النظرات الماتعة في سورة الفاتحة

مرزوق بن هياس الزهراني

النظرات الماتعة في سورة الفاتحة الطبعة الثانية (1425 هـ) بسم الله الرحمن الرحيم النظرات الماتعة في سورة الفاتحة تأليف مرزوق بن هيّاس آل مرزوق الزهراني الأستاذ المشارك في قسم علوم الحديث بكلية الحديث والدراسات الإسلامية

النظرات الماتعة في سورة الفاتحة

ح: مرزوق بن هياس آل مرزوق الزهراني، 1425 هـ الزهراني، مرزوق بن هياس آل مرزوق. النظرات الماتعة في سورة الفاتحة / مرزوق بن هياس آل مرزوق الزهراني، المدينة المنورة، 1425 هـ ص؛ .. سم. ـــ (رسائل دعوة وتوجيه؛ 6) ردمك: 4 ـــ 898 ـــ 46 ـــ 9960 1، ـــ القرآن ـــ التفسير الحديث 2، ـــ القرآن سورة الفاتحة تفسير. أ. العنوان ب. السلسلة ... ديوي 6277 ... 6564/ 1425 رقم الإيداع: 6564/ 1، 42، 5 ردمك: 4 ـــ 898 ـــ 46 ـــ 9960 حقوق الطبع محفوظة. الطبعة الأولى: ص: 130 ... 21، × 14 1425 هـ - 2005 م الناشر: المؤلف. مطابع أضواء المنتدى الإسلامي ـــ الرياض.

بسم الله الرحمن الرحيم

النظرات الماتعة في سورة الفاتحة تأليف مرزوق بن هيّاس آل مرزوق الزهراني الأستاذ المشارك في قسم علوم الحديث بكلية الحديث والدراسات الإسلامية

الإهداء

الإهداء إلى كل مؤمن ومؤمنة، وكل مسلم ومسلمة، في أرجاء المعمورة. الذين آمنوا بالله ربا وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيا ورسولا، وبالإسلام دينا، يعبدون الله - عز وجل - وفق ما جاء به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، عقيدة وأحكاما وسياسة وحكما. أقدم هذا الجهد، من خلال نظرات ماتعة، وتأملات واسعة، في سورة الفاتحة، بغية أن يتأملوا ما ورد فيها من الفهم النظري، ويعملوا ما تقرر من الجانب العملي، كيما يسعدوا في الدنيا والآخرة. سائلا الله - عز وجل - أن يجعل عملي له خالصا، وسعيي فيه سعيا مشكورا، وأن يجعل خطئي مغفورا، ولا يحرمني ووالديّ أجره يوم الدين، ولا يحرم الأجر من أعان عليه نفقة وطباعة وتوزيعا {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (¬1). المؤلف ¬

(¬1) الآيتان (88، 89) من سورة الشعراء.

منهج البحث

منهج البحث قبل تحديد خطوات البحث تجدر الإشارة إلى أن هذه هي الطبعة الثانية لهذا السفر القيم، فقد كانت الطبعة الأولى في سنة (1422 هـ ـــ 2001 م) وقد لقيت رغبة من المطالعين لها، وتواردت إليّ العديد من طلبات التزويد بها، بل طلب البعض من خارج المملكة السماح له بطباعتها، وقد أذنت بشرط الوقفية وعدم البيع، ولما تزايد الطلب أخبرت بعض من أعرف من أهل الخير، فحقق الرغبة لنا ولإخواننا المسلمين، أثابه الله وأحسن لنا وله العاقبه. ثم أنبه أنني سأقتصر في المنهج على ما يلي: في توثيق المعلومات على (جامع البيان في تأويل القرآن) للإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري إمام المفسرين، فهو عمدة من جاء بعده، فالذين كتبوا التفسير بعد ابن جرير رحمه الله هم حول ما روى، أو دون بقلمه يدندنون، وعلى ما في تفسيره يعتمدون، ويليه في الأهمية (الجامع لأحكام القرآن) تفسير الإمام القرطبي أبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري، فإنه أجاد استخراج المسائل فهو في نظري التفسير الثاني بعد (جامع البيان) وما دعت إليه الحاجة في قضايا محدودة فما كان في غيرهما من أمر يلزم تدوينه لأهميته في

البحث، وتوثيق المعلومات، فلن أغفله وبمصدره أوصله. لم أشتغل ببحث القضايا اللغوية، كاشتقاق الأسماء، واختلاف القراءات ومعانيها، والأبلغ منها، وأقوال العلماء واختلافهم في المسائل، من أجل عدم إشغال القارئ بأمور لا يدرك دقتها إلا المتخصص، فراعيت حال القراء وما هم محتاجون إلى معرفته، أما الباحث الناقد المتخصص فله مراجعة المصادر، وإمعان النظر فيما دونه الأئمة، من دقائق وملاحظات لغوية وبلاغية ومناقشات، وردود على بعضهم في المسائل الخلافية.

المقدمة

المقدمة {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} (¬1)، والصلاة والسلام على البشير النذير الذي جلب بإذن ربه لأمته الخير الكثير، وحذرها من الشر والتدمير - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإن كتاب الله - عز وجل -، وسنة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - هما صراط الله المستقيم، من اعتصم بهما نجا، ومن خالفهما هلك، يزداد كل مؤمن بهديهما بصيرة، ومن ابتعد عنهما زاد عماه وكثر تدميره. وإن من فضل الله - عز وجل - على هذه الأمة أن جمعها على تلاوة قدر عظيم من كلامه في كل يوم سبع عشرة مرة تلاوة واجبة وذلك فيما فرض على عباده من الصلوات الخمس في اليوم والليلة. إنها سورة الفاتحة السورة العظيمة المشتملة على معاني الخير والبركة، فكان لزاما على كل مسلم أن يعلم ما فيها من الخير، فيستزيد من تلاوتها بإضافة ما حث عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المحافظة على السنن الراتبة ¬

(¬1) الآية (1، ) من سورة الكهف.

المجموعة في ثلاث عشرة ركعة في اليوم والليلة، فإذا ما استوعب العابد فضلها ومناجاة ربه بها قام بها ماشاء الله من الليل، واستن بها في صلاة الضحى، وغير ذلك من القربات كتحية المسجد وركعتي الطواف، وصلاة الجنازة، وصلاة العيدين، إنها أم الكتاب تقود العبد إلى معرفة الثناء على الله - عز وجل -، وفضله على عباده، وتوحيده بأسمائه وصفاته في عبوديته والاستعاذة به، والاعتصام به بطلب الهداية والبعد عن الضلال، وما يوجب غضبه، سبحانه وتعالى. فهاهي الفاتحة قليلة الألفاظ واسعة الدلالة، عظيمة المعاني، شافية كافية، رمت تقديمها لكل مسلم ومسلمة في أسلوب رصين يكشف عن بعض لطائفها وعظيم قدرها، وسعة دلالتها، إنها جنة كل مؤمن ومؤمنة، وهي نار حارقة لجميع العصاة {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (¬1). ¬

(¬1) الآية (70) من سورة الفرقان.

سبب اختيار البحث

سبب اختيار البحث لما قال الله - عز وجل -: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (¬1)، دلَّ على أمر المؤمنين بقراءة الفاتحة على نحو ما سلف بيانه إن ذلك تطبيق عملي لما يجب أن يكون عليه وضع المسلمين تجاه كل آية من كتاب الله - عز وجل -، فحبل الله هو كلامه الذي أنزله على عبده ورسوله نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - لهذا شغفت بالكتابة عن هذا المثال الحي الذي اجتمع على العمل به كل من آمن بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيا ورسولا، وقد علم كل فرد منهم أن صلاته لا تقبل إلا بتلاوة هذه السورة العظيمة وتدبر ما فيها من الدلالة والخير، إلا من عذر يعفيه من ذلك، فكان هذا أمرا باعثا على جمع ¬

(¬1) الآية (103) من سورة آل عمران.

ما ورد فيها من المقاصد والدلالة، وبسطها لعباد الله الصالحين، هذا أولا. أما الأمر الثاني: فلأن الله - عز وجل - امتن بالفاتحة على عبده ورسوله نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - قال الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} (¬1)، فجعلها قسيمة لبقية السور، وكان الأمر كذلك لأنها جمعت أقسام القرآن وحوتها. الأمر الثالث: إن معرفة معانيها ودلالاتها من العلم الضروري الذي يجب على كل مسلم أن يلم به كيما تصح صلاته وعقيدته ودعاؤه، وثناؤه على ربه - عز وجل -، واستشفاؤه بهذه السورة العظيمة، المباركة والقرآن كله عظيم مبارك عظيم. الأمر الرابع: إنها تدريب عملي على اجتماع المسلمين على الحق، ومن هذا المثال وجب عليهم أن يكونوا موحدين لله - عز وجل - بالعبادة، فالفاتحة تدعوهم إلى رب واحد هو معبودهم لا معبود بحق سواه. والذي جاء بها هو محمد - صلى الله عليه وسلم - فوجب أن يوحدوه في القدوة وفي الاتباع، وأن لا يخالفوا أمره، ولا يتجاوزوا ¬

(¬1) الآية (87) من سورة الحجر.

نهيه - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك قال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (¬1)، وقال الله سبحانه وتعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬2)، وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (¬3)، والفاتحة حددت لهم المنهج العملي من خلال دلالاتها ومعانيها فوجب أن يكون منهجهم واحداً كتاب الله وسنة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -، قال الله سبحانه وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ¬

(¬1) الآية (7) من سورة الحشر. (¬2) الآية (63) من سورة النور. (¬3) الآية (65) من سورة النساء.

النظرة الأولى حول سورة الفاتحة

الْإِسْلَامَ دِينًا} (¬1)، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (¬2). ومن البواعث على هذا البحث أنني طالعت ما كتبه حول الفاتحة بعض الفضلاء، فألفيت أن الفاتحة لازالت مشرعةً أبوابها للمزيد من البحث والدراسة، ولا أدعي الكمال فيما قمت به من عمل ولكن قدمت بعض ما وقفت عليه من كلام أهل العلم، ورمت الاختصار، فتجنبت الغوص، واكتفيت بالإبحار في لجج المعرفة والنصوص والأخبار، فاقتطفت ما تيسر من الثمار، وقدمتها للمسلمين من القارئين النظار، والسامعين الأخيار، رجاء أن ينتفعوا بها ويكونوا من الأبرار، بإذن الله الواحد القهار. النظرة الأولى حول سورة الفاتحة: الفاتحة مستهل كتاب الله العزيز، أنزلت بمكة على القول الراجح، عظّم الله شأنها، وخص بها نبيه ورسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - وأمته، أوجز فيها ما فصله في القرآن العظيم. ¬

(¬1) من الآية (3) من سورة المائدة. (¬2) من الآية (44) من سورة المائدة، وفي التي بعدها (الظالمون) وفي (47) الفاسقون.

النظرة الثانية لماذا تعددت أسماء الفاتحة؟

آياتها سبع، وكلماتها خمس وعشرون كلمة، وحروفها مائة وثلاثة وعشرون حرفا (¬1) تضمنت جميع علوم القرآن الكريم (¬2) أسماؤها كثيرة، ذكر الفيروز آبادي أنها قريبة من ثلاثين (¬3) وقال القرطبي: اثنتان وعشرون (¬4) وقال الأ لوسي: لهذه السورة الكريمة أسماء، أوصلها البعض إلى نيف وعشرين (¬5). النظرة الثانية لماذا تعددت أسماء الفاتحة؟ تنوعت أسماء الفاتحة بحسب تنوع ما فيها من الدلالة، وما فيها من الفضل، وما اشتملت عليه من المقاصد، وما فيها من البركة والخير، وبيان ذلك على النحو التالي: ¬

(¬1) وللعلم فإن الفاتحة لا تشمل سبعة أحرف وهي (ث، ج، خ، ز، ش، ظ، ف) انظر: (روح المعاني 1/ 36). (¬2) انظر: (الجامع لأحكام القرآن 1/ 110). (¬3) انظر: (بصائر ذوي التمييز 1/ 128). (¬4) انظر: (الجامع لأحكام القرآن 1/ 111). (¬5) روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني (1/ 34).

سميت الفاتحة: لأنها يفتتح بكتابتها المصاحف، ويقرأ بها في الصلوات فهي فواتح لما يتلوها من سور القرآن، في الكتابة والقراءة (¬1). سميت أم القرآن: لتقدمها على سائر سور القرآن غيرها، في القراءة والكتابة (¬2). وهي أم الكتاب لأن أم الشيء: أصله وعماده كما سميت مكة؛ أم القرى لأنها توسطت الأرض (¬3). وهذا ليس زعماً، فقد ثبت علميا في عصرنا هذا، والفاتحة لا شك أنها أم الكتاب (القرآن) لأنها جمعت ما فصل فيه، وقد ثبت في الصحاح تسميتها بذلك (¬4) ونقل القرطبي كراهة ذلك عن أنس والحسن وابن سيرين، والجمهور على الجواز؛ وإذا صح الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا عبرة بقول غيره (¬5). سميت السبع المثاني: لأن جميع القراء والعلماء لم يختلفوا على أنها سبع آيات، ولكونها المثاني التي امتن ¬

(¬1) جامع البيان عن وجوه تأويل القرآن (1/ 107 - 109) انظر: (تفسير الفاتحة والبقرة للسمعاني 1/ 351 - 353) ومعالم التنزيل (1/ 37) وغيرها من التفاسير التي ارتكزت على ما عند إمام المفسرين الطبري. (¬2) جامع البيان عن وجوه تأويل القرآن (1/ 107). (¬3) ترتيب القاموس (1/ 179). (¬4) انظر صحيح مسلم (1/ 296 رقم 39 - 41) وروح المعاني في تأويل القرآن العظيم والسبع المثاني (1/ 35). (¬5) انظر: (الجامع لأحكام القرآن 1/ 111).

الله - عز وجل - بها على عبده ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} (¬1)، كما فسرها الإمام الحسن البصري رحمه الله بذلك، ووصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آياتها السبع بأنهن مثان، فلأنها تثنى قراءتها في كل صلاة تطوعا أو مكتوبة (¬2)، وعلل مجاهد رحمه الله هذه التسمية: بأن الله تعالى استثناها لهذه الأمة، كأنه أوحاها لهم ولم يعطها أحداً من الأمم (¬3)، ومعلوم أن هذه السورة العظيمة تثنى قراءتها في كل ركعة وتثنى في كل صلاة فالتثنية مضاعفة. قال أبو جعفر الطبري: وليس في وجوب اسم (السبع المثاني) لفاتحة الكتاب ما يدفع صحة وجوب اسم (المثاني) للقرآن كله، لأن لكل وجها ومعنى مفهوما (¬4)، ¬

(¬1) الآية (87) من سورة الحجر، وانظر جامع البيان عن وجوه تأويل القرآن (1/ 109) منه حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أم القرآن هي السبع المثاني والقرآن العظيم) أخرجه الإمام البخاري، حديث (4704) وأخرجه الطبري بسند صحيح (جامع البيان 1/ 107). (¬2) جامع البيان عن وجوه تأويل القرآن (1/ 109). (¬3) تفسير الفاتحة والبقرة للسمعاني (1/ 353) وانظر: (الكشاف 1/ 4). (¬4) جامع البيان (1/ 110) باختصار.

قلت: كقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} (¬1)، أطلق الله - عز وجل - هذا على كتابه، لأن الأخبار تثنى فيه (¬2). سميت الوافية: لأنها لا تتنصف، فلا يجوز أن يُقرأ نصفها في ركعة والنصف الآخر في ركعة أخرى، وهذه خصوصية الفاتحة فهي لا تقبل التنصيف ولا الاختزال بخلاف بقية سور القرآن فإن ذلك جائز فيها (¬3). سميت الكنز: لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إنها أنزلت من كنز تحت العرش) (¬4). ويدخل في مسمى (أم الكتاب، أم القرآن) قول من سماها (الأساس) جاء ذلك من قول الشعبي رحمه الله لما شكا إليه رجل وجعا بخاصرته: عليك بأساس القرآن، فاتحة الكتاب، سمعت ابن عباس يقول: لكل شيء أساس، ¬

(¬1) الآية (23) من سورة الزمر. (¬2) انظر: (الجامع لأحكام القرآن 1/ 114). (¬3) قاله سفيان بن عيينة في تفسيره، نقل عنه القرطبي (الجامع لأحكام القرآن 1/ 113). (¬4) إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (1/ 9) والحديث أخرجه إسحاق بن راهويه ـ كما في الدر المنثور (1/ 16) ـ عن علي - رضي الله عنه - وعزاه المتقي في الكنز (2/ 297) رقم (4050) إلى إسحاق والواحدي، وقد أورد البوصيري إسناد إسحاق في إتحاف الخيرة (1/ 5) وفيه انقطاع بين فضيل بن عمرو، وعلي - رضي الله عنه -، وله شواهد تقويه، عن أبي أمامة، وأنس، وعلي، ومعقل بن يسار - رضي الله عنهم - (موسوعة فضائل سور وآيات القرآن 1/ 24 - 62).

وأساس الدنيا مكة لأن منها دحيت (¬1) وأساس السموات (عريباً) وهي السماء السابعة، وأساس الأرض (عجيبا) وهي الأرض السابعة السفلى، وأساس الجنان (جنة عدن) وهي سرّة الجنان عليها أسست الجنة، وأساس النار (جهنم) وهي الدركة السابعة السفلى، عليها أسست الدرجات، وأساس الخلق (آدم) وأساس الأنبياء (نوح) وأساس بني إسرائيل (يعقوب) وأساس الكتب (القرآن) وأساس القرآن (الفاتحة) وأساس الفاتحة (بسم الله الرحمن الرحيم) فإذا اعتللت أو اشتكيت، فعليك بالفاتحة تُشفى (¬2)، وذكره السيوطي مختصرا فقال: وأخرج الثعلبي عن الشعبي أن رجلا شكا إليه وجع الخاصرة (¬3) فقال: عليك بأساس القرآن، قال: وما أساس القرآن؟ ، قال: فاتحة الكتاب (¬4). ¬

(¬1) وها نحن نسمع اليوم من علماء الجغرافية والمساحات: أن الكعبة هي نقطة الارتكاز لدائرة الأرض (الكعبة مركز العالم ص 204). (¬2) لم يجزم الفعل لأن الطلب جاء باسم الفعل (عليك) وشرط جزم جواب الطلب أن يكون الطلب بالفعل، وانظر: (الجامع لأحكام القرآن 1/ 113). (¬3) الخاصرتان: جانبا البطن مما يلي الظهر، قال ابن الأثير: قيل: إنه وجع الكليتين (النهاية 2/ 37). (¬4) الدر المنثور (1/ 12).

الحق أن الفاتحة رقية كلها، خلافا لمن قصرها على قول الله سبحانه وتعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. سميت سورة الحمد والشكر والدعاء، وتعليم المسألة: لاشتمالها عليها (¬1)، وقد تضمنت معاني هذه الألفاظ أفضل ما يكون به الثناء، وأصدق ما يكون الطلب. سميت الصلاة: لوجوب قراءتها فيها (¬2). أما قول الزمخشري: لأنها تكون فاضلة أو مجزئة فيها (¬3)، فأقول: هي فاضلة في الصلاة وغيرها، والصواب ما تقدم؛ لأنها ركن في الصلاة، فلا تصح الصلاة إلا بقراءتها، قال - صلى الله عليه وسلم -: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) (¬4)، وفي القدسي: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي) (¬5)، والمراد بالصلاة الفاتحة، عندما يقرؤها العبد في الصلاة وغيرها. ¬

(¬1) إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (1/ 9) وانظر: روح المعاني (1/ 35). (¬2) إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (1/ 9) ولأن الله سماها صلاةً في الحديث القدسي. (¬3) الكشاف (1/ 4). (¬4) أخرجه الإمام البخاري، حديث (756). (¬5) أخرجه الإمام مسلم، حديث (395).

سميت الشفاء والشافية: لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (هي شفاء من كل داء) (¬1). سميت القرآن العظيم: ذكره القرطبي وعلله بقوله: لتضمنها جميع علوم القرآن (¬2)، وفي نظري أن تستمد هذه التسمية من حديث أبي سعيد بن المعلى عند الإمام البخاري، أخرج الإمام البخاري من حديث أبي سعيد بن المعلى - رضي الله عنه - قال: مر بي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا أصلي، فدعاني فلم آته حتى صليت، فقال: (ما منعك أن تأتي؟ ) فقلت: كنت أصلي، فقال: ألم يقل الله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (¬3)؟ ، ثم قال: ألا أعلمك أعظم سورة في ¬

(¬1) أخرجه الدارمي (2/ 320) مرسلاً من حديث عبد الملك بن عمير، ويمكن أن يكون سمعه من أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، فإنا نظرنا في التأريخ وفيه إمكان السماع، لكن تكلم فيه الأئمة، ولا أرى رتبته إلا أقل مما قدّر له الحافظ في التقريب فإنه قال: ثقة، وجاء في تفسير القرطبي قوله: روى الدارمي عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (فاتحة الكتاب شفاء من كل سم). قلت: الذي عند الدارمي (من كل داء) واللفظ المذكور هو حديث أبي سعيد الخدري كما في شعب الإيمان للبيهقي 2/ 450 انظر (الجامع لأحكام القرآن 1/ 112). (¬2) الجامع لأحكام القرآن (1/ 112). (¬3) من الآية (24) من سورة الأنفال، ومن هذا يستفاد وجوب الاستجابة لنداء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته، وقطع ما يعوق الإجابة ولو كان العائق عبادة، وبعد موته - صلى الله عليه وسلم - تكون الاستجابة لأمره ونهيه.

القرآن قبل أن أخرج من المسجد؟ ، فذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - ليخرج من المسجد فذكرته فقال: ... الحمد لله رب العالمين، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته) (¬1)، أي في الآية {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} (¬2)، وجعلها قسيمة للقرآن يكون أبلغ. سميت الرقية، أخذا من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي رقى سيد الحي: (وما يدريك أنها رقية؟ ) (¬3). سميت الكافية: لأنها تكفي عن سواها، ولا يكفي سواها عنها قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أم القرآن عوض عن غيرها، ¬

(¬1) أخرجه الإمام البخاري، حديث (4474، 4703). (¬2) سورة الحجر آية (87). (¬3) ذكر القرطبي من أسمائها الرقية وهي داخلة في اسم الشافية، وقد ثبتت الرقية بها من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال للرجل الذي رقى بها سيد الحي: (ما أدراك أنها رقية؟ ) استفهام تقرير، والحديث أخرجه الإمام البخاري، حديث (2276) وانظر أطرافه هناك، وانظر الجامع لأحكام القرآن (1/ 113).

وليس غيرها منها عوضاً) (¬1)، ألا ترى أنك إذا لم تقرأ في الصلاة إلا الفاتحة أجزأ ذلك وصحت الصلاة، ولو تركت الفاتحة وقرأت بدلا عنها سورة من المطول لم يجز ذلك ولم تكن الصلاة صحيحة، ولا تعارض بينه وبين حديث المسيء صلاته، فإن قوله - صلى الله عليه وسلم -: (واقرأ ما تيسر معك من القرآن) مفسر بأن المراد به ما زاد عنها في الامتنان، وإن كان الامتنان حاصلا بها وحدها لاشتمالها على ما ذكر، فكأن الله - عز وجل - امتن بها من ¬

(¬1) الجامع لأحكام القرآن (1/ 11) والحديث أخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 238) وقال رواة هذا الحديث أكثرهم أئمة وكلهم ثقات. هذا رأي الحاكم كما أسند الحافظ بن حجر في لسان الميزان عنه أنه قال: محمد بن خلاد الاسكندراني ثقة، وكذلك وثقه العجلي (تاريخ الثقات 403) وذكره بن حبان (الثقات 9/ 85) قال ابن حجر: قلت: انفرد بهذا الخبر من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - مرفوعا اللسان 5/ 156). وقد أعل الدارقطني هذا الحديث بتفرد محمد بن خلاد به عن أشهب عن ابن عيينة (انظر الإتحاف 6/ 429). وقال ابن حجر: وقول الذهبي لا يدري من هو، مع من روى عنه من الأئمة ووثقه من الحفاظ عجيب، وما أعرف للمؤلف سلف في ذكره في الضعفاء ... ثم قال: هذا اللفظ تفرد به زياد بن أيوب -وهو ثقة- عن ابن عيينة والمحفوظ من رواية الحفاظ عن ابن عيينة (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) ثم قال: والظاهر أن رواية كل من زياد بن أيوب وأشهب منقولة بالمعنى، والله أعلم (لسان الميزان 5/ 156). قلت: وهو كذلك والأمر واضح للناظر.

النظرة الثالثة نزول جبريل عليه السلام بالفاتحة

جانب لخصائصها، وببقية القرآن لما فيه من العظمة والخير والبركة والإعجاز؛ والله أعلم. النظرة الثالثة نزول جبريل عليه السلام بالفاتحة: الصحيح أن الفاتحة نزل بها جبريل - عليه السلام - استنادا إلى قول الله - عز وجل -: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (¬1)، وقد أجمع العلماء على أن المراد بالروح الأمين جبريل - عليه السلام -. والقراءتان لقوله: (نزل) بالتخفيف أو بتشديد الزاي صحيحتان، ولا يحصل الخلاف إطلاقا في أن ذلك من عند الله - عز وجل - على الوجهين المذكورين في (نزل) (¬2)، ومن فهم من العلماء أن جبريل عليه - عليه السلام - لم ينزل بسورة الحمد استنادا إلى حديث ابن عباس - صلى الله عليه وسلم - قال: (بينما جبريل قاعد عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، سمع نقيضا (¬3)، من فوقه، فرفع رأسه فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم، ولم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك، فقال: هذا ملك نزل ¬

(¬1) الآيات (193 - 195) من سورة الشعراء. (¬2) انظر: (جامع البيان 19/ 68). (¬3) قال في الصحاح (2/ 603): النقيض: صوت المحامل والرحال. وانظر: (النهاية 5/ 107).

إلى الأرض، لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم وقال: أبشر بنورين أوتيتهما، لم يؤتهما نبي قبلك، فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة (¬1)، لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته) (¬2)، من فهم من هذا عدم نزول جبريل - عليه السلام - بالفاتحة فقد أخطأ، لأن نزول سورة الفاتحة كان بمكة لآية الشعراء وهي مكية صريحة في نزول جبريل عليه - عليه السلام - بجميع القرآن. قال القرطبي: فيكون جبريل - عليه السلام - نزل بتلاوتها بمكة، ونزل الملك بثوابها بالمدينة، فإنه جمع بين القرآن والسنة، ولله الحمد والمنة (¬3). قلت: وانقدح في ذهني وجه آخر، وهو أن يكون جبريل - عليه السلام - نزل بها تلاوة وبخواتيم البقرة أيضا، ونزل ¬

(¬1) المراد الآيات من قوله تعالى: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله ... ) الآيات إلى آخر السورة. (¬2) أخرجه الإمام مسلم، حديث (254) وانظر: (تفسير ابن عطية 1/ 14) وعنه نقل القرطبي في: (الجامع لأحكام القرآن 1/ 116) وسيأتي في ص 21، والذي وقفت عليه عند ابن عطية (اتلوا هذا القرآن فإن الله يأجركم بالحرف منه عشر حسنات ... ) أخرجه الدارمي (2/ 308) موقوفا على ابن مسعود - رضي الله عنه - بلفظ (تعلموا هذا القرآن) وأخرجه الترمذي (5/ 175) مرفوعا بلفظ (من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها ... ) وقال: حسن صحيح غريب، وذكره المنذري في الترغيب (2/ 342). (¬3) الجامع لأحكام القرآن (1/ 116).

الملك بالبشارة بنوريهما وأنهما أعطيتا لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - دون الأنبياء. فيحصل الجمع الذي ذكره القرطبي رحمه الله من وجه آخر، وقد سمعت شيخنا أبو بكر جابر (¬1)، الجزائري عظّم الله أجره يقول: نزلت الفاتحة مرتين: مرة بمكة وآياتها سبع، بسم الله الرحمن الرحيم الآية الاولى. ونزلت مرة أخرى في المدينة، ليس فيها بسم الله الرحمن الرحيم. قلت: ما ذكر فضيلته فيه نظر: فلم تنزل السورة مرتين، بل نزلت تلاوة مرة واحدة في مكة، ونزل في المدينة البشارة بالنورين الذين أوتيهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم أقف على ما يؤيد قول شيخنا هذا، أثابه الله، وهو في نظري توجيه حسن، وقد يقول قائل: نزلت مرتين والحكمة من ذلك تعظيمها، فأقول تعظيمها في البشارة بها وأنها نور أعطيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أعظم في بيان فضلها، سيما وتعظيمها ورد في نصوص من السنة كثيرة، والله أعلم. ¬

(¬1) هذا اسمه مركّب، فلا يقال: أبابكر.

النظرة الرابعة مكية أو مدنية؟

النظرة الرابعة مكية أو مدنية؟ : الصحيح من أقوال العلماء (¬1)، أن سورة الفاتحة مكية، استنادا إلى قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} (¬2)، فقد من الله - عز وجل - بها على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، والآية من سورة الحجر، وهي مكية، فلم يكن الله - عز وجل - يمن بها قبل نزولها (¬3) ولأن فرض الصلاة كان بمكة في ليلة الإسراء (¬4)، ولا خلاف في ذلك بين العلماء (¬5)، ومعلوم أن من أركان الصلاة قراءة الفاتحة، ولا صلاة صحيحة بدونها، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) (¬6). ¬

(¬1) لهم ثلاثة أقوال في هذا: 1 ـ أنها نزلت بمكة وهو قول الجمهور. 2 ـ أنها نزلت في المدينة. 3 ـ أنها نزلت مرتين، مرة في مكة ومرة في المدينة تعظيما لشأنها. انظر (الياقوت والمرجان في تفسير مبهمات القرآن ص: 22). (¬2) الآية (87) من سورة الحجر. (¬3) معالم التنزيل (1/ 37). (¬4) انظر (البخاري، حديث (349). (¬5) انظر: (الجامع لأحكام القرآن 1/ 115). (¬6) أخرجه مسلم من حديث عبادة - رضي الله عنه - حديث (34).

النظرة الخامسة عدد آياتها

النظرة الخامسة عدد آياتها: اجمعت الأمة على أن فاتحة الكتاب سبع آيات، ولم يخالف فيه إلا من لا عبرة بقوله، لشذوذه (¬1). قال الطبري: وقد اتفق القراء والعلماء على أنها سبع آيات، وحصل الخلاف في الآية التي صارت بها سبع آيات، فقال جماعة من الأصحاب والتابعين وعُظْم (¬2)، أهل الكوفة: هي: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وقال عُظْم قُراة (¬3)، أهل المدينة ومتقنيهم: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (¬4). قال الخطابي: قال قوم هي آية من فاتحة الكتاب، وهو قول ابن عباس، وأبي هريرة، وسعيد بن جبير، وعطاء، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، وقال آخرون: ليست التسمية من فاتحة الكتاب ... (¬5)، ونقل ابن كثير رواية ابن مردويه بسنده من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الحمد لله رب ¬

(¬1) انظر: (الجامع لأحكام القرآن 1/ 114). (¬2) بضم العين: وعظم الشيء، أو الناس: معظمهم وأكثرهم. (¬3) بالتخفيف: جمع قارئ. (¬4) جامع البيان (1/ 109). (¬5) معالم السنن مع سنن أبي داود 1/ 513.

العالمين سبع آيات: بسم الله الرحمن الرحيم إحداها، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم، وهي أم الكتاب، وفاتحة الكتاب) (¬1)، قال ابن كثير رحمه الله: رواه الدارقطني (¬2)، أيضا عن أبي هريرة، مرفوعا بنحوه أو مثله، وقال: كلهم ثقات. وهذا رأي ابن عباس - رضي الله عنه - (¬3). وقد ألف في وجوب قراءة البسملة في الصلاة الإمام أبو الفتح سليم بن أيوب الرازي كتابا سماه "الرسالة المقنعة في وجوب قراءة البسملة في الصلاة" وألف أبو شامة المقدسي "البسملة الكبير" في مجلد، و "البسملة الصغير". وقد أثبت السلف البسملة في المصحف، مع توصيتهم بتجريد القرآن، ولذلك لم يثبتوا آمين، فلولا أنها من القرآن لما أثبتوها (¬4)، فليعلم أن البسملة آية من الفاتحة وهو قول الجمهور، {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} آية واحدة، هي الآية السابعة، تمام الفاتحة. ¬

(¬1) انظر: (تفسير القرآن العظيم 1/ 22 ـ وأنوار التنزيل 1/ 5). (¬2) سنن الدارقطني، حديث (36). (¬3) تفسير القرآن العظيم (1/ 22). (¬4) انظر: (الكشاف 1/ 4) ومصحف المدينة النبوية.

النظرة السادسة صلتها بالكتب السماوية

النظرة السادسة صلتها بالكتب السماوية: أخرج البيهقي عن الحسن البصري أرسله قال: "أنزل الله - عز وجل - مائة وأربعة كتب من السماء، أودع علومها أربعة منها: التوراة، الإنجيل، والزبور، والقرآن، ثم أودع علوم التوراة والإنجيل، والزبور (القرآن) ثم أودع علوم القرآن (المفصل) ثم أودع علوم المفصل (فاتحة الكتاب فمن علم تفسيرها كان كمن علم تفسير جميع كتب الله المنزلة" (¬1). قلت: في إسناده الربيع بن صبيح السعدي، صدوق سيء الحفظ، ومال الذهبي (¬2)، إلى أنه صدوق، ونقل تضعيف النسائي له، وفيه إرسال الحسن، والحسن مرسلاته تكلم فيها العلماء، حتى قال بعضهم: مرسلات الحسن كالريح أي: لا يعتد بهاـ وقد ذكر هذا الأثر السيوطي (¬3)، معزوا إلى البيهقي في شعب الإيمان (¬4)، وعزا السيوطي إلى أبي عبيد في فضائله عن الحسن مرسلا قوله: قال رسول الله ¬

(¬1) في شعب الإيمان (5/ 308 ـ رقم 2155). (¬2) في الكاشف (1/ 304). (¬3) في تفسيره (1/ 16). (¬4) انظر: 5/ 308.

النظرة السابعة ما ورد في فضلها

- صلى الله عليه وسلم -: (من قرأ فاتحة الكتاب فكأنما قرأ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان) (¬1). قال الأ لوسي رحمه الله: ذكر بعض العلماء، أن الفاتحة بإجماع علماء كل أمة افتتح كل كتاب بها، لكنه معارض بأن العربية من خصوصيات القرآن، ولا يمنع أن تكون معانيها موجودة في الكتب الأخرى، فالكتب السماوية بأسرها غير عربية (¬2). النظرة السابعة ما ورد في فضلها: أخرج الإمام البخاري من حديث أبي سعيد بن المعلى - رضي الله عنه - قال: مرّ بي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا أصلي، فدعاني فلم آته حتى صليت، فقال: (ما منعك أن تأتي؟ ، فقلت: كنت أصلي، فقال: ألم يقل الله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (¬3)، ثم قال: ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج من المسجد؟ ، فذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) فضائل القرآن 2/ 25، والدر المنثور (1/ 16). (¬2) في تفسيره (روح المعاني 1/ 39). (¬3) من الآية (24) من سورة الأنفال، ومن هذا يستفاد وجوب الاستجابة لنداء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته، وقطع ما يعوق الإجابة ولو كان العائق عبادة، وبعد موته - صلى الله عليه وسلم - تكون الاستجابة لأمره ونهيه.

ليخرج من المسجد فذكرته فقال: الحمد لله رب العالمين، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته) (¬1). وأخرج البيهقي من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن أبيّ بن (مالك) (¬2)، - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ألا أعلمك سورة ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل، ولا في الزبور، ولا في القرآن مثلها؟ ، قلت: بلى، قال: إني لأرجو ألا تخرج من ذلك الباب حتى تعلمها) (¬3)، فذكر الحديث. وأخرج النسائي بسند رجاله ثقات من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسيرة فنزل، فمشى رجل من أصحابه إلى جانبه فالتفت إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ألا أخبرك بأفضل القرآن؟ ، قال: فتلا عليه {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬4)، يعني الفاتحة، وكذلك حديث عبد الله بن جابر - رضي الله عنه -، وفيه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: (يا عبد الله بن جابر، ألا أخبرك بخير سورة نزلت ¬

(¬1) أخرجه الإمام البخاري، حديث (4474، 4703). (¬2) هذا تحريف، والصواب: أبي بن كعب - رضي الله عنه -، لأن أبي بن مالك ليس له إلا حديث واحد في بر الوالدين (الإتحاف 1/ 263 - 267 وشعب الإيمان 5/ 284). (¬3) شعب الإيمان، حديث (2139). (¬4) السنن الكبرى (5/ 11) كتاب فضائل القرآن، باب (16) رقم (8011/ 2) وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان.

النظرة الثامنة الفاتحة من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته

في القرآن؟ ، قال: قلت: بلى، يا رسول الله، قال: فاتحة الكتاب) (¬1) وذكر البيهقي رحمه الله اختلاف الرواة في هذه الرواية ثم قال: فيشبه أن يكون هذا القول صدر من جهة صاحب الشرع - صلى الله عليه وسلم - لأبيّ، ولأبي سعيد بن المعلى كليهما، وحديث ابن المعلى رجاله أحفظ، والله أعلم (¬2). قلت: ولذلك أخرجه الإمام البخاري وهذا يؤكد دقة الإمام البخاري وعلمه بعلل الأحاديث وضبط الرجال لما يروون، ولا يمنع إخباره - صلى الله عليه وسلم - لأكثر من واحد من أصحابه (¬3). النظرة الثامنة الفاتحة من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته: خصّ الله - عز وجل - نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته بسورة الفاتحة، لم يعطها أحدا من الأنبياء قبله، فليحرص المسلم على تجويدها وفهم معانيها. أخرج الإمام مسلم من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - قال: "بينما جبريل قاعد عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، سمع نقيضا من فوقه، رفع رأسه فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم، لم يفتح قط ¬

(¬1) أخرجه البيهقي في (شعب الإيمان 5/ 305 - 306 رقم 2152). (¬2) شعب الإيمان (5/ 285 ـ 287). (¬3) انظر (التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد 20/ 217 ـ 220).

النظرة التاسعة الفاتحة تحاور بين العبد وربه

إلا اليوم، فنزل منه ملك، فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض، لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم وقال: ابشر بنورين أوتيتهما، لم يؤتهما نبي قبلك ــــ فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة ـــ لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته" (¬1)، وفي هذا دلالة صريحة على اختصاص نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته بالفاتحة، ومن خصّ بشيء زاد حرصه عليه، لاختصاصه به لنفاسته دون سواه، فليعتن المسلم بسورة الفاتحة، فهما لدلالاتها وتجويدا لتلاوتها. النظرة التاسعة الفاتحة تحاور بين العبد وربه: ما أعظم مناجاة العبد لربه - عز وجل - واستشعاره محاورته لمولاه جل وعلا من خلال فاتحة الكتاب، هنا يدرك العبد لذة المناجاة حينما يحزبه أمر فيلجأ إلى خالقه وباريه، يطلب منه اللطف والرحمة والعفو والمغفرة هكذا كان يفعل سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - إذا حزبه أمر لجأ إلى الصلاة (¬2)، وإذا حان وقت الفريضة قال: (يا بلال أرحنا بالصلاة) (¬3). ¬

(¬1) حديث (254). (¬2) أخرجه أبو داو ود في سننه (2/ 78 ـ رقم 1319) من حديث حديقة (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا حز به أمر صلى) ويشهد له الذي بعده، وأخرجه أحمد في مسنده (5/ 388) هذا قول حذيفة وفي سنده محمد بن عبد الله الدؤلي مقبول. (¬3) أخرجه الطبراني (6/ 340) من حديث صحابي من أسلم. قال الهيثمي في المجمع (1/ 145): فيه أبو حمزة الثمالي ضعيف واهي الحديث، وأخرجه أبو داود (5/ 2، 62، ) والإمام أحمد في المسند (5/ 364، 371) وفي إتحاف السادة المتقنين (3/ 137) قال: إسناده صحيح.

أخرج الإمام مسلم حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وفيه: سمعت الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: (قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله تعالى: أثنى علي عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال: مجّدني عبدي، وقال مرة: فوض إليّ عبدي، فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل) (¬1). ¬

(¬1) في صحيحه (1/ 296 ـ رقم 39) وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان (5/ 292 ـ رقم 2146) وأطال المحقق في تخريجه فليعد إليه الراغب.

النظرة العاشرة الفاتحة شفاء وأخذ الأجرة على الرقية بها جائز

النظرة العاشرة الفاتحة شفاء وأخذ الأجرة على الرقية بها جائز: ما أكثر ما يعتل الإنسان روحاً وجسداً وقد أخبر الباري - عز وجل - أن القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين (¬1)، وثبت النقل عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن الفاتحة يستشفى بها فليكن المسلم موقنا بذلك وليحرص على الاستشفاء بالقرآن وأوله الفاتحة وليحذر كل الحذر مجانبة المنهج النبوي في ذلك. أخرج الإمام مسلم من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، أن ناسا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا في سفر، فمروا بحي من أحياء العرب، فاستضافوهم فلم يضيفوهم فقالوا لهم: هل فيكم راقٍ؟ ، فإن سيد الحي لديغ أو مصاب، فقال رجل منهم: نعم فأتاه فرقاه (بفاتحة الكتاب) فبرأ الرجل، فأعطي قطيعاً من غنم فأبى أن يقبلها، وقال: حتى أذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له، فقال: يا رسول الله والله ما رقيت إلا بفاتحة الكتاب فتبسم - صلى الله عليه وسلم - وقال: (وما أدراك أنها رقية؟ ! ، ثم قال: خذوا منهم واضربوا لي بسهم معكم) (¬2)، وأخرجه الإمام البخاري بزيادة: (فجعل يقرأ بأم القرآن، ويجمع ريقه ¬

(¬1) قال الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} الإسراء آية (82). (¬2) حديث (65) ويستفاد من هذا وجوب تحري الحلال، والبعد عن الشبهات والمحرمات في المكاسب.

ويتفل فبرأ) (¬1)، وهذه الزيادة عند مسلم، ولكني ذكرتُ رواية مسلم أولا لورود القصة فيها بأتم. أخرج البيهقي بسنده من حديث عبد الله بن جابر - رضي الله عنه - قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبول فوقفت عليه فقلت: السلام عليك، فلم يرد عليّ، ثم قلت: السلام عليك يا رسول الله، فلم يرد عليّ، ثم قلت: السلام عليك يا رسول الله، فلم يرد عليّ. قال: ونهض ودخل بعض حجره، قال: فملت إلى اسطوانة في المسجد وأنا كئيب حزين، فبينا أنا كذلك إذ خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتوضأ، قال: فأقبل حتى وقف عليّ، ثم قال: (وعليك السلام ورحمة الله، وعليك السلام ورحمة الله، عليك السلام ورحمه الله، ثم قال: يا عبد الله بن جابر، ألا أخبرك بخير سورة نزلت في القرآن؟ ، قال: قلت: بلى يا رسول الله، قال: فاتحة الكتاب). قال علي: وأحسبه قال: (فيها شفاء من كل داء) (¬2). قلت: عليّ هو: علي بن هاشم بن البريد، وقد أخرج الدارمي ما قال عليّ هذا، من مرسل عبد الملك بن عمير قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (فاتحة الكتاب شفاء من كل داء) (¬3)، ولا يبعد أن يكون واسطته من الضعفاء، ¬

(¬1) حديث (5736). (¬2) في شعب الإيمان (5/ 605 ـ رقم 2152). (¬3) في مسنده المعروف بسنن الدارمي (2/ 320).

النظرة الحادية عشرة مقاصد الفاتحة

فدلسه بالإرسال فإنه ثقة تغيّر، وربما دلس. وأخرجه البيهقي (¬1). هذا وفي الفاتحة وفضائلها أحاديث كثيرة منها الثابت الصحيح والضعيف والموضوع واقتصرنا على بعض ما صح وثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغية إفادة القارئ وما ذكرنا مما تكلم فيه العلماء أبنّا علته، فسورة الفاتحة هي أفضل السور بالنص على ما مر ذكره، وبالمعنى على ما سيأتي، وهي أجمع سورة للخير، زادنا الله بها فهما وعلما وعملا. النظرة الحادية عشرة مقاصد الفاتحة: من المعلوم لأهل العلم، وأصحاب الخبرة في البحث والنظر أنه لو ذهب بعضهم يتتبع مقاصد الفاتحة، ويستجلي ما تضمنت من غايات لأمكنه أن يكتب الكثير من الفوائد العلمية، ونحن في هذا نسدد ونقارب لغرض الإفادة، والتوجيه والدلالة لمن أراد الزيادة في البحث والإمعان فيه. إن سورة الفاتحة تضمنت من المقاصد والمعاني والدلالات، ما لم تتضمنه سورة من سور القرآن ¬

(¬1) في شعب الإيمان، حديث (2154) وفيه انقطاع.

الكريم، وقد ضم القرآن الكريم علوم الكتب السماوية وزاد عليها. ففي الفاتحة، الثناء الجميل على الله - عز وجل - بما هو أهله، على صفة الكمال المطلق، بأسمائه وربوبيته وصفاته تعالى، والاستعانة به وحده لا شريك له، وإخلاص العبادة له، والتوجه إليه تعالى بالطلب والدعاء، وهذا كله مقاصد القرآن الكريم، تناوله حديث (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل ... ) (¬1)، ومن خلال البحث والنظر في هذه السورة العظيمة ظهرت عدة مقاصد، وخلاصتها في ثلاثة أمور: 1 - أن الفاتحة تضمنت مقاصد القرآن كله على سبيل الاجمال. 2 - أنها تضمنت مقاصد السورة الواحدة. 3 - أنها تضمنت مقاصد الآيات. أما مقاصد القرآن فقد ذكر العلماء أنها في أربعة أمور: 1 - الإلهيات. 2 - النبوات وقصص الأمم السابقة. 3 - الأوامر والنواهي والأحكام. 4 - المعاد وما بعده (¬2). ¬

(¬1) أخرجه الإمام مسلم، حديث (395). (¬2) أنوار التنزيل وأسرار التأويل (1/ 8).

النبوات

ومقاصد السورة الواحدة: مثاله ما تضمنته الفاتحة وهو ما ذكرنا في مستهل هذا المبحث. أما مقاصد الآيات: فقد ورد في كثير من الآيات التوجيه إلى الحِكَم النظرية، والأحكام العملية، وذلك في معرفة الطريق المستقيم وسلوكه، ومجانبة طريق الشقاء، ومعرفة مراتب الأشقياء والبعد عنها (¬1)، ويمكن أن يسمى هذا بالجانب العلمي، والجانب العملي، وسورة الفاتحة تضمنت آياتها الجانبين، فنصفها الأول علمي، والثاني عملي {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} إلي آخر السورة. وفيما يلي نورد تحليلا لهذه المقاصد في الفاتحه حسب ما فهمنا من دراسة أقوال العلماء. الإلهيات: هذا المقصد العظيم، تضمنه قول الله سبحانه وتعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)}. تضمنت الأسماء والصفات والأفعال، فوجهت إلى معرفة الله - عز وجل -، ومعرفة صفاته وأفعاله. النبوات: ¬

(¬1) أنوار التنزيل وأسرار التأويل (1/ 8) للبيضاوي.

الأحكام

وقصص الصالحين: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}. وقصص غيرهم من العصاة، وأخل الكفر {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)}. الأحكام: الأوامر والنواهي: تضمنها قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} فهذا إيحاء إلى العبد أن الحكم الشرعي أن تكون العبادة خاصة وخالصة لله وحده لا شريك له، وكذلك الاستعانة، ولا يكمل ذلك إلا بالاستجابة لأحكام الإسلام. المعاد: تضمنه قول الله سبحانه وتعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} وهذا فيه وعيد وبيان أن الإنسان مدان بعمله في هذا اليوم المشهود، ويأخذ جزاء ما كسبت يداه، إن خيراً فخير وإن شراً فشر. وفي قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} وعد من الله - عز وجل -، أن من هذا حالهم في الاستقامة وتجريد العبادة لله - عز وجل -، والمتابعة لرسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، مع الصبر والدعاء

يكون مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا. ومن هذا يتحصل لنا أن الفاتحة تضمنت ثلاثة ميادين علمية هي: تعريف المدعو إليه: وهو (الله - عز وجل -) وذلك في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} وقد فصّل الكتاب والسنة هذا التعريف. تعريف الوسيلة الموصلة إليه: وهي {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} المتمثل في العمل بما جاء عن الله - عز وجل -، وعن رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، وذلك في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} وهو الإسلام، قال تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (¬1)، وقال - عز وجل -: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬2)، تعريف ¬

(¬1) من الآية (3، ، ) من سورة المائدة. (¬2) الآية (85) من سورة آل عمران.

المقصد الأول

حال المخلوق لهذا التكليف الشرعي: وهم بنوا آدم وهم قسمان: قسم استجاب لهذا التكليف، فسلك الصراط المستقيم وهم الذين أنعم الله عليهم، وذلك في قوله تعالى: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} وهم الأنبياء والرسل، والصديقون والشهداء والصالحون، وعباد الله المؤمنون به وبأنبيائه وكتبه ورسله، السالكون صراطه المستقيم، بعملهم بأحكام الإسلام. وقسم لم يستجب لداعي الشرع، وتنكب الصراط المستقيم، وخرجوا عن الجادة وهم الذين عرّف حالهم بقول الله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} ومن هذا يظهر لنا أن من مقاصد الفاتحة ما يلي: المقصد الأول: تحديد مسمى الإله وأنه (الله - عز وجل -) وحده لا شريك له، المتفرد بصفات الكمال والجلال، والخلق والإيجاد من العدم، والربوبية المطلقة لجميع المخلوقات، تضمن هذا قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وهذا جلي يعلمه أبسط الخلق، وفي هذا المقصد الرد على المشركين والملحدين، الزاعمين أن قوة خفية تدبر هذا العالم، وحاروا في تحديدها، وهذا من عمى البصائر

المقصد الثاني

والعياذ بالله. وقد هدى الله المسلمين لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه. وأنه تعالى وحده المدبر لهذا العالم، علويه وسفليه ظاهره وباطنه، ما علمنا منه وما لم نعلم. المقصد الثاني: بيان أن العالم العلوي والسفلي، وما فيهما من مخلوقات، كلها مربوبة لله - عز وجل -، هو ربها ومدبر شؤونها، لا يخرج عن قدرته شيء، ولا يكون إلا ما يريد سبحانه، ومقتضى هذا رحمة عباده في تربيتهم الروحية، كما رباهم بنعمه الظاهرة والباطنة، وفي هذا المقصد الرد على جميع الوثنيين الذين اتخذوا أربابا من دون الله - عز وجل -، تضمن هذا قوله تعالى: {رَبِّ الْعَالَمِينَ}. المقصد الثالث: بيان أن ورود أسماء الرب جل شأنه (الله ـــــــــ الرب ـــــــــ الرحمن ــــ الرحيم ــــ مالك) تأسيس لتوحيد الأسماء والصفات وأنه على وجه الكمال لله - عز وجل -، وأنه تعالى سمى نفسه بهذه الأسماء وغيرها مما ورد في الكتاب والسنة على وجه الكمال المطلق، وعلى مبدأ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (¬1)، وفي هذا رد على جميع الفرق الضالة، التي تؤول الأسماء ¬

(¬1) الآية (11) من سورة الشورى.

المقصد الرابع

والصفات، أو تعطل ذات الله - عز وجل - منها، فمن جحد شيئا منها أو أوله فقد كذب صريح القرآن، وصحيح السنة النبوية، وقد تضمن هذا قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)}. المقصد الرابع: بيان أن الله تعالى هو المتفرد بالحكم، فله الأمر والنهي ورتب على هذا بعث العباد، وحشرهم في ذلك اليوم المشهود، الذي تُنصب فيه الموازين، وتكون فيه كل نفس بما كسبت رهينة {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (¬1)، لايستطيعون زيادة في الحسنات، ولا نقصا في السيئات قال الله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} (¬2)، وفي هذا المقصد رد على الذين يسعون إلى إيجاد شرائع في الأرض وقوانين ¬

(¬1) الآية (7 ـ 8) من سورة الزلزلة. (¬2) الآيتان (39، 40) من سورة النجم.

المقصد الخامس

تخالف ما أنزل الله، من الناعقين والناعقات من المتبعين لأهوائهم في عالم اليوم المليء بالمتناقضات، وتصارع الأفكار والحضارات تضمن هذا قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)}. المقصد الخامس: بيان أنه لا يستحق أحد العبادة إلا الله وحده لا شريك له، فهو المعبود بحق على وجه الخصوص، فكل معبود سوى الله - عز وجل - باطل، وكل من عبد غير الله فقد ضل سبيل الرشاد، وسلك مسالك أهل الغي والعناد، وفي هذا المقصد رد على الذين يتعبدون عند القبور بالذبح، والذكر ودعاء الأموات، والتقرب إلى الأولياء، وطلب قضاء الحاجات منهم، وهذا كله من صرف العبادة لغير الله - عز وجل -، ولما كان الدعاء من العبادة نصّفه الله - عز وجل - في الفاتحة فجعل النصف الأول منه مجمع الثناء عليه تعالى، والنصف الثاني من الدعاء مجمع حاجات العباد كل ذلك يتوجهون به إلى ربهم وخالقهم تمجيدا وثناء عليه وطلبا واستجداء منه تعالى (¬1)، وفي الآية رد على المبتدعة من الجبرية والقدرية (¬2). ¬

(¬1) الجامع لأحكام القرآن (1/ 147). (¬2) الجامع لأحكام القرآن (1/ 145).

المقصد السادس

المقصد السادس: نفي العناد والجحود، وطرد الشك والضلال، بطلب الهداية والتوفيق إلى الحق، فالهداية جزء من لطف الله ورحمته بالعباد، ولأهمية هذا الجانب، أرسى الله - عز وجل - لوازمه أولا، فعرّف بالمعبود: الله جل جلاله، وخصه بالعبادة، وعرّف بالمتبوع: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخصه بالإتباع، وعرّف بالمنهج: الكتاب والسنة، وأمر بالاستقامة على ذلك، فهذه أركان الهداية الأربعة: المعبود: هو الله، فالعبد في الفاتحة الفاتحة يكرر الرجاء في خالقه ويديم التوسل والدعاء، أن يهديه الطريق المستقيم في الأمور كلها الحسية والمعنوية، وفي هذا المقصد رد على الذين يتوسلون بالأموات من الأنبياء والصالحين، ويستجيرون بالمخلوق دون الخالق، تضمن هذا قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}. المقصد السابع: بيان أن النبوة أعظم النعم التي منّ الله بها على العباد، إذ عرّفهم بالمتبوع، ومعرفته هي الركن التاني من أركان الهداية، فبواسطة الرسل عرف العباد ربهم وعبدوه حق عبادته، وعليهم أنزل الله كتبه، فكان

القرآن الكريم خاتمها، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء والرسل، حدد الله الخير والشر، وعرف الأمة الحلال والحرام، والمعروف والمنكر، وهذا كله مقتضى رحمته بعباده في قوله: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)} ومقتضي العدل في قوله نعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} ومقتضى إخلاص العبادة له في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} فإن العبادة لا تسلم من الشرك والبدع، إلا إذا أخذت من طريق النقل عن الرسل عليهم السلام، فالعقول لا تحدد الشرائع وطريقة العبادات، ولا يعبد الله إلا بما شرع، ولا سبيل لمعرفة ما شرع الله - عز وجل - إلا من طريق الرسل عليهم السلام، ولذلك شدد الله - عز وجل - على اتّباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)} (¬1)، وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا ¬

(¬1) الآية (31) من سورة آل عمران.

شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} (¬1) وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬2)، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)} (¬3)، وقال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (¬4). ¬

(¬1) من الآية (65) من سورة النساء. (¬2) الآية (63) من سورة النور .. (¬3) الآية (36) من سورة الأحزاب. (¬4) الآية (7) من سورة الحشر.

المقصد الثامن

المقصد الثامن: التعريف بالمنهج وهو الركن الثالث من أركان الهداية، وتصنيف بني آدم على أساس الإيمان بالله - عز وجل -، وعدم الإيمان به، حيث جعلت الفاتحة الناس صنفين: 1 ـــ صنف مؤمن عالم عامل، عرف الحق تعالى فعبده وحده لا شريك له، وعرف المبلغ عن الله - عز وجل -، وعرف الطريق المستقيم فسلكه، وهذا تضمنه قوله تعالى: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}. 2 ــــ صنف اتبع هواه ولم يسمع للرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولم يحكم ما جاء به من عند الله، فضل ضلالا مبينا، وتضمن هذا قول الله سبحانه وتعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}. المقصد التاسع: الاستقامة على المنهج الصحيح، وهو الركن الرابع من أركان الهداية، ولتحقيق ذلك بث الوعي بين العباد بأسلوبين: 1 ــــ أسلوب الترغيب والبشارة، تضمنه قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ففي سلوك هذا

المقصد العاشر

المنهج ترغيب في الجنة ونعيمها، وبشارة بالنجاة، وبمصاحبة الذين أنعم الله عليهم، وهم الأنبياء والرسل، والصديقون والشهداء والصالحون. 2 ــــــ أسلوب التحذير والترهيب، تضمنه قول الله سبحانه وتعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فالتعبير بالغضب والضلال هو من أبلغ العبارات في الزجر والتخويف، ومن وقع في الضلال فقد خاب وخسر. المقصد العاشر: تشخيص الداء، وتحديد الدواء: قد تشخص الداء من خلال قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} وأنه لم ينلهم الغضب إلا بسبب كفرهم وعنادهم وعدم استجابتهم لدعوة الحق وقد لازم غضب الله اليهود لعنادهم وجحودهم. وفي قوله تعالى: {وَلَا الضَّالِّينَ} تشخيص لداء اتّباع الهوى، وأنه يزلُّ بصاحبه عن المحجة، فيكون في سُبُل تعصف به ولا يستقر به قرار (¬1)، ومن هنا لازم ¬

(¬1) إشارة إلى قوله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} الآية (153) من سورة الأنعام.

النظرة الثانية عشرة وجوب قراءتها في كل ركعة

الضلال النصارى لتحكيمهم أهواء أحبارهم ورهبانهم، وبذلك اتخذوهم أربابا (¬1)، من دون الله. وقد حدد الدواء في: الهداية وأركانها التي أسلفنا الكلام عليها، وهي: معرفة المعبود، ومعرفة المتبوع، ومعرفة المنهج، ثم الاستقامة على ذلك. ومن ذلك نعلم أن صلاح القلوب لا يكون إلا بترسيخ العقيدة الصحيحة، وتحديد مسار العبد وفق ما تضمنته سورة الفاتحة. النظرة الثانية عشرة وجوب قراءتها في كل ركعة: قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله: ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) (¬2)، وأنه قال: (من صلى صلاةً لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج غير تمام) (¬3)، فأي بيان أوضح من هذا. وهذا ما ذهب إليه الأئمة: مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق بن راهويه، وداوود بن علي الظاهري، وجمهور أهل العلم قالوا: لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب. ¬

(¬1) انظر الآية (31) من سورة التوبة، وحديث عدي بن حاتم. (¬2) أخرجه الإمام مسلم، حديث (34) من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -. (¬3) أخرجه الإمام مسلم، حديث (41) من حديث أبي هريرة وفيه (بفاتحة الكتاب) وانظر التمهيد (20/ 192).

قال ابن خويز منداد المالكي البصري: وهي عندنا متعينة في كل ركعة، قال: ولم يختلف قول مالك فيمن نسيها في ركعة، من صلاة ركعتين أن صلاته تبطل (¬1)، ونقل هذا القول القرطبي رحمه الله في تفسيره (¬2) ونقل عن ابن عبد البر قوله: الصحيح من القول إلغاء تلك الركعة ــــــ يعني الركعة التي لم يقرأ فيها بالفاتحة ــــــ ويأتي بركعة بدلا منها كمن أسقط سجدة سهوا (¬3). وقال القرطبي رحمه الله: الصحيح من هذه الأقوال قول الشافعي، وأحمد، ومالك في القول الآخر، وأن الفاتحة متعينة في كل ركعة لكل أحد على العموم، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا صلاة لمن لم يقرا بفاتحة الكتاب) (¬4)، وقوله: (من صلى صلاةً لم يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج) (¬5) ثلاثا، وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أن أنادي أنه (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب فما زاد) (¬6). كما لا ينوب سجود ركعة ولا ركوعها عن ركعة أخرى، فكذلك لا تنوب قراءة ركعة عن غيرها، ثم عدّد ¬

(¬1) التمهيد (20/ 192). (¬2) الجامع لأحكام القرآن (1/ 117). (¬3) الجامع لأحكام القرآن (1/ 117). (¬4) أخرجه الإمام مسلم، حديث (41). (¬5) سنن أبي داوود، حديث (818، 820) بألفاظ متقاربة. (¬6) سنن أبي داوود، حديث (821) ولفظه (من صلى صلاةً لم يقرأ فيها بأم القرآن ... .).

جمعا من الصحابة والأئمة قالوا بهذا (¬1)، وقال: وقد أخرج الإمام أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجة القزويني في سننه، ما يرفع الخلاف ويزيل كل احتمال ـــ فذكر بسنده ـــ من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة بالحمد لله وسورة في فريضة أو غيرها) (¬2). وحيث إن مقصدنا بيان الأصح من أقوال العلماء، وما أيده الدليل، ولزوم الاختصار نكتفي بما ذكرنا، وإلا فالنصوص الدالة على وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة كثيرة، سواء في حق المأموم أو المنفرد، ومنها ما ثبت في صحيح الإمام مسلم: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال للذي علمه الصلاة: (وافعل ذلك في صلاتك كلها) (¬3)، وأخرج أبو داوود رحمه الله، عن نافع بن محمود بن الربيع الأنصاري قال: "أبطأ عبادة بن الصامت عن صلاة الصبح، أقام أبو نعيم المؤذن الصلاة، فصلى أبو نعيم بالناس، وأقبل عبادة وأنا معه حتى صففنا خلف أبي نعيم، وأبو نعيم يجهر بالقراءة، فجعل عبادة يقرأ أم القرآن، فلما انصرفت قلت لعبادة: سمعتك تقرأ بأم القرآن، وأبو نعيم يجهر؟ ، قال: أجل، صلى بنا رسول ¬

(¬1) الجامع لأحكام القرآن (1/ 119). (¬2) سنن ابن ماجة، حديث (839) في إسناده أبو سفيان السعدي طريف ابن شهاب، ضعيف لكن تابعه قتادة، أخرجه ابن حبان، انظر (3/ 140) من الإحسان بترتيب صحيح بن حبان. (¬3) صحيح الإمام مسلم، حديث (45).

الله - صلى الله عليه وسلم - بعض الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة قال: فالتبست عليه القراءة، فلما انصرف أقبل علينا بوجهه فقال: هل تقرءون إذا جهرت بالقراءة؟ ، فقال بعضنا: إنا نصنع ذلك، قال: فلا، ـــــــــ وأنا أقول: ما لي ينازعني القرآن ـــــــــ فلا تقرءوا بشئ من القرآن إذا جهرت إلاّ بأمِّ القرآن" (¬1)، وقال أبو داود: وهذا أصح، والعمل على هذا الحديث في القراءة خلف الإمام، عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو قول مالك بن أنس، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق (¬2). وقال الدارقطني بعد أن أخرج الحديث من طريق محمد بن إسحاق عن مكحول عن محمود: هذا إسناد حسن، وقال بعد أن أخرجه من طريق زيد بن واقد، عن مكحول به: كلهم ثقات ـــ يعني رجال إسناده ـــ وقال عن محمود بن الربيع الأنصاري: وكان يسكن إيليا (¬3)، وعن أبي نعيم: وكان أبو نعيم أول من أذن في بيت المقدس (¬4)، واعتقد أنه من كلام الدارقطني وإلا لما حكم على الإسناد بأن رجاله ثقات. ¬

(¬1) سنن أبي داوود، حديث (824). (¬2) سنن الترمذي، حديث (311). (¬3) بكسر أوله واللام، وياء وألف ممدودة، إسم مدينة بيت المقدس، قيل: معناه بيت الله (معجم البلدان 1/ 293). (¬4) سنن الدارقطني، حديث (5، 6) وانظر الجامع لأحكام القرآن (1/ 120).

وهذا يرد كلام أبي عمر بن عبد البر في أبي نعيم أنه مجهول (¬1)، فالذي أراه راجحا ومنصورا دليله بإذن الله تعالى، وجوب القراءة لما أوردنا من نصوص؛ ولأنه أحوط في دين العبد، وأتقى لله تعالى. ومن أراد العودة إلى أقوال العلماء في هذه المسألة فإن الخلاف فيها على ثلاثة أقوال كما ذكر ذلك أبو عمر بن عبد البر رحمه الله قال: وهذا موضوع اختلفت فيه الآثار، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، واختلف فيه العلماء، من الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين، على ثلاثة أقوال، ثم قال: منهم قائلون: "لا يقرأ لا فيما أسر ولا فيما جهر" وقال آخرون: "يقرأ معه فيما أسر فيه، ولا يقرأ فيما جهر فيه إلا بأم القرآن، خاصة دون غيرها" والثالث سقط ولم يتنبه المحقق إلى إلحاقه، وهو: "يقرأ فيما أسر الإمام ولا يقرأ فيما جهر" (¬2)، وقد ناقش رحمه الله الآثار والأقوال وأفاض في ذلك (¬3)، وقد أبنّا القول الراجح (¬4)، وأن قراءة أم الكتاب في كل ركعة لا تسقط إلا عند العجز عن قراءتها عجزا شرعيا. وبالله التوفيق. ¬

(¬1) التمهيد (11/ 46). (¬2) التمهيد (11/ 27 ـ 28). (¬3) التمهيد (11/ 23 ـ 55). (¬4) وانظر الرازي (1/ 214 - 218، وللعلم بما قيل في مطلق القراءة 1/ 188 - 214).

النظرة الثالثة عشرة جواز الزيادة على الفاتحة من القرآن

النظرة الثالثة عشرة جواز الزيادة على الفاتحة من القرآن: ليعلم القارئ الكريم، أنه لا تجزيء صلاة من يحسن فاتحة الكتاب إلا بها، ولا يجزئ أن ينقص حرفا منها؛ لأن ذلك تحريف وإحالة للمعنى إلي غير المراد منه، فإن لم يقرأها المصلي أو نقص منها حرفا أعاد صلاته، وإن قرأ بغيرها، وهذا هو الصحيح إن شاء الله تعالى. وقد أجمع العلماء على أنه لا صلاة إلا بقراءة، وأنه لا توقيت في ذلك بعد الفاتحة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، ومستند جواز الزيادة في القراءة على الفاتحة حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال للأعرابي: (إقرأ ما تيسر معك من القرآن) (¬2)، أي: ما زاد على الفاتحة، وهو تفسير قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} (¬3)، والآية ذاتها {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} ولو أراد الفاتحة لما خير لأن قراءتها واجبة، كما في حديث عبادة أيضا: ¬

(¬1) الجامع لأحكام القرآن (1/ 124). (¬2) أخرجه الإمام مسلم، حديث (45). (¬3) الآية 20 من سورة المزمل.

(لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن) (¬1)، وزاد في رواية (فصاعدا) (¬2)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (هي خداج ـــ ثلاثاـ غير تمام) أي غير مجزئة، والخداج النقص والفساد (¬3)، والصريح في ذلك أيضا رواية أبي داوود من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: (أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب، وما تيسر) (¬4) وهذا تفسير لمراده - صلى الله عليه وسلم - بقوله للأعرابي: (اقرأ ما تيسر معك من القرآن) قال القرطبي رحمه الله: والنظر يوجب في النقصان أن لا تجوز معه الصلاة، لأنها صلاة لم تتم، ومن خرج من صلاته وهي لم تتم فعليه إعادتها، كما أمر على حسب حكمها، ومن ادعى أنها تجوز مع إقراره بنقصها فعليه الدليل، ولا سبيل إليه من وجه يلزم، والله أعلم (¬5). ¬

(¬1) أخرجه الإمام مسلم، حديث (34) وما بعده. (¬2) صحيح مسلم، حديث (37). (¬3) قال الأخفش: خدجت الناقة: إذا ألقت ولدها لغير تمام، وأخدجت: إذا قذفت به قبل وقت الولادة، وإن كان تام الخلقة (الجامع لأحكام القرآن 1/ 123) كذلك انظر (النهاية 2/ 12). قلت: وفي كلتا الحالتين هو تالف لا حياة له، وانظر لسان العرب 2/ 248). (¬4) سنن أبي داوود، حديث (818). (¬5) الجامع لأحكام القرآن (1/ 123).

النظرة الرابعة عشرة سقوط قراءتها عن العاجز المتعذر عليه إدراكها

النظرة الرابعة عشرة سقوط قراءتها عن العاجز المتعذر عليه إدراكها: أوضحنا مكان الفاتحة من الصلاة وأنها روح الصلاة بتمامها تكون الصلاة تامة صحيحة، وبنقصانها تكون الصلاة ناقصة باطلة على ما هو صحيح ومعضّد بالأدلة. من رحمة الله - عز وجل - بعباده أن جعل هذا الدين فيه رحمة ومراعاة لأحوال العباد وقدراتهم الذهنية والبدنية، فمن تعذر عليه القدرة على قراءة الفاتحة، بعد بلوغ لزمه أن يذكر الله - عز وجل - في موضع القراءة بما أمكنه من تكبير أو تهليل أو تحميد أو تسبيح أو تمجيد، أو لا حول ولا قوة إلا بالله، إذا صلى وحده أو مع إمام، ومستند هذا القول ما أخرجه أبو داوود من حديث عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئا، فعلمني ما يجزئني منه، قال: (قل سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله) قال: يا رسول الله، هذا لله، فما لي؟ ، قال: (قل اللهم ارحمني، وارزقني وعافني واهدني) فلما قام قال: هكذا بيده ـــ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:

النظرة الخامسة عشرة احتواء الفاتحة على علوم القرآن

(أما هذا فقد ملأ يديه من الخير) (¬1)، هذا وعلى المسلم أن يجهد نفسه في تعلم الفاتحة، نصا ودلالة، ولا يقصر في ذلك، لترتب صحة الصلاة، وكمالها على صحة قراءة الفاتحة، فإذا بلغ الجهد وعجز فقد جعل الله له سبيلا إلى الخير كما أسلفنا بيانه. النظرة الخامسة عشرة احتواء الفاتحة على علوم القرآن: تنافس العلماء رحمهم الله في كشف ما تضمنته الفاتحة من العلوم، وذكروا فوائدها ونفائسها، عشرة آلاف مسألة، فاستبعد هذا بعض الحساد، وقوم من أهل الجهل والغي والعناد ... الخ (¬2). ولا ريب أن الفاتحة تضمنت ما ورد في القرآن الكريم من علوم وهي مرتّبة كما يلي: أولاً: علم توحيد الربوبية الذي نبه عليه رب العزة والجلال بالثناء على نفسه بأكمل الحمد وأوفاه فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} فكأن قائلا تساءل فقال: من هو؟ ، فقال تعالى: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} فذكر كل ¬

(¬1) سنن أبي داوود، حديث (832) في إسناده إبراهيم السكسكي احتج به البخاري ولم يتفرد به تابعه طلحة بن مطرف كما ذكر محقق سنن الدارقطني (1/ 313 ـ ت 1). (¬2) التفسير الكبير (1/ 3).

الأوصاف والنعوت الجميلة الموجبة للإقبال عليه تعالى إقبالا كليا مضمنة قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وقد جاء في الكتاب العزيز {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (¬1)، ولا يحصل العلم بأنه تعالى رب العالمين إلا بمعرفة معنى {رَبِّ} ومعرفة المراد (بالعالمين) (¬2)، وهذا تقرير توحيد الربوبية الشاملة لكل مخلوق (فالعالمين) شامل لجميع المخلوقات، خلافا لمن قصره على (الناس) فهو تعالى رب الناس، يعلم دقائق خلقهم وما يصلحهم في الدنيا والآخرة، كما هو رب هذا العالم الكبير، من الجواهر والأعراض يعلم دقائق خلقها، وما يصلحها ويدبر أمرها (فالعالمين) مفردها عالم، وقيل: العالم جمع لا واحد له من لفظه، فكما أن الجمع المعروف يستغرق آحاد أفراده، كما في مثل قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (¬3) أي كل محسن كذلك العالم يشمل أفراد الجنس المسمى به، وإن لم يطلق عليها فيتناول اللفظ (العالمين) كل ¬

(¬1) الآية (39) من سورة يوسف. (¬2) انظر (التفسير الكبير 1/ 6). (¬3) من الآية (134) من سورة آل عمران. وفي آيات أخر من كتاب الله.

واحد من آحاد الأجناس التي لا تكاد تحصى، وجمع بالواو والنون؛ تغليبا للعقلاء، وقد روي عن وهب بن منبه أنه قال: لله تعالى ثمانية عشر ألف عالم والدنيا عالم منها (¬1) فاستفدنا من صيغة الجمع والتعريف أمرين: 1 ــــ أن ذلك الجنس تحته أنواع مختلفة. 2 ــــ أنه مستغرق لجميع ما تحته منها (¬2). قلت: ما روي عن وهب إن صح وثبت فهو بحسب ما ظهر للإنسان، وليس المراد به الحصر والاستقصاء، فخلق الله لا يحيط به مخلوق {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (¬3). ثانياً: علم توحيد الأسماء والصفات المضمن قول الله - عز وجل -: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)}. ثالثاً: علم توحيد الألوهية وهو توحيد العبادة الذي بعث الله الرسل للدعوة إليه المضمن قوله تعالى: {الْحَمْدُ ¬

(¬1) إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (1/ 19 ـ 21). (¬2) الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف (مع الكشاف 1/ 9). (¬3) الآية (8) من سورة النحل.

لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. وقول الله سبحانه وتعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. رابعاً: علم الأحكام الشرعية، الأمر والنهي، الحلال والحرام، المضمن قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} المرتب عليه الوعد والوعيد، المضمن قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} وقوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}. خامساً: علم الأخبار وقصص الأمم السابقة، والقرون الأولى، المضمن قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}.

النظرة السادسة عشرة ما في الفاتحة من العلوم الأخرى

هذا ما تلخص لنا من النظر في أقوال العلماء (¬1)، رحمهم الله تعالى. النظرة السادسة عشرة ما في الفاتحة من العلوم الأخرى: لا غرابة أن تتضمن الفاتحة علوما عن الكون والمخلوقات وما أودع الله - جل جلاله - فيها من حكم وأسرار، لأن الفاتحة مفتتح الكتاب العزيز، وكتاب الله هو الدين القيم، كيف لا وفي القرآن الكريم ما يربو على (750) آية من آيات الأحكام، المتعلق منها بعلم الفقه قد لا تزيد آياته عن (1، 50) آية، مع ما صح عن عبد الله ورسوله نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - من الأحاديث، ففي الكتاب والسنة علم الدنيا والآخرة، لذلك تضمنت الفاتحة الإشارة إلى ما في الكون من عوالم ومخلوفات، وذلك في مثل قوله تعالى: {رَبِّ الْعَالَمِينَ}. وقد حوى هذه المخلوفات مكانان: علوي وسفلي، وفي كل منهما من المخلوقات، والكائنات الحية وغيرها، ما لا يعلمه ويقوم على تدبيره إلا الله - عز وجل -، هو الخالق المدبر وحده لا شريك له، ومن هذه المخلوقات الإنسان ¬

(¬1) انظر: (التفسير الكبير 1/ 3 ـ الجامع لأحكام القرآن 1/ 110، 112 ـ وتفسير ابن القيم ص 7 ـ وإرشاد العقل السليم 1/ 8 ـ وروح المعاني 1/ 35).

الذي اختاره الله - عز وجل - للتكليف وعمارة الأرض، وامتن الله عليه بالربوبية، إذ تبدأ رعاية الله له منذ اللحظة الأولى لبداية الخلق من البويضة والحيوان المنوي، إلى أن يكمل خلقه ويكون إنسانا قويا، وهذه رعاية خاصة بتكوين الجسد وحياته، ثم تليها الرعاية الروحية والفكرية، المقرون بها الثواب والعقاب، فالعاقل يجب أن يعتبر ذات نفسه، وذلك لأنه مؤلف من نفس وبدن، ولا شك أن أدون الجزأين وأقلهما فضيلة ومنفعة هو البدن، ثم إن أصحاب التشريح وجدوا قريبا من (5000) نوع (¬1) من المنافع والمصالح التي دبّرها الله - عز وجل - بحكمته في تخليق بدن الإنسان، ومن وقف على هذه الأصناف المذكورة في كتب التشريح، عرف أن نسبة هذا القدر المعروف المذكور إلى ما لم يعلم وما لم يذكر كالقطرة من البحر المحيط، ثم إذا توسع الإنسان في النظر وتأمل ما قيل عن العالم العلوي، وما فيه من الأجرام السماوية والكواكب السيارة، وأجرام النيرات من الثوابت وما بينهما من البعد والمسافات ما لا يعلمه إلا الله - عز وجل -، ونظر علميا فيما استطاع كشف حقيقته وبعض خباياه، بإجراء بعض الحسابات، مثل قولهم: إن السنة الضوئية هي عبارة عن مقدار ما يقطعه ضوء الشمس في سنة ¬

(¬1) هذا ما ظهر للرازي رحمه الله، وهو قبل ما يزيد على (800) سنة، فكيف بما حدث من وفته إلى يومنا هذا من الكشف والتوسع الهائل في علوم الفضاء، وعلوم الكائنات الحية من، وعلوم الطب والتشريح؟ ! ! .

بسرعة (186) ألف ميل في الثانية، وهذا مقياس المسفات بين المخلوقات السماوية "العالم العلوي". وكذلك إذا أمعن النظر في العالم السفلي، وما لاح فيه من آثار حكم الله - جل جلاله - في تخليق الأمهات، والمولدات من الجمادات، والنباتات، وجميع الكائنات الحية، وأصناف أقسامها وأحوالها، علم أن هذه الأنواع لا قدرة للبشر على حصرها، ولا كشف منتهى ما فيها من حكمته سيحانه، وأسرار الخلق والابداع الذي أجراه جلّت قدرته، قال الله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (¬1)، وعلم أن قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} مشتمل على ألف ألف مسألة، أو أقل أو أكثر، هذا قول الرازي"مليون مسألة". وأقول: بل على مسائل لا يعلم حصرها إلا الله - عز وجل -، ويتبين للناظر أن قوله تعالى: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} فيه لفت نظر إلى كل ما ورد ذكره في القرآن الكريم، ولا نريد الإطالة بسرد الآيات الواردة في ¬

(¬1) الآية (13) من سورة الجاثية.

التسخير، فهي كثيرة كلها تدل على أن ما في هذا الكون مسخّر للإنسان، للبحث والنظر والاستدلال، وأخذ العبر من نتائجها، وكذلك الآيات الآمرة بالتفكر في آيات الله ومخلوقاته عديدة في كتاب الله - عز وجل -، منها قوله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (¬1)، ويدل على النظر في العالم العلوي قوله تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} (¬2)، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (¬3)، وقول الله ¬

(¬1) الآية (191) من سورة آل عمران. (¬2) الآية (101) من سورة يونس. (¬3) الآيتان (95، 96) من سورة الأنعام.

سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (¬1)، ومما يدل على النظر في العالم السفلي، قوله في الآية السابقة: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} (¬2)، وأيضا قوله تعالى: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬3)، وكذلك قول الله سبحانه وتعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} (¬4)، وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ ¬

(¬1) الآية (97) من سورة الأنعام .. (¬2) الآية (101) من سورة يونس. (¬3) الآية (50) من سورة الروم. (¬4) الآية (20) من سورة الذاريات.

السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (¬1)، وصدق الله ... {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} (¬2)، نلاحظ المكتشفات العلمية في هذا العصر من خلال البحث في خلق الإنسان، وغزو الفضاء بالمراصد لكشف ما فيه من عجائب صنع الله - عز وجل -، ومع ذلك لم يؤد ذلك إلى إيمان أولئك الذين مكنهم الله من كشف بعض من عظيم خلقه سبحانه، ومع ذلك ما آمن منهم إلا قليل، ومما ترشد إليه هذه الآيات ـــــ التي هي غيض من فيض في كتاب الله - عز وجل - ـــــ نعلم أن ¬

(¬1) الآية (99) من سورة الأنعام. (¬2) الآية (101) من سورة يونس ..

المسؤلية التي حمّلها الله - عز وجل - الأمة الإسلامية كبيرة جدا، وأن عليهم النظر والكشف عما أمر به القرآن الكريم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكن امتنان الله - عز وجل - على عباده بتعليم داود - عليه السلام - صنعة لبوس إلا ليرشد عباده الصالحين في كل زمان ومكان إلى وجوب العمل الجاد، واتخاذ الأسباب الكافية ليكونوا أقوياء أعزاء، من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، ولا تكون عالية قوية إلا بقوة حراسها والحاملين لواءها، قال الله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} (¬1)، إنها صناعة الدروع علمها داود - عليه السلام - لما فيها من الحماية والتحصين من بأس ما يقابلها من الأسلحة، ولأهمية هذا النوع امتن الله - عز وجل - على داود بقوله: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} (¬2)، حيث جعله الله في يديه كالعجين يصنع منه ما يريد من غير مشقة ولا تعب، فلم يكن عبثا أبدا أن يمتنّ الله على أنبيائه ورسله بما علمهم، وبما منحهم من أسباب القوة والمنعة، وقد ¬

(¬1) الآية (80) من سورة الأنبياء. (¬2) الآية (10) من سورة سبأ.

كان نوح - عليه السلام - نجارا (¬1)، إن في هذه وغيرها تنويها إلى ضرورة أن يشتغل المسلمون بأسباب قوتهم ونصرهم، والأنبياء والرسل كلهم مسلمون بنص القرآن الكريم، فما ورد في حق أي نبي من أسباب النصر والتمكين في الأرض، هو وارد في حق غيره من الأنبياء ولا ريب، من نوح - عليه السلام - إلى نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فعباد الله المسلمون مأمورون بإعداد القوة، قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (¬2)، فأمر الله تعالى بالإعداد وهو بذل جميع الوسائل الممكنة، للحصول على أكبر قوة في الأرض، بدليل تنكير كلمة {قُوَّةٍ} فإنها لم ترد معرّفة حتى لا تكون قاصرة، فكان التنكير غاية مقصودة وهي الحصول على أي قوة ممكنة على وجه الأرض، وما عمل داود إلا إشارة إلى عمل كل ما فيه دفع لشر السلاح، بجميع أنواعه وأشكاله، وما عمل نوح إلا إشارة إلى ضرورة خوض لجج البحار والمحيطات بقوة عظيمة، صالحة للاستخدام سلما وحربا، ولا نريد التوسع في هذا الأمر فإنه طويل جدا، لكننا نقول: إن ما فيه المسلمون اليوم من البلاء والفرقة والضعف، سببه عدم الوعي لما في الكتاب والسنة من العلم والتوجيه، ¬

(¬1) انظر الآيات (37) من سورة هود (27) من سورة المؤمنون .. (¬2) الآية (60) من سورة الأنفال ..

فقد فرّط القادة والشعوب في أسباب عز المسلمين، إنني لا ألوم دولة إسلامية بعينها، بل جميع الدول الإسلامية فرّطت في كتاب ربها وسنة نبيها - صلى الله عليه وسلم -، واشتغلت بالتناحر والتدابر، وقطع الصلاة ونبذ العمل المشترك وفق الكتاب والسنة، وليس هذا الأمر قريب عهد، بل من أمد بعيد، واليوم إذا ما حدث لبلد إسلامي مكروه، فمن أخذته الحمية من المسلمين اكتفى بالشجب والاستنكار، والاستجارة من الرمضاء بالنار، فيستجيرون من اليهود والنصارى باليهود والنصارى، وربما بررت بعض الدول لعدوان المعتدي، إنها كارثة في حق أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، الذي وحدّ أمته على كتاب الله وسنته - صلى الله عليه وسلم -، إن العودة إلى الله ورسوله واجبة، ولا فلاح للأمة بدونها، وإن أقلّ ما يجب عمله في هذا العصر أن تقوم الدول الإسلامية، وتلتف حول ميثاق إسلامي، منه ينبثق بناء القوة الإسلامية الموحدة، قوة رادعة وفق ما يقضي به الكتاب والسنة، تكون مرجعا وحيدا بعد الله - عز وجل - للأمة الإسلامية، الأمة الإسلامية الواحدة، بدلا من الأمم المتحدة الظالمة، التي لا تعرف إلا حقوق اليهود والنصارى، إن فرصة المسلمين لبناء قوة إسلامية مؤاتية، ولا يزال الأمل قائما وقويا، وإذا لم تكن للمسلمين قوة تردع الأعداء، فإنهم الغثاء الذي أخبر عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، وحينها يصدق على كل دولة إسلامية على ¬

(¬1) في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها فقال قائل ومن قلة نحن يومئذ قال بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن فقال قائل: يارسول الله، وما الوهن؟ ، قال: حب الدنيا وكراهية الموت، سنن أبي داود، حديث (4297).

وجه الأرض المثل الذي يقول: "أكلت يوم أكل الثور الأسود" وإذا ما تنبه المسلمون وعادوا لبناء قوتهم وفق ما تقضي به شريعة الإسلام، وفي إطار إتحاد إسلامي، تصدر فيه عملة موحدة لبناء القوة الإسلامية الرادعة، كما فعلت الدول الأوروبية، أنشأت "الاتحاد النقدي للصناعات" تحت عملة موحدة لهذا الغرض (اليورو). وإذا كنا أطلنا النفس في هذا فلأنه من أهم المهمات، لإنقاذ المسلمين مما هم فيه من الذل والهوان. ومما أرشدت إليه الفاتحة من خلال قوله تعالى: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} النظر إلى ما في العالم السفلي من عوالم ومخلوقات منها مثلا (¬1): عالم النبات: له علم تعرف به صنوفه وأنواعه، واختلاف أشكاله وألوانه، وطعومه وروائحه، وأوراقه وأزهاره، وثماره وحبوبه، وبذوره وصموغه، ولحاؤه وبنية تكوينه، وتربيته لما يخرج منه، كل ذلك في علوم أمر المسلمون بالنظر والكشف عنها والاستفادة مما فيها، بعد الإيمان بأن ذلك تقدير العزيز الحكيم. عالم الحيوان: ¬

(¬1) انظر (الجواهر في تفسير القرآن 1/ 14 ـ 15).

له علم تعرف به أشكاله وأنواعه وصنوفه المختلفة، وأجناسه مما يسكن البر منه، وما في الهواء والبحر، وما يتعلق بتزاوجها وتوالدها، ومستقرها ومستودعها، وما يتبع ذلك من علوم طب وتشريح. علم التشريح: علم يعرف به بالدرجة الأولى عظم ربوبية الله - عز وجل - لجميع المخلوقات، ومنها الإنسان الذي أودع فيه ربه سبحانه وتعالى (248) عضوا، و (360) مفصلا، أوجد لها من الأوردة والشرايين والأعصاب ما لا يعلمه إلا هو سبحانه، وزودها بالدورة الدموية، والتنفسية، والغذائية، والدائرة العقلية، والحواس الخمس، وما في الدماغ من قوى، كل ذلك مندرج تحت قوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} وقوله: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (¬1). ¬

(¬1) الآية (21) من سورة الذاريات، وانظر (الجواهر في تفسير القرآن 1/ 15).

النظرة السابعة عشرة المنهج التربوي في سورة الفاتحة

النظرة السابعة عشرة المنهج التربوي في سورة الفاتحة: لقد تضمنت سورة الفاتحة جوانب تربوية عظيمة منها: 1 ـــــ الجانب العلمي المعرفي النظري: يتمثل ذلك في معرفة المدعو إلى عبادته وحده لا شريك له، وهو الله - عز وجل - فقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} عرّف العباد أن الله - عز وجل - هو المختص بالحمد على وجه الكمال، فوجب على كل مسلم أن يعي هذا، وينطلق في تربية نفسه ومن ولاه الله أمرهم من مبدأ أن الله تعالى رب العالمين، الذي أوجدهم ورعاهم وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة، ولذلك تضمن اسمه الكريم {رَبِّ} ثلاثة أمور: الرب بمعنى المعبود، والرب بمعنى المربي والمنعم، والرب بمعنى المالك المتصرف. 2 ـــــــ الجانب العملي التطبيقي: ويتمثل في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. إن المسلم إذا تقرر لديه الجانب النظري، بادر إلى الجانب العملي فإن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، فتكون عبادته خالصةً لله - عز وجل -، وتوكله عليه وحده، واستعانتة به سبحانه في كل شؤونه، ولا معارضة فيما يحصل بين المسلمين من تعاون فإنه من

باب العون والمساعدة بالنسبة للمخلوق، ومن باب العبادة والتوكل بالنسبة للخالق سبحانه. تحديد ثمرة التلازم بين الجانبين السابقين؛ ولا تحصل الثمرة إلا باجتماعهما، وهي: الهداية إلى الطريق المستقيم: ويتمثل في قول الله سبحانه وتعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فطلب الهداية يستلزم البعد عن الضلال، وكل ما يغضب الله - عز وجل -، وتحمل المسؤولية: في سبيل إظهار الحق المشار إليه بقوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} والذين أنعم الله عليهم هم المطيعون لله ورسوله، أعلاهم الأنبياء والرسل، ثم الصديقون والشهداء والصالحون، الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، وهذا يجعلنا نتعرف على المسؤوليات المنوطة بنا شرعا، ونربي عليها أنفسنا وأسرنا، وبها يقوم المجتمع الإسلامي، ويمارسها واقعا عمليا على قدر الطاقة، ومن خلال الوسائل التي تستخدم في تحقيق الأهداف، ويحسن أن نقدم للقارئ الكريم مثالين لتوضيح ما أسلفنا القول فيه:

المثال الأول: ما وردت الإشارة إليه في قول الله سبحانه وتعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} وقلنا: أعلاهم الأنبياء والمرسلون، حصل لهم ما حصل من الكرامة والنصر والجزاء في الدنيا والآخرة، لأنهم حققوا الجانبين المتلازمين في التربية: الجانب المعرفي النظري، والجانب التطبيقي العملي، فصبروا وصابروا، وقد فصّل الله ذلك في سورة الصافات، إذ ذكر نبيه نوحا - عليه السلام -، وذكر من ثمرة معرفته بالله، وتطبيقه عمليا لعبادة ربه، أن استجاب الله دعوته (¬1)، فحصلت له ولأهله النجاة (¬2)، وختم الله ذلك بقوله تعالى: {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي ¬

(¬1) قال الله تعالى: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} سورة الصافات. (¬2) قال الله تعالى: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)} سورة الأنبياء.

الْعَالَمِينَ} (¬1)، وهكذا ذكر الله - عز وجل - الرسل وأثنى عليهم واحدا واحدا، فذكر إبراهيم وتاريخه، وما لقي من المحن، وختم بقوله تعالى: {سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} (¬2)، ثم ذكر موسى وهارون ونجاتهما من فرعون وقومه، وختم بقوله تعالى: {سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} (¬3)، ثم ذكر إلياس وقصته مع قومه، وختم بقوله سبحانه وتعالى: {سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} (¬4)، ومن هذا نعلم أن الله - عز وجل - ذكر ذلك تربية لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وتعليما لأمته أن الله - عز وجل - يجعل الثناء للمجاهدين الأبطال من المكافآت العاجلة، وذلك لإقتدائهم بأنبياء الله ورسله، واستقامتهم على منهج الله، ومن هذا يجب على الأمة الإسلامية أن تعلن فضل الفضلاء من أبنائها، وأن تشيد بعلم العلماء منهم، وحكمة الحكماء، وجهاد الأبطال الذين يعلون كلمة الله في ¬

(¬1) الآية (79) من سورة الصافات. (¬2) الآية (109) من سورة الصافات. (¬3) الآية (120) من سورة الصافات. (¬4) الآية (130) من سورة الصافات ..

الأرض، من أمثال الأئمة الأربعة، ومن تلاهم من علماء الطب والفلك، والرياضيات، والكيمياء، ومن بعدهم من المجاهدين من أمثال صلاح الدين، وشيخا الإسلام ابن تيمية، ومحمد بن عبد الوهاب وغيرهم كثير، وعلى الأمة الإسلامية أن تقوم بنشر فضائلهم، وكشف محاسنهم التي خدموا بها أمتهم الإسلامية، لتقتدي بهم الأجيال المتعاقبة، لكن الأمة الإسلامية اليوم صرفت هذا لأصحاب الرقص والغناء، وغيرهم ممن لا يتفق عملهم مع كتاب ولا سنة، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير. المثال الثاني: ما وردت الإشارة إليه في قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} وقعوا في الضلال المبين، وهو ما قص الله - عز وجل - عن أهل النار {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} (¬1)، إلى قوله سبحانه وتعالى: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} (¬2)، أنذرهم لشذوذهم في الفكر والسلوك وعدم قبولهم الدعوة التي جاء بها الرسل، فاشتغلوا بالهوى والشهوات، وغرتهم الأماني، وهذا حال الأمة ¬

(¬1) الآية (27) من سورة الصافات. (¬2) انظر الآيات من (50 ـ 73) من سورة الصافات.

الإسلامية اليوم في غالب أمرها، سُلبت مقدساتها، انتهكت الأعراض في كثير من بلاد المسلمين، تطاول الكذبة من أعداء الإسلام، على كتاب الله - عز وجل -، وعلى سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، "والمليار" من المسلمين يتفرجون، ويحوقل (¬1)، الصالحون منهم. من هذا المثال يجب أن يعي المسلمون الخطر المحدق بهم، حينما تكون الأهواء دستورا والشهوات منهجا، وحرية الفكر لا حدود لها، أو مطموسة وممنوعة من قول الحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومن هنا نعلم أهمية طلب الهداية والتوفيق، وأنها من أعظم الوسائل لتحقيق الغايات النبيلة، فقوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} إدراك الغاية وهي: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} بسبب طلب الهداية، وقصة أصحاب الكهف (¬2)، من أبرز الأمثلة على ذلك، ومن السنة قصة أصحاب الغار (¬3)، والسبعة الذين يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله (¬4)، كان ثمرة لتحمل ¬

(¬1) الحوقلة: أن يقول الإنسان: لا حول ولا قوة إلا بالله، وهذا ما يملكه الصالحون اليوم، وهي معهم في الرخاء والشدة، وهي كنز من كنوز الجنة، وقد صح هذا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) انظر (القرآن الكريم، سورة الكهف، الآيات: 9 ـ 22). (¬3) انظر: صحيح البخاري، حديث (2272). (¬4) انظر: صحيح البخاري، حديث (660) وإحالاته.

المسؤولية، والصبر عليها، فنتج عن ذلك ما حصل من العاقبة الحسنة، ودوام الذكر الحسن والثناء عليهم إلى يوم الدين. وهنا نلحظ قاعدتين تربويتين: تضمنتهما سورة الفاتحة؛ وهي أن التربية لا تقوم إلا على أساسين هامين: هما منهجان إسلاميان تربويان يجب اعتمادهما في حياة الفرد والجماعة: 1 ـــــ الرحمة: وإليه الإشارة بقوله تعالى: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وقد جعل الله تعالى هذا الجانب من التربية غريزة في الأم، فان الطفل يجد عندها الحنان والرأفة والرحمة في منتهى صورها، ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لله أرحم بعباده من هذه بولدها) (¬1). 2 ـــــ الثواب والعقاب: وهو أساس هام في التربية، له دور بارز في البناء والإصلاح، ونشوء العدل، والعدل فيه الشدة وإعطاء كل ذي حق حقه، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} الجزاء والحساب، وقد جعل الله - عز وجل - هذا الجانب غريزة في الأب، فانه أحزم في تربية الابن من الأم وأحكم، وهذا يستدعي التوازن في التربية، فلو جعل الأبوين رحيمين مطلقا لفسدت التربية، ولو جعلهما شديدين لفسدت أيضا. ¬

(¬1) أخرجه البخاري، حديث (5999).

النظرة الثامنة عشرة أقسام الناس حسب فهم الفاتحة

ومن هنا نستنتج أن سلوك الوسطية جانب تربوي أيضا، يجب توجيه المسلمين إليه أفرادا وجماعات، شعوبا وحكومات، وذلك لازم في شؤونهم الدينية والدنيوية، وهذا مستفاد من قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}. وبالجملة فآثار تربية الله - عز وجل - الفائضة على كل فرد من أفراد الموجودات في كل آن غير متناهية، ويمكن لممعن النظر أن يكشف من أسباب التربية وأسرارها التي أودعها الله في خلقه الشيء الكثير، فسبحان الرب الخالق ما أعظم شأنه، وما أقوى حجته وبرهانه، نسأله تعالى الهداية إلى مناهج العلم والمعرفة، ونسأله العون والتوفيق لأداء حقوق نعمه، لا نحصي ثناء عليه، لا إله إلا هو، نستغفره ونتوب إليه. النظرة الثامنة عشرة أقسام الناس حسب فهم الفاتحة: قبل الشروع في الحديث عن أقسام الناس حسب فهمهم للفاتحة، ومعرفتهم بما تضمنت من مقاصد ودلالات، نرغب في بيان أنه من المهم إيراد هذا الفصل، عقب ما ذكرنا من صلة الفاتحة بأمور الدنيا والآخرة، حتى لا

يتصور أحد أن هذه الآية حمّلها العلماء ما لم تتحمل، من احتواء العلوم الشرعية والكونية، والناس يقرؤونها ولا يلحظون ما ذكر المفسرون، ويكررونها صباح مساء ولا يتهيأ لهم ما يصفونها به، وأن ما ذكره العلماء ورد استطرادا لا استنباطا، وتطويلا لا تأويلا، وتعليما لا تفسيرا، وإكثارا لا استخراجا، فنقول: تمهلوا فإن الأمثلة تزيد الأمر وضوحا وتكسبه جلاء، فتساعد على الفهم والاستيعاب، فلو صورنا سورة الفاتحة بجنة خلق الله فيها من أنواع الثمار والفواكه، وأعطى من البهجة والخضرة ما لا يتصوره خيال، على حد قول الله سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (¬1)، فلو جمع الله هذه المذكورات وغيرها من الثمار والأشجار والأزهار في ¬

(¬1) الآية (99) من سورة الأنعام.

مكان واحد، ونظر إليها وتجول فيها ثلاثة عقلاء، متفاوتو القدرات وهم: مهندس خبير في الزراعة والأشجار والنباتات، وفلاّح، وطفل صغير. ونوع رابع هو: دابة يستخدمها الفلاّح في خدمته وخدمة مزرعته، كيف يكون فهم ما حوت المزرعة في نظر كل واحد من الأربعة؟ ، فهل يكون هؤلاء والحقل أمامهم متفقين في الرأي والفكر بالنسبة لكل منهم، ؟ كلاّ إن الأمر مختلف قطعا. وبيان أقسام الناس على نحو ما يلي: إن المهندس الزراعي الخبير بالري وشئون الزراعة، وما يصلحها، وما يفسدها، وفق علم عميق ودراسة دقيقة، وتجارب مخبرية عديدة، يكون وهو أمام الحقل واسع الأفق، كبير المعاني، عالما بقدرة ربه ورب كل مخلوق {رَبِّ الْعَالَمِينَ} وبما له في هذا المنظر من أسرار الخلق والتكوين، يتجلى منه عظمة الخالق سبحانه. وهذا يمثل القسم الأول من أقسام الناس: وهم الذين عرفوا سورة الفاتحة، وعلموا فضلها، وخبروا مقاصدها، وفهموا دلالاتها الظاهرة والضمنية، فكانت عندهم بمنزلة القلب من الجسد، إذا توقف عن العمل، توقفت الحياة عن سائر الجسد، فجرى حرصهم على العمل بالفاتحة نصا وروحا، وكانوا مضرب المثل في الفهم النظري، والتطبيق العملي، وهؤلاء هم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين ربّاهم على وحي ربه، وأرشدهم

إلى العمل بسنته - صلى الله عليه وسلم -، فكانوا الصفوة المختارة، ليقتدي بهم من بعدهم من التابعين، فهم العدول المبلغون عن الله ورسوله، وهكذا يتكامل هذا الصنف الواعي جيلا بعد جيل، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، أخرج الإمام البخاري من حديث المغيرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله، وهم ظاهرون) (¬1)، المعنى المراد منه العبادة والاستقامة على الحق، وهذا أشبه بذلك الفلاح، الذي يقبل على حقله وينظمه ويقوم على شؤونه في حدود علمه ولاشك أن المفسر للقرآن، العالم بمعانيه ومقاصده أرقى بكثير من العابد، فهو أشبه بالمهندس، والعابد أشبه بصاحب الحقل. أما الطفل فإنه يقصر عن الاثنين قصورا بينا، فالصبي يروقه منظر الحقل وجماله، وتعجبه أشجاره وأزهاره، ويشتاق لفواكهه وثماره، لكنه لا يفقه من أسرارها شيئا، ولا يعلم كيف وجدت، فهذا مثل القسم الثالث من أقسام الناس: وهم الجهلاء من المسلمين عامة، الذين لا يحسنون فهم الفاتحة، وربما رددوها بتحريف وتصحيف، وإذا سألت أحدهم عن كلمة منها أهي على هذا الوجه، أو على وجه آخر؟ ، لما عرف الصواب من الخطأ وربما اختار الخطأ فصوبه، وهذا الصنف هم الكثرة الكاثرة، ويدخل فيهم المبتدعون من أصحاب ¬

(¬1) أخرجه البخاري، حديث (71).

القبور، ودعاة الأولياء والصالحين، وغيرهم، فلو عرفوا معنى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} ... ما وقعوا في بدعة قط. وكم أخشى على كثيرين من القرّاء، الذين يفرحون بنغماتهم بالقرآن في المآتم، والأعراس، والحفلات العامة والخاصة، وكم من محفل يفتتح بالقرآن وفيه من مخالفة الكتاب والسنة ما الله به عليم، فهل عرف أسرار الفاتحة مثل هؤلاء؟ ! . أما الدابة: فإنه لا يعنيها من ذلك إلا حاجتها، كل تلك الصورة الجمالية وما فيها من أسرار الخلق والتكوين لا تعنيها في شيء، كل ما تعرفه أن هذا يروق لها أكله، تأكل منه ما تشاء، وتطأ ما تشاء، ولا شيء وراء ذلك، فهذا مثل القسم الرابع من أقسام الناس: وهم الذين فارقوا شرع الله، واتبعوا الهوى، فأصبحوا كالأنعام بل هم أضل، وهم اليهود والنصارى ومن سار في ركابهم أوتشبّه بهم، ولم يعر الإسلام أذنا ولا رفع به رأسا. ومعلوم أن فاتحة الكتاب يقرؤها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، وأكثرهم بها جاهلون، لا يعقلون معانيها ولا يعرفون مقاصدها، ولذلك تكالب عليهم الأعداء وهم في غفلةٍ معرضون، والعلم مفتاح التفكّر والتدبّر، إذ أن العلماء هم الذين يعرفون أسرار الأشياء،

بما علمهم الله من البحث والنظر، ولذلك حفل كتاب الله وسنة رسوله بالثناء عليهم والإشادة بهم قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (¬1)، ويقول تعالى: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} (¬2)، وقوله سبحانه وتعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (¬3)، وقوله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (¬4)، وغير ذلك، فعالم الكتاب والسنة يعقل مرامي الآيات، ومقاصد الأحاديث، وعالم النبات يعقل ما أودع الله فيه من أسرار الخلق والتكوين، وعالم الطب يعقل ما في الأجسام من عجائب الخلق، وكذلك الدارسون للشريعة الإسلامية يعقلون ما فيها من الحكم، وهم بعلم الفاتحة وعقل ما فيها أحرى، فالقرآن والسنة مثل ضوء الشمس منتشر في الجو، لكنه لا يظهر إلا على سطح الأرض، أو على جسم قابل، والهواء لا يعكس ضوءها، لذلك لا يراه الطائر في الجو، كذلك ¬

(¬1) الآية (28) من سورة فاطر. (¬2) الآية (43) من سورة العنكبوت. (¬3) الآية (9) من سورة الزمر. (¬4) الآية (11) من سورة المجادلة ..

النظرة التاسعة عشرة حكم الاستعاذة

الأفئدة الخالية من العلم والحكمة، يمر بها القرآن والسنة فلا تشعر بمعانيه، فأم الكتاب يقرؤونها صباح مساء، ولا يدركون ما فيها من الضياء المشرق، ولا نشك في أن هذا العصر صالح لظهور المقصود من القرآن الكريم في بلاد الإسلام، إذا ما توجه المسلمون لذلك وعالجوا جميع قضاياهم من خلال الكتاب والسنة {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (¬1). النظرة التاسعة عشرة حكم الاستعاذة: أجمع العلماء على أن التعوذ ليس من القرآن، ولا آية منه، وهو قول القارئ: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" وهذا اللفظ هو الذي عليه الجمهور من العلماء، لأنه لفظ كتاب الله تعالى (¬2)، في التعوذ، قال الله - عز وجل -: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (¬3)، والفاتحة قرآن، والشيطان أحرص ما ¬

(¬1) الآية (40) من سورة الحج. (¬2) الجامع لأحكام القرآن (1/ 87). (¬3) الآية (98) من سورة النحل.

يكون على إيذاء المسلم في صلاته، لأنه إذا أفسدها عليه فقد نال ما تمنى، لذلك ورد النص على قراءتها في الاستفتاح عند الدارمي (¬1)، من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل فكبر قال: (سبحانك اللهم وبحمدك، تبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك، أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه، ونفثه، ونفخه) (¬2)، ثم يستفتح صلاته. وأخرجه أبو داوود وابن ماجه وابن حبان من حديث جبير بن مطعم - رضي الله عنه - واللفظ لا بن ماجه قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين دخل في الصلاة قال: (الله أكبر كبيرا، الله أكبر كبيرا ـــــــــ ثلاثا ـــــــــ الحمد لله كثيرا، الحمد لله كثيرا ـــــــــ ثلاثا ـــــــــ سبحان الله بكرة وأصيلا ـــــــــ ثلاث مرات ـــــــــ اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم، من همزه، ونفثه، ونفخه) (¬3). ¬

(¬1) سنن الدارمي، حديث (1242) ونقد الحديث بعض العلماء، وأعله بعلي بن علي بن نجاد الرفاعي، والصواب أن الحديث لا ينزل عن الحسن، فله شواهد، وعلي المذكور، وثقه غير واحد كما ذكر الذهبي في الكاشف (2/ 291) وقال ابن حجر: لا بأس به، ويقال: كان يشبه بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) ورد تفسير هذه الكلمات عند الدارمي عقب الرواية، وكذلك عند أبي داوود وابن ماجة، همزه: المؤتة (وهي الجنون) ونفثه: الشِّعر، ونفخه: الكبر. (¬3) عند أبي داوود: قال عمرو: لا أدري أي صلاة هي.

وقد جاء ما يدل على تعلق هذا بالصلاة مباشرة، أخرجه الإمام مسلم (¬1)، من حديث عثمان بن أبي العاص - رضي الله عنه -، أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي، وقراءتي يلبسها عليّ، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (ذاك شيطان يقال له خِنْزِبَ، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه، واتفل على يسارك ثلاثا) قال: فقلت ذلك فأذهبه الله عني. وأخرج ابن ماجة من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: (اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم، وهمزه، ونفخه، ونفثه) (¬2)، فنحن مأمورون بمحاربة عدونا الشيطان في جميع الأحوال عند القراءة سواء في الصلاة أو غيرها (¬3)، ¬

(¬1) في الصحيح، حديث (68). (¬2) سنن ابن ماجة، حديث (808) وصححه الألباني (صحيح ابن ماجة 1/ 135). (¬3) حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول قبل القراءة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (2/ 86، رقم 2589) وأخرجه أبو داود في السنن (1/ 490) كتاب الصلاة، باب (121) حديث (122) وحديث أبي أمامة - رضي الله عنه - (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل في الصلاة من الليل كبر ثلاثا، وسبح ثلاثا، وهلل ثلاثا، ثم يقول: إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم) أخرجه الإمام احمد (المسند 5/ 253) وحديث جبير بن مطعم - رضي الله عنه - في الاستعاذة في الصلاة، أخرجه أبو داود، حديث (764).

وإذا أصبحنا وأمسينا (¬1)، وعند دخول المسجد (¬2)، وعند ثورة النفس، وعند حدوث الغضب (¬3)، وحتى عند معاشرة الزوجات (¬4)، فندعو كل مسلم إلى الحرص على الاستعاذة في مستهل القراءة في الصلاة، فريضة أو نافلة، وقد نقل القرطبي قول المهدوي: أجمع القراء على إظهار الاستعاذة، في أول قراءة سورة (الحمد) إلا حمزة فإنه أسرَّها (¬5)، وهذا إجماع منهم على قراءتها في أول سورة (الحمد) وهذا ما نراه لكل مسلم القراءة بها ¬

(¬1) حديث معقل بن يسار - صلى الله عليه وسلم - (من قال حين يصبح ثلاث مرات: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم .. ) الحديث أخرجه الإمام أحمد (المسند (5/ 26) وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في أمره - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر أن يقول إذا أمسى وإذا أصبح: .. أعوذ بك من شر نفسى وشر الشيطان وشركه) أخرجه أبو داود، حديث (5067) والترمذي حد يث (3392). (¬2) حديث عبد الله بن عمر بن العاص - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (أنه كان إذا دخل المسجد قال: أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم) أخرجه أبو داود، حديث (466). (¬3) حديث سليمان بن صرد - رضي الله عنه - أخرجه البخاري، حديث (3282، 6048) وأخرجه مسلم، حديث (2610) وأخرجه أبو داود من حديث معاذ - رضي الله عنه -، حديث (4780). (¬4) حديث ابن عباس - رضي الله عنه - (اللهم جنبنا الشيطان .. ) أخرجه البخاري، حديث (3271) وهذه النصوص وإن تكلم النقاد في بعض رواتها فهو كلام لا يخرج عن حد القول بتظافر الروايات وأنها لا تقل عن درجة الصحيح لغيره. (¬5) الجامع لأحكام القرآن (1/ 87).

النظرة العشرون تفسير الاستعاذة

في سورة (الفاتحة) فإن اقتصر بعد ذلك على البدء بها في الركعة الأولى فحسن، وإن قرأها في كل ركعة كان أحسن، ومعلوم ما ورد من الترغيب في الاستعاذة في غير الصلاة، لما فيها من الحرز والحصانة، وهو مما يحرص عليه المسلم، فإن في الاستعاذة إشارة إلى نفي ما لا يجوز من العقائد والأعمال (¬1)، وهذه حصانة للروح قبل حصانة الجسد. النظرة العشرون تفسير الاستعاذة: معنى الاستعاذة: الاستجارة، وتأويل قول القائل: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" أستجير بالله من الشيطان، أن يضرني في ديني، أو يصدني عن حق يلزمني لربي - عز وجل - (¬2). تأويل قوله: (من الشيطان): الشيطان في كلام العرب: كل متمرد من الجن والإنس والدواب، وكل شئ. قال الله - عز وجل -: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} (¬3)، فجعل من الإنس شياطين مثل الذي جعل من الجن، ولما ركب عمر بن الخطاب ¬

(¬1) انظر: التفسير الكبير (1/ 5). (¬2) جامع البيان عن وجوه القرآن تأويل القرآن (1/ 111). (¬3) الآية (112) من سورة الأنعام.

- رضي الله عنه - "برذونا" (¬1)، فجعل البرذون يتبختر به، أخذ عمر - رضي الله عنه - يضربه فلا يزداد إلا تبخترا فنزل عنه وقال: "ما حملتموني إلا على شيطان، ما نزلت عنه حتى أنكرت نفسي" (¬2)، وهذا يلفت النظر إلى دقة عمر - رضي الله عنه - في مراقبة أحوال نفسه. وقد سمي المتمرد من كل شئ شيطانا، لمفارقة أخلاقه وأفعاله، أخلاق سائر جنسه وأفعاله، وبعده عن الخير، وقول القائل: شطنت داري من دارك: أي بعدت، ومنه قول نابغة بني ذبيان: نأت بسعاد عنك نوىً شطون فبانت والفؤاد بهارهين (¬3)، تأويل قوله: {الرَّجِيمِ}: الرجيم: الملعون المشتوم؛ وكل مشتوم بقول رديء أو سب فهو مرجوم، وأصل الرجم: الرمي بقول كان أو فعل، ومن الرجم بالقول: قول أبي إبراهيم، لإبراهيم ¬

(¬1) البرذون: الدابة، وسَيْرَته (البرذنة) والأنثى (برذونةً). قال الشاعر: رأيتك إذ جالت بك الخيل جولة ... وأنت على برذونة غير طائل لم أقف على قائله وهو في (لسان العرب 13/ 5114/ 294). (¬2) أسنده أبو جعفر الطبري (جامع البيان 1/ 111) رجاله ثقات وهشام بن سعد حسن الحديث وهو من رجال مسلم. (¬3) للنابغة الذبياني في (ديوانه ص 72).

النظرة الحادية والعشرون القول في تفسير: {بسم الله الرحمن الرحيم}

- عليه السلام -: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} (¬1)، وقد يجوز أن يكون قيل للشيطان: رجيم، لأن الله جل ثناؤه طرده من سماواته، ورجمه بالشهب. النظرة الحادية والعشرون القول في تفسير: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} إن قول الله - عز وجل -: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} هي الآية الأولى على ما نراه راجحا من أقوال العلماء رحمهم الله، فالله سبحانه وتعالى أدب نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم -، بتعليمه تقديم ذكر أسمائه الحسنى أمام جميع أفعاله، وأقواله وجميع مهامه، وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أدبه به ربه تعالى سنة لأمته يستنون بها، وسبيلا يتبعونه عليها، فباسمه تعالى يكون افتتاح أوائل منطقهم، ومطالع رسائلهم وكتبهم وحاجاتهم، حتى أغنت دلالة ما ظهر من قول القائل: {بِسْمِ اللَّهِ} من مراده الذي هو محذوف (¬2)، فأصبح المسلم ذاكراً لله - عز وجل - في كل شؤونه، فيقول: {بِسْمِ اللَّهِ} (¬3)، أقرأ {بِسْمِ اللَّهِ} وأكتب، وأقعد وأقوم، وأنام ¬

(¬1) الآية (46) من سورة مريم. (¬2) جامع البيان (1/ 114) بتصرف. (¬3) تكتب بغير ألف (بسم الله) استغناء عنها بباء الإلصاق، في اللفظ والخط لكثرة الاستعمال، بخلاف قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} الآية (1) من سورة العلق، لم تحذف الألف لقلة الاستعمال (جامع البيان 1/ 99).

وأصحو، وأدخل وأخرج، وآكل وأشرب، وأسافر وأعود وغير ذلك من الأقوال والأفعال، قال الله تعالى: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ} (¬1)، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أغلق بابك واذكر اسم الله، وأطفئ مصباحك واذكر اسم الله، وخمّر (¬2)، إناءك واذكر اسم الله، وأوك سقاءك واذكر اسم الله) (¬3)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن قدر بينهما ولد في ذلك، لم يضره شيطان أبداً) (¬4)، وقال لعمر بن أبي سلمة: (يا غلام سم الله وكل بيمينك) (¬5)، وقال: (إن الشيطان ¬

(¬1) الآية (41) من سورة هود. (¬2) التخمير: التغطية، ومنه خمرت المرأة رأسها ووجهها: إذا غطتهما وسترتهما، والوكاء: الحبل الذي يشد به فم السقاء (القربة). (¬3) أصله في الصحيحين من حديث جابر - رضي الله عنه - بالشطر الأول منه، انظر: صحيح الإمام البخاري، حديث (5623) وصحيح الإمام مسلم، حديث (97) .. (¬4) أخرجه الإمام البخاري، حديث (3271). (¬5) أخرجه الإمامان البخاري ومسلم من حديث عمر بن أبي سلمة، انظر: صحيح الإمام البخاري، حديث (5376) وصحيح الإمام مسلم، حديث (108).

ليستحل الطعام إلا بذكر اسم الله عليه) (¬1)، وقال: (من لم يذبح فليذبح بسم الله) (¬2). إن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} يتبرك بها كل مؤمن ومؤمنة، ويحرص كل منهما على أن يكون ذكرها دائما على لسانه، حتى عند عثور الدابة، أو اصطكاك القدم يبادر إلى قول: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}. أخرج أبو داود بسند رجاله ثقات، من حديث رديف النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: كنت رديف النبي - صلى الله عليه وسلم - فعثرت دابته فقلت: تعس الشيطان، فقال: (لا تقل تعس الشيطان فإنك إذا قلت ذلك تعاظم، حتى يكون مثل البيت، ويقول: بقوتي، ولكن قل: بسم الله، فإنك إذا قلت ذلك تصاغر حتى يكون مثل الذباب) (¬3). ¬

(¬1) أخرجه الإمام مسلم، حديث (102) من حديث حذيفة - رضي الله عنه -. (¬2) أخرجه الإمام مسلم، حديث (123) من حديث جندب بن سفيان البجلي - رضي الله عنه -، وهو عند البخاري من حديثه دون التسمية (صحيح البخاري، حديث (5562) لكنها في رواية أبي عوانة كما ذكر الحافظ في الفتح (12/ 537) وللمزيد لمن رغب ينظر الجامع لأحكام القرآن (1/ 97). (¬3) في سننه (4982) وانظر الجامع لأحكام القرآن (1/ 91، 92) وعزاه للنسائي وكذلك عزاه المنذري، وهو في اليوم والليلة كما في تحفة الأشراف 11/ 165 حديث (15600).

فإذا علم ما تقدم بيانه وتدوينه فإن ما تنشرح إليه النفس هو قراءة ... {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وأنها آية من سورة الفاتحة، فيقرأ بها سرا في الصلاة عملا بما ثبت من حديث أنس وغيره، وإلى هذا ذهب جمع من الصحابة والتابعين والأئمة العلماء من بعدهم، منهم عمر، وعلي، وابن مسعود، وعمار، وابن الزبير، رضي الله عنهم، وهو قول الحكم وحماد، وبه قال الإمام أحمد بن حنبل، وأبو عبيد، وروي عن الأوزاعي، وذكره القرطبي وقال: هذا قول حسن وعليه تتفق الآثار عن أنس ولا تتضاد، ويخرج به من الخلاف في قراءة البسملة (¬1)، ولم نتعرض لأقوال العلماء في الإبانة عن الاسم، أهو المسمى أو غيره، أو صفة له؟ ، وما ذهب إليه أهل الحق، أن الاسم هو المسمى (¬2). تفسير لفظ الجلالة: {اللَّهِ} هو الذي يألهه (¬3)، كل شيء، أي: ذو الألوهية والعبودية على خلقه ¬

(¬1) الجامع لأحكام القرآن (1/ 96). (¬2) انظر (الجامع لأحكام القرآن 1/ 101، 102). (¬3) أي يعبده كل شيء، قال رؤبة في ديوان 1650): لله در الغانيات المده ... سبحن واسترجعن من تألهي أي من تعبدي، انظر (جامع البيان 1/ 123).

تفسير {الرحمن}

أجمعين (¬1)، وهذا الاسم أكبر أسمائه سبحانه وأجمعها، حتى قال بعض العلماء: إنه اسم الله الأعظم، ولم يتسم به غيره سبحانه. ولذلك لم يثنّ ولم يجمع (¬2). تفسير {الرَّحْمَنِ}: قال ابن عباس - رضي الله عنه -: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} اسمان ـــــ يعني لله ـــــ رقيقان أحدهما أرق من الآخر (¬3)، ولكل اسم منهما معنى لا يؤديه الآخر، المعني الذي في تسميته - عز وجل - بـ {الرَّحْمَنِ} أنه تعالى موصوف بعموم الرحمة لجميع خلقه، في الدنيا والآخرة، وتسميته تعالى بـ {الرَّحِيمِ} أنه تعالى موصوف بخصوص الرحمة بعض خلقه {الرَّحْمَنِ} اسم مختص بالله ¬

(¬1) جامع البيان (1/ 123). (¬2) الجامع لأحكام القرآن (1/ 102). (¬3) معالم التنزيل (1/ 38) وفي إسناده إلى ابن عباس - رضي الله عنه - علتان: 1، ـ فيه انقطاع بين الضحاك وابن عباس. 2، ـ بشر بن عمارة ضعيف، وكلتاهما غير مؤثرتين في صحة المعنى، وإنما لا يقطع بأنه من قول ابن عباس - رضي الله عنه -.

- عز وجل -، لا يجوز أن يسمى به غيره، قال الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (¬1)، فعادل الاسم الذي لا يشركه فيه غيره، وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} (¬2)، فأخبر تعالى أن الرحمن هو المستحق للعبادة، ومن أعجب العجب أن مسيلمة الكذاب أخزاه الله تسمى بـ (رحمان) اليمامة، ولم يتسم به حتى قرع مسامعه نعت الكذاب، فألزمه الله تعالى بنعت الكذاب لذلك، وإن كان كل كافر كذابا، فقد صار هذا الوصف لمسيلمة علما يعرف به إلى يوم القيامة. فالله - عز وجل - عمّ المؤمنين والكفار برحمته في الدنيا، فأعطاهم أعظم النعم وهي: إرسال الرسل، وإنزال الكتب، لهدايتهم إلى الخير، وهو ما تحصل به حياة القلوب والأرواح، وزادهم من الأفضال، والإحسان والبسط في الرزق، وتسخير السحاب بالغيث، وإخراج النبات من الأرض، وصحة الأبدان والعقول، وسائر ¬

(¬1) الآية (110) من سورة الإسراء. (¬2) الآية (45) من سورة الزخرف.

تفسير: {الرحيم}.

النعم التي لا تحصى، والتي يشترك فيها المؤمنون والكافرون، كل ذلك من مقتضى اسمه تعالى (الرحمن) فربنا جل ثناؤه، وتقدست أسماؤه، رحمن جميع خلقه، في الدنيا والآخرة (¬1). تفسير: {الرَّحِيمِ}. تقدم القول بأنه تعالى موصوف بخصوص الرحمة بعض خلقه، وذلك في كل الأحوال، أو في بعض الأحوال، فالخصوص الذي في وصفه تعالى بـ {الرَّحِيمِ} لا يستحيل عن معناه في الدنيا، ويكون ذلك في الدنيا أو في الآخرة، أو فيهما جميعا، فإنه تعالى قد خص عباده المؤمنين في عاجل الدنيا، بما لطف بهم من توفيقه إياهم للطاعة، والإيمان به وبرسله، واتباع أمره واجتناب معاصيه، مما خُذِلَ عنه من أشرك به وكفر، ومن خالف ما أمره به، وركب معاصيه، وقد خص الله تعالى عباده المؤمنين في الآخرة بما أعد لهم في جناته، من النعيم المقيم، والفوز المبين، وخصهم برحمته العامة لهم في يوم الجزاء والحساب (¬2)، نسأل الله ¬

(¬1) انظر توثيق ما تقدم في: (جامع البيان 1/ 123 ـ 128 والجامع لأحكام القرآن 1/ 106) بتصرف. (¬2) انظر: جامع البيان (1/ 126) بتصرف.

النظرة الثانية والعشرون تفسير: {الحمد لله رب العالمين}.

- عز وجل - أن يجعلنا من عباده المخصوصين برحمته، وفضله في الدنيا والآخرة. النظرة الثانية والعشرون تفسير: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. قال ابن عباس - رضي الله عنه -: هو الشكر والاستخذاء (¬1)، لله والإقرار بنعمته، وهدايته وابتدائه وغير ذلك (¬2)، ومعناه: الشكر خالصاً لله جل ثناؤه دون سائر ما يعبد من دونه، ودون كل ما برأ من خلقه، بما أنعم على عباده من النعم التي لا يحصيها العدد ولا يحيط بعددها غيره أحد سبحانه، مع ما بسط لهم في دنياهم من الرزق، وغذاهم به من نعيم العيش، من غير استحقاق منهم ذلك عليه سبحانه، فصحح فيهم الآلات لطاعته، ومكن جوارح وأجسام المكلفين من أداء فرائضه، مع ما نبههم عليه ودعاهم إليه، من الأسباب المؤدية إلى دوام الخلود في دار المقام في النعيم المقيم، فلربنا الحمد على ذلك كله أولاً وآخرا، ومن هنا جاءت (الحمد) معرفة بالألف واللام؛ لأن لها معنى لا يؤديه قول القائل: (حمدا) بإسقاط الألف واللام وذلك أن دخولهما في (الحمد) لاستغراق الجنس من ¬

(¬1) فيه معنى الانكسار والاسترخاء والذل، والخضوع والانقياد، انظر (اللسان 14/ 225 ـ 226 وترتيب القاموس 2/ 25). (¬2) أسند أبو جعفر الطبري (جامع البيان 14/ 135) وتكلم في إسناده.

جميع المحامد، والشكر الكامل لله - عز وجل -، فهو وحده يستحق الحمد بأجمعه، إذ له الأسماء الحسنى والصفات العلى، فله الحمد أولا وآخرا، وظاهرا وباطنا على الوجه الذي يرضيه سبحانه، ولهذا العموم في معنى الحمد تتابعت قراءات القراء، وعلماء الأمة على رفع {الْحَمْدُ} دون نصبها، الذي يحيل المعنى (¬1)، وقد تقدم القول في معنى لفظ الجلالة {اللَّهِ}. {رَبِّ}: له معان كثيرة، والمراد به هنا: الخالق المالك الرازق، قال ابن عباس - رضي الله عنه -: يقول ـــ يعني جبريل - عليه السلام - ـــ: قل الحمد لله، الذي له الخلق كله، السماوات كلهن ومن فيهن، الأرضون كلهن من فيهن، وما بينهن، مما يعلم ومما لا يعلم (¬2). {الْعَالَمِينَ} جميع المخلوقات مما تقدم بيانه، مماعلم ومما لا يعلم، مالكهم الله - عز وجل -، وكل من ملك شيئاً فهو ربه، والرب: اسم من أسماء الله - عز وجل -، ولا يقال في غيره إلا بالإضافة، ومن العلماء من قال: إنه الاسم ¬

(¬1) انظر توثيقه في (جامع البيان 1/ 135، 128 ـ والجامع لأحكام القرآن 1/ 133) بتصرف. (¬2) انظر (جامع البيان 1/ 142، 143) في إسناده بشر بن عمارة: ضعيف، ومعناه صحيح.

لنظرة الثالثة والعشرون تفسير: {الله الرحمن الرحيم}.

الأعظم لكثرة الداعين به، فليتأمل ذلك في القرآن الكريم، كما في آخر سورة آل عمران، وسورة إبراهيم، وغيرهما لما يشعر به هذا الوصف من الصلة بين الرب والمربوب، مع ما يتضمنه من العطف والرحمة، والافتقار إليه في كل حال (¬1). النظرة الثالثة والعشرون تفسير: {اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}. تقدم بيان هذا في الآية الأولى، لكن من تمام القول في هذا أن الله - عز وجل - أعاد هذين الاسمين العظيمين من أسمائه الحسنى وكلها عظيمة لما يشعر به قوله تعالى: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} من خوف ورهبة منه تعالى، فهو الخالق المالك المربي المتصرف، قرنه بعد ذلك بقوله: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} لما فيهما من الترغيب في رحمته تعالى وعفوه وكرمه، ليجمع - عز وجل - في صفاته بين الرهبة منه تعالى، والرغبة إليه سبحانه، وهذا منهج الثواب والعقاب في التربية، فيكون أكثر عونا على الطاعة، وأشد تأثيرا في المنع من المعصية، ¬

(¬1) انظر الجامع لأحكام القرآن 1/ 136، 137).

النظرة الرابعة والعشرون تفسير: {مالك يوم الدين}

كما قال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} (¬1)، وأخرج الإمام مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة، ما طمع بجنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة، ما قنط من جنته أحد) (¬2)، نسأل الله تعالى عفوه ورحمته، ونعوذ به من عذابه وسخطه. النظرة الرابعة والعشرون تفسير: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}. اعلم أنه لا يجوز لأحد أن يتسمى بهذا الاسم، ولا يدعى به إلا الله تعالى، فله الملك المطلق في الدنيا والآخرة، لذلك جاءت هذه الآية تذكر جميع الخلق الإنس والجن، أن الله - عز وجل - هو المتفرد مالك يوم الدين، وحده لا شريك له، فكما أن الله تعالى صاحب الملك المطلق في الدنيا، لكنه خول بعض عباده شيئا من صفة الملك في الدنيا، فمنهم سابق بالخيرات، ومنهم مقتصد، ومنهم ظالم لنفسه، اقتضت حكمته تعالى هذا الإيجاد في الحياة ¬

(¬1) الآيتان (49، 50) من سورة الحجر. (¬2) صحيح الإمام مسلم، حديث (23) وانظر (الجامع لأحكام القرآن 1/ 139).

الدنيا، للابتلاء والامتحان، فكان الملك له خالصا يوم الدين، كما قال الله سبحانه وتعالى: {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (¬1). أخرج الشيخان (¬2)، البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (يقبض الله الأرض، ويطوي السماوات بيمينه، ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض). ولما كانت الآخرة دار جزاء وخلود اختص الله - عز وجل - بالملك، لينال العباد جزاء سعيهم في الدنيا، ملوكاً وأمماً، على حد سواء، وسواءً كانوا إنساً أم جناً، وفي الآية والحديث من تنبيه الغافل، وتحريض النابه ما يجعلهما في غاية الحذر والتحسب لهذا الموقف العظيم، وليعلم العبد أنه في قبضة خالقه ينادى على رؤوس الأشهاد، لمن الملك اليوم؟ ، فيدفعه هذا إلى محاسبة النفس في الدنيا، إن كان من ذوي الألباب الموفقين. ¬

(¬1) الآية (16) من سورة غافر. (¬2) البخاري، حديث (4812) ومسلم، حديث (23).

النظرة الخامسة والعشرون تفسير: {إياك نعبد وإياك نستعين}

النظرة الخامسة والعشرون تفسير: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. يلاحظ القارئ هنا أن أسلوب الآيات تحول من الغيبة إلى الخطاب، ولا غرابة في ذلك، ففيه إشارة إلى أن العبد تشبعت روحه بمعرفة الله تعالى وربوبيته للمخلوقات، ومعرفة أسمائه وصفاته، فتحول الخطاب بناء على هذه المعرفة، كأن العبد يرى ربه فيخاطبه، غير شاك في ألوهيته وأسمائه وصفاته، على حد ما ورد في ركن الإحسان، أن تعبد الله كأنك تراه، ثم إن التحول من الغيبة إلى الخطاب أسلوب عربي معروف، والقرآن نزل بلغة العرب، ومن المعقول عن العرب، أن من شأنهم إذا حكوا، أو أمروا بحكاية، أن يخاطبوا ثم يتحولوا إلى الإخبار عن غائب، ويخبرون عن غائب ثم يعودون إلى الخطاب، لما في الحكاية بالقول من معنى الغائب والمخاطب، كقولهم للرجل: قد قلتُ لأخيك، لو قمتَ لقمتُ، وقد قلتُ لأخيك، لو قام لقمتُ. قال أبو كبير الهذلي: يا لهف نفسي كان جِدةُ خالد

وبياض وجهكَ للتراب الأعفر (¬1). ومنه قول لبيد بن ربيعة: باتت تشكى إلي النفس مجهشة وقد حملتكِ سبعا بعد سبعينا (¬2). وفيهما الرجوع إلى الخطاب بعد الغيبة، وهذا في كتاب الله - عز وجل - كثير (¬3). والمعنى: نخصك بالعبادة وحدك لا شريك لك، فنخشع ونذل ونستكين، ولا ريب أن الرجاء والخوف لا يكونان إلا مع ذلة، والعبودية عند العرب الذلة تقول: طريق معبد، أي: مذلل قد وطئته الأقدام، وذللته السابلة: جعلته معبدا، ومن ذلك قول طرفة بن العبد: تُباري عتاقا ناجيات وأتبعت وظيفا وظيفا (¬4) فوق مور معبد (¬5). وقد قدم الضمير {إِيَّاكَ} في الجملتين للإشعار بخصوصية العبادة والاستعانة بالله وحده لا شريك له، ولئلا يتقدم ذكر العبد والعبادة على المعبود، فلا يجوز ¬

(¬1) منسوب لأبي كبير الهذلي، وليس في ديوان الهذليين. (¬2) في ديوانه (ص 225) وقال (قامت) وانظر: (جامع البيان 1/ 153، 154) بتصرف. (¬3) انظر سورة يونس (الآية (22) وسورة الدهر (الآيتين 21، 22). (¬4) المراد به هنا خف الناقة الموصوفة، وانظر (جامع البيان (1/ 161). (¬5) في (ديوانه ص 35).

النظرة السادسة والعشرون تفسير: {اهدنا الصراط المستقيم}

"نعبدك، ونستعينك" ولا "نعبد إياك، ونستعين إياك" فيجب إتباع لفظ القرآن، قال العجّاج: إياك أدعو فتقبل ملقي فاغفر خطاياي وكثر ورقي (¬1). {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} أي بك يا ربنا نستعين على طاعتك وعبادتك، وعلى كل أمورنا في حالنا ومستقبل عمرنا. اللهم إياك نعبد وحدك لا شريك لك، مخلصين لك العبادة، دون ما سواك من الآلهة والأوثان، فأعنا على عبادتك، ووفقنا لما وفقت له من أنعمت عليهم من أنبيائك ورسلك وأهل طاعتك، من السبيل والمنهاج (¬2). النظرة السادسة والعشرون تفسير: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}. لما أكمل الله بيان الأحكام والحلال والحرام، وأقام الحجة بأوضح ما يكون البيان والبرهان، وجه عباده إلى طلب المزيد من الهداية والتوفيق والثبات كما قال ابن عباس - رضي الله عنه - في تفسير هذه الآية: ألهمنا الطريق الهادي، وهو دين الله الذي لا عوج فيه (¬3)، وهو دين الإسلام، وقد فسره بذلك جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - فقال: "الصراط ¬

(¬1) في ديوانه (1/ 178) وفي الجامع لأحكام القرآن (1/ 145). (¬2) جامع البيان (1/ 167، 169). (¬3) أسنده أبو جعفر الطبري (1/ 166، 174).

المستقيم: هو الإسلام" (¬1)، وعن النواس بن سمعان - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ضرب الله صراطا مستقيما، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: أيها الناس أدخلوا الصراط جميعا ولا تفرقوا، وداع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه، فالصراط: الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط: كتاب الله، والداعي من فوق واعظ الله تعالى في قلب كل مسلم) (¬2)، قال الطبري: أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعا على أن (الصراط المستقيم) هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه، وهو كذلك في لغة جميع العرب، فمن ذلك قول جرير بن عطية الخطفي: أمير المؤمنين على صراط إذا اعوج الموارد مستقيم (¬3)، يريد على طريق الحق، ومنه قول الهذلي أبي ذؤيب: ¬

(¬1) أخرجه الحاكم وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه (المستدرك 2/ 446) ووافق الذهبي. (¬2) أخرجه الإمام أحمد (المسند 4/ 182 - 183) وهو حديث حسن في إسناده الحسن بن سوار: صدوق، وبقية رجاله رجال الصحيح، وأخرجه الحاكم وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولا أعرف له علة ولم يخرجاه (المستدرك 1/ 73) ووافق الذهبي. (¬3) في (ديوانه 1/ 218).

النظرة السابعة والعشرون {صراط الذين أنعمت عليهم}

صبحنا أرضهم بالخيل حتى تركناها أدق من الصراط (¬1) النظرة السابعة والعشرون {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}: هذا بيان لنوع الصراط المطلوب الهداية إليه، والثبات عليه، وأنه كما قال ابن عباس: طريق من أنعمت عليهم بطاعتك وعبادتك، من الملائكة والنبيين، والصديقين والشهداء والصالحين، الذين أطاعوك وعبدوك (¬2)، فيكون المعني به: وفقنا للثبات على ما ارتضيته، ووفقت له من أنعمت عليه من عبادك، من قول وعمل، وذلك هو الصراط المستقيم، لأن من وفق لما وفق له من أنعم الله عليه، من النبيين والصديقين والشهداء، فقد وفق للإسلام وتصديق الرسل، والتمسك بالكتاب والعمل بما أمر الله به، والانزجار عما زجر الله عنه، واتباع منهج النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومنهاج أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، رضي الله عنهم، وكل عبد الله صالح، ذلك من الصراط المستقيم (¬3). ¬

(¬1) منسوب لأبي ذؤيب الهذلي، وليس في ديوانه هذا البيت، وهو في تفسير القرطبي (1/ 103) وتفسير الطبري (1/ 170) والدر المصون (1/ 64). (¬2) أسنده الطبري رحمه الله (جامع البيان 1/ 178). (¬3) انظر جامع البيان (1/ 171).

{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} وهنا يتكرر السؤال وطلب العافية، فكما سألوه تعالى أن يهديهم سبيل المؤمنين، سألوه تعالى ألا يضلهم، كما دعوه فقالوا: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} (¬1). والمغضوب عليهم: هم العصاة بمختلف معاصيهم، داخلون في غضب الله - عز وجل - بتفاوت، فأعلاهم اليهود، وأدناهم مرتكب الذنب، فالله - عز وجل - يغضب من عمل الذنوب وإن قلَّت. والضالون: هم الجهّال، أعلاهم النصارى، ضلوا طريق الحق، وأدناهم الجهال من العوام، الذين يجهلون أمور دينهم ودنياهم، وقد ذهب الجمهور من العلماء رحمهم الله إلى أن {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} هم اليهود لتكذيبهم وقتلهم الأنبياء بغير حق، ولقولهم في عيسى - عليه السلام -: إنه ابن زانية، فكذبوا الله، ورموا عيسى وأمه، وتجاسروا على الله سبحانه وتعالى فقالوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} (¬2)، وقالوا: {يَدُ اللَّهِ ¬

(¬1) الآية (8) من سورة آل عمران. (¬2) من الآية (181) من سورة آل عمران.

مَغْلُولَةٌ} (¬1)، فباؤوا بغضب من الله، وهم رأس من غضب الله عليهم من عباده من الإنس، قال الله تعالى: {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} (¬2). أما الضالون: فقال الجمهور: هم النصارى لأنهم اتبعوا الهوى فضلوا في أمر عيسى - عليه السلام -، وقالوا بالتثليث فأفرطوا في اعتقادهم، وجاوزوا الحد في دينهم، وغلوا في أمر نبيهم المسيح - عليه السلام -، فقالوا: إنه إله، وزعموا أنه ابن الله، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، قال الله - عز وجل -: {قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} (¬3). أما المسلمون: فهم أصحاب الصراط المستقيم، والحمد لله كانوا وسطا بين اليهود والنصارى، فاعتقاد اليهود تفريط، واعتقاد النصارى إفراط، والمسلمون وسط بينهم، آمنوا بالله تعالى وما جاء به أنبياؤه ورسله. اللهم أحينا مسلمين مؤمنين، وأمتنا مسلمين مؤمنين، وابعثنا مسلمين مؤمنين، غير خزايا ولا نادمين، والحمد ¬

(¬1) من الآية (64) من سورة المائدة. (¬2) من الآية (61) من سورة البقرة، وفي آيات أخر من كتاب الله العزيز. (¬3) الآية (77) من سورة المائدة.

النظرة الثامنة والعشرون معنى آمين

لله رب العالمين وصلى وسلم وبارك على أنبيائه ورسله أجمعين. النظرة الثامنة والعشرون معنى آمين: أكثر العلماء على أن معنى آمين: اللهم استجب لنا، وضع موضع الدعاء، وهذا قولٌ حسن، فإن الله - عز وجل - جعل الدعاء في الفاتحة على نصفين، النصف الأول منها مجمع الثناء عليه تعالى، والنصف الثاني فيه مجمع حاجات العباد، وحسن أن يختم الثناء والدعاء بطلب القبول والاستجابة فكأن القائل: آمين يقول: اللهم استجب لنا يا ربنا ثناءنا عليك بما أنت أهله، ودعاءنا الذي به تقضي حاجاتنا، وتجعلنا من عبادك المقبولين، وقد كان الصحابة يختمون الدعاء بآمين. في "آمين" لغتان: 1 ــــــ المد على وزن "فاعيل" مثل "ياسين" قال الشاعر في المد: آمين آمين لا أرضى بواحدة حتى أبلغها ألفين آمينا (¬1) 2، ــــــ القصر: على وزن "فعيل" قال الشاعر: تباعد مني فطحل إذ سألته ... أمين فزاد الله ما بيننا بعدا (¬2). ¬

(¬1) لم أقف على قائله وهو في (تفسير ابن عطية 1/ 132) وتفسير القرطبي (1/ 90) والدر المصون (1/ 77). (¬2) لجبير بن الأضبط في (تهذيب إصلاح المنطق ص 439).

النظرة التاسعة والعشرون حكم قول آمين

وهي كلمة عربية لا ريب في ذلك، ومن شدد الميم فقد أخطأ (¬1). النظرة التاسعة والعشرون حكم قول آمين: ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا أمن الإمام فأمنوا، فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة، غفر له ما تقدم من ذنبه) وقال ابن شهاب: "وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: آمين" (¬2). وفي حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أخرجه مسلم وغيره: (وإذا قال: غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فقولوا: آمين يجبكم الله) (¬3). فهذه النصوص وغيرها في نظري دالة على وجوب قول: "آمين" بعد الفراغ من قراءة الفاتحة. وقول القرطبي رحمه الله: ويُسن لقارئ القرآن أن يقول بعد الفراغ من الفاتحة، بعد سكتة على نون {وَلَا الضَّالِّينَ}: آمين، ليتميز ما هو قرآن، مما ليس بقرآن (¬4)، فيه نظر من حيث أن ما ورد من الأمر بقولها، لا ¬

(¬1) انظر توثيق ما تقدم في (الجامع لأحكام القرآن 1/ 127، 128، وروح المعاني 1/ 97) بتصرف. (¬2) متفق عليه: انظر (البخاري، حديث (780) ومسلم، حديث (73 ـ 76). (¬3) مسلم، حديث (62) والجامع لأحكام القرآن 1/ 97). (¬4) الجامع لأحكام القرآن (1/ 127).

النظرة الثلاثون أهمية قول آمين

صارف له عن الوجوب إلى السنية، هذا أولا: والثاني: أن الفاتحة قرآن، وقد قرر ذلك رحمه الله بقوله: "وأجمعت الأمة على أنها ـــــــــ يعني الفاتحة ـــــــــ من القرآن" (¬1)، فالقول بوجوب "آمين" هو الصحيح إن شاء الله، ولا يجوز تعمد تركها، ومن نسيها لا يجب عليه سجود السهو لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان) ولا يعارضه ما ورد فيه النص، وإن أراد بالسنية السكتة ذاتها، ففيه نظر لثبوت النص في المتفق عليه، أن من وافق تأمينه تأمين الملائكة، غفر له ما تقدم من ذنبه، فالمبادرة بآمين مطلوبة لذلك. النظرة الثلاثون أهمية قول آمين: أهمية قول آمين بعد قراءة الفاتحة واضحة مما ورد في النصوص الثابتة من أنها سبب في المغفرة، وقد أخرج أبو داود من حديث أبي زهير النمري (¬2)، قال: "خرجنا مع رسول الله ذات ليله، فأتينا على رجل قد ألحَّ في المسألة (¬3)، فوقف النبي - صلى الله عليه وسلم -، يستمع منه" فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أوجب إن ختم، فقال رجل من القوم: بأي شيْ يختم؟ ، ¬

(¬1) الجامع لأحكام القرآن (1/ 114). (¬2) أسد الغابة وذكر أن أبا زهير كنية لثلاثة اختلف العلماء فيهم فمنهم من عدهم ثلاثة، ومنهم من قال: إنهم شخص واحد وسماه يحي بن نفير (5/ 202). (¬3) يعني الدعاء.

النظرة الحادية والثلاثون الجهر بآمين

قال: بآمين، فإنه إن ختم بآمين فقد أوجب" فانصرف الرجل الذي سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: اختم يا فلان بآمين وأبشر (¬1)، وفي هذا أخبار لا تخلو من مقال وقد يعضِّد بعضها بعضا (¬2). النظرة الحادية والثلاثون الجهر بآمين: الصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله الجهر بآمين للإمام والمأموم، والنصوص الدالة على ذلك كثيرة منها ما تقدم وعقد الإمام البخاري رحمه الله ترجمتين لذلك. قال في الأولى: باب جهر الإمام بالتأمين وقال عطاء: آمين دعاء، أمن ابن الزبير ومن وراءه، حتى إن للمسجد للجة. وكان أبو هريرة ينادي الإمام؛ لا تفتنى بآمين (¬3). وقال في الثانية: باب جهر المأموم بآمين (¬4)، وذكر حديث أبي هريرة المتقدم في آخر المبحث الثالث. ¬

(¬1) سنن أبي داود، حديث (938) وفي إسناده صبيح بن محرز مقبول. (¬2) انظر: (الجامع لأحكام القرآن 1/ 127 ـ 128). (¬3) صحيح الإمام البخاري، حديث (780). (¬4) صحيح الإمام البخاري، حديث (782).

وأخرج أبو داود، والدارقطني (¬1)، من حديث وائل بن حجر - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذا قرأ {وَلَا الضَّالِّينَ} قال: "آمين" ورفع بها صوته، وأخرجه الترمذي وقال: حديث حسن (¬2)، وقال أيضا عقب قول عطاء: وبه يقول غير واحد من أهل العلم، من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن بعدهم، يرون أن يرفع الرجل صوته بالتأمين لا يخفيها، وبه يقول الشافعي، وأحمد، وإسحاق (¬3)، ولا حجة قائمة لمن قال بالإسرار بآمين، بدعوى أنها دعاء، والله - عز وجل - يقول: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} (¬4)؛ لأنه يقال له ثبت ذلك من فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والصحابة رضي الله عنهم، ثم إن إخفاء الدعاء إنما يكون أفضل لما يدخله من الرياء، أما ما يتعلق منه بصلاة الجماعة فشهودها، إشهار شعار ظاهر، وإظهار حق يندب العباد إلى إظهاره، وقد ندب الإمام إلى إشهار قراءة الفاتحة المشتملة على الدعاء والتأمين في آخرها، ¬

(¬1) سنن أبي داوود (1/ 574) وانظر سنن الدارقطني (1). (¬2) سنن الترمذي، حديث (248). (¬3) انظر: (الجامع لأحكام القرآن 1/ 129). (¬4) الآية (55) من سورة الأعراف.

النظرة الثانية والثلاثون كيف يصل المسلم إلى أعلى درجات التقرب

فإذا كان الدعاء مما يسن الجهر فيه فالتأمين على الدعاء تابع له، وجار مجراه وهذا بين (¬1). النظرة الثانية والثلاثون كيف يصل المسلم إلى أعلى درجات التقرب: إن المسلم مأمور باستشعار عظمة الله - عز وجل -، وقدرته سبحانه على الخلق والإحياء، والإماتة والبعث والجزاء، سيما في حال أداء العبادات، ومعروف أن الصلاة عليها مدار العبادات، وفيها مناجاة متكررة في كل وقت أوجب الله - عز وجل - أداء هذه الفريضة العظيمة فيه، قال الله - عز وجل -: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (¬2)، ولما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الإحسان قال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) (¬3)، وهنا يلزم العبد تدبر ما يقرأ حتى يحصل الاستشعار، ويتم الخشوع، ويتحقق له قول الله - عز وجل -: {كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} (¬4)، فإذا ما قرأ الفاتحة متدبرا ظهر له من صفات الربوبية في قوله ¬

(¬1) انظر (الجامع لأحكام القرآن 1/ 120) بتصرف. (¬2) الآيتان (1، 2) من سورة المؤمنون. (¬3) جزء من حديث أبى هريرة عند البخاري، حديث (4777). (¬4) الآية (19) من سورة العلق ..

تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ومن صفات الرحمة في قوله تعالى: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} والملك في قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} وإخلاص العبادة في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ما يجعل المسلم مستشعرا عظمة الله - عز وجل -، كأنه يراه، فيكون قلبه ولسانه يثنيان على الله - عز وجل - بجميع المحامد، وتكون الجوارح في سكون وخشوع كامل، إذ أنه من خلال النصف الأول من الفاتحة استشعر عظمة الله - عز وجل -، من خلال ثنائه وحمده ... الله تعالى، وذكره بالغيبة بأسمائه وصفاته، فلما ... كمل الاستشعار في قلبه وفكره، صارت تلك ... الصفات والمعاني في ذهنه في حكم المشاهد على حد قوله - صلى الله عليه وسلم -: (كأنك تراه) فالتفت عن الغيبة إلى الخطاب ... {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وبهذا الاستشعار وذلك التصور الذهني، والخشوع والتذلل الظاهر بين الجوارح، وصل قارئ الفاتحة إلى أعلى درجات التقرب والعبودية لله وحده لا شريك له، ولم يبق بعد هذا الوصول إلا الطلب من المعبود سبحانه،

{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. الاستعانه هنا لها جانبان: الأول: يخص الاستعانه به سبحانه وتعالى على القيام بما فرض الله - عز وجل -، على عباده من العبادات ومن العون عليها هدايتهم وتوفيقهم لها، ومدهم بالصبر والثبات عليها، قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} (¬1)، وقال تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (¬2)، وفي ذلك حبس للنفس عما حرم الله. الثاني: يخص الاستعانة به سبحانه على ما أباح للعباد من الطيبات من أمور الدنيا البحتة، كحفظ الصحة والكسب الحلال، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (¬3)، وقال - عز وجل -: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ ¬

(¬1) الآية (45) من سورة البقرة. (¬2) الآية (35) من سورة فصلت. (¬3) الآية (15) من سورة الملك.

الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (¬1)، وقال الله سبحانه وتعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} (¬2)، وقال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} (¬3)، وجميع مهام الحياة، وهي تختلف باختلاف الناس، وما خوّلهم الله فيه من التمكين في الأرض، ابتداء من تهذيب النفس وإدارة أمور الأسرة الصغيرة، وانتهاء برعاية الأمة وحفظ حقوقها، وفيه تدخل جميع الحرف والصناعات، من صناعة الإبرة إلى بناء المفاعلات الذرية، لا يتم للمسلم شيء منها إذا لم يستعن بالله - عز وجل -، وإن حصل لغير المسلمين شيء من ذلك، فهو من المتاع الذي وعد الله به {وَإِذْ ¬

(¬1) الآية (32) من سورة الأعراف. (¬2) الآية (20) من سورة المزمل. (¬3) الآية (10) من سورة الجمعة.

قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (¬1)، فكونهم يصلون إلى شيء من ذلك المتاع في الصحة والمال والبنين والقوة في شتّى مناحي الحياة دون استعانة منهم بالله، فقد أخبر تعالى أنهم: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} (¬2)، وقد أمدهم الله بأسباب ذلك متاعا لهم، وهو استدراج لهم من الله، قال تعالى: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} (¬3). أما المسلمون فقد جمع الله لهم بين الدنيا والآخرة، إذا ما تمسكوا بكتاب ربهم وسنة نبيهم، ومن هنا وجب على المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وشمالها وجنوبها، وفي كل شبر منها، شعوبا وحكاما، جماعات ¬

(¬1) الآية (126) من سورة البقرة .. (¬2) الآية (7) من سورة الروم. (¬3) الآية (17) من سورة الطارق.

وأفراداً، يجب عليهم العودة إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله، والعمل بهما نصا وروحا، سالكين المنهج النبوي، والخلافة الراشدة، حذو القذة بالقذة (¬1)، آخذين بأسباب وحدتهم، وقوتهم وعزتهم كما فعل أسلافهم، من الخلفاء الراشدين، ومن بعدهم من الصالحين، من الملوك والقادة الفاتحين، إنهم إذا فعلوا ذلك يستطيع مبعوث المسلمين إلى غيرهم، أن يقول مثلما قال مبعوث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -، الصحابي الجليل، النعمان بن مقرن، إلى يزدجرد ملك الفرس أيام حرب القادسية، في زمن الخليفة الراشد عمر - رضي الله عنه -: قال: "إن الله رحمنا فأرسل إلينا رسولا، يدلنا على الخير ويأمرنا به ـــ إلى قوله ـــ: وأمرنا أن نبدأ بمن يلينا من الأمم فندعوهم إلى الإنصاف، فنحن ندعوكم إلى ديننا، وهو دين الإسلام، دين حسَّن الحسن، وقبّح القبيح كله، فإن أبيتم فأمر من الشر، هو أهون من آخر شرٌ منه: الجزية، فإن أبيتم فالمناجزة، فإن أجبتم إلى ديننا خلفنا فيكم كتاب الله، وأقمناكم عليه، وعلى أن تحكموا بأحكامه ونرجع عنكم، وشأنكم وبلادكم ... . الخ" (¬2)، ولاستطاع أن يفعل مفاوض المسلمين مثلما فعل ربعي بن عامر - رضي الله عنه - حينما دخل على رستم بثياب صفيقة، وسيف وترس وفرس ¬

(¬1) ريش السهم واحدتها: قذّة: أي: كما تقدر كل واحدة على قدر صاحبتها وتقطع، يضرب مثلاً للشيئين يستويان، ولا يتفاوتان. (النهاية 4/ 28). (¬2) البداية والنهاية (7/ 51، 52) ..

قصيرة، ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط ثم نزل وربطها ببعض الوسائد وأقبل وعليه سلاحه ودرعه، وبيضته على رأسه، فقالوا له: ضع سلاحك، فقال: "إني لم آتكم فأضع سلاحي بأمركم، وإنما جئتكم حين دعوتموني، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت، قال رستم: ائذنوا له، فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق فخرق عامتها، فقالوا له: ما جاء بكم؟ ، فقال: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام .. الخ" (¬1). ولَوَقَف موقف المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - من رستم أيضا حينما هدد، واستشاط غضبا من المسلمين وأزبد وأرعد، وقال: أمرت لكم بكسوة ولأميركم ألف دينار وكسوة ومركوب. فقال المغيرة - رضي الله عنه -: "أبعد أن أوهنا ملككم، وضعفنا عزكم، ولنا مدة نحو بلادكم، ونأخذ الجزية منكم عن يد وأنتم صاغرون، وستصيرون لنا عبيدا على رغمكم" (¬2). وهذا غيض من فيض من مواقف المسلمين وقادتهم العظام، حينما كانوا مع الله ورسوله قلبا وقالبا. إن العالم الإسلامي متخم بالدول الإسلامية، الواسعة الأرجاء، المالكة لكثير من الثروات، ذات الدور الفعال في قلب الموازين السياسية والعسكرية في العالم، يلقي ¬

(¬1) البداية والنهاية (7/ 49). (¬2) البداية والنهاية (7/ 50).

بثقل المسؤولية العظمى على الحكام والعلماء، والأعيان والحكماء تجاه دينهم ووحدتهم، وقوتهم وحضارتهم، ويوجب عليهم استغلال الثروات، ومعرفة العلوم والصناعات، ليحفظوا دينهم وحضارتهم، ويقيموا الوزن بالقسطاس المستقيم في شعوبهم، ويكونوا خلفاء الله في الأرض، محققين قول الله - عز وجل -: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} (¬1)، وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (¬2)، وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد، بالسهر والحمى) (¬3)، بهذا يكونون أولياء الله - عز وجل -، وخلفاؤه في الأرض، كما استخلف الذين من قبلهم، ولمثل هذا فليعمل العاملون. ¬

(¬1) الآية (103) من سورة آل عمران. (¬2) الآية (10) من سورة الحجرات. (¬3) أخرجه مسلم، حديث (66) من حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه -.

الخاتمة

الخاتمة إن من أعظم نعم الله - عز وجل - على هذه الأمة أن بعث منها محمدا - صلى الله عليه وسلم -، وأرسله إليها بالهدى ودين الحق، وجعلها خير أمة أخرجت للناس، كرمها بخير رسله، شرفها بدين الإسلام، المنهج الصالح لكل زمان ومكان، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فهو الصراط المستقيم، والمنهج القويم به يسعد البشر، في حياة مليئة بالعدل والمساواة، عامرة بالأمن والاستقرار، وقد تبين لي من هذه النظرات الممتعة في هذه السورة العظيمة ما يلي: 1 ــــ وجوب حمد الله تعالى والثناء عليه بجميع المحامد. 2 ـــ أنه تعالى المتفرد بربوبية عباده، وسائر المخلوقات. 3 ـــ كمال رحمته - عز وجل - لسائر خلقه في الدنيا والآخرة. 4 ـــ التذكير بيوم الحساب والجزاء، وأن الله تعالى هو الملك الديان. 5 ـــ الإرشاد إلى طلب الهداية ووحدة الأمة في المعبود والمتبوع والمنهج. 6 ـــ التحذير من سبل أهل الشرك والزيغ والأهواء. 7 ـــ أن سورة الفاتحة من أعظم السور الموجهة إلى هذه المقاصد. 8 ـــ وجوب الاعتناء بهذه الأمور والتربية عليها من خلال الفاتحة وغيرها من كتاب الله تعالى.

التوصيات

9 ـــ وجوب تفهم الفاتحة فهي ركن من أركان الصلاة، ومن الأذكار النافعة في كل الأحوال. 10 ـــ أن الفاتحة من أعظم شعارات وحدة المسلمين، اعتقادا وقولا وعملا، لا فرق بين عربي وغيره. التوصيات يجب على كل مسلم أن يهتم بالفاتحة تلاوة وفهما، فهي من أركان الصلاة، بصحة تلاوتها تصح الصلاة، وعلى المسلم أن يتعلم من كتاب الله وسنة رسوله ما لا يسعه جهله، ومن ذلك ما يلي: 1 ـــ نوصي كل مسلم أن يعلم أن الدين الإسلامي هو المنهج الأمثل لسعادة البشر. 2 ـــ نوصي كل مسلم أن يعلم أن الدين الإسلامي كفيل بنشر العدل بين الناس، وأنه ناجع في حل الأزمات والمشكلات، العارضة في حياة الناس، في كل زمان ومكان. 3 ـــ نوصي كل مسلم أن يعلم أن الإسلام دين التقدم والرقي، وأنه لا يحرم النظر والبحث في العلوم الكونية، ولا يمنع من تحقيق الأمن والسعادة من خلالها. 4 ـــ نوصي كل مسلم أن يعلم أن الإسلام منهج عبادة، ونظام عمل يدعو إلى التقوى والعلم والمعرفة والابتكار. 5 ـــ نوصي كل مسلم أن يعلم أن الخير فيما أمر به الإسلام، وأن الشر فيما نهى عنه {وَقُلِ اعْمَلُوا

فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (¬1)، وهذه الآية الكريمة وغيرها العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالله تعالى رقيب على أعمال عباده الخير منها والشر، وهو سبحانه بما يعملون عليم {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (¬2). المدينة النبوية في يوم الجمعة 15/ 9 / 1425 هـ ¬

(¬1) الآية (105) من سورة التوبة. (¬2) الآية (88) من سورة هود.

§1/1