النظرات الوقادة في خروج الحسين بن علي رضي الله عنه واستشهاده

مرزوق بن هياس الزهراني

النظرات الوقادة في خروج الحسين بن علي رضي الله عنه الى الكوفه واستشهاده تأليف الدكتور/مرزوق بن هياس ال مرزوق الزهراني

المحتوى المقدمة النظرة الأولى النظرة الثانية النظرة الثالثة النظرة الرابعة النظرة الخامسة النظرة السادسة النظرة السابعة النظرة الثامنة النظرة التاسعة النظرة العاشرة النظرة الحادية عشرة النظرة الثانية عشرة

النظرة الثالثة عشرة النظرة الرابعة عشرة النظرة الخامسة عشرة النظرة السادسة عشرة النظرة السابعة عشرة النظرة الثامنة عشرة

المقدمة

المقدمة الحمد الله العظيم المنان، خالق الإنسان، ومدبر الأكوان، له الملك وله والحمد، وهو على كل شيء قدير، أو ضح لعباده طريق الحق والهدى، وحذرهم من الشر والردى، فقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (¬1) وصلى الله على النبي المصطفى، والرسول المجتبى، سيدنا وحبيبنا وقرة أعيننا، محمد بن عبد الله القائل «تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنهما إلا هالك» (¬2)، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله الطاهرين الحنفاء، وأصحابه الطيبين النجباء، وعلى تابعيهم الأئمة والعلماء، صلى الله عليهم أجمعين إلى يوم الدين، عدد خلقه وزنة عرشه ومداد كلماته ورضا نفسه. أما بعد: فإن الباعث على هذه النظرات وتدوينها ما شاهدت ¬

(¬1) من الآية (103) من سورة آل عمران. (¬2) ابن ماجه حديث (45) وهو حديث صحيح.

وسمعت عبر الفضائيات، من رفع شعار الدعوة إلى الأخذ بثأر الحسين - رضي الله عنه -، وإقامة مجالس عزاء، بالإضافة إلى ما يكون في العاشر من صفر من كل عام، وما أشبه الليلة بالبارحة، بالأمس البعيد يقول الخوارج: لا حكم إلا لله، فيقول الخليفة الراشد علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: كلمة حق أريد بها باطل، واليوم يرفع الشيعة شعار الأخذ بثأر الحسين - رضي الله عنه -، وإقامة مجالس عزاء، وهو كذلك كلمة حق أريد بها باطل، هي حق إن سيأخذون الثأر من أنفسهم، فآباؤهم الأقدمون هم قتلة الحسين، على الأقل بالسببية لا بالمباشرة، أغروه واستقدموه إلى الكوفة، وأسلموه للموت، ولو جرت الأرض أنهارا بدموعهم، ما كفر عن قطرة من دم الحسين - رضي الله عنه -، فضلا عن دماء من قتل معه، والباطل جملة وتفصيلا أن يريدوا الأخذ بثأر الحسين من الأبرياء من دمه، ولله الأمر فإن ربي فعال لما يريد، اصطفى من خلقه ما شاء، وأرسل إلينا سيد الأنبياء، وجعلنا خير أمة أخرجت للناس، بلغنا نبينا الرسالة، ونصح الأمة وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، أوصانا بكتاب ربنا وسنة نبينا فقال: «إني قد خلفت فيكم

ما لن تضلوا بعدهما ما أخذتم بهما، أو عملتم بهما: كتاب الله وسنتي» (¬1)، وجعل الأيام دولا بين عباده ليحق الحق ويبطل الباطل فقال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (¬2) ويستمر الصراع بين الحق والباطل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولم يكن هذا الأمر قاصرا على العهد بعد النبوة المحمدية على صاحبها أتم الصلاة وأكمل التسليم، بل عهد النبوة لقي من الأعداء ما ابتلى به الله سيد الخلق نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ن وأصحابه - رضي الله عنه -، وكان رأس المنافقين عبد الله بن أبي مثير كل فتنة وشقاق ضد الإسلام وأهله، فلا غرو أن يخرج بعد ذلك في عهد الخلافة الراشدة، وما بعدها من يعادي الإسلام وأهله، أو يخالف غيره لأمر رآه يخدش الإسلام، أو يجتهد في الوصول إلى حق يراه فيخطئ في الاجتهاد أو غير ذلك من الدوافع، ومن الأحداث التي انقسم المسلمون بسببها ¬

(¬1) السنن الكبير للبيهقي حديث (20834). (¬2) من الآية (140) من سورة آل عمران ..

وأثرت تأثيرا كبيرا في حياة المسلمين، ولاسيما في العقيدة، التي يجب أن لا تستقى إلا من الكتاب والسنة، ومما ترك عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأمة بعد أن قال الله تعالى له: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (¬1) فلا تستقى من الأحداث الحياتية، وما يعتريها من أسباب ودوافع، ولكن لله في خلقه شئون، ومن ذلك أن يصب عليهم البلاء بأصنافه في هذه الحياة ليختبر صبرهم وثباتهم على الحق وصدق إيمانهم، قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} (¬2) وجعل نهار الحق أبلجا، وليل الباطل مظلما لجلجا، فسبحان من بيده مقاليد الأمور، وهو على كل شيء قدير. ¬

(¬1) من الآية (3) من سورة المائدة. (¬2) الآيتان (1، 2) من سورة الملك.

النظرة الأولى ترجمة مختصرة للحسين - رضي الله عنه -

ولقد كان لخروج الحسين بن علي - رضي الله عنه - من مكة إلى الكوفة أثرا كبيرا في حياة المسلمين، تردد ذلك بين السلب والإيجاب، وبنيت عليه مواقف سياسية وعقدية واجتماعية، وافترق الناس إلى محب لما حدث وكاره، فرأيت أن استقي من التاريخ ما أراه موافقا للحق، ليكون بين يدي الساعين إلى معرفة الصواب في الأمر، ولاسيما ما يترتب على ذلك من الولاء والبراء، وذلك في نظرات مركزة باحثة عن الحق دون سواه، فالله أسأل الهداية والتوفيق، وهو حسبنا ونعم الرفيق. النظرة الأولى ترجمة مختصرة للحسين - رضي الله عنه -: اسمه الحسين، ونسبه زكي معروف والده الخليفة الراشد: علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، أمه فاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله نبينا محمد - رضي الله عنه -، سيدة نساء العالمين في الدنيا والآخرة، فقد زكى الحسين وعلا حسا ومعنى - رضي الله عنه -. ولادته: هو أصغر من أخيه الحسن - رضي الله عنه -، ولد بعده بسنة

مكانته

وعشرة أشهر، لخمس سنين وستة أشهر من الهجرة (¬1). مكانته: في الدنيا: هو الصحابي - رضي الله عنه -، الزكي الطاهر نفسا ونسبا، حسا ومعنى، كان فاضلاً ديناً، كثير الصيام والصلاة والحج (¬2). وفي الآخرة: من أهل الجنة، وهو مع أخيه الحسن رضي الله عنهما سيدا شباب أهل الجنة، شهد بذلك لهما من لا ينطق عن الهوى جدهما نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - حين قال: ... «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة» (¬3) وفضائله مدونة بكمالها في كتب أهل السنة كافة، ولله الحمد والمنة. زواجه: للحسين - رضي الله عنه - زوجات حرائر وإماء ومنهن: الرباب بنت امرئ القيس تزوجها الحسين بن علي رضي الله ¬

(¬1) الاستيعاب 1/ 116. (¬2) انظر: الاستيعاب 1/ 116. (¬3) المسند حديث (11012).

عنهما، فولدت له سكينة، وكان يحبها حباً شديداً، ويقول: لعمرك إنني لأحب دارا ... تحل بها سكينة والرباب أحبهما وأبذل جل مالي ... وليس لعاتب عندي عتاب وكانت الرباب معه يوم الطف، فرجعت إلى المدينة مصابة مع من رجع، فخطبها الأشراف من قريش، فقالت: والله لا يكون حمو آخر بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعاشت بعد الحسين - رضي الله عنه - سنة لم يظلها سقف، فبليت وماتت كمداً (¬1). وتزوج الحسين - رضي الله عنه - ابنة يزدجرد بن شهريار دخل عليهما أبوه علي - رضي الله عنه - بالتهنئة، فسأل عن اسمها؟ فقيل: اسمها كيهان بانوية، فقال: وما معناه؟ قيل: سيدة الدنيا والآخرة فقال علي - رضي الله عنه -: سيدة الدنيا والآخرة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله، فسموها سيدة البلد، فسماها الناس شهر بانوية (¬2). ¬

(¬1) المنتظم 2/ 204. (¬2) لباب الأنساب والألقاب 1/ 22.

أولاده

أولاده: له أولاد وبنات ومنهم: علي الأكبر، وعلي الأصغر استصغر فلم يقتل، وقتل علي الأكبر، وقتل أبو بكر بن الحسين بن علي بن أبي طالب وأمه أم ولد، قتله عبد الله بن عقبة الغنوي (¬1)، وعمر بن الحسين بن علي بن أبي طالب (¬2)، حفيد ابنه محمد بن القاسم بن علي بن عمر خرج بالطالقان من خراسان يدعو إلى الرضا من آل محمد (¬3)، وعبد الله بن الحسين، شقيق سكينة (¬4). وفاطمة بنت الحسين قالت: يا يزيد بنات رسول الله أسارى عندكم وسبايا، فبكى يزيد واشتد بكاؤه، وارتفع العويل والصياح، وبكت النسوان والجواري تحت أستار يزيد (¬5). ¬

(¬1) تاريخ الطبري 3/ 343، ولباب الأنساب 1/ 22. (¬2) المنتظم 2/ 392. (¬3) المنتظم 3/ 314. (¬4) المنتظم 2/ 204. (¬5) لباب الأنساب والألقاب 1/ 22.

وسكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، لها أخبار مشهورة، وقد وردت عن أبيها (¬1)، واسمها: أميمة ويقال: أمينة، ويقال: آمنة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب، قدمت دمشق مع أهل بيتها بعد قتل أبيها، ثم خرجت إلى المدينة، ويقال إنها عادت إلى دمشق بعد ذلك وإن قبرها بها (¬2)، وذكر الذهبي أنها ماتت بالمدينة، في ربيع الأول، سنة سبع عشرة ومائة (¬3). زينب بنت الحسين بن علي بن أبي طالب، قدمت دمشق مع عيال أبيها بعد قتله (¬4). أم عبد الله بنت الحسين بن علي، وهي أم محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي أبو جعفر الباقر، وهو تابعي جليل كبير القدر كثيرا، أحد أعلام هذه ¬

(¬1) الإكمال 1/ 350. (¬2) مختصر تاريخ دمشق 1/ 1436. (¬3) تاريخ الإسلام 2/ 368. (¬4) مختصر تاريخ دمشق 1/ 1250.

الحالة السياسية

الأمة، علما وعملا وسيادة وشرفا، وهو أحد من تدّعى فيه طائفة الشيعة أنه أحد الأئمة الاثني عشر، ولم يكن الرجل على طريقهم، ولا على منوالهم، ولا يدين بما وقع في أذهانهم، وأوهامهم وخيالهم، بل كان ممن يقدم أبا بكر وعمر، وذلك عنده صحيح في الأثر، وقال: ما أدركت أحدا من أهل بيتي إلا وهو يتولاهما، رضي الله عنهما، وقد روى عن غير واحد من الصحابة، وحدث عنه جماعة من كبار التابعين وغيرهم (¬1). الحالة السياسية: لم نقف على نشاط سياسي للحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، لا في حياة أبيه، ولا في عهد أخيه - رضي الله عنهم -، إلا ما كان من أمر دفاعه عن عثمان - رضي الله عنه - ولا في عهد معاوية - رضي الله عنه - ولم يظهر نشاطه السياسي إلا بعد وفاة معاوية - رضي الله عنه -، وكان سبب توجهه إلى السياسة عدم قناعته بمخالفة معاوية - رضي الله عنه - ما كان علية الأمر في عهد الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - من العمل ¬

(¬1) البداية والنهائية 9/ 309.

وفاته

بالشورى في أمر ولاية الأمة، فقد ورَّث معاوية ابنه يزيد الحكم، ليتحول من الشورى في الخلافة إلى الملك المتوارث، وهذا ما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: «أول دينكم نبوة ورحمة، ثم ملك ورحمة، ثم ملك أعفر، ثم ملك وجبروت، يستحل فيها الخمر، والحرير» (¬1). وفاته: قتل - رضي الله عنه - يوم الجمعة لعشر خلت من المحرم يوم عاشوراء سنة إحدى وستين (10/ 1/61 هـ) بموضع يقال له: كربلاء (¬2) من ¬

(¬1) أخرجه الدارمي بهذا اللفظ، وله شواهد. (¬2) هي المعروفة اليوم التي اتخذها الشيعة حرما ومقدسات، ويهم يعظمونها أكثر من الحرمين الشريفين، وقد زوروا نصوصا كثيرة لقداسة كربلاء منها: «اتخذ الله أرض كربلاء حرماً آمناً مباركاً قبل أن يخلق الله أرض الكعبة، ويتخذها حرماً بأربعة وعشرين ألف عام، وقدسها وبارك عليها فما زالت قبل خلق الله الخلق مقدسة مباركة، ولا تزال كذلك حتى يجعلها الله أفضل أرض في الجنة، وأفضل منزلة ومسكن يسكن فيه أولياؤه في الجنة» أنظر: بحار الأنوار 101/ 107). وهم يركزون على هذا، ويوردون النصوص المزورة لغرس تقديس كربلاء وغيرها من المشاهد المزعومة عندهم، وإقناع الأتباع بذلك، وقد اجتالوا بضلالهم ملايين الأتبا ليتقربوا إلى الله بغير ما شرع الله ورسوله، ولمزيد من المعرفة راجع بحار الأنوار للمجلسي، فقد خصص منه ثلاثة مجلدات لذكر النصوص الدالة على تقديس المشاهد، ولم يكن هذا خاص بالمجلسي، بل كل كتبهم تطفح بالزور والبهتان. «»

أرض العراق بناحية الكوفة، ويعرف الموضع أيضاً بالطف (¬1)، تشاءم منها الحسين - رضي الله عنه - حين رأى قرية فسأل عنها، فقيل: العقر، فقال: نعوذ بالله من العقر، ولما قيل له: هذه كربلاء، قال: كرٌّ وبلاء. ¬

(¬1) الطف": أرض من ضاحية الكوفة في طريق البرية، فيها كان مقتل الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، ولذلك يقال له: قتيل الطف، والطف هو من أرض كربلاء، وهو مكان مشرف على ما حوله (تفسير الطبري 7/ 231، ومعجم البلدان 4/ 39).

النظرة الثانية معارضة الحسين - رضي الله عنه - ولاية يزيد

النظرة الثانية معارضة الحسين - رضي الله عنه - ولاية يزيد: إن توجه الحسين بن علي رضي الله عنهما إلى العمل السياسي له موردان: المورد الأول يتمثل في أمرين: 1 ـ عدم قناعته بولاية يزيد بن معاوية، لخروجها عن خط الشورى، فقد خالف معاوية - رضي الله عنه - قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (¬1) فأهمل هذا المبدأ الشرعي وهو عظيم الفائدة ولاسيما في أمر الولاية على الأمة، ولأهمية هذا الأمر في حياة الأمة المحمدية لم يعف منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو المعصوم فقال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ ¬

(¬1) الآية (38) من سورة الشورى.

لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (¬1) كما خالف النهج الذي سار عليه الثلاثة من الخلفاء الراشدين، المتفق مع هذا النص القرآني الكريم، ولكنه أقدم على تولية ابنه يزيد وراثة، وهو ما أشار إلى حدوثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «أَوَّلُ دِينِكُمْ نُبُوَّةٌ وَرَحْمَةٌ، ثُمَّ مُلْكٌ وَرَحْمَةٌ، ثُمَّ مُلْكٌ أَعْفَرُ، ثُمَّ مُلْكٌ وَجَبَرُوتٌ يُسْتَحَلُّ فِيهَا الْخَمْرُ وَالْحَرِيرُ» (¬2) فكان التحول من منهج الخلافة بالشورى، إلى الملك فقد مَلَك معاوية، وورثه لابنه يزيد، من هنا كان الحق مع الحسين - رضي الله عنه - في عدم استحقاق يزيد ولاية الأمة. 2 ـ عدم أهلية يزيد لذلك لا من حيث العلم ولا من حيث الاستقامة والعدل، فغيره من الصحابة ومن أبنائهم من هو أفضل منه، وهذان الأمران لم يخالف فيه أحد من الصحابة ¬

(¬1) الآية (159) من سورة آل عمران. (¬2) أخرجه الدارمي وله شواهد

المورد الثاني ويتمثل في ثلاثة أمور

والتابعين حسينا - رضي الله عنه -. المورد الثاني ويتمثل في ثلاثة أمور: 1 ـ ما وقع فيه يزيد من أمور تعد فسقا لا يرضاه الصحابة والتابعون من رجل عادي، فالأحرى عدم الرضا به من إمام يقود الأمة المسلمة. 2 ـ كره أهل الكوفة لمعاوية وابنه يزيد، فقد أظهروا للحسين - رضي الله عنه - عدم ولائهم ليزيد، ومنَّوا الحسين بالبيعة، وكاتبوه على ذلك، ووعدوه إن خرج إليهم لينصرونه على يزيد نصرا مؤزرا. 3 ـ تأكيد مبعوث الحسين الخاص: مسلم بن عقيل بن أبي طالب ولاء الناس له بالكوفة، وطلب قدومه إليهم، لهذه الأمور رأى الحسين - رضي الله عنه - أن الخروج على يزيد لازما، ولاسيما مع الفرق الشاسع بين الرجلين، فأهلية الحسين للإمامة كاملة من كل وجه، ولا مقارنة بينه وبين يزيد. والصحابة - رضي الله عنهم - والتابعون رحمهم الله لم يخالفوا حسينا في هذه الأمور، ولكنهم خالفوه في غيرها.

النظرة الثالثة تأييد بعض الصحابة للحسين - رضي الله عنه -

النظرة الثالثة تأييد بعض الصحابة للحسين - رضي الله عنه -: أجمع الصحابة على مناصحة الحسين - رضي الله عنه -، ولم يخالفوه في عدم صلاحية يزيد للولاية من كل وجه، ولكن خالفوه في أمور كان يجب عليه أن يدقق النظر فيها، وأن يستخلص منها العبر المفيدة، وعليها يبني خطة المواجهة، بحسابات دقيقة ومدروسة فالتوكل والثقة بالله أمر مطلوب في كل حال، ولكن مع عدم إغفال قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أعقلها وتوكل» (¬1) والأهلية وحدها لا تكفي، بل لابد من الشوكة، فكان يجب التالي: 1 ـ النظر في تاريخ الأنصار لاستخلاص قوة أو ضعف الولاء حين اشتداد البأس، وذلك أن الذين كاتبوه وطالبوا بخروجه إليهم ليبايعوه هم الذي قتلوا أباه الخليفة الراشد علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وطعنوا أخاه الحسن - رضي الله عنه -، وهنا علامة استفهام كبيرة جدا حول الصدق في الولاء، وذلك أن الأنصار بعد الله - عز وجل - هم الأُس المهم في إظهار الحق وقمع الباطل. ¬

(¬1) حديث حسن أخرجه الترمذي حديث (2517).

2 ـ النظر في قول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: يا ابن عم إني أتصبَّر ولا اصبر، وإني أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاك، إن أهل العراق قوم غدر، فلا تغترنَّ بهم، أقم في هذا البلد حتى ينفي أهل العراق عدوهم، ثم أقدم عليهم، وإلا فسر إلى اليمن فإن به حصوناً وشعاباً، ولأبيك به شيعة، وكن عن الناس بمعزل، واكتب إليهم وبث دعاتك فيهم، فإني أرجو إذا فعلت ذلك أن يكون ما تحب (¬1). إن دراسة هذا القول مهمة جدا لما يريد الحسين - رضي الله عنه - الإقدام عليه، وما للحسين أن يتجاوزه بقوله - رضي الله عنه -: يا ابن عم! والله إني لأعلم أنك ناصح شفيق، ولكني قد أزمعت المسير (¬2). بهذه السرعة انتهى الموقف، وكان له - رضي الله عنه - في الأمر أناة، وهو شديد الحاجة إليها. 3 ـ كان يجب مراجعة القرار عندما أعاد عبد الله بن عباس رضي الله عنهما بصيغة أخرى تستحق التفكير فيها وإعطاءها ¬

(¬1) الكامل لابن الأثير 2/ 526. (¬2) الكامل لابن الأثير 2/ 526.

حقها من الدراسة والنظر، قال ابن عباس للحسين - رضي الله عنهم -: أخبرني إن كان وعدوك بعد ما قتلوا أميرهم، ونفوا عدوهم، وضبطوا بلادهم فسر إليهم، وإن كان أميرهم حي وهو مقيم عليهم قاهر لهم، وعماله تجبي بلادهم، فإنهم إنما دعوك للفتنة والقتال، ولا آمن عليك أن يستفزوا عليك الناس، ويقلبوا قلوبهم عليك، فيكون الذي دعوك أشد الناس عليك (¬1). وهي لفتة دقيقة لم يصغ لها الحسين - رضي الله عنه - وكانت عقلانية صرفة، لا علاقة لها بالعاطفة والخوف على الحسين، وفيها إشارة إلى قوة يزيد وضعف من يريد الخروج عليه، وكان ابن عباس رضي الله عنهما أمينا ناصحا ذكيا، فلم يكن عالما بتأويل القرآن فحسب، بل أوتي من الفقه والعلم بمجريات الأحداث ما جعله يتكلم بنظر ثاقب، ورؤية دقيقة وحكمة بالغة، ولذلك ناظر الخوارج فأقام عليهم الحجة، ورجع منهم أربعة آلاف (¬2)، ولو قدر للحسين - رضي الله عنه - أن يأخذ بهذه النصيحة ¬

(¬1) الكامل لابن الأثير 2/ 526. (¬2) البداية والنهاية 7/ 282.

لتغير مجرى الأحداث فيما بين السنة والشيعة بشأن الحسين - رضي الله عنه -، ولكن نفذ القدر، فسبق السيف العذل. 4 ـ إن استغلال تأمين والي يزيد للحسين - رضي الله عنه - فرصة تتيح للحسين - رضي الله عنه - اختبار القوم الذين وعدوه النصر على ضوء ما قال ابن عباس رضي الله عنهما، فقد ساور الشك عبد الله بن جعفر - رضي الله عنه - فظن أن سبب خروج الحسين الخوف من والي يزيد، عمرو بن سعيد بن العاص، فذهب إلى عمرو بن سعيد بن العاص وطلب منه أن يكتب كتاباً إلى الحسين - رضي الله عنه - يؤمنه فيه ويعده بالخير، وكان رد عمرو بن سعيد أن قال لعبد الله بن جعفر - رضي الله عنه -: اكتب ما شئت وائت به أختمه. فكتب عبد الله بن جعفر: بسم الله الرحمن الرحيم من عمرو بن سعيد إلى الحسين بن علي، أما بعد، فإني أسأل الله أن يصرفك عما يبوقك، وأن يهديك لما يرشدك، بلغني أنك قد توجهت إلى العراق، وإني أعيذك بالله من الشقاق، فإني أخاف عليك فيه الهلاك، وقد بعثت إليك عبد الله بن جعفر، ويحي بن سعيد، فأقبل إليّ معهما، فإن لك عندي الأمان والبر والصلة وحسن الجوار

النظرة الرابعة الصحابة - رضي الله عنهم - لا يرون الخروج: والخروج نريد به هنا أمرين

لك، والله بذلك شهيد وكفيل، ومراع ووكيل، والسلام عليك (¬1). النظرة الرابعة الصحابة - رضي الله عنهم - لا يرون الخروج: والخروج نريد به هنا أمرين: 1 ـ الخروج على يزيد وخلع الطاعة وهذا لم يوافق الحسين - رضي الله عنه - عليه أحد من الصحابة - رضي الله عنهم - إلا عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه -. وتقدمت مبررات الحسين - رضي الله عنه - لهذا الخروج، وإن وافقه على كونها صحيحة لكنها، غير كافية لخلع طاعة يزيد ومحاربته. 2 ـ خروج الحسين - رضي الله عنه - من مكة إلى الكوفة، لم يوافقه عليه أحد حتى عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه -. أما مبرر الحسين - رضي الله عنه - لهذا الخروج فإنه قال: لإن أقتل بمكان كذا وكذا أحب إلي من أن تستحل بي مكة (¬2)، فأصر على ¬

(¬1) تاريخ الطبري 6/ 312. (¬2) مصنف ابن أبي شيبة 15/ 95.

الخروج مؤمنا بالمواجهة مع يزيد، وبادر بالخروج خوفا أن يعاجله يزيد بمن يقتحم عليه مكة فتستباح أرض الحرمين، فظن أن خروجه أقدر له على مواجهة جيش يزيد بعيدا عن الحرمين، ولم تكن نظرة الحسين - رضي الله عنه - أبعد من هذا. قال ابن خلدون رحمه الله: ظن الحسين - رضي الله عنه - القدرة على ذلك، ظنها من نفسه بأهليته وشوكته ـ الموعود بها ـ فأما الأهلية فكانت كما ظن وزيادة، وأما الشوكة فغلط يرحمه الله فيها، لأن عصبية مضر كانت في قريش، وعصبية قريش في عبد مناف، وعصبية عبد مناف إنما كانت في بني أمية، تعرف ذلك لهم قريش وسائر الناس، ولا ينكرونه وإنما نُسي ذلك أول الإسلام لِمَا شغل الناس من الذهول بالخوارق، وأمر الوحي وتردد الملائكة لنصرة المسلمين، فأغفلوا أمور عوائدهم، وذهبت عصبية الجاهلية ومنازعها ونُسيت، ولم يبق إلا العصبية الطبيعية في الحماية والدفاع، ينتفع بها في إقامة الدين وجهاد المشركين، والدين فيها محكّم والعادة معزولة، حتى إذا انقطع أمر النبوة والخوارق المهولة تراجع الحكم بعض الشيء للعوائد، فعادت العصبية كما كانت ولمن كانت، وأصبحت

مضر أطوع لبني أمية من سواهم بما كان لهم من ذلك قبل (¬1). وهذا في نظري تحليل جيد لهذه الفقرة، ولذا خاف الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعون رحمهم الله على الحسين - رضي الله عنه - الهلاك، فكرروا النصح للحسين، واجتهدوا في ثنيه عن مراده لما فيه من خطورة عليه وعلى أهل بيته بالدرجة الأولى، ولمعرفتهم بغدر الشيعة، ولمخالفتهم إياه في قضية الخروج على يزيد ولو كان فاسقا في نظرهم، فإن ابن عم الحسين عبد الله بن جعفر - رضي الله عنهم - توقع له الهلاك في هذا الأمر، وليس هذا من علم الغيب، ولكنه من العلم بغدر القوم فهم عبيد دنيا كما قال أبو بكر، ولم ير عبد الله بن جعفر - رضي الله عنه - الهلاك قاصرا على الحسين - رضي الله عنه - بل قد يستأصل أهل بيته، فكتب إليه كتابا أرسل به ابنيه محمد وعون فقال: أما بعد، فإني أسألك بالله لما انصرفت حين تنظر في كتابي، فإني مشفق عليك من الوجه التي توجهت له أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك (¬2)، وقال ابن جده: ¬

(¬1) مقدمة ابن خلدون 1/ 113. (¬2) تاريخ الطبري 6/ 311.

النظرة الخامسة التابعون لا يرون الخروج

عبد الله بن عباس - رضي الله عنهم -: فإن كنت ولا بد سائراً فلا تسر بأولادك ونسائك، فو الله إني لخائف أن تقتل كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه (¬1)، قال أبو واقد الليثي - رضي الله عنه -: بلغني خروج الحسين، فأدركته بملل (¬2)، فناشدته الله ألا يخرج، فإنّه يخرج في غير وجه خروج، إنما يقتل نفسه، فقال: لا أرجع (¬3). النظرة الخامسة التابعون لا يرون الخروج: أجمع التابعون على نصح الحسين - رضي الله عنه - بعدم الخروج إلى الكوفة، فقال أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث رحمه الله منبها الحسين - رضي الله عنه - إلى حقيقة غدر الطالبين قدومه فقال: يا ابن ¬

(¬1) الكامل لابن الأثير 2/ 526. (¬2) واد معروف بهذا حتى اليوم، وهو يبعد عن المدينة بخمسين كيلا، على السمال الغربي منها. (¬3) مختصر تاريخ دمشق 7/ 139.

عَمِّ إن الرحم تظأرُني (¬1) عليك، وما أدري كيف أنا عندك في النصيحة لك؟ قال: يا أبا بكر ما أنت ممن يُستغشُّ ولا يُتَّهمُ، فقل. قال: قد رأيت ما صنع أهل العراق بأبيك وأخيك، وأنت تريد أن تسير إليهم، وهم عبيد الدنيا، فيُقاتلك من قد وعدك أن ينصرك، ويخذلك من أنت أحب إليه ممن ينصره، فأُذكِّرك الله في نفسك. فقال: جزاك الله يا ابن عمِّ خيراً، ومهما يقضي الله من أمر يكن. فقال أبو بكر: إنا لله، عند الله نحتسب أبا عبد الله (¬2). وقال سعيد بن المسيب رحمه الله: لو أن الحسين لم يخرج لكان خيرا له (¬3). وقال عبد الله بن مطيع رحمه الله: إني فداك أبي وأمي! متعنا ¬

(¬1) تجعلني أعطف عليك؟ ؟ ؟ (¬2) البداية والنهاية 11/ 504. (¬3) السير 3/ 296.

بنفسك، ولا تسر إلى العراق، فو الله لئن قتلك هؤلاء القوم، ليتخذنا خولا وعبيدا (¬1). وكتب إليه عمرو بن سعيد بن العاص رحمه الله: إني أسأل الله أن يلهمك رشدك، وأن يصرفك عمّا يرديك، بلغني أنك قد اعتزمت على شخوص إلى العراق، فإني أعيذك بالله من الشّقاق (¬2). وأخيرا لقيه الشاعر الفرزدق بالصّفاح (¬3)، فسأله الحسين عمّا وراءه، فلخص له ما سبق أن سمعه من الصحابة والتابعين، فقال: أنت أحب النّاس إلى النّاس، والقضاء في السماء، والسيوف مع بني أمية (¬4). وفي خبر آخر أنّه قال: قلت له: يخذلونك، لا تذهب إليهم فلم ¬

(¬1) مختصر تاريخ دمشق 7/ 139. (¬2) تاريخ دمشق 14/ 209. (¬3) موضع قرب مكة. (¬4) مختصر تاريخ دمشق 7/ 144.

النظرة السادسة افتراق الرأي بين الحسين وابن الزبير

يطعني (¬1)، وفي رواية: فسأله الحسين بن علي عن تصوره لما يقوم به أهل الكوفة حياله، ثم أراد أن يعطي الفرزدق إيضاحاً أكثر وقال: هذه كتبهم معي، فرد عليه الفرزدق: يخذلونك فلا تذهب فإنك تأتي قوماً قلوبهم معك وأيديهم عليك (¬2)، فهذا إجماع من الصحابة - رضي الله عنهم - ومن التابعين رحمهم الله على خطأ الحسين - رضي الله عنه - فيما اجتهد فيه، وعقد الأمر على تدبير المولى - عز وجل - فقال: مهما يقضي الله من أمر يكن، وفعلا كان ما أراد الله - عز وجل -، ومن إرادته تعالى عدم قبول الحسين - رضي الله عنه - تلك المحاولات الجادة لثنيه عن الخروج إلى الكوفة. النظرة السادسة افتراق الرأي بين الحسين وابن الزبير: افترق رأي المتحالفين: الحسين وعبد الله بن الزبير - رضي الله عنهم -، وإن كانا متفقين على عدم مبايعة يزيد، لكنهما اختلفا في الخروج ¬

(¬1) تاريخ دمشق 14/ 214. (¬2) البداية والنهاية 11/ 510.

النظرة السابعة هل كانت للحسين مندوحة في مبايعة يزيد

من مكة إلى الكوفة، وكان السبب عدم قناعة عبد الله بن الزبير بصدق الداعين للخروج، فسابقتهم الغدر بالخليفة الراشد علي بن أبي طالب وابنه الحسن رضي الله عنهما، قال عبد الله للحسين رضي الله عنهما: أين تذهب إلى قوم قتلوا أباك، وطعنوا أخاك؟ ! ، فقال له الحسين: لإن أقتل بمكان كذا وكذا أحب إلي من أن تستحل بي مكة (¬1). فكان عبد الله الزبير رضي الله عنهما لا يرى الخروج إلى الكوفة، ولعل ذلك لقناعته الشخصية، أو هو مستفاد من نصائح الآخرين، كعبد الله بن عمر وغيره من الصحابة - رضي الله عنهم -، ولكن الحسين - رضي الله عنه - لم يلتفت إلى هذا، ولم يعره سمعا، ولا طاعة، ففارق ابن الزبير في هذا. النظرة السابعة هل كانت للحسين مندوحة في مبايعة يزيد: لقد كان للحسين مع هذه النصائح مندوحة في مبايعة يزيد ¬

(¬1) مصنف ابن أبي شيبة 15/ 95.

على ما فيه، فقد لحق عبد الله بن عمر الحسين - رضي الله عنهم - على مسيرة ليلتين من المدينة فقال: أين تريد؟ قال: العراق، ومعه طوامير وكتب، فقال: لا تأتهم قال: هذه كتبهم وبيعتهم، فقال: إن الله خير نبيه بين الدنيا والآخرة، فاختار الآخرة، وإنكم بضعة منه، لا يليها أحد منكم أبداً، وما صرفها الله عنكم إلا للذي هو خير لكم، فارجعوا فأبى، فاعتنقه ابن عمر، وقال: استودعك الله من قتيل (¬1). وكانت لفتة هامة لو أعارها الحسين سمعه، وتأملها - رضي الله عنه -، ولكن قناعته بأهليته وهو كذلك، وثقته بما وصله من كتب ووعود وليست كذلك، أثمرت قوة العزيمة والإصرار على الخروج إلى الكوفة مهما يكن الثمن. ولم يكن هذا هو الموقف الوحيد من عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: فقد نصح الحسين - رضي الله عنه - في أكثر من موقف، فحين بلغه خروج ابن الزبير والحسين إلى مكة رافضين بيعة يزيد لقيهما وقال: أذكركما الله إلا رجعتما فدخلتما في صالح ما ¬

(¬1) السير 3/ 292.

يدخل فيه الناس وتنظران، فإن اجتمع عليه الناس لم تشذا، وإن افترق عليه كان الذي تريدان (¬1)، ولعل ابن الزبير عقل هذا عن ابن عمر، وقرر عدم الخروج مع الحسين إلى الكوفة. وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول بعد ذلك: غلبنا الحسين بن علي بالخروج، ولعمري لقد رأى في أبيه وأخيه عبرة، ورأى من الفتنة وخذلان الناس لهم ما كان ينبغي له ألا يتحرك ما عاش وأن يدخل في صالح ما دخل فيه الناس، فإن الجماعة خير (¬2)، وقال جابر بن عبد الله: - رضي الله عنه - كلمت حسيناً فقلت له اتق الله ولا تضرب الناس بعضهم ببعض، فو الله ما حمدتم ما صنعتم، فعصاني (¬3)، وقال أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه -: غلبني الحسين على الخروح، وقد قلت له: اتق الله في نفسك والزم بيتك، ولا تخرج على إمامك (¬4). ¬

(¬1) الطبقات الكبرى 1/ 444. (¬2) مختصر تاريخ دمشق 7/ 138. (¬3) الطبقات الكبرى 1/ 445. (¬4) تهذيب الكمال 6/ 417.

حتى النساء طرحن للحسين النصح فهذه عمرة بنت عبد الرحمن الفقيهة العالمة رحمها الله: كتبت إليه تعظّم عليه ما يريد أن يصنع، وتأمره بالطاعة ولزوم الجماعة، وتخبره أنّه إنّما يساق إلى مصرعه (¬1). هذه النصوص تدل على مكانة الحسين - رضي الله عنه - عند أهل السنة برهم وفاجرهم، وأنه لم يكن شخصا عاديا، ولكن لا يمنعهم ذلك الحب والتقدير من الاعتراف بأن الحسين - رضي الله عنه - اجتهد فأخطأ وأقدم على محاولة شق عصا المسلمين، وقد اجتمعت كلمتهم على بيعة معاوية بتنازل الحسن بن علي - رضي الله عنه - متحققا فيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين من المسلمين» (¬2) فحقن الحسن - رضي الله عنه - دماء المسلمين، واجتمعت الكلمة على ملك أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاش فيه معاوية - رضي الله عنه - عيش الملوك، ساس سياستهم، وتصرف بمكر ودهاء، وكان لمعاوية يد في الإصلاح وخدمة الإسلام، يشهد ¬

(¬1) مختصر تاريخ دمشق 7/ 140. (¬2) المعجم الكبير للطبراني حديث (1813).

بها التاريخ. وعهد بالأمر من بعد لابنه يزيد وهو حي له على المسلمين الأمر والنهي، وله حق الطاعة في غير معصية الله، وليس تولية المفضول حرام مع وجود الفاضل، ولا شك أن الفاضل أولى، ولكنها جائزة شرعا وعقلا، والحسن عند الناس أفضل من معاوية، ولم يعترض على تنازله أهل السنة لأنه حق وافق خبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال حميد بن عبد الرحمن: دخلنا على رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حين استخلف يزيد بن معاوية، فقال: أتقولون إن يزيد ليس بخير أمة محمد، لا أفقه منها فقهاً، ولا أعظمها فيها شرفاً؟ ، قلنا: نعم، قال: وأنا أقول ذلك، ولكن لأن تجتمع أمة محمد أحب إليَّ من أن تفترق أرأيتم باباً لو دخل فيه أمة محمد وسعهم، أكان يعجز عن رجل واحد لو دخل فيه؟ ، قلنا: لا. قال: أرأيتم لو أن أمّة محمد قال كل رجل منهم: لا أهريق دم أخي، ولا آخذ ماله، أكان هذا يسعهم؟ ، قلنا: نعم، قال: فذلك ما أقول لكم (¬1). ¬

(¬1) تاريخ خليفة: ص 194.

وقال - صلى الله عليه وسلم -: «اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وإِنِ اسْتعمل عليكم عبد حَبَشِىٌّ كأَن رأْسه زبِيبة» (¬1). وقد أفاد ابن خلدون كلاما حسنا في هذه الفقرة فقال رحمه الله: وأما غير الحسين من الصحابة الذين كانوا بالحجاز ومع يزيد بالشام، والعراق ومن التابعين لهم، فرأوا أن الخروج على يزيد وإن كان فاسقاً لا يجوز لما ينشأ عنه من الهرج والدماء فأقصروا عن ذلك ولم يتابعوا الحسين، ولا أنكروا عليه، ولا أثموه، لأنه مجتهد وهو أسوة المجتهدين. ولا يذهب بك الغلط أن تقول بتأثيم هؤلاء بمخالفة الحسين وقعودهم عن نصره، فإنهم أكثر الصحابة وكانوا مع يزيد ولم يروا الخروج عليه، وكان الحسين يستشهد بهم وهو يقاتل بكربلاء على فضله وحقه، ويقول: «سلوا جابر بن عبد الله، وأبا سعيد الخدري، وأنس بن مالك، وسهل بن سعيد، وزيد بن أرقم» وأمثالهم. ولم ينكر عليهم قعودهم عن نصره ولا تعرض لذلك، لعلمه أنه عن اجتهاد منهم كما كان فعله عن ¬

(¬1) البخاري حديث (7142).

اجتهاد منه. وكذلك لا يذهب بك الغلط أن تقول بتصويب قتله لما كان عن اجتهاد وإن كان هو على اجتهاد، ويكون ذلك كما يُحد الشافعي والمالكي الحنفي على شرب النبيذ. واعلم أن الأمر ليس كذلك وقتاله لم يكن عن اجتهاد هؤلاء وإن كان خلافه عن اجتهادهم، وإنما انفرد بقتاله يزيد وأصحابه. ولا تقولن إن يزيد وإن كان فاسقاً ولم يجز هؤلاء الخروج عليه فأفعاله عندهم صحيحة. واعلم أنه إنما ينفذ من أعمال الفاسق ما كان مشروعاً، وقتال البغاة عندهم من شرطه أن يكون مع الإمام العادل، وهو مفقود في مسألتنا، فلا يجوز قتال الحسين مع يزيد ولا ليزيد، بل هي من فعلاته المؤكدة لفسقه، والحسين فيها شهيد مثاب، وهو على حق واجتهاد، والصحابة الذين كانوا مع يزيد على حق أيضاً واجتهاد (¬1). ¬

(¬1) مقدمة ابن خلدون 1/ 113.

النظرة الثامنة موقف يزيد من الحسين - رضي الله عنه -

النظرة الثامنة موقف يزيد من الحسين - رضي الله عنه -: 1 ـ اعتبر يزيد أن عمل الحسين سيوقع الناس في فتنة ولاسيما أن الأمر قائم لبني أمية، منذ عهد معاوية - رضي الله عنه - فالدولة محكمة وذات قوة ونفوذ، فأسرع الكتابة إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كبير الهاشميين فقال له فيما كتب: نحسب أن رجالاً أتوه من المشرق فمنّوه الخلافة، فإنهم عندك منهم خبرة وتجربة (¬1)، فإن كان فعل فقد قطع وشائج القرابة، وأنت كبير أهل بيتك، والمنظور إليه، فاكففه عن السعي في الفرقة (¬2). ثم كتب بهذه الأبيات إليه، وإلى مكة والمدينة: يا أيها الراكب الغادي لطيبته ... على عُذَاقِرةِ في سيرها قحم أبلغ قريشاً على نأي المزار بها ... بيني وبين حسين الله والرحم يا قومنا لا تشبوا الحرب إذ خمدت ... وأمسكوا بحبال السلم واعتصموا ¬

(¬1) إشارة إلى غدرهم. (¬2) تهذيب الكمال 6/ 419.

لا تركبوا البغي إن البغي مصرعة ... وإن شارب كأس البغي يتخم فقد غرّت الحرب من كان قبلكم ... من القرون وقد بادت بها الأمم فأنصفوا قومكم لا تهلكوا بذخا ... فرب ذي بذخ زلت به القدم (¬1) فكتب إليه ابن عباس: إني لأرجو أن لا يكون خروج الحسين لأمر تكرهه، ولست أدع النصيحة له في كل ما يجمع الله به الألفة وتطفى بها الثائرة (¬2). 2 ـ كان مسلم بن عقيل المعقل الذي يأوي إليه الشيعة لإعطاء البيعة للحسين، ولم يخف الأمر على والي يزيد على الكوفة، ولكنه لم يبدأ بالعنف (¬3). 3 ـ كان النعمان بن بشير الأنصاري - رضي الله عنه - والي الكوفة فلما أحس بخطورة الوضع قام فخطب في الناس وقال: اتقوا الله عباد الله، ولا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة، فإن فيها يهلك ¬

(¬1) البداية والنهاية 11/ 505. (¬2) السير 3/ 304. (¬3) انظر: تاريخ الطبري 6/ 277.

الرجال، وتسفك الدماء وتغصب الأموال، وقال: إني لن أقتل من لم يقاتلني، ولا أثب على من لا يثب علي، لا أشاتمكم ولا أتحرش بكم، ولا آخذ بالقرف ولا الظنة والتهمة، ولكن إن أبديتم صفحتكم لي، ونكثتم بيعتكم، وخالفتم إمامكم، فو الله الذي لا إله غيره لأضربنكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم يكن لي منكم ناصر، أما إني أرجو أن يكون من يعرف الحق منكم أكثر ممن يرديه الباطل (¬1). 4 ـ كانت سياسة النعمان حكيمة لو نحى يزيد نحوها، وترسل في الأمر، ولكن لم يرضها يزيد لأن الأمر في نظره لا يعالج بالمواعظ، فالحسين - رضي الله عنه - لم يستجب لنصائح الصحابة والتابعين، فمن باب أولى أن لا يستجيب العامة من الشيعة، فعزل النعمان من الولاية، وعين بدله عبيد الله بن زياد، وكتب إليه: إن شيعتي من أهل الكوفة كتبوا إليّ يخبروني، أن ابن عقيل بالكوفة يجمع الجموع ليشق عصا المسلمين، فسر حين تقرأ كتابي هذا حتى تأتي أهل الكوفة، فتطلب ابن عقيل ¬

(¬1) انظر: تاريخ الطبري 6/ 277.

كطلب الخرزة، حتى تثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفيه والسلام (¬1). 5 ـ نفذ الأمر عبيد الله بن زياد، وأقبل إلى الكوفة ودخلها متلثماً، والناس قد بلغهم إقبال الحسين إليهم، فهم ينتظرون قدومه، فظنوا حين قدم عبيد الله أنه الحسين بن علي، فأخذ لا يمر على جماعة من الناس إلا سلموا عليه وقالوا: مرحباً بك يا ابن رسول الله، قدمت خير مقدم، فلما أكثروا عليه صاح فيهم مسلم بن عمرو وقال: تأخروا هذا الأمير عبيد الله بن زياد فلما نزل في القصر نودي الصلاة جامعة فاجتمع الناس فخرج إليهم ثم خطبهم ووعد من أطاع منهم خيراً، وتوعد من خالف وحاول الفتنة منهم شراً (¬2). 6 ـ كانت الخطوة التالية لخطبة ابن زياد الشروع في الوصول إلى معقل الشيعة مسلم بن عقيل، فدس عليه من الناس من استطاع الوصول إلى مجلسه، ويطوِّل مجلسه معه فلا يحجب، فكانت أخبار مسلم وتحركاته تصل إلى ابن زياد أولا بأول، ¬

(¬1) تاريخ الطبري 6/ 278. (¬2) تاريخ الطبري 6/ 280.

عن طريق ذلك الرجل. 7 ـ كان مسلم بن عقيل ينزل في بيت هانئ بن عروة، وقد اخترق سرهما ابن زياد بذلك الرجل والذي يدعى معقلا، فأرسل إلى هانئ بن عروة وكشف له نزول مسلم في بيته، وطلب منه إحضاره فقال هانئ والله لا أسلم ضيفي للقتل، فضربه زياد على وجهه، واحتجزه، وشاع عند الناس موت هانئ، بلغ الخبر عمرو بن الحجاج الزبيدي أن هانئاً قد قتل، فأقبل في قبيلة مذجح، وأحاط بالقصر، ونادى أنه لم يخلع الطاعة، وإنما أراد الاطمئنان إلى سلامة هانئ، فأمر ابن زياد القاضي شريح بأن يدخل على هانئ، وينظر إليه ويخبرهم أنه حي. ففعل. فقال لهم سيدهم عمرو بن الحجّاج: أما إذا كان صاحبكم حياً فما يعجلكم الفتنة؟ انصرفوا فانصرف (¬1). 8 ـ اغتنم مسلم بن عقيل إشاعة قتل هانئ، فأمر أن ينادي في أصحابه الذين بايعوه، بكلمة السر المعروفة لهم: يا منصور ¬

(¬1) تاريخ الطبري 6/ 288.

أمت، فتنادى أهل الكوفة فاجتمعوا إليه وكان عدد الذين حضروا أربعة آلاف رجل (¬1)، سار بهم بعد أن قسمهم أرباعا، لكل ربع أمير ولواء، وكان معه أقوام من كندة وربيعة، ومن مذحج وأسد، ومن تميم وهمدان، والربع الرابع من المدينة (¬2). 9 ـ لم يكن عبيد الله بن زياد رجلا عاديا بل كان يملك قدراً كبيراً من الدهاء والمكر والخداع، حيث أنه بمجرد دخوله القصر جمع وجوه الكوفة واحتفظ بهم عنده حتى يكونوا وسيلة ضغط مهمة عنده تثمر نتائج إيجابية جداً لصالح ابن زياد (¬3). 10 ـ كان احتفاظ عبيد الله بالوجهاء والأعيان ورقة رابحة إذ طلب منهم أن يعظوا الناس، ويخذلوهم ويخوفوهم بقرب أهل الشام، وصار هؤلاء الأمراء والزعماء يثبطون الناس، ويذكرونهم بالسلامة والأمن، وأنهم إن لم ينصرفوا سيحرمون ¬

(¬1) انظر: تاريخ الطبري 6/ 289. (¬2) انظر: تاريخ الطبري 6/ 291. (¬3) مواقف المعارضة ص: 255.

من العطاء، وسيساقون إلى الثغور وسينالهم العقاب الشديد (¬1). 11 ـ لم يقف ابن زياد عند هذا الحد من المواجهة بالتخذيل، فاستخدم الآباء في إضعاف عزيمة أبنائهم وثنيهم عن المواجهة، وكذلك الأمهات في التأثير على أولادهن، فيقولون: لم تستقبلون الحرب والشر، وسيأتيكم أهل الشام، فأخذ الإرجاف والتخويف يعمل عمله في صفوف المناصرين لمسلم، فأخذوا يتسللون لواذا عن مسلم، فلم يحل المساء إلا وقد تفرق عنه الأنصار، ولم يبق من أربعة آلاف سوى ما بين ثلاثمائة وخمسمائة رجل (¬2). ويستمر ابن زياد في الحرب النفسية ضد كل من يناصر مسلم بن عقيل، ولم يكن مسلم كفئا في المكر والدها لعبيد الله، فواجه من كان مع عبيد الله من كان مع مسلم من القبائل بأقوامهم، فأمر ابن زياد نفرا من الوجهاء منهم: عبيد الله بن كثير بن شهاب الحارثي أمره أن يخرج فيمن أطاعه من ¬

(¬1) تاريخ الطبري 6/ 293. (¬2) تاريخ الطبري 6/ 293.

النظرة التاسعة هزيمة مسلم بن عقيل

مذجح، ويسير بالكوفة ويخذل الناس عن ابن عقيل، ويخوفهم بالحرب وعقوبة السلطان، وأمر محمد بن الأشعث أن يخرج فيمن أطاعه من كنده وحضرموت، ويرفع راية الأمان لمن يأته من الناس، وقال مثل ذلك للقعقاع بن شور الذهلي، وشبت بن ربعي التميمي، وحجار بن أبجر العجلي، وشمر بن ذي الجوشن العامري، وأبقى سائر وجوه الناس معه (¬1)، وعمل هذا الإجراء عمله في إقناع من كان مناصرا لمسلم، فتفرق عنه من كان معه، ولم يبق سوى ستين رجلا (¬2). النظرة التاسعة هزيمة مسلم بن عقيل: هنا تبرز أولى المؤشرات التي خافها أهل السنة على الحسين - رضي الله عنه -، فقد نازل مسلم وأتباعه أتباع ابن زياد بقيادة القعقاع بن شور، وشبث بن ربعي في مكان يقال له الرحبة، وكان الأولى ¬

(¬1) تاريخ الطبري 6/ 291. (¬2) الطبقات 5/ 374.

بمسلم عدم الدخول في هذه المنازلة وقد علم حال مناصريه، ولعدم التكافؤ بين الطرفين لم تدم المعركة إلا قليلا، فقد تنبه القعقاع بن شور إلى أن المقاتلين إنما يقاتلون لأجل النجاة، عند ذلك أمر بإفساح الطريق لهم، فهربوا نحو المسجد، ولما أمسى المساء تفرق الناس، وبقي مسلم بن عقيل وحيداً في طرقات الكوفة (¬1)، وهنا بان الصبح لذي عينين، ولنا أن نتذكر نصائح الصحابة والتابعين للحسين - رضي الله عنه - بعدم الخروج. تحقق غدر الشيعة لمسلم بن عقيل رحمه الله، ولكنه غامر هو ومن معه، وما ذاك إلا لعلمه بعدم النجاة لو استسلم، ففضل المقاومة على الاستسلام ولاسيما والنتيجة واحدة، وقد أدرك ذلك حين قبض عليه ابن الأشعث بعد مقاومة من مسلم أعطي بها الأمان (¬2)، وفي الطريق نحو ابن زياد بكى مسلم، فقيل له: إن من يطلب مثل ما تطلب لا يبكي إذا نزل به مثل الذي نزل بك. ¬

(¬1) تاريخ الطبري 6/ 293. (¬2) السير 3/ 308.

قال: إني والله ما لنفسي أبكي، ومالها من القتل أرثي، وإن كنت لم أحب لها طرفة عين تلفاً، ولكني أبكي لأهلي المقبلين إلى الكوفة، أبكي حسيناً وآل الحسين. وأقبل مسلم على محمد بن الأشعث فقال: يا عبد الله، إني والله أراك ستعجز عن أماني، فهل عندك خير تستطيع أن تبعث رجلاً على لساني يبلغ حسيناً عني رسالة؟ فإني لا أراه إلا قد خرج إليكم اليوم أو غداً هو وأهل بيته، وإن ما تراه من جزعي لذلك، فتقول: إن ابن عقيل بعثني إليك وهو في أيدي القوم أسير، لا يدري أيصبح أم يمسي حتى يقتل، وهو يقول لك: ارجع بأهلك ولا يغرنك أهل الكوفة، فإنهم أصحاب أبيك الذي كان يتمنى فراقهم بالموت أو القتل، إن أهل الكوفة قد كذبوك وكذبوني، وليس لكاذب رأي. فقال محمد بن الأشعث: والله لأفعلن، ولأعلمن ابن زياد أني قد أمنتك، ودعا ابن الأشعث إياس بن العباس الطائي، وقال له: اذهب فالق حسيناً فأبلغه هذا الكتاب، ثم أعطاه راحلة

النظرة العاشرة انقطاع أمل مسلم في النجاة

وتكفل له بالقيام بأهله وداره (¬1)، وأدخل محمد بن الأشعث مسلم بن عقيل على ابن زياد، وأخبره بما أعطاه من الأمان، فقال ابن زياد: ما بعثناك لتؤمنه ولم يقبل أمانه (¬2)، وهذا برهان أبلج على ما أجمعت عليه نصائح الصحابة والتابعين للحسين - رضي الله عنه - وأن القوم لا ذمة لهم ولا ولاء، وإنما هم عبيد الدنيا. النظرة العاشرة انقطاع أمل مسلم في النجاة: ترك الشيعة مسلما رحمه الله وحيدا مقهورا، وأسلموه للموت ولم يصدقوه ما وعدوه من الولاء والنصرة، وهذا يذكرنا بكل ما قيل للحسين - رضي الله عنه - عن أهل الكوفة من الغدر والخيانة وإن زعموا أنهم شيعة آل البيت، ولكن القدر نافذ لا محالة، أخذ مسلم رحمه الله إلى القصر لمقابلة عبيد الله بن زياد لينظر مصيره الذي لا يشك مسلم أنه الموت، ولما دخل على بن ¬

(¬1) البداية والنهاية 11/ 488. (¬2) تاريخ الطبري 6/ 298.

زياد قال له: إني قاتلك. قال مسلم: كذلك؟ ، قال: نعم. قال: فدعني أوصي إلى بعض قومي، قال: أوصي: فنظر مسلم في جلسائه وفيهم عمر بن سعد بن أبي وقاص، فقال: عمر، إن بيني وبينك قرابة، ولي إليك حاجة، وهي سر، فقم معي إلى ناحية القصر حتى أقولها لك، فأبى أن يقوم معه حتى أذن له ابن زياد، فقام فتنحى قريباً من ابن زياد، فقال له مسلم: إن علي ديناً في الكوفة سبعمائة درهم، فأقضها عني، واستوهب جثتي من ابن زياد فوارها، وابعث إلى الحسين، فإني كنت قد كتبت إليه أن الناس معه، ولا أراه إلا مقبلاً, فقام عمر، فعرض على ابن زياد ما قال له: فأجاز ذلك كله، وقال: أما حسين فإنه لم يردنا ولا نريده، وإن أرادنا لم نكف عنه ثم أمر ابن زياد بمسلم بن عقيل، فأصعد إلى أعلى القصر، وهو يكبر ويهلل ويسبح ويستغفر ويصلي على ملائكة الله ويقول: اللهمّ أحكم بيننا وبين قوم غرونا وخذلونا، ثم ضرب عنقه رجل يقال له: بكير بن حمران ثم ألقى رأسه إلى أسفل القصر، وأتبع

النظرة الحادية عشرة قوة الخوف على الحسين - رضي الله عنه -

رأسه بجسده (¬1)، وقتل معه هانئ بن عروة في السوق وهو يصيح في الشيعة من قبيلته مذحج فلم ينصره أحد، وصلب هو ومسلم في السوق أمام الناس، وقُتل اثنان من المخططين لنصرة مسلم وصلبا في السوق أيضا (¬2). النظرة الحادية عشرة قوة الخوف على الحسين - رضي الله عنه -: خرج الحسين - رضي الله عنه - إلى الكوفة ضاربا بكل نصيحة قدمت له عرض الحائط، معتمدا على تلك الرقاع التي حوت العدد الكبير من أسماء المبايعين من الشيعة في الكوفة (¬3)، وكان خروجه - رضي الله عنه - يوم التروية الثامن من ذي الحجة سنة ستين (8/ 12/60) من الهجرة، أدرك والي مكة عمرو بن سعيد بن العاص خطورة الموقف، فأرسل وفداً إلى الحسين، على رأسهم ¬

(¬1) البداية والنهاية 11/ 490. (¬2) تاريخ الطبري 6/ 302. (¬3) انظر: الطبقات 5/ 371.

أخوه يحي بن سعيد بن العاص، فحاولوا أن يثنوه عن عزمه ولكنه رفض، فنادوه: يا حسين، ألا تتقي الله تخرج عن جماعة المسلمين وتفرق بين هذه الأمة، فردَّ الحسين بقول الله تعالى: {لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} (¬1). وتوجه إلى العراق في أهل بيته وستين شيخاً من أهل الكوفة (¬2)، ليقضي الله أمرا كان مفعولا، وقد خاف أهل السنة على الحسين - رضي الله عنه - من عاقبة ما هو مقدم عليه خوفا شديدا، فلم يأل الصحابة والتابعون جهدا في مناصحته، وبيان خطئه فيما هو مقدم عليه، لا من حيث التصور ولا من حيث التجربة، فإن تصور الحسين - رضي الله عنه - كان مبنيا على ما بلغه من عاطفة الشيعة، فظن أن ذلك سيكون دعما كبيرا لنيل النصر، وكان تصوره خطأ محضا، فالدولة التي يريد تقويضها قائمة الأركان، تملك الأمصار بكل مقومات الدولة السياسية والاقتصادية ¬

(¬1) من الآية (41) من سورة يونس. (¬2) تاريخ الطبري 6/ 309.

والعسكرية، ولم يكن عند الحسين - رضي الله عنه - من مقومات النصر شيء سوى وعود لا تسمن ولا تغني من جوع، ولم تكن للقوم سابقة وفاء، فهم أهل غدر وخيانة، وما قتلُ علي وطعنُ ابنه الحسن رضي الله عنهما ببعيد عن ذاكرة الحسين - رضي الله عنه -، وقد ذُكِّر به مرارا، ولكنه لم يتخذ من ذلك عبرة، وكان خوف أهل السنة على الحسين - رضي الله عنه - كبيرا جدا لعلمهم بغدر الشيعة وكذبهم الذي لا يقف عند حد، فقال الصحابة ما قالوا، وقال التابعون ما قالوا، حتى الولاة ليزيد لم يكن الحسين - رضي الله عنه - عندهم هينا، فقد قال عبيد الله بن زياد على ما فيه من بطش وجبروت: أما حسين فإنه لم يردنا، ولا نريده، وإن أرادنا لم نكف عنه (¬1)، وكتب مروان بن الحكم إلى ابن زياد: أما بعد فإن الحسين بن علي قد توجه إليك، وهو الحسين بن فاطمة، وفاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتالله ما أحد يسلمه الله أحب إلينا من الحسين، وإياك أن تُهيج على نفسك ما لا يسده شيء ولا ينساه العامة، ولا يدع ذكره، والسلام عليك (¬2)، وكتب ¬

(¬1) تاريخ الطبري 6/ 302. (¬2) تهذيب الكمال 6/ 422 ..

إليه عمرو بن سعيد بن العاص ينهاه عن التعرض للحسين ويأمره بأن يكون حذراً في تعامله مع الحسين: قائلاً له: أما بعد فقد توجه إليك الحسين وفي مثلها تعتق أو تعود عبداً تسترق كما يسترق العبيد (¬1)، وكتب يزيد إلى ابن زياد يحذره ويقول: بلغني أن حسيناً قد سار إلى الكوفة وقد ابتلي به زمانك من بين الأزمان، وبلدك من بين البلاد وابتليت به من بين العمال وعندها تعتق أو تعود عبداً كما تُعتبد العبيد (¬2)، وما كتابته إلى ابن عباس في بادئ الأمر إلا لمعرفته بحق الحسين - رضي الله عنه - ومكانته، وإذا اختار المواجهة فالأمر متخلف تماما، وبيد من يقاتل الحسين - رضي الله عنه - ورقة أنه منشق على أمر قائم وبيعة معقودة، ولا تعفيه مكانته الرفيعة، وفضله الكبير من مسئولية ذلك، وقد اختار لنفسه ومن معه المواجهة، ولله الأمر من قبل ومن بعد. ¬

(¬1) تهذيب الكمال 6/ 422. (¬2) المعجم الكبير للطبراني 3/ 115.

النظرة الثانية عشرة الطريق إلى الكوفة

النظرة الثانية عشرة الطريق إلى الكوفة: لم يكن الجانب السياسي واضحا في خطوات الحسين العملية، رغم بيانها في نصح ابن عباس له، وقد اجتمعت نصائح الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم - حتى من لم ير بأساً برفض الحسين بيعة يزيد أجمعوا على أنه لا يخرج إلى الكوفة، ولا يثق في أهلها، وكتب إليه المسور بن مخرمة - رضي الله عنه - بأن لا يغتر بكتب أهل العراق، ونصحه بأن لا يبرح الحرم فإن كانت لهم حاجة فسيضربون إليه آباط الإبل حتى يوافوه فيخرج في قوة وعدة (¬1)، فلم يكن الحسين مكافئا في السياسة وأخذ الحيطة والحذر لخصومه، ولا ريب أن عندهم من الحنكة والمكر السياسي والدهاء ما لم يكن عند الحسين - رضي الله عنه -، وقد يستخدمون من الحيل ما لا يستخدمه الحسين - رضي الله عنه -، من باب الحرب خدعة، علاوة على أن الحسين - رضي الله عنه - لم يسبق له العمل في السياسة، وكان خصومه من العلم بها وبأساليب المكر فيها والدهاء على ¬

(¬1) مختصر تاريخ دمشق 7/ 140.

جانب كبير، فإن عشرين سنة من خلافة معاوية كافيه في أن يكتسب يزيد وغيره من رجال أبيه، مالا يعرفه شيعة الحسين بأسرهم، فمثلا الحسين - رضي الله عنه - ترك الحبل على الغارب حينما خرج من مكة وخرج على ثقة بكتب قد لا تكون صحيحة، أرسلت إليه للتغرير به وإثارة الفتنة وشق عصى المسلمين، ولم يكن عنده من العيون ما يوفر له معلومات دقيقة، ولاسيما وكل من أخبره أنذره بخطر وهلاك، وسار في طريقه كأي مسافر لا يعلم عن خصومه ماذا أعدوا له، ولم يعلم بما في الكوفة من احتياطات أمنية ورقابة مشددة، فقد أحكم ابن زياد سيطرته على الكوفة، فقام بجمع المقاتلة وفرق عليهم العطاء حتى يضمن ولاءهم (¬1)، ثم بعث الحصين بن تميم صاحب شرطته حتى نزل بالقادسية، وقام بتنظيم الخيل ما بين القادسية إلى خفضان (¬2)، وما بين القادسية إلى القطقطان (¬3)، ¬

(¬1) الطبقات 5/ 376. (¬2) أو خفان موضع قرب الكوفة .. (¬3) موضع قريب من القادسية؟

النظرة الثالثة عشرة مقابلة الحسين - رضي الله عنه - للحر بن يزيد

وإلى لعلع (¬1). ثم أصدر أوامره إلى الحصين بن تميم بأن يقبض على كل من ينكره، ثم أمر ابن زياد بأخذ كل من يجتاز بين واقصة (¬2)، إلى طريق الشام، إلى طريق البصرة فلا يترك أحدا يلج ولا يخرج (¬3)، وبهذا الإجراء ضرب ابن زياد طوقا أمنيا بين الكوفة والحسين - رضي الله عنه -، فكان الحسين في مسيره في عزلة تامة عن أخبار أنصاره في الكوفة. النظرة الثالثة عشرة مقابلة الحسين - رضي الله عنه - للحر بن يزيد: لم يكتف عبيد الله بن زياد بذلك الطوق الأمني بل بعث الحر بن يزيد في ألف فارس ليقابل حسينا - رضي الله عنه - في الطريق، وما زال الحسين - رضي الله عنه - سائرا في طريقه إلى الكوفة من غير علم بما يجري لاستقباله، ولما بلغ الحاجز من بطن الرمة بعث قيس بن مسهر ¬

(¬1) موضع قرب الكوفة مما يلي البصرة. (¬2) موضع بطريق مكة. (¬3) أنساب الأشرا - رضي الله عنه - ف 3/ 166، 573.

الصيداوي إلى الكوفة، وكتب معه إليهم برسالة يخبرهم فيها بقدومه (¬1)، ولكن الحصين بن تميم قبض على قيس بن مسهر مبعوث الحسين حين وصوله إلى القادسية (¬2)، ثم بعث به إلى ابن زياد فقتله مباشرة (¬3)، ثم بعث الحسين مبعوثاً إلى مسلم فوقع في يد الحصين بن تميم وبعث به إلى ابن زياد فقتله (¬4). هذا الطوق الأمني لم ينتج من فراغ بل من قوة في العمل السياسي، ودقة في التنفيذ، ولذلك العقاب الشنيع، وبتلك السرعة المدهشة، أثر في ضرب قلوب شيعة الحسين - رضي الله عنه - بالرعب الشديد، ومن رأى أو علم بذلك العقاب لا بد أن يحسب لمناصرة الحسين - رضي الله عنه - ألف حساب، ولاسيما والقوم أهل غدر لا وفاء لهم، ولم يدرك الحسين - رضي الله عنه - إلا بعد أن أخبره ¬

(¬1) البداية والنهاية 11/ 512. (¬2) مواقف المعارضة: ص 266. (¬3) الطبقات 5/ 376. (¬4) أنساب الأشراف 3/ 168.

الأعراب أن أحداً لا يلج ولا يخرج من الكوفة مطلقاً (¬1)، واستمر التحذير من بعض رجال القبائل الذين مرّ بهم، وبينوا له ذلك الخطر الذي يقدم عليه، ولقد بان الصبح لذي عينين، فالحسين - رضي الله عنه - لم يأخذ الحذر ابتداء، ولن ينجو من القدر في نهاية المطاف، وأنى له ذلك وقد قال الله تعالى: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} (¬2). قرب الحسين - رضي الله عنه - من الكوفة، وأمر بالتزود من الماء، بعد أن تفرق الناس عنه ولم يبق معه إلا أهله وبنو عمه، وسار حتى منتصف النهار فإذا بطلائع خيل ابن زياد عليها الحر بن يزيد، وكان عددها ألف فارس، وقد أدرك الحر بن يزيد الحسين ومن معه قريباً من شراف (¬3)، وفعلا قابل الحسين - رضي الله عنه - ولم ينازله، وأخذ الحُرُ يساير الحسين - رضي الله عنه - وينصحه بعدم المقاتلة ¬

(¬1) أنساب الأشراف 3/ 168. (¬2) الآية (154) من سورة آل عمران. (¬3) شراف بين واقصة والقرعاء على ثمانية أميال (معجم البلدان 3/ 331، 356، والعباب الزاخر 1/ 444).

ويذكّره بالله، وبيّن له أنه إذا قاتل فسوف يقتل، وكان الحسين - رضي الله عنه - يصلي بالفريقين إذا حضرت الصلاة (¬1)، وهنا نلاحظ أن الحسين - رضي الله عنه - أدرك خطأه فيما أقدم عليه، وطلب من الحُر بن يزيد أن يرجع إلى المدينة، ولكن سبق السيف العذل، فإنه ذكر له أنه مأمور بملازمته حتى الكوفة، وقام الحسين - رضي الله عنه - وأخرج خرجين مملوءين بالكتب التي تطلب منه القدوم إلى الكوفة، فأنكر الحُر والذين معه أي علاقة لهم بهذه الكتب، وهنا رفض الحسين - رضي الله عنه - الذهاب مع الحُر بن يزيد إلى الكوفة وأصر على ذلك، فاقترح عليه الحُر أن يسلك طريقاً يجنبه الكوفة ولا يرجعه إلى المدينة، وذلك من أجل أن يكتب الحُر إلى ابن زياد بأمره، وأن يكتب الحسين - رضي الله عنه - إلى يزيد بأمره، وبالفعل تياسر الحسين - رضي الله عنه - عن طريق العذيب (¬2) ¬

(¬1) تاريخ الطبري 6/ 326، 329. (¬2) من أرض العراق بعد القادسية بأربعة أميال (معجم لغة الفقهاء 1/ 55).

والقادسية (¬1) واتجه شمالاً على طريق الشام، وكانت خيل الحُر بن يزيد الدفعة الأولى ولم تكن الأخيرة لملاقاة الحسين - رضي الله عنه - ومن بقي معه وهم أهل بيته فقط، وعدد قليل مقابل ألف فارس من جند ابن زياد، وفي ذلك لفت نظر للحسين أن الخصوم أعدوا للأمر عدته، ولاسيما والوالي على الكوفة عبيد الله بن زياد المعروف بالمكر والدهاء، وقوة البطش ولو بالحسين نفسه، ولا أدل على ذلك من قوله: أما حسين فإنه لم يردنا، ولا نريده، وإن أرادنا لم نكف عنه (¬2)، وكان ابن زياد جهز الجيش الذي يقوده عمر بن سعد بن أبي وقاص مكوناً من أربعة آلاف مقاتل وكان موجها في الأصل إلى الري لجهاد الديلم، فلما طلب ابن زياد من عمر أن يذهب لمقاتلة الحسين رفض في البداية، ولكن ابن زياد هدده بالعزل إن لم ينفذ ¬

(¬1) قادسية الكُوْفَة قَرْيَة على مرحلة منها، في طريق الحاج، ذاتُ نخل ومزارع (الأماكن أو ما اتفق لفظه وافترق مسماه من الامكنة 1/ 101) .. (¬2) تاريخ الطبري 6/ 302.

النظرة الرابعة عشرة صحوة وفاجعة

أمره، وبهدم داره وقتله، وأمام هذا الخيار رضي بمواجهة الحسين - رضي الله عنه - (¬1)، ولما وصل الحسين - رضي الله عنه - إلى كربلاء من منطقة الطف (¬2) أدركته خيل عمر بن سعد بن أبي وقاص، ومعه شمر بن ذي الجوشن، والحصين بن تميم (¬3)، وأحاطت الخيل بالحسين ومن معه، وأصبح الأمر خطيرا للغاية. النظرة الرابعة عشرة صحوة وفاجعة: بان للحسين - رضي الله عنه - يقينا صدق الناصحين من الصحابة والتابعين، وصواب ما حذروا منه، وزاده يقينا ما سمع من الأخبار عبر طريقه، فما تلقى بشيرا بنصر، ولا مشجعا على المسير، وجاءه النبأ المفجع خبر تخاذل شيعته، ومقتل ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب رحمه الله، وهانئ بن عروة، وكان المعول عليهما ¬

(¬1) تاريخ الطبري 6/ 335، بتصرف (¬2) تقدم بيانه. (¬3) أنساب الأشراف 3/ 166، بتصرف.

في جمع الناس وأخذ البيعة، والتحضير لقدوم الحسين - رضي الله عنه -، وكان لهذا الخبر المفجع المؤلم وقعه الشديد على الحسين - رضي الله عنه -، فهؤلاء أقرب الناس إليه قد قتلوا، والشيعة في الكوفة تخاذلوا عن نصرته (¬1)، فبادر إلى التخلص من كتم الخبر عن مرافقيه، وقال: من أحب أن ينصرف فلينصرف، فتفرق الناس عنه يميناً وشمالاً (¬2)، وقال له بعض من ثبتوا معه: ننشدك الله إلا ما رجعت من مكانك، فإنه ليس لك بالكوفة ناصر ولا شيعة، بل نتخوف أن يكونوا عليك. فوثب بنو عقيل إخوة مسلم بن عقيل بن أبي طالب وقالوا: والله لا نبرح حتى ندرك ثأرنا أو نذوق كما ذاق مسلم (¬3). وهنا لم يكن أمام الحسين - رضي الله عنه - وقد مُنع من العودة، وقوبل بهذا الحشد من العدد والعدة، وتلك الأخبار السيئة عن شيعته، الذين لم يفوا إلا باستقدامه لهلاكه ومن معه، ليس له إلا أحد ¬

(¬1) موقف المعارضة: ص 267. (¬2) تاريخ الطبري 6/ 323. (¬3) تاريخ الطبري 6/ 322.

أمرين أحلاهما مر: 1 ـ الدخول في مفاوضات مع ابن زياد علها تكون سببا لصلح ينقذ الحسين به نفسه ومن معه، وإن حدث هذا فهو مخرج سيقبله الحسين - رضي الله عنه - على مضض، ولاسيما وقد رفض نصائح الصحابة والتابعين بعدم الخروج، ولكنه دون شك أخف من المواجهة التي هي محسومة من البداية بهلاك الحسين - رضي الله عنه - ومن معه، وفعلا أقدم الحسين - رضي الله عنه - على هذه الخطوة، وبدأ بالتفاوض مع عمر بن سعد بن أبي وقاص، وبيّن الحسين - رضي الله عنه - أنه لم يأت إلى الكوفة إلا بطلب من أهلها، وأبرز لعمر بن سعد الدليل على ذلك، أسماء المبايعين والداعين للحسين، وكتب عمر بن سعد لابن زياد بما سمعه من الحسين وقال: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فإني حيث نزلت بالحسين بعثت إليه رسولي، فسألته عما أقدمه وماذا يطلب؟ ، فقال: كتب إلي أهل هذه البلاد وأتتني رسلهم، فسألوني القدوم ففعلت، فأما إذا كرهوني، فبدا لهم غير ما أتتني به رسلهم فأنا منصرف عنهم. فلما قرئ على ابن زياد تمثل قول الشاعر:

الآن إذ علقت مخالبنا به ... يرجو النجاة ولاة حين مناص وكتب ابن زياد لعمر بن سعد: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد فقد بلغني كتابك، وفهمت ما ذكرت، فاعرض على الحسين أن يبايع ليزيد بن معاوية وجميع أصحابه فإذا فعل ذلك رأينا رأينا والسلام. ولما اطلع عمر بن سعد على جواب بن زياد ساءه ما يحمله الجواب من تعنت وصلف، وعرف أن ابن زياد لا يريد السلامة (¬1). ولم يكن هذا الموقف حسنا من ابن زياد فقد غلا في القسوة، واختار السوء والأذى للحسين - رضي الله عنه - ولمن معه، وكان الأجدر به أن يعامل الحسين بما يليق بمقامه - رضي الله عنه -، ولا أقل من العمل بقول الله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} وقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ ¬

(¬1) من الآية (134) من سورة آل عمران.

لِلصَّابِرِينَ} (¬1) والحسين حتى اللحظة لم يرق قطرة دم، ولكن حب البطش بالخصم، أوقع ابن زياد في هذا الموقف الذي لم يحمد عليه، وقد علم بعزة الحسين - رضي الله عنه -، وأنه لن يقبل هذا العرض، وهنا يكون لابن زياد شأن آخر. رفض الحسين - رضي الله عنه - ما عرضه ابن زياد، ثم لما رأى خطورة الموقف طلب من عمر بن سعد مقابلته، وعرض على عمر بن سعد عرضاً آخر يتمثل في إجابته واحدا من ثلاثة أمور: الأول: ما كان نصحه به الصحابة والتابعون - رضي الله عنهم - ويرجع من حيث أتى. الثاني: العودة على عرض ابن زياد فيذهب إلى الشام فيضع يده في يد يزيد بن معاوية. الثالث: أن يسيّروه إلى أي ثغر من ثغور المسلمين فيكون واحداً منهم له ما لهم وعليه ما عليهم (¬2)، وقد أكد الحسين - رضي الله عنه - ¬

(¬1) الآية (126) من سورة النحل. (¬2) المحن لأبي العرب.

موافقته للذهاب إلى يزيد (¬1)، وكتب عمر بن سعد إلى ابن زياد بكتاب أظهر فيه أن هذا الموقف المتأزم قد حُلّ، وأن السلام قد أوشك، وما على ابن زياد إلا الموافقة (¬2)، وكاد ابن زياد أن يوفي بما عرضه على الحسين - رضي الله عنه - من الذهاب إلى يزيد لمبايعته، وكاد يرسله إلى يزيد، لولا تدخل شمر بن ذي الجوشن الذي كان جالساً في المجلس حين وصول الرسالة فقد اعترض على رأي ابن زياد في أن يرسله إلى يزيد، وبيّن لابن زياد أن الأمر الصائب هو أن يطلب من الحسين أن ينزل على حكمه، حتى يكون هو صاحب الأمر المتحكم فيه (¬3)، وكان جليس سوء لم ¬

(¬1) أنساب الأشراف 3/ 173، 224. (¬2) تاريخ الطبري 6/ 340. (¬3) تاريخ الطبري 6/ 340.

النظرة الخامسة عشرة الفاجعة الكبرى

يوفق إلى خير، فقبل ابن زياد مشورة شمر، فكان شمر هذا بابا من أبواب الشر، ومشورته وبال يحمل وزرها بين يدي الله - عز وجل -، فقد استبدل الخير بالشر، ومال إلى إشعال الفتنة. أخذ ابن زياد برأي شمر المشئوم، وعرض على الحسين - رضي الله عنه - النزول على حكمه، فقال: لا والله لا أنزل على حكم عبيد الله بن زياد أبدا (¬1)، وقال لأصحابه الذين معه أنتم في حل من طاعتي، ولكنهم أصرّوا على مصاحبته والمقاتلة معه حتى الشهادة (¬2). النظرة الخامسة عشرة الفاجعة الكبرى: تحقق ما أجمع عليه كل من نصح الحسين ـ حتى من لم ير بأساً برفضه بيعة يزيد ـ على أن لا يخرج للعراق ولا يثق في أهل الكوفة، فقد كتب إليه المسور بن مخرمة - رضي الله عنه - بأن لا يغتر ¬

(¬1) تاريخ الطبري 6/ 342. (¬2) تاريخ الطبري 6/ 346.

بكتب أهل العراق، ونصحه بأن لا يبرح الحرم فإن كانت لهم حاجة فسيضربون إليه آباط الإبل حتى يوافوه فيخرج في قوة وعدة (¬1)، وتحقق ما توقعوا من هلاك الحسين - رضي الله عنه - وأهل بيته، وما تضمنت عبارات وداعهم له، اعتنقه ابن عمر رضي الله عنهما وقال: استودعك الله من قتيل (¬2)، غلبنا الحسين بن علي بالخروج، ولعمري لقد رأى في أبيه وأخيه عبرة، ورأى من الفتنة وخذلان الناس لهم ما كان ينبغي له ألا يتحرك ما عاش وأن يدخل في صالح ما دخل فيه الناس، فإن الجماعة خير (¬3)، وقال أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه -: غلبني الحسين على الخروج، وقد قلت له: اتق الله في نفسك والزم بيتك، ولا تخرج على إمامك (¬4)، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: فو الله الذي لا إله إلا هو لو أعلم أنك إذا أخذت بشعرك وناصيتك حتى يجتمع ¬

(¬1) مختصر تاريخ دمشق 7/ 140. (¬2) السير 3/ 292. (¬3) مختصر تاريخ دمشق 7/ 138. (¬4) تهذيب الكمال (6/ 461)، الطبقات (1/ 445)

علي وعليك الناس أطعتني وأقمت لفعلت ذلك (¬1). ولم يكن هذا الإصرار من الناصحين إلا عن علم وتجربة، فالعلم: عدم جواز الخروج على من عقد المسلمون له البيعة على وجه لا يرفضه الشرع، وهذا حاصل في بيعة يزيد، والتجربة: ما شهدوا منها في عهد عثمان وعلي رضي الله عنهما، وما وقع فيها من استغلال لتحقيق مآرب وأهواء، وما نتج عن ذلك من فرقة ودمار حتى العقيدة وقع فيها من الخلل ما وقع بسبب ذلك الطيش، وتلك الأهواء. حدثت الفاجعة الكبرى استشهاد الحسين - رضي الله عنه - في صباح يوم الجمعة سنة (61 هـ) حيث نظم الحسين - رضي الله عنه - أصحابه وعزم على القتال وكان معه اثنان وثلاثون فارساً، وأربعون راجلاً، فجعل زهير بن القين في ميمنته وحبيب بن مظاهر في الميسرة، وأعطى رايته العباس بن علي، وجعل البيوت وراء ظهورهم، وأمر الحسن بحطب وقصب فجعله من وراء البيوت، وأشعل فيه النار مخافة أن يأتوهم من خلفهم. ¬

(¬1) الكامل في التاريخ (2/ 546).

وأما عمر بن سعد فقد نظم جيشه، وجعل على الميمنة عمرو بن الحجاج الزبيدي، بدلاً من الحر بن يزيد الذي انضم إلى الحسين، وجعل على الميسرة شمر بن ذي الجوشن وعلى الخيل عزرة بن قيس الأحمسي، وعلى الرجال شبت بن ربعي الرياحي، وأعطى الراية ذويداً مولاه. وبدأت المعركة سريعة وكانت مبارزة في بداية الأمر، وجُوبه جيش عمر بن سعد بمقاومة شديدة من قبل أصحاب الحسين - رضي الله عنه -، حيث أن مقاتلتهم اتسمت بالفدائية فلم يعد لهم أمل في الحياة (¬1)، وكان الحسين - رضي الله عنه - في البداية لم يشترك في القتال، وكان أصحابه يدافعون عنه ولما قتل أصحابه لم يجرؤ أحد على قتله، وكان جيش عمر بن سعد يتدافعون ويخشى كل فرد أن يبوء بقتله وتمنوا أن يستسلم، ولكن الحسين - رضي الله عنه - لم يبد شيئاً من الليونة، بل كان - رضي الله عنه - يقاتلهم بشجاعة نادرة، عندئذ خشي شمر بن ذي الجوشن من انفلات زمام الأمور فصاح بالجند وأمرهم بقتله، فحملوا عليه، وضربه زرعة بن شريك ¬

(¬1) تاريخ الطبري 6/ 349 ـ 350.

النظرة السادسة عشرة عهد معاوية - رضي الله عنه - لابنه بالملك

التميمي ثم طعنه سنان بن أنس النخعي واحتز رأسه، ويقال إن الذي قتله عمرو بن بطار التغلبي، وزيد بن رقادة (¬1)، ويقال أن المتولي الإجهاز عليه شمر بن ذي الجوشن الضبي، وحمل رأسه إلى ابن زياد خولي بن يزيد الأصبحي (¬2)، وهؤلاء هم من أشر الناس على وجه الأرض، وكان قتل الحسين - رضي الله عنه - في محرم في العاشر منه سنة إحدى وستين (10/ 1/61) من الهجرة (¬3)، وهم والله الأشقياء، وبيد الله التدبير والقضاء. النظرة السادسة عشرة عهد معاوية - رضي الله عنه - لابنه بالملك: قال ابن خلدون رحمه الله: لا يتهم الإمام إن عهد إلى أبيه أو ابنه لأنه مأمون على النظر لهم في حياته، فأولى أن لا يحتمل فيها تبعة بعد مماته، خلافاً لمن قال باتهامه في الولد والوالد، أو ¬

(¬1) مواقف المعارضة: ص 276. (¬2) تاريخ الطبري 6/ 385. (¬3) تاريخ الطبري 6/ 325.

لمن خصص التهمة بالولد دون الوالد، فإنه بعيد عن الظنة في ذلك كله، ولاسيما إذا كانت هناك داعية تدعو إليه، من إيثار مصلحة أو توقع مفسدة فتنتفي الظنة عند ذلك رأساً، كما وقع في عهد معاوية لابنه يزيد، وإن كان فعل معاوية مع وفاق الناس له حجة في الباب. والذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون من سواه إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس، واتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل والعقد عليه حينئذ من بني أمية، إذ بنو أمية يومئذ، لا يرضون سواهم، وهم عصابة قريش وأهل الملة أجمع، وأهل الغلب منهم، فآثره بذلك دون غيره ممن يظن أنه أولى بها، وعدل عن الفاضل إلى المفضول حرصاً على الاتفاق واجتماع الأهواء الذي شأنه أهم عند الشارع، وإن كان لا يظن بمعاوية غير هذا فعدالته وصحبته مانعة من سوى ذلك. وحضور أكابر الصحابة لذلك وسكوتهم عنه دليل على انتفاء الريب فيه، فليسوا ممن يأخذهم في الحق هوادة، وليس معاوية ممن تأخذه العزة في قبول الحق، فإنهم كلهم أجل من ذلك، وعدالتهم مانعة منه، وفرار عبد الله بن عمر من ذلك إنما هو

محمول على تورعه من الدخول في شيء من الأمور مباحاً كان أو محظوراً، كما هو معروف عنه، ولم يبق في المخالفة لهذا العهد الذي اتفق عليه الجمهور إلا ابن الزبير، وندور المخالف معروف، ثم إنه وقع مثل ذلك من بعد معاوية من الخلفاء الذين كانوا يتحرون الحق ويعملون به، مثل عبد الملك وسليمان من بني أمية، والسفاح والمنصور والمهدي والرشيد من بني العباس، وأمثالهم ممن عرفت عدالتهم وحسن رأيهم للمسلمين، والنظر لهم، ولا يعاب عليهم إيثار أبنائهم وإخوانهم، وخروجهم عن سنن الخلفاء الأربعة في ذلك، فشأنهم غير شأن أولئك الخلفاء، فإنهم كانوا على حين لم تحدث طبيعة الملك، وكان الوازع دينياً، فعند كل أحد وازع من نفسه، فعهدوا إلى من يرتضيه الدين فقط وآثروه على غيره، ووكلوا كل من يسمو إلى ذلك إلى وازعه، وأما من بعدهم من لدن معاوية فكانت العصبية قد أشرفت على غايتها من الملك، والوازع الديني قد ضعف واحتيج إلى الوازع السلطاني والعصباني، فلو عهد إلى غير من ترتضيه العصبية لردت ذلك العهد، وانتقض أمره سريعاً، وصارت الجماعة إلى الفرقة والاختلاف.

سأل رجل عليا - رضي الله عنه -: ما بال المسلمين اختلفوا عليك، ولم يختلفوا على أبي بكر وعمر؟ ، فقال: لأن أبا بكر وعمر كانا واليين على مثلي، وأنا اليوم والٍ على مثلك، يشير إلى وازع الدين، أفلا ترى إلى المأمون لما عهد إلى علي بن موسى بن جعفر الصادق وسماه الرضا كيف أنكرت العباسية ذلك، ونقضوا بيعته وبايعوا لعمه إبراهيم بن المهدي، وظهر من الهرج والخلاف وانقطاع السبل وتعدد الثوار والخوارج ما كاد أن يصطلم الأمر، حتى بادر المأمون من خراسان إلى بغداد ورد أمرهم لمعاهده، فلا بد من اعتبار ذلك في العهد، فالعصور تختلف باختلاف ما يحدث فيها من الأمور والقبائل والعصبيات، وتختلف باختلاف المصالح ولكل واحد منها حكم يخصه، لطفاً من الله بعباده. وأما أن يكون القصد بالعهد حفظ التراث على الأبناء فليس من المقاصد الدينية إذ هو أمر من الله يخص به من يشاء من عباده، ينبغي أن تحسن فيه النية ما أمكن خوفاً من العبث

النظرة السابعة عشرة حسن الظن في أمور

بالمناصب الدينية، والملك لله يؤتيه من يشاء (¬1). النظرة السابعة عشرة حسن الظن في أمور: قال ابن خلدون رحمه الله: الأول منها: ما حدث في يزيد من الفسق أيام خلافته، فإياك أن تظن بمعاوية - رضي الله عنه - أنه علم ذلك من يزيد، فإنه أعدل من ذلك وأفضل، بل كان يعذله أيام حياته في سماع الغناء وينهاه عنه، وهو أقل من ذلك، وكانت مذاهبهم فيه مختلفة، ولما حدث في يزيد ما حدث من الفسق اختلف الصحابة حينئذ في شأنه، فمنهم من رأى الخروج عليه ونقض بيعته من أجل ذلك، كما فعل الحسين وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما ومن اتبعهما في ذلك، ومنهم من أباه لما فيه من إثارة الفتنة وكثرة القتل مع العجز عن الوفاء به، لأن شوكة يزيد يومئذ هي عصابة بني أمية، وجمهور أهل الحل والعقد من قريش، ¬

(¬1) مقدمة ابن خلدون 1/ 109.

وتستتبع عصبية مضر أجمع، وهي أعظم من كل شوكة، ولا تطاق مقاومتهم، فأقصروا عن يزيد بسبب ذلك، وأقاموا على الدعاء بهدايته والراحة منه، وهذا كان شأن جمهور المسلمين، والكل مجتهدون ولا ينكر على أحد من الفريقين، فمقاصدهم في البر وتحري الحق معروفة وفقنا الله للاقتداء بهم. والأمر الثاني: هو شأن العهد من النبي - صلى الله عليه وسلم - وما تدعيه الشيعة من وصيته لعلي - رضي الله عنه -، وهو أمر لم يصح، ولا نقله أحد من أئمة النقل، والذي وقع في الصحيح من طلب الدواة والقرطاس ليكتب الوصية وأن عمر منع من ذلك فدليل واضح على أنه لم يقع، وكذا قول عمر - رضي الله عنه - حين طعن وسئل في العهد فقال: إن أعهد لقد عهد من هو خير مني ـ يعني أبا بكر ـ وإن أترك فقد ترك من هو خير مني ـ يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعهد ـ وكذلك قول علي للعباس رضي الله عنهما حين دعاه للدخول إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألانه عن شأنهما في العهد، فأبى علي من ذلك وقال: إنه إن منعنا منها فلا نطمع فيها إلى آخر الدهر، وهذا دليل على أن علياً علم أنه لم يوص، ولا عهد إلى أحد، وشبهة الإمامية في ذلك إنما هي كون الإمامة من أركان

الدين كما يزعمون، وليس كذلك، وإنما هي من المصالح العامة المفوضة إلى نظر الخلق، ولو كانت من أركان الدين لكان شأنها شأن الصلاة، ولكان يستخلف فيها كما استخلف أبا بكر في الصلاة، ولكان يشتهر كما اشتهر أمر الصلاة. واحتجاج الصحابة على خلافة أبي بكر بقياسها على الصلاة في قولهم: ارتضاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لديننا أفلا نرضاه لدنيانا، دليل على أن الوصية لم تقع، ويدل ذلك أيضاً على أن أمر الإمامة والعهد بها لم يكن مهماً كما هو اليوم، وشأن العصبية المراعاة في الاجتماع والافتراق في مجاري العادة لم يكن يومئذ بذلك الاعتبار، لأن أمر الدين والإسلام كان كله بخوارق العادة من تأليف القلوب عليه، واستماتة الناس دونه، وذلك من أجل الأحوال التي كانوا يشاهدونها في حضور الملائكة لنصرهم، وتردد خبر السماء بينهم وتجدد خطاب الله في كل حادثة تتلى عليهم، فلم يحتج إلى مراعاة العصبية لما شمل الناس من صبغة الانقياد والإذعان، وما يستفزهم من تتابع المعجزات الخارقة، والأحوال الإلهية الواقعة، والملائكة المترددة التي وجموا منها، ودهشوا من تتابعها.

فكان أمر الخلافة والملك والعهد والعصبية، وسائر هذه الأنواع مندرجاً في ذلك القبيل، كما وقع، فلما انحصر ذلك المدد بذهاب تلك المعجزات، ثم بفناء القرون الذين شاهدوها، فاستحالت تلك الصبغة قليلاً قليلاً وذهبت الخوارق وصار الحكم للعادة كما كان، فاعتبر أمر العصبية ومجاري العوائد فيما ينشأ عنها من المصالح والمفاسد، وأصبح الملك والخلافة والعهد بهما مهماً، من المهمات الأكيدة كما زعموا، ولم يكن ذلك من قبل. فانظر كيف كانت الخلافة لعهد النبي - صلى الله عليه وسلم - غير مهمة، فلم يعهد فيها، ثم تدرجت الأهمية زمان الخلافة بعض الشيء بما دعت الضرورة إليه في الحماية والجهاد وشأن الردة والفتوحات، فكانوا بالخيار في الفعل والترك كما ذكرنا عن عمر - رضي الله عنه -، ثم صارت اليوم من أهم الأمور للألفة على الحماية، والقيام بالمصالح، فاعتبرت فيها العصبية التي هي سر الوازع عن الفرقة والتخاذل، ومنشأ الاجتماع والتوافق، الكفيل بمقاصد الشريعة وأحكامها (¬1). ¬

(¬1) مقدمة ابن خلدون 1/ 110.

النظرة الثامنة عشرة بعض نتائج الأحداث

النظرة الثامنة عشرة بعض نتائج الأحداث: نتج من السلبيات بسبب خروج الحسين - رضي الله عنه - من مكة معارضا ليزيد مايلي: 1 ـ غدر الشيعة بابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب رحمه الله، كما توقع الناصحون من الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم -. 2 ـ انتصار ابن زياد وإرهاب كل من تسول له نفسه بمناصرة الحسين - رضي الله عنه -. 3 ـ وقوع الحسين - رضي الله عنه - في يد ابن زياد، فلم يتمكن من العودة إلى مكة لما تبين له واقع شيعته فقد أسلموا ابن عمه للموت، ولم يبق معه سوى أهل بيته، وقلة ممن ثبت معه. 4 ـ استقبال الحسين - رضي الله عنه - ومن معه الموت رغم علمهم بالهلاك اثنان وسبعون رجلا أمام أربعة آلاف من جيش ابن زياد له عدد وعدة. 5 ـ استشهاد الحسين - رضي الله عنه - في الدفاع عن نفسه وعرضه، وقتل

معه اثنان وسبعون رجلا (¬1) هم كل من كان معه. 6 ـ قتل من جيش ابن زياد ثمانية وثمانون رجلا (¬2). 7 ـ انشقاق وحدة المسلمين عقائديا حيث استغل قتل الحسين - رضي الله عنه - ومن معه في الكذب على أهل السنة، وإشهار دعوى عدم حبهم آل البيت، والحق أن الشيعة هم الذين أسلموه للموت فغرروا به واستقدموه للهلاك، ولو أصغى الحسين - رضي الله عنه - لنصائح أهل السنة ما حصل له ذلك، وقدر الله فوق ذلك كله. 8 ـ تفنن الشيعة بعد ذلك في الخروج عن منهج الكتاب والسنة، وأشهروا البدع وإضلال الناس باسم حب الحسين - رضي الله عنه - والثأر له، فهل يثأرون من آبائهم الأولين، فهم قتلة الحسين - رضي الله عنه - دون شك، ومن عاجل عقابهم ما سلط على عقبهم مما يصنعون بأنفسهم في عاشوراء، وإغراقهم في البدع، ومناقضة ما جاء في الكتاب والسنة، فضلوا وأضلوا، وكم يحملون من أوزارهم وأوزار أتباعهم؟ ! ! . ¬

(¬1) الطبقات 5/ 386. (¬2) الطبقات 5/ 385.

ومن إيجابيات خروج الحسين - رضي الله عنه - ما يلي

ومن إيجابيات خروج الحسين - رضي الله عنه - ما يلي: 1 ـ بيان ضلال الشيعة وغدرهم المتوالي بدأ بعلي والحسن والحسين - رضي الله عنهم -، وانتهى بكفير الصحابة، وتضليل كل من يعمل بالكتاب والسنة. 2 ـ ثبوت عدم عصمة علي وذريته، وقد وقع لهم ما وقع، وليس من سنة الله تعالى أن يعد أحدا من خلقه بالعصمة ويخذله في الموقف العصيب، ولكن الشيعة أبوا إلا الكذب على الله - عز وجل -، وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وعلى آل البيت - رضي الله عنهم -، وعلى الأمة المحمدية. 3 ـ أن عقيدة أهل السنة في حب آل البيت لم تخرج عن منهج الكتاب والسنة، وهم وإن خطّؤوا الحسين - رضي الله عنه - في عدم البيعة ليزيد، وفي خروجه إلى الكوفة ثقة بوعود من غدروا بأبيه وأخيه، فلم يفسقوه بذلك ولم يقل أحد بردته، بل يقولون: اجتهد - رضي الله عنه - وأخطأ في اجتهاده - رضي الله عنه -، فله أجر الاجتهاد لأنه لم يرد إلا الخير للأمة، وخطؤه مغفور، ويشدون له ولأخيه الحسن أنهما سيدا شباب أهل الجنة رضي الله عنهما، ويعترفون بما لهما من الفضائل رضي الله عنهما، ويشهدون

بأن الشيعة تسببوا في قتل الحسين ومن معه، فأخرجوه إلى مصرعه وهلاك من معه بوعود كاذبة، وخيانة عظمى، ظهر في الدنيا بعض عقاب الله لهم. 4 ـ أن الناصحين له من الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين رحمهم الله كانوا على حق ويقين للأسباب التالية: أـ العمل بما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وإِنِ اسْتعمل عليكم عبد حَبَشِىٌّ كأَن رأْسه زبِيبة» (¬1)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من أَتاكم وأَمركم جميع على رجلٍ واحد يرِيد أَن يشقّ عصاكم أَو يفرِّق جماعتكم فاقتلوه» (¬2) وقد خرج الحسين - رضي الله عنه - وأمر الناس مجتمع على يزيد، وقال «خِيَارُ أَئمّتكم الَّذين تُحبّونهم ويُحبّونكم، وتُصلّون عليهم ويُصلّون عليكم، وشرار أَئمّتكم الّذين تبغضونهم ويُبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم» قالوا: قلنا: يا رسول الله، أفلا ننابذهم عند ذلك قال: «لا ما أقاموا فيكم الصلاة، لا ما ¬

(¬1) البخاري حديث (7142). (¬2) مسلم حديث (4904).

أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولى عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يدا من طاعة» (¬1) ولم يُعلم أن يزيد لم يقم الصلاة في الناس، ولم يعلم منه كفر عليه برهان. من أجل هذه النصوص وغيرها كثير خاف أهل السنة على الحسين - رضي الله عنه - مما أقدم عليه، بالإضافة إلى معرفتهم بغدر الشيعة. تمت هذه النظرات باختصار مفيد، نريد به توجيه كل ذي عقل رشيد، إلى قصة الحسين الشهيد، ليعلم الحق فيلزمه وعنه لا يحيد، فالسعيد من ينجو بما عرف من الحق يوم الوعيد، وسيحكم الله - عز وجل - في ذلك اليوم بين العبيد. هذه ليلة الخميس 29/ 11/ 1429 هـ المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والتسليم، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعه إلى يوم الدين، عدد خلقه وزنة عرشه ومداد كلماته ورضا نفسه. ¬

(¬1) مسلم حديث (4911).

§1/1