريقة حياة يعتقد أنه ليس هناك أسباب معقولة لعيشها. فإذا رأى أحدهم أن الدين أمر حقيقي؛ فإن ذلك مبرر كاف للتمسك به، وعليه أن يقنع الآخرين ¬

_ (¬1) انظر: علماء الاجتماع وموقفهم من الإِسلام، أحمد خضر ص 187 - 179 بتصرف يسير للاختصار. (¬2) "بنتون جنسون".

به، وإذا ادعى آخر بأن الدين غير حقيقي؛ فلن يكون هناك مبرر للتمسك به. ." (¬1)، ووصل "خضر" إلى نتائج خطيرة: النظريات القديمة والحديثة في علم الاجتماع عن الدين نظريات إلحادية، وأن رجال الاجتماع في بلادنا لا يكتبون عن الدين وعن الإسلام إلا في ضوء هذا المنظور الإلحادي، وأن الإسلام غائب عند الطرفين، وأن التحول الذي طرأ مع علم الاجتماع في الدفاع عن الدين في الغرب ومن تبعهم من العرب لا ترفع الدين على أنه وحي من الله، بل تتفق على إنكار المصدر العلوي للدين، وتنظر إلى الدين على أنه ضرورة نفسية واجتماعية ووهم لابد منه (¬2)، ثم ذكر نموذجًا لذلك عن عالمين غربيين من علماء الاجتماع تتكرر مقولاتهما ويظهر أثرهما على كثير ممن يكتب في علم الاجتماع حول الدين من العرب وهما: "بيتر بيرجر" و"روبرت بيلا"، فرغم اعترافهما بأهمية الدين، إلا أن الأول يرى في كتابه: "الظل المقدس" أن "الدين اختراع إنساني؛ لأن الناس في رأيه هم الذين ينتجون الدين، وهم الذين يعيدون إنتاجه"، ودعا إلى أهمية محافظة علم الاجتماع على "الإلحاد المنهجي" (¬3)، ومثله "روبرت بيلا" حيث كان الدين عنده من صنع الإنسان (¬4)، ومع موقفهما من الدين فإنهما بحسب كلام "أحمد خضر" "لا تكاد تخلو مقالة أو مقولة لرجال الاجتماع في بلادنا عن الدين إلا وأفكار هذين العالمين تسيطر عليهما. ." (¬5). ونعود الآن إلى أمثلة تبين صورة هذا التغرب والتأثر بنظريات ذات محتوى أيدلوجي إلحادي، ومن بين الأمثلة على ذلك مشروع الدكتور "يوسف شلحت" الذي بدأه بكتاب عن علم الاجتماع الديني ثم أعقبه بتطبيقات على الإسلام مثل: "الأضاحي عند العرب" و"بني المقدس عند العرب"، حيث نجد في كتابه التأصيلي عن علم الاجتماع الديني ما يؤكد الأساس الإلحادي والتعميم الاجتماعي بأن الدين منتج اجتماعي، فمترجم الكتاب "خليل أحمد" -وهو أكاديمي- بارز يعرض هذا البعد بإعجاب واضح، حيث يصف علم اجتماع ¬

_ (¬1) انظر: علماء الاجتماع وموقفهم من الإسلام ص 179 - 180 بتصرف يسير للاختصار. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 182. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 183 - 184. (¬4) انظر: المرجع السابق ص 185 - 184. (¬5) المرجع السابق ص 182.

الأديان في مقدمة الترجمة بأنه "يؤسس لنظرية جديدة في علم الاجتماع العام، قوامها وضع الدين في إطاره المرجعي الاجتماعي، بوصفه معرفة أنتجها الناس، لا وحيًا ولا سرًا يعصى على الدرس"، أما "المؤلف" فيرى أن علم الاجتماع لا ينكر الدين كما يظن البعض، وإنما يلتبس عليهم "أمران مختلفان لا صلة بينهما: القول بعدم وجود الديانة، والاعتقاد أنها ليست من أصل علوي. وعلم الاجتماع ينكر القول الأول على أصحابه، بل إنه يتمسك بالديانة ويجعل منها عقيدة الحياة الاجتماعية وبعض مرادفاتها. غير أنه يسعى في تفسير نشأتها وتطورها بطريقة علمية. . . ." (¬1)، إلى أن قال عن بعض الأسئلة التي يدرسها علم الاجتماع: "ما الدين؟ وما الأسباب الدافعة إليه؟ وما أثره في الحياة الاجتماعية؟ وكيف تم ارتقاؤه؟ " فيحاول "أن يجد جوابًا عنها، بعد أن يترك جانبًا كل اهتمام بما وراء الطبيعة، وستكون موضوع بحثنا في هذا الكتاب" (¬2). فالطريقة العلمية تشترط ترك ما وراء الطبيعة، ويفسرها لنا مترجم الكتاب بصورة أوضح كما هي في مشروع "شلحت" بأنه يفترض "أن المجتمع هو الذي ينتج الظواهر الدينية ويستهلكها، بمعنى أنها ليست فوق الدراسة والتحليل والنقد، بل هي على غرار كل الظواهر المجتمعية الأخرى. . . ." (¬3)، ويقول في موطن آخر: "وصفوة القول، مما تقدّم، أن العقائد الدينية هي من إنتاج مجتمعاتها عبر تغيرها وتطورها, وليست من إنتاج أفراد "رجال دين، أنبياء، رُسُل، سحرة، كهنة، عرّافون،. . . . إلخ". فهؤلاء الأفراد الذين يحترفون المهنة الدينية المقدسة، هم من المجتمع، وهم يعبرون عن الجانب المقدس في الحياة الاجتماعية" (¬4)، ويقول شلحت: "العقيدة حدث اجتماعي, لأن مدارها على مسألة دينية وافق عليها المجتمع، وليست العقيدة من استنباطات رجال الدين، بل هي قد انتزعت من صميم المجتمع. ." (¬5)، ومثاله على ذلك عقيدة العصمة البابوية، وكأنها وغيرها من أمثلة الأديان المبدلة أو الوضعية الدليل القاطع على ¬

_ (¬1) نحو نظرية جديدة في علم الاجتماع الديني .. ، د. يوسف شلحت ص 26. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 27. (¬3) من مقدمة مترجم كتاب: نحو نظرية جديدة في علم الاجتماع الديني ص 13. (¬4) المرجع السابق ص 16. (¬5) المرجع السابق ص 71.

صحة هذا التعميم، وقد برز التعميم في تحويل هذه المقولة كأساس يدرس من خلالها الإسلام. بما أن الدين -عنده- منتج اجتماعي فلن يدرس الإسلام على أنه دين سماوي، بل يدرسه على أنه ظاهرة أفرزتها ظروف مكة والجزيرة العربية في مرحلة تاريخية معينة، وعندها يرجع شلحت في كتبه التطبيقية إلى العرب قبل الإسلام في العهد الجاهلي فيدرس تلك المرحلة، ويبين كيف أفرزت لنا الإسلام، حيث نجد في كتابه: "بني المقدس عند العرب قبل الإسلام وبعده" الربط بين كل عقيدة إسلامية وبين عقائد الجاهلية العربية، فيكون الإسلام ثورة ذاتية للمجتمع في جوانب أو تطور طبيعي اجتماعي في أخرى، وليس لذلك علاقة برسالة أو وحي، فالإسلام ما هو إلا ظاهرة اجتماعية أفرزها المجتمع العربي. وهو لا يكتفي بذلك، فإن هناك دراسات استشراقية تحاول ربط الإسلام بعقائد ديانات أخرى، وكأن الإسلام قد سرق تلك العقائد ونسبها إلى نبيه، فأضاف مثل هذه الدراسات إلى بحثه، وصور الإسلام بصورتين: إما أنه إنتاج لظروف العرب، أو أنه تأثر بديانات وعقائد أخرى. نأخذ مثالًا من كتابه يبين الأمرين: "ادعاء أن الدين من أثر البيئة ومن أثر الآخرين"، وهو ما أطلق عليه أسطورة المعراج في مبحث الأسطورة. يغلب على كتب الاجتماع عند دراستها الدين أن تتحدث عن الأسطورة، والسحر، بحيث يجعلون منها أساس الدين وأهم عناصره، وغالبًا ما يبدؤون بمرحلة السحر ثم الدين بحيث يكون الدين مرحلة متطورة من مراحل السحر، وكذا الأسطورة حيث تكون فاتحة الحديث عن الدين، ومن هنا تجد اشتهار الكتابة في الأساطير والسحر في الدراسات الاجتماعية. يذكر "شلحت" أن كتب السيرة تمتلئ بالعناصر الخرافية، وضرب مثلًا على ذلك في مبحث الأسطورة بالمعراج، وأنه بحسب كتب السير كان على مطية مجنحة لها رأس امرأة (¬1)، وهو يركز على قضية رأس المرأة كدليل على أسطورة الحدث حتى يصل منه إلى أسطورية المعراج ومنه أسطورية العقائد، ومنه وهو الأهم أن الدين منتج اجتماعي يحتاج إلى الأسطورة. ¬

_ (¬1) انظر: بني المقدس عند العرب قبل الإسلام وبعده، يوسف شلحت ص 90.

يقول "شلحت": "ودون الدخول في تفاصيل هذا الإسراء والمعراج اللذين أثارا أدبًا غزيرًا، سنكتفي برصد الوقائع التي تندرج في أفق هذا العمل. أولها المطية المجنحة ذات الرأس النسائي، التي عرج بها محمد إلى السماء: إنها صادرة عن العقلية الخرافية ذاتها التي أبدعت الغول واعتبرت الملائكة بنات الله"، هنا بحسب دجل المؤلف يظهر المعراج كأمر أنتجته العقلية الخرافية العربية التي جعلت الملائكة بنات الله، والربط هنا من خلال الرأس النسائي للمطية. ولكن هناك مصدر آخر بحسب دجله أيضًا لهذه الأسطورة، وهذا المصدر هو ما ورد عن الأنبياء في ديانات قديمة، وأن تأثيرها في الإسلام أكيد، كما ينقل عنه بوجود مؤثرات أخرى على المعراج الإسلامي مانوية وعرفانية، وعليه "فإن محمدًا لم يقم بغير تكرار أسطورة كلاسيكية" (¬1). صحيح أن العقلية الخرافية جعلت الملائكة بنات الله، ولكن العقلية المقلدة للإنتاج الغربي حذو النعل بالنعل حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلته هو الذي يجعل المفكر لا يفرق بين المختلفات، ويكتفي بوجود نوع من التشابه لا تقوم به حجة علمية، كمن يجعل وجود الحجر كوجود الإنسان بحجة اشتراكهما في مسمى الوجود، نعم وجد من كتب في التفسير وأضاف عجائب على قصة الإسراء والمعراج، ولكن ذلك لا يكون دليلًا على نفي الحق، حيث يفرق بين الحق وما التصق به من تحريف أو تبديل، كما أن الأكثر فسادًا في هذه المنهجية ما جُبلت عليه العقلية الاستشراقية من البحث عن جذر تاريخي لكل مسألة إسلامية بحيث تُظهر الإسلام وكأنه ثوب مرقع من ديانات وفلسفات تحيط بجزيرة العرب، وجعل الإسلام صورة ملفقة قام بها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالأخذ من هذه أو تلك، وسار على نهجهم مجموعة من الكتاب العرب المتغربين سير الأعمى. ثم تُخرج هذه الأوهام المختلفة والعداء المستحكم في قالب علمي تحت مسمى علم الاجتماع الديني، بينما هي في حقيقتها اتباع لبحوث كتبت في أجواء ¬

_ (¬1) المرجع السابق ص 91، وقد بحثت في كتب التفسير التي تجمع الآثار كـ"الدر المنثور" للسيوطي، وكتب السيرة، وبعض الكتب المتخصصة مثل "الإسراء والمعراج وذكر أحاديثهما وتخريجها وبيان صحيحها من سقيمها" للألباني، وكتب الموضوعات مثل كتاب "الموضوعات" لابن الجوزي، وذلك عبر البحث الحاسوبي فلم أجد المطية المجنحة برأس أنثى، مع العلم أنه قد ظهرت كثير من الأكاذيب من خلال الوضع والكذب.

كارهة للإسلام، سواء كان ذلك ظاهرًا أم خفيًا، والذين كتبوا عن نشأة علم الاجتماع العربي قد تنبهوا بمن فيهم بعض المتغربين إلى أثر الاستعمار والاستشراق في توجيه علم الاجتماع وتوظيفه بما يخدم القوى الاستعمارية وخلفياته الدينية أو العلمانية، ويندرج فيها مثل هذه الأبحاث. والخلاصة أن ما سبق يوضح لنا صورة مزرية من التبعية لبعض مسلَّمات علم الاجتماع، وهو مثال صريح إلى أقصى حدوده في خطورة مثل تلك المسلَّمات والنظريات إذا أخذت من قبل الحاقدين على الإِسلام؛ حيث تصبح أداة لتشويه الدين الحق وجعله كالأديان المبدلة أو المخترعة، وإقامة النقد عليه. لقد أضحت مقولة "الدين منتج اجتماعي أو ظاهرة اجتماعية" موجهة لقطاع غير قليل من المشتغلين في حقل علم الاجتماع، ويمكن رصدها بسهولة في الندوة التي جمعتهم لدراسة الدين وخرجت في كتاب: "الدين في المجتمع العربي"، حيث تجد التصريح في أغلب البحوث أو التلميح بأنهم يهتمون بدراسة الدين كظاهرة اجتماعية أو كمنتج اجتماعي. يقول "عاطف غضيبات": "فالدين، في هذه الدراسة، ينظر إليه كظاهرة اجتماعية موجهة نحو المقدس أو ما هو فوق الطبيعي، وينعكس ذلك على نسق من الاعتقادات والممارسات" (¬1)، أي: العقيدة والشريعة. ويقول: "والمنهج السوسيولوجي المستخدم في هذه الدراسة يركز في معالجته للعلاقة بين الدين والتغير الاجتماعي في المجتمع العربي الإِسلامي على واقع هذه العلاقة وليس على ما يجب أن تكون عليه. وبالتالي فهي تنظر إلى الدين على أساس أنه انبثاق من الواقع بأبعاده السياسية والاقتصادية والتاريخية. ." (¬2). وفي نفس المسار تسير دراسة "علي الكنز" "الإسلام والهوية: ملاحظات للبحث" (¬3)، وهو -أي: الدين- عند "محمد شقرون" "أحد الطرق التي تستجيب ¬

_ (¬1) الدين في المجتمع العربي، بحث: (الدين والتغير الاجتماعي في المجتمع العربي الإِسلامي: دراسة سوسيولوجية)، عاطف غضيبات ص 140. (¬2) المرجع السابق ص 141. (¬3) في المرجع السابق ص 91 مع أنه يعترف بفشلها في أثناء دراسة الصحوة الإِسلامية.

بها الجماعات البشرية لحاجات التماثل وترتيب التجربة الجماعية. ."، إنه يشهد تشكلًا في مواجهة تحدي الحداثة في العصر الحديث، إن تعددية المجتمعات الحديثة تنتج تعددية في أنماط الاعتقاد، وليس الدين لوحده هو طريقة مواجهة الحداثة بل هناك غيره، إلا أنه أهمها في المجتمعات العربية، وعلى الباحث الاجتماعي أن لا ينظر للدين وإنما ينظر للديني، البحث في الدين ترتبط به إشكاليات فلسفية ولاهوتية، أما الديني فهو الصورة التي يتجلى بها كسلوكيات وممارسات (¬1). والدين عند "إدريس الحسن" هو صورة من الوعي، يقول: "فالدين في اعتقادنا، كجزء من إدراك الإنسان ما حوله، يكوّن جزءًا مهمًا من سمات الوعي الأساسية في صورته الشاملة", ولهذا يبقى الدين معنا ما بقي فينا الوعي "ولكنه يتشكل ويتداخل مع أشكال الوعي الأخرى والتنظيم الاجتماعي "رأسيًا وأفقيًا"، ويؤثر فيها ويتأثر بها تبعًا للظروف الاجتماعية والتاريخية التي يوجد فيها. وهو تمامًا كأشكال الوعي الأخرى يعطي ويتقبل معاني متعددة ومختلفة دون أن يكون له حقيقة جوهرية واحدة ثابتة الصفات والأفعال. . ." (¬2). ونجد عند الدكتور "حسين رشوان" عرضًا لرأي "دوركايم" في الدين، ومن ذلك تأكيده على "أن الجماعة الاجتماعية هي المسؤولة عن تكوين الدين والأخلاق، والتعبير عن ذلك رمزيًا. فالدين خاص بجماعة معينة، وعندما تتغير هذه الجماعة يتغير الدين أيضًا" (¬3)، ثم نجده في مكان آخر يتحدث فيه عن "علم الاجتماع الديني" فيقول: "ومعنى ذلك أن تعالج الظواهر الدينية كنظم اجتماعية لا من حيث مصدرها, ولكن من حيث أثرها في الحياة الاجتماعية. ."، ثم تحدث عن بعض الافتراضات السوسيولوجية حول طبيعة الإنسان مما لها علاقة بالموضوع، ومنها يتميز الإنسان بقدرته على استعمال الرموز وابتكارها، فلديه قدرة على إضفاء معاني على الأشياء والأصوات والكلمات والأفعال، مع أن هذه المعاني غير قائمة في تلك الأشياء، ثم يصل إلى أن "هناك كثيرًا من ¬

_ (¬1) انظر: الدين في المجتمع العربي، بحث: (الظاهرة الدينية كموضوع للدراسة. . . .)، محمَّد شقرون ص 134 - 136. (¬2) المرجع السابق، (الدين أيدلوجيا) ص 248. (¬3) الدين والمجتمع .. ، حسين رشوان ص 86.

الأنشطة التي لا يمكن أن تفسر إلا رمزيًا. فالإله والجنة والنار والخلاص والشيطان والملائكة .. كلها معانٍ ومفاهيم دينية تأخذ شكل رموز معينة لدى من يؤمن بها. ويمكن القول كذلك: إن الحقائق الدينية التي أخذت شكل رسالات سماوية أو وحيًا عن طريق رسل معينين، هذه الحقائق عبر عنها أو ترجمت باللغة الإنسانية، واللغة ما هي إلا رموز" (¬1)، ومع الفوضى التي تجدها في نصوص الكاتب؛ إلا أنها بمجموعها تكشف مدى خضوعه لمقولات دوركايم على وجه التحديد، وتسليمه يكون الدين منتجًا اجتماعيًّا يُعبر عنه البشر بالرموز. نصل في النهاية إلى أزمة من أزمات المتغربين الاجتماعيين، فبسبب التقليد الأعمى والاغتراب الذي اعترف به كثير منهم، استسلموا لمقولة "الدين منتج اجتماعي"، وبدؤوا يدرسون الإِسلام من خلالها, ولم ينتبه هؤلاء المتغربون أن هذه المقولة ارتبطت بموقف المؤسسين الملحدين للعلم من "كونت" و"ماركس" و"دوركايم" وغيرهم، فهي مقولة ليس لها علاقة بالعلم؛ وإنما لها علاقة بأيدلوجية العلماء المؤسسين للعلم، وحتى لو صحت في صور من صور الدين، فإن غلط المتغربين عدم تفريقهم بين الدين الحق وبين الدين المبدل أو المخترع، وهذا الخلط لا علاقة له بالعلم؛ وإنما له علاقة بجهل المتغربين أو بأيدلوجيتهم القائمة على النفور من الدين. 2 - أصل الدين: تبعًا للمسلَّمة السابقة "الدين منتج اجتماعي" بدأ علم الاجتماع يبحث عن أصله، كيف نشأ؟ وما أول صورة له؟ وما التطور الذي لحق به؟ وما واقعه الآن؟ ويصلون إلى التنبؤ أيضًا بمستقبله. ومن شبه المتفق عليه عندهم أن البحث سيكون في حدود الاجتماعي، أي: عدم الالتفات إلى فرضية تقول بأن أصله خارج المجتمع، وإن تسامحوا مع بعض الفرضيات الفلسفية التي تنظر من خلال منظور مثالي؛ فإنهم وتحت ادعاء العلمية يرفضون أي أصل في ما وراء الطبيعة يتصل بالتصور الديني، ومن ذلك عدم البحث في مسألة الدين الحق المنزل والموحى به من الرب سبحانه، وفي المقابل لا يقبلون بافتراضات دينية -كما ¬

_ (¬1) انظر: الدين والمجتمع .. ، حسين رشوان ص 80 - 81، مع تصرف يسير للاختصار.

يقولون- عن أصل الأديان الوضعية مثل دور الشيطان في الانحراف بأقوام، ويُصرُّون على أنه "منتج اجتماعي"، ويبقى البحث في حدود الظواهر الاجتماعية. يُعد كتاب الدكتور "علي النشار" من أشمل الكتب عرضًا للنظريات الاجتماعية الحديثة رغم صغر حجمه، أي: كتاب "نشأة الدين" وهو أقدمها، حيث صدر سنة (1367 هـ -1948 م)، وإن كان قد سُبق بظهور تيار عريض من المفكرين النصارى الذين تبنوا المذهب التطوري الداروني وفسروا من خلاله الدين -كما سبق في المبحث الأول- إلا أن المؤلف هنا يعرض جميع وجهات النظر عرضًا شاملًا وموجزًا دون إعلان موقف واضح، مع أو ضد، وإن كان لا يخلو من التسرع في التسليم ببعض نتائجهم دون تمحيص، ومن ذلك ما نجده في مقدمته، حيث بدأ البحث عن كيفية نشأة الدين في الأغوار السحيقة من تاريخ البشرية، ورغم صعوبة الوصول إليها إلا "أن الإنسانية الأولى نفسها استطاعت أن تحفظ لنا صورًا من حياتها في قبائل متعددة منتشرة في أستراليا وأمريكا وأفريقيا وآسيا" (¬1)، بحيث نشعر أن هذه القبائل البدائية بدياناتها العجيبة تمثل الصورة الأولى للدين، ثم يسير عشرات الصفحات مع هذه المسلمة وإن كان في آخر الكتاب يذكر: "أننا لا نستطيع أن نجزم إطلاقًا بأن تلك الأجناس المتأخرة تمثل طفولة الجنس البشري؛ فهناك آثار لم تكشف عنها بعد الأركيولوجيا القديمة خاصة بديانة العصر الحجري أو العصر الجيولوجي الرابع" (¬2). إذًا يعود سبب الاهتمام بهذه القبائل المتوحشة والبدائية إلى فرضية أن ديانتهم هي أول ديانة وجدت في الأرض، بحيث ينطلق منها البحث الاجتماعي متأملًا وباحثًا في مراحل تطور الدين عنها وانقساماته وتفرعاته في الصورة التي هي عليه اليوم (¬3). وهذه الدراسات تفترض أن صورة الدين عند هؤلاء هي أول صورة للدين يمكننا القول بها، ثم وقع التطور فيها إلى أن جاءت الأديان التوحيدية، ويقصدون بها اليهودية والنصرانية والإِسلام، وتندرج المسألة عمومًا ضمن الإطار السابق أن الدين منتج اجتماعي. ¬

_ (¬1) انظر: نشأة الدين، د. علي النشار ص 5. (¬2) المرجع السابق ص 147. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 28.

ذكر "النشار" تعدد النظريات وتشعبها إلا أنها ترجع إلى فكرتين مسيطرتين على النظريات الدينية "هما: فكرة التطور، وفكرة التوحيد أو الوحي الأول. وبين الفكرتين تنازع مطلق في السيطرة على تلك النظريات وإمدادها بالأساس الذي تستند عليه"، وهذا مختصر الفكرتين: أولًا: المذهب التطوري: أصحاب مذهب التطور التقدمي في تاريخ الأديان قياسًا على التطور الذي يسود الحياة البيولوجية للإنسان، فإنه يسود أيضًا الحياة العقلية انقسموا إلى قسمين (¬1): 1 - قسم يذهب إلى الأساسى الفردي للدين، وأنتج هؤلاء نظريات مختلفة أهمها اثنتان: أ- النظرية الحيوية: التي ترى بأن الدين نشأ من الحلم عند البدائيين، وانتهوا إلى عبادة الأرواح، تقول الفرضية أن البدائي يشعر أنه بالموت يفقد روحه التي شعر بها في أحلامه، وأن روحه تجتمع مع أرواح آخرين يموتون، وتحيط أرواحهم بالعالم، ثم تصبح قوة تؤثر في حياة الناس، فنشَأت عبادتها، وهكذا وجد الدين، ثم بدأ يتطور عن هذه الصورة (¬2). ب- النظرية الطبيعية: وتقول بأن الطبيعة وظواهرها المدهشة قذفت في روع البدائي مشاعر الرهبة مما جعله يتوجه إليها بالعبادة (¬3). 2 - قسم يذهب إلى الأساس الاجتماعي والجمعي للدين، فعارضوا النظرية الفردية، أي: تلك التي تقول بأن الدين منشؤه أحلام الأفراد، أو الأخرى التي ترى منشأه مشاعر الدهشة التي أحدثتها الطبيعة في الأفراد؛ وإنما ظهر الدين بواسطة العقل الجمعي، والحل هو دراسة كيف يتولد الدين عن عقل جمعي، فظهرت نظرية التوتمية كونها عقيدة أفرزها العقل الجمعي للقبائل البدائية ¬

_ (¬1) انظر: نشأة الدين ص 6. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 31 - 59 ولاسيّما ص 34 - 35، وانظر: نحو نظرية جديدة في علم الاجتماع الديني ص 92. (¬3) انظر: نشأة الدين ص 61 - 79، وانظر: نحو نظرية جديدة في علم الاجتماع الديني ص 95.

الموجودة في أستراليا مثلًا، وبهذا تكون الديانة التوتمية هي أول ديانة (¬1)، أو كما يقول النشار: "فثبت ثبوتًا قطعيًا لدوركايم أن التوتمية أقدم دين عرفته الإنسانية" (¬2)، ويذهب بعد ذلك إلى أنها منشأ الأديان جميعها (¬3). وبعد عرض مطول قام به النشار للقسمين بمذاهبهما الثلاثة عبر المكتبة الغربية؛ يصل إلى نتيجة قالوا بها وهي أنها قد "فشلت في الكشف عن نشأة الدين وهاجم بعضها الآخر" (¬4) لينتقل إلى المذهب التأليهي. ثانيًا: المذهب التأليهي: النظريات السابقة تعارض ما جاءت به الأديان الكتابية ودين الإِسلام، وظهر في الغرب من علماء الدين من حاول إثبات "بدء الإنسانية بدين الوحي الحقيقي، وأن هذا الوحي أقام فكرة "الله" في نفس الإنسان، ولكن الخطيئة الأولى أخفت تلك الحقيقة عن البشر"، وأن الدين الحيوي بحسب كلام عالم كاثوليكي هو انحراف عن فكرة الإله الأسمى، ثم جاءت أبحاث مهمة تعرض لتوجه آخر مفاده الابتداء بعقيدة وجود إله في السماء بدأ منه الدين (¬5). ثم تعثَّر هذا التوجه وهجره بعض مؤسسيه، بسبب ظهور فكرة التطور وتسليم الباحثين بها، حتى جاء عالم ومفكر أسكتلندي هو "أندرو لانج" الذي نقد المذهب الحيوي بعد أن كان من معتنقيه، ودافع عن فكرة أن الأصل للدين هو إله السماء، إلا أن الفكر البدائي انحرف بهذا الأصل حتى ظهر التوحيد في أجلى صوره في المسيحية ثم الإِسلام (¬6). وقد هاجمه قوم وناصره آخرون، واستمر ظهور دراسات تسند قوله لمجموعة من الباحثين مع مجموعة من أصحاب المنهج التاريخي، ثم مع مجموعة من أصحاب البحث السيكولوجي، ثم مع ثالثة في تاريخ الأديان، ليصل "النشار" بعد عرض مطول إلى أن "فكرة وجود إله أسمى" ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق ص 80 - 150، وانظر: نحو نظرية جديدة في علم الاجتماع الديني ص 109. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 130. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 147. (¬4) المرجع السابق ص 150. (¬5) انظر: نشأة الدين ص 151. (¬6) انظر: المرجع السابق ص 153 وما بعدها.

أصبحت "مسلمة في تاريخ الأديان والأنتولوجيا، وأن الأبحاث من مختلف الدوائر قد أيدتها وتطابقت معها تطابقًا تامًا"، ولدرجة أنه "أصبح من العسير أن نجد من ينكرها من العلماء الممتازين"، فضلًا عن هجوم لاقته النظريات الوضعية من حيوية أو طبيعية أو غيرها، وإن كانت النظرية التأليهية مع ذلك تجد من ينتقدها ويرفض التسليم بها (¬1). وهم وإن فتحوا طريقًا نحو تقريب التفكير الاجتماعي من الإقرار بوجود دين من أصل سماوي إلهي؛ إلا أنه لا يتجاوز عند الكثير منهم صورة الإيحاء للبشر، الذين تجاوبوا مع ذلك الإيحاء باختراع الدين، وباستثناء أهل الكتاب من اليهود والنصارى لا يوجد إقرار عند أصحاب المذهب التأليهي بالنبوات، ولكنه يفتح بابًا للتقريب كما سبق. يمثل أصحاب المذهب الأول "التطوري" استجابة للتوجه العلماني المادي ذي المنحى الإلحادي، لهذا فهو بعد أن عرف تحطم الدين في الغرب، وظهور الإطار "الفيورباخي" الذي يرجع الدين للإنسان؛ برزت مثل هذه الدراسات التي لا ترى للدين حقيقة خارج هذا العالم، بينما يمثل أصحاب المذهب التأليهي استجابة للتوجه الديني الذي يعترف بوجود إله يدبر هذا العالم. ومع ذلك فالإطار "الفيورباخي" مؤثر في الطرفين، وذلك يعود إلى أن صلة هؤلاء الباحثين بالأديان المبدلة أو الوضعية أكثر، فتعطي الباحثين انطباعًا على صحة أقوالهم، وفيها ما هو صحيح، وانطباعًا أخطر عن صحة التعميم بحيث لا يجد أحدهم حرجًا أن يقول: الدين بألـ التعريف هو ما توصل إليه، بينما ما توصل إليه هو دين من الأديان. تطرق المبحث الأول لنموذج تغريبي تأثر بالتطورية حول الدين، وتطرق المبحث الثاني لنموذج آخر عمن تأثر بمقولات علم النفس حول التركيز على البعد السيكلوجي النفسي لظاهرة الدين، وأكمل هنا ما يتعلق بأصل الدين من صور ونماذج أخرى اجتماعية. تسلك كتب الباحثين الاجتماعيين العرب نفس الطريقة التي نظر بها الغرب إلى الدين (¬2)، ومن ذلك ما نجده عند "حسين رشوان" الذي اعتمد كثيرًا على ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق ص 154 - 192، وما بين القوسين هما على التوالي ص 173 ص 180. (¬2) انظر مثلًا: الدين في المجتمع العربي، بحث: (الأسس الاجتماعية للظاهرة الدينية ..)، حيدر علي ص 34 وما بعدها.

"فريزر" و"باستيد" في النتائج التي يعتمدها، وعند بحثه عن نشأة الدين قال: "والحق أن الدين نشأ مع الإنسانية، ومنذ أقدم العصور، إذ دلت اكتشافات علماء الآثار والمتخصصين في دراسة ما قبل التاريخ والحفريات عند قدماء المصريين و. . . . ما يدل على أن الدين وجد منذ أن نشأت الإنسانية", أما كيف نشأ؟ فيقول: "لقد عاش الإنسان الأول في دنيا لم يكن يفهمها، وكان يحيط به جميع صنوف الأخطار التي لا يستطيع أن يراها أو يدركها بتصوره، فاستشعر الخوف من الطبيعة، ولم يستطع أن يعللها، فحاول أن يسترضيها بحيث يحصل على معونتها أو بحيث تمتنع على الأقل من إيذائه. ومن ثم أخذ الإنسان الأول في عبادة ظاهرات الطبيعة التي أخذت بلبه. . . ." (¬1)، ثم ذكر الأقوال في أول ديانة، ومال إلى كلام "فريزر" حول مرور المجتمعات البشرية بثلاث مراحل: السحر والدين والعلم، ثم تحدث عن صور الأديان في المجتمعات الإنسانية الأولى، ومع تحفظه على مسألة الترتيب؛ إلا أنه بدأ بالسحر ثم الروحية ثم عبادة الأجداد ثم الطوطمية ثم الزرادشتية والبرهمية والبوذية والكونفوشيوسية ثم ديانة المدينة عند الإغريق (¬2)، ثم يصل في النهاية إلى الديانات السماوية "اليهودية والمسيحية والإِسلام"، ويقول: "وقد ظهرت متعاقبة، وهي تقول جميعًا بإله واحد مطلق، إلا أنها تختلف في تصويرها لوحدانية الله. ." (¬3)، وهذا ما يُدرّسه هؤلاء لطلاب المسلمين، وكأن الدين السماوي لم يكن موجودًا قبل موسى -عليه السلام-، إذ عادة العرب النقل حرفيًا عن المكتبة الغربية، وهي لا تهتم بذكر ما قبل موسى -عليه السلام- إلا ضمن السحر والطوطمية، ثم لا ندري كيف تختلف الديانات السماوية في تصويرها لوحدانية الله؟ فإن كانت سماوية فهي لن تختلف، أما انحراف اليهود والنصارى وتبديلهم في دينهم فلا يدل عليه سياق البحث. ونجد التصريح بصورة أشنع مع "يوسف شلحت" عند بحثه عن أصل الدين ¬

_ (¬1) الدين والمجتمع، دراسة في علم الاجتماع الديني، د. حسين رشوان ص 25. (¬2) انظر: الدين والمجتمع، دراسة في علم الاجتماع الديني، د. حسين رشوان ص 26 - 44. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 45 وما بعدها، وقد يجري الكلام معهم بذكر الأديان السماوية، مع أن الدين واحد، والاختلاف إنما وقع في الشرائع، ولذا يقال الدين السماوي.

بأنه لا يمكن التسليم بالوحي والرسل، ثم انطلق في سرد أقوال الغربيين حول الدين في صفحات كثيرة (¬1) ثم هو يقول مع ذلك: "استعرضنا في الفصول السابقة أشهر المبادئ في الديانة، وشتى النظريات في الطوطمية، مؤملين الوصول إلى حل مقنع في نشأة الدين وتطوره؛ فإذا بنا في سوق كثر فيه الأخذ والرد، وعرضت فيه بضاعات مختلفة الأجناس، متعددة الألوان، لا يعرف المرء أيها يختار، ولكن لابد له من الاختيار. ولقد خرج المتدين على المناقشة والجدال، والقيل والقال، وإيمانه وطيد بخالق العالم، وأراح نفسه وفكره من هذه المشاكل، وتبرم بالعلوم ونظرياتها، زاعمًا أنها عاجزة عن بت أمثال هذه المواضيع. أترى من الحكمة أن نأتي بنظرية جديدة في هذا الباب، بعد أن تبينت لنا صعوبة المسالك؟ أليس من السذاجة أن نتوقع لنفسنا النجاح، حيث مني بالخيبة الثقات في علم الاجتماع؟. . . ." (¬2). ومع ذلك فهو يرى المواصلة في هذا الطريق، المعارض لما جاء في الدين، بحجة السير في طريق البحث العلمي. ولنا مع هذه الشهادة -أن ننظر إلى عمق الأزمة، فمع إدراكه التام بأنه في سوق وليس في ميدان علمي حقيقي, لأن العلم لا يعرف مثل هذه الفوضى؛ ومع ذلك يُلزم نفسه بأن يختار من هذا السوق، فيحبس نفسه في متجر واحد، وهو نوع من التغرب العجيب، ولا ندري كيف يصف تلك النظريات بسوق ثم يصف المتدين بالتبرم من العلم ونظرياته، والحقيقة أن المتدين لا يتبرم بالعلم، وإنما تبرمه من هذه الفوضى التي تزعم العلمية، فالمتدين على الأقل يجد معه من الأصول ما يساعده على حسن التصور وحسن الاختيار وحسن الفهم، وهذا ما لا يجده أمثال هؤلاء ممن يعيشون هذه الأزمة، ومع ذلك يجدون أنفسهم ملزمين بالاختيار، فمن المهم أن يجد المتغربون في هذا الاعتراف الشجاع من أحد الباحثين في الحقل الاجتماعي ما يدفعهم إلى التعقل وتخفيف حدة التغرّب. وأشارك الباحث المميز "أمزيان" رأيه حول هذه الفوضى، فبعد أن ذكر إحدى عشرة نظرية حول أصل الدين قال: "والمقصود من عرض هذا الموجز هو تأكيد الفكرة التي انطلقنا منها؛ وهي أن الجانب الميتافيزيقي لعلم الاجتماع لا ¬

_ (¬1) انظر: نحو نظرية جديدة في علم الاجتماع الديني، د. يوسف شلحت ص 91 - 138. (¬2) المرجع السابق ص 139 - 140.

يمكن الفصل فيه، ولا يملك علماء الاجتماع الأدوات اللازمة للخوض فيه، وهذا التعارض والتناقض هو دليل قاطع على أن علم الاجتماع ما زال مثقلًا بالآراء الميتافيزيقية والخرافية رغم العلمية التي يدعيها" (¬1)، ثم بين سبب حرمانهم الاقتراب من الحقيقة بأنه راجع إلى القيد الذي وضعوه، والذي يُلزم الباحث الاجتماعي بعدم قبول الوحي كموجّه للمنهجية الاجتماعية، "في حين إن الوحي وحده هو الذي يستطيع أن يقدم كشفًا كاملًا لهذه الحقائق" (¬2)؛ لأن ما يبحثون فيه يدخل في إطار لا يستطيع البشر الوصول إلى نتيجة علمية مقبولة فيه؛ لأنه لا يخضع لأدوات البحث العلمي أو مناهجه، ويبقى القول فيه من باب التخمين الذي يحتاج إلى مصدر خارجي يؤكد صحته. ومن النتائج الأيدلوجية التي ارتبطت بمبحث أصل الدين: تنبؤ الكثير ممن بحث في أصله بنهاية الدين، وتصريح بعضهم بمستقبل الإلحاد، حيث يسود عندهم ربط نشأة الدين بعدم الوعي والجهل الذي صاحب البشرية أول أمرها، ولكن مع الوعي والعلم وإدراك كيف نشأ الدين يصبح مستقبله محسومًا نحو الفناء والاختفاء. ولكن التطورات التي وقعت داخل ميدان علم الاجتماع ذاته، والواقع الذي تشهده المجتمعات المعاصرة؛ يدلان على انهيار تلك المقولة، فعلم الاجتماع مع بعض رموزه يؤكد بأن الدين وجد ليبقى، ولا يمكن تصور يوم يكون الناس فيه دون دين، كما أن واقع المجتمعات يشهد بعودة نحو الدين، بما في ذلك المجتمعات العلمانية، حتى تلك البلاد التي تبنّت النموذج الإلحادي عقيدةً رسميةً لسنين، حيث انهار نموذجها الشيوعي الإلحادي، وظهرت علامات التدين والعودة للدين في تلك البلاد. عندها تحول علم الاجتماع إلى ميدان آخر، فترك البحث في "أصل الدين" وانتقل إلى دراسة "وظيفة الدين"، وهذا موضوع الفقرة الآتية. 3 - وظيفة الدين: يبحث علم الاجتماع الوظيفي في الوظائف التي تقوم بها أعضاء المجتمع، ¬

_ (¬1) منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية، محمَّد أمزيان ص 94. (¬2) المرجع السابق ص 94، وانظر فيه: ص 78 - 79، 186 - 187.

وذلك أن مصطلح "وظيفة" قد اكتسب مضامينه من التطور الحاصل في العلوم البيولوجية، ولاسيّما في الربع الأخير من القرن التاسع عشر من خلال التمييز بين "الأعضاء والأدوات والوظائف" من جهة، "وكيفية اشتغال كل منها وعلاقة بعضها ببعض من جهة ثانية"، بحيث تقوم كل أداة بوظيفة غايتها المحافظة على توازن الجسم. وقد نُقل هذا التصور إلى المجتمع بافتراض تشابهه مع الكائن العضوي، فعرض إمكانية دراسة المجتمع المكون من أجزاء مختلفة وتحليله، ودور هذه الأجزاء داخل الكل (¬1). وقد كانت "النظرية التطورية" هي الأسبق في الظهور والأكثر شهرة في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، ثم أعقبها ظهور "الوظيفية"، ولهذا كانت الدراسات المتعلقة بالدين في المرحلة الأولى من علم الاجتماع خاصة بأصل الدين ونشأته وتطوره، ومع بروز "الوظيفية" تحول البحث الاجتماعي إلى دراسة وظيفة الدين، "ويكاد يكون التصور الوظيفي مختلفًا عن دراسات المنظرين الأوائل الذين اهتموا بأصل الدين بحسب كلام الهرماسي، لذلك قلَّت اهتمامات المنظرين الأوائل بدور الدين في المجتمع بخلاف الدراسات الحديثة التي ركزت على وظيفية الدين إلى حد إهمال الجوانب اللاوظيفية" (¬2)، وهذا أيضًا ما يقوله اجتماعي آخر من خلوّ الدراسات الأولى عن الدين من الاهتمام بدوره في المجتمع، واعتبر "دوركايم" أول من ركز على الوظيفية الاجتماعية للدين (¬3). أما الدكتور "حسين رشوان" فيضع تاريخًا هو 1940 م لتركيز البحوث والدراسات "على وظائف الدين. وأصبحت النظرة إلى الدين ليس على أساس صِدْقه أو زيفه؛ وإنما على أساس أنه ظاهرة اجتماعية" (¬4). ويذكر الاجتماعي "حيدر علي" بأن الدراسات الغربية في علم اجتماع ¬

_ (¬1) انظر: الموسوعة الفلسفية العربية 2/ 1568 - 1569. (¬2) انظر: الدين في المجتمع العربي (علم الاجتماع الديني. . . .)، عبد الباقي الهرماسي ص 19. (¬3) هو "حيدر علي" في بحثه: (الأسس الاجتماعية للظاهرة الدينية ..) ضمن كتاب "الدين في المجتمع العربي" ص 36. (¬4) انظر: الدين والمجتمع .. ص 74.

الدين عملت منذ مدة على تحديد ميدان الدراسة وتعريفه، وأنها تنحصر في تيارين: تيار يمكن تسميته تيار المنهج الجدلي، وتيار وظيفي، و"الوظيفي" "يتجه مباشرة إلى البحث عن الوظائف أو الأدوار التي يقوم بها الدين داخل المجتمع، وأثره في بعض النظم والمؤسسات الاجتماعية القائمة، أو في عمليات التغير الاجتماعي سلبًا وإيجابًا. ويمتد هذا الاتجاه إلى دوركايم وكتاباته عن أثر الدين في التماسك الاجتماعي. ."، إلى أن قال: "من الملاحظ أن علم الاجتماع في الوطن العربي، حين يتطرق إلى الظاهرة الدينية، يقصر نفسه على الاتجاه الوظيفي أو الخاص بأثر الدين في بقية الظواهر أو التغيرات الحادثة. ." (¬1). يعد كتاب: "الدين في المجتمع العربي" الذي جمع عددًا من الاجتماعيين العرب أبرز النماذج على تطبيق المنحى الوظيفي في دراسة الدين، ومع وجود مشاركين من تيارات أخرى، إلا أن أغلب الدراسات في هذا الكتاب تلتزم بالجانب الوظيفي. ويتذرع بعضهم بمقولة التقسيم بين جوهر الدين وواقعه، بين جوهر الدين الذي لا يدخل في دراسته وبين الواقع الاجتماعي له؛ أي: في صورته الاجتماعية بعيدًا عن أي ربط بأصله الذي جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقد سبق الوقوف مع هذه الذريعة، وأنها أقرب إلى الادعاء. ثم إن أغلبهم يتبع حذو القذة بالقذة الطريقة الغربية، وهي منهجية لا تُسلّم مع أكثر منظريها وأهمهم بحقيقةٍ سماوية للدين، الدين عندهم كما في الفقرة الأولى منتج اجتماعي، ولهذا يغلب عليهم دراسة الدين على أنه يقوم بدورين: دور إيجابي، وهو قليل ونادر، وربما لم يعد له وجود، ودور سلبي، وهو الأكثر الذي تركز عليه دراسات الكتاب المذكور، وتجد بعضهم يصرح بمصدر عقدي لهذه الأدوار السلبية. وبما أن القوم لا يفرقون بين الدين الحق مع وجوده في الواقع -بحيث لا تصلح مقولة التقسيم بين جوهره وواقعه- ولا بين المبدل أو الوضعي المخترع الموجود أيضًا، فالدين الحق هو خير كله ولا يأتي منه إلا الخير، أما الدين المبدل أو المبتدع أو المخترع الموجود أيضًا فهو ضلال وانحراف، وإن توهم أتباعه فيه الخير أو حصلوا على بعض المنافع؛ فإن ضرره هو المتحتم. كما أنه ¬

_ (¬1) الدين في المجتمع العربي، بحث: (الأسس الاجتماعية للظاهرة الدينية ..) ص 38.

لا ينفع صاحبه في الآخرة، وهذا الجانب لا يهتم به هؤلاء النخبة من العلماء وكأنهم لا ينتمون إلى الإِسلام أو يعرفونه. انساق الاجتماعيون العرب خلف الغربيين عندما درسوا الكنيسة ووظائفها وأدوارها وطقوسها وأسرارها وأدخنتها والعشاء والصلب واللباس وغيرها من الأوصاف والوظائف، وهي أمور تمتلئ بها الكنيسة ولا يعرفها الإِسلام ولا يقرّ بها، فيأتي هؤلاء المقلدون باستنساخ ذلك النموذج ليطبقوه على الإِسلام، حتى إن منهم من يسمي المسجد بالكنيسة فلا يكلف نفسه حتى تغيير مصطلح مكان العبادة. ومن المعلوم أن الدين في الغرب أصبح ممثلًا في الكنيسة فقط، وهي جزء مستقل لا علاقة لها ببقية المجتمع، ولا يمكن بحال قياس الإِسلام عليها بما له من شمولية تغطي جميع شؤون المجتمع المسلم. وينساق الاجتماعيون العرب في تصوير الدين: عقائده وشرائعه وآدابه وكأنها "منتج اجتماعي" هدفه بحسب رؤية "دوركايم" الضبط الاجتماعي، فلا ينظر للعقائد والشرائع إلا في دورها في حفظ توازن المجتمع؛ أي: أن المجتمع -بحسب رؤية دوركايم- أوجد مثل هذه الأصول والعقائد والشرائع لضبط توازنه، وهذا ما جعل أصحاب النظرية "الصراعية" يرون في النظرية "الوظيفية" نظرية تحافظ على الثبات وتمنع التغير والتطور الاجتماعي. وما يهمنا هو تحويل العقائد إلى تصور اجتماعي هدفها فقط حفظ توازن المجتمع وكأنها لا حقيقة لها فوق ذلك. يتحدث -مثلًا- "الهرماسي" عن أهم وظائف الدين: 1 - التذكير بحياة بعد الموت من شأنه أن يوفر للناس العون والمواساة، ويجعلهم قادرين على تحمل الخيبة والأسى، ويحول دون اليأس .. 2 - يقدم الدين علاقة علوية عبر العبادة والطقوس، فيوفر قاعدة وجدانية لإعادة الأمن وتمنح الفرد إمكانية التوازن .. 3 - يعمل الدين على تقديس نظام القيم والمعايير للمجتمع، بحيث يضمن أهداف المجموعة متجاوزًا رغبات الفرد الضيقة، ويضمن الانضباط الجماعي .. (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: الدين في المجتمع العربي، بحث: (علم الاجتماع الديني ..)، عبد الباقي الهرماسي ص 18.

نلاحظ في الأول تعلقه باليوم الآخر، والثاني تعلقه بالإيمان بالله وعبادته، وفي الثالث بباب القيم والشرائع، ولا شك أنها تمنح المؤمن بها والعامل بمقتضاها ما قاله وفوق ذلك، إلا أن نظرة الباحث الاجتماعي لهذه الأصول ليس على أنها عقائد أو دين؛ وإنما على أساس أنها أدوات تقوم بأداء وظائف كما تقوم الأعضاء في جسم الإنسان بوظائفها, ولهذا يتحاشون ذكر المسميات الدينية عن تلك الأصول، فنجده مثلًا ينتقل مباشرة من تلك الوظائف الأساسية إلى وظائف سلبية للدين، وهي غالبًا ما تكون مشتركة عند أغلب من كتب في وظائف الدين السلبية تقليدًا للمدارس الغربية الوظيفية، ومما ذكره: 1 - يقوم الدين بضبط سلوك الشرائح المحرومة، مما يجعله عاملًا محافظًا على الوضع الراهن، فيمنع قوى الاحتجاج من التطور وقدرتها على التغيير، ويكون بهذا أفيون الشعوب ومخدرًا لها بحسب ماركس (¬1). وسار على هذا المنحى أيضًا "عاطف غضيبات" في أثناء حديثه عن الدين كعائق عن التقدم بما يضفيه من شرعية على الوضع العام (¬2). 2 - قيامها بوضع التقديس على آراء ظرفية ومواقف محلية، مما يجعله مانعًا من التقدم المعرفي؛ لأن المعارف الجديدة ستتعارض مع تلك الأفكار الظرفية التي أُحيطت بالتقديس، كما حصل مثلًا مع جاليلو في مسألة دوران الأرض حول الشمس (¬3)، وقد سبق في فصول الباب الأول بأن هذا لم يقع في الإِسلام، ولا يعرف الإِسلام تقديس آراء ظرفية قابلة للتغيير، ولكن نزعة نقل الأحكام المنطبقة على الأديان المبدلة أو المخترعة سائدة عند المتغربين في الحقل الاجتماعي. 3 - أن الدين يسوّغ التمايز الطبقي، وذلك عبر تسويغه الفقر والغنى. 4 - أن الدين سوغ الوقوع في الوعي الزائف، فهو يجذب الأفراد بعيدًا عن واقعهم الاجتماعي وظروفهم الموضوعية، ويظهر ذلك في التصوف والدروشة (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: الدين في المجتمع العربي ص 19 - 20. (¬2) انظر: المرجع السابق، بحث: (الدين والتغير الاجتماعي ..)، عاطف غضيبات ص 144 - 146. (¬3) انظر: المرجع السابق، بحث: (علم الاجتماع الديني. .)، الهرماسي ص 20. (¬4) انظر: الدين في المجتمع العربي، بحث: (الدين والتغير الاجتماعي)، غضيبات ص 146 - 152.

يتضح من الأول والثالث والرابع بُعْده الماركسي، على أن هؤلاء الباحثين عند حديثهم عن وظائف الدين ينجذبون أكثر إلى الأمثلة التي توافق رغباتهم وأهواءهم، بحيث تبقى الأصول التي نقلوها سليمة، وليس المهم صحة الشواهد بقدر ما المهم المحافظة على تلك الأصول المنقولة كما هي، وإلا فإن الدين لا يسوّغ الوقوع في الوعي الزائف، ولا يصح الاستدلال بالدروشة والتصوف على أنه من الأثر الوظيفي للدين، فلابد أن يوجد منهجية علمية صحيحة تفرق بين المختلفات، بين الدين الحق وبين ما ابتُدع فيه، فلا يصح القول بأن الدين هو الذي يسوغ الوقوع في الوعي الزائف، فهذا الحكم العام لا يصح إلا إذا كان هذا هو دور الدين فعلًا، بينما هو في الحقيقة دور التصوف أو القبورية. ومثل هذا القول غير جديد في جوهره وإن انتسب للعلم الحديث ونظرياته، فجوهره أن الدين ليس له حقائقه الموضوعية ولكنه يؤدي وظائف اجتماعية، فهذا القول هو نفس قول أصحاب منهجية "الوهم والتخييل" وهم "الذين يقولون: إن الأنبياء أخبروا عن الله وعن اليوم الآخر، وعن الجنة والنار، بل عن الملائكة، بأمور غير مطابقة للأمر في نفسه، لكنهم خاطبوهم بما يتخيلون به ويتوهمون به أن الله جسم عظيم، وأن الأبدان تعاد، وأن لهم نعيمًا محسوسًا، وعقابًا محسوسًا، وإن كان الأمر ليس كذلك في نفس الأمر، لأن من مصلحة الجمهور أن يخاطبوا بما يتوهمون به ويتخيلون أن الأمر هكذا، وإن كان هذا كذبًا فهو كذب لمصلحة الجمهور، إذ كانت دعوتهم ومصلحتهم لا تمكن إلا بهذه الطريق" (¬1). وقد ننتظر بعد أن أشبع هؤلاء الباحثون الجانب السلبي للدين أن نجد اعترافًا بدوره الإيجابي، ومع ذلك لا نجده، ففي بحث عاطف غضيبات عن "الدين والتغير الاجتماعي. ." ذكر أن الدين يكون في صور عائقًا -والأصح أن البدع أو الدين المبدل أو المخترع هو الذي يقف عائقًا- ويكون في صور محركًا مهمًا للتغير الاجتماعي، ثم حاولت أن أجد صورة لدوره المهم فإذا هو يتحول إلى دور سلبي، ولا أدري كيف يرتبط المحتوى بالعنوان، حيث تحول حديثه عن الحركات الإِسلامية وأنها جاءت وليدة أزمة، وأنها بسبب انطلاقها من موقع ديني ¬

_ (¬1) انظر: درء تعارض العقل والنقل، ابن تيمية 1/ 8 - 9.

جعلها تتجه للماضي بدلًا من الاتجاه للمستقبل (¬1)، فأصبح الدين ذا وظيفة سلبية في الجانبين. ولا شك أن من يتحرك مع الإطار العلماني الغربي لا يستطيع التسليم بسهولة بأثر إيجابي للدين، ولاسيّما إذا تذكرنا بأن "المنظور الوظيفي للدين الذي يعترف بوظيفية الدين في المجتمع. . . . ينكر حقيقته في نفس الوقت" (¬2)، فإن "محاولات الدفاع عن الدين عند علماء الاجتماع في الغرب والتي تبعهم فيها رجالنا، لا ترفع الدين أبدًا على أنه وحي من الله، بل تتفق جميعها على إنكار العالم العلوي والغيبي، وتنظر إلى الدين على أنه ضرورة نفسية اجتماعية ووهم لابد منه" (¬3). 4 - مفهوم البطركية: المثال التالي مثال مراوغ في نقده الدين تحت مظلة علم الاجتماع، وهو هشام شرابي، فقد اشتهر بتبنيه مصطلحًا اجتماعيًا هو "البطركية" مسقطًا هذا المصطلح على الثقافة العربية وعلى الاتجاهات المحافظة وعلى الاتجاه المتدين، وهو يقصد به النظام الأبوي الذي يسيطر فيه الذكر أو الأب على المجتمع وعلى الثقافة، ومن كتبه "البنية البطركية: بحث في المجتمع العربي المعاصر، النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي، فضلًا عن بحوث بهذا العنوان ضمن بقية كتبه"، وليس المقصود مناقشة هذا المصطلح بكل متعلقاته، وإنما المراد الحديث عن استخدامه العلوم الاجتماعية ومفاهيمها كأداة في تحليل أو نقد المجتمع المسلم. ومن بين القضايا التي بحثها من خلال هذا المفهوم: العائلة ووضع المرأة، ونظره للاتجاه الإِسلامي الذي يريد العودة للإسلام بأنه نموذج بطركي، بل حتى أولئك الذين يميلون إلى الجمع بين الإِسلام والحداثة في صور توفيقية، هم نوع من البطركية ولكنها أخف من السابقة (¬4). وفي المقابل وضع سبيل النجاة ¬

_ (¬1) انظر: الدين في المجتمع العربي، بحث: (الدين والتغير الاجتماعي)، غضيبات ص 152 - 161. (¬2) انظر: علماء الاجتماع وموقفهم من الإِسلام، أحمد خضر ص 180. (¬3) المرجع السابق ص 182. (¬4) انظر: الثقافة العربية في المهجر ص 20 وما بعدها.

والتقدم والقوة والحرية والحداثة مرتبطًا بالانعتاق من البطركية أي من هذا النظام الأبوي. وهو في حقيقة موقفه يجعل الإِسلام ضمن هذا المعنى، فهو بصورة أو أخرى نظام بطركي، وقد مر بتحولات في ذكر البديل الذي يطرحه عن هذا النظام البطركي، فمرة كان مع الثقافة الغربية الأمريكية كما ذكر ذلك في الجمر والرماد، ومرة وهي الأطول وربما الأعمق مع الماركسية (¬1)، وقد أضاف لها النقد النسوي المعاصر (¬2) حيث يذكر أن نقد المرحلة القادمة هو في نقد النظام الأبوي البطركي الذي يتميز "بسحق المرأة وتأكيده على السلطة الذكورية في العائلة والمجتمع" (¬3)، فهذه هي البدائل التي يقدمها, ولا شك أنه هنا يستخدم هذه الأداة وهذا المفهوم قصد الانعتاق من الإِسلام، وإن أراد المحافظة على شيء من التراث فهو شيء من العروبة تحت تأثير انتمائه فترة زمنية لأحد الأحزاب، وهو "الحزب القومي السوري"، أما ما عدا ذلك من أمور الإِسلام فهي عنده في حكم النظام الأبوي. 5 - التعامل الموسع مع العلوم الاجتماعية: نختم بنموذج موسع للتعامل مع العلوم الاجتماعية، حيث نجد أسماء اجتماعية من كونت إلى دوركايم والمدرسة الوضعية مع ماركس والمدرسة الماركسية، مع مدارس التفسير والتأويل المختلفة، وهذا النموذج هو حسن حنفي. نجد مرجعية كبيرة عند حسن حنفي للتعامل مع التراث والدين والنصوص، بعضها ذكرها في مقدمته لكتاب إسبينوزا "رسالة في اللاهوت والسياسة"، وأخرى في كتابه "التراث والتجديد"، وثالثة في "تطور الفكر الديني الغربي"، ومن أهم ما نجده موضحًا لتلك المرجعية ما ذكره في كتابه "دراسات فلسفية" مثل موضوع "الاغتراب الديني عند فيورباخ" و"مدرسة تاريخ الأشكال الأدبية" و"قراءة النص"، ففي هذه المرجعيات المختلفة نجد العلوم الاجتماعية بأشكاله المختلفة ¬

_ (¬1) انظر: الغرب في فكر هشام شرابي، الزهرة بلحاج ص 220 ص 225. (¬2) انظر: الإِسلام والحداثة ص 374. (¬3) انظر: المرجع السابق ص 372 - 374.

والخلاصات التي يأخذها ويطبقها على الإِسلام. يقول: "أصبح علم التفسير جامعًا لعدة علوم مثل علم النفس وعلم اللغة وعلم الاجتماع، كما أصبح عصبًا لنظريات المعرفة والوجود والقيم على حد سواء. أصبحت مهمة التفسير إقامة جسور بين الله والإنسان، بين الماضي والحاضر، بين الذات والموضوع، بين اللفظ والمعنى، بين العلم والدين، بين الأسطورة والواقع، بين الكتاب المقدس والدعاية، لا فرق في ذلك بين نص أدبي أو نص ديني. وتم اكتشاف الوجود الإنساني باعتباره تفسيرًا يرجع إليه تفسير النص" (¬1)، ويصرح بأن مسائل التوحيد أصبحت موضوعًا "لعلم النفس والاجتماع لتحديد نشأة الأفكار الدينية في ظروف نفسية واجتماعية معينة" (¬2)، وقد كون حسن حنفي من خلال هذه المواد منهجيته في تفسير الإِسلام وتفسير الدين عمومًا. والناظر إلى صور التطبيقات يجد صورة خطيرة وانحرافًا واسعًا في باب تصوره للدين، وهذا الباب لا يختلف عن التصور الفيورباخي" الذي ذُكر أول الفصل، الذي يتمثل في تحويل كل الدين من ارتباطه بالإله إلى الإنسان، وفي ذلك يقول: "وبالتالي يمكن نقل عصرنا من مرحلة التمركز حول الله وهي المرحلة القديمة إلى مرحلة التمركز حول الإنسان وهي المرحلة الحالية. . . . وتلك هي مهمة "التراث والتجديد" في أول محاولاته من أجل إعادة بناء علم أصول الدين على أنه "علم الإنسان"" (¬3)، وقدم نموذجًا تطبيقيًا خطيرًا في كتابه الكبير "من العقيدة إلى الثورة" حيث حول كل العقائد لترتبط حسب تصوره بالإنسان بعد أن كانت مهمومة بأمور غيبية. ومعلوم أن هذه الطريقة تلغي الدين تمامًا، فبدل أن تكون دراسة علمية للدين مستعينة بالمناهج العلمية الحديثة تحولت لعملية تمسخ الدين، وتلغيه، وتبدله، بل وتتلاعب به، وبهذا تتحول هذه العلوم الحديثة إلى أداة هدم للدين، وهذا يعني أن هذه المنهجيات مخترقة من قبل الروح العلمانية المعادية للدين. ¬

_ (¬1) دراسات فلسفية ص 545. (¬2) التراث والتجديد ص 141. (¬3) المرجع السابق ص 122.

وفي الختام، فمن الواضح أن المتغربين قد انخرطوا في نفس المسار الذي سار عليه علم الاجتماع في الغرب من جهة بحوثه حول الدين، وهو إطار مشبع -في الغرب- بالعلمنة والإلحاد والرؤية المادية، ولم ينجح العرب المتغربون في الانفكاك عنه، فظهرت بحوثهم حول الدين متأثرة بذلك الإطار، فحولوا الدين إلى ظاهرة اجتماعية، واستبعدوا الجانب الإلهي، وجعلوا بعض البدع وسيلة لتعميم أحكامهم السقيمة على دين الإِسلام. وظهرت مشكلة المتغربين أصحاب الدعاوى العلمية، فمع الدارونيين يكون أصل الدين راجعًا إلى الطبيعة والمادة، ومع المتغربين من علم النفس مصدره نفسي لا شعوري، ومع المتغربين في علم الاجتماع يكون مصدره المجتمع، وغفلوا أو تغافلوا عن الفرق بين الدين الحق وأديان الباطل.

الخاتمة

الخاتمة وبعد هذه الرحلة الشاقة والطويلة مع مشكلات الاتجاه التغريبي مع العلم الحديث ونظرياته، أختم البحث بأهم النتائج: • الاتجاه التغريبي اتجاه يتميز بتقليد الغرب في الرؤية والتصور والمنهج والتشبه بنمطه الحضاري في الآداب والفنون والحياة، وفي الاتجاه التغريبي تيارات مختلفة، وهو درجات في الغلو. • العلم الحديث ونظرياته ومناهجه ليس شيئًا واحدًا، بل هو باب واسع، ففيه الحق والباطل، وفيه الحقائق والجائز عقلًا دون إمكانية التحقق منه وفيه المشتبه والملتبس، وفيه الفلسفة والرؤى وفيه العلم. • مصطلح "الثورة العلمية" يعبر عن مرحلة الانتقال من العلم القديم إلى العلم الحديث، وما نتج عن ذلك من تغير كبير في الحياة الدنيوية من تقدم صناعي وتقني بل وما حدث من تغير حتى في الفكر. • ظهرت دراسات معاصرة تؤكد نسبية "الثورة العلمية" وأن كثيرًا مما ينسب للثورة العلمية قد ظهر في الحضارة الإِسلامية، ولكنه لم يصل لنتائجه النهائية بسبب عوائق داخلية وخارجية، والباحث يميل لهذا الرأي. • كان للتخلص من المنهج الأرسطي أثره في قيام المنهج التجريبي وأثره في ظهور التقدم العلمي الحديث. • كثير من النقد الذي قام به مفكرون غربيون للمنهج الأرسطي قد قام به علماء مسلمون في الحضارة الإِسلامية.

• تسبب الإصلاح الديني والنهضوي في تحرير العقل وتحرير الإنسان الغربي من سيطرة الإقطاع والكنيسة، ولكن النهضة تسببت في تقديم العلمنة والإلحاد والإنسان المنفلت من كل دين وشرع. • استفاد الغربيون مما ترجموه عن المسلمين ولاسيّما في أبواب دنياهم بعد إقفالهم باب الانتفاع بالإِسلام، وأهم ما استفادوا وحقق لهم التقدم العلمي: العلوم المهذبة والمبتكرة، المنهج التجريبي، العقلانية العلمية، وقد حرصت دراسات على إخفاء هذا البعد، ومع ذلك فقد ظهرت أخرى حديثة تكشف دور الحضارة الإِسلامية. • كانت نظرية كوبرنيكوس في الفلك أول نظرية علمية أثارت إشكالًا كبيرًا داخل الفكر الغربي الحديث، ومع علم الفلك انطلق العلم الحديث. • أظهرت دراسات حديثة أن كثيرًا مما قيل في نظرية الفلك الحديثة قد سُبق إليها في الحضارة الإِسلامية ولاسيّما في مدرسة مراغة الفلكية. • تسبب الصراع بين أقطاب الحركة العلمية الفلكية الجديدة وبين الكنيسة في إفساد العلاقة بين الدين والعلم، ولاسيّما ما حدث مع جاليليو. • لعب بيكون وديكارت دورًا كبيرًا في جعل المنهج من صلب الاهتمامات الفكرية، وقد كان للعناية بالمنهج دوره في تقدم الفكر والعلم. • كانت نظرية نيوتن في الجاذبية في الفيزياء أشهر نظرية بعد نظرية الفلك الحديثة. • ظهرت تيارات فكرية كبرى بعد نيوتن، بعضها جديد وبعضها اشتهر في هذه الفترة وإن سبق وجودها عصر نيوتن، اعتنت بالعلم وتشبثت بالعلمنة، فظهر معها العلم العلماني، مثل التيار العقلي والتجريبي والنقدي الكانطي والمادي والتنويري، وقد كان لهذا أثره في إفساد العلاقة بين الدين والعلم. • أسهمت الثورة الفرنسية في تحويل العلمنة إلى مشروع دولة ومجتمع، ومن ذلك علمنة العلم وفتحت المجال لمعادي الدين. • تعرض الدين في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر لنقد شديد، وظهر الإلحاد كأيدلوجيا جديدة للنخبة المفكرة، وأخذ هؤلاء في سحب العلم ونظرياته نحو المادية والإلحاد.

• عرف القرن الثالث عشر/ التاسع عشر تيارات تقدس العلم ونظرياته وتراه البديل عن الدين، مثل الوضعية والدارونية والمادية وغيرها. • كانت نظرية داروين في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر في الأحياء أشهر نظرية ذات أبعاد كبيرة بعد نظرية الفلك ونظرية نيوتن. • لقد تسببت نظرية داروين في نقاش موسع عن العلاقة بين الدين والنظريات العلمية، أسفرت نتائجه على مزيد من العلمنة والمادية. • شهدت نهايات القرن الثالث عشر/ التاسع عشر وأول القرن اللاحق تطورات في علمي الاجتماع والنفس، مكتسية بالرؤية العلمانية السائدة، فجاءت ذات موقف عدائي مع الدين. • عرف القرن الرابع عشر/ العشرين الميلادي نظريات جديدة في العلوم الطبيعية ذات آثار كبيرة في الفكر، وأهمها نظرية النسبية ونظرية الكم أو الكوانتم. • كان من أهم آثار النظريات الفيزيائية المعاصرة وقوع تصدع في الفكر المادي الإلحادي، ولكن وقع الإشكال في نظريات العلوم الاجتماعية بسبب وقوع قادتها في الإلحاد. • وقوع التذبذب بين المادية واللامادية بعد النظريات الجديدة، وبدأ الانكسار التدريجي لإلحاد العلماء. • العلم كنشاط إنساني يتأثر كأي نشاط إنساني بطبيعة البيئة الثقافية التي ينمو فيها ويتطور، ومن ثم قد ينحرف مع من ينحرف به. • هناك فرق بين أسباب تقدم العلم وبين أسباب الانحراف به، فأسباب التقدم تؤثر في نمو العلم وتطوره والوصول إلى مكتشفات جديدة أما الانحراف به فتكون بتوجيه العلم بما يخدم الفلسفات والأيدلوجيات العلمانية والمادية، وقد عرف العلم الحديث الأمرين. • لقد تسببت انحرافات الكنيسة وأخطاؤها الشنيعة في تمكن العلمنة والمادية من ناصية العلم الحديث. • وجود أخطاء معرفية ضمن اللاهوت النصراني حول الأمور العلمية فسح المجال للعلم المعلمن أن يقدم البدائل حول مجالات كانت من اختصاص الدين، وهذا غير مستغرب من دين انحرف في أعظم مسائل الدين.

• نجاح العلمنة وتمكنها من الحركة الفكرية والعلمية كان له أثره في تيه المجال العلمي لفترة من الزمن حتى جرّه الاتجاه المادي إليه وأعطاه الأصول الكلية، فتحولت العلمنة من مشروع فصل مزعوم بين الدين والعلم إلى مشروع استبدال مظلة دينية للعلم بمظلة مادية. • لقد كان لنجاح العلمنة في الوصول للسلطة أثره في تعميم علمنة العلم وإكسابه روحًا جديدة بعيدة عن الدين. • كسبت المادية كثيرًا من نجاحات العلوم الطبيعية بسبب اتصال العلوم الطبيعية بالمادة، فأخذ الاتجاه المادي بهذه المكاسب نحو صفّه ومستشهدًا بها على صدق المادية. • تغلغلت الرؤية المادية في كثير من مفاهيم العلوم الطبيعية مثل الطبيعة والحتمية والآلية وغيرها، وأثّر ذلك كثيرًا في مسيرة العلم الحديث ولاسيّما مع الماديين. • لقد نشط الاتجاه المادي في توجيه كل الحركة العلمية نحو الرؤية المادية، وهي رؤية محاربة بقوة كل ما يتصل بالدين، فكان من عملهم توجيه العلم نحو هدم الدين. • ارتبطت نجاحات العلم الطبيعي بالاتجاه التجريبي الحسي، فهو اتجاه صبّ اهتمامه في دراسة الطبيعة، وحقق نجاحاته فيها، مما جعله أحد أهم المتحدثين باسم العلم الحديث. • لقد عَظُمت الطبيعة في نظر الاتجاه الحسي واشتدّت الفتنة بها لدرجة الاكتفاء بها والتكذيب بكل غيب وبكل ما لا يحس، ووظف العلم في ذلك. • تميز الاتجاه التجريبي الحسي الوضعي بعنايته بالمنهج وتسويره بأسوار تمنع قبول اقتراب الدين من العلم تحت شعارات مختلفة مثل: قانون الحالات الثلاث مع كونت، أو نقد الميتافيزيقا أو مبدأ التحقق مع الوضعية المنطقية. • كما كان للنصارى أثر في الانحراف بالعلم أول اشتهار نظرياته الطبيعية وذلك بمعارضتهم الحقائق العلمية مما سمح بعد ذلك بدخول كل معارض للدين بدعوى العلمية، فقد كان لليهود بعد زمن أثر في الانحراف بالعلم أول اشتهار نظرياته الاجتماعية وذلك -على العكس من النصارى- بولوعهم بكل

مخالف للدين من النظريات العلمية في باب العلوم الاجتماعية. • كان لسبق اليهود إلى ميدان العلوم الاجتماعية أثره في الانحراف بمجال مهم من مجالات العلم، وهو مجال علم النفس وعلم الاجتماع وغرس الرؤية الإلحادية في صلب نظرياته. • كان العالم على حال ممقوتة قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فانتشر فيه الجهل والظلم بكل أشكالهما إلا من بقايا على الحنفية. • لقد وقع ببعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - انقلاب هائل في كل العالم، فخرج من الظلمات إلى النور، ومن آثار ذلك خروج أمة العلم والعلماء. • لقد تميزت الحضارة الإِسلامية في العلم تميزًا لا مثيل له، فوصلت بالعلم الديني إلى ذراه العالية، وأكسبت العلم الدنيوي رؤية جديدة ومنهجًا جديدًا. • نجحت الأمة الإِسلامية في إقامة التوازن بين علوم الدين وعلوم الدنيا، ونجحت في استيعاب العلوم البشرية دون أن يقع خلل في العلاقة بين العلوم الإِسلامية والعلوم البشرية، فإن ظهر انحراف وجد من العلماء المجتهدين المجددين من يعيد الأمر إلى نصابه. • عصفت أحداث بالأمة الإِسلامية تسببت في ضعفها وتخلفها فترة من الزمن، وقد جاء البحث عن مخرج من طريقين: طريق إصلاح الدين مع دعاة التجديد الإِسلامي، فبه يكون صلاح الدين والدنيا، وصلاح الدنيا والآخرة، والطريق الثاني مع دعاة التحديث الإسلامي، فركزوا على إصلاح الدنيا دون قصد معارضة الدين. • جاء طلب العلوم العصرية من خلال مشروعات التحديث. • ارتبط طلب العلوم العصرية من أجل التحديث بالالتفات نحو الغرب. • جاءت التجارب الأولى في طلب العلوم العصرية من بلاد إسلامية غير عربية، مثل التجربة العثمانية والتجربة الهندية. • أول احتكاك فعلي للقسم العربي من البلاد الإِسلامية بالغرب العلماني جاء من خلال حملة نابليون على مصر، ولاسيّما مع الحملة العلمية المصاحبة له.

• تعرفت النخبة المصرية على المستجدات في العلوم الدنيوية من خلال احتكاكها بالحملة العلمية. • تُعد تجربة محمد علي والي مصر أول تجربة حقيقية لطلب العلوم العصرية، وفي الوقت نفسه كانت تجربة صعبة واخترقها الأعداء بسهولة. • أصبحت تجربة محمد علي نموذجًا يحتذى رغم ما فيها من مشكلات. • ظهرت الصحافة كوسيط بين المجتمع المثقف وبين المعارف الحديثة، وكان إنشاؤها وإدارتها مع النصارى. • اختلفت أسباب الانحراف بالعلم الحديث داخل البيئة الإِسلامية عن الأسباب في البيئة الغربية، ويعود سبب الاختلاف إلى أنه مع المتغربين كان تقليدًا صرفًا للتجربة الغربية، ومن هنا ظهرت مشكلة التقليد والتشبه عند المتغربين كسبب لكثير من أمراضهم. • لقد سمح ضعف بعض مؤسسات العلم الإِسلامي أو اختراقها من قبل تصورات صوفية وكلامية بفتح الباب للمتغربين في توجيه العلوم العصرية. • كانت "المدرسة العصرية" طريق التعرف على العلوم العصرية، ولكن هذه المدرسة قد تسربت الانحرافات إليها بسبب غلبة التوجيه التغريبي لها في بداية ظهورها. • كانت لسيطرة النصارى المتغربين على الصحافة بداية نشأتها وتعبئتها بمواد فكرية علمانية حول العلم الحديث ومناهجه ونظرياته وعلمائه ذات أثر على نخبة المجتمع. • قامت الصحافة المتغربة بتيسير الانحرافات وعرضها بلغة بسيطة وجذابة مما سهل انتشار الأفكار المنحرفة. • تعد التنظيمات الفكرية المتغربة ذات قوة أكبر داخل المجتمع الإِسلامي، بسبب وجود عدد كبير يجمعهم تيار واحد ويتحركون لهدف واحد، وقد ظهرت تنظيمات مشبوهة في العالم الإِسلامي وأسهمت بدور خطير في الانحراف بمسار العلم العصري. • قامت الماسونية بدور خطير في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، بينما

تبعتها التنظيمات العلمانية في القرن اللاحق من قومية وليبرالية وماركسية، فقادت العلم العصري نحو مزيد من التغرب والعلمنة. • لقد كان لنجاح الاستعمار في احتلال بلاد المسلمين دوره الخطير في إفساد مسيرة العلم والتعلم، وذلك أنه بسيطرته على الدولة قد نجح في تعميم علمنة التعليم وزرع المشكلات في طريقه. • لقد أسفرت الأحداث الجسام التي عصفت بالعالم الإِسلامي عن ظهور بيئة جديدة غربية الهوى علمانية الرؤية، تيسر بقاء الأمراض في المجتمع وتسهم في استمرارها. • ظهرت اتجاهات فكرية مختلفة حول الموقف من العلوم العصرية والنظريات العلمية المصاحبة لها، بعضها له جذوره الداخلية وبعضها له جذوره الخارجية. • مشكلة العلاقة بالعلوم البشرية مشكلة قديمة بسبب ما ارتبط بهذه العلوم من مشكلات، ويمثل موقف الغزالي أشهر المواقف القديمة في بحث العلاقة بين الدين والعلوم البشرية. • أول مشروع فكري حديث ومشهور درس مشكلة العلاقة بين الدين والعلم الحديث ونظرياته هو مشروع الشيخ حسين الجسر، الذي قام على مبدأي التجويز والتأويل، ورغم أهميته فهو لم يخل من مشكلات. • ظهر الاتجاه السلفي الذي يعود في جذوره القريبة لدعوة الإِمام محمد بن عبد الوهاب وقديمًا إلى شيخ الإِسلام ابن تيمية ومن سار على منهجه، وقد سلم هذا الاتجاه من وجود تعارض بين منهجه والعلوم الصحيحة لبعده عن مشكلات التصوف والكلام التي تتعارض بعض أصولها مع المعارف الصحيحة مما يجعل أهلها في حرج من التعارض معها، وقد تميز الاتجاه السلفي بدعوته إلى أخذ النافع مع تأصيل المعرفة البشرية في البيئة الإِسلامية. • ظهر الاتجاه العصراني الذي يعود في جذوره القريبة إلى جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وأمثالهما وقديمًا إلى خليط من الفلسفة والاعتزال والكلام، وقد وقف هذا الاتجاه أمام هجمة التغريب وتصدى لحملاتها ولكنه فشل في مواجهة مشكلات العلوم العصرية ونظرياتها بسبب تساهله مع منهجية

التوفيق بين الدين والنظريات العلمية واستسهاله إعمال أداة التأويل. • ظهر الاتجاه التغريبي الذي يعود في جذوره القريبة إلى نفر قليل من النصارى تمكنوا من مؤسسات علمية وسياسية وإعلامية، وكانت دعوته تقوم على اتباع الغرب شبرًا بشبر وذراعًا بذراع بما في ذلك انحرافاتهم الفكرية والدينية وانحرافاتهم بالعلوم العصرية، وجعل طريقه إلى ذلك الدعوة لعلمنة العلم. • وقعت صور من الانحراف التغريبي في المنهج وفي المعتقد وفي الشرع تحت دعاوى العلمية. • من صور الانحراف في المنهج إهمال الوحي أو التكذيب به كأعظم مصدر للمعرفة بحجة أن العلم تقدم بمصادر أخرى بعيدًا عن الوحي. • من صور الانحراف في المنهج وضع مصادر أخرى للمعرفة العلمية بالدين والحياة كبديل عن الوحي. • من صور الانحراف في المنهج الغلو في مبدأ الموضوعية لدرجة دعوتهم التخلي عن بابين مهمين للمسلم، المعتقد والقيم بحجة تعارضهما مع مبدأ الموضوعية ومن ثمّ تعارضهما مع العلمية. • من صور الانحراف في المعتقد تعظيم الحس لدرجة إهمال عقيدة الغيب أو التكذيب به. • من صور الانحراف في المعتقد وضع أصول يُدّعى علميتها للتكذيب بالغيب، مثل: الطبيعة والصدفة والحسية والأسطورة. • مجمل الطريقة القرآنية في الرد على منكري الغيب تقوم على تذكير الإنسان بعجائب العالم المخلوق الذي يقود العاقل إلى التسليم بالغيب. • شهادة العلم العصري تقود للتسليم بالغيب، فما اكتشف عن العالم الصغير في الذرة أو الخلية، وما رصد من العالم الكبير تكشف أن حجم المعلوم نقطة صغيرة مقارنة بحجم الغيب النسبي فكيف بالغيب المطلق. • من صور الانحراف في المعتقد الادعاء بوجود موضوعات عقدية لم يثبتها العلم الحديث، ومن الأمثلة على ذلك "الملائكة والجن" و"الوحي"، وقد جاء الرد بأن عدم دلالة الدليل المعين لا تعني عدم المدلول المعين، وإنما السؤال: هل يوجد دليل آخر أم لا؟ وقد تبين أن ما ينكرونه قد ثبت بدليل آخر صحيح.

• من صور الانحراف في المعتقد دعوى وجود نظريات أخرى حول غيبيات دينية وقد لا يشترط المعارضة، ومن الأمثلة على ذلك "بداية الخلق ووجود الكون" و"خلق آدم -عليه السلام- وأصل الإنسان"، وقد جاء الرد بأن ما يذكر في الباب من نظريات هي مما لا يمكن التأكد من صحته، بينما الوحي هو الحق من رب العالمين، فوجب تقديم القطعي على الظني أو الوهمي، وقد لا يحرص أصحاب تلك النظريات على الكذب ولكن لا يوجد عندهم معيار للتحقق بينما هو موجود عند المسلم، وأما ما قويت استدلالاته وظُنّ أنه يوجد تعارض بينه وبين الدين، فهنا يجب الاجتهاد الشرعي من قبل العلماء وذلك باجتماع العلماء من المجالين: العلوم الشرعية والعلوم الدينية. • من صور الانحراف في المعتقد دعوى مخالفة العلم لأبواب من الغيبيات، وأهم ما يضربونه من مثل هو "المعجزات"، فهم يزعمون أن العلم يثبت عدم إمكانية خرق قوانين الطبيعة، وقد جاء الانحراف في هذا الباب من الاعتقاد بصحة التصور المادي حول الطبيعة وحول السببية الصلبة التي لا خرق لها من جهة، ومن الاعتقاد الفاسد حول حقيقة الربوبية فالرب سبحانه متصف بكمال القدرة والملك، وقد تهاوت تلك المادية من داخل العلم ذاته مع النظريات المعاصرة في علوم الطبيعة وإن كانت ليست هي عمدتنا، فالحق أن سبب الانحراف في هذا الباب راجع إلى مرض الإلحاد، وإلا فمن آمن بالله فمن لوازم الإيمان التسليم بكمال قدرته وملكه. • من صور الانحراف في الشريعة وضع أصول يُدّعى علميتها للتكذيب بالشرع، مثل: القول بأن الدين ظاهرة اجتماعية مطلقًا، والتطور، ودعوى العلمية وأهمية العلمانية للنظريات الاجتماعية والنسبية. • من صور الانحراف في الشريعة إهمال الأخلاق الدينية بل تقويضها تحت دعوى النظريات العلمية في ميدان الأخلاق، ثم إذا هي نظريات متعارضة متناقضة يكذب بعضها بعضًا، وكانت النتيجة ضياع الأخلاق، ولاسيّما بعد فصلها عن الشعور بالإيمان بالله والشعور بيوم الجزاء والحساب. • من صور الانحراف في الشريعة ما وقع حول التداوي والتطبب للأمراض النفسية والجسدية، وهو في النفسية أجلى وأوضح، حيث تقبل نظريات حول الأمراض النفسية تُقلب فيها الحقائق، فيُجعل سبب العلاج هو سبب المرض،

مثل جعل التدين سبب الأمراض النفسية وُيجعل التفلت من الدين هو العلاج. • من صور الانحراف في الشريعة ما ظهر من نظريات حول الربا وتُقدم على الشرع، ونجد صورًا من التعارض حول النظريات المقدمة عن الفائدة الربوية، ثم النظريات المتعارضة حول الربا في الفكر المتغرب، فهناك من يتبع النظريات الاقتصادية الرأسمالية ويرى الربا شرطًا للتقدم الاقتصادي، وهناك من يعارضه ويرى الربا من الأمراض الناتجة عن الاستغلال والتفاوت الطبقي، فلا تقدم إلا بإلغاء هذا التفاوت. • من صور الانحراف في الشريعة ما ظهر من دعاوى علمية حول صحة موقف المطالبين بنزع حجاب المرأة المسلمة، وهي دعاوى ترجع لنظريات من علم الاجتماع العلماني حول نشأة العائلة، وهي نظريات تجعل كل المسائل الدينية العملية ظواهر اجتماعية أرضية دون تفريق بين ما أصله من رب العالمين وما أصله من اختراع البشر وابتداعهم. • من الدعاوى التغريبية حول العلم دعوى أهمية علمنة العلم مع رفض مشروع التأصيل الإِسلامي، فإذا نظرنا لمفهوم العلمنة في مصدرها الغربي وجدناها تحمل مضامين هدفها ترسيخ الإلحاد من خلال العلم، ونجد من المتغربين العرب من هو مدرك لهذه الأبعاد وسعى لترسيخها في الفكر العربي، وإذا كان الأمر بهذه الحال فإن كل ما يقومون به من حرب ضد مشروعات التأصيل الإسلامي إنما هو بسبب شعورهم بأثر نجاح التأصيل في إفساد مخططاتهم، كما أن ما يقولونه من نقد لأصحاب التأصيل الإسلامي ينقلب عليهم من باب أولى؛ فإن علمانية العلم هي نوع من التأصيل المادي واللاديني للعلم فلماذا ينقمون على غيرهم ما يقومون هم بفعله، مع الفرق بين من يريد الحق وبين من يريد الضلال؟! • من الدعاوى التغريبية حول العلم دعوى التعارض بين الدين والعلم، وقد ظهر من خلال تحليل الدعوى أنها ترجع لأربع صور: دعوى تعارض "الموضوعات" أو "الإطار" أو "المنهج" أو "النشاط والعمل". • تظهر دعاوى التعارض كلما نجم الهوى أو حلّ الجهل، فصاحب الهوى يحرص على كل ما يوهم التعارض لتحويله إلى حقيقة وهو ليس كذلك، والجاهل يشتبه عليه الأمر ويقع ضحية جهله، بينما يخف التعارض كلما قلت الأهواء وانتشر العلم.

• هناك أبواب مشتبهة فعلًا، والتشابه المحيّر أمر وارد، فالذين في قلوبهم زيغ يفرحون بالمشتبهات بخلاف الراسخين في العلم، ولهذا فبعد معايشتي هذه المشكلات شهورًا من البحث وجدت أن مثل هذا الباب المتشابه لابد فيه من اجتماع علماء المسلمين في علوم الدين والدنيا حول الأمور المشكلة، فيطرحون الاجتهاد الشرعي حولها، فهي قضايا أكبر من أن يحسم فيها طرف برأي، والله أعلم. • من الدعاوى التغريبية حول العلم دعوى كفاية العلم وشموليته، وهي دعوى برزت مع أصحاب الرؤية العلموية التي تقدس العلم وتربط مصير البشرية به، وتستبعد ما سواه، وقد ظهر أنها حتى في المحيط الغربي العلماني قد فشلت عن تقديم احتياجات إنسانية ملحة، وأن الكفاية والشمول لا تكون إلا من عليم حكيم، والمقدسون للعلم قد جعلوه ربًّا لهم من دون الله. • من الدعاوى التغريبية حول الرؤية العلمية للدين دعوى الرؤية التطورية العلمية للدين، وهي دعوى متأثرة بالدارونية، وقد أشغل دعاتها الفكر العربي لما يقرب من نصف قرن، وقد كانت نتيجة التحليل أنها رؤية مادية إلحادية أُلبست ثوب العلمانية، وظهر أن التيار التغريبي الذي رفعها إنما رفعها -عن وعي- كأداة لهدم الدين. • من الدعاوى التغريبية حول الرؤية العلمية للدين دعوى الرؤية النفسية العلمية للدين، ومن أشهر النظريات النفسية حول الدين نظرية فرويد، وهي نظرية إلحادية في جوهرها تمتد إلى فيورباخ وغيره من مؤسسي الإلحاد، والعجيب أن هذه النظرية الإلحادية قد وجدت من المتغربين من اتبعها وأخذ بها، أو من نشر مفاهيم فرويد التي توصل في النهاية لمذهبه دون تنبيه. أصل هذه النظرية يقوم باستبعاد أي معتقد بوجود رب العالمين وبوجود أي معتقد بوجود دين منزل من عنده سبحانه، وإنما الدين وهم ومرض نفسي نابع من الإنسان. ومن بين أشهر الردود وأكثرها اختصارًا: لماذا لا يكون الإلحاد هو الوهم وهو المرض النفسي، فإن ما قاله عن الدين ينطبق بصورة أوضح على إلحاده، ومن العجب أننا لا نجد استدلالًا لهم على التكذيب بالربوبية والدين إلا انقلب عليهم. • من الدعاوى التغريبية حول الرؤية العلمية للدين دعوى الرؤية العلمية الاجتماعية للدين، وقد كان من النتائج أن نظريات علم الاجتماع حول الدين

بالذات هي أكثر نظريات العلم تعارضًا وتناقضًا مع ظهور صرخات تعترف بأزمة النظريات الاجتماعية وفشلها، كما ظهر من النتائج ارتباط نظريات علم الاجتماع ولاسيّما في مجال الدين بأهواء وأيدلوجيات ومشروعات سياسية أكثر من ارتباطها بالعلم. • انغمست النظريات الاجتماعية في أديان مبدلة أو مخترعة وبدائية، وانطلقت منها إلى تعميمات متسرعة تقول بأن الدين ظاهرة اجتماعية بشرية، ودافع هذا التسرع يكمن في الإلحاد الذي أصاب طائفة من طارحي تلك النظريات، وقد انساق مع هذه التعميمات طائفة من المتغربين الاجتماعيين العرب. • لقد انساق الاتجاه التغريبي الاجتماعي مع الدراسات الاجتماعية الغربية، فعندما كان يبحث في الغرب عن أصل الدين كان المتغربون العرب يبحثون في أصل الدين، وعندما تحولت الدراسات في الغرب نحو الوظيفة الاجتماعية للدين تحول معها المتغربون العرب، وعندما تحول الغرب إلى النموذج الصراعي تحول معها المتغربون العرب، والأمر دون توقف. • لقد تعامل الغرب مع دين محرف أو مع أديان وثنية ضمن التركة الغربية القديمة أو من خلال الاحتكاك بأديان وثنية بدائية في قارات العالم مع التوسع الاستعماري، ولهذا السبب كان من السهل عليهم الطعن في الدين، وقد انساق معهم المتغربون دون تفريق بين المختلفات، فجعلوا دين الإسلام كغيره من الأديان. • لقد كان من الطبيعي أن يحدث التعارض بين الدين والعلم في الغرب، وفي كل بلاد العالم التي لا تدين بالإسلام؛ لأن الدين الذي بين أيديهم دين محرف أو مخترع، وما كان بهذه الحال فقد دخلته أهواء البشر ونقصهم، ومن الطبيعي أن يتصادم مع الحقائق يومًا ما، أما دين الإِسلام المحفوظ بحفظ الله له، فلا يمكن أن يتعارض مع الحقائق العقلية أو العلمية أو الواقعية. • لقد ظهر من غالب حال المتغربين أن المتغرب يكون في البداية متأثرًا بالنظريات العلمية والفلسفات العلمانية المبنية عليها، ولكن هذا التأثر يتحول مع الأيام إلى استغلال للعلم الحديث من أجل إقصاء الدين، وذلك أن البعض يُصرّ على اتباع نظريات قد هجرها أهلها في الغرب، أو يصر على اتباع نظريات مع النقد الذي توجّه إليه من تيارات مختلفة تبين له الحق ومع ذلك تجده مصرًا على باطله.

• قد يتصور البعض بعد الاطلاع على هذا البحث أن العلم الحديث علم منحرف من أوله إلى آخره، والأمر ليس كذلك، وإنما السبب يعود لهدف الدراسة الذي يركز على الانحرافات المصاحبة لحركة العلم ونظرياته ومناهجه، ولهذا جاء تكرير الملحوظة التالية في أكثر من مبحث: أن الباحث يسير مع موقف الاتجاه السلفي الداعي إلى طلب العلوم النافعة، فالحكمة ضالة المؤمن وهو أولى بها، وأليق به أن لا يتركها لملحد يوظفها في معارضة الدين، وإنما علينا أخذها منهم بقوة؛ أي: بجد واجتهاد والقيام على تأصيلها إسلاميًا. وفي الختام فإني أحمد الله سبحانه وأشكره أن أعانني على إتمام هذا البحث وأسأله سبحانه أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم وأن ينفعني به وينفع به الإِسلام والمسلمين. ورغم ما بذلته من جهد فلست أدعي الكمال فيه، ولكن حسبي أني بذلت ما أستطيع، فإن أصبت فذاك من فضل الله سبحانه الذي أشكره عليه، وإن وقع خطأ أو تقصير، فإني أستغفر الله منه.

الفهارس

الفهارس وفيه: 1 - قائمة الألفاظ الغريبة والمصطلحات الواردة في ثنايا البحث. 2 - فهرس الطوائف والفرق والمذاهب. 3 - قائمة المراجع والمصادر. 4 - فهرس الموضوعات.

ملحق مفهرس للألفاظ الغريبة والمصطلحات والطوائف والفرق والمذاهب والتراجم مع التعريف بها

ملحق مفهرس للألفاظ الغريبة والمصطلحات والطوائف والفرق والمذاهب والتراجم مع التعريف بها يحوي هذا الملحق على تعريف بأهم الألفاظ والمصطلحات والطوائف والفرق والمذاهب الواردة في البحث، مرتبة بحسب حروف المعجم، وقد اعتمدت في كتابتها على موسوعة حديثة وشاملة وهي: "الموسوعة العربية العالمية"، فهي تتميز بحداثة معلوماتها وشموليتها وقيام فريق كبير من المتخصصين عليها "ما يقرب من ألف متخصص" مما يجعلها مقدمة في بابها، وقد اختصرتها بـ"الموسوعة". وقد اعتمدت مراجع أخرى من باب المقارنة من جهة ومن باب التخصص في أبواب قد لا تغطيها الموسوعة بسبب شموليتها، وأهم هذه الكتب في باب المصطلحات: مفاتيح العلوم الإنسانية، د. خليل أحمد خليل، وموسوعة الفلسفة، د. عبد الرحمن بدوي واختصارها "موسوعة بدوي"، والموسوعة الفلسفية العربية، إشراف د. معن زيادة، والموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة، إشراف وتخطيط ومراجعة د. مانع بن حماد الجهني واختصارها "الموسوعة الميسرة"، والمعجم الفلسفي، بالألفاظ العربية والفرنسية والإنكليزية واللاتينية، د. جميل صليبا، وغيرها. ملحوظة: قد يكون سبق التعريف بالمصطلح في البحث فأحيل إلى صفحته، وما يكون بين قوسين معقوفين فهو إحالة لمرجع متخصص في التعريفات، مما سبق من المراجع.

أولا: قائمة الألفاظ الغريبة والمصطلحات الواردة في ثنايا البحث

أولًا: قائمة الألفاظ الغريبة والمصطلحات الواردة في ثنايا البحث 1 - الإبستمولوجيا، انظر تعريفها ص (46). 2 - الإتنوغرافيا، علم اجتماعي يصف أحوال الشعوب ويدرس أنماط حياتها ولاسيّما البدائية، [المعجم الفلسفي 1/ 36، قاموس المصطلحات ص 22]. 3 - الإتنولوجيا، علم اجتماعي يفسر الظواهر التي يصفها علم الإتنوغرافيا، [المعجم الفلسفي 1/ 37، قاموس المصطلحات، ص 22]. 4 - الأثير مادة في علم الفيزياء. كان يُعتقد أنها تملأ كل الفضاء. وفي أواخر القرن السابع عشر اعتقد بعض علماء الفيزياء أن الضوء يسير في موجات، وعرفوا أن الضوء يمكن أن يسير خلال فراغات توجد صناعيًا، وخلال فراغ الفضاء الخارجي. ولكنهم لم يستطيعوا أن يفسروا كيف أن الضوء يمكنه أن يسير بدون وسط "مادة يسير خلالها". ولذلك فقد افترضوا وجود أثير حامل للضوء بوصفه مادة تختلف عن كل المواد الأخرى. وهو لا يمكن أن يُرى أو يُحَس أو يُوزن، ونجده في الفراغات والفضاء الخارجي وخلال كل مادة. واعتقد العلماء أن الأثير ثابت وأن الكرة الأرضية والأجسام الأخرى في الفضاء - تتحرك خلاله. وفي عام (1864 م)، اقترح الفيزيائي كلارك ماكسويل أن موجات الضوء كهرومغنطيسية، وتسير كاضطرابات للمجال الكهرومغنطيسي. ولذلك، فإنها لا تحتاج إلى وسط لتسير فيه. ولكن ماكسويل وفيزيائيين آخرين ظلوا يعتقدون بوجود الأثير. وفي عام (1887 م)، قام عالمان أمريكيان، هما ألبرت مايكلسن، وإدوارد مورلي بإجراء تجربة لقياس سرعة الكرة الأرضية بالنسبة للأثير. وقد أوضحت اكتشافاتهم أن الكرة الأرضية لا تتحرك خلال الأثير. ولكن الفيزيائي الهولندي هندريك لورنتز، شرح الكشف بافتراض أن الأثير يؤثر في المادة بطريقة

معقدة. وفي عام (1905 م)، نشر الفيزيائي الألماني المولد ألبرت أينشتاين، نظريته الخاصة في النسبية التي تُظهر كيف يسلك الضوء، وأنه لا يعتمد على وجود الأثير [الموسوعة، 1/ 176]. 5 - الأخلاق: انظر تعريفها ص 1075. 6 - الأَرْوَاحيَّة مصطلح يطلق على أي دين -غير الإِسلام- تؤدي فيه أرواح موتى البشر أو أرواح الطبيعة دورًا مهمًا. في هذه الأديان، قد تُقدَّم القرابين وتعقد الاحتفالات الخاصة لتكريم أرواح الموتى. كذلك قد يعبد أتباع هذه الأديان الاْرواح التي يعتقدون بوجودها في الحقول والتلال والأشجار والماء وعناصر الطبيعة الأخرى. وفي بعض الأديان يُظَنُّ أن هذه الأرواح قد تحل في أبدان الناس لتفصح عن احتياجاتها ورغباتها. ويحدث ذلك، مثلًا في الطقوس الدينية للتقاليد الشعبية بجنوب شرقي آسيا. نشأ استخدام كلمة الأرواحية أساسًا نتيجة لنظرية حول أصول الدين. نشرت هذه النظرية التي نادى بها عالم الأجناس البريطاني تايلر في عام (1871 م). زعم السير تايلر أن جميع الأديان تطورت من آراء الناس الأولى عن الأرواح في البشر والأرواح في عناصر الطبيعة. واستخدم تايلر مصطلح الأرواحية لهذه الأرواح، وأصبح اعتقاده يعرف في نهاية الأمر بنظرية الأرواحية. لم يعد العلماء يتقبلون نظرية تايلر تفسيرًا لأصل أديان العالم. إلا أن عبادة الأرواح لا زالت تدعى بالأرواحية. وواضح أن نظرية تايلر في أصل الأديان نابعة من نظرية داروين في أصل الإنسان. وكما يرفض الإِسلام نظرية داروين، فإنه يرفض كل ما يتشعب عنها من الآراء، وهي موجودة في نظريات علم الاجتماع وعلم النفس وعلم الإنسان حول أصل الدين [الموسوعة، 1/ 531]. 7 - الأزهر، جامعة الأزهر مؤسسة تعليمية وضع أساسها بالقاهرة جوهر الصِّقليّ "إلياس الصقلي" القائد الفاطمي عام (359 هـ - 970 م). واستغرق بناء جامعها الأساس نحو العامين، ولم يسرع الفاطميون بدفع الأزهر إلى غايته التي أُنشئ من أجلها وهي: نشر الفقه الشيعي والدعوة الشيعية الباطنية ومنافسة الجوامع المصرية السنية بل اكتفوا بجعله مسجدًا رسميًا يقوم في عاصمة ملكهم الجديدة. وعندما توطدت دعائم الحكم الفاطمي بمصر اهتم الخلفاء الفاطميون بالأزهر، وفتحت أبوابه لدراسة العلوم الدينية والعقلية في عهد الخليفة العزيز بالله (365 - 386 هـ) - (976 - 996 م)، واستجلبوا له فقهاء وعلماء الدعوة الشيعية وقضاتها، وأغدقوا عليهم المال، ونقلوا إليه كثيرًا من الكتب، وشجعوا طلاب العلم من البلاد الإِسلامية الأخرى للالتحاق به. وكانوا بين الحين والآخر يجرون توسعًا في مبانيه للدراسة وأروقة للطلاب ومساكن للأساتذة. وخصصوا أموالًا ثابتة للإنفاق

على الجامع الأزهر، كما أسهم كثير من رجال الدولة والأمراء وأهل البر في تخصيص جزء من أموالهم لتنفق على الطلاب والأساتذة وبقية شؤون الأزهر، الذي اشتهر نتيجة لهذا الاهتمام، وارتبط اسمه برسالة العلم وأصبح جامعة كبيرة لخدمة المذهب الشيعي. وعندما تحول الأمر للدولة الأيوبية السنية عَطَّل صلاح الدين نشاطه ودعم مذهب السنة، فدرس فيه الفقه السني على المذاهب الأربعة، ثم استعاد الأزهر مكانته من جديد في عهد المماليك (648 - 922 هـ) - (1250 - 1517 م)؛ فقد زاد الملك الظاهر بيبرس المملوكي في بنائه وشجع التعليم فيه وحذا حذوه كثير من الأمراء، فذاع صيته، وأَمَّهُ طلاب العلم والعلماء من كل أنحاء العالم الإسلامي، وزاد في مجده أن غزوات المغول في المشرق الإسلامي قضت على معاهد العلم هناك، وأن الأمة الإِسلامية بالمغرب أصابها التفكك مما أدى إلى إهمال مدارسها الزاهرة. وقد ضعف حاله أيام الدولة العثمانية ووقعت له أحوال مع دولة محمد علي، ومع ذلك فقد بقي منبرًا من أهم المنابر العلمية الإِسلامية، وقد لحقته تطورات بعد خروج الاستعمار، وهو إلى الآن من أشهر معاهد المسلمين العلمية رغم كل ما واجه من تحديات [الموسوعة، 1/ 557]. 8 - الاستقراء: انظر تعريفه ص 39، ص 855. 9 - الإسرَائيليَّات مصطلحٌ مشتق من لفظة بني إسرائيل، ويُطلق على القصص والحكايات والأخبار الدخيلة على تفسير القرآن الكريم والحديث، ومصدرها التراث اليهودي المتمثل في ما تبقى مع بني إسرائيل من التوراة، وما تبعها من تعاليم، والتراث النصراني المتمثل أيضًا في مجموعة الأناجيل وشروحها، ويضاف إلى هذا أخبار القُصَّاص وحكاياتهم. يطلق على هذا التراث الدخيل جميعه لفظ الإسرائيليات من باب التغليب، لأن أكثره دخل عن طريق اليهود سواء من أسلم منهم أو من اختلط بالمسلمين [الموسوعة، 1/ 721]. 10 - الأُسْطُورة حكايه تقليدية تروي أحداثًا خارقة للعادة، أو تتحدث عن أعمال الآلهة والأبطال عند الأمم المشركة الغابرة. وهي تعبر عن معتقدات الشعوب، في عهودها البدائية، وتمثل تصورها لظواهر الطبيعة والغيبيات. في عقائد الإغريق القديمة، تحكي معظم الأساطير عن أُناس وأماكن وأحداث يمكن إدراكها، وفي عهود أقرب، تقوم بعض الأساطير على أشخاص حقيقيين، أو أحداث حقيقية، ولكن الكثير منها يتعلق بشخصيات خيالية. [الموسوعة، 1/ 734، انظر أيضًا ص 819 من هذا البحث، وانظر مادة علم الأساطير]. 11 - الافتراق انظر تعريفه ص 59. 12 - الاقتصاد العلم الاجتماعي الذي يهتم بتحليل الأنشطة التجارية، وبمعرفة كيفية

إنتاج السلع والخدمات. ويَدرس علم الاقتصاد الطريقة التي تُنتج بها الأشياء التي يرغب فيها الناس وكذلك الطريقة التي توزع بها تلك الأشياء. كما يدرس الكيفية التي يختار بها الناس والأمم الأشياء التي يشترونها من بين الحاجات المتعددة التي يرغبون فيها.، يُعرِّف الاقتصاديون "المتخصصون في علم الاقتصاد" الاقتصاد بأنه العلم الذي يُعنَى بدراسة كيفية إنتاج السلع والخدمات وتوزيعها. ويعني الاقتصاديون بالسلع والخدمات كل ما يمكن أن يباع ويشترى. ويعنون بالإنتاج معالجة السلع والخدمات وتصنيعها. أما كلمة توزيع فيعنون بها الطريقة التي يتم بها تقسيم السلع والخدمات بين الناس .. وفي عالم اليوم ثلاثة نُظم اقتصادية مهمة هي: 1 - الرأسمالية 2 - الأنظمة الاقتصادية المختلطة 3 - الشيوعية. وتتضمن الأنظمة الاقتصادية لكثير من البلدان عناصر مشتركة من نظم اقتصادية مختلفة [الموسوعة، 2/ 402، الموسوعة الميسرة، 2/ 967]. 13 - الإقْطاع مصطلح عام يُستخدم لوصف النظام السياسي والعسكري الذي كان سائدًا في غربي أوروبا خلال القرون الوسطى. ففي ذلك العصر، لم تكن هنالك حكومة مركزية قوية، كما كان الأمن ضعيفًا. ولكن النظام الإقطاعي كان يسد الحاجة الأساسية للعدالة والحماية. وكان السيد يمنح الأرض للمُقطِعين مقابل قيامهم بخدمات عسكرية. وكان السيد والمقطعون يلتزمون فيما بينهم برباط من المراسيم والعهود على أن يخلص كل طرف للآخر، ويوفي بالتزاماته [الموسوعة، 2/ 422، قاموس المصطلحات، 63]. 14 - الإلحاد في اللغة، الميل والعدول عن الشيء. والإلحاد، في الدين، الميل عن الدين الحق. وهو أقسام، فقد يكون ذلك عن طريق الشرك وإعطاء خصائص الألوهية لغير الله -عز وجل-، أو بإشراك آلهة أخرى مزعومة معه -سبحانه وتعالى-. وقد يكون الإلحاد بإنكار وجود الله تعالى. وكلا النوعين من الإلحاد انحراف عن الفطرة الإنسانية، وطمس لما في البصيرة. وقد كان النوع الأول شائعًا بين الناس خلال التاريخ البشري، إذ كان المشركون قديمًا يقرون بوجود إله، ولكنهم ضلوا الطريق إلى معرفته، وأخطأوا في تصورهم له، فوُجد من اتخذ الشمس والقمر أو مناظر الطبيعة المختلفة آلهة تُعبَد، وهناك من اتخذ إلهًا للخير وإلهًا للشر. وهناك من عبد آلهة متعددة واتخذ إلهًا أعلى يفوقها جميعًا، أما النوع الآخر من الإلحاد، والذي يعني إنكار وجود الله أصلًا، فقد انتشر خلال القرون الثلاثة الأخيرة "الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين"، وجاء نتيجة للصراع بين العلم والكنيسة في أوروبا، ذلك الصراع الذي انتهى بانتصار العلم وانهزام دعاة الكنيسة. وقد اتخذ مفكرو تلك الفترة هذا الموقف ذريعة لرفض الدين جملةً وإنكار حقائقه

وعلى رأسها الإيمان بالله، وقد انتشرت هذه الظاهرة "ظاهرة الإلحاد" انتشارًا واسعًا في الدول الأوروبية بصفة خاصة، وأصبحت له في بعض البلاد حكومات تحرسه ودول تحميه، وهو يتسلح ببعض النظريات العلمية المادية لتؤيده. ويمكن اعتبار ظاهرة "العَلمانية" جزءًا من التيار الإلحادي بمفهومه العام. فعلى الرغم من ارتباط العلمانية بفصل الدين عن الدولة أو السياسة في الاستعمال الشائع، فإن لتلك الظاهرة دلالتها الأخرى المتصلة بذلك الفصل، والتي لا تقل أهمية في الاستعمال الغربي المعاصر. فهي تدل لدى كثير من المفكرين ومؤرخي الفكر على "نزع القداسة عن العالم بتحويل الاهتمام من الدين بما يتضمنه من إيمان بإله وبروح وبعالم أخروي أو مغاير خفي إلى انشغال بهذا العالم المرئي أو المحسوس وغير المقدس". ويمكن اعتبار العلمانية بمفهومها الشائع -أي: فصل الدين عن الدولة- مرحلة مبكرة في هذا التوجه العام نحو ربط الحياة الإنسانية بعالم الحس؛ لأنها تمنح الأولوية لذلك العالم في التشريع لحياة الإنسان وسياستها. وفي الآية القرآنية الكريمة إشارة إلى هذا المعنى العام والأساسي للعلمانية، حيث يقول الله تعالى على لسان الذين كفروا: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [الأنعام: 29]. والدنيا هي العالم الوحيد بالنسبة للعلمانية. ومن هنا استخدم مفهوم "الدنيوية" كمرادف للعلمانية. ومن العلمانية اشتق فعل "العلمنة" ليدل على عملية التحول نحو هذا العالم [الموسوعة، 2/ 517، الموسوعة الميسرة، 2/ 803، 971، موسوعة بدوي، 1/ 219، الموسوعة الفلسفية العربية، ص 87، مفاتيح العلوم الإنسانية، ص 60]. 15 - الآلية، انظر الفلسفة الآلية. 16 - الانتخاب الطبيعي عند بعض علماء الطبيعة والأحياء هو عملية تحدث في الكون وبواسطتها تبقى الكائنات الأكثر تكيفًا مع بيئاتها على قيد الحياة. وقد أطلق على هذه العملية البقاء للأصلح. وقد طور دارون هذا المفهوم وجعله أساسًا مهما في نظريته، وهو يحيل الأمر للطبيعة ويتجاهل الحكمة الإلهية في خلق الكون وإيجاده من العدم -ويسند الحركة والموت والحياة إلى عناصر الطبيعة- دون خالقها ومسبب الأسباب بحجة الاكتفاء بالنظرة العلمية للطبيعة [الموسوعة، 3/ 155، الدارونية والإنسان .. ، د. صلاح عثمان، ص 37]. 17 - الأنثروبولوجيا انظر علم الإنسان. 18 - الإنطولوجيا انظر تعريفها ص 37. 19 - الأيدلوجيا: كانت بداية أمرها تعني العلم الذي يدرس الأفكار؛ أي: علم الأفكار، فيعرف قاموس ويبستر الأيديولوجية بأنها: دراسة لطبيعة ومصدر

الأفكار، ثم وقع للمصطلح تحولات لتصبح الأيدلوجيا مجموعة الأفكار التي تشكل أساس نظام سياسي واقتصادي واجتماعي معين. وفي خلاصة قدمها د. مصطفى عشوي عن التنظير الأيُّدلوجي بأنه تنظير يتأثر بـ" 1 - النسق الفكري المهيمن على مجتمع ما والذي تحميه طبقة معينة أو نظام قائم. 2 - مجموعة من التصورات المسبقة والأحكام التقييمية التي تكون اتجاهات ومواقف سلوكية قد تخفي دوافع لا شعورية لحماية الذات والجماعة التي ينتمي إليها الفرد" [العلوم الاجتماعية بين التنظير العلمي والتنظير الأيدلوجي، د. مصطفى عشوي، من كتاب قضايا المنهجية في العلوم الإنسانية والاجتماعية، ص 244]، وهو مصطلح قدحي يطلق على التيارات الفكرية المعاصرة العلمانية، ويوازيها من جهة في الاصطلاح الإِسلامي الفرقة والبدعة والأهواء، ولكن لأنه غلب على المعاصرة أنها لادينية فقد أُخذ لها هذا المصطلح، بحيث يفرق بين الفرقة التي تدور حول موضوعات دينية وبين الأيدلوجيا التي تدور حول موضوعات فكرية منفصلة عن الدين وربما معادية له، وهذا المعنى هو الذي أعنيه عند ذكره في ثنايا البحث. والأيدلوجيا في الماركسية عبارة عن وعي زائف هو انعكاس للواقع الاجتماعي، ويشير المصطلح أيضًا إلى كل مذهب تستلهمه الحكومات أو الأحزاب وتستمد منه آراءَها ومواقفها، ويفضل الدكتور طه عبد الرحمن استعمال الفكرانية قياسًا على العقلانية لأن الأيدلوجيا مصطلح واسع قد يحوي الصحيح وغيره، وسماها د. خليل الفكروية. [معجم المصطلحات والشواهد، ص 70، الموسوعة الفلسفية العربية، ص 158 دراسة مطولة، الموسوعة الميسرة، 2/ 980، قاموس المصطلحات، 77، تجديد المنهج في تقويم التراث، د. طه عبد الرحمن، ص 24 - 25، مفاتيح العلوم الإنسانية، د. خليل، ص 317]. 20 - التجربة انظر تعريفها ص 37. 21 - التطور: انظر تعريفه ص 212، ص 1061. 22 - التغريب انظر تعريفه ص 48. 23 - التفسير العلمي انظر تعريفه ص 38. 24 - التلفيق، انظر مذهب التوفيق. 25 - التنجيم، علم التنجيم هو دراسة كيفية الارتباط المفترض للشمس والقمر والكواكب والنجوم بالحياة والأحداث على الأرض. ويعتمد على زعم أن الأجسام السماوية، تشكِّل نماذج يمكنها كشف شخصية الفرد أو مستقبله. ويعتقد العديد من الناس من كل أنحاء العالم في التنجيم. ويعتمدون في إصدار قراراتهم على نصائح المنجِّم، ويزعم المنجِّمون أنهم يعرفون كثيرًا عن هذا التأثير عن

طريق رسم خريطة دائرية تسمى خريطة البروج أو جدول الميلاد. وهذا باب من أبواب الشرك المحرمة في الإِسلام [الموسوعة، 7/ 204، الموسوعة، 2/ 1023]. 26 - التوفيق، انظر مذهب التوفيق. 27 - التولُّد التلقائي نظرية كانت تزعم أن أنماطًا معينة للحياة، مثل الذباب والديدان والفئران من السهولة بمكان أن تنشأ مباشرة من أشياء غير حية مثل الطين واللحم المتحلل. لم يتم التخلي النهائي عن نظرية التولد التلقائي حتى منتصف القرن التاسع عشر، حيث مكنت التحسينات التي أدخلت على المجاهر، والأدوات العلمية الأخرى العلماء من رؤية البيوض والنطاف "الحيوانات المنوية" للحيوانات العليا، والبيوض وحبوب اللقاح للنباتات والجراثيم والكائنات الحية المجهرية الأخرى. فقد لاحظ الفرنسي باستير تكاثرًا ونموًا في الكائنات الحية المجهرية. وقد برهن على أن الكائنات الحية المجهرية يمكن أن تظهر في المرق الزرعي المعقَّم فقط، إذا تم تعريضه أولًا لهواء يحتوي على جراثيمها "خلاياها التناسلية". وقد أدت اكتشافات باستير إلى ظهور نظرية الخلية حول أصل المادة الحية. وتقول نظرية الخلية: إن الحياة تنشأ من مادة حية سبق وجودها، وخلال القرن العشرين أظهرت التجارب المعملية أن كثيرًا من الجزيئات الموجودة في الكائنات المجهرية الحية يمكن اصطناعه "إنتاجها صناعيًا". ولكن لم تتوصل أي تجربة إلى إيجاد كائن مجهري حي قادر على إيجاد نفسه مرة أخرى [الموسوعة، 7/ 316]. 28 - الثورة العلمية، انظر تعريفها ص 91. 29 - الجليد شكل ترسيبي يتكون من كتل من بلورات جليدية صغيرة. تنمو هذه البلورات معًا من بخار الماء في السحب الباردة. لتكون الندف الثلجية عند اصطدامها وتماسك بعضها ببعض. تختلف الندف الثلجية في حجمها. في بعض الحالات قد تتجمع 100 بلورة جليدية معا مكونة كِسْفَة جليدية يبلغ قطرها أكثر من 5. 2 سم. تختلف الندف الجليدية أيضًا في الشكل ولكنها جميعها لها ستة جوانب [الموسوعة، 8/ 414]. 30 - الحتمية الاقتصادية نظرية لتفسير التاريخ، تُبين أن النظام الاقتصادي لمجتمع يُشكِّل مؤسساته الاجتماعية السياسية والدينية. وقد طور النظرية أولًا ماركس في منتصف القرن التاسع عشر، مع أن المفكرين الآخرين قد طرحوا الفكرة في زمن أسبق منه، فأصبحت واحدة من العناصر الأساسية لفلسفته. رفض ماركس فكرة أن الأفراد أو الدين أو العوامل الأخرى تُسبب التغيير السياسي في المجتمع،

وحاول بدلًا من ذلك أن يوضح أن التغييرات السياسية لا تنتج إلا عن التغيرات في كيفية إنتاج المجتمع للبضائع والخدمات وتوزيعها [الموسوعة، 9/ 69]. 31 - الحتمية بالمعنى المشخص: أن كل ظاهرة من ظواهر الطبيعة مقيدة بشروط توجب حدوثها اضطرارًا، وبالمعنى المجرد: أن يكون للحوادث نظام معقول تترتب فيه العناصر على صورة يكون كل منها متعلقًا بغيره، والحتمية بالمعنى الفلسفي مذهب من يرى أن جميع حوادث العالم، ولاسيّما أفعال الإنسان، مرتبطة بعضها ببعض ارتباطًا محكمًا، والإمكان والجواز ممتنع في نظرهم. [المعجم الفلسفي، 1/ 442، الموسوعة الفلسفية العربية، ص 354، مفاتيح العلوم الإنسانية، ص 162، معجم المصطلحات. . . .، ص 145]. 32 - الحَمْض النووي جزيء معقد موجود في جميع الخلايا. هناك نوعان من الأحماض النووية هما الحمض النووي الريبي منقوص الأكسجين "د. ن. أ" والحمض النووي الريبي "آر. إن. إيه". ويوجد حمض "د. ن. أ" بصورة رئيسية في نواة الخلية. ولكن "آر. إن. إيه" قد يوجد في جميع أنحاء الخلية. ويؤدي "د. ن. أ" دورًا حيويًا في الوراثة. فهو المادة الرئيسية في الصبغيات "الكروموزومات"، وهي أجسام الخلية التي تنظم عملية الوراثة في الحيوان أو النبات. وعندما تنقسم الخلية يجب أن تنقسم المورثات في نواتها إلى نسخ متطابقة تمامًا تنتقل إلى الخلايا الوليدة. ويقوم "د. ن. أ" الموجود في الصبغيات بإعطاء الخلايا الوليدة مجموعة كاملة من الرموز "الشفرات" من أجل نموها ونمو الخلايا المنحدرة منها. هناك أربع قواعد مختلفة في "د. ن. أ" هي الأدنين والجوانين والثيمين والسيتوسين. والنسب الدقيقة لكل من القواعد، والترتيب الدقيق الذي تُرَتَّب به، تعتبر فريدة لكل نوع من الكائنات الحية. وهذا الترتيب الدقيق وتلك البنية، هما اللذان يجب نسخهما بدقة في كل مرة تنقسم فيها الخلية. أما "آر. إن. إيه"، فهناك أيضًا أربع قواعد هي الأدنين، والجوانين، والسيتوسين، واليوراسيل وليس الثيمين كما هو في "د. ن. أ" ويؤدي "آر. إن. إيه"، دورًا هامًا في تكوين البروتينات. وبعض جزيئات "آر. إن. إيه"، وتدعى آر. إن. إيه الرسول، تغادر النواة حاملة التعليمات لصنع البروتينات. وتذهب جزيئات "آر. إن. إيه الرسول" هذه إلى الرايبوزومات، وهي تركيبات الخلية التي تصنع فيها البروتينات. فسبحان الخالق [الموسوعة، 9/ 522، العصر الجينومي، د. موسى الخلف، ص 214]. 33 - الخلية الوحدة الأساسية لكل أشكال الحياة؛ فكل الكائنات الحية مكونة من خلايا. وبعضها تتكون من خلية واحدة، بينما تتكون بعضها الآخر مثل النباتات

والحيوانات من عدد كبير من الخلايا. ويتكون جسم الإنسان مما يزيد على 10 تريليون " 000، 000، 000، 000، 10" خلية. ومعظم الخلايا صغيرة جدًا لدرجة أنها لا ترى إلا بالمجهر. فخلايا دمك الحمراء مثلًا من الصغر بحيث تملأ 40.000 خلية منها مساحة هذه الدائرة O. ويتكون جلد راحة يدك من عدة ملايين من الخلايا. يحيط بالخلية غلاف رقيق يسمى الغشاء، ويسمى كامل محتويات الخلية البروتوبلازم. ولمعظم الخلايا تركيب يسمى النواة، يحتوي على البرنامج الوراثي للخلية؛ أي: الخطة الأساسية التي تتحكم في كل نشاطات الخلية تقريبًا. ويسمى الجزء من البروتوبلازم المحيط بالنواة السيتوبلازم. من أهم الأدوات التي يستخدمها العلماء لدراسة الخلية المجهر. فبإمكان المجهر البصري تكبير الخلية إلى 2.000 ضعف، وبإمكان المجهر الإلكتروني تكبيرها إلى مليون ضعف. ويبلغ طول النملة المكبرة 200.000 مرة أكثر من 800 متر. ولكن بالرغم من هذا التكبير الهائل لا يمكن رؤية التركيب التفصيلي لبعض أجزاء الخلية. النواة هي مركز التحكم الذي يوجه نشاطات الخلية. ويحيط الغشاء النووي بالنواة ويفصلها عن السيتوبلازم. وتحتوي النواة على نوعين مهمين من التركيبات: الصبغيات "الكروموزومات" والنويات. والصبغيات خيوط طويلة من مادة تسمى الكروماتين. إلى آخر ذلك من عالمها المدهش، فسبحان الخالق العليم العظيم [الموسوعة، 10/ 135]. 24 - الذَّرَّة إحدى الوحدات الأساسية لبناء المادة. فكل شيء حولنا مكون من ذرَّات. والذرَّة الواحدة بالغة الصِّغر، فهي لا تتعدى واحدًا على مليون من سُمْك شعرة. وتحتوي أصغر عيِّنة يمكن رؤيتها بمجهر عادي على ما يزيد على عشرة بلايين ذرة. وبالرغم من أن الذرّات تُعدُّ من أدق الأشياء في العالم إلا أنها تُعدُّ أيضًا من أعظمها قوة، فبداخلها كمية هائلة من الطاقة الكامنة. وقد استطاع العلماء تسخير هذه الطاقة في إنتاج أسلحة الدمار البالغة التأثير كما استطاعوا أيضًا الاستفادة منها في توليد الكهرباء. وبالرغم من ضآلة الذرّة إلا أنها تتكون من جُسيمات أكثر صغرًا منها، والجسيمات الثلاثة الأساسية هي: البُروتونات، والنيوترونات، والإلكترونات. ولكل ذرة عدد محدد من هذه الجُسيمات تحت الذرية. تزدحم البروتونات والنيوترونات داخل النواة، وهي منطقة بالغة الصغر في مركز الذرة. فلو كان قطر ذرة الهيدروجين ستة كيلومترات، على سبيل المثال، فإن النواة لا يتعدى حجمها حجم كرة المضرب العادية. وما يتبقى من حجم الذرة خارج النواة هو في أغلبه فضاء فارغ. وفي هذا الفضاء، تدور الإلكترونات حول النواة بسرعة بالغة تقطع بها بلايين الرحلات في كل جزء من المليون جزء

من الثانية. البروتونات والنيوترونات أصغر بـ 000. 100 مرة تقريبًا مقارنة بوزن الذرة، ولكنها تتألف بدورها من جُسيمات أكثر صغرًا يسمى كل منها كوارك. ويتكون كل بروتون وكل نيوترون من ثلاثة من جسيمات الكوارك. على عكس البروتونات والنيوترونات فإن الإلكترونات لا تحتوي على جُسيمات أصغر. وكتلة الإلكترون بالغة الصغر. وتُكتب قيمة هذه الكتلة بالجرامات، بوضع علامة عشرية يتبعها 27 صفرًا ثم رقم 9. ولسعة هذا العالم وعجائب مكوناته فقد تكون له علم من أصعب العلوم هو ميكانيكا الكم: يتناول فرع الفيزياء المسمَّى بالميكانيكا الكمية مسألة القوى داخل الذرة وحركة الجسيمات تحت الذرية. وقد افُتتحت الدراسة في هذا الفرع من فروع الفيزياء في عام (1913 م) عندما استخدم عالم الفيزياء الدنماركي نيلز بور نظرية الكم لشرح حركة الإلكترونات داخل الذرات. وقام علماء فيزياء آخرون بتطوير ميكانيكا الكم، وطبقوا مبادئها على النواة والإلكترونات. إلى آخر ذلك من عالمها المدهش، فسبحان الخالق العليم العظيم [الموسوعة، 10، 623، هذا الكون ماذا نعرف عنه؟ د. راشد المبارك، ص 113]، [وانظر حول الإلكترون الموسوعة، 2/ 560]. 35 - رأس المال تعبير اقتصادي للثروة التي تُستَغَلّ لتنميتها وزيادتها باستثناء الأرض. فمدخرات الناس تُعَدُّ رأس مال، لأنها تنتج ثروة إضافية من خلال الأرباح التي يكسبونها. أما الأرض وغيرها من الموارد الطبيعية فلا تعتبر رأس مال؛ لأن الإنسان لا ينتجها. ومعظم الأصول الثابتة التي تمتلكها شركة تمثل رأس مال؛ لأنها تستثمر لتدر الدخل. تعتبر الأشياء الخاصة، مثل الغذاء الخاص، والأثاث والملابس ثروة وليست رأس مال؛ لأنها لا تضيف ثروة [الموسوعة، 11، 60، قاموس المصطلحات، ص 244]. 36 - صك الغُفران مصطلح شاع في الكنيسة الرومانية الكاثوليكية في العصور الوسطى. وكان أصحاب فكرة صك الغفران، يدّعون أن حامله يتحرر جزئيًا أو كليًا من العقاب الدنيوي، وعند منح الكنيسة صك الغفران لأحد الأشخاص، فإن أعضاء الكنيسة يصلّون من أجله ليعود إلى حياة سليمة خالية من الأخطاء، أدت فكرة صك الغفران وما صحبها من ردود فعل ضد الكنيسة، إلى ظهور الاتجاهات العلمانية الحديثة في أوروبا، التي أخذت تحارب كل ما له صلة بالفكر النصراني أو بالدين عامة مستغلة موضوع صك الغفران وما صحبه من أباطيل [الموسوعة، 15/ 113]. 37 - الطبيعة: هي القوة السارية في الأجسام التي يصل بها الموجود إلى كماله الطبيعي، وهذا المعنى هو الأصل الذي ترجع إليه جميع المعاني الفلسفية.

والمذهب الطبيعي في الفلسفة العامة هي القول: إن الطبيعة هي الوجود كله، وأنه لا وجود إلا للطبيعة، ويفسر جميع ظواهر الوجود بإرجاعها إلى الطبيعة، ويستبعد كل مؤثر يجاوز حدود الطبيعة ويفارقها، وأصحابه هم الدهريون. ولها دلالات أخرى مثل أصل الشيء، ومثل الفطري، وقد عرف المصطلح تغيرات كثيرة، ولكنه في الفلسفة العلمانية أصبح أداة لمعارضة كل ما هو ديني [المعجم الفلسفي، 2/ 13، 17، الموسوعة الميسرة، 2/ 1087، مفاتيح العلوم الإنسانية، 267، معجم المصطلحات والشواهد، ص 275، موسوعة بدوي، 2/ 57، وبتوسع في الموسوعة الفلسفية العربية، ص 560]. 38 - الطَّوْطَم رمز عند غير المسلمين تتخذه القبيلة أو العشيرة أو الأسرة كرابط بينها مع تعظيمه. ويمكن لأية عشيرة أن تتخذ طيرًا أو سمكة أو حيوانًا أو نباتًا أو أي شيء من الطبيعة ليكون لها طوطمًا. ويَعْتَقِد بعض الناس أن الطوطم هو بمثابة السلف للعشيرة. ومن الجدير بالذكر أنه يمكن لأية عشيرة أن تُصدر قانونًا يمنع قتل أو أكل النوع الذي تتخذه العشيرة طوطمًا لها. ويُعرف أعضاء العشيرة باسم طوطمهم. واعتقدت بعض القبائل في العصور الماضية بقدسية الطوطم وعبدته. واتخاذ الطوطمية عقيدة ربما كان منتشرًا بين الهنود الأمريكيين والأفارقة السود في العصور القديمة. وقد جعله دوركايم وأمثاله الشكل الأول لظهور الدين في العالم [الموسوعة، 15/ 642، قاموس المصطلحات، ص 300، الموسوعة الميسرة، 2/ 1089، وانظر عبادة الحيوان]. 39 - عبادة الحيوان اتخاذ الحيوانات آلهة أو تعظيمها كما عُرف في بعض المجتمعات القديمة والحديثة. وتعبد بعض المجتمعات الحيوانات لاعتقادها أن كل ما في الطبيعة له روح. ويسمى هذا الاعتقاد الأرواحية [سبق التعريف بها]. وقد يعبد مجتمع الصيد حيوانًا ليكسب وده أو ليعتذر عن قتله، أو ليكتسب صفاته الحيوانية مثل السرعة والقوة، عبد كثير من هنود شمالي أمريكا الشمالية الحيوانات جزءًا من الاعتقاد المعروف بالطوطمية. وكل جماعة لديها رمزها المقدس الذي يُسمى طَوْطَم. ومعظم الطَوْطَمات حيوانات. ويزعم كثير من الجماعات أنها سلالة الحيوان الطوطم الذي يعبدونه. وعبد بعض الناس إلهًا يعتقدون أنه اتخذ لنفسه شكل الحيوان؛ فمثلًا يظهر الإله المصري القديم توت أحيانًا في شكل الرباح "حيوان إفريقي آسيوي ضخم قصير الذيل قبيح المنظر"، وفي أحيان أخرى في شكل طائر الماء الذي يدعى أبا منجل، ومثل هذه الشركيات جاءت رسالات الأنبياء لإزالتها وإعادة الناس للتوحيد، بخلاف هؤلاء الاجتماعيين العلمانيين الذين يفرحون بمثل هذه الصور ويسكتون عنها كنماذج يدرسونها ثم يجعلها

بعضهم أول صور الدين [الموسوعة، 16/ 70، وانظر الطوطم]. 40 - العُصاب مصطلح يُستخدم في مجال الصحة العقلية، للإشارة إلى أنواع معيّنه من الاضطرابات العقلية وإلى نوعية معيّنة من الحيل النفسية. يستخدم معظم الأطباء النفسيين وخبراء الصحة العقلية مصطلح العصاب، أو الاضطراب العصبي، للتعبير عن مجموعة من الأمراض العقلية الخفيفة. وتتميّز الأمراض العصبية بأعراض مثل القلق وعدم الاستقرار والإحباط والمخاوف بدون سبب. وتحدث هذه المشاعر عند الناس من حين لآخر، لكن الشخص الذي يعاني اضطرابًا عصبيًا، توجد لديه بدرجة متكررة، أو حتى بصفة مستديمة. وتتداخل هذه المشاعر مع حياة الأفراد وصلاتهم بالآخرين. ونادرًا ما تعوق الاضطرابات العصابية الشخص تمامًا. والأفراد الذين لديهم اضطراب عصابي يميزون الأعراض، باعتبارها غير مقبولة وغريبة. وعلى خلاف أولئك المصابين بالأمراض العقلية الشديدة، المسمّاة الذّهان [16/ 257]. 41 - العصور الوسطى، انظر تعريفها ص 94. 42 - عقدة إلكترا، انظر عقدة أوديب. 43 - عُقْدَةُ أودِيب مفهوم استخدم في التحليل النفسي، وهو رغبة الطفل غير الواعية في الاستئثار بحب الطرف المضاد لجنسه من والديه "الولد للأم والبنت للأب" وتشتمل هذه الرغبة على الغيرة من الولد تجاه الأب أو البنت تجاه الأم والرغبة غير الواعية في موت الأم أو الأب. أول من استخدم مصطلح عقدة أوديب فرويد، وجاء المصطلح من أسطورة أوديب، الإغريقي الذي يقال: إنه قتل أباه وتزوج أمه. استخدم فرويد المصطلح لوصف الشعور غير الواعي للأطفال من كلا الجنسين تجاه والديهم. ولكن فيما بعد استخدم الباحثون مصطلح عقدة إلكترا لهذه العقدة عند البنات، فطبقًا لرواية إغريقية ساعدت امرأة تدعى إلكترا في التخطيط لقتل أمها. يعتقد فرويد أن عقدة أوديب جزء من نمو الإنسان النفسي، ويفترض أن ينتهي تطور المرحلة الأوديبية في عمر 5، 2 إلى 6 سنوات. ففي هذه الفترة يعرف الإنسان المشاعر الفياضة من حب وكراهية وغيرة وخوف وغضب مما يحدث لديه اضطرابات عاطفية. ويتغلب معظم الناس -مع النمو- على عقدة أوديب. غير أن بعض الأفراد المرضى عقليًا تظهر لديهم عقدة أوديب بقوة وهم كبار. ويرجع فرويد سبب ذلك إلى الخوف من عقاب الأب [الموسوعة، 16/ 321، التحليل النفسي للرجولة والأنوثة .. ، د. عدنان حب الله، ص 102 - 185، الأنا والهو، فرويد، ص 53]. 44 - علم الاجتماع انظر تعريفه ص 230.

45 - علم الأحياء مجال معرفي يُعنى بدراسة الكائنات الحية. ويوجد ما يربو على مليوني نوع من الكائنات الحية على الأرض، تتفاوت في أحجامها بداية من البكتيريا المجهرية إلى الحيتان الزرقاء الضخمة والأشجار الجبارة الشاهقة. وتختلف الكائنات الحية فيما بينها كثيرًا من حيث أماكن وجودها وكيفية معيشتها. ومع ذلك، فإن جميع الكائنات الحية تشترك في بعض الصفات المميزة التي تميِّزها عن الكائنات غير الحية. وتتمثل هذه الصفات في التنفّس والقدرة على التكاثر والنمو والتكيف أو الاستجابة للتغيرات البيئية [الموسوعة، 1/ 281]. 46 - علم الأساطير "ميثيولوجيا" يتناول بالدراسة كل ما يكون خارجًا عن المألوف وخارقًا للعادات في صفات الإنسان والحيوان والطير والمخلوقات الخرافية، وقد عرف في الحضارات القديمة من يونانية إغريقية ومن فارسية وصينية وغيرها من الأساطير ولاسيّما حول الآلهة والعوالم الغيبية، وهي التي جاء الأنبياء بالدعوة لنبذها من أجل توحيد الله سبحانه. وفي الموسوعة: نستطيع أن نقسم الأساطير إلى مجموعتين هما: أساطير الخلق وأساطير التعليل. وتحاول أساطير الخلق أن تفسر أصل الكون وخلق البشر وظهور الآلهة. أما الأساطير التعليلية فإنها تهدف إلى تفسير الظواهر الطبيعية. وربما تظهر في الدراسات الاجتماعية العلمانية نوعًا من استثمار مثل هذا الباب وتعميمه على الدين، ولاسيّما على جانب الغيبيات منه وعلى جانب الشعائر ذات الحِكم التعبدية، حيث ظهر في الكتابات التغريبية من يضع العقائد الإِسلامية ضمن الأساطير [الموسوعة، 1/ 572، انظر أيضًا ص 819 من هذا البحث، وانظر مادة الأسطورة]. 47 - علم الإنسان "الأنثروبولوجيا" يدرس أصل النوع الإنساني وكل الظواهر المتعلقة به، كما يدرس الثقافة. وتنقسم الأنثروبولوجيا إلى فرعين كبيرين هما: الأنثروبولوجيا الطبيعية والأنثروبولوجيا الثقافية. وتشمل الأنثروبولوجيا الثقافية: الأركيولوجيا، وهي دراسة الثقافات البائدة، والأنثولوجيا [سبق تعريفها - الأتنولوجيا]، والأتنوغرافيا [سبق تعريفها]، بينما تتناول الأنثروبولوجيا الطبيعية: دراسة المشكلات الخاصة بالتطور الإنساني، والبانثولوجيا "علم الإنسان القديم" ودراسة الأجناس البشرية، وتكوين جسم الإنسان، وهذه العلوم بسبب نشأتها في بيئات علمانية ووضعية فقد وقعت في مشكلات كثيرة حول أصل الإنسان وأصل الدين وأصل اللغات وغيرها من الأمور [الموسوعة الميسرة، 2/ 976، مقدمة في الإنسانيات والعلوم الاجتماعية، د. أحمد بدر، ص 79]. 48 - عِلْمُ الكَلَام علم حادث في الملة يهتم بدراسة العقيدة الإِسلامية ويدافع عنها، ويرد الشبهات التي تثار حولها بالأدلة العقلية والبراهين الجدلية، مستحدثًا في

ذلك مصطلحات استمدها من الفلسفة وطرقًا استنبطها منها مع ما أبدعته عقول المتكلمين. وسُمي هذا العلم علم الكلام -كما يقول الشهرستاتي- لسببين: أولهما أن أخطر مسألة خاض فيها المتكلمون هي مسألة كلام الله التي تجاوز الأمر فيها حدّ المناظرة وتبادل الرأي إلى الفتنة والقتل والسجن، كما هو معروف في فتنة خلق القرآن ومواقف رجال كالإمام أحمد ابن حنبل منها. وثانيهما سبب منهجي يتمثل في أن المتكلمين أرادوا أن يميزوا مناهج أبحاثهم عن المنطق الذي تبناه الفلاسفة واستخدموه في مباحثهم الفلسفية. فسمَّى المتكلمون طريقتهم في البحث الكلام. وقد ذمّ السلف علم الكلام ليس لمطلق الكلام وإنما لما فيه من انحرافات خطيرة منها ما ورد عن مالك بن أنس، -رضي الله عنه-، من ذم لأهل البدع لأنهم خاضوا وتكلموا فيما لا ينبغي لهم الخوض أو التكلم فيه، وبالإضافة إلى الكلام فقد سمي هذا العلم باسم الفقه الأكبر، وعلم أصول الدين وعلم التوحيد والصفات وعلم النظر والاستدلال. وقد ظهرت أسباب مختلفة أشغلت طائفة من المسلمين بالبحث في قضايا عقدية بالعقل وبعيدًا عن منهج سلف الأمة، وكل طائفة تتوقف مع أصل أو أكثر يتسع مع الأيام ليصبح هذا الأصل مدار نشاط الفرقة، وقد ورد في كتب الفِرَق العديد منها، حيث تبنت رأيًا أو آخر حول قضية من هذه القضايا، كالمرجئة والقدرية والجبرية والجهمية والمعطلة والمجسمة، ثم المعتزلة والأشاعرة والماترِيديَّة، وعرفت هذه الفرق بالفرق الكلامية، وعُرف ما خاضت فيه بعلم الكلام. وفي إطار الفكر الإِسلامي نجد في البداية تمايزًا بين الفلسفة والكلام، وعلاقة عداء وخصام بين الفلاسفة والمتكلمين؛ بلغت أوجها لدى أبي حامد الغزالي (505 هـ) الذي هاجم الفلسفة من منطلق كلامي في كتابه تهافت الفلاسفة، وكفَّر الفلاسفة لقولهم بقِدم العالم، وعدم علم الله بالجزئيات، وإنكارهم البعث الجسماني. ورغم هذا العداء فقد كان هناك نوع من التقارب بين الفلسفة والكلام، إذ حاول المتكلمون الاستفادة من أسلحة خصومهم والاطلاع على مناهج الفلسفة ومصطلحاتها، وقد كان ذلك بطريقة غير مباشرة لدى المعتزلة، ثم ظهر بوضوح لدى الجويني والغزالي، وبلغ مداه على يد فخر الدين الرازي، ثم توغل المتكلمون في الفلسفة وعلومها حتى اختلط عليهم كثير من الموضوعات والتبست مسائل الكلام بحيث لم يعد في الإمكان التمييز بين علم الكلام والفلسفة، بل يمكن القول بأن الفلسفة اختلطت بالكلام إلى الحد الذي ابتلع فيه علمُ الكلام الفلسفة ابتلاعًا، واحتواها في كتبه، كما يظهر في كتب المتأخرين مثل كتاب المواقف لعضد الدين الإيجي الذي يبدأ بمقدمات في المنطق الأرسطي على طريقة الفلاسفة ويبسط آراء الفلاسفة في

الطبيعيات والرياضيات، وأخيرًا يتناول قضايا العقيدة واضعًا في الاعتبار آراء الفلاسفة ومصطلحاتهم. [الموسوعة، 16/ 393، الموسوعة الميسرة، 2/ 1069]. 49 - علم النفس انظر تعريف ص 232. 50 - العلم: انظر تعريفه ص 30. 51 - العلوم التطبيقية: موضوع العلوم التطبيقية النظر في القوانين العلمية المستمدة من عدة علوم، للانتفاع بها في تحقيق غاية علمية معيّنة، كعلم الكهرباء الصناعية، وعلم الاقتصاد، وعلم التخطيط التربوي [المعجم الفلسفي، 1/ 292، معجم مصطلحات المنطق وفلسفة العلم، ص 61]. 52 - العولمة يطلق هذا المصطلح الذي انتشر في العشرين السنة الأخيرة على عملية التداخل الثقافي بين أنحاء العالم المختلفة، وما ينتج عن ذلك من تأثير ثقافي وسياسي واقتصادي. والعولمة ترجمة لمصطلح إنجليزي، وقد اشتقت بالعربية من توحد العالم بتوحد المؤثرات الثقافية أو الحضارية. تحدث العولمة نتيجة التطور الهائل في وسائل الاتصال بين المجتمعات والدول وانتقال المؤثرات من بلد إلى آخر بسرعة لم يسبق لها مثيل [دليل الناقد الأدبي، ص 193، الموسوعة]. 53 - الفائدة هي ما يدفع لصاحب المال مقابل استخدام أمواله في المشروعات التي تدر ربحًا على المستخدم لهذا المال. ويحرم الإسلام تحديد الفائدة، ولكنه يبيح المضاربة، وهي دفع مال معلوم إلى أجل معلوم لمن يتجر فيه بجزء معلوم من ربحه، كالثلث أو الربع مثلًا أو ما شابهه. أما إن حددت الفائدة بقدر من المال كزيادة مائة أو مائتين على رأس المال أو بعشرة في المائة أو ثمانية في المائة مثلًا أو ما شابهه، كما يجري الآن في المصارف، فهذا حرام وهو من ربا النسيئة المحرم -الذي هو أخذ زيادة في القرض على رأس المال مقابل الأجل [الموسوعة، 17، 162، الربا والفائدة. دراسة اقتصادية مقارنة، د. رفيق المصري، ص 18، وانظر البحث ص 1014]. 54 - الفرضية: انظر تعريفها ص 38. 55 - فلسفة العلم: الفلسفة والعلم. إن العلم يدرس الظواهر الطبيعية والظواهر الاجتماعية. لكن العلم لا يدرس العلم في حد ذاته. وعندما يفكر العلم في ذاته، فإنه يتحول إلى ما يسمى فلسفة العلم التي تتناول عددًا من المسائل الفلسفية من بينها: ما العلم؟ ما المنهج العلمي؟ هل الحقيقة العلمية تطلعنا على حقيقة العالم والواقع؟ وما قيمة العلم؟ [مدخل إلى فلسفة العلوم، د. محمد الجابري، ص 24، مشكلة الفلسفة، د. زكريا إبراهيم، ص 95، تمهيد للفلسفة، د. حمدي زقزوق، ص 65].

56 - الفَلْسَفَةُ حقل للبحث والتفكير يسعى إلى فهم غوامض الوجود والواقع، كما يحاول أن يكتشف ماهية الحقيقة والمعرفة، وأن يدرك ما له قيمة أساسية وأهمية عُظمى في الحياة. كذلك تنظر الفلسفة في العلاقات القائمة بين الإنسان والطبيعة، وبين الفرد والمجتمع. والفلسفة نابعة من التعجّب وحب الاستطلاع والرغبة في المعرفة والفهم. بل هي عملية تشمل التحليل والنقد والتفسير والتأمل. كلمة فلسفة لا يمكن تحديد معناها بدقة؛ لأن موضوعها مُعقد جدًا ومثير للجدال. فقد تختلف آراء الفلاسفة حول طبيعتها ومناهجها ومجالها. أما كلمة فلسفة في حد ذاتها فأصلها من الكلمة اليونانية فيلاسوفيا التي تعني حب الحكمة. وجرت العادة أن تُقسم الفلسفة إلى خمسة فروع، وكل فرع ينتظم فيه البحث حول عدد من المسائل المتميزة. هذه الفروع هي: 1 - ما وراء الطبيعة "الميتافيزيقا". 2 - نظرية المعرفة. 3 - المنطق. 4 - الأخلاق. 5 - علم الجمال. وفضلًا عن ذلك فقد عظم شأن فلسفة اللغة في القرن العشرين، حتى أصبح البعض يعتبرها فرعًا آخر من فروع الفلسفة. وتأتي مشكلة الفلسفة عندما تتدخل في موضوعات دينية ويحكّم الفلاسفة فيها عقولهم مع عدم قبولهم للمعرفة الدينية، وقد غلب على الفلاسفة المحدثين العلمنة واللاأدرية والإلحاد مما عمق المشكلات بين الفلسفة والدين، أما في غير مجال الدين فهي من الفكر الذي يكون فيه الصواب والخطأ، الحسن والقبيح، وهم في كل موضوع على مذاهب وشيع يعارض بعضهم بعضًا، فالحمد لله بنعمة الإِسلام وبنعمة القرآن وبنعمة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -[الموسوعة، 17/ 441، المعجم الفلسفي، 2/ 160، الموسوعة الميسرة، 2/ 1108 وفيه تركيز على القديم منها، مع كتب المداخل وهي كثيرة مثل: تمهيد للفلسفة، د. محمود حمدي زقزوق، ص 35، مبادئ الفلسفة، ا. س. رابوبرت، ترجمة أحمد أمين، ص 19، وغيرها]. 57 - الفَيْروس كائن مجهري يعيش داخل خلية كائن حي آخر. ورغم صغر حجمه إلا أنه سبب رئيسي من أسباب المرض. وتُعدي بعض الفيروسات الإنسان بأمراض مثل الحصبة والأنفلونزا ونزلات البرد الشائعة. كما تُعدي فيروسات أخرى الحيوانات أو النبات ويهاجم بعضها أنواعًا من البكتيريا. وعندما تدخل الفيروسات خلايا الكائن الحي تقوم بتدمير بعضها ومن ثم تحدث الإصابة بالأمراض. لكنها مع ذلك قد تعيش بداخل الخلايا دون إحداث أي أضرار بها. وتتخذ الفيروسات شكل عصيات أو كريات وتتراوح في الحجم بين 01، 0 و 3، 0 ميكرون "الميكرون يساوي 001،0 من المليمتر"، لذا فإنها لا ترى إلا تحت المجهر الإلكتروني الذي يكبّر حجمها آلاف المرات. ويبلغ أكبر الفيروسات

حجمًا مقدار عُشْر حجم بكتيريا متوسطة الحجم [الموسوعة، 17/ 647، العصر الجينومي، ص 218]. 58 - القانون العلمي، انظر تعريفه ص 39. 59 - القلق تعبير يستعمله الأطباء النفسانيون وعلماء النفس للدلالة على الخوف أو الهم. وقد دلل فرويد، مؤسس مدرسة التحليل النفسي، على أن القلق خصلة أساسية تؤثر على حياتنا منذ مراحل الطفولة المبكرة، وهذا ينطبق على الذين يتمتعون بصحة عقلية سليمة، كما ينطبق على من يعانون الاختلال العقلي، كما أن الوجودية قد جعلت منه مفهومًا مهمًا في فلسفتها، وهو مرض عرفته الحضارة الغربية بقوة وأصبح صفة ملازمة لها ومن هنا جاء كثرة الحديث عنه [الموسوعة، 18/ 285، مفاتيح العلوم الإنسانية، ص 336، المعجم الفلسفي، 2/ 199، الموسوعة الفلسفية العربية، ص 677]. 60 - القمر "النزول على القمر": لقد فتح عصر الفضاء الذي بدأ عام (1957 م)، بابًا جديدًا في دراسة القمر. وفي الثاني عشر من سبتمبر عام (1959 م)، أطلق الاتحاد السوفييتي "السابق" لونا 2 أول جسم اصطناعي يصل إلى القمر. ومنذ ذلك الوقت أطلق الاتحاد السوفييتي "السابق" والولايات المتحدة الأمريكية نحو ثلاثين مركبة غير مأهولة منها ما هبط على القمر، ومنها ما مر بالقرب منه بحيث يرسل إلى الأرض معلومات مفيدة. وفي الفترة ما بين (1966 و 1968 م) أرسلت الولايات المتحدة خمس مركبات استطلاع هبطت كلها على القمر. وقد أخذت هذه المركبات القمرية ما يقرب من 000. 90 صورة، كما بعثت بمعلومات عن تكوين القمر. وفي نفس الفترة الزمنية أرسلت الولايات المتحدة خمس مركبات قمرية أخرى دارت حول القمر وصورت 98% من سطح القمر. وقد يسرت هذه المركبات الهبوط البشري على القمر، حيث بينت أن سطح القمر يتحمل وزن المركبة وحددت بعض المواقع الملائمة للهبوط. وفي 20 يوليو (1969 م)، هبطت مركبة أبولو 11 على القمر، وبذلك بدأ الاستكشاف المباشر والدراسة للقمر. وفي يوليو (1971 م)، كان رواد أبولو 15 أول من سافر على سطح القمر بآلة نقل تتحرك بالقدرة الآلية. [الموسوعة، 18/ 307، 11/ 138]. 61 - كرامات الأولياء. يجري الله على أيدي بعض عباده خوارق للعادة يسميها العلماء المتأخرون الكرامات، وكان العلماء المتقدمون يسمونها المعجزات أيضًا. وتكون تلك الأمور إكرامًا لصلاحهم وقوة إيمانهم أو سدًّا لحاجتهم كالحاجة للطعام والشراب والأمن. وقد يعطيهم ذلك لنُصرة دينه ورفعة كلمته. من ذلك الفاكهة

التي كان يجدها زكريا -عليه السلام- عند مريم مما حكاه القرآن الكريم. ومنه صيحة عمر بن الخطاب:"يا سارية الجبل". [الموسوعة الميسرة، 2/ 1128، الموسوعة مادة المعجزة، 23/ 443]. 62 - اللوفر أحد أشهر وأكبر المتاحف الفنية في العالم، ويمتد لمساحة تزيد على 16 هكتارًا على الضفاف الشمالية لنهر السين بباريس. وكان اللوفر قد بني مقرًا لإقامة ملوك فرنسا، ولكن يُعرض به اليوم بعض أشهر الكنوز الفنية في العالم. وقد ورد في البحث مقولة أحد مشاركي حملة نابليون من العلماء عن تشبيه الحي الذي استولوا عليه في القاهرة وجعلوه مقرًا لنشاطهم العلمي باللوفر [الموسوعة، 21/ 201]. 63 - الليبيدو: يطلق على الرغبة ولاسيّما الحسية أو الجنسية، أطلقه فرويد كمفهوم في نظريته على الغريزة الجنسية من جهة ما هي طاقة حيوية مشتملة على مجموع الحياة الوجدانية، [الموسوعة، 21/ 264، المعجم الفلسفي، 2/ 294]. 64 - ما وراء الطبيعة، ما بعد الطبيعة "الميتافيزيقا". نشاط يدرس الواقع والوجود من حيث طبيعتهما الأساسية، كما يدرس ماهية الأشياء، ويبحث في ماهية الإله والعالم والإنسان، وتسمى عند البعض العلم الإلهي. وهي عندما تبحث أمورًا ذات صبغة دينية دون هداية من الوحي فهي تقع في تخبط وتيه، ومن هنا فلا طريق للغيب إلا الوحي. أما ما سوى ذلك فقد اختلف مدلول المصطلح باختلاف العصور، ومن الباحثين من يقسم علم ما وراء الطبيعة إلى ميدانين: علم الوجود، وعلم الكون. فعلم الوجود يدرس الموجودات؛ أما علم الكون فيدرس الكون الطبيعي ككل. كما أن علم الكون يُقصد به ذلك الفرع من العلوم الذي يدرس نظام الكون وتاريخه ومستقبله. يتناول علم ما وراء الطبيعة مسائل من نوع: ما الواقع؟ ما الفرق بين الظاهر والواقع؟ ما المبادئ والمفاهيم العامة التي يمكن بموجبها تأويل تجاربنا وفهمها؟ هل لدينا إرادة حرة أم أن أعمالنا مُسيرة بأسباب ليس لنا فيها خيار؟ لقد أوجد الفلاسفة عددًا من النظريات في علم ما وراء الطبيعة وهي: المادية، والمثالية، والآلية، والغائية. إن المادية تؤكد أن المادة وحدها هي التي لها وجود حقيقي، وأن المشاعر والأفكار وغير ذلك من الظواهر العقلية إنما هي ناتجة عن نشاط المادة. وتقرر المثالية بأن أي شيء مادي إنما هو فكرة أو شكل من أشكال الفكرة، وبمقتضاها فإن الظواهر العقلية هي وحدها المهمة والمطابقة للحقيقة. أما الآلية فتؤكد أن كل الأحداث إنما هي ناتجة عن قوى آلية محضة، وليس عن غاية معينة، بل لا يعقل أن نقول: إن الكون في حد ذاته من ورائه غاية معينة. أما الغائية، فهي على العكس، تقرر

بأن الكون وكل شيء فيه يتصف بالوجود والحدوث من أجل غاية معينة [الموسوعة، 24/ 462، الموسوعة الميسرة، 2/ 1155، المعجم الفلسفي، 2/ 300، موسوعة بدوي، 2/ 493]. 65 - المادية مصطلح فلسفي يستخدم في مقابل مصطلح آخر هو المثالية. وتوصف به اتجاهات ونزعات فلسفية عديدة تشترك في القول بأن الأصل في الموجودات هو المادة، لا الروح أو العقل أو الشعور، وقد تطورت ومرت بمراحل، أشهرها الماركسية المعاصرة [موسوعة بدوي، 2/ 407، مفاتيح العلوم الإنسانية، 363، المعجم الفلسفي، 2/ 309، الموسوعة الميسرة، 2/ 1137، الموسوعة، 22/ 46، وانظر ص 312 من هذا البحث]. 66 - المصرف أو البنك مؤسسة يودع فيها الناس أموالهم. وتستخدم المصارف هذه الأموال المودعة في استثماراتها وفي إقراض عملائها. ويودع الناس أموالهم في المصارف بدلًا من إبقائها في حوزتهم، لأسباب عدة منها: 1 - إيداع النقود في المصارف آمن لها من بقائها في المنزل أو المؤسسة. 2 - سهولة استخدام الحسابات الجارية لتسديد الفواتير الشخصية أو التجارية. 3 - يحقق بعض المودعين فوائد ربوية عند إيداعهم أموالهم في أنواع مختلفة من الأرصدة في المصارف [الموسوعة، 23/ 355]. 67 - مُعَجِّل الجُسَيمات "أداة" كهربائية تسرع حركة الجسيمات الذرية كالإلكترونات أو البروتونات وتعطيها كمية كبيرة من الطاقة، يستخدم العلماء المعجِّلات في أبحاثهم عن النواة والذرة، حيث تُمكن الفيزيائيين من تغيير ذرة عنصر ما إلى ذرة لعنصر آخر. وينتج هذا التغيير الذي يُسمى التحول النووي من التفاعلات التي تحدث عندما تصطدم الجسيمات المعجَّلة مع نواة أية ذرة. وتساعد المعجلات ذات الطاقة العالية الفيزيائيين على اكتشاف جسيمات جديدة، ودراسة علاقة هذه الجسيمات بالقوة التي تربط مكونات النواة ببعضها. وتتولد هذه الجسيمات الجديدة عند تحطيم النواة بالإلكترونات أو البروتونات التي عُجِّلت لسرعات كبيرة. ولهذا السبب تسمى المعجلات أحيانًا بمحطمات الذرة، وتعد المعجلات الكبيرة ذات تكلفة باهضة ولهذا ألغي المشروع الأمريكي لبناء أحدها بعد أن بلغت تكلفته مئات الملايين من الدولارات [الموسوعة، 23/ 445]. 68 - الملاحظة: انظر تعريفها ص 37. 69 - المنطق: "تعريف قديم" آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر، وقوله: تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر يخرج العلوم القانونية التي لا تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر بل في المقال، كالعلوم العربية. وقد

أسسه اليونان ولاسيّما أرسطو وقد نقده طائفة منهم كما نقده أهل الكلام من المسلمين ويعد نقد شيخ الإسلام من أشهر صور النقد الإِسلامية للمنطق، وبيّن أنه في حقيقته لا يعصم الذهن من الخطأ [التعريفات للجرجاني، ص 232، الموسوعة الميسرة، 2/ 1152، المعجم الفلسفي، 2/ 428، الجزء التاسع من فتاوى ابن تيمية]، وللمنطق تعريف حديث: المنطق فرع من فروع الفلسفة يعني بقواعد التفكير السليم. ويشتَغِل معظم الدّارسين في مجال المنطق بشكل من التفكير يُسمَّى القضية المنطقيّة. وتتكون القضية المنطقية من مجموعة من العبارات تُسمَّى المقدمات تتبعها عبارة أخرى يطلق عليها اسم النتيجة. فإذا كانت المقدمات تُؤَيِّد النتيجة، كانت القضية المنطقية صحيحة. وإذا كانت المقدمات لا تُؤيِّد النتيجة، كانت القضية المنطقية خاطئة. والقضية المنطقية نوعان: قضية استنتاجية، وقضية استقرائية (الموسوعة، 24/ 240، موسوعة بدوي، 2/ 473). 70 - المنفعة، انظر مذهب المنفعة. 71 - المورثة - الجين " gene" وهي تمثل الوحدة الأساسية التي جعلها الله مسؤولة عن وراثة الصفات، وهي تحتوي على الصفات الوظيفية والبنيوية التي تنتقل من الآباء إلى الأبناء. والمورِّثة جزء من الخلية، يحدد صفات الكائن الحيّ الموروثة من الأبوين. تحدد المورِّثات خصائص مثل شكل الورقة والجنس والطول ولون شعر الطفل. والمورِّثات وحدات وراثية، مستقرة علي بناءٍ شبيه بالخيوط يسمى الصِّبغي "الكروموزوم" في الخلية. وفي كل خلية آلاف المورِّثات. وتحتل كل مورثة مكانًا خاصًا في الصِّبغي. ويمكن مشاهدة الصِّبغي وليس المورِّثات تحت مجهر ضوئي عادي. ويحدد العلماء أماكن المورِّثات ووظائفها باستخدام التجارب. والجينوم: هو مجموع المادة الوراثية التي تحتويها الخلية، وهي تتضمن كل الموروثات " genes" يضاف إليها جميع المواد الوراثية المحيطة بمنطقة المورثات، يحتوي الجينوم البشري على ما يقارب 30 إلى 40 ألف مورثة، وهي تعادل 1% من مجموع المادة الوراثية المتمثلة بالجينوم والتي تساوي 3.2 بليون زوج أو أساس قاعدي [الموسوعة، 24/ 340، العصر الجينومي، د. موسى الخلف، ص 213، ص 215، الموسوعة الميسرة، 2/ 1041]. 72 - الموضوعي - الموضوعية: انظر تعريفها ص 886. 73 - الميتافيزيقا، انظر: "ما وراء الطبيعة". 74 - ميكانيكا الكم ميدانٌ من ميادين علم الفيزياء، يصف تركيب الذرّة وحركة الجسيمات الذرية، ويوضح كذلك كيف تمتص الذرات الطاقة في شكل ضوء،

وكيف تطلقها، ويوضح طبيعة الضوء. فهو يهتم بعالم الذرة الصغير. وقد نتج عن ذلك منجزات مذهلة في التقنية والصناعة [الموسوعة، 24/ 501، المعجم الفلسفي، 2/ 243، معجم مصطلحات المنطق وفلسفة العلوم، ص 311]. 75 - الميكرون وحدة مترية تستخدم لقياس الأطوال. ويعادل الميكرون الواحد 0.00001 من المتر. يستخدم الميكرون لقياس المسافات متناهية الصغر، ولقياس سمك الأجسام الدقيقة جدًا [الموسوعة، 24/ 504]. 76 - الندف الثلجية، انظر الجليد. 77 - النسبية نظرية فيزيائية للعالم الألماني أينشتاين، استولت على خيال الشخص العادي أكثر من أي نظرية فيزيائية أخرى في التاريخ. ومع ذلك فإن نظرية النسبية، على عكس الكثير من نظريات الفيزياء، لا يمكن أن يفهمها الشخص العادي بسهولة. فنحن لا نستطيع أن نفهم هذه النظرية تمامًا إلا بوساطة الصيغ الرياضية التي تعبّر عنها. وبغير الرياضيات لا تستطيع إلا التعبير عن بعض أفكارها الأساسية وكذلك اقتباس بعض مستنبطاتها دون إثبات. وهذه النظرية خاصة بالكون، فهي تتناول معظم الأفكار الأساسية التي نستخدمها لوصف الأحداث الطبيعية. وهذه الأفكار تختص بالزمن والفضاء والكتلة والحركة والجاذبية الأرضية. وتعطي هذه النظرية معاني جديدة للأفكار القديمة التي تمثلها هذه الكلمات، وتتألف النظرية من جزئين رئيسيين: الأول نظرية النسبية الخاصة، أو المقيدة، التي نشرها أيْنشتاين عام (1905 م). أما الثاني فهو نظرية النسبية العامة التي قدمها أيْنشتاين عام (1915 م) [الموسوعة، 25/ 217، وانظر البحث، ص 213، 949]. 78 - النشوء والارتقاء هي النظرية المعروفة بنظرية التطور. تقوم هذه النظرية على القول بأن أشكال الحياة المختلفة تعود إلى أصل واحد مشترك وأنها بدأت من خلايا حية بسيطة تكونت، في زعمهم، عن طريق المصادفة عبر عمليات كيميائية مركبة، ثم تطورت إلى كائنات كبيرة معقدة. وفي بداية النظرية، في عصر داروين، كان الفكر السائد هو أن هذا التطور تم بسبب تأثير عوامل طبيعية كالبيئة والمناخ وموارد الغذاء وطرق الحصول عليه. أما في الوقت الحالي، فإن الداروينية الجديدة تركز على أن التطور تم بسبب الطفرات أو التغيرات المفاجئة في التراكيب الجزيئية المسؤولة عن الوراثة. وقد ارتبط بها بخاصة مرض الإلحاد، وهو يرجع إلى القول بالمصادفة واستبعاد الغاية والقصد في عملية الخلق، وتفسير التطور تفسيرًا ماديًا آليًا، والمسلَّم به أن الله أبدع هذا الكون وما فيه بقدرته، وسن قوانينه الطبيعية ومنها التطور في الخلق، والارتباط بين الكائنات. ولكن

الماديين -كما سبقت الإشارة- اتخذوا من النظرية سندًا لمذهبهم المادي القائم على التفسير المادي للحياة، وعلى استبعاد التفكير في أي قوة خارج حدود المادة لها قدرة الخلق والإيجاد [الموسوعة، 25/ 250، الدارونية والإنسان .. ، د. صلاح عثمان، ص 33، ص 44]. 79 - النظرية العلمية: انظر تعريفها ص 40. 80 - نظرية المعرفة: هدفها تحديد طبيعة المعرفة وأساسها ومجالها، كما تستكشف الطرائق المختلفة المؤدية إلى المعرفة وجوهر الحقيقة والعلاقات بين المعرفة والإيمان. إن نظرية المعرفة تطرح أمثال الأسئلة الآتية: ما العلامات الدالة على المعرفة الصادقة من أجل تمييزها عن المعرفة الكاذبة؟ ما الحقيقة؟ وكيف يمكن أن نعرف الصواب والخطأ؟ هل هناك أنواع مختلفة من المعرفة؟ وهل لكل واحدة منها حُجج وخصائص؟. كثيرًا ما يميز الفلاسفة بين نوعين من المعرفة: القَبْلية، والتجريبية. نتوصل إلى المعرفة القبلية بالتفكير من غير أن نستعين بالتجربة، أما المعرفة التجريبية فنكتسبها من الملاحظة والتجربة. إن جوهر الحقيقة قد حيّر الناس منذ قديم الزمان، ربما لأن الناس كثيرًا ما يُطلقون صفة حقيقي على أفكار يتجاوبون معها ويميلون إليها، وكذلك لأنهم كثيرًا ما يختلفون في الرأي حول أي من الأفكار تطابق الحقيقة. لقد حاول الفلاسفة أن يحددوا معايير الحكم من أجل التمييز بين الصواب والخطأ، ولكنهم اختلفوا حول معنى الحقيقة، وكيف يمكن التوصل إلى أفكار مطابقة للحقيقة. إن نظرية التطابق تقول: إن الفكرة تعتبر حقيقية إذا كانت مطابقة للوقائع والمجريات. أما النظرية الذرائعية أو البرغماتية، فتؤكد أن الفكرة تطابق الحقيقة، إذا هي أثرت في المشكلة المطروحة، أو قدمت لها حلًّا. أما نظرية الترابط فتقول: إن الحقيقة مقياسها في الدرجة؛ أي: أن الفكرة مطابقة للحقيقة بمقدار ما هي متماسكة أو متوافقة مع أفكار أخرى يؤمن بها الإنسان. أما النظرية الشكوكية فتدَّعي أنه من المستحيل التوصل إلى المعرفة، وأن وجه الحقيقة لا يمكن أن يُعرف [الموسوعة، 17/ 441 ضمن مادة فلسفة، المعجم الفلسفي، 2/ 478، نظرية المعرفة، د. محمود زيدان]. 81 - الهندسة الإقليدية. تقوم على المسلمات التي قدَّمها إقليدس في كتابه العناصر وعلى مسلمات اشتُقّت لاحقًا من مسلمات إقليدس. ويمكن تقسيم الهندسة الإقليدية إلى هندسة مستوية وهندسة مجسمة. وتختص الهندسة المستوية "الهندسة المسطحة" بدراسة الأشكال ذات البعدين مثل المستقيمات والزوايا والمثلثات والأشكال الرباعية والدوائر. أما الهندسة المجسَّمة أو الفراغية فتتعلق بدراسة

الأشكال ذات البُعْد الثلاثي. تشمل المواضيع المدروسة في الهندسة الإقليدية تطابق وتماثل المُثلثات والأشكال الهندسية الأخرى، وخواص المستقيمات المتوازية والمتعامدة. ومن المواضيع الأخرى، خواص الدوائر والكرات وقياس مساحات وحجوم الأشكال. وقد ظهرت في القرن التاسع عشر هندسة جديدة هي اللاإقليدية مع لوباتشيفسكي وريمان، وهذا النوع قد اعتمدت عليه النظريات العلمية الفيزيائية المعاصرة كالنسبية [الموسوعة، 26/ 154، مدخل إلى فلسفة العلوم .. ، د. محمد الجابري، ص 74]. 82 - الهوى انظر تعريفه ص 56. 83 - الوراثة، علم الوراثة هو الدراسة العلمية للوراثة؛ أي: دراسة عملية إمرار خصائص الكائنات الحية من جيل إلى آخر. يدرس علماء الوراثة تركيب المورثات ووظيفتها وطريقة انتقالها. والمورثات هي الوحدات الأساسية للوراثة، وتوجد في خلايا كل الكائنات الحية. فكل خلية من خلايا جسم الإنسان، على سبيل المثال، تحتوي على ما يتراوح بين 50.000 و 100.000 مورثة. وهذه المورثات هي التي تحدد البناء الكلي للجسم وسماته؛ مثل لون العين أو الشعر أو الجلد [الموسوعة، 27/ 68، 56].

ثانيا: قائمة بالطوائف والفرق والمذاهب الواردة في البحث

ثانيًا: قائمة بالطوائف والفرق والمذاهب الواردة في البحث 1 - الاستشراق حقل معرفي ضخم نشأ في الغرب "أوروبا وأمريكا الشمالية" لدراسة الثقافات الشرقية "الآسيوية غالبًا" وتمثلها في الفنون المختلفة. وتعتبر الجوانب العلمية والسياسية والدينية للاستشراق هي الأبرز بين جوانبه المختلفة، فقد كانت الهاجس الرئيسي وراء نشوئه. وقد كان له دوافع مختلفة منها الديني والسياسي والاقتصادي والاستعماري وغيرها، ويقع معظم المستشرقين تحت هيمنة تكوينهم الثقافي الغربي الأساسي سواء كان نصرانيًا أم يهوديًا أم علمانيًا لا دينيًا، ويميلون نتيجة لذلك إلى التشكيك في صحة العقيدة الإسلامية، أو القول بعجز العرب بوصفهم من جنس بشري متدن عن صنع الحضارة [الموسوعة، 1/ 676، دليل الناقد الأدبي، ص 33، الموسوعة الميسرة، 2/ 687]. 2 - الاستِعْمارُ إخضاع جماعة من الناس لحكم أجنبيّ، ويُسمَّى سكان البلاد المستَعْمَرين، وتُسمَّى الأراضي الواقعة تحت الاحتلال البلاد المُستعمَرة. ومعظم المستعمَرات مفصولةٌ عن الدولة المستعمِرة "بكسر الميم الثانية" ببحارٍ ومحيطات. وغالبًا ما ترسل الدولة الأجنبية سكانًا للعيش في المستعمرات وحكمها واستغلالها مصادر للثروة. وهذا ما يجعل حكّام المستعمرات منفصلين عِرقيًا عن المحكومين [الموسوعة، 1/ 683، قاموس المصطلحات، ص 40، الموسوعة الميسرة، 2/ 953]. 3 - الأشاعرة فرقة كلامية تنتسب لأبي الحسن الأشعري، علي بن إسماعيل بن إسحاق (ت 324 هـ - 935 م). كان في أول أمره على مذهب المعتزلة. فلمّا بلغ سن الأربعين تراجع عن آرائهم وغاب عن الناس في بيته خمسة عشر يومًا، ثم خرج وأعلن للناس البراءة من الاعتزال، واتبع في هذه المرحلة طريقة عبد الله بن كلاب وفيها نوع من التوسع في استخدام العقل في أبواب العقيدة فهي مرحلة لم

يبلغ صاحبها صفاء مذهب أهل السنة وقد أخذ أتباعه بمذهبه هذا، ومنذ ذلك الحين بدأ ظهور مذهب الأشاعرة. وجاهر مؤسسه بمخالفة المعتزلة وتصدّى للرد عليهم. وقد تطور المذهب بعده وأخذ به كثير من المشاهير، وفيه مشكلات كثيرة مثل: تقديم العقل والتأويل وتعطيلهم للصفات الفعلية وعند بعضهم الخبرية أيضًا، وقولهم بالإرجاء وبالجبر وبغيرها من البدع [الموسوعة الميسرة، 1/ 86، الموسوعة، 2/ 198، موقف ابن تيمية من الأشاعرة، د. عبد الرحمن المحمود]. 4 - الآلية، انظر الفلسفة الآلية. 5 - البكداشية: طريقة صوفية كانت منتشرة بين الأتراك العثمانيين، وهي لا تزال منتشرة في ألبانيا، وهي أقرب للتصوف الشيعي من التصوف السني، وقد كان لها دور في نشر الإسلام بين الأتراك والمغول وكان لها سلطان عظيم على الحكام العثمانيين ذاتهم [الموسوعة الميسرة، 2/ 267، الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة، عبد الرحمن عبد الخالق، ص 657 - 679]. 6 - بَنَاي بْرِيث أكبر وأقدم منظمة خدمات يهودية دولية. ويعني هذا الاسم العبري أبناء العهد. أسست عام 1843 م بغرض توحيد اليهود فيما يتعلق باهتماماتهم. وتتألف هذه المجموعة من أكثر من خمسمائة ألف عضو من الرجال والنساء والشباب، يمثلون أربعة آلاف وحدة محلية في 43 بلدًا. وتوجد ضمن هذه المنظمة مجموعة خاصة بالنساء وهي منظمة منفصلة لها مراكزها الخاصة بها وتخدم 135.000 امرأة من الأعضاء. ويوجد المركز الرئيسي للمنظمة في واشنطن [الموسوعة، 5/ 128، الموسوعة الميسرة، 1/ 527]. 7 - البنيوية مذهب من المذاهب التي ظهرت في الفكر الغربي المعاصر، مؤدَّاه الاهتمام أولًا بالنظام العام لفكرة أو لعدة أفكار مرتبطة بعضها ببعض على حساب العناصر المكوّنة له، والاعتناء بالعلاقات أكثر من العناصر، ويكون ذلك من خلال اللغة. ويعرف أحيانًا باسم البنائيَّة، أو التركيبيَّة. يعد اللغوي السويسري فرديناند دي سوسير مؤسس المنهج البنيوي الذي انطلق منه علم اللغة المعاصر، وذلك في بدايات هذا القرن. لكن المنهج اكتسب انتشارًا وعمقًا على يد عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي كلود ليفي شتراوس الذي صاغ في أعقاب الحرب العالمية الثانية مذهبًا جديدًا في المعرفة له قواعده. سيطرت البنيوية على ساحة الفكر والمعرفة الغربية مدة ثلاثة عقود ثم أخذت البنيوية في الانحسار عن المسرح الفكري ابتداء من الثمانينيات، وقد عمق من فسادها ارتباطها بتيار مادي النزعة مما حولها لمنهج مناهض لما هو ديني [الموسوعة، 5/ 198، دليل الناقد

الأدبي، ص 67، مفاتيح العلوم الإنسانية، ص 86، الموسوعة الميسرة، 2/ 897]. 8 - التَّجريبيّة مذهب فلسفي يتبنّاه بعض العلماء، يَعُدُّ الخبرة أو التجربة أهم مصدر للمعرفة. يحاول التجريبيون الإجابة عن أكبر قدر ممكن من الأسئلة، وذلك باستعمال المعلومات المجمّعة عن طريق الحواس، ويرفضون النتائج التي تعتمد على الفهم المجرّد، والمعايير الدينية أو السلطة السياسية، وأخطر ما وقعوا فيه رفض المعايير الدينية [الموسوعة، 6/ 103، المعجم الفلسفي، 1/ 245، مفاتيح العلوم الإنسانية، ص 94، معجم المصطلحات والشواهد الفلسفية، ص 92]. 9 - التغريب انظر تعريفه ص (46). 10 - التلفيق، انظر مذهب التوفيق. 11 - التوفيق، انظر مذهب التوفيق. 12 - الدعوة السلفية الحديثة دعوة إصلاحية حمل لواءها في العصر الحديث الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وهي في حقيقتها امتداد لمذهب السلف وأئمة أهل السنة والجماعة، ثم قام بتجديدها الإمام محمد بن عبد الوهاب. لقد انتشرت الشركيات والبدع في نجد وغيرها خلال القرن الثاني عشر الهجري، وكثر الاعتقاد في الأشجار والأحجار والقبور والتبرك بها والنذر لها، والاستعانة بالجن والذبح لهم، وكثر الحلف بغير الله. فجاءت الدعوة السلفية لتدعو إلى العودة بالعقيدة الإسلامية إلى أصولها النقية، وتؤكد أن التوحيد أساس الإسلام. وتستمد الدعوة السلفية مذهبها الفقهي من الكتاب والسنة واتباع السلف الصالح، وتتبع في الفروع مذهب الإمام أحمد بن حنبل دون تعصب. وارتكزت الدعوة السلفية على علم السلف وأهل السنة والجماعة في القرون المفضلة ومن تبعهم من العلماء بعد ذلك وبخاصة شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن كثير والذهبي وغيرهم من علماء القرن الثامن، قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: "الإمام ابن القيم وشيخه "ابن تيمية" إمامًا حق من أهل السنة، وكتبهما عندنا من أعز الكتب غير أنا غير مقلدين في كل مسألة". اهتمت الدعوة السلفية بالتوحيد، وكان شعارها لا إله إلا الله. وركزت على مفهوم توحيد العبودية {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، ومفهوم الأسماء والصفات: وهو إثبات الأسماء والصفات التي أثبتها الله لنفسه، وأثبتها رسوله له من غير تمثيل ولا تأويل ولا تكييف. وأحيت الاجتهاد والتجديد والجهاد كعادة أهل السنة، ومنعت بناء القبور وكسوتها وإسراجها، وعملت على القضاء على البدع والخرافات، وتصدت لشطحات بعض الطرق الصوفية. أبطلت دعوة دعاء غير الله والاستعانة

وطلب الغوث من غير الله، والتوسل إلى الله بالأنبياء والأولياء وغير ذلك من الأمور الشركية. فهي دعوة لإقامة السنة الصحيحة، جاهدت مخالفيها لحملهم على اتباع تعاليم الدين الصحيح [الموسوعة، 22/ 363، الموسوعة الميسرة، 1/ 160، دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأثرها في العالم الإِسلامي، محمَّد السلمان، الدعوة الإصلاحية وأعلامها، عبد الله المطوع]. 13 - الديوبندية: تنسب إلى جامعة ديوبند ذات تأثر بالصوفية، وهي جامعة أسسها مجموعة من علماء الهند من أجل إيقاف الزحف التغريبي، أبرز شخصياتها محمد قاسم المؤسس لدار العلم بديوبند، ومن أعلامهم الشيخ أبو الحسن الندوي والمحدث حبيب الرحمن الأعظمي، وهي تتبع المذهب الحنفي في الفقه والماتريدية في الاعتقاد وتنتسب لطريقة صوفية [الموسوعة الميسرة، 1/ 304]. 14 - الرأسمالية نظام سياسي واقتصادي علماني قائم على الملكية الخاصة والربح الخاص. وسميت رأسمالية لأن الفرد بوسعه أن يمتلك الأرض ورأس المال مثل المصانع والشقق السكنية والسكك الحديدية. وتشجع الرأسمالية حرية العمل التجاري والاقتصاد الحر؛ لأنها تسمح للناس بأن يباشروا أنشطتهم الاقتصادية بصورة مباشرة ومتحررة إلى حد كبير من التدخل والتحكم الحكوميين، في هذا النظام، يمتلك الأفراد الشركات ويديرون أغلب الموارد المستخدمة في إنتاج السلع والخدمات. ومن مشاكلها: تسمح الرأسمالية بكثير من الحرية الشخصية وتهيئ مستوى عاليًا من المعيشة لكثير من الناس. لكن الرأسمالية أيضًا تولد مشكلات، وتشمل هذه المشكلات: 1 - عدم الاستقرار الاقتصادي. 2 - عدم المساواة في توزيع الثروة. 3 - إهمال الصالح العام. كما أن مشكلتها الأخطر أنها لا تعترف بالمحرمات الدينية في المعاملات المالية [الموسوعة، 11، 62، قاموس المصطلحات، ص 245، الموسوعة الميسرة، 2/ 910]. 15 - الروتارية الدولية منظمة ماسونية تضم وجوهًا اجتماعية من مختلف الاختصاصات والمجالات التجارية. لها أندية في أنحاء العالم المختلفة، وهي منظمة تتظاهر بعدم عنايتها بالدين مع أن لها صلات خفية باليهود. وتعد من أذرعة الماسونية المهمة [الموسوعة الميسرة، 1/ 532، الموسوعة، 11، 308]. 16 - الساباتية قسم من اليهود انظر تعريفها ص (401). 17 - الشيوعية مذهب فكري يقوم على الإلحاد، وأن المادة هي أساس كل شيء، ويفسر حركة التاريخ بالحتمية الاقتصادية، وهو مصطلح ذو مدلولات متعددة، فقد يكون شكلًا لحكومة، أو نظامًا اقتصاديًا، أو حركة ثورية، أو طريقة حياة، أو هدفًا أو مثلًا أعلى. وهي مجموعة أفكار عن كيف ولماذا تحركت أحداث

التاريخ وفي أي اتجاه جرت. وقد طور هذه الأفكار بشكل رئيسي فلاديمير لينين الذي كان قائدًا ثوريًا روسيًا في مطلع القرن العشرين الميلادي وذلك بالاعتماد على كتابات ماركس وإنجلز. أصبحت الشيوعية إحدى أكبر القوى في العالم التي شكلت أحداث التاريخ بعد البدايات الأولى للقرن العشرين. وموقف الإِسلام من الشيوعية موقف واضح وصريح وهو الرفض التام لكل الأسس الفكرية التي انبثقت عنها الشيوعية مثل إنكار وجود الله، وتفسير تاريخ البشرية من خلال مفهوم الصراع الطبقي، ومحاربة الأديان، ومحاربة الملكية الفردية، والمناداة بأزلية المادة وأن العوامل الاقتصادية هي المحرك الأول للأفراد والجماعات [الموسوعة الميسرة، 2/ 919، الموسوعة، 14/ 310]. 18 - الصُّوفِيَّة طريقة روحية معروفة عند بعض الشعوب ذات الحضارات القديمة تعتني بجانب الروح. وهي نزعة سلوكية وليست فرقة سياسية أو مذهبية. وتعد عند أهل السنة طريقة مبتدعة وفرقة من الفرق الضالة، ويزداد الضلال عند الغلاة منهم من أصحاب الوحدة والحلول، ومن الجائز عند الصوفية من المسلمين أن يكون الصوفي على أي مذهب من المذاهب، شيعيًا أو معتزليًا أو سنيًا. ويرى ابن خلدون أن للتصوف أربعة عناصر هي: أ- الكلام في المجاهدات وما يحصل من الأذواق والمواجيد ومحاسبة النفس على الأعمال. ب- الكلام في الكشف وفي الحقيقة المدركة من عالم الغيب. جـ- التصرفات في العوالم، والأكوان، وأنواع الكرامات. د- ألفاظ موهمة الظاهر، نطق بها أئمة القوم يعبرون عنها في اصطلاحهم بالشطحات تستشكل ظواهرها، [الموسوعة، 15/ 201، الموسوعة الميسرة، 1/ 249]. 19 - العقلانية: تقول إن العقل الأساس الوحيد للمعرفة بصرف النظر عن الحواس، وهي بهذا تكون ضد التجريبية التي تشترط الحس، وقد ارتبطت في الفكر الغربي الحديث بديكارت وأتباعه [الموسوعة الفلسفية العربية، ص 600، مفاتيح العلوم الإنسانية، ص 287، المعجم الفلسفي، 2/ 90، الموسوعة، 16/ 324]. 20 - الفلسفة الآلية: مذهب فلسفي يقرر أن بعض الظواهر الطبيعية، أو كلها، تنحل إلى جملة من العوامل الميكانيكية، وهو مرادف للمذهب المادي، وهو مضاد للغائية بحيث يفسر جميع الظواهر الطبيعية بالأسباب الفاعلة بصرف النظر عن الأسباب الغائية. يعتقد فلاسفة هذا الاتجاه أن كل المظاهر الطبيعية يمكن إدراكها بمعرفة الحجم والشكل والنظام وحركة الجزيئات الصغيرة التي يُطلق عليها الذرات أو الجسيمات، ويُلخِّص هؤلاء فلسفتهم معتقدين أن العالم ما هو إلا آلة عملاقة، فكما يؤدي تدافع التروس والزنبركات والملفات إلى تشغيل

الآلة، فإن تفاعل الذرات أو الجسيمات يؤدي إلى إحداث الظواهر الطبيعية المختلفة. لاقت الفلسفة الآلية معارضة من خلال مذهب الغائية. والنظرية الغائية تُفسِرُ الظواهر الطبيعية في إطار الغاية أو الهدف. فعلى سبيل المثال لو طرحنا على هاتين الفلسفتين هذا السؤال: لماذا تتجه النار إلى أعلى؟ فسوف نتلقى إجابتين مختلفتين. الفلسفة الآلية ستجيب عن ذلك، بأن الذرات أو الجسيمات التي تُشعل النار تتصادم وبالتالي تتدافع إلى أعلى وفقًا لقانون التصادم، أما الفلسفة الغائية فستكون إجابتها: أن النار تندلع إلى أعلى سعيًا وراء مكانها الطبيعي بعيدًا عن الأرض. وخلال القرن السابع عشر الميلادي طَوَّر كل من توماس هوبز وجون لوك في إنجلترا، ورينيه ديكارت في فرنسا فلسفة النظرية الآلية كرد فعل مضاد للنظرية الغائية، وخلال تلك الفترة أصبحت النظرية الآلية جزءًا مهمًا من الثورة الصناعية، إلا أنه مع بداية القرن التاسع عشر الميلادي، أدرك علماء الطبيعة الآلية أن الفلسفة الآلية قاصرة عن تفسير الظواهر الطبيعية مثل الكهرباء والمغنطيسية. وهكذا فإن النظرية الآلية التي تقوم أصلًا على تفسير كل عناصر الطبيعة في إطار قانون الحركة لم تعد مقبولة [الموسوعة، 17/ 460، جميل، 1/ 27، معجم مصطلحات المنطق وفلسفة العلوم، ص 27]. 21 - الليبرالية فلسفة اقتصادية وسياسية تؤكد على الحرية والمساواة وإتاحة الفُرص. وفي المقابل، فإن الفلسفة التي تُدعى المذهب المحافظ تؤكد على النظام والتقليد وحيازة الملكية الخاصة. وعلى وجه العموم يرحب الليبراليون بتغيير اجتماعي أكثر سرعة مما يفعل المحافظون. وتعتبر الليبرالية مصطلحًا غامضًا لأن معناها وتأكيداتها تبدَّلت بصورة ملحوظة بمرور السنين. الليبرالية اليوم: تعرَّضت الليبرالية في القرن العشرين لتغيُّر ذي دلالة في توكيداتها. فمنذ أواخر القرن التاسع عشر، بدأ العديد من الليبراليين يفكرون في شروط حريَّة انتهاز الفرص أكثر من التفكير في شروط التحرُّر من هذا القيد أو ذاك. وانتهوا إلى أن دور الحكومة ضروري، على الأقل من أجل توفير الشروط التي يمكن فيها للأفراد أن يحققوا قدراتهم بوصفهم بشرًا. وبحبِّذ الليبراليون اليوم التنظيم النشط من قبل الحكومة للاقتصاد من أجل صالح المنفعة العامة. وفي الواقع، فإنهم يؤيدون برامج الحكومة لتوفير ضمان اقتصادي، وللتخفيف من معاناة الإنسان. وهذه البرامج تتضمَّن: التأمين ضد البطالة، وقوانين الحد الأدنى من الأجور، ومعاشات كبار السن، والتأمين الصحي. ويؤمن الليبراليون المعاصرون بإعطاء الأهمية الأولى لحرية الفرد. غير أنهم يتمسكون بأن على الحكومة أن تزيل بشكل فعال العقبات التي تواجه التمتُّع بتلك الحرية. واليوم، يطلق على أولئك الذين يؤيدون الأفكار الليبرالية القديمة المحافظون (21/ 243، الموسوعة الميسرة، 2/ 1135).

22 - الماسونية منظمة سرية محكمة التنظيم تهدف إلى ضمان سيطرة اليهود على العالم وتدعو إلى الإلحاد والإباحية والفساد. وجل أعضائها من الشخصيات المرموقة في العالم، يوثقهم عهد بحفظ الأسرار ويجتمعون بما يسمى بالمحافل للتخطيط والتكليف بالمهام. ولم يعرف التاريخ منظمة سرية أقوى نفوذًا من الماسونية، فلها محافل في كل أنحاء العالم تقريبًا، حيث تستقطب هذه المحافل الشخصيات المؤثرة في كل بلد لضمان سيطرتها عليه. وهي تسيطر على بعض الجمعيات والمنظمات الدولية ومنظمات الشباب، وبعض وسائل الإعلام ودور النشر والصحافة في العالم. وبيدها الكثير من موارد الاقتصاد ووسائل الإنتاج في العالم [الموسوعة، 22/ 85، الموسوعة الميسرة، 1/ 510، وانظر ص 580 من البحث]. 23 - المِثاليَّة في الفلسفة نظرية يرى أصحابها أن الحقيقة المطلقة كامنة في عالم يتعدى عالم المادة "المحسوس". ويرون أن الحقيقة كامنة في الوعي أو العقل أو الروح. وطبقًا لهذه النظرة، فإن الحقيقة إما عقلية أو روحانية. ويُطلق على النظرة الفلسفية المعارضة المادية، حيث تمسَّك المادّيون بأن الحقيقة تتكون من الأشياء الموضوعية المادية وحدها وتحكمها قوة مادية بحتة [الموسوعة الميسرة، 2/ 815، جميل، 2/ 337، موسوعة بدوي، 2/ 439، الموسوعة، 22/ 247]. 24 - مذهب التوفيق: مذهب التوفيق هو الجمع بين الآراء والمذاهب المختلفة، ومحاولة التأليف بينها، لتكوين مذهب واحد متماسك، ويختلف عن مذهب التلفيق بتعمقه في بواطن الأمور وحرصه على التنظيم الدقيق، والتوحيد المتماسك، بخلاف التلفيق فهو جمع بين أمور بصورة متكلفة وفرض مصالحة مصطنعة. [جميل، 1/ 365، الموسوعة الفلسفية العربية، 296، قاموس المصطلحات، ص 156]. 25 - المذهب الحسي: مذهب القائلين أن المعرفة لا تنشأ إلا عن الإحساس، أو هو القول أن جميع معارفنا ناشئة عن الإحساسات، وأن المعقول هو المحسوس ويعد هذا المذهب صورة من صور المذهب التجريبي، [جميل، 1/ 44، 470]. 26 - المذهب الطبيعي، انظر الطبيعة. 27 - مذهب المنفعة نظرية أخلاقية غربية لا دينية تربط بين صحة السلوك ونتائجه، وأن الخير الأسمى هو تحقيق أكبر سعادة لأكبر عدد من الناس. طور هذه النظرية الفلاسفة البريطانيون جيرمي بينثام، وجيمس ميل، وجون ستيوارت ميل، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين. يعتقد مؤيدو هذا المذهب بأن الفعل يكون أخلاقيًا، إذا قاد إلى تحقيق نتائج أحسن [الموسوعة الميسرة، 2/

808، الموسوعة، الموسوعة العربية الفلسفية، ص 792، قاموس المصطلحات، ص 453، الموسوعة، 23/ 64]. 29 - المعتزلة فرقة إسلامية، اعتمدت على العقل المجرد في فهم العقيدة الإسلامية لتأثرها ببعض الفلسفات مما أدى إلى انحرافها عن عقيدة أهل السنة، وقد شغلت الفكر الإسلامي في العصر العباسي وقاومها علماء الإسلام. ومؤسسها هو واصل بن عطاء على أشهر الأقوال. غلوا في فهمهم للعقل وأنكروا الحديث المتواتر وردوا حديث الآحاد وأنكروا الكثير من الأحاديث التي تعارض مبادئهم وأصولهم الخمسة. تتلخص عقيدة المعتزلة في الأصول الخمسة الجامعة لمذهبهم، وهي التوحيد والعدل والوعد والوعيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمنزلة بين المنزلتين، ويحوي كل أصل صورًا من الانحراف عن الحق، فمما يحويه التوحيد تعطيل الصفات، ومما يحويه العدل تعطيل القدر، وهكذا، ومن الملاحظ أن طائفة من المتغربين قد تحمسوا لإحياء الاعتزال من جديد [الموسوعة الميسرة، 1/ 64، الموسوعة، 23/ 440]. 30 - النَّصْرانيّة ديانة سماوية أُنزلَتْ على عيسى -عليه السلام- مكملة لرسالة موسى -عليه السلام- ومتممة لما جاء في التوراة من تعاليم، وموجهة خاصة لبني إسرائيل. ولكن التحريف دخل هذه الديانة كما حرِّفت اليهودية؛ الأمر الذي أشار إليه القرآن الكريم، وأثبتته الدراسات النقدية الحديثة لمصادر النصرانية ومعتقداتها. بعد رفع عيسى -عليه السلام- حمل الدعوة من بعده الحواريون الذين كانوا مناصرين له ومؤمنين برسالته، وباستمرار الدعوة استمرت المحاربة والاضطهاد من جانب الأباطرة الرومان، فطاردوا الموحدين من النصارى أتباع عيسى، ولم يرفع عنهم الاضطهاد إلا عام (313 م)، وخلال تلك القرون الثلاثة، كان هناك صراع يدور بين حواريي عيسى والجماعات التي كانت امتدادًا لهم، أو ما يعرفون بالنصرانية اليهودية الموحدة، وبين تيار نصراني آخر كان يقوده بولس؛ الذي كان يهوديًا متعصبًا ضد النصارى، وممن شارك في اضطهادهم ثم انقلب فجأة مدافعًا عنهم مدعيًا أنه تلقى وحيًا ضمنه فيما يعرف بالرسائل المنسوبة إليه، واستمر هذا الصراع حتى تغلب تيار بولس وأسكت صوت التوحيد. وظهرت نصرانية مستندة إلى تعاليم بولس التي استمدها من الفلسفات القديمة والديانات الوثنية. فأدخل في النصرانية تأليه المسيح وعقيدة التثليث وأفكار الصلب والفداء والتعميد، إلى غير ذلك من العقائد، وما زال العالم النصراني كله إلى الآن أو معظمه يعيش على فتات هذا الرجل ومعتقداته التي حرّف بها النصرانية [الموسوعة الميسرة، 2/ 564، الموسوعة، 25/ 259]. 31 - الهاسيدية قسم من اليهود انظر تعريفها ص (401).

32 - الوجودية حركة فلسفية ظهرت في أوروبا أثناء القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين غلت في قيمة الإنسان مع أنها في حقيقتها أهدرت قيمته بتصوراتها العقيمة. وسميت الوجودية لأن معظم أعضائها اهتموا مبدئيًا بطبيعة الوجود أو الكينونة، فقصدوا بمصطلح الوجود الوجود البشري، وتُعدُّ الوجودية -إلى حد كبير- ثورة ضد فلسفة أوروبا التقليدية التي وصلت ذروتها لدى الفلاسفة الألمان: كانط وهيجل. وهم يرون أن الفلسفات والمذاهب لم تحل مشكلة الإنسان ولهذا هم يبحثون عن حلّ [الموسوعة الميسرة، 2/ 818، الموسوعة، 27/ 52، الموسوعة الفلسفية العربية "المدارس" 2/ 1504]. 33 - الوضعية المنطقية. انظر الفلسفة الوضعية. 34 - اليهود أتباع رسول الله موسى -عليه السلام-، وهم أحد الشعوب السامية القديمة التي يُطلق عليها اسم العبرانيين. وقد عاشوا في مصر فترةً، وفي بابل فترةً، وفي فلسطين فترة، وقد وقع لهم الانقسام والتمزق والزوال بعد موت سليمان -عليه السلام-. وبنهاية القرن الثالث الميلادي تشتتوا في مجتمعات صغيرة تمتد من أسبانيا غربًا حتى الهند شرقًا. ووفقًا للاصطلاح الواسع ينقسم اليهود إلى مجموعتين: الأشكينازيم، والسفارديم. يشمل الأشكينازيم يهود وسط أوروبا وشرقها وأحفادهم، أما السفارديم فيمثلون أحفاد اليهود الذين طردهم النصارى من أسبانيا والبرتغال في أواخر القرن الرابع عشر بعد أفول الدولة الإِسلامية أو اليهود الذين عاشوا في مناطق البحر المتوسط [الموسوعة، 27/ 336، الموسوعة الميسرة، 1/ 495، الفكر الديني اليهودي. أطواره ومذاهبه، د. حسن ظاظا].

ثالثا: قائمة المراجع والمصادر

ثالثًا: قائمة المراجع والمصادر 1 - أبحاث ندوة علم النفس، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، مجموعة متخصصين في علم النفس، هيرندون -الولايات المتحدة الأمريكية، الطبعة الأولى، 1413 هـ- 1993 م. 2 - أبعاد الدين الاجتماعية (سلسلة العلوم الاجتماعية - إشراف الأستاذ عبد الوهاب بوحديبة)، تعريب صالح البكاري، العربية للكتاب، طبعة 1985 م. 3 - ابن رشد اليوم (الأصولية والعلمانية في الشرق الأوسط)، مراد وهبة وَمنى أبو سنة، من سلسلة ابن رشد اليوم عدد (2)، قباء، القاهرة، الطبعة الثانية، 2000 م. 4 - أبو الأعلى المودودي - حياته وفكره، حمد صادق الجمال، المدني، جدة، الطبعة الأولى، 1406 هـ-1986 م. 5 - الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة 1798 - 1914 م الاتجاهات الدينية والسياسية والاجتماعية والعلمية، الأهلية، بيروت، طبعة 1987 م. 6 - الاتجاهات الفكرية في الأدب المعاصر، د. محمد محمد حسين، الرسالة، بيروت، الطبعة السابعة، 1405 هـ - 1984 م. 7 - الاتجاهات والمدارس في علم الاجتماع - دراسة في فلسفة العلم (الإبستمولوجيا)، عبد الله إبراهيم، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء -بيروت، الطبعة الأولى، 2005 م. 8 - أثر العرب في الحضارة الأوروبية، عباس العقاد، المعارف، مصر، الطبعة الثانية، 1963 م. 9 - أحاديث في التربية والاجتماع، أبو خلدون ساطع الحصري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الثانية، 1985 م.

10 - الأحكام التقويمية - الجمال والأخلاق، د. رمضان الصباغ، الوفاء، الإسكندرية، الطبعة الأولى، 1998 م. 11 - إحياء علوم الدين، الإِمام أبو حامد محمد بن محمد الغزالي، الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1406 هـ - 1986 م. 12 - الأخلاق الإِسلامية، عبد الرحمن الميداني، القلم، دمشق، الطبعة الأولى، 1399 هـ - 1979 م. 13 - الأخلاق الفاضلة - قواعد ومنطلقات لاكتسابها، د. عبد الله بن ضيف الله الرحيلي، دون بيانات عن الدار، الطبعة الأولى، 1417 هـ - 1996 م. 14 - الأخلاق بين الفلسفة وعلم الاجتماع، د. السيد محمد بدوي، المعرفة الجامعية، الإسكندرية، طبعة 1994 م. 15 - الأخلاق عند فرويد - دراسة تحليلية ونقدية، محمد علي العجيلي، قدم له د. عادل العوا، دار طلاس، الطبعة الأولى، 1989 م. 16 - الأخلاق عند كنت، عبد الرحمن بدوي، وكالة المطبوعات، الكويت، طبعة 1979 م. 17 - أخلاقيات العلم، ديفيد ب. رزنيك، ترجمة: د. عبد النور عبد المنعم، مراجعة أ. د. يمنى طريف الخولي، عالم المعرفة، الكويت، رقم (316)، 1426 هـ - 2005 م. 18 - أدب نجيب محفوظ وإشكالية الصراع بين الإِسلام والتغريب، د. السيد أحمد فرج، الوفاء، المنصورة -مصر، الطبعة الأولى، 1410 هـ - 1990 م. 19 - الأدلة العقلية النقلية على أصول الاعتقاد، سعود عبد العزيز العريفي، عالم الفوائد، مكة المكرمة، الطبعة الأولى، 1419. 20 - الأدلة القواطع والبراهين في إبطال أصول الملحدين، عبد الرحمن الناصر بن سعدي، الرسالة -بيروت، الرشد- الرياض، الطبعة الثانية، 1403 هـ - 1983 م. 21 - الأديان في علم الاجتماع، جان - بول ويلّيم، ترجمة: بسمة بدران، المؤسسة الجامعية، بيروت، الطبعة الأولى، 1421 هـ - 2001 م. 22 - إرشاد الفحول إلى تحقيق علم الأصول، الإمام محمد بن علي الشوكاني، تحقيق: محمد البدري، الكتب العلمية الثقافية، بيروت، الطبعة السابعة، 1417 هـ- 1997 م. 23 - أزمة الخطاب التقدمي العربي في منعطف الألف الثالث -الخطاب الماركسي نموذجًا، تركي علي الربيعو، المنتخب العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1415 هـ - 1995 م.

24 - الأزهر على مسرح السياسة المصرية - دراسة في تطور العلاقة بين التربية والسياسة، د. سعيد إسماعيل علي، الثقافة، القاهرة، طبعة 1974 م. 25 - الأزهر في ألف عام، د. بيارد دودج، ترجمة: د. حسين فوزي النجار، الهيئة المصرية العامة للكتاب، طبعة 1994 م. 26 - الأزهر ومشاريع تطويره (1289 - 1390 هـ / 1872 - 1970 م)، مخلص الصيادي، الراشد، بيروت، الطبعة الأولى، 1992 م. 27 - الأزهر، فوللرس وَجومييه، الكتاب اللبناني، بيروت، الطبعة الأولى، 1404 هـ -1984 م 28 - أساسيات التأصيل والتوجيه الإسلامي للعلوم والمعارف والفنون، أ. د. مقداد يالجن، عالم الكتب الرياض، الطبعة الأولى، 1416 هـ - 1996 م. 29 - الاستقراء والمنهج العلمي، د. محمود فهمي زيدان، الوفاء، الإسكندرية، الطبعة الأولى، 2002 م. 30 - إسحاق نيوتن والثورة العلمية، جيل كريستيانسن، تعريب مروان البواب، العبيكان، الرياض، الطبعة الأولى، 1425 هـ - 2005 م. 31 - أسرار النفس، سلامة موسى، سلامة موسى للنشر والتوزيع، دون بيانات. 32 - الأسس الإبسمولوجية لتاريخ الطب العربي - رؤية معرفية في تاريخ الحضارات، د. خالد أحمد حسنين حربى، الوفاء، الإسكندرية، الطبعة الأولى، 2006 م. 33 - أسس التقدم عند مفكري الإِسلام، د. فهمي جدعان، الشروق، عمان - الأردن، الطبعة الثالثة، 1988 م. 34 - أسس الفلسفة الماركسية، ق. افاناسييف، ترجمة: عبد الرزاق الصافي، الفارابي، بيروت، الطبعة الثالثة، 1978 م. 35 - الأسس الفلسفية للعلمانية، عادل ضاهر، الساقي، بيروت -لندن، الطبعة الثانية، 1998 م. 36 - الأسس الفلسفية للفيزياء (مدخل إلى فلسفة العلوم)، رودلف كارناب، ترجمة وتقديم وتعليق: د. السيد نفادي، التنوير، بيروت، الطبعة الأولى، 1993 م. 37 - أسس المنطق والمنهج العلمي، د. محمد فتحي الشنيطي، النهضة العربية، بيروت، طبعة 1970 م. 38 - الأسس الميتافيزيقية للعلم، د. حسين علي حسن، مطبوعات جامعة الكويت، الطبعة الأولى، 1997 م.

39 - الأسطورة والتراث، سيد محمود القمني، سينا، القاهرة، الطبعة الثانية، 1993 م. 40 - الإسلام دين العلم والمدنية، الشيخ محمد عبده، تحقيق: د. عاطف العراقي، قباء، غريب، الطبعة الأولى، 1998 م. 41 - الإسلام والاقتصاد -دراسة في المنظور الإِسلامي لأبرز القضايا الاقتصادية والاجتماعية المعاصرة، د. عبد الهادي علي النجار، عالم المعرفة، الكويت، رقم (63)، طبعة 1403 هـ - 1983 م. 42 - الإِسلام والحداثة، ندوة مواقف، مجموعة كتاب، الساقي، لندن، الطبعة الأولى، 1990 م. 43 - الإسلام والحضارة الغربية، د. محمد محمد حسين، الرسالة، بيروت، الطبعة الخامسة، 1402 هـ - 1982 م. 44 - الإسلام والربا، أنور إقبال قرشي، ترجمة: فاروق حلمي، مصر للطباعة، دون بيانات أخرى. 45 - الإسلام والعلم التجريبي، د. يوسف السويدي، مكتبة الفلاح، الكويت، الطبعة الثانية، 1420 هـ -2000 م. 46 - الإسلام والعلم بين الأفغاني ورينان، د. محمد عثمان الخشت، قباء، القاهرة، طبعة 1998 م. 47 - الإسلام والعلم، د. منصور محمد حسب النبي، المعارف، القاهرة، دون بيانات أخرى. 48 - الإسلام والعلمانية وجها لوجه .. ، د. يوسف القرضاوي، الصحوة، القاهرة، الطبعة الأولى، 1408 هـ - 1987 م. 49 - الإسلام والمسيحية، أليكسي جورافسكي، ترجمة: د. خلف محمد الجراد، راجعها وقدم لها أ. د. محمود حمدي زقزوق، عالم المعرفة (215)، الكويت، طبعة 1417 هـ - 1996 م. 50 - الإسلام يتحدى، وحيد الدين خان، تعريب ظفر الإسلام خان، مراجعة وتحقيق: د. عبد الصبور شاهين، الرسالة، بيروت، الطبعة التاسعة، 1405 هـ - 1985 م. 51 - الإسلام: الأخلاق والسياسة، محمد أركون، ترجمة: هاشم صالح، اليونسكو بالتعاون مع مركز الإنماء القومي، باريس - بيروت، الطبعة الأولى، 1990 م. 52 - الإسلام، أوروبا، الغرب، رهانات المعنى وإرادات الهيمنة، محمد أركون، ترجمة: هاشم صالح، الساقي، بيروت -لندن، الطبعة الأولى، 1995 م.

53 - إسلامية المعرفة (المبادئ العامة - خطة العمل - الإنجازات)، إسماعيل فاروقي، الهادي، بيروت، الطبعة الأولى، 1421 هـ - 2001 م. 54 - الإشارات العلمية في القرآن الكريم بين الدراسة والتطبيق، د. كارم السيد غنيم، الفكر العربي، القاهرة، الطبعة الأولى، 1415 هـ - 1995 م. 55 - إشكالية التحيز -رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد- محور علم الاجتماع، تحرير: د. عبد الوهاب المسيري، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، هيرندن -فرجينيا- الولايات المتحدة الأمريكية، الطبعة الثالثة، 1418 هـ - 1998 م. 56 - إشكالية الهوية في إسرائيل، د. رشاد الشامي، عالم المعرفة (224)، الكويت، طبعة 1418 هـ - 1997 م. 57 - أصل الإنسان بين العلم والفلسفة والدين، د. سامي عابدين، دار الحرف العربي، بيروت، 1427 هـ -2006 م. 58 - أصل الدين، فيورباخ، دراسة وترجمة: د. أحمد عبد الحليم عطية، المؤسسة الجامعية، الطبعة الثانية، 1425 هـ - 2005 م. 59 - الإصلاح التعليمي بالمغرب 1956 - 1994 م، المكي المروني، النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1996 م. 60 - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، عالم الكتب، بيروت، دون بيانات أخرى. 61 - أضواء على الفكر الماركسي الكلاسيكي. لينين (المادية ومذهب نقد التجربة) إعداد توفيق سلوم، الفارابي، بيروت، الطبعة الأولى، 1986 م. 62 - الاعتصام، الإِمام أبو إسحاق الشاطبي -إبراهيم بن موسى، الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1408 هـ - 1998 م. 63 - أعلام الفكر الإِسلامي في العصر الحديث، للعلامة المحقق أحمد تيمور، الآفاق العربية، القاهرة، طبعة 1423 هـ - 2003 م. 64 - إعلام الموقعين عن رب العالمين، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر، ابن قيم الجوزية، راجعه طه عبد الرؤوف سعد، الكتب العلمية، بيروت، دون بيانات أخرى. 65 - أعلام تونسيون، الصادق الزمرلي، تقديم: وتعريب حمادي الساحلي، الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1986 م. 66 - الأعلام قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين، خير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الثامنة، 1989 م.

67 - الأعمال الكاملة للإمام الشيخ محمد عبده، تحقيق وتقديم: د. محمد عمارة، الشروق، بيروت والقاهرة، الطبعة الأولى، 1414 هـ - 1993 م. 68 - آفاق الفلسفة، د. فؤاد زكريا، مكتبة مصر، مصر، دون بيانات أخرى. 69 - أفي الله شك؟ بحث في علاقة العلم بالإيمان، د. حمد المرزوقي، بيرسان، دون بيانات أخرى. 70 - أقدم لك. . . . علم الاجتماع، ريشارد أوزبرن - وبورن فان لون، ترجمة: حمدي الجابري، مراجعة وإشراف وتقديم: إمام عبد الفتاح إمام، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2005 م. 71 - أقوم المسالك لخير الدين، انظر خير الدين التونسي وكتابه أقوم المسالك. 72 - الإكليل في استنباط التنزيل، الشيخ جلال الدين السيوطي، الكتب العلمية، بيروت، دون بيانات أخرى. 73 - إلا العلم يا مولاي - الثقافة العلمية بعيون بيولوجية، د. أحمد شوقي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، طبعة 2004 م. 74 - الإلحاد الديني في مجتمعات المسلمين - نشأته وتطوّره ومذاهبه المعاصرة، د. صابر عبد الرحمن طعيمة، الجيل، بيروت، الطبعة الأولى، 1425 هـ - 2004 م. 75 - الإله اليهودي (بحث في العلاقة بين الدين وعلم النفس)، ك، غ، يونغ، ترجمة: نهاد خياطة، دار الحوار، اللاذقية - سوريا، الطبعة الأولى، 1986 م. 76 - الإمام الشوكاني حياته وفكره، د. عبد الغني قاسم غالب، الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1408 هـ - 1988 م. 77 - الإمام الشوكاني رائد عصره - دراسة في فقهه وفكره، د. حسين عبد الله العمري، الفكر، دمشق، الفكر المعاصر، بيروت، الطبعة الأولى، 1411 هـ - 1990 م. 78 - الإمام ابن كثير - سيرته - مؤلفاته - منهجه في كتابه التاريخ, د. مسعود الرحمن خان الندوي، ابن كثير، دمشق، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 1999 م. 79 - الإمام محمد عبده - مجدد الدنيا بتجديد الدين، د. محمد عمارة، الشروق، القاهرة - بيروت، الطبعة الثانية، 1408 هـ -1988 م. 80 - الإمام محمد عبده ومنهجه في التفسير، د. عبد الغفار عبد الرحيم، المركز العربي للثقافة والعلوم، دون بيانات أخرى. 81 - إمانويل كنت، د. عبد الرحمن بدوي، وكالة المطبوعات، الكويت، الطبعة الأولى، 1977 م.

82 - الأنا والهو، سيجمند فرويد، ترجمة: د. محمد نجاتي، الشروق، القاهرة - بيروت، الطبعة الخامسة، 1408 هـ -1988 م. 83 - الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها - دراسة نقدية شرعية، د. سعيد بن ناصر الغامدي، الأندلس الخضراء، جدة، الطبعة الأولى، 1424 هـ - 2003 م. 84 - الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين وآثارها في حياة الأمة، علي بن بخيت الزهراني، الرسالة، مكة، دون بيانات أخرى. 85 - الإنسان الحائر بين العلم والخرافة، د. عبد المحسن صالح، عالم المعرفة (235)، الكويت، طبعة 1419 هـ - 1998 م. 86 - الإنسان المعاصر في التحليل النفسي الفرويدي، د. فيصل عباس، المنهل، بيروت، الطبعة الأولى، 1424 هـ - 2004 م. 87 - الإنسان بين المادية والإِسلام، محمد قطب، دار الشروق، القاهرة، الطبعة العاشرة، 1409 هـ - 1989 م. 88 - الإنسان ذلك المجهول، ألكسيس كاريل، تعريب شفيق أسعد فريد، المعارف، بيروت، طبعة 1414 هـ - 1993 م. 89 - الإنسان في العالم الحديث، جوليان هكسلي، ترجمة: حسن خطاب، سلسلة الألف كتاب رقم (73)، النهضة المصرية، دون بيانات أخرى. 90 - الإنسان في فلسفة فيورباخ، د. أحمد عبد الحليم عطية، التنوير، بيروت، الطبعة الأولى، 2005 م. 91 - الإنسان قمة التطور، سلامة موسى، سلامة موسى للنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1961 م. 92 - الإنسان وعلم النفس، د. عبد الستار إبراهيم، عالم المعرفة، الكويت، رقم (86)، 1405 هـ - 1985 م. 93 - الأهواء والفرق والبدع عبر تاريخ الإِسلام، د. ناصر العقل، الوطن، الرياض، الطبعة الأولى، 1415 هـ. 94 - أوروبا والإسلام - صدام الثقافة والحداثة، هشام جعيط، الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 1995 م. 95 - الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى، الشيخ محمد متولي الشعراوي، بعناية أحمد الزعبي، القلم، بيروت، دون بيانات أخرى. 96 - الأيديولوجيا والتربية - مدخل لدراسة التربية المقارنة، د. عبد الغني عبود، الفكر العربي، دون مكان، الطبعة الثالثة، 1980 م.

97 - الإيمان والتقدم العلمي، د. خالص مجيب جلبي، د. هاني رزق، الفكر، دمشق، الطبعة الأولى، 1421 هـ - 2000 م. 98 - الإيمان والمعرفة والفلسفة، د. محمد حسين هيكل، المعارف، القاهرة، الطبعة الثانية، دون تاريخ. 99 - أين القمر، انظره في رسالة في علم النجوم. 100 - أينشتين والنسبية، مصطفى محمود، المعارف، القاهرة، الطبعة السابعة، دون تاريخ. 101 - أينشتين، د. محمد عبد الرحمن مرحبا، عويدات، بيروت - باريس، الطبعة الأولى، 1983 م. 102 - البحث عن الحقيقة - الوعي البشري وحقائق الكون، عبد الله حمد المعجل، الساقي، بيروت - لندن، الطبعة الأولى، 2001 م. 103 - البحث عن حياة على المريخ - الصخرة المريخية ولغز الحياة، دونالد جولد سميث، ترجمة: د. إيهاب محمد، عالم المعرفة (288)، الكويت، طبعة 1423 هـ - 2002 م. 104 - بحوث المؤتمر الدولي حول العلم والمعرفة في العالم العثماني، مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الاسمية بإستانبول، إعداد صالح سعدادي، طبعة 2000 م. 105 - بداية الخلق، الحافظ الإمام ابن كثير، (وهو مستل من البداية والنهاية)، تحقيق: إبراهيم محمد الجمل، الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 1408 هـ - 1988 م. 106 - البداية والنهاية، عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن كثير، تحقيق: علي شيري، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1408 هـ. 107 - البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، للقاضي العلامة محمد بن علي الشوكاني، الكتاب الإسلامي، القاهرة، دون بيانات أخرى. 108 - براهين وأدلة إيمانية، الشيخ عبد الرحمن حسن الميداني، القلم، دمشق، الطبعة الأولى، 1408 هـ - 1987 م. 109 - البروتوكولات واليهودية والصهيونية، د. عبد الوهاب المسيري، الشروق، القاهرة، الطبعة الثانية، 2003 م. 110 - برونشفيك وباشلار بين الفلسفة والعلم - دراسة نقدية مقارنة، د. السيد شعبان حسن، التنوير، بيروت، الطبعة الأولى، 1993 م.

111 - بلشفة الإسلام عند الماركسيين والاشتراكيين العرب، د. صلاح الدين المنجد، الكتاب الجديد، دون مكان، الطبعة الثانية، 1967 م. 112 - البنوك الإسلامية بين النظرية والتطبيق، د. عبد الله محمد الطيار، الوطن، الرياض، الطبعة الثانية، 1414 هـ. 113 - البنى الأساسية في علم الأخلاق، د. محمد الجبر، المعرفة، دمشق، الطبعة الأولى، 1414 هـ - 1994 م. 114 - بني المقدس عند العرب قبل الإسلام وبعده، يوسف شُلحُد، تعريب خليل أحمد خليل، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 1996 م. 115 - بنية الثورات العلمية، توماس كون، ترجمة: شوقي جلال، عالم المعرفة (168)، الكويت، طبعة 1413 هـ - 1992 م. 116 - بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار، العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي، المؤيد، الرياض، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 1999 م. 117 - بولس وتحريف المسيحية، هيم ماكبي، ترجمة: سميرة عزمي الزين، منشورات المعهد الدولي للدراسات الإنسانية، دون مكان، الطبعة الأولى، 1411 هـ - 1991 م. 118 - بونابرت في مصر، ج. كرستوفر هيرولد، ترجمة: فؤاد أندراوس، مراجعة د. محمد أحمد أنيس، الهيئة المصرية العامة للكتاب، طبعة 1986 م. 119 - بيت الحكمة (الجمهورية التونسية - وزارة الثقافة والإعلام)، وفيه مقال (انتقال العلوم العربية والحضارة الإسلامية إلى الغرب - د. محمد السويسي)، دون بيانات. 120 - تاج العروس من جواهر القاموس، محمد مرتضى الزبيدي، تحقيق: علي شيري، الفكر، بيروت، طبعة 1414 هـ - 1994 م. 121 - التاريخ الإِسلامي (الوجيز)، د. محمد سهيل طقّوش، النفائس، بيروت، الطبعة الأولى، 1423 هـ -2002 م. 122 - تأريخ التشريع ومراحله الفقهية - دراسة تأريخية ومنهجية، أ. د. عبد الله بن عبد المحسن الطريقي، دون بيانات أخرى. 123 - تاريخ الجبرتي، انظره في تاريخ عجائب. 124 - تاريخ الدراسات العربية في فرنسا، د. محمود المقداد، المعرفة، الكويت، برقم (167)، طبعة 1413 هـ - 1992 م. 125 - تاريخ الدولة العثمانية، الأمير شكيب أرسلان، تحقيق: حسن السماحي سويدان، ابن كثير والتربية - دمشق، الطبعة الأولى، 1422 هـ -2001 م.

126 - تاريخ الشعوب الإسلامية، كارل بروكلمان، نقله إلى العربية نبيه أمين فارس، منير البعلبكي، العلم للملايين، بيروت، طبعة 2002 م. 127 - تاريخ العلوم العام، بإشراف رنيه تاتون، ترجمة: د. علي مقلد، المؤسسة الجامعية، بيروت، طبعة 1988 م. 128 - تاريخ الفقه الإسلامي، د. عمر سليمان الأشقر، الفلاح - دار النفائس، الكويت، الطبعة الثانية، 1410 هـ - 1989 م. 129 - تاريخ الفكر الاقتصادي - ابتداءً بنشأته وانتهاءً بالماركسية، د. محسن كاظم، جامعة الكويت، الكويت، الطبعة الأولى، 1409 هـ - 1989 م. 130 - تاريخ الفكر الاقتصادي الماضي صورة الحاضر، جون كينيث، ترجمة: أحمد بلبع، تقديم: إسماعيل صبري، عالم المعرفة (261)، الكويت، طبعة 1421 هـ -2000 م. 131 - تاريخ الفكر المصري الحديث من الحملة الفرنسية إلى عصر إسماعيل، الخلفية التاريخية: الفكر السياسي والاجتماعي، د. لويس عوض، مدبولي، القاهرة، الطبعة الرابعة، 1987 م. 132 - تاريخ الفكر المصري الحديث من عصر إسماعيل إلى ثورة: 1919 م، المبحث الثاني: الفكر السياسي والاجتماعي (الجزء الأول)، د. لويس عوض، مدبولي، القاهرة، الطبعة الأولى، 1406 هـ -1986 م. 133 - تاريخ الفلسفة (الفلسفة الحديثة 1850 - 1945 م)، إميل برهييه، ترجمة: جورج طرابيشي، الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 1987 م. 134 - تاريخ الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط، يوسف كرم، القلم، بيروت، دون بيانات أخرى. 135 - تاريخ الفلسفة الحديثة، يوسف كرم، القلم، بيروت، دون بيانات أخرى. 136 - تاريخ الفلسفة الغربية (الكتاب الثالث) الفلسفة الحديثة، برتراند رسل، د. محمد فتحي الشنيطي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، طبعة 1977 م. 137 - تاريخ الفلسفة والعلم في أوروبا الوسيطة، تأليف: جونو وبوجوان. ترجمة: د. علي زيعور، د. علي مقلد، مؤسسة عز الدين، بيروت، 1414 هـ - 1993 م. 138 - تاريخ الفلسفة والعلم في أوروبا الوسيطة، تأليف: جونو وبوجوان. ترجمة: د. علي زيعور، د. علي مقلد. 139 - تاريخ الماسون، جرجي زيدان، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، دون بيانات أخرى.

140 - التاريخ المعاصر - أوروبا من الثورة الفرنسية إلى الحرب العالمية الثانية، د. عبد العزيز نوار وصاحبه، النهضة العربية، بيروت، طبعة 1406 هـ - 1986 م. 141 - تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار، العلامة الشيخ عبد الرحمن بن حسن الجبرتي، تصحيح إبراهيم شمس الدين، الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1417 هـ - 1997 م. 142 - تاريخ علم الاجتماع، الجزء الأول - مرحلة الرواد، د. محمود عودة، دار النهضة العربية، بيروت، دون بيانات أخرى. 143 - تاريخية الفكر العربي الإسلامي، محمد أركون، ترجمة: هاشم صالح، مركز الإنماء القومي -بيروت، المركز الثقافي العربى- الدار البيضاء وبيروت، الطبعة الثانية، 1996 م. 144 - التأصيل الإسلامي للعلوم - المفهوم والمنهج، د. إبراهيم عبد الرحمن رجب وَد. عبد الرحمن زيد الزنيدي، الندوة العالمية للشباب الإسلامي، الرياض، الطبعة الأولى، 1425 هـ - 2004 م. 145 - التأصيل الاسلامي للعلوم الاجتماعية (المفهوم - المنهج - المداخل - التطبيقيات)، د. إبراهيم عبد الرحمن رجب، عالم الكتب، الرياض، الطبعة الأولى، 1416 هـ - 1996 م. 146 - تجديد الفكر العربي، د. زكي نجيب محمود، الشروق، بيروت - القاهرة، الطبعة السابعة، 1402 هـ - 1982 م. 147 - تجديد المنهج في تقويم التراث، د. طه عبد الرحمن، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء - بيروت، الطبعة الثانية، دون تاريخ. 148 - التجديد في الفكر الإسلامي، د. عدنان محمد إمامة، ابن الجوزي، الرياض، الطبعة الأولى، 1424 هـ. 149 - تحرير المرأة، قاسم أمين، الهيئة المصرية العامة للكتاب، طبعة 1993 م. 150 - التحرير والتنوير، سماحة الأستاذ الإمام الشيخ محمد الطاهر عاشور، مكتبة المدينة المنورة، دون بيانات أخرى. 151 - التحليل النفسي للذات العربية - أنماطها السلوكية والأسطورية، د. علي زيعور، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الثالثة، 1982 م. 152 - التحليل النفسي للرجولة والأنوثة من فرويد إلى لاكان، البرفسور عدنان حب الله، الفارابي، بيروت، الطبعة الأولى، 2004 م. 153 - التحليل النفسي من فرويد إلى لاكان، عدنان حب الله، مركز الإنماء القومي، بيروت، دون بيانات أخرى.

154 - تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي 1930 - 1970 م، د. محمد جابر الأنصاري، دلمون، نيقوسيا، الطبعة الثانية، دون تاريخ. 155 - تخليص الإبريز في تلخيص باريز، رفاعة رافع الطهطاوي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، طبعة 1993 م. 156 - التدمرية - تحقيق الإثبات للأسماء والصفات وحقيقة الجمع بين القدر والشرع، شيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق: محمد عودة السعوي، العبيكان، الرياض، الطبعة الأولى، 1405 هـ - 1985 م. 157 - تراث الإسلام، جوزيف شاخت وغيره، ترجمة: د. محمد زهير وغيره، عالم المعرفة، الكويت، برقم (233)، طبعة 1419 هـ - 1998 م. 158 - تراث الإنسانية، الجزء التاسع، إشراف د. أحمد أبو زيد، الهيئة المصرية العامة للتأليف: والنشر، طبعة 1971 م. 159 - التراث والتجديد (موقفنا من التراث القديم)، د. حسن حنفي، المؤسسة الجامعية، بيروت، الطبعة الرابعة، 1412 هـ - 1992 م. 160 - تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر، جرجي زيدان، الحياة، بيروت، دون بيانات أخرى. 161 - التراجيديا والفلسفة، والتركاوفمان، ترجمة: كامل يوسف، المؤسسة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 1993 م. 162 - التربية في الشرق الأوسط العربي، د. ماثيوز وَد. متى عقراوي، ترجمة: د. أمير بقطر، صدر عن (مجلس التعليم الأمريكي بواشنطن) في (مصر والعراق وفلسطين وشرق الأردن وسوريا ولبنان). 163 - ترجمة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، عبد الرحمن عبد العزيز السديس، الهجرة، الرياض، الطبعة الثانية، 1411 هـ. 164 - تركيا اليهودية، د. سليمان المدني، الأنوار، دون مكان، طبعة 1997 م. 165 - التشبه المنهي عنه في الفقه الإسلامي، جميل بن حبيب، الأندلس الخضراء، جدة، الطبعة الأولى، 1419 هـ - 1999 م. 166 - تشكيل العقل الحديث، كرين برينتون، ترجمة: شوقي جلال، مراجعة: صدقي حطاب، عالم المعرفة (82)، الكويت، طبعة 1405 هـ - 1984 م. 167 - التصور الذري في الفكر الفلسفي الإسلامي، د. مني أحمد أبو زيد، المؤسسة الجامعية، بيروت، الطبعة الأولى، 1414 هـ - 1994 م. 168 - تطور الفكر الأخلاقي في الفلسفة الغربية، د. محمد مهران رشوان، قباء، القاهرة، طبعة 1998 م.

169 - تطور الفكر الاقتصادي الوضعي والإسلامي، د. إبراهيم محمد البطاينة، المسار، عمان - الأردن، الطبعة الأولى، 2004 م. 170 - التطور والثبات في حياة البشرية، محمد قطب، الشروق، القاهرة - بيروت، الطبعة السادسة، 1406 هـ - 1986 م. 171 - التطور والنسبية في الأخلاق، د. حسام محيي الدين الآلوسي، الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 1989 م. 172 - التعاضد المتين بين العقل والعلم والدين، العلامة محمد بن الحسن الحجوي، تحقيق: د. محمد بن عزوز، دار ابن الجوزي، بيروت، الطبعة الأولى، 1425 هـ - 2005 م. 173 - التعليم في الدول الاشتراكية والرأسمالية - دراسات مقارنة بين النظم في الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة وجمهورية مصر العربية، د. محمد سامي عفيفي، الأنجلو المصرية، دون بيانات أخرى. 174 - تفسير ابن كثير، إسماعيل بن كثير، دار الريان للتراث، القاهرة، الطبعة الأولى، 1408 هـ. 175 - تفسير ابن كثير، للشيخ الإمام الجليل عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن كثير، اعتنى به محمد أنس مصطفى الخن في مجلد واحد، الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1421 هـ - 2000 م. 176 - تفسير الثعالبي (الجواهر الحسان في تفسير القرآن)، الشيخ عبد الرحمن مخلوف الثعالبي, تحقيق: محمد الفاضلي، العصرية، بيروت، الطبعة الأولى، 1417 هـ - 1997 م. 177 - تفسير الطبري، للإمام محمد بن جرير الطبري، تحقيق: د. عبد الله التركى، عالم الكتب، الرياض، طبعة 1424 هـ - 2003 م. 178 - التفسير العلمي المعاصر وأثره في كشف الإعجاز العلمي للقرآن الكريم، أ. د. سليمان بن صالح القرعاوي، الحضارة، الرياض، الطبعة الأولى، 1425 هـ - 2004 م. 179 - التفسير العلمي للقرآن في الميزان, أحمد عمر أبو حجر، قتيبة، بيروت - دمشق، الطبعة الأولى، 1411 هـ - 1991 م. 180 - تفسير القرآن الحكيم - الشهير بتفسير المنار، للإمام محمد رشيد رضا، الفكر، بيروت، الطبعة الثانية، دون تاريخ. 181 - التفسير الكبير - مفاتيح الغيب، الفخر الرازي، إحياء التراث العربى، بيروت، الطبعة الثانية، 1417 هـ - 1997 م.

182 - التفسير الماركسي للإسلام، د. محمد عمارة، الشروق، القاهرة، الطبعة الثانية، 1422 هـ - 2002 م. 183 - التفسير والمفسرون، د. محمد حسين الذهبي، التراث العربي، بيروت، دون بيانات أخرى. 184 - التفكير العلمي - الأسس والمهارات، إعداد نخبة من أساتذة كلية الآداب - جامعة القاهرة، إشراف: أ. د عبد الحليم السيد وَأ. د. محمد مهران رشوان، دون بيانات أخرى. 185 - التفكير فريضة إسلامية، عباس محمود العقاد، نهضة مصر، دون بيانات أخرى. 186 - تمهيد في التأصيل (رؤية في التأصيل الإسلامي لعلم النفس)، عبد الله بن ناصر الصبيح، تقديم: مالك بدري، إشبيليا، الرياض، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 1999 م. 187 - التمهيد لشرح كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد، صالح عبد العزيز آل الشيخ، التوحيد، الرياض، الطبعة الأولى، 1424 هـ - 2003 م. 188 - تمهيد للفلسفة، د. محمود حمدي زقزوق، المعارف، القاهرة، الطبعة الخامسة، 1994 م. 189 - التنصير مفهومه وأهدافه ورسائله وسبل مواجهته، د. علي إبراهيم النملة، دون دار، الطبعة الثالثة، 1424 هـ. 190 - تهذيب جامع بيان العلم وفضله، لأبي عمر يوسف بن عبد البر، هذبه أبو عماد السخاوي، الفتح، الشارقة، طبعة 1418 هـ - 1997 م. 191 - تهيئة الإنسان العربي للعطاء العلمي - بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية بالتعاون مع مؤسسة عبد الحميد شومان، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 1985 م. 192 - التوحيد في تطوره التاريخي - التوحيد يماني، ثريا منقوش، الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 1977 م. 193 - توماس الأكويني - الفيلسوف المثالي في العصور الوسطى، إعداد: الشيخ كامل محمد عويضة، الكتب العلمية، بيروت، دون بيانات أخرى. 194 - توماس هوبز - فيلسوف العقلانية، د. إمام عبد الفتاح، الثقافة، القاهرة، طبعة 1985 م. 195 - تيارات الفكر الفلسفي من القرورن الوسطى حتى العصر الحديث، أندريه كريسون، ترجمة: نهاد رضا، عويدات، بيروت - باريس، الطبعة الثانية، 1982 م.

196 - التيارات الفكرية والعقدية في النصف الثاني من القرن العشرين، محمد فاروق الخالدي، المعالي، عمان - الأردن، الطبعة الأولى، 1423 هـ - 2002 م. 197 - تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، تحقيق: عبد الرحمن بن معلا اللويحق، الرشد، الرياض، الطبعة الأولى، 1421 هـ - 2000 م. 198 - تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن، العالم العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، الأقصى، عنيزة، الطبعة الثانية، 1409 هـ. 199 - الثالوث المحرم - دراسة في الدين والجنس والصراع الطبقي، بوعلي ياسين، الطليعة، بيروت، الطبعة الخامسة، 1973 م. 200 - الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية، د. عابد محمد السفياني، المنارة، مكة المكرمة، الطبعة الأولى، 1408 هـ - 1988 م. 201 - الثوابت والمتغيرات في مسيرة العمل الإسلامي المعاصر، د. صلاح الصاوي، المنتدى الإِسلامي، الطبعة الأولى، 1414 هـ - 1994 م. 202 - الثورة العلمية الحديثة وما بعدها، علي الشوك، المدى، دمشق، الطبعة الأولى، 2004 م. 203 - جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، الفكر، بيروت، طبعة 1405 هـ - 1984 م. 204 - جامع الزيتونة ومدارس العلم في العهدين الحفصي والتركي من سنة (603 هـ - 1206 م) إلى سنة (1117 هـ - 1705 م)، الظاهر المعموري، الدار العربية للكتاب، طبعة 1988 م. 205 - الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبد الله محمد الأنصاري القرطبي، الكتب المصرية، الطبعة الثانية، دون بيانات أخرى. 206 - الجامع لمسائل أصول الفقه وتطبيقها على المذهب الراجح، أ. د. عبد الكريم بن علي النملة، الرشد، الرياض، الطبعة الثانية، 1421 هـ - 2000 م. 207 - الجامعات الإسلامية - دراسة مسحية تحليلية تقييمية، د. محمد جميل خياط، رابطة الجامعات الإسلامية، الطبعة الأولى، 1414 هـ - 1994 م. 208 - جامع القرويين - المسجد والجامعة بمدينة فاس موسوعة لتاريخها المعماري والفكري، د. عبد الهادي التازي، الكتاب اللبناني، بيروت، الطبعة الأولى، 1972 م.

209 - جاهلية القرن العشرين، محمد قطب، الشروق، القاهرة - بيروت، طبعة 1409 هـ - 1989 م. 210 - الجذور التوراتية للمذهب الفرويدي "دراسة جديدة لمذهب فرويد في أصوله"، نزيه الحسن، دار الحلبي، دمشق، الطبعة الأولى، 1988 م. 211 - جذور العلمانية - الجذور التاريخية للصراع بين العلمانية والإسلام في مصر منذ البداية وحتى عام 1948 م، د. السيد أحمد فرج، الوفاء، المنصورة - مصر، الطبعة الرابعة، 1411 هـ - 1990 م. 212 - الجغرافيا (الجغرافيا الطبيعية) لطلاب المرحلة المتوسطة، الصف الأول المتوسط، التابع لوزارة التربية والتعليم في المملكة العربية السعودية، الوحدة الأولى والثانية، طبعة 1425 هـ / 1426 هـ. 213 - الجفوة المفتعلة بين العلم والدين، محمد علي يوسف، مكتبة الحياة، بيروت، دون بيانات أخرى. 214 - جماعة أنصار السنة المحمدية (نشأتها - أهدافها - نهجها - جهودها)، د. أحمد محمد الطاهر، قدم له د. عبد الله شاكر، الهدي النبوي - المنصورة، الفضيلة - الرياض، الطبعة الأولى، 1425 هـ - 2004 م. 215 - جهود الأزهر في الرد على التيارات الفكرية المنحرفة (في النصف الثاني من القرن العشرين) .. ، د. صلاح محمود العادلي، الصحابة، الإمارات، الطبعة الأولى، 1424 هـ - 2004 م. 216 - جهود الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في تقرير عقيدة السلف، د. عبد العزيز صالح الطويان، العبيكان، الرياض، الطبعة الأولى، 1419 هـ - 1998 م. 217 - الجواهر الحسان في تفسير القرآن، الشيخ عبد الرحمن مخلوف الثعالبي، تحقيق: محمد الفاضلي، العصرية، بيروت، الطبعة الأولى، 1417 هـ - 1997 م. 218 - جواهر العلوم والآداب - النظر في الكون بهجة الحكماء وعبادة الأذكياء، الشيخ طنطاوي جوهري، تحقيق: الشيخ طه عبد الرءوف سعد، الحرم للتراث، القاهرة، الطبعة الأولى، 1424 هـ - 2003 م. 219 - الجينوم - السيرة الذاتية للنوع البشري، مات ريدلي، ترجمة: د. مصطفى فهمي، عالم المعرفة (275)، الكويت، طبعة 1422 هـ - 2001 م. 220 - حاضر العالم الإسلامي وقضاياه المعاصرة، د. جميل عبد الله محمد المصري، أم القرى، عمان - الأردن، الطبعة الثالثة، 1417 هـ - 1996 م.

221 - حبات المعرفة - قصة العلم الحديث وما وصل إليه، د. محمد التكريتي، دار المعارج، الرياض، الطبعة الأولى، 1420 هـ. 222 - الحجاب - أدلة الموجبين وشبه المخالفين، مصطفى العدوي، الطرفين، الطائف، الطبعة الثانية، 1410 هـ. 223 - حجاب المرأة المسلمة في الكتاب والسنة، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت - دمشق، الطبعة الثامنة، 1407 هـ - 1987 م. 224 - حجاب المرأة بين الأديان والعلمانية، د. هدى درويش، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، القاهرة، الطبعة الأولى، 2005 م. 225 - الحجاب، أبو الأعلى المودودي، الدار السعودية، جدة، الطبعة الثالثة، 1406 هـ - 1986 م. 226 - الحركات الوطنية والاستعمار في المغرب العربي، د. محمد مالكي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الثانية، 1994 م. 227 - حركة الجامعة الإسلامية، أحمد فهد بركات الشوابكة، المنار، الزرقاء، الطبعة الأولى، 1404 هـ - 1984 م. 228 - حركة القوميين العرب - النشأة - التطور - المصائر، محمد جمال باروت، المركز العربي للدراسات الإستراتيجية، دمشق، الطبعة الأولى، 1997 م. 229 - الحصون الحميدية للمحافظة على العقائد الإسلامية، علامة العصر الشيخ حسين محمد الجسر، منشورات نور محمد، دون بيانات أخرى. 230 - حصوننا مهددة من داخلها، د. محمد محمد حسين، الرسالة، بيروت، الطبعة العاشرة، 1406 هـ - 1986 م. 231 - حقيقة الخلق ونظرية التطور، محمد فتح الله كولن، ترجمة: أُورخَان محمد علي، النيل، أزمير - تركيا، الطبعة الأولى، 2004 م. 232 - الحقيقة والوهم في الحركة الإسلامية المعاصرة، د. فؤاد زكريا، دار الفكر، القاهرة - باريس، الطبعة الثانية، 1986 م. 233 - حقيقة يهود الدونمة في تركيا - وثائق جديدة، د. هدى درويش، عين للدراسات، القاهرة، الطبعة الأولى، 2003 م. 234 - الحكم الشرعي للاستثمارات والخدمات المصرفية التي تقوم بها البنوك الإسلامية، د. "محمد رامز" عبد الفتاح العزيزي، الفرقان، عمان، الطبعة الأولى، 1425 هـ - 2004 م.

235 - الحكم والتحاكم في خطاب الوحي - من قضايا الفقه السياسي الإسلامي في ضوء عقيدة أهل السنة والجماعة، عبد العزيز مصطفى كامل، طيبة، الرياض، الطبعة الأولى، 1415 هـ - 1995 م. 236 - حكمة الغرب (الجزء الثاني) الفلسفة الحديثة والمعاصرة، برتراند رسل، ترجمة: د. فؤاد زكريا، عالم المعرفة (72)، الكويت، طبعة 1404 هـ - 1983 م. 237 - حوار الأجيال، د. حسن حنفي، قباء، القاهرة، طبعة 1998 م. 238 - حوارات من أجل المستقبل، طه عبد الرحمن، الهادي، بيروت، الطبعة الأولى، 1424 هـ - 2003 م. 239 - حول التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية، محمد قطب، الشروق، القاهرة - بيروت، الطبعة الأولى، 1418 هـ - 1998 م. 240 - حول الدين، كارل ماركس - فريدريك إنجلس، نقله إلى العربية ياسين الحافظ، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الثانية، 1981 م. 241 - حياة الفكر في العالم الجديد، د. زكي نجيب محمود، الشروق، بيروت - القاهرة، الطبعة الثالثة، 1408 هـ - 1987 م. 242 - خاطرات جمال الدين الأفغاني الحسيني، محمد باشا المخزومي، الحقيقة بيروت، الطبعة الثانية، 1980 م. 243 - خدعة التكنولوجيا، جاك الول، ترجمة: د. فاطمة نصر، مهرجان القراءة للجميع، مصر، 2004 م. 244 - خديعة التطور - الانهيار العلمي للدارونية وخلفياتها العقائدية، هارون يحيى، ابن حزم، بيروت، الطبعة الأولى، 2002 م. 245 - الخروج من التيه - دراسة في سلطة النص، د. عبد العزيز حمودة، عالم المعرفة برقم (298)، الكويت، طبعة 1424 هـ - 2003 م. 246 - خصائص إسلامية في الاقتصاد، د. حسن صالح العناني، المعهد الدولي للبنوك والاقتصاد الإسلامي، دون بيانات أخرى. 247 - خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، سيد قطب، الشروق، القاهرة - بيروت، الطبعة الثانية عشر، 1413 هـ - 1992 م. 248 - خصائص الشريعة الإسلامية، عمر الأشقر، الفلاح، الطبعة الثانية، 1406 هـ - 1986 م. 249 - الخطاب الإصلاحي في المغرب - التكوين والمصادر، عبد الإله بلقزيز، دار المنتخب العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1417 هـ - 1997 م.

250 - خطاب إلى العقل العربي، فؤاد زكريا، مكتبة مصر، القاهرة، دون بيانات أخرى. 251 - خطر اليهودية العالمية على الإسلام والمسيحية، عبد الله التل، المكتب الإسلامي، بيروت - دمشق، الطبعة الثالثة، 1399 هـ - 1979 م. 252 - خمسون فصلًا في التداوي والعلاج والطب النبوي، للإمام العلامة أبي عبد الله محمد بن مفلح المقدسي الحنبلي، اعتنى به وخرج أحاديثه عادل بن محمد آل محمد، عالم الكتب، الرياض، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م. 253 - خير الدين التونسي وكتابه أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك تحقيق ودراسة، د. معن زيادة، المؤسسة الجامعية، بيروت، الطبعة الثانية، 1405 هـ - 1985 م. 254 - الدارونية والإنسان - نظرية التطور من العلم إلى العولمة (مشكلات فلسفة العلم)، د. صلاح عثمان، منشأة المعارف، الإسكندرية، طبعة 2001 م. 255 - الدر المنثور في التفسير المأثور، جلال الدين السيوطي، تحقيق: د. عبد الله التركي، هجر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1424 هـ - 2003 م. 256 - درء تعارض العقل والنقل أو موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول، لشيخ الإِسلام ابن تيمية، تحقيق: د. محمد رشاد سالم، دار الكنوز الأدبية، دون بيانات أخرى. 257 - دراسات سيكلوجية، سلامة موسى، سلامة موسى للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، الطبعة الأولى، 1956 م. 258 - دراسات في الفلسفة المعاصرة، د. زكريا إبراهيم، مكتبة مصر، دون بيانات أخرى. 259 - درس الإبستمولوجيا، عبد السلام بن عبد العالي وَسالم يفوت، توبقال، المغرب، الطبعة الأولى، 1985 م. 260 - دستور الأخلاق في القرآن - دراسة مقارنة للأخلاق النظرية في القرآن، د. محمد عبد الله دراز، تعريب وتحقيق وتعليق: د. عبد الصبور شاهين، الرسالة - بيروت، البحوث العلمية - الكويت، الطبعة الثامنة، 1412 هـ - 1991 م. 261 - دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب - عرض ونقد، عبد العزيز العبد اللطيف، الوطن، الرياض، الطبعة الأولى، 1412 هـ. 262 - الدعوة الإصلاحية وأعلامها، عبد الله محمد المطوع، دون دار، الطبعة الأولى، 1420 هـ.

263 - دلائل التوحيد، للعلامة الشيخ محمد جمال الدين القاسمي، بعناية الشيخ خالد عبد الرحمن العك، النفائس، بيروت، الطبعة الأولى، 1412 هـ - 1991 م. 264 - الدلائل القرآنية في أن العلوم والأعمال النافعة العصرية داخلة في الدين الإسلامي، الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي، ابن الجوزي، الرياض، الطبعة الأولى، 1424 هـ. 265 - دنيا الدين في حاضر العرب، عزيز العظمة، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 1996 م. 266 - الدور السياسي ليهود الدونمة في تركيا، د. أحمد نوري النعيمي، جمعية الدعوة الإسلامية العالمية، ليبيا، الطبعة الأولى، 1369 هـ - 2001 م. 267 - الدولة العثمانية - عوامل النهوض وأسباب السقوط، د. علي محمد الصلابي، ابن كثير، دمشق، الطبعة الأولى، 1424 هـ - 2003 م. 268 - الدولة العثمانية، قراءة جديدة لعوامل الانحطاط، قيس عزاوي، العربية للعلوم، بيروت، الطبعة الأولى، 1414 هـ - 1994 م. 269 - دولة محمد علي والغرب - الاستحواذ والاستقلال، حسن الضيقة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء - بيروت، الطبعة الأولى، 2002 م. 270 - ديالكتيك الطبيعة، فريدريك إنجلس، نقله على العربية وقدم له توفيق سلوم، الفارابي، طبعة 1988 م. 271 - دين الإنسان - بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني، فراس السواح، علاء الدين، دمشق، الطبعة الرابعة، 2002 م. 272 - الدين - بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان، د. محمد عبد الله دراز، دار القلم، الكويت، 1410 هـ - 1990 م. 273 - الدين في المجتمع العربي، ندوة للاجتماعيين العرب، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 1990 م. 274 - الدين والاقتصاد، تحرير مراد وهبة وآخرين، سينا، القاهرة، الطبعة الأولى، 1990 م. 275 - الدين والتحليل النفسي، أريك فروم، ترجمة: فؤاد كامل، مكتبة غريب، مصر، دون بيانات أخرى. 276 - الدين والمجتمع - دراسة في علم الاجتماع الديني، د. حسين عبد الحميد رشوان، مركز الإسكندرية للكتاب، طبعة 2004 م. 277 - الدين والميتافيزيقا في فلسفة العلوم، د. محمد عثمان الخشت، قباء، القاهرة، دون بيانات أخرى.

278 - ذيل طبقات الحنابلة، انظر كتاب الذيل. 279 - رؤية إسلامية للاستشراق، د. أحمد عبد الحميد غراب، المنتدى الإسلامي، لندن، الطبعة الثانية، 1411 هـ. 280 - رؤية إسلامية، د. زكي نجيب محمود، الشروق، القاهرة - بيروت، الطبعة الثانية، 1414 هـ - 1993 م. 281 - رؤية آينشتين لليهودية ودولة اليهود، د. عفيف فرّاج، دار الآداب، بيروت، الطبعة الأولى، 2003 م. 282 - رأيهم في الإسلام، حوار صريح مع أربعة عشر أديبًا عربيًا، لوك باربولسكو وصاحبه، تعريب ابن منصور العبد الله، الساقي، لندن، الطبعة الثانية، 1990 م. 283 - الربا والفائدة - دراسة اقتصادية مقارنة، د. رفيق يونس المصري، د. محمد رياض الأبرش, الفكر المعاصر - بيروت، الفكر - دمشق، الطبعة الأولى، 1419 هـ - 1999 م. 284 - الربا والمعاملات المصرفية في نظر الشريعة الإسلامية، د. معالي الشيخ د. عمر المترك، اعتنى به بكر عبد الله أبو زيد، العاصمة، الرياض، الطبعة الأولى، 1414 هـ. 285 - رحلة الفكر الإسلامي من التأثر إلى التأثير، د. السيد محمد الشاهد، المؤسسة الجامعية، بيروت، الطبعة الأولى، 1414 هـ - 1994 م. 286 - رحلة عبر الزمن - الطريق إلى جائزة نوبل، د. أحمد زويل، ترجمة: د. مصطفى محمود سليمان، مؤسسة الأهرام، الطبعة الأولى، 1423 هـ -2003 م. 287 - رسالة التوحيد، الشيخ محمد عبده، الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1406 هـ - 1986 م. 288 - الرسالة الحميدية في حقيقة الديانة الإسلامية، الشيخ حسين الجسر، تقديم وتحقيق: د. خالد زيادة، المكتبة الحديثة، بيروت، دون بيانات أخرى. 289 - رسالة في اللاهوت والسياسة، سبينوزا، ترجمة وتقديم: د. حسن حنفي، مراجعة د. فؤاد زكريا، الأنجلو مصرية، القاهرة، الطبعة الثالثة، دون تاريخ. 290 - رسالة في علم النجوم - هل الشروع فيه محمود أو مذموم؟ الإمام الحافظ أبي بكر أحمد الخطيب البغدادي. ويليه الوصول إلى القمر - تأليف: الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز. ويليه أين القمر - تأليف: الشيخ المحدث حماد بن محمد الأنصاري. تحقيق: طارق محمد العمودي، الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1425 هـ -2005 م. 291 - الرسالة، للإمام المطلبي محمد بن إدريس الشافعي، تحقيق: وشرح أحمد محمد شاكر، التراث، القاهرة، الطبعة الثانية، 1399 هـ - 1979 م.

292 - رفاعة الطهطاوي - رائد التنوير في العصر الحديث، د. محمد عمارة، الشروق، القاهرة - بيروت، الطبعة الثانية، 1408 هـ - 1988 م. 293 - روائع الطب الإسلامي، الجزء الأول - القسم العلاجي، د. محمد نزار الدقر، المعاجم، دمشق، الطبعة الأولى، 1415 هـ - 1994 م. 294 - روح الحداثة - المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، طه عبد الرحمن، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء - بيروت، الطبعة الأولى، 2006 م. 295 - روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، للعلامة أبي الفضل شهاب الدين السيد محمود الألوسي، الفكر، بيروت، دون بيانات أخرى. 296 - روضة الطالبين، للإمام أبي زكريا محيي الدين ابن شرف النووي، تحقيق: الشيخ عادل عبد الموجود وصاحبه، عالم الكتب، طبعة 1423 هـ -2003 م. 297 - زاد المسير، لابن الجوزي، الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1414 هـ - 1994 م. 298 - زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن قيم الجوزية، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وَعبد القادر الأرنؤوط، الرسالة - بيروت، المنارة - الكويت، الطبعة الثامنة، 1405 هـ - 1985 م. 299 - زعماء الإصلاح في العصر الحديث، أحمد أمين، الكتاب العربي، بيروت، دون بيانات أخرى. 300 - زكي نجيب محمود مفكرًا عربيًا رائدًا للاتجاه العلمي التنويري، كتاب تذكاري، إشراف وتصدير: د. عاطف عراقى، الوفاء، الإسكندرية، دون بيانات أخرى. 301 - سؤال الأخلاق - مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية، طه عبد الرحمن، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء - بيروت، الطبعة الأولى، 2000 م. 302 - السببية في العلم، د. السيد نفادي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، دون بيانات أخرى. 303 - سدنة هياكل الوهم/ نقد العقل الفقهي (البوطي نموذجًا)، د. عبد الرزاق عيد، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 2003 م. 304 - سدنة هياكل الوهم/ نقد العقل الفقهي - يوسف القرضاوي بين التسامح والإرهاب، د. عبد الرزاق عيد، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 2005 م. 305 - سلامة موسى بين النهضة والتطوير، د. مجدي عبد الحافظ، المستقبل - الإسكندرية، المعارف - بيروت، الطبعة الأولى، 1999 م.

306 - سلامة موسى وأزمة الضمير العربي، د. غالي شكري، الآفاق الجديدة، بيروت، الطبعة الرابعة، 1983 م. 307 - سلامة موسى والمنهج الاشتراكي، هنري رياض، دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى، 1411 هـ - 1991 م. 308 - سلامة موسى - اجتهاد خاطئ؟ أم عمالة حضارية؟؟ د. محمد عمارة، دار الوفاء، مصر - المنصورة، الطبعة الأولى، 1416 هـ - 1995 م. 309 - سلسلة الأحاديث الصحيحة, الشيخ محمد ناصر الدين الألباني. 310 - سلسلة الأحاديث الضعيفة، الشيخ محمد ناصر الدين الألباني. 311 - سنن ابن ماجه، بشرح الإمام أبي الحسن الحنفي السندي، تحقيق: الشيخ خليل شيحا، المعرفة، بيروت، الطبعة الأولى، 1416 هـ - 1996 م. 312 - سنن أبي داود، للإمام الحافظ أبي داود سليمان بن الأشعث، إعداد عزت عبيد الدعاس، ابن حزم، بيروت، الطبعة الأولى، 1418 هـ - 1997 م. 313 - سنن الترمذي، لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة، تحقيق: كمال يوسف الحوت، الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1408 هـ - 1987 م. 314 - السنن والآثار في النهي عن التشبه بالكفار، سهيل حسن عبد الغفار، السلف، الرياض، الطبعة الأولى، 1416 هـ - 1995 م. 315 - سياسة محمد علي باشا التوسعية في الجزيرة العربية والسودان واليونان وسوريا (1811 - 1840 م) قراءة جديدة، د. سليمان الغنام، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء - بيروت، الطبعة الأولى، 2004 م. 316 - السيد رشيد رضا أو إخاء أربعين سنة، الأمير شكيب أرسلان، أضواء السلف، مصورة عن طبعة ابن زيدون، دمشق، الطبعة الأولى، 1356 هـ - 1937 م. 317 - سير أعلام النبلاء، الإِمام شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي، بإشراف شعيب الأرنؤوط، الرسالة، بيروت، الطبعة الرابعة، 1406 هـ - 1986 م. 318 - السيرة النبوية، للإمام أبي الفداء إسماعيل بن كثير، تحقيق: مصطفى عبد الواحد، المعرفة، بيروت، طبعة 1396 هـ - 1971 م. 319 - سيغموند فرويد مكتشف اللاشعور، مارغريت ماكنهوبت، تعريب د. سامر عرار، العبيكان، الرياض، الطبعة الأولى، 1425 هـ - 2004 م. 320 - سيكلوجية الحجاب - القيم النفسية لارتداء الحجاب مع دراسة ميدانية على عينة عربية، د. عبد الرحمن محمد العيسوي، الراتب الجامعية، بيروت، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2001 م.

321 - الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي، د. هشام جعيط، الطليعة، بيروت، الطبعة الثانية، 1990 م. 322 - شرح العقيدة الطحاوية، الإمام القاضي علي ابن أبي العز، تحقيق: د. عبد الله التركي وَشعيب الأرناؤوط، الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية، 1411 هـ - 1990 م. 323 - شرح العقيدة الواسطية، لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، العلامة محمد خليل هراس، تحقيق: علوي السقاف، الهجرة، الثقبة - السعودية، الطبعة الأولى، 1411 هـ - 1991 م. 324 - شرح النووي على صحيح مسلم، الإمام محيي الدين ابن شرف النووي، الفكر، بيروت، دون بيانات أخرى. 325 - شروط النهضة، مالك بن نبي، ترجمة: عبد الصبور شاهين، دار الفكر، دمشق، تصوير 1406 هـ - 1986 م. 326 - شريعة الإسلام خلودها وصلاحها للتطبيق في كل زمان ومكان، يوسف القرضاوي، المكتب الإِسلامي، بيروت، الطبعة الرابعة، 1407 هـ - 1987 م. 327 - الشريعة الإسلامية في عصر العلم، د. صابر طعيمة، الجيل، بيروت، الطبعة الأولى، 1399 هـ - 1979 م. 328 - الشريعة الإلهية لا القوانين الجاهلية، د. عمر سليمان الأشقر، الفلاح - دار النفائس، الكويت، الطبعة الثانية، 1412 هـ - 1991 م. 329 - شيخ الجامع الأعظم محمد الطاهر ابن عاشور - حياته وآثاره، د. بلقاسم الغالي، ابن حزم، الطبعة الأولى، 1417 هـ - 1996 م. 330 - الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وجهوده في توضيح العقيدة، عبد الرزاق بن عبد المحسن العباد، الرشد، الرياض، الطبعة الثانية، 1414 هـ - 1993 م. 331 - الشيخ عبد العزيز الثعالبي ودوره في الإصلاح الإسلامي، مسعودة مسعود بو الخضرة، المكتبة العصرية، بيروت، الطبعة الأولى، 1415 هـ - 1995 م. 332 - الشيخ محمد بن عبد الوهاب - حياته وفكره، د. عبد الله العثيمين، العلوم، الرياض، الطبعة الثانية، 1412 هـ - 1992 م. 333 - الشيخ محمد بن عبد الوهاب - عقيدته السلفية ودعوته الإصلاحية وثناء العلماء عليه، أحمد حجر أبو طامي، قدم له الشيخ عبد العزيز بن باز، من مطبوعات الرئاسة العامة للإفتاء والدعوة والإرشاد، دون بيانات أخرى. 334 - الشيخ مصطفى صبري وموقفه من الفكر الوافد، د. مفرح سليمان القوسي، مركز الملك فيصل، الطبعة الثانية، 1424 هـ - 2003 م.

335 - الشيوعية والإنسانية في شريعة الإسلام، عباس محمود العقاد، المكتبة العصرية، دون بيانات أخرى. 336 - الصحوة الإسلامية في ميزان العقل، د. فؤاد زكريا، دار الفكر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1989 م. 337 - صحيح سنن ابن ماجه، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثالثة، 1408 هـ - 1988 م. 338 - صحيح سنن النسائي، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1408 هـ - 1988 م. 339 - صحيح مسلم، للإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري، الرشد، الرياض، طبعة 1422 هـ - 2001 م. 340 - الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية في الأقطار الإسلامية، أبو الحسن علي الحسني الندوي، القلم، الكويت، الطبعة الرابعة، 1403 هـ - 1983 م. 341 - صراع مع الملاحدة حتى العظم، عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، دار القلم، دمشق، الطبعة الخامسة، 1412 هـ - 1992 م. 342 - الصفدية، لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق: د. محمد رشاد سالم، الهدي النبوي - المنورة، الفضيلة - الرياض، الطبعة الأولى، 1421 هـ - 2000 م. 343 - الصهيونية المسيحية، محمد السماك، النفائس، بيروت، الطبعة الثالثة، 1421 هـ - 2000 م. 344 - الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، ابن قيم الجوزية، تحقيق: د. علي محمد الدخيل الله، العاصمة، الرياض، الطبعة الثانية، 1412 هـ. 345 - ضرورة العلم - دراسات في العلم والعلماء، ماكس يروتز، ترجمة: وائل أتاسي وصاحبه، مراجعة: د. عدنان الحموي، عالم المعرفة (245)، الكويت، طبعة 1420 هـ - 1999 م. 346 - ضعيف سنن الترمذي، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامى، بيروت، الطبعة الأولى، 1411 هـ - 1991 م. 347 - الطب النبوي والعلم الحديث، الطبيب الدكتور محمود ناظم النسيمي، الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية، 1407 هـ - 1987 م. 348 - الطب النبوي، عبد الملك بن حبيب الأندلسي الألبيري، شرح وتعليق: د. محمد علي البار، القلم - دمشق، الشامية - بيروت، الطبعة الأولى، 1413 هـ - 1993 م.

349 - الطريق (مجلة)، انظرها في مجلة الطريق،،,. 350 - الطريق إلى المريخ، م. سعد شعبان، عالم المعرفة (228)، الكويت، طبعة 1418 هـ - 1997 م. 351 - طريقة التحليل والعقيدة الفرويدية، رولان دالبييز، ترجمة: د. حافظ الجمالي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1983 م. 352 - الطريقة النقشبندية بين ماضيها وحاضرها، الشيخ فريد الدين آيدن، عن الشبكة الحاسوبية، من موقع السلفيين الأتراك، www. ikraislam. com. 353 - طريقنا إلى الحرية، محاورة زكي نجيب محمود، حاوره أحمد عثمان، عين، مصر، الطبعة الأولى، 1994 م. 354 - الطوطم والحرام، سيغموند فرويد، ترجمة: جورج طرابيشي، الطليعة، بيروت، الطبعة الثانية، 1997 م. 355 - عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة، د. عبد الكريم نوفان عبيدات، إشبيليا، الرياض، الطبعة الثانية، 1419 هـ - 1999 م. 356 - عالم الجن والشياطين، د. عمر سليمان الأشقر، الفلاح، الكويت، الطبعة الرابعة، 1404 هـ - 1984 م. 357 - عالم الملائكة الأبرار، د. عمر سليمان الأشقر، الفلاح، الكويت، الطبعة الخامسة، 1409 هـ - 1989 م. 358 - العالم بين العلم والفلسفة، جاسم العلوي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء - بيروت، الطبعة الأولى، 2005 م. 359 - عبد الحميد بن باديس - رائد الحركة الإسلامية في الجزائر المعاصرة، د. محمد فتحي عثمان، القلم، الكويت، الطبعة الأولى، 1407 هـ - 1987 م. 360 - العدوان على المرأة في المؤتمرات الدولية، د. فؤاد بن عبد الكريم العبد الكريم، كتاب البيان، الطبعة الأولى، 1426 هـ - 2005 م. 361 - العرب والأتراك - الانبعاث والتحديث من العثمنة إلى العلمنة، د. سيار الجميل، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، 1997 م. 362 - عرش المقدس - الدين في الثقافة والثقافة في الدين، د. عبد الهادي عبد الرحمن، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 2000 م. 363 - العصر الجينومي - إستراتيجيات المستقبل البشري، د. موسى الخلف، عالم المعرفة (294)، الكويت، الطبعة الأولى، طبعة 1424 هـ - 2003 م. 364 - عصر النهضة بين الحقيقة والوهم، مفيدة محمد إبراهيم، مجدلاوي، عمان - الأردن، الطبعة الأولى، 1419 هـ - 1999 م.

365 - العصرانيون بين مزاعم الجديد وميادين التغريب، محمد حامد الناصر، الكوثر، الطبعة الأولى، 1417 هـ - 1996 م. 366 - العقل الإيماني، حسن إبراهيم أحمد، دار المدى، سوريا، الطبعة الأولى، 2000 م. 367 - العقل العلمي في عصر التنوير، د. عبد القادر بشتة، الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 1997 م. 368 - العقل والنقل في الفكر الإصلاحي المغربي (1757 - 1912 م)، حسن أحمد الحجوي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء - بيروت، الطبعة الأولى، 2003 م. 369 - العقلانية المعاصرة بين النقد والحقيقة، د. سالم يفوت، الطليعة، بيروت، الثانية، 1989 م. 370 - العقلانية، جون كوتنفهام، ترجمة: محمود منقذ الهاشمى، مركز الإنماء الحضاري، حلب، الطبعة الأولى، 1997 م. 371 - العقيدة الإسلامية وأسسها، عبد الرحمن حسن الميداني، القلم، دمشق، الطبعة السادسة، 1412 هـ - 1992 م. 372 - علم اجتماع المعرفة وصراع التأويلات من العقلانية إلى جدل الذات، د. شحاته صيام، ميريت، القاهرة، الطبعة الأولى، 2005 م. 373 - علم الاجتماع الديني، أ. د. إحسان محمد الحسن، دار وائل، عمان - الأردن، الطبعة الأولى، 2005 م. 374 - علم الاجتماع الديني، جورج زيمل، ترجمة: محمد ديركي، المنارة، بيروت، الطبعة الأولى، 1413 هـ - 1993 م. 375 - علم الاجتماع الديني، د. زيدان عبد الباقي، غريب، مصر، دون بيانات أخرى. 376 - علم الاجتماع الديني، د. عبد الله الخريجي، رامتان، جدة، الطبعة الأولى، 1402 هـ - 1982 م. 377 - علم الاجتماع الديني، محمد أحمد بيومي، المعرفة الجامعية، الإسكندرية، دون بيانات أخرى. 378 - علم الأديان وبنية الفكر الإِسلامي، المستشرق حبيب، د. عادل العوا، عويدات، بيروت - باريس، الطبعة الثانية، 1989 م. 379 - علم النفس الدينى، د. رشاد على موسى وآخرون، عالم المعرفة، القاهرة، 1413 هـ - 1993 م.

380 - علم النفس الديني، سيريل بيرت، ترجمة: سمير عبده، دار الآفاق الجديدة، بيروت، الطبعة الأولى، 1405 هـ - 1985 م. 381 - علم النفس في التصور الإِسلامي - دراسة تقويمية إيجابية، أ. د. عبد الحميد الهاشمي، دون بيانات أخرى. 382 - العلم في التاريخ, جون ديزموند برنال، ترجمة: د. علي ناصف، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1982 م. 383 - العلم في منظوره الجديد، روبرت وصاحبه، ترجمة: د. كمال خلايلي، عالم المعرفة رقم (134)، الكويت، طبعة 1989 م. 384 - العلم في مواجهة المادية - قراءة في كتاب حدود العلم لسوليفان، د. عماد الدين خليل، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية، 1406 هـ - 1986 م. 385 - العلم في نقد العلم - دراسات في فلسفة العلوم، مني فياض، المنتخب العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1415 هـ - 1995 م. 386 - العلم والإيمان في الغرب الحديث، هاشم صالح، كتاب الرياض عن صحيفة الرياض السعودية، رقم (51)، الرياض، طبعة 1998 م. 387 - العلم والمعرفة في العالم العثماني (بحوث المؤتمر الدولي)، أعده للنشر صالح سعداوي، تقديم: أكمل الدين إحسان أوغلى، مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية بإستنابول، إستنابول، طبعة 2000 م. 388 - علماء الاجتماع وموقفهم من الإسلام، أحمد إبراهيم خضر، المنتدى الإسلامي، لندن، الطبعة الأولى، 1413 هـ - 1993 م. 389 - علماء الشام في القرن العشرين وجهودهم في إيقاظ الأمة والتصدي للتيارات الوافدة، محمد حامد الناصر، المعالي، عمان - الأردن، الطبعة الأولى، 1424 هـ - 2003 م. 390 - علماء الشام كما عرفتهم. . . .، العلامة محمد سعيد الباني الحسني، بعناية حسن السماحي سويدان، القادري، دمشق - بيروت، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 1999 م. 391 - العلمانية - تحليل ونقد للعلمانية محتوىً وتاريخًا في مواجهة الإسلام والمسيحية وهل تصلح حلًا لمشكلة لبنان؟ الإمام آية الله الشيخ محمد مهدي شمس الدين، المؤسسة الدولية. 392 - العلمانية النشأة والأثر في الشرق والغرب، زكريا فايد، الزهراء للإعلام العربي، القاهرة، الطبعة الأولى، 1408 هـ - 1988 م. 393 - العلمانية تحت المجهر، د. عبد الوهاب المسيري، د. عزيز العظمة، الفكر المعاصر - بيروت، الفكر - دمشق، الطبعة الأولى، 1421 هـ - 2000 م.

394 - العلمانية من منظور مختلف، د. عزيز العظمة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 1992 م. 395 - العلمانية نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة، سفر عبد الرحمن الحوالي، السلفية للنشر، الكويت، طبعة 1408 هـ -1987 م. 396 - العلمنة والدين - الإسلام، المسيحية، الغرب، محمد أركون، ترجمة: هاشم صالح، الساقي، لندن، الطبعة الأولى، 1990 م. 397 - العلوم والهندسة في الحضارة الإسلامية - لبنات أساسية في صرح الحضارة الإنسانية، دونالد ر. هيل، ترجمة: د. أحمد فؤاد باشا، عالم المعرفة (305)، الكويت، طبعة 1425 هـ - 2004 م. 398 - العلوم والهندسة في الحضارة الإسلامية، دونالدر. هيل، ترجمة: د. أحمد فؤاد. 399 - العمدة في فلسفة القيم، د. عادل العوا، دار طلاس، الطبعة الأولى، 1986 م. 400 - العنقاء أو تايخ حسن مفتاح، د. لويس عوض، الهيئة المصرية العامة للكتاب، طبعة 1990 م. 401 - عودة الحجاب، جمع وترتيب: محمد أحمد إسماعيل المقدم، طيبة، الرياض، الطبعة الأولى، 1414 هـ - 1994 م. 402 - غاليليه أو مستقبل العلم، فيلما فريتش، ترجمة: عادل شقير، مراجعة عيسى منصور، منشورات وزارة الثقافة السورية، طبعة 1994 م. 403 - غاليليو غاليليه - حول النظام البطليموسي للكون والنظام الكربونيقي، الشيخ كامل محمد عويضة، الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1414 هـ - 1994 م. 404 - غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، الطبعة الثالثة، 1405 هـ - 1985 م. 405 - الغزو الفكري في المناهج الدراسية، أولا) في العقيدة في الرد على زكي نجيب محمود، علي لبن، الوفاء، المنصورة - مصر، الطبعة الأولى، 1407 هـ - 1987 م. 406 - غزو في الصميم. . . .، عبد الرحمن حسن الميداني، القلم، دمشق، الطبعة الثالثة، 1410 هـ - 1990 م. 407 - الفارابي، بيروت، الطبعة الأولى، 1988 م. 408 - فتاوي اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، جمع وترتيب: الشيخ أحمد عبد الرزاق الدويش، بلنسية، الرياض، الطبعة الثالثة، 1421 هـ - 2000 م.

409 - فتح الباري بشرح صحيح الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، للإمام الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب، رقمه محمد فؤاد عبد الباقي، راجعه قصى محب الدين خطيب، الريان، القاهرة، الطبعة الأولى، 1407 هـ - 1986 م. 410 - فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، قرطبة، مصر، دون بيانات أخرى. 411 - الفتوى الحموية الكبرى, شيخ الإسلام أبو العباس تقي الدين أحمد بن تيمية، دراسة وتحقيق: حمد بن عبد المحسن التويجري، الصميعي، الطبعة الأولى، 1419 هـ - 1998 م. 412 - فجر العلم الحديث (الإِسلام - الصين - الغرب)، توبي أ. هف، ترجمة: د. محمد عصفور، عالم المعرفة (260)، الكويت، الطبعة الثانية، 1421 هـ - 2000 م. 413 - فرنسيس بيكون آراؤه وآثاره، د. محسن جهانكيري، الهادي، بيروت، الطبعة الأولى، 1426 هـ - 2005 م. 414 - فرويد والتراث الصوفي اليهودي، دافيد باكان، ترجمة وتقديم: د. طلال عتريسي، المؤسسة الجامعية، بيروت، الطبعة الثانية، 1423 هـ - 2002 م. 415 - فرويد. التحليل النفسي والفلسفة الغربية المعاصرة، فاليري ليبن، ترجمة: زياد الملا، مراجعة تيسير كم نقش، الطليعة الجديدة، دمشق، الطبعة الأولى، 1997 م. 416 - فضائل القرآن، للإمام الحافظ عماد الدين إسماعيل بن كثير، الأندلس، بيروت، دون بيانات أخرى. 417 - الفكر الاجتماعي الحديث - نظريات اجتماعية حديثة، أ. د. محمد فايز، الفيصل الثقافية، الرياض، طبعة 1406 هـ - 1986 م. 418 - الفكر الإسلامي وصلته بالاستعمار الغربي، د. محمد البهي، مكتبة وهبة، القاهرة، الطبعة الثانية عشرة، 1411 هـ - 1991 م. 419 - الفكر الإسلامي: قراءة علمية، محمد أركون، ترجمة: هاشم صالح، مركز الإنماء القومي، بيروت، طبعة 1987 م. 420 - الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد، د. محمد أركون، ترجمة وتعليق: هاشم صالح، الساقي، لندن، الطبعة الأولى، 1990 م. 421 - الفكر الإصلاحي في عهد الحماية (محمد بن الحسن الحجوي نموذجًا)، آسية بنعدادة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء - بيروت، الطبعة الأولى، 2003 م.

422 - الفكر الأوروبي الحديث 1601 - 1977 م، رونالد سترومبرج، ترجمة: أحمد الشيباني، القارئ العربي، القاهرة، الطبعة الثالثة، 1415 هـ - 1994 م. 423 - الفكر التربوي العربي الحديث، د. سعيد إسماعيل، عالم المعرفة، الكويت. 424 - الفكر التربوي عند الشيخ عبد الرحمن السعدي (دراسة تحليلية ناقدة)، د. عبد العزيز عبد الله الرشودي، ابن الجوزي، الدمام، طبعة 1420 هـ - 2000 م. 425 - الفكر الديني اليهودي - أطواره ومذاهبه، د. حسن ظاظا، القلم - دمشق، الشامية - بيروت، الطبعة الثالثة، 1416 هـ - 1995 م. 426 - الفكر الديني عند زكي نجيب محمود، د. مني أحمد أبو زيد، المؤسسة الجامعية، بيروت، الطبعة الأولى، 1416 هـ - 1996 م. 427 - الفكر العربي (مجلة الإنماء العربي للعلوم الإنسانية)، المقالات التالية (شبلي شميل والدين) و (شبلي شميل داعية العقائدية الغربية) و (السان سيمونيون كرواد لعصر النهضة في مصر)، عدد (39 - 40)، السنة السادسة، سنة 1985 م. 428 - الفكر العربي الحديث - أثر الثورة الفرنسية في توجيهية السياسي والاجتماعي، رئيف الخوري، تحقيق وتقديم: محمد كامل الخطيب، منشورات وزارة الثقافة السورية، الطبعة الثالثة، 1993 م. 429 - الفكر العربي في القرن العشرين 1950 م- 2000، شاكر النابلسي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 2001 م. 430 - الفكر العربي في معركة النهضة، د. أنور عبد الملك، الآداب، دون مكان، الطبعة الثالثة، 1981 م. 431 - الفكر العلمي، د. فؤاد زكريا، ذات السلاسل، الكويت، الطبعة الثالثة، 1989 م. 432 - الفكر المادي في ميزان الإسلام، د. صابر طعيمة، المعارف، الرياض، دون بيانات أخرى. 433 - الفكر اليوناني والثقافة العربية. . . .، ديمتري غوتاس، ترجمة: د. نقولا زيادة. 434 - فكر فرويد، إدغار بيش، ترجمة: جوزف عبد الله، المؤسسة الجامعية، بيروت، الطبعة الأولى، 1406 هـ - 1986 م. 435 - فكرة التطور في الفلسفة المعاصرة، عبد الله عمر العمر، دون دار وطبعة، الكويت، 1978 م. 436 - فكرة القومية العربية على ضوء الإسلام، صالح بن عبد الله العبود، طيبة، الرياض، الطبعة الأولى دون تاريخ.

437 - فكرة النفس عند العرب وموقعها في التحليل النفسي (أعمال المؤتمر الأول للمحللين النفسيين العرب)، الفارابي، بيروت، الطبعة الأولى، 2005 م. 438 - فلسفات تربوية معاصرة، د. سعيد إسماعيل علي، عالم المعرفة، رقم (198)، الكويت، طبعة 1416 هـ - 1995 م. 439 - فلسفة التجديد الإسلامي (نموذج الشيخ البشير الإبراهيمي)، د. محمد زرمان، الصحوة، القاهرة، طبعة 1419 هـ - 1999 م. 440 - الفلسفة الحديثة عرض نقدي، د. كريم متى، منشورات جامعة قاريونس، بنغازي، الطبعة الثانية، 1988 م. 441 - فلسفة العلم - الصلة بين الفلسفة والعلم، فيليب فرانك، ترجمة: أ. د. علي ناصف، المؤسسة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 1983 م. 442 - فلسفة العلم في فيزياء أينشتين بحث في منطق التفكير العلمي، د. عادل عوض، الوفاء، الإسكندرية، الطبعة الأولى، 2005 م. 443 - فلسفة العلم من الحتمية إلى اللاحتمية، د. يمنى طريف الخولي، قباء، القاهرة، طبعة 2001 م. 444 - فلسفة العلم، د. صلاح قنصوة، قباء، مصر، طبعة 1998 م. 445 - الفلسفة العلمية (رؤية نقدية)، د. ماهر عبد القادر محمد، النهضة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 1997 م. 446 - فلسفة العلوم - برامج الأبحاث العلمية، أمري لاكاتوش، ترجمة: د. ماهر عبد القادر محمد، النهضة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 1997 م. 447 - فلسفة العلوم (المشكلات المعرفية)، د. ماهر عبد القادر محمد، النهضة العربية، بيروت، طبعة 1404 هـ - 1984 م. 448 - فلسفة العلوم (قراءة عربية)، د. ماهر عبد القادر محمد، النهضة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 1997 م. 449 - فلسفة العلوم، د. بدوى عبد الفتاح محمد، قباء، القاهرة، طبعة 2001 م. 450 - فلسفة القيم، جان - بول رزفبر، ترجمة: د. عادل العوا، عويدات، بيروت، الطبعة الأولى، 2001 م. 451 - الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، د. عبد الوهاب المسيري، الفكر المعاصر - بيروت، الفكر - دمشق، الطبعة الأولى، 1423 هـ - 2002 م. 452 - الفلسفة المعاصرة في أوروبا، إ. م. بوشنسكي، ترجمة: د. عزت قرني، عالم المعرفة رقم (165)، الكويت، طبعة 1413 هـ - 1992 م.

453 - الفلسفة النشوئية وأبعادها الاجتماعية - قراءة في تجربة شبلي الشميل الفلسفية، د. محمود المسلماني، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 2003 م. 454 - الفلسفة أنواعها ومشكلاتها، هنتر ميد، ترجمة: د. فؤاد زكريا، نهضة مصر، القاهرة، الطبعة الثانية، 1975 م. 455 - فلسفة ديكارت ومنهجه - دراسة تحليلية ونقدية، د. مهدي فضل الله، الطليعة، بيروت، الطبعة الثالثة، 1996 م. 456 - الفلسفة في الوطن العربي في مائة عام، أعمال الندوة الفلسفية الثانية عشرة التي نظمتها الجمعية الفلسفية المصرية بجامعة القاهرة، مركز دراسات الوحدة العربية - بيروت، الجمعية الفلسفية المصرية، الطبعة الأولى، 2002 م. 457 - في الفكر الفلسفي المعاصر "رؤية علمية"، د. محمد محمد قاسم، النهضة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 2001 م. 458 - في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، الطبعة التاسعة، 1400 هـ - 1980 م. 459 - في فلسفة الطب، د. أحمد محمود صبحي، د. محمود فهمي زيدان، تقديم: د. محمود مرسي عبد الله، النهضة العربية، بيروت، طبعة 1993 م. 460 - في فلسفة العلوم، د. إبراهيم مصطفى إبراهيم، الوفاء، الإسكندرية، الطبعة الأولى، 2000 م. 461 - الفيزياء والفلسفة، جيمس جينز، ترجمة: جعفر رجب، المعارف، القاهرة، دون بيانات أخرى. 462 - الفيزياء ووجود الخالق - مناقشة عقلانية إسلامية لبعض الفيزيائيين والفلاسفة الغربيين، أ. د. جعفر شيخ إدريس، المنتدى الإسلامي، الطبعة الأولى، 1422 هـ - 2001 م. 463 - قاسم أمين - الأعمال الكاملة، د. محمد عمارة، الشروق، القاهرة - بيروت، الطبعة الثانية، 1409 هـ - 1989 م. 464 - قراءة في فكر التبعية، محمد جلال كشك، التراث، القاهرة، الطبعة الأولى، 1414 هـ - 1994 م. 465 - القرآن الكريم والعلم العصري، موريس بوكاي، ترجمه فودي سوريبا كمارا، المآثر، المدينة المنورة، الطبعة الأولى، 1420 هـ -2000 م. 466 - القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، محمد أركون، ترجمة وتعليق: هاشم صالح، الطليعة، بيروت، الطبعة الثانية، 2005 م.

467 - القرآن والاقتصاد السياسي، محمد سلمان غانم، الفارابي، بيروت، الطبعة الأولى، 1999 م. 468 - القرآن والنظر العقلي، فاطمة إسماعيل محمد إسماعيل، المعهد العالمي للفكر إالإسلامي، هيرندن -فرجينيا- الولايات المتحدة الأمريكية، الطبعة الأولى، 1413 هـ - 1993 م. 469 - قشور ولباب، د. زكي نجيب محمود، الشروق، بيروت - القاهرة، طبعة 1401 هـ - 1981 م. 470 - قصة الفلسفة من أفلاطون إلى جون ديوي. . . .، ول ديورانت، ترجمة: فتح الله محمد المشعشع، المعارف، بيروت، الطبعة السادسة، 1408 هـ - 1988 م. 471 - قصة المواجهة بين المغرب والغرب، عبد الكريم غلاب، الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 2003 م. 472 - قصور العلم البشري - استعراض آراء رواد العلم الحديث والعلماء المسلمين في آفاق العلم المكتسب وحدوده، قيس القرطاس، راجعه وقدم له أ. د. زغلول النجار، الفيصل الثقافية، الرياض، الطبعة الأولى، 1419 هـ - 1998 م. 473 - قضايا المنهجية في العلوم الإسلامية والاجتماعية، تحرير: د. نصر محمد عارف، وإعداد مجموعة من المفكرين، المعهد العالمي للفكر الإسلامى، القاهرة، الطبعة الأولى، 1417 هـ - 1996 م. 474 - قضايا علم الأخلاق - دراسة نقدية من زاوية علم الاجتماع، د. قباري محمد إسماعيل، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الثانية، 1978 م. 475 - قضايا في الفكر المعاصر (العولمة - صراع الحضارات ..)، د. محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 1997 م. 476 - قضايا في نقد العقل الديني. كيف نفهم الإسلام اليوم؟ محمد أركون، ترجمة وتعليق: هاشم صالح، الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 1998 م. 477 - قضايا من رحاب الفلسفة والعلم، د. توفيق الطويل، دار النهضة العربية، القاهرة، دون بيانات أخرى. 478 - قلق في الحضارة، سيغموند فرويد، ترجمة: جورج طرابيشي، الطليعة، بيروت، الطبعة الرابعة، 1996 م. 479 - القول الفصل بين الذين يؤمنون بالغيب والذين لا يؤمنون (مختصر موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين المسمى القول الفصل ..)، مصطفى صبري شيخ الإسلام للدولة العثمانية سابقًا، دار السلام، دون مكان، طبعة 1407 هـ - 1986 م.

480 - القوى الدينية في إسرائيل بين تكفير الدولة ولعبة السياسة، د. رشاد الشامي، عالم المعرفة (186)، الكويت، طبعة 1414 هـ - 1994 م. 481 - القيم بين الإسلام والغرب - دراسة تأصيلية مقارنة، د. مانع محمد المانع، الفضيلة، الرياض، الطبعة الأولى، 1426 هـ - 2005 م. 482 - قيم من التراث، د. زكي نجيب محمود، الشروق، القاهرة، الطبعة الثانية، 1409 هـ - 1989 م. 483 - كانت أو الفلسفة النقدية، د. زكريا إبراهيم، مكتبة مصر، مصر، دون بيانات أخرى. 484 - كتاب الأخلاق، أحمد أمين، الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1426 هـ - 2005 م. 485 - كتاب الذيل على طبقات الحنابلة، لابن رجب زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن شهاب الدين، المعرفة، بيروت، دون بيانات أخرى. 486 - كتاب العلم، الشيخ محمد بن صالح العثيمين، إعداد فهد ناصر السليمان، الثريا، الرياض، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 1999 م. 487 - الكتاب والقرآن - قراءة عصرية، د. محمد شحرور، سنا، القاهرة، الطبعة الأولى، 1992 م. 488 - كتب غيرت الفكر الإنساني، أحمد محمد الشنواني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، طبعة 1990 م. 489 - كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، مصطفى عبد الله الشهير بحاجي خليفة، إحياء التراث العربي، بيروت، دون بيانات أخرى. 490 - كنط وفلسفته النظرية، د. محمود زيدان، المعارف، مصر، الطبعة الثالثة، 1979 م. 491 - لجنة التأصيل الإسلامي للعلوم (التقرير السنوي لعام 1424 هـ)، الندوة العالمية للشباب الإسلامي، الرياض. 492 - لسان العرب، لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور، صابر، بيروت، الطبعة الأولى، 1410 هـ - 1990 م. 493 - لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ الأمير شكيب أرسلان، تقديم: محمد رشيد رضا، مراجعة خالد فاروق، البشير، القاهرة، دون بيانات أخرى. 494 - الله والعلم، جان غيتون من الأكاديمية الفرنسية والعالمان غريشكا وَإيغور بوغدانوف، تعريب الدكتور خليل أحمد خليل، عويدات، بيروت - باريس، الطبعة الأولى، 1992 م.

495 - الله يتجلى في عصر العلم، نخبة من العلماء الأمريكيين، أشرف على تحريره جون كلوفرمونسيما، ترجمة: د. الدمرداش عبد المجيد سرحان، راجعه د. محمد جمال الدين الفندي، القلم، بيروت، دون بيانات أخرى. 496 - المؤامرة الكبرى على بلاد الشام - دراسة تحليلية للنصف الأول من القرن العشرين محمد فاروق الخالدي، الراوي، الدمام، الطبعة الأولى، 1421 هـ - 2000 م. 497 - المؤامرة على المرأة المسلمة - تاريخ ووثائق، د. السيد أحمد فرج، الوفاء، المنصورة - مصر، الطبعة الثانية، 1407 هـ - 1986 م. 498 - ما أصل الإنسان؟ إجابات العلم والكتب المقدسة، د. موريس بوكاي، ترجمة: مكتب التربية العربي لدول الخليج، الرياض، الطبعة الثانية، 1985 م. 499 - ما دلّ عليه القرآن مما يعضد الهيئة الجديدة القويمة البرهان، السيد محمود شكري الآلوسي، تحقيق: محمد زهير الشاويش، تخريج: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت .. ، الطبعة الثانية، 1418 هـ - 1997 م. 500 - ما وراء الأوهام، إريش فروم، ترجمة: صلاح حاتم، دار الحوار، اللاذقية - سوريا، الطبعة الأولى، 1994 م. 501 - المادية ومذهب نقد التجربة، لينين، إعداد د. توفيق السلوم، الفارابي، بيروت، الطبعة الأولى، 1986 م. 502 - ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ أبو الحسن علي الحسن الندوي، مطبعة الفيصل الإسلامية، الكويت، الطبعة الرابعة، 1985 م. 503 - الماسونية ذلك العالم المجهول، د. صابر طعيمة، الجيل، بيروت، الطبعة السادسة، 1413 هـ - 1993 م. 504 - الماسونية في العراء، د. محمد علي الزعبي، مطابع معتوق، دون بيانات أخرى. 505 - ما هي الإبستمولوجيا؟ محمد وقيدي، مكتبة المعرفة، الرباط، الطبعة الثانية، دون تاريخ. 506 - ما هي المادية (النظرية المادية في المعرفة)، روجيه غارودي، ترجمة: محمد عيتاني، المعجم العربي، بيروت، دون بيانات أخرى. 507 - مبادئ الفلسفة، ا. س. رابوبرت، ترجمة: أحمد أمين، الكتاب العربي، بيروت، دون معلومات أخرى. 508 - مبادئ فلسفة المستقبل، لودفيغ فيورباخ، قدم لها وترجمها: إلياس مرقص، الحقيقة، بيروت، الطبعة الأولى، 1975 م.

509 - مجلة البحوث الإسلامية، مجلة دورية تصدر عن رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء، الرياض، عدد (43)، سنة 1415 هـ، مقالة: جمال الدين القاسمي علامة الشام، للأستاذ عدنان الدبسي. 510 - مجلة البيان، مجموعة من أعدادها مثل عدد (12)، وعدد (198)، مع القرص الحاسوبي، المنتدى الإسلام، لندن. 511 - مجلة الجامعة العثمانية، جميع مجلدات المجلة لصاحبها فرح أنطون. 512 - مجلة الطريق، العدد الرابع سنة 1995 م، بيروت، مقال: (الإسلام والعلمانية - د. صادق جلال العظم)، ومقال: (العلمانية بوصفها أيدلوجيا أو العرب والتناقض بين التاريخ والمشروع - د. أحمد برقاوي). 513 - مجلة الفكر العربي البيروتية، عدد (39 - 40) مقالة: السان سيمونيون كرواد لعصر النهضة في مصر، د. رفيق سكري، سنة 1985 م. 514 - مجلة الكلمة، عرض لأوراق مؤتمر (حملة بونابرت على مصر وبلاد الشام: بداية استعمار أم بداية نهضة) سنة 1998 م، قسم (تقارير ومتابعات) عدد 22، السنة السادسة شتاء 1999 م - 1420 هـ. 515 - مجلة المقتطف، مجلدات مجلة المقتطف، لصاحبها يعقوب صروف. 516 - مجلة المنار، مجلدات مجلة المنار، مع القرص الحاسوبي. لصاحبها الشيخ محمد رشيد رضا. 517 - مجلة فكر ونقد، العدد العاشر مقالة: كيف حصلت "الثورة العلمية" في أوروبا؟ لـ بناصر البعزاتي، مجلة مغربية بإشراف د. محمد عابد الجابري. 518 - المجموع شرح المهذب للشيرازي، للإمام أبي زكريا محيي الدين ابن شرف النووي، تحقيق: محمد نجيب المطيعي، عالم الكتب، طبعة 1423 هـ - 2003 م. 519 - مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، جمع وترتيب: الفقير إلى الله: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم .. وساعده ابنه محمد، دار عالم الكتب، الرياض، 1412 هـ - 1991 م. 520 - مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، الشيخ عبد العزيز بن باز، جمع وترتيب: د. محمد الشويعر، طبع رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء، الرياض، الطبعة الأولى، 1418 هـ - 1997 م. 521 - المحاضرات السنية في شرح العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية، سماحة الشيخ محمد الصالح العثيمين، تحقيق: أبي محمد أشرف عبد المقصود، طبرية، الرياض، الطبعة الأولى، 1413 هـ - 1993 م.

522 - محاضرات في النصرانية. . . .، الشيخ محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، دون بيانات أخرى. 523 - محمد رشيد رضا ودوره في الحياة الفكرية والسياسية، د. أحمد فهد الشوابكة، عمار، عمان - الأردن، الطبعة الأولى، 1409 هـ - 1989 م. 524 - محمد عبده، عباس محمود العقاد، المكتبة العصرية، بيروت، دون بيانات أخرى. 525 - محمود شكري الألوسي - سيرته ودراساته اللغوية، للعلامة محمد بهجة الأثري، منشورات مركز المخطوطات والوثائق .. ، الكويت، الطبعة الأولى، 1416 هـ - 1995 م. 526 - مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، لابن قيم الجوزية، تحقيق: سيد إبراهيم، الحديث، القاهرة، الطبعة الأولى، 1412 هـ - 1992 م. 527 - مختصر موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين المسمى القول الفصل. . . . انظره في القول الفصل. 528 - مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد إياك نستعين، ابن قيم الجوزية، تحقيق: محمد الفقي، توزيع دار إرشاد الحديثة، الدار البيضاء، دون بيانات أخرى. 529 - مدخل إلى إسلامية المعرفة، د. عماد الدين خليل، ابن كثير، دمشق - بيروت، الطبعة الأولى، 1427 هـ - 2006 م. 530 - مدخل إلى التنوير الأوروبي، هاشم صالح، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 2005 م. 531 - مدخل إلى التنوير، د. مراد وهبة، دار العالم الثالث - القاهرة، دار النهج الجديد - الكويت، الطبعة الأولى، 1994 م. 532 - المدخل إلى علم مقاصد الشريعة - من الأصول النصية إلى الإشكاليات المعاصرة، د. عبد القادر بن حرز الله، الرشد، الرياض، الطبعة الأولى، 1426 هـ - 2005 م. 533 - مدخل إلى فلسفة العلوم - العقلانية المعاصرة وتطور الفكر العلمي، د، محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الخامسة، 2002 م. 534 - مدخل لدراسة الأحزاب السياسية العربية، د. رسلان شرف الدين، الفارابي، بيروت، الطبعة الأولى، 2006 م. 535 - مدخل للفكر الاقتصادي في الإسلام، د. سعيد سعد مرطان، الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية، 1417 هـ - 1996 م.

536 - المدرسة العصرانية في نزعتها المادية - تعطيل للنصوص وفتنة بالتغريب، محمد حامد الناصر، الكوثر، الرياض، الطبعة الأولى، 1425 هـ - 2004 م. 537 - مدرسة فرانكفورت، بول - لوران آسون، ترجمة: د. سعاد حرب، المؤسسة الجامعية، بيروت، الطبعة الثانية، 1425 هـ - 2005 م. 538 - مدرسة فرانكفورت، توم بوتومور، ترجمة: سعد هجرس، مراجعة د. محمد دياب، أويا، طرابلس، ليبيا، الطبعة الثانية، 2004 م. 539 - المذاهب الأخلاقية - عرض ونقد، د. عادل العوا، مطبعة الجامعة السورية، طبعة 1378 هـ - 1959 م. 540 - مذاهب فكرية معاصرة، محمد قطب، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الرابعة، 1409 هـ - 1988 م. 541 - مذكرات السلطان عبد الحميد، د. محمد حرب، القلم، دمشق، الطبعة الثالثة، 1412 هـ - 1999 م. 542 - مذهب النشوء والارتقاء - بحث انتقادي علمي فلسفي في مذهب النشوء والارتقاء وأثره في الانقلاب الفكري الحديث، إسماعيل مظهر، مطبعة المقتطف والمقطم بمصر، الطبعة الأولى، 1341 هـ - 1923 م. 543 - المرأة الجديدة، قاسم أمين، الهيئة المصرية العامة للكتاب، طبعة 1993 م. 544 - المرأة بين الفقه والقانون، د. مصطفى السباعي، المكتب الإسلامي، بيروت - دمشق، الطبعة السادسة، 1404 هـ - 1984 م. 545 - المستصفى من علم الأصول، الإمام أبو حامد محمد محمد الغزالي، تحقيق: د. حمزة زهير حافظ، شركة المدينة، جدة، دون بيانات. 546 - مستقبل الثقافة في مصر، د. طه حسين، الهيئة المصرية العامة للكتاب، طبعة 1993 م. 547 - مستقبل وهم، سيغموند فرويد، ترجمة: جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الثالثة، 1981 م. 548 - مسند الإمام أحمد، طبعة محققة بإشراف د. عبد الله التركي، وأشرف على التحقيق: الشيخ شعيب الأرناؤوط، الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1421 هـ - 2001 م. 549 - مسند الإمام أحمد، مجلد واحد جمع المسند كاملًا، طبعة بيت الأفكار الدولية.

550 - مشكلة العلوم الإنسانية - تقنيتها وإمكانية حلها، قباء، القاهرة، الطبعة 2002 م. 551 - مصرع الدارونية، محمد علي يوسف، دار الشروق، جدة، الطبعة الأولى، 1403 هـ - 1983 م. 552 - مضمون الأسطورة في الفكر العربي، د. خليل أحمد خليل، الطليعة، بيروت، الطبعة الثالثة، 1986 م. 553 - معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية، محمد أركون، ترجمة وتعليق: هاشم صالح، الساقي، بيروت - لندن، الطبعة الأولى، 2001 م. 554 - معالم التحليل النفسي، د. محمد نجاتي، الشروق، القاهرة - بيروت، الطبعة السادسة، 1986 م. 555 - المعاملات المصرفية والربوية وعلاجها في الإسلام، نور الدين عتر، الرسالة، بيروت، الطبعة الرابعة، 1400 هـ - 1980 م. 556 - المعتقدات الدينية لدى الغرب، د. عبد الراضي محمد عبد المحسن، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، الرياض، الطبعة الأولى، 1421 هـ - 2001 م. 557 - المعرفة الإسلامية: مصادرها ومجالاتها، د. عبد الله محمد القرني، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، الطبعة الأولى، 1419 هـ. 558 - المغني، لموفق الدين أبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة، تحقيق: د. عبد الله التركي وَعبد الفتاح الحلو، عالم الكتب، دون مكان، الطبعة الثالثة، 1417 هـ - 1997 م. 559 - مفاتيح العلوم، محمد بن أحمد الخوارزمي، تحقيق: إبراهيم الأبياري، الكتاب العربي، الطبعة الثانية، 1409 هـ - 1989 م. 560 - المفارقات المنهجية في فكر زكي نجيب محمود، أسامة علي حسن الموسى، مطبوعات جامعة الكويت، الطبعة الأولى، 1997 م. 561 - مفاهيم علماء النفس (دراسة وتقويم) رؤية إسلامية، هشام البدراني، دار البيارق، الأردن - عمان، الطبعة الأولى، 1418 هـ - 1998 م. 562 - مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، الإمام أبي عبد الله محمد ابن قيم الجوزية، دار الفكر، دون بيانات أخرى. 563 - المفكرورن المسلمون في مواجهة المنطق اليوناني، مصطفى طباطبائي، ترجمه عن الفارسية عبد الرحيم البلوشي، ابن حزم، الطبعة الأولى، 1410 هـ - 1990 م.

564 - مفهوم النص - دراسة في علوم القرآن، د. نصر حامد أبو زيد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء - بيروت، الطبعة الثانية، 1994 م. 565 - مفهوم تجديد الدين، بسطامي محمد سعيد، الدعوة، الكويت، الطبعة الأولى، 1405 هـ - 1984 م. 566 - مقارنة الأديان - 1 - اليهودية، د. أحمد شلبي، النهضة المصرية، القاهرة، الطبعة الثامنة، 1988 م. 567 - مقارنة الأديان - 2 - المسيحية، د. أحمد شلبى، النهضة المصرية، القاهرة، الطبعة الثامنة، 1984 م. 568 - مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، تحقيق: محمد محيي الدين، المكتبة العصرية، بيروت، 1411 هـ - 1990 م. 569 - مقاييس نقد متون السنة، د. مسفر الدمينى، الطبعة الأولى، 1404 هـ, دون بيانات أخرى. 570 - المقدمات التاريخية للعلم الحديث من الإغريق القدماء إلى عصر النهضة، توماس جولد شتاين، أحمد حسان عبد الواحد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، طبعة 2004 م. 571 - مقدمات في الأهواء والافتراق والبدع، د. ناصر بن عبد الكريم العقل، الوطن، الرياض، الطبعة الأولى، 1414 هـ. 572 - مقدمة ابن خلدون، عبد الرحمن محمد بن خلدون، تحقيق: د. علي عبد الواحد وافي، نهضة مصر، القاهرة، دون بيانات أخرى. 573 - مقدمة في إسلامية المعرفة، طه جابر العلواني، الهادي، بيروت، الطبعة الأولى، 1421 هـ - 2001 م. 574 - مقدمة في الإنسانيات والعلوم الاجتماعية، د. أحمد بدر، قباء، القاهرة، دون بيانات أخرى. 575 - مقدمة في علم الاستغراب، د. حسن حنفي، المؤسسة الجامعية، بيروت، الطبعة الأولى، 1412 هـ - 1992 م. 576 - المقدمة في فلسفة الدين، أديب صعب، النهار، بيروت، طبعة 1994 م. 577 - مقومات التصور الإسلامي، سيد قطب، الشروق، القاهرة، الطبعة الخامسة، 1418 هـ - 1997 م. 578 - المكون اليهودي في الحضارة الغربية، سعد البازعي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء - بيروت، الطبعة الأولى، 2007 م.

579 - من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي، محمد أركون، ترجمة: هاشم صالح، الساقي، لندن، الطبعة الأولى، 1991 م. 580 - من العلم العلماني إلى العلم الديني، مهدي كلشني، الهادي، بيروت، الطبعة الأولى، 1424 هـ - 2003 م. 581 - من فيصل التفرقة إلى فصل المقال. . . . أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟ ترجمة وتعليق: هاشم صالح، الساقي، بيروت - لندن، الطبعة الأولى، 1993 م. 582 - من نظريات العلم المعاصر إلى المواقف الفلسفية، د. محمود فهمي زيدان، النهضة العربية، بيروت، طبعة 1982 م. 583 - المناحي الجديدة للفكر الفلسفي المعاصر، سالم يفوت، الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 1999 م. 584 - المنافقون في القرآن الكريم، د. عبد العزيز الحميدي، المجتمع، جدة، الطبعة الأولى، 1409 هـ - 1989 م. 585 - مناهج البحث الفلسفي، د. محمود فهمي زيدان، تقديم: د. محمد فتحي عبد الله، الوفاء، الإسكندرية، الطبعة الأولى، 2004 م. 586 - مناهج البحث عند مفكري الإسلام واكتشاف المنهج العلمي في العالم السوي، د. علي سامي النشار، النهضة العربية، بيروت، طبعة 1404 هـ - 1984 م. 587 - مناهج البحث في العقيدة الإسلامية في العصر الحاضر. . . .، د. عبد الرحمن بن زيد الزنيدي، إشبيليا، الرياض، الطبعة الأولى، 1418 هـ - 1998 م. 588 - منطق التقدم العلمي، د. خالد قطب، قباء، القاهرة، طبعة 2003 م. 589 - منطق الكشف العلمي، كارل بوبر، د. ماهر عبد القادر محمد، النهضة العربية، بيروت، دون بيانات أخرى. 590 - المنطق ومناهج البحث، د. ماهر عبد القادر محمد، النهضة العربية، بيروت، 1405 هـ -1985 م. 591 - المنهاج القرآني في التشريع، د. عبد الستار فتح الله سعيد. 592 - منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة، عثمان علي حسن، الرشد، الرياض، الطبعة الأولى، 1412 هـ - 1992 م. 593 - منهج الإمام الشوكاني في العقيدة، د. عبد الله نوموسوك، القلم والكتاب، الرياض، الطبعة الثانية، 1414 هـ - 1994 م. 594 - منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية، محمد محمد أمزيان، الدار العالمية للكتاب الإِسلامي - الرياض، المعهد العالمي للفكر الإِسلامي - هيرندن، فيرجينيا، الولايات المتحدة الأمريكية، الطبعة الثانية، 1413 هـ - 1992 م.

595 - منهج الشيخ محمد رشيد في العقيدة، تأمر محمد متولي، دار ماجد عسيري، جدة، الطبعة الأولى، 1425 هـ - 2004 م. 596 - منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير، فهد عبد الرحمن الرومى، الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1401 هـ - 1981 م. 597 - منهجية التفكير العلمي في القرآن الكريم وتطبيقاتها التربوية، د. خليل الحدري، عالم الفوائد، مكة المكرمة، الطبعة الأولى، 1425 هـ - 2005 م. 598 - المهذب في علم أصول الفقه المقارن، أ. د. عبد الكريم بن علي النملة، الرشد، الرياض، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 1999 م. 599 - مهمة فرويد - تحليل لشخصيته وتأثيره، أريك فروم، ترجمة: طلال عتريسي، المؤسسة الجامعية، بيروت، الطبعة الأولى، 1407 هـ -1987 م. 600 - الموافقات في أصول الشريعة، لأبي إسحاق الشاطبي - إبراهيم بن موسى، شرحه وخرج أحاديثه: فضيلة الشيخ عبد الله دراز، وضع تراجمه: محمد عبد الله دراز، خرج آياته وفهرس موضوعاته: عبد السلام عبد الشافي محمد، دار الكتب العلمية، بيروت، دون بيانات. 601 - المواقف في علم الكلام، عضد الله والدين القاضي عبد الرحمن بن أحمد الأيجي، عالم الكتب، بيروت، دون بيانات أخرى. 602 - موت الإنسان في الخطاب الفلسفي المعاصر - هيدجر، ليفي ستوس، ميشيل فوكو، د. عبد الرزاق عيد، الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 1992 م. 603 - موجز التاريخ الإسلامي منذ ظهور الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى العصر الحاضر 1420 هـ/ 1999 - 2000 م، أحمد معمور العسيري، دون مكان، الطبعة الثالثة، 1420 هـ - 2000 م. 604 - موجز تاريخ الفلسفة، تأليف: جماعة من الأساتذة السوفيات، ترجمة وتقديم: د. توفيق سلوم، الفارابي، بيروت، الطبعة الأولى، 1989 م. 605 - موسوعة الجندي، تاريخ الإسلام (المجلد الثاني)، أنور الجندي، الأنصار، مصر، دون بيانات أخرى. 606 - موسوعة الجندي، مقدمات العلوم والمناهج، محاولة لبناء منهج إسلامي متكامل، عالم الإِسلام المعاصر (المجلد الثالث)، أنور الجندي، الأنصار، مصر، دون بيانات أخرى. 607 - موسوعة الجندي، مقدمات العلوم والمناهج، محاولة لبناء منهج إسلامي متكامل، اللغة والأدب والثقافة (المجلد الرابع)، أنور الجندي، الأنصار، مصر، دون بيانات أخرى.

608 - موسوعة الجندي، مقدمات العلوم والمناهج، محاولة لبناء منهج إسلامي متكامل، التبشير والاستشراق والدعوات الهدامة (المجلد الخامس)، أنور الجندي، الأنصار، مصر، دون بيانات أخرى. 609 - موسوعة الجندي، مقدمات العلوم والمناهج، محاولة لبناء منهج إسلامي متكامل، المجتمع الإِسلامي - نظام الإِسلام، قضايا المجتمع، التربية الإسلامية، مناهج التعليم، (المجلد السادس)، أنور الجندي، الأنصار، مصر، دون بيانات أخرى. 610 - موسوعة الجندي، مقدمات العلوم والمناهج، محاولة لبناء منهج إسلامي متكامل، تاريخ اليقظة الإسلامية (الجزء العاشر)، أنور الجندي، الأنصار، مصر، دون بيانات أخرى. 611 - موسوعة الجندي، مقدمات العلوم والمناهج، محاولة لبناء منهج إسلامي متكامل، المنهج الغربي - أخطاؤه وشبهاته والشبهات المثارة حول الإسلام (المجلد التاسع)، أنور الجندي، الأنصار، مصر، دون بيانات أخرى. 612 - موسوعة الجندي، مقدمات العلوم والمناهج، محاولة لبناء منهج إسلامي متكامل، الحضارة والعلوم - (العلم - الحضارة - العلوم الاجتماعية) (المجلد السابع)، أنور الجندي، الأنصار، مصر، دون بيانات أخرى. 613 - موسوعة الجندي، مقدمات العلوم والمناهج، محاولة لبناء منهج إسلامي متكامل، طابع الإسلام بين الأديان والأيدلوجيات (المجلد الثامن)، أنور الجندي، الأنصار، مصر، دون بيانات أخرى. 614 - موسوعة نصرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -، إعداد مجموعة من المختصين بإشراف صالح بن عبد الرحمن بن حميد إمام وخطيب الحرم المكي، الوسيلة، جدة، الطبعة الأولى، 1418 هـ -1998 م. 615 - الموضوعية في العلوم الإنسانية - عرض نقدي لمناهج البحث، قباء، القاهرة، طبعة 2003 م. 616 - موقف ابن تيمية من الأشاعرة، د. عبد الرحمن بن صالح المحمود، الرشد، الرياض، الطبعة الأولى، 1415 هـ - 1995 م. 617 - موقف الدين من العلم، د. علي فؤاد باشكيل، ترجمة: أورخان محمد علي، الوثائق، الكويت، دون بيانات أخرى. 618 - موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين، مصطفى صبري شيخ الإسلام للدولة العثمانية سابقًا، إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 1401 هـ - 1981 م.

619 - موقف المتكلمين من الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة "عرضا ونقدا"، سليمان صالح الغصن، دار العاصمة، الرياض، الطبعة الأولى، 1416 هـ - 1996 م. 620 - موقف أهل السنة والجماعة من العلمانية، محمد عبد الهادي المصري، الوطن، الرياض، الطبعة الثانية، 1412 هـ. 621 - موقف شيخ الإسلام من آراء الفلاسفة ومنهجه في عرضها، د. صالح الغامدي، المعارف، الرياض، الطبعة الأولى، 1424 هـ - 2003 م. 622 - موقف من الميتافيزيقا، د. زكي نجيب محمود، الشروق، القاهرة، الطبعة الثالثة، 1408 هـ - 1987 م. 623 - الميتافيزيقا عند الفلاسفة المعاصرين، د. محمود رجب، المعارف، مصر، الطبعة الثالثة، 1987 م. 624 - الميتافيزيقا، العلم والأيديولوجيا، عبد السلام بن عبد العالي، الشركة المغربية للناشرين المتحدين - الرباط، دار الطليعة - بيروت، الطبعة الأولى، 1981 م. 625 - ميزات الشريعة الإسلامية على القوانين الوضعية، عبد الحميد طهماز، القلم، دمشق، الطبعة الأولى، 1411 هـ - 1991 م. 626 - النبأ العظيم - نظرات جديدة في القرآن، د. محمد عبد الله دراز، دار القلم، الطبعة السابعة، 1413 هـ - 1993 م. 627 - النبي موسى ورسالة التوحيد، سيجموند فرويد، ترجمة: د. عبد المنعم الحفني، الرشاد، القاهرة، الطبعة الأولى، 1411 هـ -1991 م. 628 - نحن والعلم - دراسات في تاريخ علم الفلك بالغرب الإسلامي، سالم يفوت، الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 1995 م. 629 - نحو علم اجتماع عربي - علم الاجتماع والمشكلات العربية الراهنة، مجموعة اجتماعيين عرب، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 1986 م. 630 - نحو فلسفة علمية، د. زكي نجيب محمود، الإنجلو المصرية، القاهرة، الطبعة الأولى، 1958 م. 631 - نحو منهجية إسلامية للعلوم الإنسانية والاجتماعية، د. سيد محمد الشنقيطي، دار المسلم، الطبعة الأولى، 1415 هـ - 1994 م. 632 - نحو نظرية جديدة في علم الاجتماع الديني، (الطوطمية - اليهودية - النصرانية - الإسلام)، د. يوسف شلحت، ترجمة: أ. د. خليل أحمد خليل، الفارابي، بيروت، الطبعة الأولى، 2003 م.

633 - النزعة العلمية في فلسفة كارل بوبر بين التجربة والميتافيزيقيا، حنان علي عواضة، الهادي، بيروت، الطبعة الأولى، 1422 هـ - 2002 م. 634 - النسبية - النظرية الخاصة والعامة، ألبرت أينشتين، ترجمة: د. رمسيس شحاته، نهضة مصر، مصر، دون بيانات أخرى. 635 - النسبية بين العلم والفلسفة، أ. د. عبد القادر بشتة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء - بيروت، الطبعة الأولى، 2002 م. 636 - نشأة الدين، د. علي سامي النشار، مركز الإنماء الحضاري، حلب، الطبعة الأولى، 1995 م. 637 - نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، د. علي النشار، المعارف، القاهرة، الطبعة الثامنة، دون تاريخ. 638 - نشوء الشرق الأدنى الحديث (1792 - 1923 م)، مالكولم ياب، ترجمة: خالد الجبيلي، الأهالي، دمشق، الطبعة الأولى، 1998 م. 639 - نظريات نشأة الكون في الفكر الإسلامي، د. إبراهيم محمد تركي، الوفاء، الإسكندرية، الطبعة الأولى، 2002 م. 640 - النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، إيان كريب، ترجمة: د. محمد حسن غلوم, مراجعة د. محمد عصفور، عالم المعرفة (244)، الكويت، سنة 1419 هـ - 1999 م. 641 - النظرية الاقتصادية في الإسلام - مع خطة عمل تطبيقية لنظام اقتصادي إسلامي متكامل، فكري أحمد نعمان، المكتب الإسلامي - بيروت، القلم - دبي، الطبعة الأولى، 1405 هـ - 1985 م. 642 - نظرية التطور بين العلم والدين، علي أحمد الشحات، تقديم: د. مصطفى كمال طلبة، الخانجي، القاهرة، دون بيانات أخرى. 643 - نظرية التطور عند مفكري الإسلام - دراسة مقارنة، د. محفوظ علي عزام، الهداية، مصر، الطبعة الثانية، 1406 هـ - 1986 م. 644 - النظرية العامة للقيمة - دراسة للقيم في الفكر المعاصر، د. أحمد عبد الحليم عطية، قباء، القاهرة، الطبعة الأولى، 2004 م. 645 - نظرية القيم في الفكر المعاصر، د. صلاح قنصوة، التنوير، بيروت، الطبعة الثانية، 1984 م. 646 - نظرية المعرفة - من سماء الفلسفة إلى أرض المدرسة، د. عادل السكري، تقديم: د. حامد عمار، الدار المصرية اللبنانية، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 1999 م.

647 - نظرية المعرفة بين القرآن والفلسفة، د. راجح عبد الحميد الكردي، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، هيرندن -فيرجينيا- الولايات المتحدة الأمريكية، المؤيد - الرياض، الطبعة الأولى، 1412 هـ - 1992 م. 648 - نظرية المعرفة عند مفكري الإسلام وفلاسفة الغرب المعاصرين، د. محمد زيدان، النهضة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 1989 م. 649 - نظرية المعرفة في القرآن الكريم وتضميناتها التربوية، د. أحمد محمد الدغشي، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، عمان - الأردن، دار الفكر - دمشق، الطبعة الأولى، 1422 هـ - 2002 م. 650 - النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت - تمهيد وتعقيب نقدي، د. عبد الغفار مكاوي، حوليات كليات الآداب، جامعة الكويت، الحولية الثالثة عشرة، الرسالة الثامنة والثمانون، 1412 هـ - 1992 م. 651 - نقد العقل الإسلامي عند محمد أركون، د. مختار الفجاري، الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 2005 م. 652 - نقد الفكر الاجتماعي المعاصر - دراسة تحليلية نقدية، د. معن خليل عمر، دار الآفاق الجديدة، بيروت، الطبعة الأولى، 1402 هـ - 1982 م. 653 - نقد الفكر الديني، د. صادق جلال العظم، دار الطليعة، بيروت، الطبعة السابعة، 1994 م. 654 - النقد في عصر التنوير إ. كنت، د. نازلي إسماعيل، النهضة العربية، مصر. 655 - نقد نقد العقل العربي، نظرية العقل، جورج طرابيشي، الساقي، بيروت - لندن. 656 - نقض المنطق، شيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق: الشيخ محمد بن عبد الرزاق حمزة وَالشيخ سليمان الصنيع، وصححه محمد الفقي، المكتبة العلمية، بيروت، دون بيانات أخرى. 657 - النهاية في غريب الحديث والأثر، للإمام مجد الدين أبي السعادات المبارك بن محمد الجزري، ابن الأثير، تحقيق: طاهر الزاوي وصاحبه، المكتبة الإسلامية، دون بيانات أخرى. 658 - نهضة مصر - تكون الفكر والأيديولوجية في نهضة مصر الوطنية (1805 - 1892 م)، د. أنور عبد الملك، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1983 م. 659 - النهضة والسقوط في الفكر المصري الحديث، د. غالي شكري، الهيئة المصرية العامة للكتاب، طبعة 1992 م.

660 - نيتشه عدو المسيح، د. يسري إبراهيم، سينا، القاهرة، الطبعة الأولى، 1990 م. 661 - هذا الكون ماذا نعرف عنه؟ د. راشد المبارك، القلم، دمشق، الطبعة الثانية، 1426 هـ - 2005 م. 662 - هكذا تكلم العقل - المفهوم العقلاني للدين، د. حيدر غيبة، الطليعة، بيروت، الطبعة الثانية، 2003 م. 663 - هموم الفكر والوطن (الجزء الثاني) الفكر العربي المعاصر، د. حسن حنفي، قباء، القاهرة، طبعة 1998 م. 664 - هوامش على كتاب نقد الفكر الديني، الشيخ محمد حسن آل ياسين، النفائس، بيروت، الطبعة السابعة، 1403 هـ - 1983 م. 665 - واقعنا المعاصر، محمد قطب، المدينة للصحافة .. ، جدة، الطبعة الثانية، 1408 هـ - 1987 م. 666 - واقعية التشريع الإسلامي وآثارها، زياد بن صالح لوبانغا، مطبوعات جامعة الإمام، الرياض، الطبعة الأولى، 1426 هـ - 2005 م. 667 - وجوب تطبيق الشريعة الإسلامية والشبهات التي تثار حول تطبيقها، من البحوث المقدمة لمؤتمر الفقه الإِسلامي الذي عقدته جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض سنة 1396 هـ, المجلس العلمي بالجامعة رقم (19)، طبعة 1404 هـ - 1984 م. 668 - وجوب لزوم الجماعة وترك التفرق، جمال بن أحمد بشير بادي، الوطن، الرياض، 1412 هـ. 669 - وحدة المنهج العلمي - أزمة المنهج في علم الاجتماع، د. أحمد أنور، المحروسة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2004 م. 670 - ودخلت الخيل الأزهر، محمد جلال كشك، المعارف، القاهرة، دون بيانات أخرى. 671 - الوصول إلى القمر. . . . انظره في رسالة في علم النجوم. 672 - وضع الربا في البناء الاقتصادي، د. عيسى عبده، الاعتصام، دون ذكر المكان، الطبعة الثانية، 1397 هـ -1977 م. 673 - وضعية الدين عند ماركس وأنجلز، ميشال برتران، ترجمة: صلاح كامل، دار الفوائد، الطبعة الأولى، 1990 م. 674 - الوضعية المنطقية والتراث العربي نموذج فكر زكي نجيب محمود الفلسفي، عبد الباسط سيدا، الفارابي، بيروت، الطبعة الأولى، 1990 م.

675 - ومشيناها خطى - صفحات من ذكريات شيوعي اهتدى، أحمد سليمان، القلم، الكويت، الطبعة الثانية، 1407 هـ -1987 م. 676 - اليهود وراء كل جريمة، وليم كار، شرح وتعليق: خير الله الطلفاح، الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 1402 هـ - 1982 م. 677 - اليهودية في القرآن - تحليل علمي لنصوص القرآن في اليهود على ضوء الأحداث الحاضرة، عفيف عبد الفتاح طبارة، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة التاسعة، 1982 م. 678 - يورغن هابرماس ومدرسة فرانكفورت النظرية النقدية التواصلية، حسن مصدق، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء - بيروت، الطبعة الأولى، 2005 م. 679 - اليوم والغد، سلامة موسى، سلامة موسى للنشر، دون مكان مذكور، الطبعة الأولى، 1928 م. 680 - يوهانز كبلر وعلم الفلك الجديد، جيمس آر. فويلكل، تعريب محمد حسن شموط، العبيكان، الرياض، الطبعة الأولى، 1425 هـ - 2004 م. مراجع التراجم والمصطلحات: 681 - أطلس الفلسفة، بيتر كونزمان وآخرون، ترجمة: د. جورج كتورة، المكتبة الشرقية، بيروت، الطبعة الأولى، 2001 م. 682 - التعريفات، الشريف علي محمد الجرجاني، الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثالثة، 1408 هـ - 1988 م. 683 - دليل الناقد الأدبي، د. ميجان الرويلي، د. سعد البازعي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء - بيروت، الطبعة الثالثة، 2002 م. 684 - الفهرس الموضوعي لآيات القرآن الكريم، محمد مصطفى محمد، الفتح، بيشاور - باكستان، الطبعة الثالثة، 1413 هـ - 1992 م. 685 - قاموس أكسفورد (Oxford)، [Oxford Advanced learners dictionary off current English . fifth edition . editor jonathan crowther . oxford university press 1995 ...]. 686 - القاموس المحيط، الفيروزآبادي، الرسالة - بيروت، الريان، الطبعة الثانية، 1407 هـ - 1987 م. 687 - قاموس المصطلحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، سامي ذبيان وآخرون، رياض الريس، لندن، الطبعة الأولى، 1990 م. 688 - الكليات معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، لأبي البقاء أيوب بن موسى الكفوي، بعناية: د. عدنان درويش وَمحمد المصري، الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية، 1413 هـ - 1993 م.

689 - معجم الفلاسفة (الفلاسفة - المناطقة - المتكلمون - اللاهوتيون - المتصوفون)، إعداد: جورج طرابيشي، الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 1987 م. 690 - المعجم الفلسفي بالألفاظ العربية والفرنسية والانكليزية واللاتينية، د. جميل صليبا، الكتاب اللبناني، بيروت، طبعة 1982 م. 691 - معجم الماركسية النقدي، جيراربن سوسان، جورج لابيكا، ترجمة: جماعية، دار محمد علي للنشر - صفاقس - تونس، ودار الفارابي - بيروت، الطبعة الأولى، 2003 م. 692 - معجم المصطلحات والشواهد الفلسفية، جلال الدين سعيد، دار الجنوب، تونس، طبعة 1994 م. 693 - معجم علوم التربية - مصطلحات البيدغوجيا والديداكتيك، عبد اللطيف الفاربي وآخرون، سلسلة علوم التربية، مطبعة النجاح الجديدة، دون ذكر للمكان، الطبعة الأولى، 1994 م. 694 - معجم مصطلحات المنطق وفلسفة العلم للألفاظ العربية والانجليزية والفرنسية واللاتينية، د. محمد فتحي عبد الله، دار الوفاء، الإسكندرية، دون بيانات أخرى. 695 - مفاتيح العلوم الإنسانية - معجم عربي. فرنسي. إنكليزي، د. خليل أحمد خليل، دار الطليعة، بيروت، دون بيانات. 696 - المورد، قاموس إنكليزي عربي، منير البعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة 23، 1989 م. 697 - الموسوعة العربية العالمية، مؤسسة أعمال الموسوعة للنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة الثانية، 1419 هـ - 1999 م. 698 - الموسوعة العربية الميسرة، لفريق من الباحثين والخبراء بإشراف الأستاذ محمد شفيق غربال، نهضة لبنان، بيروت، طبعة 1406 هـ - 1986 م. 699 - موسوعة الفلسفة، د. عبد الرحمن بدوي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1984 م. 700 - الموسوعة الفلسفية العربية، رئيس التحرير د. معن زيادة، معهد الإنماء العربي، الطبعة الأولى، 1988 م. 701 - الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة، إشراف وتخطيط ومراجعة: د. مانع بن حماد الجهني، دار الندوة العالمية للطباعة .. ، الرياض، الطبعة الرابعة، دون تاريخ.

702 - موسوعة لالاند الفلسفية، أندريه لالاند، تعريب خليل أحمد خليل، عويدات، بيروت - باريس، الطبعة الأولى، 1996 م. 703 - موقع المجمع العلمي المصري على الشبكة (الإنترنت)، L, Institut D . Egypte .

نبذة تعريفية الإدارة العامة للأوقاف

نبذة تعريفية الإدارة العامة للأوقاف الوقف علامة فارقة في مسيرة الحضارة الإسلامية وقد أثبت دوره ومكانته في مجالات التعليم والصحة والعمل الثقافي والاجتماعي بمختلف أشكاله وما زالت المساجد والمدارس والمعاهد والمستشفيات تقف شاهدة على عظمة وأهمية الوقف عبر تاريخنا المجيد. وفي هذا السياق من العطاء والتواصل الإنساني تهدف الإدارة العامة للأوقاف التي أعلن عن إنشاءها بالقرار الأميري رقم 41 لسنة 2006 م إلى إدارة الأموال الوقفية واستثمارها على أسس اقتصادية، وفق ضوابط شرعية بما يكفل نماءها وتحقيق شروط الواقفين وتعد الأوقاف إحدى أهم مؤسسات المجتمع المدني سواء من ناحية النشأة والقدم أو الاختصاصات المناطة بها. وانطلاقًا من النهضة الوقفية المعاصرة تم توسيع نطاق الوقف وتنويع مصارفه من خلال إنشاء المصارف الوقفية الستة المشتملة على مختلف نواحي الحياة الثقافية والتربوية والصحية والاجتماعية. . . . إلخ، وذلك تشجيعًا لأهل الخير وإرشادًا لهم لوقف أموالهم على المشاريع الخيرية التنموية وتنظيمًا لقنوات الصرف والإنفاق المساهمة في بناء المجتمع الإسلامي الحضاري. وأما المصارف الستة فهي: 1 - المصرف الوقفي لخدمة القرآن والسنة. 2 - المصرف الوقفي لرعاية المساجد.

3 - المصرف الوقفي لرعاية الأسرة والطفولة. 4 - المصرف الوقفي للبر والتقوى. 5 - المصرف الوقفي للرعاية الصحية. 6 - المصرف الوقفي للتنمية العلمية والثقافية. وانطلاقًا من الإيمان العميق بدور العلم الشرعي والثقافة الإسلامية بشكل خاص، والعلوم التطبيقية بشكل عام في تقدم الأمة وتطورها، جاء إنشاء "المصرف الوقفي للتنمية العلمية والثقافية" ليكون رافدًا غنيًا للعطاء الثقافي والعلمي ضمن نطاق اختصاصاته. وأبرز مثال في إطار أعمال وإنجازات هذا المصرف رحلات العمرة للمتميزين إلى جانب إقامة العديد من الدورات العلمية. ولا ننسى الإشارة إلى الدور المهم الذي نهض به الوقف تاريخيًا في تنشيط الحركة العلمية والثقافية، وذلك بإقامة المدارس، والمكتبات والمعاهد وغيرها، ليصنع بذلك حضارة أفادت منها الإنسانية جمعاء. من أهدافه: - تشجيع ودعم إقامة الأنشطة والفعاليات العلمية والثقافية. - الحث على الاهتمام بالتعليم، وبيان دوره في رقي الإنسان ونمو المجتمعات. - نشر العلم الشرعي والثقافة الإسلامية على أوسع نطاق والارتقاء بمستوى العاملين في هذا المجال. من وسائله: - دعم إقامة المؤتمرات والندوات وحلقات الحوار والمهرجانات والمعارض والمراكز الثقافية الدائمة والموسمية. - دعم وإنشاء المكتبات العامة. - دعم تنظيم الدورات التدريبية التأهيلية لتنمية المهارات والقدرات في مختلف المجالات العلمية والثقافية.

§1/1