النظرات

المنفلوطي

المجلد الأول

المجلد الأول مقدمة ... ذلك بذوقه غير مستعين بمعلم ولا مرشد، وقد ذكر ذلك عن نفسه في مقدمة كتابه النظرات حين سئل كيف يكتب رسائله، فزعم أنه ما استطاع أن يكتب تلك الرسائل التي يعلمونها بهذا الأسلوب الذي يزعمون أنهم يعرفون له الفضل فيه، إلا لأنه استطاع أن يتفلت من قيود التمثل والاحتذاء. ولأنه عمد إلى كتب الأدب فأكثر القراءة فيها، وأحب الأدب حبا جما ملأ ما بين جوانحه، فلم تكن ساعة من الساعات أحب إليه ولا آثر عنده من ساعة يخلو فيها بنفسه، ويمسك عليه بابه، ثم يسلم نفسه إلى كتابه، فيخيل إليه كأنه قد انتقل من هذا العالم الذي هو فيه إلى عالم آخر من عوالم التاريخ الغابر، فيشاهد بعينيه تلك العصور الجميلة عصور العربية الأولى، ويرى العرب في عصور بداوتهم وحضارتهم وألوان حياتهم. وزعم في تلك المقدمة أنه كان لا يحول بينه وبين تلك السعادة التي كان يلقاها في مطالعة هذه الكتب إلا بعض شيوخه الذين لا يرون رأيه فيها، وهم لا يعلمون أنهم حسنة من حسنات الأدب هم وجميع ما يدور به جدار

مسجدهم. وأخذ بعد ذلك يفند أثر الأدب في العلوم اللغوية والدينية وغيرها بحيث استنفذ من النظرات ما يقرب من أربعين صفحة. كان ابن ثلاث عشرة سنة حين دخل الأزهر، واتصل وهو فيه بالإمام الشيخ محمد عبده وتتلمذ عليه في سنيه الأخيرة، وتلقى عنه دروسه العلمية والدينية التي كان يلقيها الشيخ على الطلبة، وذكروا عنه أنه كان من أنجب تلاميذه، فأحبه محمد عبده وأصبح المنفلوطي من أخص أصدقائه، وكان الشيخ يجله ويعجب به كثيرا، وحين أخذ بعض علماء الأزهر يقاومون الإمام محمد عبده وطرقه في تعليم الدين، والتفسير انبرى المنفلوطي يدافع عنه وينقذهم وينقذ طرقهم، ولما توفي الشيخ الإمام حزن عليه المنفلوطي حزنا عظيما ورثاه وانقطع عن الأزهر دون أن يحصل على شهادة العالمية منه، وعاد إلى بلده منفلوط فعاش فيها بضع سنين مشتغلا بأعماله الخاصة. ثم بدأ في سنة 1907 بمراسلة جريدة المؤيد برسائله التي كان ينشرها أسبوعيا تحت عنوان

الأسبوعيات ثم تحت عنوان النظرات، فكانت هذه الرسائل مبدأ شهرته؛ وذلك لجودة إنشائها وبلاغة أسلوبها, واستمر ينشرها نحو عامين. ومع أن الصحافة هي التي فتحت له أبواب الشهرة, وعرفت القراء بأسلوبه الشيق وأدبه الرفيع, فإنه لم يكن راضيا عنها ولا عن أصحابها. وقد ترك عمله فيها كما سنرى. وقبل أن يطبع الجزء الثاني من نظراته ورد إليه كتاب من أديب يعمل في دائرة من دوائر الحكومة, ويتناول معاشا لا بأس به, ويذكر له صاحبنا في هذا الكتاب عن نفسه أن رفاقه يقدرون أدبه، وقد أشاروا عليه أن يستقيل ويشتغل بالصحافة، وهو يلتمس منه أن يشير عليه بما يرى. فكان في جوابه إليه ما يدل على نقمته الشديدة على الصحافة -قال: "أيها الرجل لا تفعل! فإنك إن فعلت خسرت ماضيك من حيث لا ينفعك مستقبلك، فاحذر أن يخدعك عنك خادع واربأ بنفسك أن تكون من الجاهلين". وحمل في رسالته إليه التي نشرها في النظرات حملة شديدة

على أرباب الصحف. وأبدى شفقته وعطفه على أولئك المحررين الذي يكتبون في إدراة الجرائد وتنقضي حياتهم في ذل وضرع ونفاق ورياء إرضاء لمديري الصحف وأصحابها، وعاد باللائمة أخيرا على الأمة التي استهانت بالأدباء، ورمتهم مقيدين بين أيدي أصحاب الصحف السياسيين. وفي سنة 1909 اختارته وزارة المعارف العمومية لوظيفة "محرر عربي" وكان ذلك في عهد وزارة الزعيم الوطني الكبير سعد زغلول باشا، وكان سعد من أصدقائه والمعجبين به. ثم انتقل بعد ذلك إلى "وزارة الحقانية" وبعدها إلى الجمعية التشريعية، ثم إلى قلم "السكرتارية" في الديوان الملكي. وكان في جميع أدوار حياته مثال الجرأة والإخلاص في العمل والصدق والأمانة والخلق العظيم. وعين أخيرا في إحدى وظائف البرلمان المصري وظل فيها إلى أن استأثر الله به. ويجب أن نذكر أنه في أول أدوار حياته حين كان يكتب في الصحافة تصدى لنقد بعض رجال السياسة

"وكان مذهبه السياسي سعديا ولازم هذا المذهب في جميع أدوار حياته، ولما نفي سعد باشا كتب عدة مقالات دافع فيها عنه وحلل فيها بطولته وعظمته. وقد ضمت هذه المقالات إلى الجزء الثالث من كتاب النظرات"1. ومن مواقفه السياسية المشهورة أنه نقم مرة على الخديوي عباس، فنظم قصيدته الشهيرة التي مطلعها: قدوم ولكن لا أقول سعيد ... وملك وإن طال المدى سيبيد ونشرها في جريدة الصاعقة فحجزت نسخ الجريدة، وصورت وحبس واضطهد. وزاد ذلك في شهرته ومقامه. وزعم سليم سركيس أنه تعاظم شوق الناس للاطلاع عليها، ولم يكن سبيل إلى إعادة نشرها فعمد سركيس نفسه إلى الحيلة، وسأل الشيخ عثمان الموصلي أن يشطرها تشطيرا في جريدة المشير جاعلا الأصل بين قوسين وقال: فأدركت غايتي ونجوت من نقمة الحكومة. هذا في الوقت الذي كان شوقي فيه شاعر

_ 1 محي الدين رضا في: كلمات المنفلوطي ص138.

الخديوي يزوره في قصره ويجالسه في حديقة القصر حيث كان للخديوي رغبة فيما يروون في العمل في الحديقة، وكانت بيده مظلة ناولها لشوقي ليستظل بها من أذى الشمس، فقال شوقي. عباس مولاي أهداني مظلته ... يظلل الله عباسا ويرعاه مالي وللشمس أخشى حر هاجرها ... من كان في ظله فالشمس تخشاه ولكنه كان مقربا للبلاط في آخر حياته في عهد الملك فؤاد حيث عمل كاتبا في قلم السكرتارية في الديوان الملكي كما ذكرنا. ولم يعش طويلا فقد وافاه أجله رحمه الله يوم الخميس في 12 "حزيران" "يونيه" سنة 1924 "10 ذي الحجة 1342" في اليوم نفسه الذي جرت فيه محاولة لاغتيال زعيم الوفد المرحوم سعد زغلول باشا، وجرح فشغل أكثر الناس بتلك الحادثة عن الالتفات إلى مأتمه كما يجب، ويقال أن سعد نفسه لما علم بوفاته جزع عليه جزعا شديدا وبكى. ولم يفت الشاعرين

الكبيرين في مصر شوقي وحافظ حين رثياه في حفلات المآتم التي أقيمت له أن يشيرا إلى هذا التصادف الغريب، فقال شوقي في حفلة نادي الحقوق في حديقة الأزبكية، من قصيدة من أربعين بيتا: اخترت يوم الهول يوم وداع ... ونعاك في عصف الرياح الناعي هتف النعاة ضحى فأوصد دونهم ... جرح الرئيس منافذ الأسماع من مات في فزع القيامة لم يجد ... قدما تشيع أو حفاوة ساع ما ضر لو صبرت ركابك ساعة ... كيف الوقوف إذا أهاب الداعي خل الجنائز عنك لا تحفل بها ... ليس الغرور لميت بمتاع سر في لواء العبقرية وانتظم ... شتى المواكب فيه والاتباع وقال حافظ: مت والناس في مصابك في "م" ... شغل بجرح الرئيس حامي الحماة

شغلوا عن أديبهم بمنجيهم "م" ... فلم يسمعوا نداء النعاة وافاقوا بعد النجاة فألفوا ... منزل الفضل مقفر العرصات قد بكاك الرئيس وهو جريح ... ودموع الرئيس كالرحمات وانبرى الشعراء من كل الأقطار العربية ينظمون المراثي في تأبينه في العراق والشام ولبنان ومصر، بحيث زادت القصائد التي قيلت في رثائه عن الثلاثين هذا عدا الرسائل والخطب التي قيلت في حفلات التأبين المختلفة في أندية بيروت والشام ومصر وفي المجامع العلمية وغيرها. أما مؤلفاته فهي كتاب "النظرات" وهو مجموعة رسائل اختارها مما كتبه في جريدة المؤيد، وغيرها من الصحف والمجلات، ومما كتبه من الرسائل ولم ينشر، وما نظمه من المقطعات والقصائد. وهو في ثلاثة أجزاء ظهر الأول منها في طبعته الأولى سنة 1910 وفي مقدمته ترجمة لحياته بقلم حافظ عوض استعنا بها

المقدمة

المقدمة: يسألني كثير من الناس كشأنهم في سؤال الكتاب والشعراء، كيف أكتب رسائلي؟ كأنما يريدون أن يعرفوا الطريق التي أسلكها إليها فيسلكوا معي، وخير لهم ألَّا يفعلوا، فإني لا أحب لهم ولا لأحد من الشادين في الأدب أن يكونوا مقيدين في الكتابة بطريقتي أو طريقة أحد من الكتاب غيري، وليعلموا إن كانوا يعتقدون لي شيئا من الفضل في هذا الأمر أني ما استطعت أن أكتب لهم تلك الرسائل التي يعلمونها بهذا الأسلوب الذي يزعمون أنهم يعرفون لي الفضل فيها إلا لأني استطعت أن أتلفت من قيود التمثل والاحتذاء، وما نفعني في ذلك شيء ما نفعني ضعف ذاكرتي، والتواؤها علي وعجزها عن أن تمسك إلا قليلًا من المقروءات التي كانت تمر بي، فلقد كنت أقرأ من منثور القول ومنظومه ما شاء الله أن أقرأ، ثم لا ألبث أن أنساه فلا يبقى منه في ذاكرتي إلا جمال آثاره وروعة حسنه، ورنة الطرب به، وما أذكر أني نظرت في شيء من ذلك لأحشو به حافظتي، أو أستعين به على تهذيب بياني، أو تقويم لساني، أو تكثير مادة علمي باللغة والأدب، بل كل ما كان من

أمري أنني كنت امرأ أحب الجمال وأفتتن به، كلما رأيته في صورة الإنسان، أو مطلع بدر، أو مغرب الشمس، أو هجعة الليل، أو يقظة الفجر، أو قمم الجبال، أو سفوح التلال، أو شواطئ الأنهار، أو أمواج البحار، أو نغمة الغناء، أو رنة الحذاء، أو مجتمع الأطيار، أو منتثر الأزهار، أو رقة الحس، أو عذوبة النفس، أو بيت الشعر، أو قطعة النثر، فكنت أمر بروض البيان مرًّا، فإذا لاحت لي زهرة جميلة بين أزهاره تتألق في غصن زاهر بين أغصانة، وقفت بين يديها وقفة المعجب بها الحاني عليها المستهتر بحسن تكوينها، وإشراق منظرها من حيث لا أريد اقتطافها أو إزعاجها من مكانها، ثم أتركها حيث هي، وقد علقت بنفسي صورتها إلى أخرى غيرها، وهكذا حتى أخرج من ذلك الروض بنفس تطير سرورًا به، وتسيل وجدا عليه، وما هو إلا أن درت ببعض تلك الرياض بعض دورات، ووقفت على أزهارها بعض وقفات، حتى شعرت أن قد بدلت بنفسي نفسا غيرها، وأن بين جنبي حالا غريبة لا عهد لي بمثلها من قبل، فأصبحت أرى الأشياء بعين غير التي كنت أراها بها. وأرى فيها من المعاني الغريبة المؤثرة ما يملأ العين حسنا، والنفس بهجة، فقد كنت أرى الناس فرأيت نفوسهم، وأرى الجمال فرأيت لبه

وجوهره، وأرى الخير فرأيت حسنه، وأرى الشر فرأيت قبحه، وأرى النعماء فرأيت ابتساماتها، وأرى البأساء فرأيت مدامعها، وأرى العيون فرأيت الحر السحر الكامن في محاجرها، وأرى الثغور فرأيت الخمر المترقرقة بين ثناياها، وكنت أرى الشمس فرأيت خيوطها الفضية الهفافة بين السماء والأرض، وأرى القمر فرأيت شعاعه كأنما يهم أن ينبسط حتى يفيض عن جوانبه فيضا، وأرى الفجر فرأيت بياضه وهو يدب في تجاليد1 الظلام دبيب المشيب في تجاليد الشباب، وأرى النجوم فرأيت عيونها الذهبية تطل على الكون من فروج قميص الليل، وأرى الليل فرأيته، وهو يهوي بأجنحته السوداء إلى الأرض هوى الكرى إلى الأجفان، وكنت أسمع خرير المياة فسمعت مناجاتها، وحفيف الأوراق ففهمت نغماتها، وتغريد الأطيار فعرفت لغاتها، فأحببت الأدب حبا جما ملأ ما بين جانحتي، فلم تكن ساعة من الساعات أحب إلي ولا آثر عندي من ساعة أخلو فيها بنفسي، وأمسك علي بابي ثم أسلم نفسي إلى كتابي فيخيل إلي كأني قد انتقلت من هذا العالم الذي أنا فيه إلى عالم آخر من عوالم التاريخ الغابر، فأشاهد بعيني تلك العصور الجميلة عصور العربية الأولى، وأرى العرب

_ 1 التجاليد الجسم.

في جاهليتها بين خيامها وأخبيتها، وأطنابها وأعوادها، وإبلها وشائها، وشيحها وقيصومها، وأرى مساجلاتها ومنافراتها، وحبها وغرامها، وعفتها ووفاءها، وصبرها وبلاءها، وحداءها وغناءها، وأسواق شعرائها، ومواقف خطبائها، وفقرها وإقلالها، وشحوب وجوهها، وسمرة ألوانها، وضوى أجسامها، وترددها في بيدائها بين حمارة1 القيظ وصبارة2 البرد، وتنقلها من صحراء إلى ريف، ومن مشتى إلى مصيف، ومن نجد إلى وهد، ومن شرف إلى غور، وانتجاعها مواقع الغيث، ومنابت العشب، وقناعتها من الطعام بأحفان التمر، وقعاب اللبن وأصوع الشعير، فإذا جد الجد أكلت القد3 واشتوت الجلد، وتبلغت بالضب واليربوع وعراقيب الآبال وأظلاف الأبقار، واكتفاءها من اللباس بأكسية الكرابيس وأردية الأشعار، وقُمص الأوبار، فإذا أعوزها ذلك لبست الظل، وافترشت الرمل، غير ناقمة ولا ساخطة ولا متبرمة بقضاء الله وقدره في قسمه أزراقه بين عباده ولا باكية حظها من رخاء العيش ولينه، ثم أراها بعد ذلك وقد أنعم الله عليها بنعمة المدينة الإسلامية، فأرى رغد عيشها، ولين طعامها، واعشوشاب جانبها، وعذوبة مواردها ومصادرها، وسرورها

_ 1 شدة الحر. 2 شدة البرد. 3 السير يقد من جلد.

وغبطتها بما أفاء الله عليها من ذخائر الفرس وأعلاق الروم، وامتلاء قصورها باللؤلؤ المنظوم من القيان، واللؤلؤ المنثور من الولدان، وأرى مجالس غنائها، ومجامع أنسها، ومسارح لهوها، ومجالات سبقها، وملاعب جيادها، ومذاهب طرائدها، ومواقف حجها، وازدحام شعرائها على أبواب أمرائها، وجوائز أمرائها في أيدي شعرائها، وانطلاق ألسنتها بوصف ما تشاء من الأعواد والبرابط والمعازف والمزاهر والأقداح والدنان والموائد، والصحف وألوان الطعام حلوه وحامضه، وأصناف الشراب حلاله وحرامه، والطيور المحلقة في الأجواء، والسفن الذاهبة في الدأماء1، والرياض الخضراء، والغابات الشجراء، والقصور وتماثيلها، والبحيرات وأسماكها، والأنهار وشواطئها، والأزهار ونفحاتها، والغيوث قطراتها، ودبيب الحب في القلب، والغناء في السمع، والصهباء في الأعضاء، وخلجة الشك، ولمحة الفكر، وبارقة المنى، ثم لا أشاء أن أرى بين هذا وذاك خلقا عذبا، أو أدبا غضا، أو حبًا وفيًا، أو مجونا مستظرفا، أو حوارًا مستلمحًا، إلا وجدته، ولا أن أسمع ما تهتف به العاتق في خدرها، وما يحدو به الحادي في أعقاب إبله، وما يتغنى به العاشق، وما يهذي به الشارب

_ 1 الدأماء: البحر.

وما يترنم به الشادي، وما يساجل به الماتح1 إلا سمعته، ولا أن أعلم ما يهجس في نفس المحب إذا اشتمل عليه ليله، والحائر إذا ضل به سبيله، والثاكل إذا فجعت بواحدها، والموتور إذا حيل بينه وبين واتره، والكريم إذا لاح له منظر من مناظر البؤس والشقاء، والغريب في دار غربته، والسجين بين جدران سجنه، والخائف إذا وقف بين الرضا والغضب، والمقدم للقتل إذا وقف بين الرجاء واليأس، والبائس إذا أعوزه القوت، واليائس إذا أعوزه الموت، والعزيز إذا ذل، والمشرف إذا هوى، والشريف إذا عبث بشرفه عابث، والغيور إذا لمس عرضه لامس، إلا علمته، ولا أن أعرف خلق الدهر في تنقله بالناس ما بين رفع وخفض، وجدة وفقر، ونعيم وبؤس، وإقبال وإدبار، ولا أثر يده السوداء في خراب القصور، وخلاء الدور، وإقفار المغاني، وتصويح الرياض، إلا عرفته، فكنت أجد في نفسي من اللذة والغبطة بذلك كله ما لا يقوم به عندي كل ما ينعم به الناعمون من رغد في العيش ورخاء حتى ظننت أن الله سبحانه وتعالى قد صنع لي في هذا الأمر، وأنه لما علم أنه لم يكتب لي في لوح مقاديره ما كتب للسعداء، والمجدودين من عباده من مال أو جاه أعيش

_ 1 الماتح المستقى على البئر.

في ظله، وأنعم بثمرته، زخرف لي هذا الجمال الخيالي البريء من الريبة والإثم وزوّره1 لي تزويرا بديعا، ووضع لي فيه من الملاذ والمحاسن مالم يضع لغيري رحمة بي، وإرعاء علي أن أهلك أو يهلك لبي بين اليأس القاتل، والرجاء الكاذب، وهكذا لا أزال محلقا في هذا الجو البديع من الخيال أضحك مرة، وأكتئب أخرى، وأتغنى حينا وأبكي أحيانا، حتى يرميني الباب ببعض الطارقين أو يستعيد إلى نفسي مستعيد. ولم يكن حولي لذلك العهد ممن يستعين بمثلهم مثلي على الأدب أحد؛ لأنني كنت أعيش في مفتتح عهدي به، ولم أكن زاهيت إذ ذاك الثالثة عشرة من عمري بين أشياخ أزهريين من الطراز القديم لا يرون رأيي فيه، ولا يتعلقون منه بما أتعلق، فكانوا يرون أن التوفر عليه أو الألمام به عمل من أعمال البطالة والعبث، وفتنة من فتن الشيطان، فكان الذين يتولون أمري منهم لا يزالون يحولون بيني وبينه كما يحول الأب بين ولده وبين ما يعرض له من فتن الهوى ونزغات الصبوة ضنا بي يزعمون أن أنفق ساعة من ساعات دراستي بين لهو الحياة ولعبها، فكنت لا أستطيع أن ألم بكتابي إلا في الساعة التي آمن فيها على نفسي أن يلموا

_ 1 زوره حسنه وقومه.

بأمري وقليلا ما كنت أجدها، وكثيرا ما كانوا يهجمون مني على ما لا يحبون، فإذا عثروا في حقيبتي أو تحت وسادتي أو بين لفائف ثوبي على ديوان شعر أو كتاب أدب خيل إليهم أنهم قد ظفروا بالدينار في حقيبة السارق، أو الزجاجة في جيب الغلام، أو العشيق في خدر الفتاة، فأجد من البلاء بهم، والغصص بمكانهم، ما لا يحتمل مثله مثلي، وهم لا يعلمون أحسن الله إليهم أنهم وجميع من يدور به جدار مسجدهم حسنة من حسنات الأدب الذي ينقمون منه ما ينقمون، ويد من أياديه البيضاء على هذا المجتمع البشري، فلولا الأدب ما استطاع أئمتهم المجتهدون فهم آيات الكتاب المنزل، ولا استنباط تلك الأحكام التي دونوها لهم وتركوها بين أيديهم يستغلونها كما يستغل المالك ضيعته، ويعيشون في ظلها عيش السعداء المترفين، ولولاه ما استطاع علماؤهم اللغويون أن يورّثوهم هذه العلوم اللغوية التي يدرسون اليوم نحوها وتصريفها وبيانها ومعانيها في مجالس علمهم، ويدلون بمكانهم منها على الناس جميعا، كما لا يعلمون أن الأدب هو خير ما يستعين به متعلم على علم، وأن الذوق الأدبي الذي يستفيده المتأدب من دراسة الأدب ومزاولته هو الميزان الذي يزن به ما يحاول فهمه من عبارات العلوم وأساليبها، والدليل الذي يتسمّته

ويترسم مواقع أقدامه في فهم أصول الدين؛ ليكون مجتهدا أن استطاع أو واقفا على منازع المجتهدين، واللسان الذي يستعين به على الإفضاء بأدق أغراضه وأعمقها وأقصاها مكانا من قلبه ليكون إنسانا ناطقا، ومعلما نافعا، ولو أن هؤلاء الزارين على الأدب من علماء الدين وشيوخه وهم اليوم والحمد لله قليل بل هم في طريق الفناء والانقراض قد تعلقوا منه بما كان يتعلق به أسلافهم وأئمتهم من قبل لنالوا به في دينهم خيرا كثيرا، ولا ستدفعوا به عن أنفسهم في أمره شرًّا عظيمًا، فما زال الدين واضح المنهج قائم الحجة، وما زالت آيات الكتاب ومتون الأحاديث سائغة هنيئة لا يلحقها الريب ولا يحيط بها الشك، ولا تطير بجنباتها الأوهام والظنون حتى جهل علماء الدين الأدب ففسدت أذواقهم، وضلت أفهامهم، فكثر بينهم التأويل والتخريج، ووهت تلك العقدة الوثيقة بين الألفاظ والمعاني، واسترخت عراها من أيديهم، فأصبح كل لفظ في نظرهم محتملا لكل معنى حتى ما يأبى أحدهما على الأخر شيئا، وتهافت ذلك الحاجز الحصين الذي كان قائما بين الحقيقة والمجاز، والحقيقة والخيال، فبغى بعض الكلم على بعض وعاث كل منهما في تربة صاحبه إقبالا وإدبارا، وجيئة وذهوبا، وصعودا ونزولا، فاستطاع الواغلون في الدين والناصبون له أن يدخلوا

عليه من الأحاديث المنحولة الغريبة في أساليبها عن منهاج العرب ومناحيهم مالا يضبطه الحساب كثرة، فهلكت الأمة بين هذا وذاك هلكا لا تزال تتجرع كأسه المريرة حتى اليوم. فالحمد لله أولا، وللأدب ثانيا على نجاتي منهم فيما كانوا يرومون بي، ويحاولون مني، بل أحمد الله إليهم كذلك فقد كفيت بهم وبسوء رأيهم في الأدب ونقمتهم عليه شر من يدخل بيني وبين نفسي في المفاضلة بين شاعر وشاعر، وكاتب وكاتب، أو الموازنة بين أسلوب وأسلوب، وديباجة وأخرى، فلم يكن لي عون على ذلك كله غير شعور نفسي، وخفوق قلبي خفقة السرور أو الألم إن مر بي ما أحب أو ما أكره من حسنات القول أو سيئاته من حيث لا أعرف سبيل ذلك ولا مأتاه، فكان شأني في ذلك شأن السامع الطروب الذي تطربه نغمة وتزعجه أخرى، فيطير بالأولى فرحا، وبالثانية جزعا، ولقد يكون ضعيف الإلمام بضروب الإيقاع وقواعد النغم، فكنت لا أقرأ إلا ما أفهم، ولا أفهم إلا ما أشعر أنه قد خرج من فم قائله خروج السهم من القوس، فإذا هو في كبد الرمية ولبها، فإن رأيت أن المعنى قد قام دونه ستار من التراكيب المتعاظلة، والأساليب الملتوية، علمت أن القائل إما ضعيف المادة اللغوية، فهو يعجز عن الإفضاء بما في نفسه

لأنه لا يعرف كيف يفضي به، وإما جاهل لم يستوِ له المعنى الذي يريده كل الاستواء، ولم يدر في جوانب نفسه حتى يستقر في قراره منها، فهو يتخيله تخيلا، ويجمجمه ويهذي به هذيانا فلا سبيل له إلا الإفصاح عنه، وإما داهية محتال قد علم أن المعنى الذي يجول في نفسه، ويشتمل عليه خاطره تافه مرذول، وكان لا بد له أن ينفقه1 على الناس ويزخرفه لهم ويزوره2 في أعينهم، فهو يكسوه أسلوبا غامضا؛ ليكدهم ويجهدهم في سبيله حتى إذا ظفروا به بعد ذلك، خيل إليهم أنهم قد ظفروا بمعنى غريب، أو خاطر بديع، ووجدوا فيه عند الوصوص إليه من اللذة والمتعة ما يجد الظامئ في ضحضاح3 الماء الكدر إذا أبعد النُّجعة في طلبه، ووصل إليه بعد الجهد والإشفاء، وإما عاجز ضعيف القوة النفسية قد علم أن ضعفاء الافهام من الناس، وهم سواد الأمة، ودهماؤها لا يرضون عن معنى من المعاني، ولا يستسنون4 قيمته، ولا يقيمون له وزنا إلا إذا جاءهم في جلدة من الألفاظ المتكرسة المتقبضة، وأنهم إذا ورد عليهم أثمن المعاني وأغلاها،

_ 1 ينفقه بالتشديد: يجعله نافقًا أي رائجا. 2 زور الشيء: حسَّنه وزخرفه. 3 الضحضاح: الماء القليل في قعر البئر. 4 استسنى فيمته: رآها سنية رفيعة.

وأكرمها جوهرا، وأطيبها عنصرا، في ثوب من الأساليب الرقيقة الشفافة ذهب بهم الوهم إلى أنه ما جاءهم على هذه الصورة إلا لأنه ساقط مبتذل، أو سوقي مطروق، فاحتقره وازدروه، وكان يرى لضعف حيلته وسقوط همته أن لا بد له من موافاة رغبتهم، وبلوغ رضاهم، والنزول على حكمهم، فتجمل لهم باللكنة والعي، وتملقهم بالغموض والإبهام، وإما أعجمي يظن أن اللغة العربية حروف وكلمات، وهو لا يعرف منها غيرهما، فينطق بشيء هو أشبه الأشياء بما يترجمه بعض المترجمين من اللغات الأعجمية ترجمة حرفية، فإن نعيت عليه غرابة أسلوبه واستعجامه والتواءه على الفهم كان مبلغ ما ينضح به عن نفسه أن المعاني العصرية والخيالات الحديثة لا يستطاع إلباسها إلا كيسة البدوية، والأردية العربية، كإنما هو يظن أن المعاني والخواطر خطط وأقسام، وبقاع وضياع، هذا للشرق وهذا للغرب، وهذا للعرب وهذا للعجم، أما الحقيقة التي لا ريب فيها فهي أن الرجل لا ينتزع تلك المعاني من قرارة نفسه، ولا يصور فيها صورة عقله، وإنما هو مترجم قد عثر بتلك المعاني في اللغة الأعجمية التي يعرفها لاصقة بأثوابها الأصلية، فلما أراد أن يفضي بها إلى العرب، وكان غير مضطلع بلغتهم، ولا متمكن من أساليبهم عجز عن أن ينزع عنها

أثوابها اللاصقة بها، فنقلها إليهم كما هي إلا ما كان من تبديل حرف بحرف أو كلمة بأخرى من حيث يظن أنه يهتف بشيء قام في نفسه أو يفضي بخاطر من خواطر قلبه، وإما شحيح يأبى له لؤم نفسه، وخبث فطرته أن يمنح الناس منحته سائغة هنيئة دون أن يكدرها عليهم بالمظل والتسويف والممانعة والمحاولة. والشح خلق إذا نزل منزله من نفس صاحبه أقام من نفسه حارسا يقظا على كل حاسة من حواسه الباطنة، والظاهرة حتى لا يجد فيه واجد مصطنعا، ولا يظفر منه معتصر ببلة، فيضن بعلمه، كما يضن بماله، ويقبض لسانه عن النطق، كما يقبض يده عن الإنفاق، ويصرد1 عطاءه تصريدًا ليستديم به حاجة الناس إليه، كما يجيع كلبه ليتبعه، ولعنه الله والملائكة والناس أجمعين، على العجزة والجاهلين، والمحتالين والكاذبين، والأشحاء والباخلين. وكان أشعر الشعراء عندي، وأكتب الكتاب سواء في ذلك المتقدم والمتأخر والنابه والخامل أوصفهم لحالات نفسه أو أثر مشاهد الكون فيها، وأقدرهم على تمثيل ذلك، وتصويره للناس تصويرا صحيحا كأنما هو يعرضه على أنظارهم عرضا، أو يضعه في أيديهم وضعا، فإن ظننت أن القائل كاذب فيما يقول، أو

_ 1 صرد العطاء أعطاه قليلا قليلا.

أنه يرسم صورة غير الصورة التي تتلجلج في نفسه، أو أنه لغوي يفر من ضعف أسلوبه، وفساد نظمه إلى أكمة من الألفاظ الغريبة والتراكيب المستوعرة يكمن وراءها، أو ناقل يتخذ الكتابة حقيبة يحشوها بالمسائل العلمية أو الوقائع التاريخية حشوا، أو مترجم ينقل عن اللغة الأعجمية التي يعرفها آراء علمائها وخيالات شعرائها، وكأنما هو صاحبها، أو شعرت أنه قد مر بخاطره، وهو ينطق بكلمته أن يكون بليغا فيها أو مبدعا ليعجب الناس منها، كان لكل حظه مني أن أعرف له قدره في العلم، ومنزلته من الذكاء والفهم، إن أحسن فيما يقول، ولكنني لا أعده كاتبا ولا شاعرا؛ لذلك كان أغزل الغزل عندي غزل العاشقين، وأفضل الرثاء رثاء الثاكلين، وأشرف المدح مدح الشاكرين، وخير العظات عظات المخلصين، وأجمل البكاء بكاء المنكوبين، وأحسن الهجاء هجاء الصادقين، وأبرع الوصف وصف الرائين المشاهدين. ولا أدري ما الذي كان يعجبني في مطالعاتي من شعر الهموم والأحزان، ومواقف البؤس والشقاء وقصص المحزونين والمنكوبين خاصة، فقد كان يعجبني كل العجب ويبكيني أحر البكاء، وأشجاه شقاء المهلهل في الطلب بثأر أخيه، وشقاء

امرئ القيس في الطلب بثأر أبيه، وبكاء جليلة أخت جساس على زوجها وأخيها، وبكاء عدي بن زيد على نفسه في سجن النعمان، وبكاء متمم بن نويرة على أخيه مالك حتى دمعت عينه العوراء، وبكاء ليلى بنت طريف على أخيها الوليد، وهيام أم حكيم زوج عبيد الله بن العباس في المواقف والمواسم تنشد طفليها الذبيحين، وبكاء الشريف على المناذرة في خرائب الحيرة، وبكاء أبي عبادة على الأكاسرة في خرائب المدائن، وبكاء الرضى على بني هاشم، وبكاء العبلي على بني أمية، وبكاء الرقاشي على بني برمك، وذل أبي فراس في أسره، والمعتمد بن عباد في سجنه، وبكاء الوزير ابن زيدون على نفسه مرة وعلى ولادة أخرى، وبكاء ابن مناذر على عبد المجيد، والبحتري على المتوكل، وابن اللبانة على ابن عباد، والتيمي على يزيد بن مزيد، ومروان بن حفصة على معن بن زائدة، وجنون المجنون بليلاه وجلوسه في جنبات الحي منفردا عاريا مذهوب اللب مشترك العقل يهذي، ويخطط في الأرض ويلعب بالتراب، ثم هيامُه بعد ذلك مع الوحش في البرية لا يأكل إلا ما ينبت فيها من بقل، ولا يشرب إلا مع الظباء إذا وردت مناهلها، وراحته إلى الطريق يصدع مع مصعديه، وينحدر مع منحدريه، حتى هلك في أرض مقشعرَّة

مغبرة بين الصخور والأحجار، وشقاء قيس لبنى بلبناه بعد أن طلقها برَّا بوالده، ونزولا على حكمه، وذهاب الحب به بعد ذلك كل مذهب، حتى هلك بين الوفاء للفضيلة والوفاء للحب، وموقف جميل بن معمر بين يدي أبيه، وهو يعتب عليه أشد العتب، وأمره في استهتاره بحب بثينة ومخاطرته بنفسه في الألمام بحبها فيقول: يا أبت هل رأيت قبلي أحد أقدر أن يدفع عن قلبه هواه أو ملك أن يسلى نفسه أو استطاع أن يدفع ما قُضي به عليه، والله لو قدرت أن أمحود ذكرها من قلبي أو أزيل شخصها من عيني لفعلت، ولكن لا سبيل إلى ذلك، وإنما هو بلاء بيت به لحين قد أتيح لي، وأنا أمتنع من طروق هذا الحي والإلمام به، ولو مت كمدا وهذا جهدي ومبلغ ما أقدر عليه، وبكاء النبي صلى الله عليه وسلم عند ما سمع قيس بن عاصم يحدث عن نفسه أنه كان يئد بناته في الجاهلية، وأن واحدة منهن ولدتها أمها، وهو في سفر فدفعتها إلى أخوالها ضنا بها على الموت واشفاقا عليها، فلما عاد وسألها عن الحمل، قالت له: إنها ولدت مولودا ميتا، ثم مضت على ذلك سنون عدة حتى كبرت البنت، ويفعت فزارت أمها ذات يوم فرآها عندها، فأعجب بجمالها وعقلها وذكائها، وسألها عنها فحدثته حديثها على وجهه، ولم يكتمه شيئا منه طعما في أن يضمها إليه ويمنحها رحمته وعطفه

فأمسك عنها أياما ثم تغفل أمها عنها ذات يوم، وخرج بها إلى الصحراء حتى أبعد فاحتفر لها حفرة، وجعلها فيها فجعلت تقول: يا أبت ما تريد أن تصنع بي؟ وما هذا الذي تفعل؟ وهو يهيل عليها التراب، ولا يلتفت إليها وهي تئن وتقول: أتاركي أنت يا أبت وحدي في هذا المكان، ومنصرف عني؟ حتى واراها وانقطع أنينها، وبكاء الأعرابية التي مات منها ولدها في دار غربة، فدفنته ثم وقفت على قبره تودعه، وتقول: والله يا بني لقد غذوتك رضيعا، وفقدتك سريعا، وكأن لم يكن بين الحالين مدة ألتذ بعيشك فيها، فأصبحت بعد الغضارة والنضارة ورونق الحياة والتنسم بطيب روائحها تحت أطباق الثرى جسدا هامدا ورفاتا سحيقا، وصعيدا جزرا، اللهم إنك قد وهبته لي قرة عين فلم تمتعني به كثيرًا، بل سلبتنيه وشيكًا، ثم أمرتني بالصبر، ووعدتني عليه الأجر، فصدقت وعدك، ورضيت قضاءك، فارحم الله غربته، وآنس وحشته، واستر عورته، يوم تنكشف الهنات والسوآت، واثكل الوالدات ما أمض حرارة قلوبهن، وأقلق مضاجعهن، وأطول ليلهن، وأقل أنسهن، وأشد وحشتهن، وأبعدهن من السرور، وأقربهن من الأحزان، وشقاء ذينك البائسينالمنكوبين عروة بن حزام وعفراء بنت عقال ومناصبة الدهر لهما

وانقطاع سبيله بهما حتى أصبحت زوجا لغيره وأصبح من بعدها هائما مختبلا يرمى بنفسه المرامي ويقذف بها في فجاج الأرض ومخارمها حتى بلغ منزلها ذات يوم فتنكر حتى زارها وهو يظن أن زوجها لا يعلم من أمره إلا أنه أحد الأضياف الغرباء، فلما علم أنه يعرف حقيقة أمره وأنه على ذلك لا يتهمه ولا يتنكر له عزم على الانصراف حياء منه، وقال لها يا عفراء أنت حظي من الدنيا وقد ذهبت فذهبت دنياي بذهابك فما قيمة العيش من بعدك، وقد أجمل هذا الرجل عشرتي واحتمل لي ما لا يحتمله أحد لأحد حتى استحييت منه، وإني راحل من هذا المكان، وإني عالم أني أرحل إلى منيتي، وما زال يبكي، وتبكي حتى انصرف، فلما رحل نكس بعد صلاحه وتماسكه وأصابه غشى وخفقان فكان كلما أغمى عليه ألقى على وجهه خمارا لعفراء كانت زودته إياه، فيفيق حتى بلغ حيَّه، وأمسك عاما كاملا لا يسمع منه سامع كلمة، ولا أنَّة حتى بلغ منه اليأس فسقط مريضا، فمر به بعض الناس فرآه ملقى بجانب خبائه فسأله هما به فوضع يده على صدره، وقال: كأن قطاة علقت بجناحها ... على كبدي من شدة الخفقان ثم شهق شهقة كان نفسه فيها، فلما بلغ عفراء خبره قامت إلى زوجها وقالت له، قد كان من خبر ابن عمي ما كان وقد مات

في وبسببي، ولا بد أن أندُبه وأقيم مأتما عليه، فقال افعلي، فما زالت تندبه ثلاثا حتى ماتت في اليوم الرابع، وشقاء سعد الوراق بحب عيسى النصراني حينما علم أن أهله قد بنوا له ديرا بنواحي الرقة؛ ليترهب فيه ويحتجب عن الناس فضاقت عليه الدنيا بما رحبت، وأحرق بيته وفارق أهله وأخوانه ولزم صحراء الدير عله يجد السبيل إلى الوصول إليهن، فامتنع عليه ذلك بعد ما ذل للرهبان وتخضع لهم، وتأتي لهم بكل سبيل فلم يجده ذلك شيئا، فصار إلى الجنون وخرق ثيابه وأصبح عريان هائما لا شأن له إلا أن يقف بكل طائر يراه على شجرة، فيناشده الله أن يبلغ رسائله إلى عيسى حتى رآه بعض الناس في بعض الأيام ميتًا إلى جانب الدير، وأمثال ذلك من مواقف البؤس ومصارع الشقاء، كأنما كنت أرى أن الدموع لحبها، أو كأنما كنت أرى أن الدموع مظهر الرحمة في نفوس الباكين، فلما أحببت الرحمة أحببت الدموع لحبها، أو كأنما كنت أرى أن الحياة موطن البؤس والشقاء، ومستقر الآلام والأحزان، وأن الباكين هم أصدق الناس حديثا عنها، وتصويرًا لها، فلما أحببت الصدق أحببت البكاء لأجلِهِ، أو كأنما كنت أرى أن بين حياتي وحياة أولئك البائسين المنكوبين شبهًا قريبًا وسببًا متصلًا، فأنست بهم وطربت بنواحهم طرب المحب بنوح الحمائم، وبكاء

الغمائم، أو كأنما كنت في حاجة إلى بعض قطرات من الدمع أتفرج بها مما أنا فيه، فلما بكى الباكون وبكيت لبكائهم وجدت في مدامعهم شفاء نفسي، وسكون لوعتي، أو كأنما كنت أرى أن جمال العالم كله في الشعر، وأن الشعر هو ما تفجر من صدوع الأفئدة الكليمة، فجرى من عيون الباكين مع مدامعهم، وصعد من صدورهم مع زفراتهم. تلك أيامي التي سعدت بها برهة من الدهر، ومر لي فيها أحسن ما مر لأحد، والتي لا أزال أذكرها بعد مرور تلك الأعوام الطوال، فأكاد أشرق بدمعي لذكراها، ثم انثنيت فوجدت يدي صفرا منها، وإذا أنا بين يدي هذا العالم المظلم المقشعر عالم الحقيقة، والألم فنظرت إليه نظر الغريب الحائر إلى بلد لا عهد له به، ولا سكن له فيه فرأيت مخازيه وشروره وظلمة أجوائه، واغبرار سمائه، وقتال الناس بعضهم بعضا على الذرة والحبة، والنسمة والهبوة1، واتساع مسافة الخلف بين دخائل القلوب وملامح الوجوه، وسلطان القوة على الحق، وغلبة الجهل على العلم، واقفار القلوب من الرحمة، وجمود العيون عن البكاء، وعجز الفقراء عن فتات موائد الأغنياء، وتمضغ الأغنياء بلحوم

_ 1 الهبوة: الغيرة

الفقراء، ورأيت الترائي بالرذيلة حتى ادعاها لنفسه، وأنحلها إياها من لا يتخلق بها طلبًا لرضى الناس عنه برضاه عنها، ورأيت البراءة من الفضيلة حتى فر بها صاحبها من وجوه الساخرين به، والناقمين عليه فرار العاري بسوأته، والموسوم بخزيته، ورأيت الرجل والمرأة وقد سرًّا1 كل منهما ثوبه عن جسمه وألقاه بين يديه، ثم تقايضا فلبست قباءه، وليس غلالتها فأصبح امرأة لها من النساء التكسر والتبرد، وأصبحت رجلًا من الرجال والتوقح والتشطر2 ورأيت الدين وهو دوحة السلام الخضراء التي يستظل بها الضاحون3 من لفحات الحياة، وزفراتها قد استحال في أيدي الناس إلى سهام مسمومة يحاول كل منهم أن يصيب بها كبد أخيه فلا يخطئها، ورأيت ضلال الأسماء عن مسمياتها، وحيرة مسمياتها بينها، واضطراب الحدود والتعاريف عن أماكنها ومواقفها حتى دخل فيها مالم يكن داخلا، وخرج منها مالم يكن خارجا، فسمى الشح اقتصادا والكرم إسرافا والحلم جبنًا، والسماجة جرأة والسفاهة براعة، والفجور فتوة والتبذل حرية، واشتبهت طرق الفضيلة ومسالكها على من يريد ركوبها

_ 1 سرا الثوب عن جسمه ألقاه عنه. 2 تشطر صار شاطرا والشاطر هو من أعيا أهله خبثا. 3 الضاحي المنكشف للشمس.

لأنه يجد على رأس كل واحدة منها زعيما من زعماء الخديعة، والكذب يصرفه عنها إلى غيرها، وكنت أرى أن الأدب حال قائمة بالنفس تمنع صاحبها أن يقدم على شر أو يحدث نفسه به، أو يكون عونا لفاعليه عليه، فان ساقته إليه شهوة من شهوات النفس أو نزوة من نزواتها وجد في نفسه عند غشيانه ومخالطته من المضض والارتماض ما ينغص عليه عيشه، ويقلق مضجعه، ويطيل سهده وألمه، فإذا هو صورة من صور الجوارح وعرض من أعراض الجسم لا دخل له في جوهر النفس، ولا علاقة بينه وبين الحس والوجدان، فأكثر الناس عند الناس أدبا، وأقومهم خلقا، وأطهرهم نفسا، من لا يفي على شرط أن يعد، ومن يكذب على أن يكون كذبه سائغا مهذبا، ومن يملأ صدره موجدة وحقدًا على أن يكون بساما ضحوك السن، ومن يسرق على أن يستطيع العبث بمواد القانون وخداع القضاة عنها، ومن يبغض الناس جميعا بقلبه، على أن يحبهم جميعا بلسانه، ومن يحفظ تلك المصطلحات اللفظية، وتلك الصور الجافة من الحركات الجسمية التي تواضع عليها المتكلفون في الزيارة والاستزارة والهناء والعزاء والمؤاكلة والمنادمة، وأمثال ذلك مما يرجع العلم به غالبا إلى صغر النفس وإسفافها، أكثر مما يرجع إلى علوها وكمالها،

فداخلني من ذلك هم عظيم لم أستطيع أن أملك نفسي معه كأنما خيل إلي لقرب عهدي بما أرى أنني أرى شيئا عجيبا، أو منظرا غريبا، أو كأنما كنت أحسب أن عالم الخيال الذي كنت فيه إنما هو صورة صحيحة لعالم الحقيقة الذي أنتقل إليه، فأزعجني ما رأيت من هذا الاختلاف العظيم بينهما، فأرسلت الكلمة إثر الكلمة كما يتنفس المتنفس أو يئن الحزين، فرأى ذلك بعض الناس فسموا ما رأوه كلاما، ثم ما زالوا يستحسنون ما أقول ويغرونني بأمثاله، وما زلت أطمع فيهم وأرجو أن أصيب ما في نفوسهم حتى رأيتني كاتبا. ولقد كان لهذا الأدب الذي توليت نفسي به أثر باق عندي إلى هذه الساعة التي أكتب فيها رسالتي هذه، فإني لا أحسن حتى اليوم أن أكتب كلمة يفضي بها إلى غيري، أو أعبر عن معنى لا يقوم بنفسي، أو أبكي على من لا يحزنني فراقه، أو أندب من لا يفجعني موته، أو أستنكر ما أستحسن، أو أستحسن ما أستنكر، كما لا أستطيع أن أمر بمشهد من تلك المشاهد التي تهيج في نفسي حزنا شديدا، أو طربا كثيرا، فأملك نفسي عن محاولة الإفضاء بما تركه عندي من خير أو شر، وما أعلم أني كتبت كلمة في شأن من الشؤون إلا وكان

بعض تلك المشاهد منشأها في قلبي، فقد كنت رجلا لا أحب الكذب، ولا أحمل نفسي عليه ما وجدت منه بدًا، فأبغضت الكاذبين بغض الأرض للدم، فكان من همي أن أقاتلهم على الصدق قتالا مستحرا حتى أصل بهم إلى إحدى الحسنيين، إما أن يكونوا صادقين، وإما أن يعلم الناس أنهم كاذبون، وكنت إنسانا بائسا لم يترك الدهر سهمًا من سهامه النافذة لم يرمني به، ولا جرعة من كؤوس مصائبه ورزاياه لم يجرعني إياها، فقد ذقت الذل أحيانا، والجوع أياما، والفقر أعواما، ولقيت من بأساء الحياة وضرائها مالم يلق بشر، فشعرت بمرارة الحياة في أفواه المساكين، ورأيت مواقع سهام الدهر في أكباد البائسين والمنكوبين، فكان من همي أن أبكي كل بائس، وأندب كل منكوب، وأطلب رحمة القوي للضعيف، والغني للفقير، والعزيز للذليل، وقُدِّر لي فيما مر بي من أيام حياتي أن رأيت بعيني من وقفت بين يديه امرأة ذليلة تبكي وتضرع إليه أن يرضخ لها بقليل من المال؛ لتستعين به على ستر ما كشف ابنه من سوأة ابنتها، فأبى ذلك عليها، وقال لها وهو يحسب أنه يعلم ما يقول: أيتها المرأة لا حق لابنتك عندي، ولا عند ولدي فلم يكن حظه منها فيها كان من أمرهما بأكبر من حظها منه: ورأيت من تزوج

فتاة كان يمسك في نفسه لأهلها حقدًا قديمًا فما دنا منها ليلة البناء بها حتى صدف عنها صارخا: أيها الناس إن الفتاة مريبة: وكان كاذبا فيما يقول، ولكن صدقه الناس، فانتقم لنفسه بذلك شر انتقام وأقذعه، ورأيت من دخلت إليه امرأة من أولئك النساء المريبات تسأله بعض المعونة على أمرها، فأمر بطردها ذهابا بنفسه أن تسوء سمعته بمكانها، وكان هو الذي أفسدها على نفسها، فنزل بها فسادها إلى هذه المنزلة من السقوط ثم الفقر، فلما جد الجد حاسبها على لقمة تتذوقها في بيته، ولم يحاسب نفسه على عرض كان يأكله في بيتها أكلا، فكان بي منذ ذلك العهد أن أنظر إلى المرأة بعين غير التي ينظر بها الناس إليها، وأن ألمس لها من العذر، وإن زلت بها قدم مالا يلتمسه لها أحد، وأن أنتصف لها من الرجل كلما وجدت السبيل إلى ذلك حتى يديل لها الله منه، وكنت من شؤون عيشي في حالة لا أستطيع معها أن أعتزل الناس الاعتزال كله، ولا أن أختار لعشرتي من أشاء من خيارهم وذوي المروءة فيهم، فلبستهم على علاتهم فما حفظ لي صديق عهدا، ولا صان لي صاحب سرًّا، ولا استدنت مرة فنفس عني دائن، ولا دنت فوفى لي مدين، ولا رد ليمستعير عارية، ولا شكر لي شاكر صنيعة، ولا فرج لي كربتي

مفرج إلا إذا استقطر ماء وجهي إلى القطرة الأخيرة منه؛ ليأخذ أكثر مما أعطى، ويسلب فوق ما وهب، ووجدت في طريق حياتي من خالطني مخالطة الزائر للمزور حتى أمكنته الفرصة، فسرق مالي بعد ما تحرم بطعامي وشرابي، ومن كان يتردد وجهه في وجهي، فأكره أن أرده بالأمل الخائب، فلما عجزت عن ذلك مرة أضمر لي في قلبه من الشر ما لا يضمر مثله الرجل إلا لمن يغلبه على تراث أبيه وأمه، أو يخضِّب لحيته من دم مفرقه، ومن نصب1 لي وغَرِيَ بمحادَّتي ومماظَّتي2 لأنه كان يحمل في رأسه فتكة لم يجد في طريقه من يحملها عنه، ويستخذي له فيها سواي، ومن أخذ نفسه بالنيل مني والغض من شأني؛ لأنه كان يشكو الخمول والضعة، وكان لا بد له من أن يكون نابها مذكورًا، فاتفق له أن رأي عاتقي بين يديه فظن أنه أعلى العواتق وأبعدها مذهبا في جو السماء فعلاه ليشرف منه على الناس، فيعرفوا مكانه، فوالله ما تحلحلت ولا نبوت به بقيا عليه، وضنا به أن يسقط سقطة لا يئل منها، ومن كان لا يكبر شأني إلا إذ اتقاني فإذا أضاء ما بيني وبينه كنت في عينه أصغر منه

_ 1 نصب فلان لفلان عاداه. 2 المماظة المخاصمة والمشارة.

في عين نفسه، ومن كان يقبل ويدبر بإقبال الدهر علي، وإدباره عني، ثم لا يستحي أن يستكثر من ذلك حتى أستحي له منه، فعركت بجنبي1 أكثر ما كرهت من ذلك، ولكنني لم أرض لنفسي أن أنزل في الغرارة والغفلة دون المنزلة التي ينخدع فيها الغر الكريم، فأصبح رأيي في الناس غير رأيهم في أنفسهم، ورأى بعضهم في بعض، وخفت أن يصيب كثيرًا من الضعفاء والمحدودين2 أمثالي مثل ما أصابني، فكان من همي أن أنبش دفائنهم خيرا كان أو شرًّا، وأن أكشف أثوابهم عن أجسامهم، وأجسامهم عن نفوسهم، حتى يتراءوا ويتكاشفوا فيتواقوا ويتحاجزوا، فلا يهنأ خادع بخدعته، ولا يبكي مخدوع على نكبته، ولا يتخذ بعضهم بعضا حمرًا يركبونها إلى أغراضهم ومطامعهم، وكان منشيء في قوم بداة سذج لا يبتغون بدينهم دينا، ولا بوطنهم وطنا، ثم ترامى بي الأمر بعد ذلك، وتصرفت بي في العيش شؤون جمة فخضعت لكثير من أحكام الدهر، وأقضيته إلا أن أكون ملحدًا في ديني، أو زاريا على وطني، فاستطعت، وقد غمر الناس ما غمرهم من هذه المدينة الغربية أن أجلس ناحية

_ 1 عرك بجنبه ذنب صاحبه احتمله. 2 المحدود المحروم ويراد به سيئ الحظ.

منها، وأن أنظر إليها من مرقب عالٍ، وكنت أعلم أن من أعجز العجز أن ينظر الرجل إلى الأمر نظرة طائرة حمقاء، فإما أخذه كله، وإما تركه كله، فرأيت حسناتها وسيئاتها، وفضائلها ورذائلها، وعرفت ما يجب أن يأخذ منها الآخذ، وما يرتك التارك، فكان من همي أن أحمل الناس من أمرها على ما أحمل عليه نفسي، وأن أنقم من هؤلاء العجزة الضعفاء تهالكهم لها، واستهتارهم بها، وسقوط نفوسهم أمام رذائلها ومخازيها، وإلحادها وزندقتها، وشحها وقسوتها، وشرهها وحرصها، وتبذلها وتهتكها، حتى أصبح الرجل الذي لا بأس بعلمه وفهمه إذا حزبه1 الأمر في مناظرة بينه وبين من يأخذه برذيلة من الرذائل لا يجد بين يديه، وما ينضح به عن نفسه إلا أن يعتمد عليها في الاحتجاج على فعل ما فعل، أو ترك ما ترك، كأنما هي القانون الإلهي الذي تثوب إليه العقول عند اختلاف الأنظار، واضطراب الأفهام، أو القانون المنطقي الذي توزن به التصديقات والتصورات لمعرفة صوابها وخطئها وصحيحها وفاسدها، وحتى أصبح السيد في منزله يستحي من خادمة مطبخه الأوروبية أن تطَّلع منه على جهل ببعض عاداتها وعادات قومها حتى لبس الرداء، وخلع الحذاء،

_ 1 حزبه الأمر اشتد عليه.

أكثر مما يستحي من الله، ومن الناس أن يهجموا منه على أرذل الرذائل، وأكبر الكبائر، وحتى أصبح تاريخ المشرق وتاريخ علمائه وأدبائه، وفلاسفته وشعرائه صورة من أقبح الصور، وأسمجها في نظر كثير من الشرقيين الذي أصبحوا يفخرون بجهل تاريخهم إن جهلوه، ويراؤون بجهله إن علموه، وحتى قدر ذلك الغلام الرومي خادم الحان أو القهوة منفردًا على مالم تقدر عليه الأمة جميعها مجتمعة، فحملها على النزول إليه لتحدثه بلغته، قبل أن تحمله على الصعود إليها ليحدثها بلغتها، وهو إلى أن يترضاها ويستدنيها أحوج منها إلى أن تزدلف إليه، وتنزل على حكمه. فذلك ما تراه في رسائل النظرات منتثرًا ههنا وههنا قد شعر به قلبي، ففاض به قلمي من حيث لا أكذب الناس عن نفسي، ولا أكذب نفسي عنها، ولو كان بي أن أكذبهم لكذبتهم فيما يرضيهم، وما أعلم أني أتحظاهم به، وأنال به الأثرة الخالدة في نفوسهم، ولو أردت ذلك منهم لما كان بيني وبين خاصتهم إن أردت الخاصة إلا ثلاث كلمات، السخرية بالأديان، واحتقار تاريخ المشرق، والقول بتبرج المرأة وسفورها، ولا كان بيني وبين عامتهم إن أردت العامة إلا ثلاثا أخرى، سب الكفار، وعبادة الأضرحة، والجمود على كل قديم.

وعندي أن الكاتب المسخر الذي لا شأن له إلا أن يكتب ما يفضي به الناس إليه صانع غير كاتب، ومترجم غير قائل، لا فرق بينه وبين صائغ الذهب وثاقب اللؤلؤ، كلاهما ينظم ما لا يملك، ويتصرف فيما لا شأن له فيه، على أن خير ما ينتفع به الأديب من أدبه أن يترك يوم وداعه لهذه الدنيا صفحة يقرأ فيها الناظرون في تاريخه من بعده من أبنائه وشيعته وذوي رحمه صورة نفسه، ومضطرب آماله، ومسرح أحلامه، فإذا كان كل شأنه في حياته أن يكون مرآة تتقلب فيها مختلفات الصور أو وفيعة1 تتمسح بها أعواد الأقلام كان خسرانه عظيما لا يقوم به كل ما يربح الرابحون من مال أو يؤثلون من جاه، والتاريخ أضن من أن يحفظ بين دفتيه من مجد الأدباء إلا مجد أولئك الذي يودعون نفوسهم صفحات كتبهم، ثم يموتون وقد تركوها نقية بيضاء من بعدهم، وحياة الكاتب بحياة كتابته في نفوس قرائها، ولا تحيا كتابة كاتب سيعلم الناس من أمره بعد قليل أنه يكذبهم عن نفسه وعن أنفسهم، وأنه روَّاغ متخلّج2 يأمرهم اليوم بما ينهاهم عنه غدًا، ويرى في ساعة ما لا يرى في أخرى،

_ 1 الوفيعة خرقة يمسح بها القلم. 2 المتخلّج المضطرب في مشيته.

وأنه يستبكى ولا يبكي، ويسترحم ولا يرحم، ويحرك النفوس وهو ساكن، ويثير الثائرة وهو سالم، فيستريبون به، ويحارون في مصادره وموارده، ثم يحملون أمره على شر حاليه، ثم ينقطع ما بينهم وبينه، والبيان ليس سلعة من السلع التي يتنقل بها تجارها من سوق إلى سوق، ومن حانوت إلى آخر، ولكنه حركة طبيعية من حركات النفس تصدر عنها عفوًا بلا تكلفٍ، ولا تعمل صدور النور عن الشمس، والصدى عن الصوت، والأريج عن الزهر، وشعاع لامع يشرق في نفس الأديب إشراق المصباح في زجاجته، وينبوع ثرار يتفجر في صدره، ثم يفيض على أسلات قلمه، وهو أمر وراء العلم واللغة والمحفوظات والمقروءات والقواعد والحدود, ولو أن أمرًا من ذلك كائن لكان أبرع الكتاب، وأشعر الشعراء أغزرهم مادة في العلم أو أعلمهم بقواعد اللغة أو أجمعهم لمتونها أو أحفظهم لفصيح القول ورائعه، أما العلم فأكثر المؤلفين الذين تركوا بين أيدينا هذه الأسفار التي نقرأها في الشريعة والحكمة والمنطق وغيرها كانوا علماء ما يتدافع في ذلك اثنان، وها قد مرت علينا وعلى ما تركوه بين أيدينا القرون والحقب، وأكثرنا عاجز عن فهم أكثر ما كانوا يكتبون، وأما المحفوظات فما نعلم أحدًا أحفظ لكتاب

الله من جماعة القراء، ولا أحفظ للحديث من الفقهاء، ولا أقل منهم إلماما بالأدب، ولا أبعد منهم عنه مكانا، وأما اللغة فما عرفنا بين المتقدمين والمتأخرين من رواتها وحفاظها والمتوفرين على تدوينها وتحقيقها والمنقطعين لدرس قواعدها، وفنونها من عرفت له البراعة والتفوق في تحبير الرسائل أو قرض الشعر أو القوة القلمية في التصنيف في غير ما أخذوا أنفسهم به، وكان الخليل بن أحمد إذا سئل عن نظم الشعر قال: يأباني جيده وآبى رديئه، وكان الأصمعي يحفظ ثلث اللغة، وأبو زيد الأنصاري يحفظ نصفها وأبو مالك الأعرابي يحفظها كلها، وكذلك كان شأن النضر بن شميل وأبي عبيدة وابن دريد والأزهري والصاغاني وابن فارس وابن الاثير صاحب النهاية، والجوهري والفيروزبادي، وأمثالهم من علماء اللغة والنحو، وما سمعنا لواحد منهم في إحدى الصناعتين شيئا مذكورا، وقال أبو العباس المبرد في بعض أحاديثه: لا أحتاج إلى وصف نفسي مشكلة إلا لقيني بها، وأعدني لها فأنا عالم ومتعلم وحافظ ودارس لا يخفى علي مشتبه من الشعر والنحو والكلام المنثور والخطب والرسائل، وربما احتجت إلى اعتذار من فلتة أو التماس حاجة فاجعل المعنى الذي أقصده نُصب عيني ثم

لا أجد سبيلا إلى التعبير عنه بيد ولا لسان، ولقد بلغني أن عبيد الله بن سليمان ذكرني بجميل، فحاولت أن أكتب إليه رقعة أشكره فيها، وأعرض ببعض أموري، فأتبعت نفسي يومًا في ذلك، فلم أقدر على ما أرتضيه منها، وكنت أحاول الإفصاح عما في نفسي، فينصرف لساني إلى غيره اهـ بل لو شئت لقلت إنه ما أفسد على المتنبي وأبي تمام كثيرًا من شعرهما، ولا على المعري كثيرا من منظومه ومنثوره، ولا على الحريري مقاماته، ولا على ابن دريد مقصورته إلا غلبة اللغة عليهم واستهتارهم بها، وشغفهم بتدوينها في كل ما يكتبون، فقد كانوا هم وأمثالهم من حبائس اللغة وأنضائها في كثير من مواقفهم يؤلفون ويدونون، من حيث يظنون أنهم ينظمون أو يكتبون، ولا تزال نفسي تشتمل على لوعة من الحزن لا تفارقها حتى الموت، كلما ذكرت أن الأدب العربي كان يستطيع أن يكون خيرًا مما كان لو أن الله كتب للزوميات المعري النجاة من قبضة اللغة وأسر الالتزام، وإنك لا تكاد ترى اليوم من شعراء هذا العصر، وكتابه الذين يأخذون بزمام هذا المجتمع العربي ويقيمون عالمه، ويقعدونه بقوتهم القلمية في شؤونه السياسية والاجتماعية والأدبية كافة من يعد من حفاظ اللغة العربية، وثقاتها أو من يسلم له مقال من مأخذ لنحوي أو مغمز

للغوي، وهم على ذلك عندي أدخل في باب البيان، وألصق به، وأمسّ به رحمًا من أولئك الذين يستظهرون متون اللغة، ويحفظون دقائقها، ويحيطون بمترادفها ومتواردها ويتباصرون بشاذها وغريبها ويحملون في صدورهم ما دق وجل من مسائل نحوها وتصريفها، فإذا عرض لهم غرض من الأغراض في أي شأن من شؤون حياتهم، وأرادوا أنفسهم على الإفضاء به ارتج عليهم فأغلقوا، أو تقعروا وتشدقوا، فكأنهم لم ينطقوا، والفرق بين الأدباء واللغويين أن الأولين كاتبون، والآخرين مصححون، فمثلهما كمثل النساج وعامله، هذا ينسج الثوب، وهذا يلتقط زوائده ويمسح عنه زئبره1 أو كمثل الشاعر والعروضي، هذا ينظم الشعر وهذا يعرضه على تفاعيله وموازينه، وليس البيان ذهاب كلمة، ومجيء أخرى، ولا دخول حرف وخروج آخر، وإنما هو النظم والنسق والانسجام، والإطراد والماء والرونق واستقامة الغرض وتطبيق المفصل، والأخذ بالنفوس، وامتلاك أزمة الهواء، فإن صح ذلك لامرئ، فهو الكاتب القدير، أو الشاعر الجليل، فإن زلت به قدم في وضع حرف مكان حرف، أو غلبه على لسانه دخيل، أو خرج من يده أصيل، أو كان ممن يفوته العلم ببعض القواعد

_ 1 الزئبر ما يظهر من درز الثوب.

اللغة أو بعض وجوه الاستعمال فيها، كان ذلك عيبًا لاحقا بعلمه أو بحافظته، لا ببيانه وفصاحته، ومتى صدر القائل في قوله عن سجية وطبع أصبح شأنه شبيهًا بشأن العرب الأولين، وكان من شأنهم أن يسبقهم إلى كلامهم الخطأ اللفظي في بعض الأحيان، وكان السبب في ذلك كما يقول أبو علي الفارسي: أنهم كانت تهجم بهم طباعهم على ما ينطقون به، فربما استهواهم الشيء، فزاغوا به عن القصد من حيث لا يشعرون، وكما أن الجسم لا يغير صورته، ولا يقلب سحنته أن تطير منه ذرة، وتحل أخرى محلها لتمثلها كذلك لا يغير صورة الكلام، ولا يذهب بنسقه خروج أصيل، أو دخول دخيل، ولقد قيل لأحد الكتاب الإنكليز نراك كثير الإعجاب بالكاتب "كبلنغ" وهو رجل لحانة لا يحفل بقواعد اللغة، فأجاب أن سطرًا واحدًا مما يكتبه "كبلنغ" أثمن عندي من قوانين اللغة جميعها، وليس من الرأي أن أحرم نفسي التمتع بأدبه إكراما لسواد عيون الغراماطيق1 الإنكليزي، وفضل الأدباء على اللغة في سيرورتها وذيوعها وتداولها وخلودها أكبر من فضل اللغويين عليها في ذلك؛ لأنهم هم الذين يمهدون سبلها، ويعبدون2 طرقها، ويستدنون نافرها، ويجمعون شاردها،

_ 1 الغراماطيق: النحو. 2 يعبدون: يذللون ويمهدون.

وينظمون لآلئها، نظم الثاقب لآلئه في السلك، فيأخذها الناس عنهم من أخصر الطرق وأقربها، وأشهاها إلى النفس، وأعلقها بالقلب، وقليل من الناس من يأخذ مادته اللغوية من معاجم اللغة أو يكتسب ملكة الإعراب من كتب النحو والتصريف، وما كانت اللغة عدوة للأدب، ولا كان الأدب عدوًّا لها، بل هي أساسه وقوامه الذي يقوم به، ولكن المشتغلين بها، والمتوفرين على دراستها، والمنقطعين لاستظهارها، والنظر في دقائقها، والتعمق في أطوائها، لا يزال يغلب عليهم الولع بها، والفناء فيها، حتى تصبح في نظرهم مقصدًا من المقاصد، لا وسيلة من الوسائل، وللبيان وسائل كثيرة غير وسيلة اللغة، فمن لا يأخذ نفسه بجميع وسائله لا يصل إليه والتربية العلمية كالتربية الجسمية، فكما أن الطفل لا ينمو جسمه، ولا ينشط ولا تتبسط أعضاؤه، ولا تنتشر القوة في أعصابه، إلا إذا نشأ في لهوه ولعبه، وقفزه ووثبه، كذلك الكاتب لا تنمو ملكة الفصاحة على لسانه، ولا تأخذ مكانها من نفسه، إلا إذا ملك الحرية في التصرف والافتتان والذهاب في مذاهب القول، ومناحيه كما يشاء وحيث يشاء، دون أن يسيطر عليه في ذلك مسيطر إلا طبعة وسجيته، واللغوي لا يزال يحوط نفسه بالحذر والخوف، والوساوس والبلابل،

فَإِنْ مَشَى خيل إليه أنه يمشي على رملة ميثاء، وإن تحرك خيل إليه أن تحت قدميه حفرة جوفاء، حتى يقعد به خوفه ووسواسه عن الغاية التي يريد الوصول إليها، على أن الكاتب لا يبلغ مرتبة الكتابة إلا إذا نظر إلى الألفاظ بالعين التي يجب أن ينظر بها إليها، فلم يتجاوز بها منزلتها الطبيعية التي تنزلها من المعاني، وهي أن تكون خدمًا لها وخولًا، وأثوابًا وظروفا، فإذا كتب تركها وشأنها، وأغفل أمرها حتى تأتي بها المعاني وتقتادها طائعة مرغمة، والمعاني هي جوهر الكلام ولبه، ومزاجه وقوامه، فما شغل الكاتب من همته بغيرها أزرى بها حتى تُفلت من يده، فيفلت من يده كل شيء. وبعد فالعلم والمحفوظات والمقروآت والمادة اللغوية، والقواعد النحوية، إنما هي أعوان الكاتب على الكتابة ووسائله إليها، فالجاهل لا يكتب شيئا؛ لأنه لا يعرف شيئا، ومن لا يضطلع بأساليب العرب ومناحيها في منظومها ومنثورها سرت العجمة إلى لسانه، أو غلبته العامية على أمره، ومن قل محفوظه من المادة اللغوية قصرت يده عن تناول جميع ما يريد تناوله من المعاني، ومن جهل قانون اللغة أغْمَضَ الْأَغْرَاضَ وَأَبْهَمَهَا، أو شَوَّهَ جَمَالَ الْأَلْفَاظِ وَهَجَّنَهَا، وَلَكِن لَيْسَتْ هَيَ جَوْهَرُ الْفَصَاحَةِ، وَلَا

حقيقة البيان، فأكثر القائمين عليها، والمضطلعين بها، لا يكتبون ولا ينظمون، فإن فعلوا كان غاية إحسان المحسن منهم أن يكون كصانع التماثيل الذي يصب في قالبه تمثالا سويا متناسب الأعضاء، مستوي الخلق، إلا أنه لا روح فيه ولا جمال له؛ لأنه ينقصهم بعد ذلك كله أمر هو سر البيان ولبه، وهو الذوق النفسي والفطرة السليمة، وأنى لهم ذلك وما دخلت الفلسفة أيا كان نوعها على عمل من أعمال الفطرة إلا أفسدته، وما خالط التكلف عملًا من أعمال الذوق إلا شوَّه وجهه، وذهب بحسنه وروائه. ولقد قرأت ما شئت من منثور العرب، ومنظومها، في حاضرها وماضيها، قراءة المتثبت المستبصر، فرأيت أن الأحاديث ثلاثة، حديث اللسان، وحديث العقل، وحديث القلب. فأما حديث اللسان، فهو تلك العبارات المنمقة، والجمل المزخرفة، أو تلك الكلمات الجامدة الجافة التي لا يعني صاحبها منها سوى صورتها اللفظية، فإن كان لغويًا تقعر وتشدق، وتكلف وأغرب، حتى يأتيك بشيء خير ما يصفه به الواصف أنه متن مشوش من متون اللغة لا فصول له ولا أبواب، وإن كان بديعيًا جنس ورصع وقابل ووشَّع وزواج وافتن في الإتيان بالكلمة مهملة كلها أو معجمة كلها، أو راوح بين الإهمال والإعجام

فيخيل إليك، وأنت تراه ينطق بما ينطق به كأنما هو يصنعه بيديه صنعا، أو يصففه تصفيفا، ثم لا يبالي بعد ذلك باستقامة المعنى في ذاته ولا بمقدار ماله من الأثر في نفس السامع، وهذا الحديث هو أسقط الأحاديث الثلاثة وأدناها وأجدرها أن ينظمه الناظم في سلك الصناعة اليدوية التي لا دخل للعقل، ولا للفهم في شيء منها، وأن ينظم صاحبها في سلك جماعة الصيادلة الذين لا شأن لهم إلا تحليل المواد وتركيبها، وجمعها وتفريقها، والمزاوجة بين مقاديرها، والموازنة بين أثقالها، من حيث لا يكون لقوة التصور، ولا لذكاء القلب، دخل في هذا أو ذاك. وأما حديث العقل، فهو تلك المعاني التي ينحتها الناحتون من أذهانهم نحتا، ويقتطعونها من اقتطاعها، ويذهبون فيها مذهب المعاياة، والتحدي والتعمق والأغراب، ويسمونها تارة تخييلا، وأخرى غلوًا، وأخرى حسن تعليل إلى كثير من أمثال هذه الأسماء والألقاب التي تتفرق ما تتفرق، ثم يجمعها شيء واحد هو الكذب والإحالة، وآية ما بينك وبينها أنك إذا رأيتها شعرت بأنك ترى أمامك شيئا غريبا عن نفسك، وعن نفس صاحبه، وعن نفوس الناس جميعا، وأن صاحبه لا يريد منه إلا أن

يطرفك أو يضحكك أو يدهشك أو يعجبك من ذكائه وفطنته، واقتداره على تصوير ما لا يتصور، وإيجاد ما لا يكون، وهو أمر لا علاقة له بجوهر الشعر، ولا حقيقة الكتابة، وربما انعكس عليه حتى غرضه هذا فنفرك وأكدَّك، وملأ قلبك غيظا وقيحا كأن يقول: لو لم تكن نية الجوزاء خدمته ... لما رأيت عليها عقد منتطق فإن الجوزاء لا تنتطق، ولو كان هذا الذي نراه يستدير بها نطاقًا، فهو شيء متصل بها قبل أن يخلق للمدوح، ويخلق أباؤه الأولون والآخرون إلى آدم وحواء، والكواكب ليست أشخاصًا أحياء يتخذ منها الناس خدما وخولا لأنفسهم، ولو كانت كذلك لاستحال عليها، وهي من سكان السماء أن تهبط إلى الأرض لتخدم سكانها، فقد كذب وأحال أربع مرات في بيت واحد، ثم عجز بعد هذا كله أن يترك في نفس السامع صورة تمثل جلال ممدوحه، وعظم شأنه، فهو في الحقيقة إنما يريد ببيته هذا أن يمتدح نفسه بالإبداع وقوة التخيل، لا أن يمتدح ممدوحه برفعه الشأن وعلو المقام. أو يقول: ما به قتل أعاديه ولكن ... يتقي إخلاف ما ترجو الذئاب

فإن الذي يحمل في صدره قلبا رحيما، مشفقا على الذئاب من الجوع، مستعظما أن يخلفها ما عودها إياه من طعام وشراب لا يمكن أن يكون هو نفسه ذئبا ضاريا يريق دماء الناس، ويمزق أحشاءهم، ويقطع أوصالهم؛ ليملأ بها بطون الوحش، ولا يوجد بين الأسباب التي تحمل الناس على القتال سبب يشبه هذا السبب الذي ذكره، على أن المحسن لا يكون محسنا إلا إذا وهب ما يهب من ماله، ومن خزائن بيته، فأما أن يقتل الناس تقتيلًا، ويمثل بهم ثم ينعم بجثثهم على الجائعين والظماء من وحوش الأرض وذئابها فذلك شيء هو بالجنون أشبه منه بالإحسان. أو يقول: لا يذوق الاغفاء إلا رجاء ... أن يرى طيف مستميح رواحا فإن النوم قوام الإنسان وعماد حياته، ولازم من لوازمه اللاصقة به، أراد ذلك أم لم يرد، فإن كان لا بد من دخوله في باب الاختيار، فإن من أبعد الأشياء عن التصور والفهم أن يكون ما يحمل الإنسان على طلب النوم رجاؤه أن يرى فيه الأحلام والرؤى، فإن فعل فلا يدخل في باب أغراضه وأمانيه أن ينام ليرى خيال جماعة المتسولين والمتأكلين، وهم ملء الأرض وهباء الجو، وأرصاد الأعتاب، وأعقاب الأبواب، لا تنفتح الأعين

إلا عليهم، ولا تمتلئ الأنظار إلا بهم، فهم لم يبلغوا في الضن بأنفسهم والعزف بها مبلغ من لا يراه الرائي ولا يعثر به إلا إذا ألقى في طريقة حبائل الأحلام ليصطاده بها. أو يقول: لم يتخذ ولدًا إلا مبالغة ... في صدق توحيد من لم يتخذ ولدا فإن الأولاد لا يتخذون اتخاذًا، وإنما ينعم الله بهم على من يشاء من خلقه إنعامًا، وأكثر ما تقذف به الأرحام من النسمات إنما هو ثمرة من ثمرات الحب يأتي بها عفوًا، لا نبتة من نبات الأرض يبذر الزراع بذورها ليستنبتها، والله تعالى غني بربوبيته، ووضوح آثارها عن الاستدلال عليها بنطفة يقذفها قاذفها في بعض الأرحام، فإن كان لا بد في إثبات ربوبيته من دليل يدل على مخالفته للحوادث في الصفات والأفعال فالأدلة على ذلك كثيرة لا يضبطها الحسَّاب كثرة، وربما كان أهونها، وأضعفها أنه لا يتخذ ولدًا وأنهم يتخذون، على أن المتخذين كثيرون قد ضاق بهم بطن الأرض وظهرها، فالمسألة مفروغ منها قبل أن يخلق هذا الممدوح، ويخلق وله فلا فضل له في الإتيان بشيء جديد. أو يقول: وما ريح الرياض لها ولكن ... كساها دفنهم في الترب طيبًا

فإن الأزهار التي تستمد حياتها ونماءها من جثث الموتى ورممهم لا يمكن أن تكون طيبة الريح، على أن الأزهار مريحة قبل أن يدفن هؤلاء الموتى في قبورهم، فلم يزد في كلمته هذه على أن أتى بخيال ضعيف مبتذل هو أشبه الأشياء بخيال العامة الذين يرون أن بعض الأزهار ما خلق إلا إكراما لبعض النبيين. أو يقال: تتلف في اليوم بالهبات وفي السا ... عة ما تجتنيه في سنتك فقد أراد أن يصف ممدوحه بالكرم وصفا فوق ما يصف الناس، ويأتي في ذلك بما لم يأت به غيره، فأنزله منزلة مجانين المسرفين الذين لا يحسنون الموازنة بين أرزاقهم ونفقاتهم، ولو تقدمت هذه التهمة بهذه الصورة إلى قاضٍ من قضاة المال لما كان له بد من الحجر عليه، والقضاة يرضون في مثل هذه الأحكام بدون إنفاق، دخل السنة جميعها في ساعة واحدة أو يوم واحد. أو يقول: ولما ضاق بطن الأرض عن أن ... يضم علاك من بعد الممات أصاروا الجو قبرك واستعاضوا ... عن الأكفان ثوب السافيات فإن شيئا من ذلك لم يكن، فالقبر لا يضيق بأحد، والجو

لا يكون قبرًا، والريح ليست كفنًا، والرجل لا يزال مصلوبًا غير مقبور، ولا يزال عاريًا غير مدرج في كفن. وأما حديث القلب فهو ذلك المنثور أو المنظوم الذي تسمعه، فتشعر أن صاحبه قد جلس بجانبك ليتحدث إليك كما يتحدث الجليس إلى جليسه، أو ليصور لك ما لا تعرف من مشاهد الكون، أو سرائر القلوب، أو ليفضي إليك بغرض من أغراض نفسه، أو لينفس عنك كربة من كرب نفسك، أو ليوافي رغبتك في الإفصاح عن معنى من المعاني الدقيقة التي تعتلج في صدرك, ثم يتكاءدك الإفصاح عنها، من حيث لا يكون للصناعة اللفظية، ولا الفلسفة الذهنية، دخل في هذا أو ذاك، حتى ترى حجاب اللفظ قد رق بين يديك دون المعنى حتى يفنى كما تفنى الكأس الصافية دون ما تشتمل عليه من الخمر، فإذا الخمر قائمة بغير إناء، أو كما تفنى صفحة المرآة الصقيلة بين يدي الناظر فيها، فلا يرى إلا صورته ماثلة بين يديه، ولا لوح هناك ولا زجاج، وهو أرقى الأحاديث الثلاثة وأشرفها، وهو الذي يريده المريدون مهما اختلفت عباراتهم، وتنوعت أساليبهم، من تعريف كلمة البيان. ولقد كان من أكبر ما أعانني على أمري في كتابة رسائل

النظرات أشياء أربعة أنا ذاكرها لعل المتأدب يجد في شيء منها ما ينتفع به في أدبه: "أولها" أني ما كنت أحتفل من بين تلك الأحاديث الثلاثة بحديث اللسان ولا حديث العقل، أي: إنني ما كنت أتكلف لفظا غير اللفظ الذي يقتاده المعنى ويتطلبه، ولا أفتش عن معنى غير المعنى الطبيعي القائم في نفسي، بل كنت أحدث الناس بقلمي كما أحدثهم بلساني، فإذا جلست إلى مكتبتي خيل إلي أن بين يدي رجلا من عامة الناس مقبلا علي بوجهه، وأن من أشهى الأشياء وآثرها في نفسي أن لا أترك صغيرا ولا كبيرا مما يجول بخاطري حتى أفضي به إليه، فلا أزال أتلمس الحيلة إلى ذلك, ولا أزال أتأتى إليه بجميع الوسائل وألح في ذلك إلحاح المشفق المجد حتى أظن أني قد بلغت من ذلك ما أريد، فلا أقيد نفسي بوضع مقدمة الموضوع في أوله، ولا سرد البراهين على الصورة المنطقية المعروفة، ولا التزام استعمال الكلمات الفنية التزاما مطردا إبقاء على نشاطه وإجمامه وإشفاقا عليه أن يمل ويسأم فينصرف عن سماع الحديث أو يسمعه فلا ينتفع به. "وثانيها" أني ما كنت أحمل نفسي على الكتابة حملا، ولا أجلس إلى مكتبتي مطرقا مفكرا: ماذا أكتب اليوم،

وأي الموضوعات أعجب وأغرب، وألذ وأشوق، وأيها أعلق بالنفوس، وألصق بالقلوب؟ بل كنت أرى فأفكر فأكتب فأنشر ما أكتب فأرضي الناس مرة وأسخطهم أخرى من حيث لا أتعمد سخطهم، ولا أتطلب رضاهم. "وثالثها" أني ما كنت أكتب حقيقة غير مشوبة بخيال، ولا خيالا غير مرتكز على حقيقة؛ لأني كنت أعلم أن الحقيقة المجردة من الخيال لا تأخذ من نفس السامع مأخذا، ولا تترك في قلبه أثرا، وأحسب أن السبب في ذلك أن أكثر ما تشتمل عليه النفوس من العقائد والمذاهب، والآراء والأخلاق، والخواطر والتصورات، إنما هو أثر من آثار الخيالات الذهنية التي تتراءى في سماء الفكر، ثم لا تزال بها الأيام تكسوها طبقة بعد طبقة من غبار القدم حتى تصبح حقيقة من الحقائق الثابتة في الأذهان، وكما أن الحديد لا يفل إلا الحديد، واللون لا يذهب به إلا لون غيره، كذلك الخيال لا يذهب به ولا يزعجه من مكانه إلا الخيال، وللخيال الأثر الأعظم في تكوين هذا المجتمع الإنساني وتكييفه بالصورة التي يريدها، فلولا خيال الشعر ما هاج الوجد في قلب العاشق، ولولا خيال الشرف ما هلك الجندي في ساحة الحرب، ولولا خيال الذكرى ما اخترعت

المخترعات، ولا ابتدعت المبتدعات، ولولا خيال الرحمة ما عطف غني على فقير، ولا حنا كبير على صغير، كما كنت أعلم أن الخيال غير المرتكز على الحقيقة إنما هو هبوة طائرة من هبوات الجو لا تهبط أرضا، ولا تصعد إلى سماء. "ورابعها" أني كنت أكتب للناس لا لأعجبهم، بل لأنفعهم، ولا لأسمع منهم أنت أحسنت، بل لأجد في نفوسهم أثرا مما كتبت، والناس كما قلت في بعض رسائلي خاصة وعامة: أما خاصتهم فلا شأن لي معهم، ولا علاقة لي بهم، ولا دخل لكلمة من كلماتي في شأن من شئونهم، فلا أفرح برضاهم، ولا أجزع لسخطهم؛ لأني لم أكتب لهم، ولم أتحدث معهم، ولم أشهدهم أمري، ولم أحضرهم عملي، بل أنا أتجنب جهد المستطاع أن أستمع منهم شيئا مما يتعلق بي من خير أو شر؛ لأني راض عن فطرتي وسجيتي في اللغة التي أكتب بها فلا أحب أن يكدرها علي مكدر، وعن آرائي ومذاهبي التي أودعها رسائلي فلا أحب أن يشككني فيها مشكك، ولم يهبني الله من قوة الفراسة ما أستطيع به أن أميز بين مخلصهم ومشوبهم، فأصغي إلى الأول لأستفيد علمه، وأعرض عن الثاني لأتقي غشه، فأنا أسير بينهم مسير رجل بدأ يقطع مرحلة لا بد له أن يفرغ منها في

ساعة معينة، ثم علم أن على يمين الطريق التي يسلكها روضة تعتنق أغصانها، وتشتجر أفنانها، وأن على يساره غابا تزأر أسوده، وتعوي ذئابه، وتفح أفاعيه وصلاله، فمضى قدما لا يلتفت يمنة مخافة أن يلهو عن غايته بشهوات سمعه وبصره، ولا يسرة مخافة أن يهيج بنظراته فضول تلك السباع المقعية، والصلال الناشرة، فتعترض دون طريقه: وأما عامتهم فهم بين ذكي قد وهبه الله من سلامة الفطرة، وصفاء القلب، ولين الوجدان، ما يعده لاستماع القول واتباع أحسنه، فأنا أحمد الله في أمره، وضعيف قد حيل بينه وبين نفسه فهو لا يرضى إلا عما يعجبه، ولا يسمع إلا ما يطربه، فأكل أمره إلى الله، وأستلهمه صواب الرأي فيه، حتى يجعل الله له من بعد عسرا يسرا، مصطفى لطفي المنفلوطي

الغد

الغد: عرفت أني فكرت ليلة أمس فيما أكتب اليوم وعرفت أني آخذ الساعة بقلمي بين أناملي, وأن بين يدي صحيفة بيضاء تسود قليلا قليلا كلما أجريت القلم فيها, ولكن لا أعلم هل يبلغ القلم مداه أو يكبو1 دون غايته، وهل أستطيع أن أتمم رسالتي هذه أو يعترض عارض من عوارض الدهر في سبيلها؟ لأني لا أعرف من شئون الغد شيئا؛ ولأن المستقبل بيد الله. عرفت أني لبست أثوابي في الصباح وأنها لا تزال فوق جسمي حتى الآن, ولكني لا أعلم هل أخلعها بيدي أو تخلعها يد الغاسل. الغد شبح مبهم يتراءى للناظر من مكان بعيد فربما كان ملكا رحيما، وربما كان شيطانا رجيما، بل ربما كان سحابة سوداء إذا هبت عليها ريح باردة حللت أجزاءها وفرقت ذراتها فأصبحت كأنما هي عدم من الأعدام التي لم يسبقها وجود

_ 1 كبا سقط على وجهه.

الغد بحر خضم زاخر يعب عبابه1، وتصطخب أمواجه، فما يدريك إن كان يحمل في جوفه الدرر والجواهر، أو الموت الأحمر. لقد غمض الغد عن العقول ودق شخصه عن الأنظار, حتى لو أن إنسانا رفع قدمه ليضعها في خروجه من باب قصره لا يدري أيضعها على عتبة القصر، أم على حافة القب؟ الغد صدر مملوء بالأسرار الغزار تحوم حوله البصائر وتتسقطه2 العقول وتستدرجه الأنظار فلا يبوح بسر من أسراره إلا إذا جادت الصخرة بالماء الزلال. كأنى بالغد وهو كامن في مكمنه رابض في مجثمه3 متلفع بفضل إزاره ينظر إلى آمالنا وأمانينا نظرات الهزء والسخرية, ويبتسم ابتسامات الاستخفاف والازدراء، يقول في نفسه: لو علم هذا الجامع أنه يجمع للوارث وهذا الباني أنه يبني للخراب وهذا الوالد أنه يلد للموت ما جمع الجامع ولا بنى الباني ولا ولد الوالد. ذلل الإنسان كل عقبة في هذا العالم فاتخذ نفقا في الأرض وصعد بسلم إلى السماء، وعقد ما بين المشرق والمغرب بأسباب4 من حديد وخيوط من نحاس، وانتقل بعقله إلى العالم العلوى

_ 1 يعب عبابه يرتفع موجه. 2 تسقط الخبر أخذه شيئا فشيئا. 3 مجثم الطائر موضع جثومه أي: تلبده بالأرض. 4 الأسباب الحبال وكل ما يوصل بين الشيئين.

فعاش في كوكبه وعرف أغوارها وأنجادها، وسهولها وبطاحها، وعامرها وغامرها، ورطبها ويابسها، ووضع المقاييس لمعرفة أبعاد النجوم ومسافات الأشعة والموازين لوزن كرة الأرض إجمالا وتفصيلا، وغاص في البحار فعرف أعماقها وفحص تربتها, وأزعج سكانها ونبش دفائنها وسلبها كنوزها وغلبها على لآلئها وجواهرها، ونفذ من بين الأحجار والآ كام إلى القرون الخالية فرأى أصحابها وعرف كيف يعيشون، وأين يسكنون، وماذا يأكلون ويشربون، وتسرب من منافذ الحواس الظاهرة إلى الحواس الباطنة فعرف النفوس وطبائعها، والعقول ومذاهبها، والمدارك ومراكزها، حتى كاد يسمع حديث النفس ودبيب المنى، واخترق بذكائه كل حجاب، وفتح كل باب، ولكنه سقط أمام باب الغد عاجزا مقهورا لا يجرؤ على فتحه، بل لا يجسر على قرعه؛ لأنه باب الله، والله لا يطلع على غيبه أحدا. أيها الشبح الملثم بلثام الغيب، هل لك أن ترفع عن وجهك هذا اللثام قليلا لنرى صفحة1 واحدة من صفحات وجهك المقنع, أو لا فاقترب منا قليلا علنا نستطيع أن نستشف صورتك

_ 1 صفحة الشيء جانبه.

من وراء هذا اللثام المسبل دوننا فقد كارت قلوبنا شوقا إليك، وذابت أكبادنا وَجدا عليك. أيها الغد، إن لنا آمالا كبارا وصغارا، وأماني حسانا وغير حسان، فحدثنا عن آمالنا أين مكانها منك، وخبرنا عن أمانينا ماذا صنعت بها، أأذلتها واحتقرتها، أم كنت لها من المكرمين. لا لا. صن سرك في صدرك وأبق لثامك على وجهك ولا تحدثنا حديثا واحدا عن آمالنا وأمانينا حتى لا تفجعنا فيها فتفجعنا في أرواحنا ونفوسنا فإنما نحن أحياء بالآمال وإن كانت باطلة، وسعداء بالأماني وإن كانت كاذبة: وليست حياة المرء إلا أمانيا ... إذا هي ضاعت فالحياة على الأثر

الكاس الأولى

الكاس الأولى: كان لي صديق أحبه وأحب منه سلامة قلبه وصفاء سريرته وصدقة ووفاءه في حالي بعده وقربه، وغضبه وحلمه، وسخطه ورضاه، ففرق الدهر بيني وبينه فراق حياة لا فراق ممات، فأنا اليوم أبكيه حيًّا أكثر مما كنت أبكيه لو كان ميتا، بل أنا لا أبكي إلا حياته، ولا أتمنى إلا مماته، فهل سمعت بأعجب من هذه الخلة الغريبة في طبائع النفوس. علقت حبالي بحباله حقبة من الزمان عرفته فيها، وعرفني ثم سلك سبيلا غير سبيله، فأنكرته وأنكرني حتى ما أمر بباله؛ لأن الكأس التي علق بها لم تدع في قلبه فراغًا يسع غيرها وغير العالقين بها، وربما كان يدفعني عن مخيلته دفعًا إذا تراءيت فيها؛ لانه إذا ذكرني ذكر معي تلك الكلمات المرة التي كنت ألقاه بها في فتحة حياته الجديدة، وما كان له، وهو يهيم في فضاء سعادته التي يتخيلها أن يكدر على نفسه بمثل هذه الذكرى صفاء هذا الخيال، ثم لم أعد أعلم من أمره بعد ذلك شيئا جديدًا؛ لأن حياة

المدمنين حياة متشابهة متماثلة لا فرق بين صبحها ومسائها، وأمسها وغدها، ذهاب إلى الحانات فشراب، فخمار1 فنوم فذهاب، كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها، والمنظر المتكرر لا يلفت النظر ولا يشغل الذهن حتى أن بعض من ينام على دورة الرحى يستيقظ عند سكونها، وكان أحرى أن يوقظه دورانها. لذلك لم يشغل هذا المسكين محلا من قلبي إلا بعد أن سكنت دورته، وهدأت حركته، فلم أعد أراه معربدًا في الحانات، ولا مطرحًا في مدارج الطرق، ولا معتقلا في أيدي الشرط2 هنالك سألت عنه فقيل لي إنه مريض فلم أعجب من شيء كنت أعد له الأيام والأعوام كما يعد الفلكي الساعات والدقائق لكسوف الشمس، واصطدام الكواكب. دخلت عليه أعوده فلم أجد عنده طبيبًا، ولا عائدًا لأنه فقير، والأطباء يظهرون الرحمة بالفقراء، ويبطنون حب الصفراء والبيضاء، والأصدقاء يخافون عدوى المرض وعدوى الفقر، فلا يعودون المريض، ولا يزورون الفقير.

_ 1 الخمار صداع الشراب. 2 الشرط أعوان الأمير ومفرده شرطي بضم الشين وسكون الراء.

دخلت منزله فلم أجد المنزل ولا صاحبه؛ لأني لم أجد فيه ذلك الروح العالي الذي كان يرفرف بأجنحته في غرفة وقاعاته، ولم أر دخان المطبخ ولم أسمع ضوضاء الخدم، ولا بكاء الاطفال ولا رنين الأجراس، فكأنني دخلت القبر أزور الميت لا المنزل أعود الحي. ثم تقدمت نحو سرير المريض فكشف كلَّته البالية عن خيال لم يبق منه إلا إهاب1 لاصق بعظم ناحل، فقلت: أيها الخيال الشاخص ببصره إلى السماء قد كان لي في إهابك هذا صديق محبوب، فهل لك أن تدلني عليه. فبعد لأي ما2 حرك شفتيه وقال، هل أسمع صوت فلان، قلت نعم مم تشكو، فزفر زفرة كادت تتساقط لها أضلاعه وأجاب، أشكو الكأس الأولى، قلت: أي كأس تريد، قال: أريد الكأس التي أدوعتها مالي وعقلي وصحتي وشرفي، وها أنا ذا اليوم أودعها حياتي، قلت قد كنت نصحتك ووعظتك وأنذرتك بهذا المصير الذي صرت إليه اليوم، فما أجديت عليك شيئا، قال ما كنت تعلم حين نصحتني من غوائل هذا العيش النكد أكثر مما كنت أعلم، ولكنني كنت

_ 1 الإهاب: الجلد. 2 يقال فعله بعد لأي أي بعد إبطاء وما زائدة.

شربت الكأس الأولى فخرج الأمر من يدي. كل كأس شربتها جنتها على الكأس الأولى. أما هي فلم يجنها على غير ضعفي وقصور عقلي على إدراك خداع الأصدقاء والخلطاء. لم تكن شهوة الشراب مركبة في الإنسان كبقية الشهوات فيعذر في الانقياد إليها كما يعذر في الانقياد إلى غيرها من الشهوات الغريزية، فلا سلطان لها عليه إلا بعد أن يتناول الكأس الأولى، فلم يتناولها؟ يتناولها لأن الخونة الكاذبين من خلانه وعشرائه خدعوه عن نفسه في أمرها؛ ليستكملوا بانضمامه إليهم لذتهم التي لا تتم إلا بقراع الكؤوس وضوضاء الاجتماع، ولو علمت كيف خدعوه وزينوا له الخروج عن طبعه ومألوفه، وأي ذريعة تذرعوا بها إلى ذلك لتحققت أنه أبله إلى النهاية من البلاهة، وضعيف إلى الغاية التي ليس وراءها غاية. أنا ذلك الأبله، وذلك الضعيف، فاسمع كيف خدعني الأصدقاء وزينوا لي ما يزينه الشيطان للإنسان. قالوا إن حياتك حياة هموم وأكدار، ولا دواء لهذا الأدواء إلا الشراب، وقالوا إن الشراب يزيد رونق الجسم ويبعث نشاطه، وأنه يفتق اللسان، ويعلم الإنسان البيان، وأنه يشجع الجبان، ويبعث في القلب الجرأة والإقدام. هذا ما سمعته

فصدقته وخدعته به، صدقت أن في الشراب أربع مزايا: السعادة والصحة والفصاحة والإقدام. فوجدت فيه أربع رزايا: الفقر والمرض والسقوط والجنون. غرهم من الصحة ذلك اللون الأحمر الذي يتركه الشراب وراءه في الأعضاء، وهو يتغلغل في الأحشاء، ومن الفصاحة الهذَرُ والهذيان، وهُجْرَ1 القول وبذاءة اللسان، ومن الإقدام العربدة التي لا تسكن إلا في غرفة السجن، ومن السعادة اللحظات القليلة التي يغشى فيها على عقله الشارب، فيعمى عن رؤية ما يحيط به من الأشياء كما هي فتنعكس في نظره الحقائق حتى يتخيل الشتم طرفة2 والصفع تحية فيضحكه من ذلك ما يضحك الأطفال والممرورين3. أي سرور لمن يعيش في منزل لا يزور الابتسام ثغرًا من ثغور ساكنيه، أي سرور لمن يودعه أهله كل يوم في صباحه بالحسرات، ويستقبلونه في مسائه بالزفرات، أي سعادة لمن يمشي دائما في طريقه متلويا متمعّجًا4 يتسرب في المنعطفات والأزقة، ويعوذ بألواذ5 الجدُر والأسوار فرارًا من نظرات

_ 1 الهجر: الفحش. 2 الطرفة: الملحة المستحسنة. 3 الممرور الذي هاجت مرته، ويطلق على المجنون. 4 متثنيا. 5 لوذ الجبل: جانبه، والجمع: ألواذ.

الجزار، وتهكمات العطار، وصرخات الخمار. ولقد كنت أرى هؤلاء الأشقياء في فاتحة حياتي التعسة فكان يمر بخاطري ما يمر بخاطر أمثالي أنهم قتلى الإدمان لا قتلى الشراب، وكنت أقدر لنفسي القصد فيه إن قُدِّر لي في أمره شيء حتى لا أبلغ مبلغهم ولا أنزل منزلتهم، فلما شربت أخطأ العد وضاع الحساب، وفسد التدبير، واختلف التقدير، وغلبت على أمري كما يغلب على أمره كما يغلب على أمره كل مخدوع بمثل ما خدعت به، ولولا الكأس الأولى ما هلكت، ولا شكوت الذي شكوت، ولولاها ما عافني الأصدقاء، ولا زهد في الأقرباء، فكن أنت وحدك صديق السراء والضراء. فعاهدته على ذلك ثم تركته في حالة. تُصمَّ السميع وتعمى البصير ... ويُسأل من مثلها العافيه

الدفين الصغير

الدفين الصغير: الآن نفضت يدي من تراب قبرك يا بني وعدت إلى منزلي كما يعود القائد المنكسر من ساحة الحرب لا أملك إلا دمعة لا أستطيع إرسالها، وزفرة لا أستطيع تصعيدها. ذلك لأن الله الذي كتب لي في لوح مقاديره هذا الشقاء في أمرك، فرزقني بك قبل أن أسأله إياك، ثم استلبك مني قبل أن أستعفيه منك، قد أراد أن يتمم فضاءه فيَّ، وأن يجرعني الكأس حتى ثمالتها فحرمني حتى دمعة أرسلها، أو زفرة أصعّدها، حتى لا أجد في هذه، ولا تلك ما أتفرّج به مما أنا فيه، فله الحمد راضيا وغاضبا، وله الثناء منعما وسالبا، وله مني ما يشاء من الرضى بقضائه، والصبر على بلائه. رأيتك يا بني في فراشك عليلا فجزعت، ثم خفت عليك الموت ففزعت، وكأنما كان يخيل إلي أن الموت والحياة شأن من شؤون الناس، وعمل من الأعمال التي تملكها أيديهم فاستشرت الطبيب في أمرك فكتب لي الدواء، ووعدني بالشفاء، فجلست

بجانبك أصبُّ في فمك ذلك السائل الأصفر قطرة قطرة، والقدر ينتزع من بين جنبيك الحياة قطعة قطعة، حتى نظرت فإذا أنت بين يدي جثة باردة لا حراك بها، وإذا قارورة الدواء لا تزال في يدي، فعلمت أني قد ثكلتك، وأن الأمر أمر القضاء، لا أمر الدواء. سأنام يا بني بعد قليل على فراش مثل فراشك، وسيعالج مني المقدار وما عالج منك، وأحسب أن آخر ما سيبقى في ذاكرتي في تلك الساعة من شؤون الحياة وأطوارها، وخطوبها وأحداثها، هو الندم العظيم الذي لا أزال أكابد ألمه على تلك الجرع المريرة التي كنت أجرعك إياها بيدي، وأنت تجود بنفسك فيربد وجهك، وتختلج أعضاؤك، وتدمع عيناك، وما لك يد فتستطيع أن تمدها إلي لتدفعني عنك، ولا لسان فتستطيع أن تشكو إلى مرارة ما تذوق. لقد كان خيرًا لي ولك يا بني أن أكل إلى الله أمرك في شفائك ومرضك، وحياتك وموتك، وألا يكون آخر عهدك بي يوم وداعك لهذه الدنيا تلك الآلام التي كنت أجشّمك إياها، فلقد أصبحتُ أعتقد أنني كنت عونا للقضاء عليك، وأن كأس المنية التي كان يحملها لك القدر في يده لم تكن أمر مذاقا في فمك من قارورة الدواء التي كنت أحملها لك في يدي

ما أسمج وجه الحياة من بعدك يا بني، وما أقبح صورة هذه الكائنات في نظري، وما أشد ظلمة البيت الذي أسكنه بعد فراقك إياه، فلقد كنت تطلع في أرجائه شمسا مشرقة تضيء لي كل شيء فيه، أما اليوم فلا ترى عيني مما حولي أكثر مما ترى عينك الآن في ظلمات قبرك. بكى الباكون والباكيات عليك ما شاءوا، وتفجّعوا ما تفجعوا، حتى إذا استنفدوا ماء شئونهم، وضعفت قواهم عن احتمال أكثر مما احتملوا، لجئوا إلى مضاجعهم فسكنوا إليها، ولم يبق ساهرًا في ظلمة هذه الليل وسكونه غير عينين قريحتين، عين أبيك الثاكل المسكين، وعين أخرى أنت تعلمها. لقد طال علي الليل حتى مللته، ولكنني لا أسأل الله أن ينفرج لي سواده عن بياض النهار؛ لأن الفجيعة التي فجعتها بك يا بني لم تبق بين جنبي بقية أقوى بها على رؤية أثر من آثار حياتك، فليت الليل باقٍ حتى لا أرى وجه النهار، بل ليت النهار يضيء فقد مللت هذا الظلام. دفنتك اليوم يا بني، ودفنت أخاك من قبلك، ودفنت من قبلكما أخويكما، فأنا في كل يوم أستقبل زائرًا جديدًا، وأودع ضيفًا راحلًا، فيا لله لقلب قد لاقى فوق ما تلاقي القلوب، واحتمل

فوق ما تحتمل من فوادح الخطوب. لقد افتلذ كل منكم يا بَنيّ من كبدي فلذة، فأصبحت هذه الكبد الخرقاء مزقًا مبعثرة في زوايا القبور، ولم يبق لي منها إلا ذماء قليل لا أحسبه باقيًا على الدهر، ولا أحسب الدهر تاركه دون أن يذهب به كما ذهب بأخواته من قبل. لما ذهبتم يا بَنِيّ بعد ما جئتم؟ ولماذا جئتم أن كنتم تعلمون أنكم لا تقيمون؟ لولا مجيئكم ما أسفت على خلو يدي منكم؛ لأنني ما تعودت أن تمتد عيني إلى ما ليس في يدي، ولو أنكم بقيتم بعدما جئتم ما تجرعت هذه الكأس المريرة في سبيلكم. لقد كنت أرضى من الدهر في أمركم أن يتزحزح لي عن طريقي التي أسير فيها، وأن يزوي وجهه عني فلا أراه ولا يراني، ولا يحسن إلي ولا يسيء، ولا يتقدم إلي بخير ولا شر، ولا يتراءى لي مبتسمًا، ولا مقطبًا، ولا ضاحكًا ولا باكيًا، لو أنه رضى مني بذلك، ولكنه كان أذكى قلبًا، وأنفذ بصرًا، من أن يفوته العلم بأنني ما كنت أبكي على النعمة لو لم تكن في يدي، وما كنت أجد مرارة فقدانها، لو لم أذق حلاوة وجدانها، وكان لا بد له أن يجري في سنة الشقاء الذي أخذ على نفسه أمام الله

أن يجريها بين عباده، فلما عجز عن أن يدخل إلى من باب الطمع، دخل إلي من باب الأمل، فهو يمنحني المنحة فاغتبط بها حقبة من الدهر حتى إذا علم أن بذرة الأمل التي غرسها في نفسي قد نمت وأزهرت، وأنني قد استعذبت طعم النعمة التي آتاني كرّ عليّ فانتزعها من يدي أنعَمَ ما أكون بها كما تُنتزع الكأس الباردة من يد الظامئ الهيمان، ليعظم وقوع السهم في كبدي، ويفدح سلب النعمة من يدي، ولولا ذلك ما نال مني منالا، ولا وجد إلي سبيلا. يا بني إن قدر الله لكم أن تتلاقوا في روضة من رياض الجنة، أو على شاطئ غدير من غدرانها، أو تحت ظلال قصر من قصورها، فاذكروني مثل ما أذكركم، وقفوا بين يدي ربكم صفا واحدا كما يقف بين يديه المصلون، ومدوا إليه أكفكم الصغيرة كما يمدها السائلون، وقولوا له: اللهم إنك تعلم أن هذا الرجل المسكين كان يحبنا، وكنا نحبه وقد فرقت الأيام بيننا وبينه فهو لا يزال يلاقي من بعدنا من شقاء الحياة وبأسائها مالا طاقة له باحتماله، ولا نزال نجد بين جوانحنا من الوجد به، والحنين إليه، ما ينغص علينا هناء هذه النعمة التي ننعم بها في جوارك

بين سمعك وبصرك، وأنت أرحم بنا وبه من أن تعذبنا عذابًا كثيرًا، فإما أن تأخذنا إليه أو تأتي به إلينا: لا بل لا تطلبوا منه ألا أن يأتي بي إليكم، فإن الحياة التي كرهتها لنفسي لا أرضاها لكم، فعسى أن يستجيب الله من دعائكم ما لم يستجب من دعائي، فيرفع هذا الستار المسبل بيني وبينكم، فنلتقي كما كنا.

مناجاة القمر

مناجاة القمر: أيها الكوكب المطل من علياء سمائه، أأنت عروس حسناء تشرف من نافذة قصرها، وهذه النجوم المبعثرة حواليك قلائد من جمان، أم ملك عظيم جالس فوق عرشه، وهذه النيرات حور وولدان، أم فص من ماس يتلألأ، وهذا الأفق المحيط بك خاتم صيغ من الأنوار، أم مرآة صافية، وهذه الهالة الدائرة بك إطار، أم عين ثرة من الماء، وهذه الأشعة جداول تتدفق، أو تنور مسجور، وهذه الكواكب شرر يتألق. أيها القمر المنير: إنك أنرت الأرض وهادها ونجادها، وسهلها ووعرها، وعامرها وغامرها، فهل لك أن تشرق في نفسي فتنير ظلمتها، وتبدد ما أظلها من سحب الهموم والأحزان. أيها القمر المنير: إن بيني وبينك شبهًا واتصالًا، أنت وحيد في سمائك، وأنا وحيد في الأرض، كلانا يقطع شوطه صامتًا هادئًا منكسرًا حزينًا،

لا يلوي على أحد، ولا يلوى عليه أحد، وكلانا يبرز لصاحبه في ظلمة الليل فيسايره ويناجيه، يراني الرائي فيحسبني سعيدًا لأنه يغتر بابتسامة في ثغري، وطلاقة في وجهي، ولو كُشف له عن نفسي، ورأى ما تنطوي عليه من الهموم والأحزان، لبكى لي بكاء الحزين إثْر الحزين، ويراك الرائي فيحسبك مغتبطًا مسرورًا؛ لأنه يغتر بجمال وجهك، ولمعان جبينك، وصفاء أديمك، ولو كشف له عن عالمك لرآه عالمًا خرابًا، وكونا يبابًا، لا تهب فيه ريح، ولا يتحرك شجر، ولا ينطق إنسان، ولا يبغم حيوان. أيها القمر المنير: كان لي حبيب يملأ نفسي نورًا، وقلبي لذة وسرورًا، وطالما كنت أناجيه ويناجيني بين سمعك وبصرك، وقد فرق الدهر بيني وبينه، فهل لك أن تحدثني عنه وتكشف لي عن مكان وجوده، فربما كان ينظر إليك نظري، ويناجيك مناجاتي، ويرجوك رجائي، وهائنذا كأني أرى صورته في مرآتك، وكأني أراه يبكي من أجلي كما أبكي من أجله، فأزداد شوقًا إليه، وحزنًا عليه. أيها القمر المنير: ما لي أراك تنحدر قليلا قليلا إلى الغروب كأنك تريد أن

تفارقني، وما لي أرى نورك الساطع قد أخذ في الانقباض شيئا فشيئا، وما هذا السيف المسلول الذي يلمع من جانب الأفق على رأسك. قف قليلًا لا تغب عني، لا تفارقني، لا تتركني وحيدًا، فإني لا أعرف غيرك، ولا آنس بمخلوق سواك. آه لقد طلع الفجر ففارقني مؤنسي، وارتحل عني صديقي، فمتى تنقضي وحشة النهار، ويقبل إليَّ أنس الظلام.

أين الفضيلة

أين الفضيلة: قرأت في بعض الروايات أن فتى قضى حقبة من دهره مولعًا بحب فتاة خيالية لم يرها مرة واحدة في حياته، وإنما تخيل في ذهنه صورة ألفها من شتى المحاسن ومتفرقاتها في صور البشر، فلما استقرت في مخيلته تجسمت في عينيه فرآها فأحبها حبا ملك عليه قلبَه، وحال بينه وبين نفسه وذهب به كل مذهب، فأنشأ يفتش عنها بين سمع الأرض وبصرها أعوامًا طوالًا حتى وجدها. لا أستطيع أن أكذب هذه القصة لأني أنا ذلك الفتى بعينه لا فرق بيني وبينه إلا أنه يسمي ضالته الفتاة، وأسميها الفضيلة وأنه فتش عنها فوجدها، وفتشت عنها حتى عييت بأمرها فما وجدت إليها سبيلًا. فتشت عن الفضيلة في حوانيت التجار، فرأيت التاجر لصًّا في أثواب بائع، وجدته يبيعني بدينارين ما ثمنه دينار واحد، فعلمت أنه سارق للدينار الثاني، ولو وكل إلي أمر القضاء ما هان على أن أعاقب لصوص الدراهم، وأغفل لصوص الدنانير

ما دام كل منهما يسلبني مالي ويتغفلني عنه. أنا لا أنكر على التاجر ربحه، ولكن أنكر عليه أن يتناول منه أكثر من الجزاء الذي يستحقه على جهد نفسه في جلب السلعة وبذل راحته في صونها وإحرازها، وكل ما أعرف من الفرق بين حلال المال وحرامه أن الأول بدل الجد والعمل، والثاني بدل الغش والكذب. فتشت عن الفضيلة في مجالس القضاء، فرأيت أن أعدل القضاة من يحرص الحرص كله على أن لا يهفو في تطبيق القانون الذي بين يديه هفوة يحاسبه عليها من منحه هذا الكرسي الذي يجلس عليه؛ مخافة أن يسلبه إياه، أما إنصاف المظلوم والضرب على يد الظالم، وإراحة الحقوق على أهلها وإنزال العقوبات منازلها من الذنوب، فهي عنده ذيول وأذناب لا يأبه1 لها ولا يحتفل بشأنها إلا إذا أشرق عليها الكوكب بسعده، فمشت مع القانون في طريق واحد مصادفة واتفاقا، فإذا اختلف طريقهما بين يديه حكم بغير ما يعتقد، ونطق بغير ما يعلم ودان البريء وبرَّأ الجاني، فإذا عتب عليه في ذلك عاتب كانت معذرته إليه حكم القانون عليه، كأنما يريد أن يجعل العقل أسير القانون

_ 1 أبه للشيء تفطن له، واحتفل به.

وما القانون إلا حسنة من حسنات العقل وصنيعة من صنائعه، فتشت عن الفضيلة في قصور الأغنياء فرأيت الغني إما شحيحًا أو متلافًا، أما الأول فلو كان جارًا لبيت فاطمة -رضي الله عنها- وسمع في جوف الليل أنينها وأنين ولديها من الجوع ما مد أصبعيه إلى أذنيه ثقة منه أن قلبه المتحجر لا تنفذه أشعة الرحمة، ولا تمر بين طياته نسمات الإحسان، وأما الثاني فما له بين ثغر الحسناء، وثغر الصهباء، فعلى يد أي رجل من هذين الرجلين تدخل الفضيلة قصور الأغنياء. فتشت عنها في مجالس السياسة؛ فرأيت أن المعاهدة والاتفاق والقاعدة والشرط ألفاظ مترادفة معناها الكذب، ورأيت أن الملك في كرسي مملكته، كالحوذي في كرسي عربته، لا فرق بينهما إلا أن هذا ينقض "تعريفته"، وذاك ينقض معاهدته، ورأيت أن أعدى عدو للإنسان الإنسان، وأن كل أمة قد أعدت في مخازنها ومستودعاتها، وفي بطون قلاعها وعلى ظهور سفنها، وفوق متون طياراتها ما شاء الله أن تعده لاختها من عدد الموت وأفانين العذاب، حتى إذا وقع بينهما الخلف على حد من الحدود أو لقب من الألقاب لبس الإنسان فروة السبع، واتخذ له من تلك العدد الوحشية أظفارًا كأظفاره وأنيابا كأنيابه فشحذ

الأولى وكشَر عن الأخرى، ثم هجم على ولد أبيه وأمه هجمة لا يعود منها إلا به أو بنفسه التي جنبيه، وإنك لو سألت الجنديين المتقاتلين ما خطبكما، وما شأنكما وعلام تقتتلان، وما هذه الموْجدة التي تحملانها بين جنبيكما، ومتى ابتدأت الخصومة بينكما وعهدي بكما أنكما ما تعارفتما إلا في الساعة التي اقتتلتما فيها لعرفت أنهما مخدوعان عن نفسيهما، وأنهما ما خرجا من ديارهما ليضعا درّة في تاج الملك أو "نيشانا" على صدر القائد. فتشت عنها بين رجال الدين ورجال الصحف؛ فرأيت أنهما يتجران بالعقول في أسواق الجهل، ورأيت كلا منهما قد ثغر له في كل رأس من رؤوس البشر ثغرة ينحدر منها إلى العقول فيفسدها والقلوب فيقتلها؛ ليتوسل بذلك إلى الذخائر فيسرقها والخزائن فيسلبها، هذا باسم السياسة وذاك باسم الدين. فتشت عنها في كل مكان أعلم أنه تربتها وموطنها فلم أعثر بها فليت شعري هل أجدها في الحانات والمواخير أو في مغارات اللصوص أو بين جدران السجون. سيقول كثير من الناس قد غلا الكاتب في حكمه، وجاوز الحد في تقديره، فالفضيلة لا تزال تجد في صدور كثير من الناس صدرًا رحبًا، وموردًا عذبًا، وإني قائل لهم قبل أن يقولوا كلمتهم:

إني لا أنكر وجود الفضيلة، ولكني أجهل مكانها، فقد عقد رياء الناس أمام عيني سحابة سوداء، أظلم لها بصري حتى ما أجد في صفحة السماء نجمًا لامعًا، ولا كوكبًا طالعًا. كل الناس يدعي الفضيلة وينتحلها، وكلهم يلبس لباسها ويرتدي رداءها ويعد لها عدتها من منظر يستهوي الأذكياء والأغبياء ومظهر يخدع أسوأ الناس بالناس ظنًا، فمن لي بالوصول اليها في هذا الظلام الحالك والليل الأليل. إن كان صحيحًا ما يتحدث به الناس من سعادة الحياة وطيبها وغبطتها ونعيمها فسعادتي فيها أن أعثر في طريقي في يوم من أيام حياتي بصديق يَصدُقني الود، وأصدقه فيقنعه مني ودي وإخلاصي دون أن يتحاوز ذلك إلى ما وراءه من مآرب وأغراض أن يكون شريف النفس، فلا يطمع في غير مطمع شريف القلب فلا يحمل حقدًا ولا يحفظ وترًا، ولا يحدث نفسه في خلوته بغير ما يحدث به الناس في محضره شريف اللسان، فلا يكذب ولا ينم ولا يلم بعرض، ولا ينطق بهجر1 شريف الحب، فلا يحب غير الفضيلة، ولا يبغض غير الرذيلة. هذه هي السعادة التي أتمناها ولكني لا أراها.

_ 1 الهجر: الفحش.

إني لأرى الرياض الغناء تهفو أشجارها، وترن أطيارها، وأرى جداول الماء تنساب بين أنوارها وأزهارها انسياب الأفاعي الرقطاء، في الرمال البيضاء، وأرى أنامل النسائم تعبث بمنثورات الأوراق، عبث الهوى بألباب العشاق، وأسمع ما بين صفير البلابل، وخرير الجداول، نغمات شجية تبلغ من نفس الإنسان، ما لا تبلغ أوتار العيدان، فلا يسرني منها منظر ولا يطربني مسمع، لأني لا أرى بين هذه المشاهد التي أراها ضالتي التي أنشدها. لقد سمُج وجه الرذيلة في عيني وثقل حديثها في مسمعي حتى أصبحت أتمنى أن أعيش بلا قلب؛ فلا أشعر بخير الحياة وشرها، وسرورها وحزنها. ولولا بنيات صغار يفقدن بفقدي طيب العيش ونعيمه لفررت من هذا العالم الناطق إلى ذلك العالم الصامت؛ فأجد من الأنس به والسكون إليه ما وجده الذي يقول: عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى ... وصوت إنسان فكدت أطير

الغني والفقير

الغني والفقير: مررت ليلة أمس برجل بائس فرأيته واضعا يده على بطنه كأنما يشكو ألما فرثيت لحاله وسألته ما باله فشكا إلى الجوع ففثأته1 عنه ثم تركته، وذهبت إلى زيارة صديق لي من أرباب الثراء والنعمة فأدهشني أني رأيته واضعا يده على بطنه، وأنه يشكو من الألم ما يشكو ذلك البائس الفقير، فسألته عما به فشكا إلى البطنة فقلت يا للعجب: لو أعطى الغنيُّ الفقيرَ ما فضل عن حاجته من الطعام ما شكا واحد منهما سقما، ولا ألمًا، لقد كان جديرًا به أن يتناول من الطعام ما يشبع جوعته. ويطفئ غلته، ولكنه كان محبًّا لنفسه مغاليا بها فضم إلى مائدته ما اختلسه من صفحة الفقير، فعاقبه الله على قسوته بالبطنة حتى لا يهنئ للظالم ظلمه، ولا يطيب له عيشه، وهكذا يصدق المثل القائل: بطنة الغني انتقام لجوع الفقير: ما ضنت السماء بمائها، ولا شحت الأرض بنباتها، ولكن

_ 1 يقال فثأت فلانًا عن فلان إذا سكنت غيظه عليه.

حسد القويُّ الضعيفَ عليهما فزواهما1 واحتجنهما2 دونه فأصبح فقيرًا معدمًا. شاكيًا متظلمًا. غرماؤه المياسير الأغنياء، لا الأرض والسماء. ليتني أملك ذلك العقل التي يملكه هؤلاء الناس، فأستطيع أن أتصور كما يتصورون حجة الأقوياء في أنهم أحق بإحراز المال، وأولى بامتلاكه من الضعفاء، إن كانت القوة حجتهم عليهم، فلم لا يملكون بهذه الحجة سلب أرواحهم كما ملكوا سلب أموالهم، وما الحياة في نظر الحي بأثمن قيمة من اللقمة في يد الجائع، وإن كانت حجتهم أنهم ورثوا ذلك المال من آبائهم، قلنا لهم: إن كانت الأبوة علة الميراث، فلم ورثتم آباءكم في أموالهم، ولم ترثوهم في مظالمهم، فلقد كان آباؤكم في أموالهم، ولم ترثوهم في مظالمهم، فلقد كان آباؤكم أقوياء؛ فاغتصبوا ذلك المال من الضعفاء، وكان حقًّا عليهم أن يردوا إليهم ما اغتصبوا منهم، فإن كنتم لا بد ورثاءهم فاخلفوهم في رد المال إلى أربابه، لا في الاستمرار على اغتصابه. ما أظلم الأقوياء من بني الإنسان، وما أقسى قلوبهم، ينام أحدهم ملء جفنيه على فراشة الوثير ولا يقلقه في مضجعه أنه

_ 1 روي عنه حقه منعه إياه. 2 احتجن الشيء إذا جذبه بالمحجن إلى نفسه والمحجن الصولجان، والمراد أنه استأثر به.

يسمع أنين جاره وهو يرعد بردًا، ويجلس أمام مائدة حافلة بصنوف الطعام قديده وشوائه حلوه ومُرّه، ولا ينغص عليه شهوته علمه أن بين أقربائه وذوي رحمه من تثب أحشاؤه شوقًا إلى فتات تلك المائدة، ويسيل لعابه تلفها على فضلاتها، بل إن بينهم من لا تخالط الرحمة قلبه، ولا يعقد الحياء لسانه، فيظل يسرد على مسمع الفقير أحاديث نعمته، وربما استعان به على عدِّ ما تشتمل عليه خزائنه من الذهب وصناديقه من الجوهر، وغرفه من الفراش والرياش ليكسر قلبه وينغص عليه عيشه ويبغض إليه حياته، وكأنه في كل كلمة من كلماته وحركة من حركاته يقول له: أنا سعيد لأني غني وأنت شقي لأنك فقير: أحسب لولا أن الأقوياء في حاجة إلى الضعفاء يستخدمونهم في مرافقهم وحاجاتهم كما يستخدمون أدوات منازلهم ويسخرونهم في مطالبهم كما يسخرون مراكبهم، ولولا أنهم يؤثرون الإبقاء عليهم ليمتعوا أنفسهم بمشاهدة عبوديتهم لهم وسجودهم بين أيديهم لامتصوا دماءهم كما اختلسوا أرزاقهم، ولحرموهم الحياة كما حرموهم لذة العيش فيها. لا أستطيع أن أتصور أن الإنسان إنسان حتى أراه محسنًا؛ لأني لا أعتمد فصلًا صحيحًا بين الإنسان والحيوان إلا الإحسان،

وإني أرى الناس ثلاثة، رجل يحسن إلى غيره ليتخذ إحسانه إليه سبيلًا إلى الإحسان إلى نفسه، وهو المستبد الجبار الذي لا يفهم من الإحسان إلا أنه يستبعد الإنسان، ورجل يحسن إلى نفسه، ولا يحسن إلى غيره، وهو الشرة المتكالب الذي لو علم أن الدم السائل يستحيل إلى ذهب جامد لذبح في سبيله الناس جميعًا، ورجل لا يحسن إلى نفسه، ولا إلى غيره، وهو البخيل الأحمق الذي يجيع بطنه ليشبع صندوقه، أما الرابع الذي يحسن إلى غيره ويحسن إلى نفسه، فلا أعلم له مكانًا ولا أجد إليه سبيلا، وأحسب أنه هو ذلك الذي كان يفتش عنه الفيلسوف اليوناني ديوجين الكلبي حينما سئل ما يصنع بمصباحه، وكان يدور به في بياض النهار، فقال: افتش عن إنسان.

مدينة السعادة

مدينة السعادة: رأيت فيما يرى النائم أنني أمشي في برية جرداء قفر قد انبسطت، ومالها على سطحها متجعدة تجعد الأمواج المتوثبة في القاموس1 المحيط. وكانت الشمس قد طَفَلت2 للإياب فلم أر في بطحائها ظلًّا غير ظلي المستطيل الذي رسمته يد الشمس، فأخطأت في تصويره كأنما حسبتني آدم أبا البشر3 فأوسعتني طولًا، ورسمتني ميلًا. أنشأت أمشي لا أعرف لي مذهبا ولا مضطربًا، وأنَّى يكون ذلك في صحراء قد تشابهت مسالكها وتشاكلت مذاهبها، وانفرج ما بين قاصيها ودانيها، حتى انحدرت الشمس إلى مستقرها، وطار طائر الليل من مكمنه، وما نشر الظلام أجنحته السوداء في الأفق حتى وجدتني أحير من دمعة وجد في مقلة عاشق، يدفعها الحب ويمنعها الحياء، لا أعلم هل أنا سرُّ كامن في باطن الظلماء،

_ 1 القاموس وسط البحر ومعظمه. 2 طفلت الشمس أحمرت للغروب. 3 ربما لم يكن آدم أطول من بنيه قامة، ولكن التشبية بحسب الخيال الذهني على حد قوله تعالى: {كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ} .

أو حوت مضطرب في أعماق الماء، وأحيانا كان يخيل إلي أني في منجم من مناجم الفحم، فأمد يدي أتلمس جدرانه مخافة أن أصطدم بواحد منها، ولم أزل كذلك حتى شعرت بأن الظلام بدأ ينفض صبغته وأن ذراته تتطاير ههنا وههنا، فإذا أن بين يدي جبال عالٍ كأنما هو جدار قائم يمسك السماء أن تقع على الأرض، أو ملك جبار قد لبس من قرص الشمس التاج الأحمر، ومن شعاعها الرداء الأصفر. ولا تسل هنالك عما ألم بقلبي من الهم، وعقلي من الخيال حينما رأيت أن صعود السماء أقرب إلى الأمل ومن صعود هذا الجبل، وحرت بين الإقدام والإحجام، فلم أر بدًّا من الاستسلام، لمقدور الحِمام، ثم رميت بطرفي فرأيت بين الصخور المبعثرة في سفح الجبل صخرة بيضاء ناعمة الملمس، فاضطجعت عليها وأنا أتمثل بقول أبي العلاء: ضجعة الموت رقدة يستريح ال ... جسم فيها والعيش مثل السهاد وما هي إلا غمضة الطرف حتى شعرت بأنها تتحرك قليلًا قليلًا نهضت، ثم طارت فكدت أحسب أنه الموت قد نزل، وأنها الروح تصعد إلى الملأ الأعلى لولا أن فتحت عيني فرأيت ما كنت

أحسبه صخرة طائرًا أشبه شيء بالنسر في خلقه، والقبة في ضخامتها واستدارتها، وما زال ذاهبًا بي في أفق السماء، ثم رنق لحظة في الهواء ثم هبط إلى قمة الجبل، فأسرعت بالانحدار عنه، وهنالك أحسست بسلسبيل بارد من الأمل يتسرب إلى قلبي فينقع غلته، ويطفئ لوعته؛ لأنني رأيت السفح الثاني من الجانب الآخر، ورأيت بهجة الحياة وزهرة العمران. رأيت على البعد خطوط الخضرة حول سطور الماء، ورأيت المنازل والقصور كأنها العصافير السوداء، أو الحمائم البيضاء، وكأن ما ألم بنفسي من السرور أنساني ما ألم بجسمي من النصب، فانحدرت إليها فما بلغتها حتى رأيتني في مزرعة في وسطها بِنْية قد وقف على بابها شيخ هو أشبه الأشياء بما يتخيله فريق الخياليين من علماء الفلك في صور سكان المريخ، فذعر مني كما يُذْعر الإنسان، لرؤية الجان، وما كان الذي قام في نفسه مني بأكثر مما قام في نفسي منه لولا أني ألفت الغرائب، وعجمت عود العجائب، فتقدمت إليه، وكأنما ألهمت لغته الغريبة فحييته بها فحياني، وهو يقول: ما كنت أحسب أن الشمس تطلع على مدينة غير هذه المدينة، أو أن في العالم إنسانًا غير هذا الإنسان، فما زلت أحدثه وأستدنيه حتى أنس بي ودعاني إلى منزله وخلطني بنفسه وأهله

وقدم لي طعاما شهيًّا ومهد لي مرقدا وثيرًا1 وكان الليل قد أقبل للمرة الثانية من هجرتي هذه، فنمت نومًا هادئًا مطمئنًا لا تروعني فيه خواطر الموت، ولا وساوس الهلاك. استيقظت أنا والشمس من مرقدينا على صوت تلك الأسرة الطاهرة الكريمة تصلي إلى الله تعالى صلاة الخاشعين المتبتلين، وتدعو وهي مصطفة صفًا واحدًا أن ييسر الله لها عسرها، ويسهل أمرها، ويصلح شأنها، ويمنحها معونته ونصره، فأخذ من نفسي منظرها هذا مأخذًا غريبًا فلم أر بدًّا من الانتظام في صفها، والدعاء بدعائها، والبكاء لبكائها، وعجبت أن يكون مثل هذا الإيمان الخالص راسخًا في نفوس أهل هذه المدينة، ولم يرسل إليها رسول، ولم ينزل عليها كتاب، فلما فرغنا من الصلاة التفت إلى صاحب البيت، فقلت له أراكم تتعبدون فمن تعبدون، وتصلون فمن الذي تدعون، قال نعبد الله خالق هذه الكائنات ومدبرها، قلت هل رأيتموه حتى عرفتموه، قال نعم رأيناه في آثاره ومصنوعاته، ورأيناه في السماء والماء، والفلك الدائر، والنجم السائر، وفي أجنَّة الحيوان، وبذور النبات، ورأيناه في أنفسنا وعقولنا وأرواحنا قبل ذلك، قلت ولِمَ تعبدونه، قال

_ 1 الوثير: الوطئ.

شكرًا له على نعمة الخلق والرزق، وإن أحدنا ليعنيه أن يشكر لصاحبه نعمته إذا أحسن إليه بجرعة أو أنعم عليه بمضغة فأحر به أن يشكر مانح المانحين، والمحسن إلى المحسنين، فقلت في نفسي لقد بلغ الرجل مرتبة الموحدين الصادقين الذين يعبدون الله مخلصين له الدين لا يرجون ثوابًا، ولا يخافون عقابًا، ثم سألته أين تذهبون بعد الموت، قال إلى النعيم المقيم، أو العذاب الأليم، قلت لعلك تريد الجنة والنار، قال لا أفهم ما تقول، وإنما أعلم أن الإله الحكيم لا يترك المحسن دون أن يجازيه خيرًا على إحسانه كما يأبى عدله أن يسوي بين المحسن والمسيء، قلت متى يكون المحسن محسنا والمسيء مسيئا، قال الإحسان عمل الخير، والإساءة عمل الشر؛ لذلك لا ترى بيننا من يحدث نفسه بالإضرار بأخيه أو من يقصر في دفع الأذى عنه، فقلت في نفسي ليت الفقهاء الذين ينفقون أعمارهم في الحيض والاستحاضة والمذي والودي1 والحدث الأكبر والحدث الأصغر، وليت الكلاميين الذين يسهرون الليالي ويقرِّحون المآقي في عينية الصفات وغيريتها والجوهر والعرض والحدوث والقدم والدور والتسلسل، وليت المتصوفة الذين يحاولون أن ينازعوا الله في مشيئته ويجاذبوه

_ 1 المذي والودي نوعان من الماء الذي يخرج من القضيب.

قدرته ويغالبوه على أمره ونهيه ويزاحموه في لوحه وقلمه يعرفون من سر الدين وحكمته والغرض الذي قام له ما يعرف هؤلاء البله الأغرار الذين لا يفهمون معنى الجنة والنار، ولا يميزون بين الدين والتين. فرغنا من الحديث، وعرضت على الشيخ أن يُزيرني المدينة، فانحدر بي إليها فرأيت شوارعها فسيحة منتظمة ومنازلها متفرقة غير متلاصقة، وقد أحاط بكل منزل منها حديقة زاهرة، ورأيت سكانها مكبين على أعمالهم مجدين في شئونهم صغارًا وكبارًا، رجالًا ونساءً، ما فيهم فقير يتسول، ولا متبطّل يتثاءب ويتململ. وأغرب ما استهوى نظري أني لم أر في تلك المدينة ذلك التفاوت الذي أعرفه في مدائننا بين الناس في منازلهم ومراكبهم ومطاعمهم ومشاربهم وأزيائهم كأن جميع سكانها سواء في حالة المعيشة، ودرجة الثروة فسألت الشيخ ألا يوجد فيكم غني وفقير وسيد ومسود، قال لا يا سيدي، حسب الرجل منا بيت يأوي إليه ومزرعة يستغلها ودابة تحمل أثقاله، ثم لا شأن له بعد هذا فيما سوى ذلك؛ لذلك لا يوجد فينا سيد ومسود؛ لأنه لا يوجد فينا غني وفقير، قلت لا بد أن يوجد بينكم العاجز عن العمل والكسول المتبطل، قال أما الكسول فلا وجود له بيننا

لأنه يعلم أنا لا نرحمه، ولا نغفر له زلته في احتقار نعمة العقل والقوة بتعطيلهما عن العمل، وأما العاجز فنحدب عليه، ونحسن إليه، ولا ترى لأنفسنا في ذلك فضلًا؛ لأننا إنما نمنحه جزءًا من القوة التي منحنا إياها لنعبده بها، ولا نرى في وجوده العبادة أفضل من مواساة العاجزين، ورحمة البائسين. وإنه ليحدثني بهذا الحديث إذ لاحت لنا بنية فخمة ضخمة تمتاز عن غيرها من البُنَى بحسن نظامها، وجمال هندامها، فقلت للشيخ هل أرى قصر الملك؟ قال لا ولكنه قصر رجل شرير طماع قد خالف إرادة الله، وحكمته فاحتجن1 دون عبادة أرضهم ومالهم ليعلو عليهم ويستأثر بالنعمة من دونهم، فغضب الله عليه، وقلب نعمته نقمة، ورخاءه شدة، فإنه ما أراح2 رائحة العيش الرغد حتى أسلم نفسه إلى شهواتها، وحملها فوق ما تحمل طبيعتها، فها هو ذا اليوم يقاسي من آلام الأمراض وأنواع الأسقام ما بغض إليه العيش، وحبب إليه الموت، لم يحمه قصره، ولم يغن عنه ماله، فهو عبرة المعتبرين، وموعظة السابلين3 فكبر الرجل في ذرعي4 وعظم في عيني، وأكبرت فيه وفي أمته هذه الخلال

_ 1 احتجن المال: ضمه واحتواه. 2 أراح فلان الشيء: وجد ريحه. 3 السابلة: المختلفون على الطرقات في حوائجهم. 4 كبر ذرعى: عظم وقعه عندي.

الشريفة والأخلاق العالية، وقلت في نفسي إن مدارسنا على ما تشتمل عليه دروسها من قواعد الحكمة وأصول التربية وفنون الآداب لتعجز عن أن تخرج للناس رجالًا يستطيعون أن يساجلوا هؤلاء القوم في أخلاقهم وفضائلهم، وأردت على ذكر المدارس أن أعرف مناهج التعليم عندهم فقلت للشيخ: هل لك أن تُزيرني مدرسة من مدارسكم، فعجب لسؤالي وقال ما المدرسة، فكان عجبي لجوابه أكثر من عجبه لسؤالي، وقلت المدرسة مكان محدود يجتمع فيه صغار يتعلمون، وكبار يعلمون، قال ما الذي يتعلمه الصغار من الكبار، قلت ما يصلح شأنهم وينفعهم في معاشهم ومعادهم، قال: وأي حاجة بنا إلى مثل هذا المجمع الحاشد في مثل هذا المكان المحدود، إننا يا سيدي أرحم بأبنائنا من أن نكل أمرهم إلى غيرنا فنحن الذين نتولى هذا الشأن منهم، فلا مدارس عندنا غير المصانع والمزارع نعلمهم فيها كيف يرمون البذور، وكيف يستنبتونها، وكيف يصنعون آلات الزراعة وكيف يستعملونها، وفيها نعلمهم كيف يبنون منازلهم وينسحبون ملابسهم ويُعدُّون عددهم، وإنا لا نعرف علمًا غير العمل، ولا نعرف من العمل غير ما نحفظ به قِوام حياتنا، ونستعين به على عبادة ربنا، قلت ألكم حاكم يتولى أموركم، قال لنا حكمَ لا حاكم

وهو رجل قد وثقنا به وبفهمه واستقامة شأنه، فاخترناه لفضل الخصومات إن عرض من ذلك عارض، قلت أليس له جند وأعوان يؤيدونه وينفذون أحكامه، قال: نعم كلنا جنده، وكلنا أعوانه على كل من يختلف عليه أو يتمرد على حكمه فقد وثقنا به وبعدله وكفى، قلت أليس له سجن يحبس فيه المجرمين، قال لا، حسب المجرم عندنا عقوبة أن يتفق أهل المدينة على احتقاره والزراية به، وإن أحدنا ليؤثر أن يتخطفه الطير أو يسقط عليه كسف1 من السماء قبل أن يرى نفسه بغيضًا إلى قومه صغيرًا في نفوسهم ذليلا في أعينهم لا يرفعون إليه طرفا، ولا يقيمون له وزنًا. وما وصلنا من حديثنا إلى هذا الحد حتى كنا قد فرغنا من الطواف بالمدينة، ووصلنا إلى المنزل الذي خرجنا منه فاستقبلنا أهلوه بالبشر والترحاب، واستقبلوا شيخهم بالتقبيل والعناق، فلم أر فيما رأيت من البيوت في مدن العالم، وقراه بيتا أسعد حظا ولا أنعم عيشا ولا أروح بالًا من هذا البيت. تلك مدينة السعادة التي يعيش أهلها سعداء، لا يشكون هما

_ 1 الكسف: القطعة.

لأنهم قانعون، ولا يمسكون في أنفسهم حقدًا لأنهم متساوون، ولا يستشعرون خوفًا لأنهم آمنون. تلك المدينة السعادة التي رأيتها فأحببتها، وأحببت العيش فيها لولا أن الله في خلقه سنةً لا تتبدل، وشأنا لا يتحول، فقد جاء الليل وأخذت مكاني من مرقدي في منزل الشيخ فلم أستيقظ حتى رأيتني في فراشي في منزلي، فلا السهل ولا الجبل، ولا الشيخ ولا المزرعة، ولا المدينة ولا السعادة ولما نزلنا منزلا طله1 الندى ... أنيقا وبستانا من النور حاليا أجد لنا طيب المكان وحسنه ... منى فتمنينا فكنت الأمانيا

_ 1 طله أمطره الطل وهو المطر القليل.

أيها المحزون

أيها المحزون: إن كنت تعلم أنك قد أخذت على الدهر عهدًا أن يكون لك كما تريد في جميع شؤونك وأطوارك وألا يعطيك ولا يمنعك إلا كما تحب وتشتهي فجدير بك أن تطلق لنفسك في سبيل الحزن عنانها كلما فاتك مأرب، أو استعصى عليك مطلب، وإن كنت تعلم أخلاق الأيام في أخذها وردها، وعطائها ومنعها، وأنها لا تنام عن منحة تمنحها حتى تكر عليها راجعة فتستردها، وأن هذه سنتها وتلك خَلتها في جميع أبناء آدم سواء في ذلك ساكن القصر وساكن الكوخ، ومن يطأ بنعله هام الجوزاء، ومن ينام على بساط الغبراء، فخفِّض من حزنك، وكفكف من دمعك، فما أنت بأول غرض أصابه سهم الزمان، وما مصابك بالبدعة الطريفة في جريدة المصائب والأحزان. أنت حزين لأن نجمًا زاهرًا من الأمل كان يتراءى لك في سماء حياتك فيملأ عينيك نورًا، وقلبك سرورًا، وما هي إلا كرَّة الطرف أن افتقدته، فما وجدته، ولو أنك أجملت في

أملك، لما غلوت في حزنك، ولو كنت أنعمت نظرك فيما تراءى لك لرأيت برقًا خاطفًا، ما تظنه نجمًا زاهرًا، وهنا لك لا يبهرك طلوعه، فلا يفجعك أفوله. أسعد الناس في هذه الحياة من إذا وافته النعمة تنكر لها، ونظر إليها نظرة المستريب بها وترقب في كل ساعة زوالها وفناءها، فإن بقيت في يده فذاك، وإلا فقد أعد لفراقها عُدته من قبل. لولا السرور في ساعة الميلاد ما كان البكاء في ساعة الموت، ولولا الوثوق بدوام الغنى ما كان الجزع من الفقر، ولولا فرحة التلاق، ما كانت ترحة الفراق.

إلى الدير: مسكين ذلك الفتى الذي رأيته صباح أمس منزويًا في ركن من أركان أحد الأندية، وقد ظللت جبينه الوضاح سحابة سوداء من الحزن، وانحنى على نفسه كأنما شعر بأن قلبه يتمشى في صدره، وأنه يحاول الفرار منه فهو يعطف عليه ليمسكه بين جوانحه، ولو أنه أراد بنفسه خيرا لتركه يمضي في سبيله حيث شاء، فبعدًا لقلب لا يسكن عن الخفقان، ولا يفيق من الهموم والأحزان. سألته ما بالك أيها الصديق، قال: لا شيء، قلت أن تكتمني ما في نفسك ولو عرفتني ما كتمتني، قال ما جهلتك مذ عرفتك، ولكنني أعطيت الله عهدًا مذ خلقت ألا أشكو إلا إلى من أرجو عنده البرء، وما أنا براجٍ عندك، ولا عند أحد من الناس براء من دائي، قلت: هبني طبيبًا والطبيب وإن كان لا يشفي إلا نادر فإنه يسكن غالبًا، ويعزي دائما، فأنا إن عجزت عن معالجتك، فلا أعجز عن تعزيتك، على أن الماء إذا اشتد غليانه احتاج إلى التنفيس عنه، وإلا طار بالقدر، طيران الهم بالصدر.

فأصغي إلى كلماتي واستخذي لها، وأنشأ يحدثني حديثًا تمازجه العبرات، وتقطعه الزفرات، ويقول: زوجني أبي منذ سنين من زوجة جاهلة غبية لا تفهم معنى الزواج إلا أن فيه قضاء لبانتها، وترفيهَ عيشها، وإرضاء نفسها، وهو يحسب أنه قد أحسن إلي بسليلة المجد وربيبة النعمة ومالكة الدور، وساكنة القصور، أجل إنها ذات مال وفير، وخير كثير، ولكن ذهب عليه غفر الله له أني ما كنت أريد أن أكون تاجرا أكسب مالا بل زوجًا أجد بجانبي نفسًا يؤنسني محضرها ويوحشني مغيبها، ومرآة صافية نقية أتراءى فيها، فتريني نفسي كما هي لا تكذبني في خير ولا شر، إني أريد أن أجد في الزوجة التي أتزوجها صديقًا في المرتبة العليا من مراتب الصداقة، ومن لي به في امرأة تجهل حتى إرضاع طفلها ولبس ثوبها، على أن ثروتها ما كانت تقوم بحاجتها فقد كان لها خادمة لملابسها، وأخرى لشعرها، وأخرى لسريرها وطابخة وغاسلة ومرضع وقهرمانة وخياطة خاصة بها وطبيب لا يُغِبُّ1 زيارتها ومؤنسات لا يفارقن مجلسها، ولم تكن ممن أنعم الله عليهن بنعمة الجمال، فكانت تنفق ما يزيد على نصف دخلها

_ 1 أَغَبَّ فلان القوم إذا جاءهم حينًا بعد حين.

في الحسن المجلوب، والجمال المكذوب، وليتها كانت تغفل أمري وتتركني وشأني فأستطيع أن أتناساها، وأعدَّ نفسي من العزاب تخيلًا وتقديرًا، بل كانت تقيم من نفسها، ومن هذا الجحفل اللجب1 المحيط بها حراسا كحراسٍ الليل، وجواسيس كجواسيس الإنكليز يراقبن مواقع نظري ومواطئ قدمي لتعلم أين مذهب قلبي، ووجهة نفسي فتغار عليَّ من الكوكب إذا رأتني أنظر إليه، وتكاد تمزق الثوب الذي أحبه وأتعشق لبسه، وتحسبها آهة الوجد أو دمعة الحب إذا رأتني أتأوه من آلام عشرتها أو أبكي لعظم مصيبتي فيها، وما هي بغيرة الحب ولكنها الأثرة2 قبحها الله وقبح كل ما تأتي به، وأكثر ما كان يغيظني منها أنها ما كانت تفتح علي باب الحساب على اللفتات والخطوات إلا في الساعة التي أريد أن أخلو فيها بنفسي أو بكتابي فما أكاد أنتفع بواحد منهما، فإن سكت أغضبها سكوتي، وإن نطقت أغضبها حديثي، وإن قرأت في كتابي ظنت أن المؤلفين ما ألفوا الكتب إلا نكاية بالنساء لكي يتخذها الرجال معتصمًا يعتصمون به من محادثتهنَّ ومسامرتهن، فكان الكتاب في نظرها أعدى أعدائها وأبغض

_ 1 الجحفل: الجيش واللجب: ذو الجلبة والصياح. 2 الأَثَرة: اختيار الشيء والاستئثار به.

الأشياء إليها، وجملة القول إنها ما كانت تستطيع أن تتصور إلا أن الله خلقها لتكون طفلة لاهية لاعبة في جميع أطوار حياتها، وأنه ما خلقني إلا لأكون زينة مجلسها، ودمية1 قصرها، وأداة لهوها ولعبها، فلا أقرأ ولا أكتب، ولا أعطي نفسي حقًّا من حقوقها ولا أبكر لمزاولة أعمالي ولا أسأم أحاديثها الطويلة المملة التي لا تشتمل إلا على نقد الأزياء، واغتياب النساء، فإن وافيت رغبتها فذاك، وإلا استحالت في لحظة واحدة من إنسان ناطق إلى وحش مفترس، فلا تعرف كلمة مؤلمة لا تسمعنيها ولا تترك وسيلة من وسائل التنغيص لا تهجم بها عليَّ، فكنت بين ألم رضاها وعذاب غضبها في شقاء حبب إلي الموت وبغض إلى وجه الحياة، وبعد فقد رأيت أن العيش معها مستحيل فلم أرى بُدًّا من فراقها ففارقتها، وما على وجه الأرض شيء أبغض إلي من المجد ولا أسمج في نظري من المال، قلت ولكنني لا أزال أراك حزينا بعد ذلك، قال نعم لأنني نفضت يدي من الزوجة الجاهلة، ورحت أفتش عن الزوجة المتعلمة وقلت ليكونن لي من الشأن في الزواج الثاني ما لم يكن لي في الزواج الأول بعد ما صار إلي الخيار، وبعد

_ 1 الدمية: الصورة المصورة.

تلك التجربة وذاك الاختبار، فهيأ لي الحظ جارًا ملاصقًا ما زلت أسمع مذ حل في جواري أن في بيته فتاة جميلة، ما زال يعنَى بأمرها حتى خَرّجها1 وأدَّبها فأصبحت نابغة مدرستها وسيدة أترابها علمًا وفضلًا وتهذيبًا وأدبًا فما قنعت بالخبر حتى خالطت أباها ثم خالطتها فإذا المرأة الجديدة من جميع وجوهها فوقعت في نفسي أحسن موقع وحلت مكانًا لم يكن حلَّ من قبل. خطبت الفتاة إلى أبيها فما لبث أن أخطبني2 فامتلأ قلبي فرحًا وسرورًا وخيل إلي أنني أرى في سماء الآمال نجمًا لامعًا يدنو مني قليلًا قليلًا وسجلت أن الدهر أنشأ يكفر بحسناته، ما أسلف من سيئاته، فإني لكذلك، وقد أعددت للبناء بها عدته ولم يبق بيني وبينه إلا يوم واحد، وإذا برسول البريد قد جاءني بهذا الكتاب. فهاكه فاقرأه فإن فيه بقية قصتي وسر نكبتي، ثم ألقى إلي بغلاف معنون باسمه، فوجدت فيه بطاقة تشتمل على رسم فتى حسن الصورة والهندام يخاصر فتاة جميلة، وقد ألقت برأسها على كتفه ووجدت مع البطاقة كتابًا، فقرأت فيه ما يأتي:

_ 1 خرَّج الأستاذ تلميذه: هذَّبه وعلَّمه. 2 يقال خطب فلان إلى فلان فأخطبه أي: أجابه.

"علمت أنك خطبت فلانة إلى أبيها، وأنك عما قليل ستكون زوجها، ولعمري لقد كذبك نظرك وخدعك من قال لك إنك ستكون سعيدًا بها، فإنها لن تكون لك بعد أن صارت لغيرك ولا يخلص حبك إلى قلبها بعد أن امتلأ بحب عاشقها، فاعدل عن رأيك فيها، وانفض يدك منها، وإن أردت أن تعرف من هو ذلك العاشق، وتتحقق صدق خبري وإخلاصي إليك في نصيحتي فانظر إلى الصورة المرسلة مع هذا الكتاب" التوقيع فما نظرت الصورة، وقرأت الكتاب حتى عرفت كل شيء فأحسست برِعدة تتمشى في أعضائي وشعرت بسحابة سوداء قد غشت على نظري لهول ما سمعت، وسوء ما رأيت، إلا أنني تماسكت قليلًا فأعدت إليه كتابه، وقلت له وهو كل ما استطعت أن أقول: ماذا يعنيك من أمر فتاة فاجرة عاهر بعد ما انكشف لك سرها، وظهرت لك حقيقتها، ولو كنت في مكانك لعدلت عن الحزن على فوتها إلى الاستغفار من حبها، وحَمْدِ الله على ما ألهم من صواب الرأي فيها، أما إن سألتني عن رأيي في زواجك بعد الآن، فإني لا أرى لك إلا أن تترهب وتتعزَّب1 وأن تقول ما قاله "هملت" وقد زهد في الزواج بعد ما عرف حقيقة المرأة، وأدرك خبيئة نفسها "إلى الدير، إلى الدير".

_ 1 تعزَّب أي: عاش عَزَبًا لا يتزوج.

الرحمة

الرحمة: سأكون في هذه المرة شاعرا بلا قافية ولا بحر؛ لأني أريد أن أخاطب القلب وجهًا لوجه، ولا سبيل إلى ذلك إلا سبيل الشعر. إن البذور تلقى في الأرض فلا تنبت إلا إذا حرث الحارث تربتها وجعل عاليها سافلها، وكذلك القلب لا تبلغ منه العظة إلا إذا داخلته وتخللت أجزاء، وبلغت سويداءه، ولا محراث للقلب غير الشعر. أيها الرجل السعيد كن رحميًا، أشعِر قلبك الرحمة، ليكن قلبُك الرحمةَ بعينها. ستقول إني غير سعيد لأن بين جنبي قلبًا يُلم به من الهم ما يُلم بغيره من القلوب، أجل فليكن ذلك كذلك، ولكن أطعم الجائع، واكس العاري وعز المحزون وفرّج كربة المكروب يكن لك من هذا المجتمع البائس خير عزاء يعزيك عن همومك وأحزانك، ولا تعجب أن يأتيك النور من سواد الحلك، فالبدر لا يطلع إلا

إذا شق رداء الليل، والفجر لا يدرج إلا من مهد الظلام. لقد بليت اللذات كلها ورثت حبالها، وأصبحت أثقل على النفس من الحديث المعاد، ولم يبق ما يعزي الإنسان عنها إلا لذة واحدة هي لذة الإحسان. إن منظر الشاكر منظر جميل جذاب ونغمة ثنائه وحمده أوقع في السمع من رنات العود في هزَجه ورمَله1 وأعذب من نغمات معبد في الثقيل الأول2. أحسن إلى الفقراء والبائسين وأعدك وعدًا صادقًا أنك ستمر في بعض لياليك على بعض الأحياء الخاملة، فتسمع من يحدث جاره من حيث لا يعلم بمكانك منه أنك أكرم مخلوق وأشرف إنسان، ثم يعقب الثناء عليك بالدعاء لك أن يجزيك الله خيرًا بما فعلت فيدعو صاحبه بدعائه، ويرجو برجائه، وهنالك تجد من سرور النفس وحبورها بهذا الذكر الجميل في هذه البيئة الخاملة ما يجده الصالحون إذا ذكروا في الملأ الأعلى. ليتك تبكي كلما وقع نظرك على محزون أو مفؤود2 فنبتسم

_ 1 الهزج والرمل نوعان من نغمات الموسيقى. 2 معبد أحد كبار المغنين في العصر الأموي والثقيل الأول ضرب من ضروب الغناء. 3 المفؤود المصاب في فؤاده بألم أو غيره.

سرورًا ببكائك، واغتباطًا بدموعك؛ لأن الدموع التي تنحدر على خديك في مثل هذا الموقف إنما هي سطور من نور تسجل لك في تلك الصحيفة البيضاء أنك إنسان. إن السماء تبكي بدموع الغمام، ويخفق قلبها بلمعان البرق وتصرخ بهدير الرعد، وإن الأرض تئن بحفيف الريح وتضج بأمواج البحر، وما بكاء السماء وأنين الأرض إلا رحمة بالإنسان، ونحن أبناء الطبيعة فلنجارها في بكائها وحنينها. إن اليد التي تصون الدموع أفضل من اليد التي تريق الدماء. والتي تشرح الصدور أشرف من التي تبقر البطون، فالمحسن أفضل من القائد، وأشرف من المجاهد، وكم بين من يحيي الميت ومن يميت الحي. إن الرحمة كلمة صغيرة، ولكن بين لفظها ومعناها من الفرق مثل ما بين الشمس في منظرها والشمس في حقيقتها. إذا وَجد الحكيم بين جوانح الإنسان ضالته من القلب الرحيم، وجد المجتمع ضالته من السعادة والهناء. لو تراحم الناس لما كان بينهم جائع ولا عار ولا مغبون ولا مهضوم، ولأقفرت الجفون من المدامع، واطمأنت الجنوب في

المضاجع، ولمحت الرحمة الشقاء من المجتمع كما يمحو لسان الصبح مداد الظلام. لم يخلق الله الإنسان ليقتر عليه رزقه، ولم يقذف به في هذا المجتمع ليموت فيه جوعًا، بل أرادت حكمته أن يخلقه ويخلق له فوق بساط الأرض، وتحت ظلال السماء ما يكفيه مؤونته، ويسد حاجته، ولكن سلبه الرحمة فبغى بعضه على بعض وغدر القوي بالضعيف، واحتجن دونه رزقه فتغير نظام القسمة العادلة وتشوه وجهها الجميل، ولو كان للرحمة سبيل إلى القلوب لما كان للشقاء إليها سبيل. الفرد هو المجتمع، وإنما يتعدد بتعدد الصور، أتدري متى يكون الإنسان إنسانًا؟ متى عرف هذه الحقيقة حق المعرفة، وأشعرها نفسَه فخفَق قلبه لخفقان القلوب، وسكن لسكونها، فإذا انقطع ذلك السلك الكهربائي بينه وبينها انفرد عنها، واستوحش من نفسه، وإذا كان الأنس مأخذ الإنسان المجتمع، فالوحشة مأخذ الوحش المنقطع. وجِماع القول أنه لا يمكن أن تجتمع رحمة الرحماء وشقوة الأشقياء في مكان واحد إلا إذا أمكن أن يجتمع في بقعة واحدة الملك الرحيم، والشيطان الرجيم.

إن الناس من تكون عنده المعونة الصالحة للبر والإحسان فلا يفعل، فإذا مشى مشى متدفعًا مندلثًا1 لا يلوي على شيء مما حوله من المناظر المؤثرة المحزنة، وإذا وقع نظره على بائس لا يكون نصيبه منه إلا الإغراب في الضحك سخرية به، وببذاذة ثوبه ودمامة خلقه، وإن من الناس من إذا عاشر الناس عاشرهم ليعرف كيف يحتلب دِرَّتهم2 ويمتص دماءهم، ولا يعاملهم إلا كما يعامل شويهاته وبقراته، لا يقربها ولا يُطعمها ولا يَسقيها إلا لما يترقب من الريح في الإتجار بألبانها وأصوافها، ولو استطاع أن يهدم بيتًا؛ ليربح حجر لفعل، وإن من الناس من لا حديث له إلا الدينار، وأين مستقره وكيف الطريق إليه، وما السبيل إلى حبسه والوقوف في وجهه والحيطة لفراره، يبيت ليله حزينًا كئيبًا لأن خزانته ينقصها درهم كان يتخيل في يقظته أو يرى في منامه أنه سيأتيه فلم يُقيَّض له، وإن من الناس من يؤذي الناس لا يجلب بذلك لنفسه منفعة أو يدفع عنها مضرة بل لأنه شرير يدفعه طبعه إلى ما لا يعرف وجهه أو لِيضرّيَ3

_ 1 اندلث في الأمر: اندفع فيه. 2 الدرة اللبن إذا كثر وسال. 3 يقال أضرى فلان كلبه بالصيد وضراه إذا أغراه به وعوده متابعته.

نفسه بالأذى مخافة أن ينساه عند الحاجة إليه، حتى لو لم يبق في العالم شخص غيره لكانت نفسه مدبَّ عقاربه وغرض سهامه، وإن من الناس من إذا كشف لك عن أنيابه رأيت الدم الأحمر يترقرق فيها أو عن أظافره رأيت تحتها مخالب حادة لا تسترها إلا الصورة البشرية أو عن قلبه رأيت حجرًا صلدًا من أحجار الغرانيت لا يَبِضّ1 بقطرة من الرحمة، ولا تَخْلُص إليه نسمة من العظة. فيا أيها الإنسان احذر الحذر كله من أن تكون واحدًا من هؤلاء، فإنهم سباع مفترسة وذئاب ضارية، بل أعظك ألا تدنو من أحدهم أو تعترض طريقه، فربما بدا له أن يأكلك فأكلك غير حافل بك ولا آسف عليك. أيها الإنسان: ارحم الأرملة التي مات عنها زوجها، ولم يترك لها غير صبية صغار، ودموع غزار، إرحمها قبل أن ينال اليأس منها ويعبث الهم بقلبها فتفضل الموت على الحياة. إرحم المرأة الساقطة لا تزين لها خلالها، ولا تشتر منها عرضها علها تعجز عن أن تجد مساومًا يساومها فيه، فتعود به إلى كسر بيتها.

_ 1 بض الدم سال.

ارحم الزوجة أم ولدك وقعيدة بيتك، ومرآة نفسك وخادمة فراشك؛ لأنها ضعيفة ولأن الله قد وكل أمرها إليك، وما كان لك أن تكذب ثقته بك، واعتماده عليك. ارحم ولدك وأحسن القيام على جسمه ونفسه، فإنك إلا تفعل قتلته أو أشقيته فكنت أظلم الظالمين. ارحم الجاهل لا تتحين فرصة عجزه عن الانتصاف لنفسه فتجمع عليه بين الجهل والظلم، ولا تتخذ عقله متجرًا تربح فيه ليكون من الخاسرين. ارحم الحيوان؛ لأنه يحس كما تحس، ويتألم كما تتألم، ويبكي بغير دموع، ويتوجع ولا يكاد يبين، ارحمه وكذب من يقول إن الإنسان طبع على ضرائب لؤم أقلها أنه يقبل يد ضاربه، ويضرب من لا يمد إليه يدًا. ارحم الطيور لا تحبسها في الأقفاص ودعها في فضائها تهيم حيث تشاء، وتقع حيث يطيب لها التغريد والتنقير، إن الله وهبها فضاء لا نهاية له فلا تغتصبها حقها، فتضعها في محبس لا يسع مد جناحها، أطلق سبيلها، وأطلق سمعك وبصرك وراءها؛ لتسمع تغريدها فوق الأشجار وفي الغابات وعلى شواطئ الأنهار وترى

منظرها وهي طائرة في جو السماء، فيخيل إليك أنها أجمل من منظر الفلك الدائر والكوكب السَّيَّار. أيها السعداء أحسنوا إلى البائسين والفقراء، وامسحوا دموع الأشقياء، وارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء.

رسالة الغفران

رسالة الغفران 1: غفوت إغفاءة طويلة لا علم لي بمداها ولا بما وقع لي فيها، ثم صحوت فرأيت نفسي في صحراء مدَّ البصر مكتظة2 بأنواع من الخلق لا أحصيهم عددًا، فعلمت أني بعثت وأنه يوم القيامة فساورني3 من الهم ما ساورني حيث ذكرت أن مقداره ألف سنة من سنى القيامة، وقلت من لي بالصبر على موقف يهلك فيه صاحبه ظمأ وجوعًا، ويحترق تحت أشعة شمس ليس بينه وبينها إلا قيد ظفر، فتماسكت بضعة أشهر ثم لم أجد بعد ذلك إلى الصبر سبيلًا، فزينت لي نفسي الكاذبة أن أذهب إلى رضوان خازن الجنة، وكنت أحمل شهادة التوبة في يدي لأسترحمه، وألتمس منه الإذن بالدخول قبل انفضاض المحشر فما زلت أرقيه بقصائد المدح المسوَّمة4 باسمه كما كنت أرقى بأمثالها أمثالَه من عظماء

_ 1 للمعري رسالة طويلة جدًّا بهذا العنوان وهذه الرسالة خلاصتها. 2 مكتظة مملوءة. 3 ساورته الهموم واثبته وملكت ناصيته. 4 المسوَّمة: المعلقة.

العاجلة وساداتها فما أبه1 لي ولا فهم كلمة مما أقول، فانصرفت عنه إلى خازن آخر اسمه زُفَرُ فكان شأني معه شأني مع صاحبه إلا أنه كان أرق منه قلبًا وألين جانبًا، فأشار علي بالذهاب إلى النبي الذي أتبعه وأفهمني أن الأمر موكول إليه فعدت وبين جنبيَّ من الحسرة والوجد ما الله عالم به، فبينا أنا أتخلل الصفوف، وأزاحم الوقوف، إذ وقع بصري على حلقة من الناس تحيط بشيخ هرم أنعمت النظر فيه، فإذا هو الشيخ أبو علي الفارسي النحوي، وإذا بالمحتفلين به جماعة من شعراء العرب كلهم يخاصمه، وكلهم يَنْقِمُ عليه، هذا يقول له رويت بيتي على غير وجهه، وذاك يقول أعربته على غير ما أردت وذهبت، فدفعني الفضول كما دفعهم إلى النزول في ميدانهم فما فرغنا من الرفع والنصب والزيادة والحذف حتى أدركت شؤم ما فعلت وعلمت أن شهادة التوبة قد سقطت مني في ذلك المعترك، فقلت قبح الله الشعر والإعراب، واللغة والآداب، إنهما شؤم الآخرة والأولى. وقفت أحير من ضب في حمارَّةِ2 قيظ لا أدري ما آخذ وما أدع حتى رميت بطرفي، فإذا بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب

_ 1 أبه احتفل. 2 الحمارة بالتشديد شدة الحر.

في لفيف من العِترة الطاهرة النبوية فدلفت1 إليه وأبثثتْه2 أمري وأمر الشهادة المفقودة، فقال: لا عليك ألك شاهد بالتوبة، فقلت نعم، فنودي بشهودي فشهدوا بتوبتي، فقال تريثْ3 قليلًا حتى تمر فاطمة بنت محمد فنسألها في أمرك، فهي تمت إلى أبيها بما لا تمت به4 وكانت ممن قسم لهم دخول الجنة قبل فصل القضاء إلا إنها كانت تخرج كل حين للتسليم على أبيها، ثم تعود إلى مستقرها، فإنا لكذلك وإذا بمناد ينادي أن غضوا أبصاركم يا أهل الموقف حتى تعبر فاطمة بنت محمد -صلى الله عليه وسلم- فهرعت إليها فرأيتها راكبة مع إخواتها وجواريها على أفراس من نور، وتقدم من وعدني بسؤالها في أمري، فأنجز وعده، فقالت لأخيها إبراهيم دونك الرجل، فقال: تعلق بركابي فتعلقت فطارت الأفراس في الهواء تقطع الأجيال وتتخطى رءوس القرون حتى وافينا النبي -صلى الله عليه وسلم- واقفًا للشهادة القضاء فقصت عليه فاطمة ما علمت من أمري، فراجع الديوان الأعظم فوجد اسمي في التائبين فشفع لي فعدت في ركب فاطمة فرحًا مستبشرًا، وما كنت أقدر أن بين يدي

_ 1 دلف مشى مشيًا متثاقلًا. 2 أبثه السر كاشفه به. 3 تريث أبطأ. 4 مت بالشيء توسل به.

عقبة الصراط فلما وافيته وجدتني لا أستمسك عليه لرقته، فأمرت فاطمة جارية من جواريها أن تعبر معي فأمسكن بيدي فمشيت أترنح ذات اليمين وذات الشمال، وخفت السقوط فقلت لها احمليني زقفونة، فقالت وما زقفونة، فقلت أما سمعت قول الجحجلول من أهل كفر طاب صلَحت حالتي إلى الخلف حتى ... صرتُ أمشي إلى الورى زَقَفُونَه فقالت ما سمعت بزقفونة، ولا الجحجلول، ولا كفر طاب، فقلت ألقي يدي فوق كتفيك، وأجعل بطني إلى ظهرك فحملتني، وجازت بي الصراط كالبرق الخاطف حتى صرتُ إلى باب الجنة، فرمت الدخول فوقف رضوان في وجهي وقال أين جوازك1 فَبعِلتُ2 بالأمر ثم رأيت في دهليز الجنة شجرةَ صَفصاف فعالجته على أن يعطيني ورقة أعود بها إلى الموقف لا ستكتب عليها الجوازَ فأبى، فقلت وقد ملك الهم عليَّ رشدي وصوابي أما والله لو أنك حارس على أبواب الكرماء، أو خازن لخزائن الملوك والأمراء، لما وصل شاعر إلى درهم ولا سائل إلى سُحتوت3

_ 1 الجوزاء صك المسافر. 2 بعل بأمره برم به فلم يدر ما يصنع فيه. 3 السحتوت في الأصل السويق القليل الدسم ثم أطلق على كل شيء قليل.

وَلهلك الفقراء همًّا وحزنا، فسمع إبراهيم عليه السلام حواري1 فجذبني جذبة حصلني بها في الجنة، وصاحبي ينظر إليَّ شزرا، فدخلت فرأيت ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر رأيت أنهارًا من الماء العذب أصفى من أديم السماء، وأصقل من مرآة الحسناء، تنصب فيها جداول من الكوثر إذا جرع الشارب منها جرعة جرع ماء الحياة، وأمن أن يذوق كأس المنون مرة أخرى، ورأيت جداول تفيض بالراح فيضًا قد زُيِّنت حواقيها بأباريق من العسجد، وكؤوس من الزبرجد، فما نهلت منها نهلة حتى قلت لو كُشِف لأهل العاجلة عما في هذه الخمرة من اللذة التي لا يشوبها كدر، والنشوة التي لا يعقبها خُمار2 ما باعوا قطرة منها بكل ما تشتمل عليه بابلُ وقُطربل3 من البواطي4 والدنان، ولو نظر الأقيشر الأسدي بعين الغيب إلى عسجد هذه الأباريق، وزبرجد تلك الكؤوس لخجل من نفسه أن يقول: أفنى تِلادي وما جمعت من نشب ... قرعُ القوازيز5 أفواهَ الأباريق

_ 1 الحوار مراجعة الكلام. 2 الخمار صداع الخمر. 3 بلدان معروفان بجودة خمرهما. 4 جمع باطية وهي أناء للشراب يوضع بين الشرب للاغتراف منه. 5 القوازيز جمع قازوزة وهي قدح للشراب.

وفي تلك الأنهار آنية ترفرف فوق سطحها على صور الطيور كالكراكي والطواويس والبط والعندليب ينحدر من مناقيرها شراب، أرق من السراب، وتسبح فيها أسماك من الذهب والياقوت يعُمن فيها بأوساط مجنَّحةٍ1 ... كالطير تنشر في جوِّ خوافيها ورأيت أنهارًا من لبن وأنهارًا من عسل لا يدرك الوهم كهنه إلا إذا أدرك ما يمتص نحل الجنة من زهورها وأنوارها. رأيت جميع تلك الأنهار مكبّرة ثم تمثلت في نظري مصغّرة، فإذا هي سطور، من النور، وأحرف بيضاء، في صحيفة خضراء، قرأتها فرأيتها "مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات". ظللت أمشي فيما أكاد أخطو خطوة حتى أرى منظرًا عجيبًا يُنسي السابق، ويشوق إلى اللاحق، فوددت لو طويت لي الأرض طيًّا، فأتعجل النظر إلى ما غاب من الجنة وبدائعها، فما أخذ هذا الخاطر مكانه من نفسي حتى رأيت بين يدي فرسًا من الجوهر المتخير مسرجا ملجمًا فعلمت أني قد سعدت وأنها

_ 1 مجنحة ذات أجنحة.

الأمنية التي كنت أتمناها فعلوت ظهره، وغمزته غمزة خرج بها خروج الودْق1 من السحاب، والسيف من القراب2، وعلى ما جَهَدتُه لم يشك إِليَّ ما شكاه جواد عنترة إليه في قوله: فأزورَّ من وقع القنا بلَبانه ... وشكا إلي بعبر وتحمحم أو ما شكاه جواد عمر بن أبي ربيعة إليه في قوله: تشكي الكميت الجري لما جهدته ... وبين لو يستطيع أن يتكلما ذكرت أني وأنا في الدار الفانية كنت أسمع بذكر الذاهبين الأولين من الأدباء والشعراء والرواة، فآسف على أن لم أكن في زمنهم أراهم وأحضر مجالسهم، فقلت ليت شعري ما فعل الله بهم في هذه الدار، وهل سعدوا أو شقوا، وهل يقيَّض لي من رؤيتهم في دار البقاء، ما لم يقيض في دار الفناء. ثم رميت بطرفي فإذا فارس يحضر فرسه3 في الهواء إحضارًا حتى تقاربنا فتماست الركب، واختلفت الأعناق، فقال: انتسب، فقلت فلان ومن أنت يرحمك الله، وقد فعل، فقال عدي بن زيد العابدي فدهشت، وقلت عدي بن زيد في الجنة بعد الزيغ والضلال، فقال أنا عيسوي، وأنت محمدي، وليس لصاحبك على

_ 1 الوَدْق: المطر. 2 قراب السيف: غمده. 3 أحضر الفرس: ارتفع في عدوه.

أحد حجة إلا بعد ظهوره وبلوغ دعوته، فقلت لا نكران، ولكن كيف لم يَقعد بك فِسْقك وشرابك وأين استهتارك في قولك: بكرَ العاذلون في وضحِ الصب ... ح يقولون لي أما تستفيق ودعوا بالصبوح فجرًا فجاءت ... قيْنة في يمينها أبريق قال غفر الله لنا ما غفر لكم، قلت هل لك علم بجماعة الشعراء والرواة فقد تمنيت على الله أن أراهم، فكنت عنوان الكتاب وفاتحة الإجابة، فقال: اصحبني فطارت بنا الخيلُ، فقلت له هل آمن ألا يقذف بي هذا السابح على صخرة من الزمرد أو هضبة من الياقوت، فيكسر لي عضدًا أو ساقًا أو جمجُمة، فتبسم وقال أين يُذْهَبُ بك نحن في دار الخلود والبقاء. مررنا بروضة من رياض الجنة يخترقها غدير خمري على شاطئه جمع كثير على سُرر متقابلين، أو على الأرائك متكئين، فهوَى صاحبي بفرسه فهويت هويَّة، وقلنا سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار، فرحبوا بنا، وهشوا للقائنا وانتسبنا فتعارفنا، ثم أخذوا فيما كانوا فيه فإذا الأصمعي ينشد مروياته وأبو عبيدة يسرد وقائع الحروب ومقاتل الفرسان، وإذا سيبويه والكسائي متصافيان بعد أن وقع بينهما في مجلس البرامكة ما وقع وأحمد

ابن يحيى لا يضمر لمحمد بن زيد من الموجدة ما كان يضمر، وأخذت تهب من ناحية النهر نفحة عطرية ذكرتني بقول الأعشى ميمون: "مثل ريح المسك ذاك ريحها" وعلى ذكر الأعشى ذكرت مصرعه وشقاءه، وقلت في نفس لولا أن قريشًا صدته عن الإسلام لكان اليوم بيننا في مجلسنا هذا، فسمعت هاتفا من ورائي أنا بينكم وفي مجلسكم، فالتفت فإذا الأعشى ميمون فلم أدر أي مدخليه1 أعجب، أمن مدخله إلى الجنة أم من مدخله إلى نفسي، وعلمه بما هجس في صدري، فعلمت أن أهل الجنة ملهمون، ثم سألته كيف غفر لك، فقال سحبتني الزبانية إلى سقر، فرأيت في عرصات القيامة رجلا يتلألأ وجهه تلألؤ القمر، والناس يهتفون به من كل جانب الشفاعة يا محمد، فأخذت إخذهم، وهتفت هتافهم فأمر أن أدنو منه فدنوت، فسألني ما حرمتك فقلت أنا القائل: ألا أيهذا السائلي أين يممت ... فإن لها في أهل يثرب موعدا فآليت لا أرثي لها من كلالة ... ولا من وجًى حتى تلاقى محمدا متى ما تناخي عند باب ابن هاشم ... تراحي وتلقى من فواضله ندا نبي يرى ما لا ترون وذكره ... أغار لعمري في البلاد وأنجدا

_ 1 المدخل مصدر دخل كالدخول.

فقال ما سمعتها منك قبل اليوم، قلت خدعني عنك الناس بعد ما شددت راحلتي إليك، وكنت رجلا أحب الشراب وخفتك عليه أن تفرَّق بيني وبينه، فشفع لي فدخلت الجنة على ألا أذوق فيها الخمر فقنعت بالرضاب، عن الشراب، وبماء الثغر المنضود، عن ماء العنقود، ورأيت بجانبه شابًا ريق الشباب فسألت عنه، فقيل لي زهير بن أبي سلمة فما كدت أصدق أنه القائل: سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ... ثمانين حولا لا أبا لك يسأم فقلت: له بم غفر الله لك؟ فقال: كنت في جاهليتي أترقب مبعث محمد، وأتمنى البقاء حتى أراه فحال بيني وبينه الموت، فأوصيت به ابني كعبا وبجيرا، وكنت أومن بالحساب فما نفعني شيء ما نفعني قولي: فلا تكتمن الله ما في نفوسكم ... ليخفى ومهما يكتم الله يعلم يؤخر فيوضع في كتاب ويدخر ... ليوم الحساب أو يقدم فينقم وإلى جانب زهير عبيد الأبرص، فسألته عن مصير أمره

فقال كتبت لي النار فما زال الناس يهتفون بقولي: من يسأل الناس يحرموه ... وسائل الله لا يخيب والعذاب يخفف عني شيئا فشيئا حتى خرجت ببركة هذا البيت من الجحيم، إلى النعيم. ذهبنا في الحديث كل مذهب، وذهب بعضنا إلى ارتشاف الخمر، من النهر، في آنية الدر، فانتشينا جميعا فما أفقنا إلا على حفيف رف1 من إوز الجنة نزل بنا ثم انتفض عن كواعب أتراب، يغنين بالمزاهر والآلات الثقيل والخفيف والهزج، فما أتين على الألحان الثمانية حتى دارت بنا الأرض الفضاء، وحتى ملكنا من الطرب ما يستخف الحلوم، ويطير بالهموم، وقلنا لو علم جبلة بن الأيهم بما نحن فيه لقرع السن على أن باع دينه بسرور محدود، وأنس معدود، ودف وعود، ذكرت جبلة فذكرت لذكره النار وقوله تعالى: {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} فتمنيت أن أطلع فأرى المعذبين كما رأيت المنعمين، فألهمت الإذن فأشرت لصاحبي فقام وقمت، وركبنا فرسينا فطارتا بنا حتى انتهينا إلى سور الجنة، فرأينا عنده من الداخل كوخا يسكنه شيخ زري الهيئة، فأشرفنا عليه فقال:

_ 1 الرف القطيع من الطير.

لا تعجبوا لشأني أنا الحطيئة، ووالله لولا أني صدقت مرة واحدة في حياتي في قولي: أرى لي وجها شوه الله خلقه ... فقبح من وجه وقبح حامله لما دخلت الجنة، ولما أدركت كوخا ولا جحرا، فتركناه واطلعنا فما رآنا أهل النار حتى ضجوا بصوت واحد أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله، فرأينا ملوكا وأكاسرة يتضاغون1 في السلاسل والأغلال، ويقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} فيهتف بهم هاتف: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} . ورأيت بجانبي امرأة تبينتها فإذا هي الخنساء تطلع مثلنا، فترى رجل كالجبل الأشم على رأسه شعلة من النار، فتمتعض وتقول يا صخر هذا تأويل قولي فيك من قبل: وان صخرًا لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار ورأيت هناك كثيرًا من أمثال امرئ القيس وعنترة وعمرو بن كلثوم، وطرفة بن العبد، ورأيت بشار بن برد تفتح عيناه بكلاليب من نار، وكلما اشتد به الألم رفس إبليس برجله، وقال له: ما كنت لأدخل النار لولا قوي فيك.

_ 1 يقال بات الصبيان يتضاغون من الجوع أي: يتضورون منه.

عبرة الدهر

عبرة الدهر: بنى فلان في روضة من رياض بساتينه الزاهرة قصرًا فخمًا يتلألأ في تلك البقعة الخضراء، تلألؤ الكوكب المنير في البقعة الزرقاء، ويطاول بشرفاته الشماء، أفلاك السماء، كأنه نسر محلق في الفضاء، أو قرط معلق في أذن الجوزاء، وكأن شرفاته آذان تفضي إليها النجوم بالأسرار، وطاقاته أبراج تنتقل فيها الشموس والأقمار. شاده مرمرا وجلله كلسا1 ... فللطير في ذراه وكور ولم يدع ريشه لمصور ولا ليقة2 لرسام إلا أجراها في سقوفه وجدرانه، وطاقاته وأركانه، حتى ليخيل إلى السالك بين أبهائه3 وحجراته، ومحاربيه وعرصاته4، أنه ينتقل من روضة تزهر بالورود الحمراء، والأنوار البيضاء، إلى بادية تسنح

_ 1 الكلس الصاروج يبنى به. 2 ليقة الدواة صوفتها ويتخذها الرسام أيضا لجمع أخلاطه فيها. 3 الأبهاء جمع بهو، وهو البيت المقدم أمام البيوت. 4 المحراب هنا صدر البيت، والعرصات جمع عرصة وهي ساحة الدار.

فيها الذئاب الغبراء، والنمور الرقطاء، ومن ملعب تصيد فيه الظباء الأسود إلى غاب تصيد فيه الأسود الظباء، وأنشأ في كبرى ساحاته، وأوسع باحاته، صهريجا من المرمر مستديران يضم بين حاشيته فوَّارة ينفر منها الماء صعدًا كأنه سيف مجرَّد، أو سهم مسدد، فيخيل إلى الرائي أن الأرض تثأر لنفسها من السماء، وتتقاضاها ما أراقت منها من الدماء، تلك تقاتلها بالرجوم والشهب، وهذه تحاربها بالسهام والقضب، وغرس حول دائرة الصهريج دوائر من شجرات، مؤتلفات ومختلفات، وأغصان، صنوان وغير صنوان، إذا رنحتها نسائم الأسحار، رقصت فوق بساط الأزهار، وتحت ظلال الأثمار، فغنت على رقصها الأطيار، غناء الأغاريد لا غناء الأوتار، وادخر فيه لنعيمه وبلهنيته1 ما شاء الله أن يدخر من نضائد2 ومقاعد، ووسائد ومساند، وفرش وعرش، وكلل3 وحجل4، وتماثيل وتهاويل5، وصحاف من ذهب، كاللهب، وأكواب من بلور، كالنور، وأقفاص للحمائم والنسور، ومقاصير للسباع والنمور،

_ 1 بلهنية العيش رخاؤه. 2 النضائد جمع نضيدة وهي الوسادة. 3 جمع كلة بالكسر وهي الستر الرقيق. 4 جمع حجلة بفتحات وهي ستر العروس في جوف البيت. 5 التهاويل النقوش والصور؛ لأنها تهول من ينظر إليها.

وعربات وسيارات، وجياد صافنات، ووصائف وولائد، تحيط بالمجالس والموائد، إحاطة القلائد، بأعناق الخرائد، وخدم حسان، تنتقل في الغرف والقيعان، تنقل الولدان، في غرف الجنان. في ليلة من ليالي الشتاء حالكة الجلباب، غدافية1 الإهاب، أفاق صاحب القصر من غشيته فتحرك في سريره وفتح عينيه فلم ير أمامه غير خادمه "بلال" وهو خصي أسود من ذوي الأسنان رباه صغيرا وكفله كبيرا, وكان يجمع بين فضيلتي الذكاء والوفاء فأشار إليه إشارة الواله المتلهف أن يأتيه بجرعة ماء فجاءه بها فتساند على نفسه حتى شرب, وكأن الماء قد حل عقدة لسانه فسأله: في أي ساعة من ساعات الليل نحن يا بلال؟ فأجابه: نحن في الهزيع الأخير يا سيدي، فقال: ألم تعد سيدتك إلى الآن، قال: لا، فامتعض امتعاضا شديدا وزفر زفرة كادت تخترق حجاب قلبه, ثم أنشأ يتكلم كأنما يحدث نفسه ويقول: إنها تعلم أني مريض وأني في حاجة إلى من يسهر بجانبي ويتعهد أمري ويرفه2 عني بعض ما أعالجه, وليس بين سكان القصر من هو أولى بي وأقوم علي منها، أين وفاؤها الذي كانت تزعمه وتقسم لي بكل محرجة من

_ 1 الغداف الغرب الأسود وليلة غدافية شبيهة به. 2 رفه عنه نفس عنه وخفف.

الإيمان عليه، أين حبها الذي كانت تهتف به في صباحها ومسائها وبكورها وأصائلها، أين النعيم الذي كنت أقلبها في أعطافه والعيش الرغد الذي كنت أرشفها كئوسه، أأن علمت أني أصبحت بين حياة لا أرجوها وموت لا أجد السبيل إليه برمت1 بي واستثقلت ظلي واستبطأت أجلي واستطالت ضجعتي فهي تفر من وجهي كل ليلة إلى حيث تجد لذات العيش ومواطن السرور، آه من العيش ما أطوله، وآه من الموت ما أثقله. وما زال يحدث نفسه بمثل هذه الأحاديث حتى هاج ساكنه, واضطربت أعصابه فعاودته الحمى وغلى رأسه بنارها غليان القدر بمائها, فسقط على فراشه ساعة تجرع فيها من كأس الموت جرعا مريرة بيد أنه لشقائه لم يأت على الجرعة الأخيرة منها. أفاق من غشيته مرة ثانية فلم ير بجانبه تلك التي تسيل نفسه حسرات عليها فسأل الخادم ألا تعلم أين ذهبت سيدتك يا بلال؟، قال: خير لك ألا تنتظرها يا مولاي وألا تلومها في بعدها عنك, فإن لها عند بعض الناس دينا فهي تخرج كل ليلة لتتقاضاه، قال: ما عرفت قبل اليوم أن بينها وبين أحد من الناس شيئا من

_ 1 برم به سئمه وضجر منه.

وذلك، ومتى كان يتقاضى الدائن دينه في مثل هذه الساعة من الليل، وهل أعياها أن تجد من يقوم لها بذلك فهي تتولاه بنفسها، وهلا فرغت من أمر دينها بعد اختلافها إليه سنة كاملة، قال: إن بينها وبين غريمها صكا مكتوبا أن يؤدي ما عليه من الدين أقساطا في كل ليلة قسط على أن تتناوله بيدها وأن تكون مواعيد الوفاء أخريات الليال، قال: ما سمعت في حياتي بأغرب من هذا الدين ولا أعجب من هذا الصك, ومن هو غريمها؟ قال: أنت سيدي، فنظر إليه نظرة الحائر المشدوه1 وقال: إني أكاد أجن لغرابة ما أسمع, وأحسب أنك هاذ فيما تقول أو هازئ، فدنا منه الخادم وقال: والله يا سيدي ما هزأت في حياتي ولا هذيت، ألا تذكر تلك الليالي الطوال التي كنت تقضيها خارج المنزل بين شهوة تطلبها، وكأس تشربها، وملاعب تجرر فيها أذيالك، ومراقص تهتك فيها أموالك، تاركا زوجتك في هذه الغرفة على هذا السرير تشكو الوحشة، وتبكي الوحدة، وتتقلب على أحر من الجمر شوقا إليك، وحزنا عليك، فلا تعود إليها إلا إذا شاب غراب الليل، وطار نسر الصباح، إنك سلبتها تلك الليالي السالفة فأصبحت غريمها فيها فهي تستردها منك اليوم ليلة ليلة حتى تأتي

_ 1 المشدوه المدهوش.

عليها، ذلك هو دينها وهذا عو غريمها، ألا تذكر أنك كنت في لياليك هذه ربما تحبس الزوجة عن زوجها وتملكها عليه وهو واقف موقفك هذا في حسرتك هذه يبكي ما تبكي, ويندب ما تندب، ذلك الزوج هو الذي يتقاضاك اليوم حقه ويأبى ألا أن يأخذ عينا بعين ونقدا بنقد، فهو يفجعك في زوجتك كما كنت تفجعه في زوجته, ويقض1 مضجعك كما كنت تقض مضجعه، وأنا أعيذك بعدلك وإنصافك أن تكون من لواة الدين أو تكون من الظالمين. قال: حسبك يا بلال فقد بلغت مني وإن لي في حاضري ما يشغلني عن ماضي فادع لي ولدي، قال: لم يعد يا سيدي من الوجه التي بعثته فيه حتى الآن، قال: لا أذكر أني بعثته في وجه ما, وأين ذهب؟ قال: ذهب إلى الحانة التي يختلف إليها, ولن يرجع منها حتى يرتوي ولن يرتوي حتى يعجز عن الرجوع، إنني طالما وقفت بين يديك يا مولاي ضارعا إليك أن تحول بينه وبين خلطاء السوء وعشراء الشر حتى لا يفسدوه عليك فكنت تعرض عني إعراض من يرى أن تدليل الولد وترفيهه2 وإرخاء العنان له عنوان من عناوين العظمة ومظهر

_ 1 أقض مضجعه جلعه خشنا. 2 رفهه جعله مترفها أي: لين العيش.

من مظاهر الأبهة والجلال، كنت أسألك أن تعلمه العلم وأن تهديه إلى طريق المدرسة ليضل عن طريق الحانة, فكنت ترى أن الذي يحتاج إلى العلم من يرتزق به, وأن ولدك عن ذلك من الأغنياء، فلا تشك من عمل يديك، ولا تبك من جناية نفسك عليك، فأنت الذي أرسلته إلى الحانة وأنت الذي أبقيته فيها إلى مثل هذه الساعة, وأنت الذي أبعدته عن فراشك أحوج ما كنت إليه. وما وصل الخادم من حديثه إلى هذا الحد حتى نصل الليل من خضابه واشتعل المبيض في مسوده وإذا صوت الناعورة يرن في بستان القصر رنين الثكلى فقدت واحدها، فقال السيد: هات يدك يا بلال وخذ بيدي إلى جوار النافذة لأروح عن نفسي بعض ما ألم بها أو أودع إلى جانبها نسمات الحياة، ثم اعتمد على يده حتى وصل إلى النافذة فجلس على كرسي مستطيل وألقى على البستان نظرة طويلة فرأى البستاني وزوجه جالسين إلى الناعورة وقد برقت بوارق السعادة من خلال أثوابهما البالية بريق الكواكب المنيرة من خلال السحب المتقطعة، رآهما متحابين متعاطفين لا يتعاتبان ولا يتشاحان1 ولا يشكوان ولا يندبان حظا،

_ 1 من المشاحة وهي المخاصمة والمجادلة.

رآهما قويين نشيطين يجري دمهما في عروقهما صافيا رائقا وكأن كلا منهما يحاول أن يخرج من إهابه1 مرحا ونشاطا، رآهما راضيين بما قسم الله لهما من خشونة الملبس وجشوبة2 المطعم فلا يتشهيان ولا يتمنيان ولا ينظران إلى ذلك القصر الشامخ المطل عليهما نظرات الهم والحسرة، سمعهما يتحدثان فأصغى إليهما فإذا البستاني يقول لزوجه: والله لو وهب لي هذا القصر برياضه وبساتينه، وآنيته وخرثيه3، على أن تكون لي تلك الزوجة الخائنة الغادرة لفضلت العيش فوق صخرة في منقطع العمران، على البقاء في مثل هذا المكان، أقاسي تلك الهموم والأحزان، فقالت: لا أحسب أن سيدنا ينجو من خطر هذا المرض فقد مر به على حاله تلك عام كامل وهو يزداد كل يوم ضعفا ونحولا، قال: قد علمت أن الطبيب قد نفض يده من الرجاء فيه, وأضمر اليأس منه ولا عجب في ذلك فإنه ما زال يسرف على نفسه ويذهب بها المذاهب كلها حتى قتلها، قالت: ما أشقاه أكانت نفسه عدوة إليه فجنى عليها هذا الشقاء، وذلك البلاء، قال: ما كان عدوا لنفسه ولا كانت نفسه عدوة إليه ولكنه كان جاهلا

_ 1 الإهاب الجلد. 2 جشوبة المطعم خشونته. 3 الخرثي أثاث البيت.

مغرورا غره شبابه وماله وعزه وجاهه فظن أنه قد أخذ على الدهر عهدا بالسلامة والبقاء فانطلق في سبيله لا يلوي على شيء مما وراءه حتى سقط في الحفرة التي احتفرها لنفسه، قالت: أتعلم ماذا يكون حال هذا القصر من بعده، قال: لا أعلم إلا أنه سيكون لولده، قالت: ولكني أعلم أنه سيكون لفلان، قال: إن فلانا ليس وريث السيد بل صديقه، قالت: إنه ليس بصديق السيد بل صديق السيدة، فهو خاطب زوجته قبل وفاته، وزوجها بعد مماته. فما سمع السيد هذه الكلمات حتى اضطرب اضطرابا شديدا وسقط عن كرسيه وهو يقول: أشهد أني من الأشقياء, وما زال في غشيته تلك حتى صحا صحوة الموت وفتح عينيه فرأى بين يديه هذا المنظر المحزن المؤلم. رأى ولده لاهيا بمحادثة فتاة من فتيات القصر، ورأى زوجته تضاحك تربا من أترابها وتغمزها بطرفها أن قد حان حينه ودنا أجله، ورأى صديقه أو ولي عهده يأمر في القصر وينهى ويتصرف تصرف السيد المطاع، ورأى نفسه يعالج سكرات الموت ويعد عدته للانتقال من القصر إلى القبر، وهنا سمع كأن هاتفا يهتف به من السماء ويقول: أيها الرجل، لو وفيت لزوجك

أفسدك قومك

أفسدك قومك: أيها المجرم الفاتك الذي يسلب الخزائن نفائسها، والأجسام أرواحها، لست أحمل عليك من العتب فوق ما يحتمله ذنبك, ولا أنظر إليك بالعين التي نظر بها إليك القاضي الذي قسا في حكمه عليك؛ لأني أعتقد أن لك شركاء في جريمتك فلا بد لي من أن أنصفك وإن كنت لا أستطيع أن أنفعك. شريكك في الجريمة أبوك؛ لأنه لم يتعهدك بالتربية في صغرك ولم يحل بينك وبين مخالطة المجرمين, بل كثيرا ما كان يبخبخ1 لك إذا رآك هجمت على تربك وضربته, ويصفق لك إذا رأى أنك تمكنت من اختلاس درهم من جيب أخيك أو اختطاف لقمة من يده، فهو الذي غرس الجريمة في نفسك وتعهدها بالسقيا حتى أينعت ونمت وأثمرت لك هذا الحبل الذي أنت معلق به اليوم، وها هو ذا الآن يذرف عليك العبرات، ويصعد الزفرات،

_ 1 بخبخ له قال له: بخ بخ.

ولو عرف أنها جريمته وأنها غرس يمينه لضحك مسرورا بغفلة الشرائع عنه, وسجد لله شكرا على أن لم يكن حبلك في عنقه وجامعتك1 في يده. شريكك في الجريمة هذا المجتمع الإنساني الفاسد الذي أغراك بها، ومهد لك السبيل إليها، فقد كان يسميك شجاعا إذا قتلت، وذكيا فطنا إذا سرقت، وعالما إذا احتلت، وعاقلا إذا خدعت، وكان يهابك هيبته للفاتحين، ويجلك إجلاله للفاضلين، وكثيرا ما كنت تحب أن ترى وجهك في مرآته فتراه وجها أبيض ناصعا فتتمنى لو دام لك هذا الجمال، ولو أنه كان يؤثر نصحك ويصدقك الحديث عن نفسك لمثل لك جريمتك في نظرك بصورتها الشوهاء، وهنالك ربما وددت بجدع الأنف لو طواك بطن الأرض عنها، وحالت المنية بينك وبينها. شريكك في الجريمة حكومتك؛ لأنها كانت تعلم أن الجريمة هي الحلقة الأخيرة من سلسلة كثيرة الحلقات وكانت تراك تمسك بها حلقة حلقة وتعلم ما سينتهي إليه أمرك فلا تضرب على يدك

_ 1 الجامعة الغل.

ولا تعترض دون سبيلك، ولو أنها فعلت لما اجترمت، ولا وصلت إلى ما إليه وصلت. كانت حكومتك تستطيع أن تعلمك وتهذب نفسك, وأن تقفل بين يديك أبواب الحانات, وأن تحول بينك وبين مخالطة الأشرار بإبعادهم عنك وتشريدهم في مجاهل الأرض ومخارمها, وأن تعديك1 على قتيلك قبل أن يبلغ حقدك عليه مبلغه من نفسك وأن تحسن تأديبك في الصغيرة، قبل أن تصل إلى الكبيرة، ولكنها أغفلت أمرك فنامت عنك نوما طويلا حتى إذا فعلت فعلتك استيقظت على صوت صراخ المقتول وشمرت عن ساعدها لتمثل منظرا من مناظر الشجاعة الكاذبة، فاستصرخت جندها واستنصرت أسلحتها وأعدت جذعها وجلادها, وكان ما فعلت أنها أعدمتك حياتها. هؤلاء شركاؤك في الجريمة, وأقسم لو كنت قاضيا لأعطيتك من العقوبة على قدر سهمك في الجريمة, وجعلت تلك الجذوع قسمة بينك وبين شركائك, ولكنني لا أستطيع أن أنفعك، فيا أيها القتيل المظلوم رحمة الله عليك.

_ 1 أعدى الأمير فلانا على فلان إذا نصره عليه وأعانه.

الصدق والكذب

الصدق والكذب: يا صاحب النظرات: سمعت بالصدق وما وعد الله به الصادقين من حسن المثوية وجزيل الأجر، وسمعت بالكذب وما أعد الله للكاذبين من سوء العذاب، وأليم العقاب، وقرأت ما كتبه حكماء الأمم من عهد آدم إلى اليوم, وإجماعهم أن الصدق فضيلة الفضائل والأصل الذي تتفرع عنه جميع الأخلاق الشريفة والصفات الكريمة, وأنه ما تمسك به متمسك إلا كان النجاح في أعماله ألصق به من ظله، وأعلق به من نفسه، سمعت هذا وقرأت هذا فلم يبق في نفسي ريب في أن ما أنا مرزوء به في حظي من الشقاء وعيشي من الضنك وحياتي من الهموم والأكدار إنما جره إلى شؤم الكذب, وأن ما كنت أتخيله قبل اليوم من أن هناك مواقف يكون فيها الكذب أنفع من الصدق وأسلم عاقبة إنما هو ضرب من ضروب الوهم الباطل ونزغة من نزغات الشيطان،

فعاهدت الله ونفسي ألا أكذب ما حييت, وأعددت لذلك القسم العظيم عدته من شجاعة في النفس وقوة في العزيمة بعد ما وجهت وجهي لله تعالى, وسألته أن يمدني بمعونته ونصره. وهاأنذا ذاكر لك مواقف الصدق التي وقفتها بعد ذلك العهد, وما رأيته من آثارها ونتائجها. الموقف الأول: جلست في حانوتي فما وقف بي مساوم إلا صدقته القول في الثمن الذي اشتريت به السلعة والربح الذي أريده لنفسي فيها, والذي لا أستطيع أن أعد نفسي رابحا إذا تجاوزت عن بعضه, فيأبى الا الحطيطة1 فآباها عليه فينصرف عني استثقالا للثمن واستعظاما لمقداره, وما هو إلا الربح الذي اعتدت أن آخذه منه في مثل تلك الصفقة, إلا أنني كنت أكذب عليه في أصل الثمن فيصغره في نظره الربح الذي أربحه منه فلما صدقته عنه أعظمه وانصرف عني إلى سواي، ولم أزل على هذه الحال حتى أظلني الليل ولم يفتح الله علي بقوت يومي، وما هي إلا أيام قلائل حتى عرفت في السوق بالطمع والمغالاة, فأصبحت لا يطرق باب حانوتي طارق.

_ 1 الحطيطة ما يحط من الثمن.

الموقف الثاني: جلست في مجلس يتصدره شيخ من تجار العقول الضعيفة المعروفين بمشايخ الطرق, وقد حف به جماعة من عبدته وسدنة1 هيكله, فسمعته يشرح لهم معنى التوكل شرحا غريبا يذهب فيه إلى أنه القعود عن العمل وإلقاء حبل هذا الوجود على غاربه, والإعراض عن كل سعي يؤدي إلى أي غاية، ويعتمد في هذيانه هذا على آيات يؤولها كما يشاء وأحاديث لا يستند في صحتها على مستند سوى أنه سمعها من شيخه أو قرأها في كتابه، وأكثر ما كان يدور على لسانه حديث: $"لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا"2, فقلت له وقد أخذ الغيظ من نفسي مأخذه: يا شيخ أردت أن تحتج لنفسك فاحتججت عليها، أتعمد إلى حديث يستدل به رواته على وجوب السعي والعمل، فتستدل به على البطالة والكسل، ألم تر أن الله سبحانه وتعالى ما ضمن للطير الرواح بطانا إلا بعد أن أمرها بالغدو وهي التي ترويها القطرة، وتشبعها الحبة، فكيف لا يأمر الإنسان بالسعي وهو من لا تفنى مطالبه، ولا تنتهي رغباته،

_ 1 السادن خادم الهيكل أو خادم الكعبة, والمراد به الحاجب والجمع سدنة. 2 الخماص جمع خميص وهو ضامر البطن والبطان جمع بطين وهو ممتلئ البطن.

أيها القوم، إنكم تقولون بألسنتكم ما ليس في قلوبكم، إنكم عجزتم عن العمل، وأخلدتم إلى الكسل، وأردتم أن تقيموا لأنفسكم عذرا يدفع عنكم هاتين الوصمتين فسميتم ما أنتم فيه توكلا, وما هو إلا العجز الفاضح، والإسفاف الدنيء، وهنا زفر الشيخ زفرة الغيظ ونادى في قومه أن أخرجوا هذا الزنديق الملحد من مجلسي, فتألبوا علي تألبهم على قصعة الثريد وأوسعوني لطما وصفعا, ثم رموا بي خارج الباب فما بلغت منزلي حتى هلكت أو كدت، فما مررت بعد ذلك بطائفة من العامة إلا رموني بالنظر الشزر وعاذوا بالله من رؤيتي كما يعوذون به من الشيطان الرجيم. الموقف الثالث: لا أكتمك يا سيدي أني كنت أبغض زوجتي بغضا يتصدع له القلب, غير أني كنت أصانعها وأتودد إليها, وأمنحها من لساني ما ليس له أثر في قلبي خداعا لها, وإبقاء على ما تحتويه يدي من صبابة مال كانت لها، فرأيت أن ذلك أكذب الكذب وأقبحه فآليت على نفسي ألا أسدل بعد اليوم أمام عينها حجابا يحول بينها وبين سريرتي، فانقطع عن سمعها ذلك السلسبيل العذب، من كلمات الحب، فاستوحشت مني

وأظلم ما بيني وبينها فما هي ألا عشية أو ضحاها حتى انحل ذلك الوثاق، وختمت سورة الفراق، بآية الطلاق. الموقف الرابع: حضرت مجتمعا يضم بين حاشيتيه جماعة من الفضوليين, الذين تضيق بهم مذاهب القول فيلجئون إلى الحديث عن الناس والمفاضلة بينهم, ويحاولون أن ينبشوا دفائن صدورهم ويتغلغلوا بين أطواء1 سرائرهم ويغالون في ذلك مغالاة الكيمائي في تحليله وتركيبه, فرأيتهم يتناولون بألسنتهم رجلا عظيما من أصحاب الأراء السياسية لا أعتقد أن بين السالكين مسلكه والآخذين إخذه من أخلص لأمته إخلاصه, أو وقف في المواقف المشهودة موقفه, أو لاقى في ذلك السبيل من صدمات الدهر وضربات الأيام ما لاقاه، سمعتهم يسمونه خائنا فوالله لأن تقع السماء على الأرض أحب إلي من أن يتهم البريء أو يجازي المحسن سوءا على إحسانه، سمعت ما لم أملك نفسي معه فقلت: يا قوم أتطالعون من كتاب الحرية مائة صفحة ونيفا2 ثم لا تزالون عبيد الأوهام, أسرى الخيالات سراعا إلى كل داع، سعاة مع كل ساع، تنظرون بغير روية وتحكمون بغير علم، إنكم

_ 1 أطواء الثوب طرائقه ومكاسر طيه. 2 يريد أن تاريخ الحرية في مصر قرن ونيف.

بعملكم هذا تزهدون المحسن في إحسانه, وتلقون الرعب في قلب كل عامل يعمل لأجلكم, وتثبطون همة كل من يحدث نفسه بخدمتكم وخدمة بلادكم, أليس مما يلقي في النفس اليأس من نجاحكم وصلاح حالكم أن نراكم طعمة كل آكل، ولعبة كل عابث، يستهويكم الكاذب بالكلمات التي تستهوي بها المرضعات أطفالهن, ثم يدعوكم إلى مناوأة الصادق فتمنحون الأول ودكم وإخلاصكم، والثاني بغضكم وموجدتكم، خاطبتهم بهذه الكلمات أريد بها خيرا لهم فأرادوا شرا بي فما خلصت من بينهم إلا وأنا ألمس رأسي بيدي لأعلم أين مكانها من عنقي. الموقف الخامس: قابلني في الطريق شاعر يحمل في يده طومارا1 كبيرا وكنت ذاهبا إلى موعد لا بد لي من الوفاء به فعرض علي أن يسمعني قصيدة من طريف شعره وأنا أعلم الناس بطريفه وتليده, فاستعفيته بعد أن كاشفته بأمري فأبى, فانتحيت به تاحية من الطريق فأنشأ يترنم بالقصيدة بيتا بيتا وأنا أشعر كأنما يجرعني السم قطرة قطرة حتى تمنيت أن لو ضربني بها ضربة واحدة يكون فيها انقضاء أجلي؛ ليريحني من هذا العذاب

_ 1 الطومار الصحيفة.

المتقطع والتمثيل الفظيع، وكلما أتى على بيت منها أقبل علي بوجهه, وأطال النظر في وجهي وحدق في عيني؛ ليعلم كيف كان وقع شعره من نفسي, فإذا رأى تقطيب وجهي ظنه تقطيب الشارب لارتشاف الكأس فيستمر في شأنه حتى أنشذ نحو خمسين بيتا، ثم وقف وقال: هذا هو الباب الأول من أبواب القصيدة، فقلت: وكم عدد أبوابها يرحمك الله؟ قال: عشرة ليس فيها أصغر من أولها، قلت: أتأذن لي أن أقول لك يا سيدي أن شعرك قبيح وأقبح منه طوله, وأقبح من هذا وذاك صوتك الأجش الخشن, وأقبح من الثلاثة اعتقادك أني من سخافة الرأي وفساد الذوق بحيث يعجبني مثل هذا الشعر البارد, عجبا يسهل علي فوات الغرض الذي أريده والذي ما خرجت من منزلي إلا من أجله، فتلقاني بضربة يجمع يده1 في صدري فتلقيته بمثلها, وما زالت أكفنا تأخذ مأخذها من خدودنا وأقفائنا حتى كلت فجردت عصاي وضربته في رأسه ضربة ما أردت بها يعلم الله إلا أن أصيب مركز الشعر من مخه فأفسده عليه، فسقط مغشيا عليه وسقطت القصيدة من يده فأسرعت إليها ومزقتها وأرحت

_ 1 جمع اليد هيئتها حيت تقبضها.

نفسي منها وأرحت الناس من مثل مصيبتي فيها، وكان الشرطي قد وصل إلينا فاحتملنا جميعا إلى المخفر, ثم إلى السجن حيث أكتب إليك كتابي هذا. فيا صاحب النظرات أفتني في أمري وأنر ظلمة نفسي فقد أشكل علي الأمر وأصبحت أسوأ الناس بالصدق ظنا بعدما رأيت أني ما وقفت موقفه في حياتي إلا خمس مرات, فكانت نتيجة ذلك إفلاسي وخراب بيتي واتهامي بالخيانة مرة والزندقة أخرى، ذلك إلى ما أقاسيه اليوم في هذا السجن من أنواع الآلام، وصنوف الأسقام. أيها السجين: كتبت إلي مسح الله ما بك وألهمك صواب الرأي في حاليك, تشكو من جناية الصدق عليك ما وقف بك موقف الشك في أمره, وكاد يزلق بك إلى الاعتقاد أنه رذيلة الرذائل، لا فضيلة الفضائل، وما كان لك أن تجعل لليأس هذا السبيل إلى نفسك وأن يبلغ بك الجزع من نكبات العيش وضربات الأيام مبلغا يذهب برشدك، ويطير بلبك، فما أنت أول صادق في الأرض ولا أول من لقي في سبيل الصدق شرا وكابد ضرا

إنك لو فهمت معنى الفضيلة حق الفهم وصبرت على مرارتها حق الصبر لذقت من حلاوتها ما تقطع دونه أعناق الرجال. ليست الفضيلة وسيلة من وسائل العيش أو كسب المال, وإنما هي حالة من حالات النفس تسمو بها إلى أرقى درجات الإنسانية وتبلغ بها غاية الكمال. إن الذي يطلب الفضيلة ليستكثر بها ماله أو يرفه بها عيشه يحتقرها ويزدريها؛ لأنه لا يفرق بينها وبين سلعة التاجر وآلة الصانع. ليس من صواب الرأي أن يجعل الإنسان حالة عيشه ميزانا يزن به أخلاقه فإن اتسع عيشه اطمأن إليها, وإن ضاق أساء الظن بها, فكم رأينا بين الفاضلين أشقياء، وبين الأرذلين كثيرا من ذوي النعمة والثراء. لا يستطيع الرجل الفاضل أن يبلغ غايته من عيشه إلا إذا استطاع أن ينزل من نفوس الناس منازل الحب والإكرام، ولن يستطيع ذلك إلا إذا عاش بين قوم يعرفون الفضيلة ويعظمون شأنها، ولن يكونوا كذلك إلا إذا كانوا فضلاء أو أشباه فضلاء، والسواد الأعظم الذي يمسك بيده أسباب العيش ويملك ينابيعه سواد أبله ساذج يبغض الصادق؛ لأنه

يصادره في ميوله وأهوائه وينقم منه جهله وغباوته، ويحب الكاذب؛ لأنه لا يزال يزين له أمره حتى يحبب إليه نفسه، فلا بد للصادق من صدر يسع هموم العيش وقلب يحتمل بغض القلوب ليبلغ غايته من إصلاح النفوس وتهذيبها كما يبذل المجاهد حياته ودمه ليبلغ غايته من الفوز والانتصار. الصدق جنة حفت بالمكاره, فإن كان للصادق في جنة الصدق أرب فليحمل في سبيلها ما حمله الأنبياء والمرسلون والحكماء والقائمون بإصلاح المجتمع الإنساني ودعاة المطالب الدينية والسياسية. كما أن الجود يفقر والإقدام قتال, وكما أن لكل فضيلة من الفضائل آفة من الآفات, ترفع درجتها وتبعد منازلها إلا على الصابرين المخلصين، كذلك للصدق آفة من مصادمة الكاذبين وهم الأكثرون، للصادقين وهم الأقلون. أتريد أيها الرجل أن تسمى صادقا وأن تنال أشرف لقب يستطيع أن يناله بشر, وأن يوافيك المجد طائعا مذعنا دون أن تبذل في سبيله شيئا من مالك أو راحتك. إنك إن أردت ذلك أو قدرته في نفسك تظلم الفضيلة

ظلما بينا وترخص قيمتها وتلق بها في مدارج الطرق وتحت مواطئ النعال. أيحزنك انصراف الأغبياء عن حانوتك, أو اتهامك بالزندقة والإلحاد أو المروق والخيانة, وترى أن ذلك كثير في سبيل بلوغك منزلة الصدق وإحرازك فضيلته، وأنت تعلم أن الفاضلين قد بذلوا من قبلك أكثر مما بذلت، في سبيل إحراز ما أحرزت، فما ندموا ولا حزنوا. أيها السجين الشريف, هنيئا لك السجن الذي تكابده، وهنيئا لك البغض الذي تحتمله، وهنيئا لك العيش الذي تعالج همومه، فوالله لأنت أرفع في نظري من كثير من أولئك الذين يعدهم الناس سعداء، ويسمونهم عظماء. لا تظلم الصدق ولا تكن سيئ الظن به, وكن أحرص الناس على ولائه ومودته، وإياك أن يخدعك عنه خادع، واصبر قليلا يثمر لك غرسه، ويمتد عليك ظله، وهنالك تجد في نفسك من اللذة والغبطة ما لو بذل فيه ذوو التيجان تيجانهم، وأرباب الكنوز كنوزهم، لما استطاعوا إليه سبيلا.

النظامون

النظامون: ما لهؤلاء النظامين لا يهدءون ساعة واحدة عن صدع رءوسنا, وجرح قلوبنا بهذه الصواعق التي يمطرونها علينا كل يوم من سماء الصحف حتى صرنا كلما فتحنا صحيفة, ورأينا في وسطها جدولا أبيض مستطيلا تخيلناه حية رقطاء, ففزعنا وألقينا الصحيفة كما ألقاها الشاعر المتلمس لينجو بنفسه ويسلم بحياته. من لي بالقلم العريض الذي يكتب به كتاب الصحف عناوين مقالاتهم في معرض التهويل والتجسيم فأكتب به إلى هؤلاء المساكين هذه الكلمة الآتية: أيها القوم، إن علماء الضاد الذين عرفوا الشعر بأنه: الكلام الموزون المقفى لم يكونوا شعراء ولا أدباء ولا يعرفون من الشعر أكثر من إعرابه وبنائه أو اشتقاقه وتصريفه, وإنما جروا في ذلك التعريف مجرى علماء العروض الذين لا مناص لهم من أن يقفوا في تعريف الشعر عند هذا القدر ما دام لا يتعلق لهم غرض منه بغير أوزانه وقوافيه، وعلله وزحافاته.

لا تظنوا أن الشعر كما تظنون, وإلا لاستطاع كل قارئ بل كل إنسان أن يكون شاعرا؛ لأنه لا يوجد في الناس من يعجزه تصور النغمة الموسيقية والتوقيع عليها من أخصر طريق. أيها القوم، ما الشعر إلا روح يودعها الله فطرة الإنسان من مبدأ نشأته ولا تزال كامنة فيه كمون النار في الزند, حتى إذا شدا1 فاضت على أسلات أقلامه2 كما تفيض الكهرباء على أسلاكها، فمن أحس منكم بهذه الروح في نفسه فليعلم أنه شاعر أو لا فليكف نفسه مئونة التخطيط والتسطير, وليصرفها إلى معاناة ما يلائم طبعه ويناسب فطرته من أعمال الحياة، فوالله للمحراث في يد الفلاح والقدوم في يد النجار, والمسبر في يد الحداد أشرف وأنفع من القلم في يد النظام. فإن غم عليكم الأمر وأعجزكم أن تعلموا مكان الروح الشعري من نفوسكم فأعرضوا أنفسكم على من يرشدكم إليكم, ويدلكم عليكم حتى تكونوا على بينة من أمركم.

_ 1 شدا أخذ طرفا من الأدب والعلم. 2 الأسلات جمع أسلة وهي نبات رقيق الغصن.

الحرية

الحرية: استيقظت في فجر هذا اليوم على صوت هرة تموء1 بجانب فراشي وتتمسح بي, وتلح في ذلك إلحاحا غريبا, فرابني أمرها وأهمني همها, وقلت: لعلها جائعة فنهضت وأحضرت لها طعاما فعافته وانصرفت عنه, فقلت: لعلها ظمآنة فأرشدتها إلى الماء فلم تحفل به, وأنشأت تنظر إلي نظرات تنطق بما تشتمل عليه نفسها من الآلام والأحزان, فأثر في نفسي منظرها تأثيرا شديدا حتى تمنيت أن لو كنت سليمان، أفهم لغة الحيوان؛ لأعرف حاجتها وأفرج كربتها، وكان باب الغرفة مقفلا فرأيت أنها تطيل النظر إليه وتتلصق بي كلما رأتني أتجه إليه, فأدركت غرضها وعرفت أنها تريد أن أفتح لها الباب، فأسرعت بفتحه فما وقع نظرها على الفضاء، ورأت وجه السماء، حتى استحالت حالتها من حزن وهم إلى غبطة وسرور وانطلقت تعدو في سبيلها، فعدت إلى فراشي

_ 1 المواء صوت الهر.

وأسلمت رأسي إلى يدي وأنشأت أفكر في أمر هذه الهرة وأعجبت لشأنها وأقول: ليت شعري هل تفهم الهرة معنى الحرية, فهي تحزن لفقدانها وتفرح بلقياها، أجل؛ إنها تفهم معنى الحرية حق الفهم، وما كان حزنها وبكاؤها وإمساكها عن الطعام والشراب إلا من أجلها، وما كان تضرعها ورجاؤها وتمسحها وإلحاحها إلا سعيا وراء بلوغها. وهنا ذكرت أن كثيرا من أسرى الاستبداد من بني الإنسان لا يشعرون بما تشعر به الهرة المحبوسة في الغرفة, والوحش المعتقل في القفص والطير المقصص الجناح من ألم الأسر وشقائه، بل ربما كان بينهم من لا يفكر في وجه الخلاص, أو يلتمس السبيل إلى النجاة مما هو فيه، بل ربما كان بينهم من يتمنى البقاء في هذا السجن ويأنس به ويتلذذ بالآمه وأسقامه. من أصعب المسائل التي يحار العقل البشري في حلها أن يكون الحيوان الأعجم أوسع ميدانا في الحرية من الحيوان الناطق، فهل كان نطقه شؤما عليه وعلى سعادته، وهل يجمل به أن يتمنى الخرس والبله ليكون سعيدا بحريته كما كان سعيدا بها قبل أن يصبح ذكيا ناطقا. يحلق الطير في الجو, ويسبح السمك في البحر, ويهيم الوحش

في الأودية والجبال, ويعيش الإنسان رهين المحبسين: محبس نفسه ومحبس حكومته من المهد إلى اللحد. صنع الإنسان القوي للإنسان الضعيف سلاسل وأغلالا وسماها تارة ناموسا وأخرى قانونا؛ ليظلمه باسم العدل ويسلب منه جوهرة حريته باسم الناموس والنظام. صنع له هذه الآلة المخيفة, وتركه قلقا حذرا مروع القلب مرتعد الفرائض, يقيم من نفسه على نفسه حراسا تراقب حركات يديه وخطوات رجيله وفلتات لسانه وخطرات وهمه وخياله؛ لينجو من عقاب المستبد ويتخلص من تعذيبه، فويل له ما أكثر جهله، وويح له ما أشد حمقه، وهل يوجد في الدنيا عذاب أكبر من العذاب الذي يعالجه, أو سجن أضيق من السجن الذي هو فيه. ليست جناية المستبد على أسيره أنه سلبه حريته بل جنايته الكبرى عليه أنه أفسد عليه وجدانه فأصبح لا يحزن لفقد تلك الحرية ولا يذرف دمعة واحدة عليها. لو عرف الإنسان قيمة حريته المسلوبة منه وأدرك حقيقة ما يحيط بجسمه وعقله من السلاسل والقيود لانتحر كما ينتحر البلبل إذا حبسه الصياد في القفص، وكان ذلك خيرا له من حياة لا يرى فيها شعاعا من أشعة الحرية ولا تخلص إليه نسمة من نسماتها.

كان في مبدأ خلقه يمشي عريانا أو يلبس لباسا واسعا يشبه أن يكون ظلة تقيه لفحة الرمضاء، أو هبة النكباء، فوضعوه في القماط كما يضعون الطفل, وكفنوه كما يكفنون الموتى, وقالوا له هكذا نظام الأزياء. كان يأكل ويشرب كل ما تشتهيه نفسه, وما يلتئم مع طبيعته, فحالوا بينه وبين ذلك, وملئوا قلبه خوفا من المرض أو الموت وأبوا أن يأكل أو يشرب إلا كما يريد الطبيب, وأن يتكلم أو يكتب إلا كما يريد الرئيس الديني أو الحاكم السياسي, وأن يقوم أو يقعد أو يمشي أو يقف أو يتحرك أو يسكن إلا كما تقضي به قوانين العادات والتقاليد. لا سبيل إلى السعادة في الحياة إلا إذا عاش الإنسان فيها حرا مطلقا, لا يسيطر على جسمه وعقله ونفسه ووجدانه وفكره مسيطر إلا أدب النفس. الحرية شمس يجب أن تشرق في كل نفس، فمن عاش محروما منها عاش في ظلمة حالكة يتصل أولها بظلمة الرحم، وآخرها بظلمة القبر. الحرية هي الحياة ولولاها لكانت حياة الإنسان أشبه شيء بحياة اللعب المتحركة في أيدي الأطفال بحركة صناعية.

ليست الحرية في تاريخ الإنسان حادثا جديدا، أو طارئا غريبا، وإنما هي فطرته التي فطر عليها مذ كان وحشا يتسلق الصخور، ويتعلق بأغصان الأشجار. إن الإنسان الذي يمد يده لطلب الحرية ليس بمتسول ولا مستجد, وإنما هو يطلب حقا من حقوقه التي سلبته إياها المطامع البشرية، فإن ظفر بها فلا منة لمخلوق عليه ولا يد لأحد عنده.

عبرة الهجرة

عبرة الهجرة: إن في أخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم- وسجاياه التي لا تشتمل على مثلها نفس بشرية ما يغنيه عن كل خارقة تأتيه من الأرض أو السماء، أو الماء أو الهواء. إن ما كان يبهر العرب من معجزات علمه وحلمه، وصبره واحتماله، وتواضعه وإيثاره، وصدقه وإخلاصه، أكثر مما كان يبهرهم من معجزات تسبيح الحصى وانشقاق القمر، ومشى الشجر، ولين الحجر؛ ذلك لأنه ما كان يريبهم في الأولى ما كان يريبهم في الأخرى من الشبه بينها وبين عرافة العرافين وكهانة الكهنة وسحرة السحرة، فلولا صفاته النفسية وغرائزة وكمالاته ما نهضت له الخوارق بكل ما يريد، ولا تركت المعجزات في نفوس العرب ذلك الأثر المعروف، ذلك هو معنى قوله تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} . كان النبي -صلى الله عليه وسلم- شجاع القلب فلم يهب أن يدعو إلى التوحيد قوما مشركين يعلم أنهم غلاظ جفاة شرسون

متحمسون يغضبون لدينهم غضبهم لأعراضهم ويحبون آلهتهم كما يحبون أبناءهم. كان على ثقة من نجاح دعوته فكان يقول لقريش أشد ما كانوا هزءا وسخرية: "يا معشر قريش والله لا يأتي عليكم غير قليل حتى تعرفوا ما تنكرون، وتحبوا ما أنتم له كارهون". كان حليما سمح الأخلاق, فلم يزعجه أن كان قومه يؤذونه ويزدرونه ويشعثون1 منه ويضعون التراب على رأسه ويلقون على ظهره أمعاء الشاة وسلى2 الجزور وهو في صلاته بل كان يقول: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لايعلمون". كان واسع الأمل كبير الهمة صلب النفس لبث في قومه ثلاث عشرة سنة يدعو إلى الله, فلا يلبي دعوته إلا الرجل بعد الرجل فلم يبلغ الملل من نفسه ولم يخلص اليأس إلى قلبه فكان يقول: "والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته". وما زال هذا شأنه حتى علم أن مكة لن تكون مبعث الدعوة ولا مطلع تلك الشمس المشرقة فهاجر إلى المدينة فانتقل الإسلام

_ 1 يقال شعث فلان من فلان تنقصه. 2 السلى للدواب بمنزلة المشيمة للإنسان.

بانتقاله من السكون إلى الحركة ومن طور الخفاء إلى طور الظهور. لذلك كانت الهجرة مبدأ تاريخ الإسلام؛ لأنها أكبر مظهر من مظاهره وكانت عيدا يحتفل به المسلمون في كل عام؛ لأنها أجمل ذكرى للثبات على الحق والجهاد في سبيل الله. لقد لقى -صلى الله عليه وسلم- في هجرته عناء كبيرا وشدة عظيمة, فإن قومه كانوا يكرهون مهاجرته لا ضنا به بل مخافة أن يجد في دار هجرته الأعوان والأنصار ما لم يجد بينهم, كأنما كانوا يشعرون بأنه طالب حق وأن طالب الحق لا بد أن يجد بين المحقين أعوانا وأنصارا، فوضعوا عليه العيون والجواسيس فخرج من بينهم ليلة الهجرة متنكرا بعد ما ترك في فراشه ابن عمه علي ابن أبي طالب رضي الله عنه عبثا بهم وتضليلا لهم عن اللحاق به, ومشى هو وصاحبه أبو بكر رضي الله عنه يتسلقان الصخور ويتسربان في الأغوار والكهوف ويلوذان بأكناف الشعاب والهضاب حتى انقطع عنهم الطلب, وتم لهما ما أرادا بفضل الصبر والثبات على الحق. إن حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- أعظم مثال يجب أن يحتذيه المسلمون للوصول إلى التخلق بأشرف الأخلاق والتحلي بأكرم الخصال وأحسن مدرسة يجب أن يتعلموا فيها كيف

يكون الصدق في القول والإخلاص في العمل والثبات على الرأي وسيلة إلى النجاح, وكيف يكون الجهاد في سبيل الحق سببا في علوه على الباطل. لا حاجة لنا بتاريخ حياة فلاسفة اليونان، وحكماء الرومان، وعلماء الإفرنج، فلدينا في تاريخنا حياة شريفة مملوءة بالجد والعمل والصبر والثبات والحب والرحمة والحكمة والسياسة والشرف الحقيقي والإنسانية الكاملة وهي حياة نبينا -صلى الله عليه وسلم- وحسبنا بها وكفى.

الانصاف

الإنصاف: إذا كان لك صديق تحبه وتواليه ثم هجمت من أخلاقه على ما لم يحل في نظرك, ولم يتفق مع ما علمت من حاله، وما أطرد عندك من أعماله، أو كان لك عدو تذم طباعه، وتنقم منه شئونه، ثم برقت لك من جانب أخلاقه بارقة خير فتحدثت بما قام في نفسك من مؤاخذة صديقك على الهفوة التي ذممتها، وحمد عدوك على الخلة التي حمدتها، عدك الناس متلونا أو مخادعا أو ذا وجهين تمدح اليوم من تذم بالأمس وتذم في ساعة من تمدح في أخرى, وقالوا: إنك تظهر ما لا تضمر وتخفي غير الذي تبدي، ولو أنصفوك لأعجبوا بك وبصدقك، ولأكبروا سلامة قلبك من هوى النفس وضلالها، ولسموا ما بدا لهم منك اعتدالا لا نفاقا، وإنصافا لا خداعا؛ لأنك لم تغل في حب صديقك غلو من يعميه الهوى عن رؤية عيوبه ولم تتمسك من صداقته بالسبب الضعيف فعنيت بتعهد أخلاقه، وتفقد خلاله، لإصلاح ما فسد من الأولى، واعوج من الأخرى.

إن صديقك الذي يبسم لك في حالي رضاك وغضبك، وحلمك وجهلك، وصوابك وسقطك، ليس ممن يغتبط بمودته، أو يوثق بصداقته؛ لأنه لا يصلح أن يكون مرآتك التي تتراءى فيها فتكشف لك عن نفسك وتصدقك عن زينك وشينك، وحلوك ومرك، وهو إما جاهل متهور في ميوله وأهوائه فلا يرى غير ما تريد أن ترى نفسه لا ما يجب أن تراه، وإما منافق مخادع قد علم أن هواك في الصمت عن عيوبك وتجرير الذيول عليها فجاراك فيما تريد، ليبلغ منك ما يريد. فها أنت ترى أن الناس يعكسون القضايا ويقلبون الحقائق فيسمون الصادق كاذبا، والكاذب صادقا، ولكن الناس لا يعلمون.

المدنية الغربية

المدنية الغربية: سأودع في هذه النظرة الخيال والشعر وداع من يعلم أن الأمر أعظم شأنا وأجل خطرا من أن يعبث فيه العابث بأمثال هذه الطرائف, التي هي بالهزل أشبه منها بالجد والتي إنما يلهو بها الكاتب في مواطن فراغه ولعبه، لا في مواطن جده وعمله. إن في أيدينا معشر الكتاب من نفوس هذه الأمة وديعة يجب علينا تعهدها, والاحتفاظ بها والحدب عليها حتى نؤديها إلى أخلافنا من بعدنا كما أداها إلينا أسلافنا من قبلنا سالمة غير مأروضة1 ولا متأكلة، فإن فعلنا فذاك، أو لا فرحمة الله على الصدق والوفاء، وسلام على الكتاب الأمناء. الأمة المصرية أمة مسلمة شرقية, فيجب أن يبقى لها دينها وشرقيتها ما جرى نيلها في أرضها، وذهبت إهرامها في سمائها، حتى تبدل الأرض غير الأرض والسموات. إن خطوة واحدة يخطوها المصري إلى الغرب تدني إليه

_ 1 الخشب المأروض الذي أكلته الأرضة.

أجله وتدنيه من مهوى سحيق يقبر فيه قبرا لا حياة له من بعده إلى يوم يبعثون. لا يستطيع المصري وهو ذلك الضعيف المستسلم أن يكون من المدنية الغربية إن داناها إلا كالغربال من دقيق الخبز يمسك خشاره، ويفلت لبابه، أو الراووق1 من الخمر يحتفظ بعقاره، ويستهين برحيقه، فخير له أن يتجنبها وأن يفر منها فرار السليم من الأجرب. يريد المصري أن يقلد الغربي في نشاطه وخفته فلا ينشط إلا في غدوته وروحته، وقعدته وقومته، فإذا جد الجد وأراد نفسه على أن يعمل عملا من الأعمال المحتاجة إلى قليل من الصبر والجلد دب الملل إلى نفسه دبيب الصهباء في الأعضاء، والكرى بين أهداب الجفون. يريد أن يقلده في رفاهيته، ونعمته فلا يفهم منهما إلا أن الأولى التأنث في الحركات، والثانية الاختلاف إلى الحانات. يريد أن يقلده في الوطنية فلا يأخذ منها إلا نعيقها ونعيبها وضجيجها وصفيرها، فإذا قيل له هذه المقدمات فأين النتائج أسلم رجليه إلى الرياح الأربع واستن في فراره استنان المهر

_ 1 الراووق المصفاة.

الأرن1، فإذا سمع صفير الصافر مات وجلا، وإذا رأى غير شيء ظنه رجلا. يريد أن يقلده في السياحة فلا يزال يترقب فصل الصيف ترقب الأرض الميتة فصل الربيع, حتى إذا حان حينه طار إلى مدن أوربا طيران حمام الزاجل لا يبصر شيئا مما حوله، ولا يلوي على شيء مما وراءه، حتى يقع على مجامع اللهو ومكامن الفجور وملاعب القمار، وهناك يبذل من عقله وماله ما يعود من بعده فقير الرأس والجيب، لا يملك من الأول ما يقوده إلى طريق السفينة التي تحمله في أوبته، ولا من الثاني أكثر من الجعالة التي يجتعلها منه صاحب الجريدة ليكتب له بين حوادث صحيفته، حادثة عودته، موشاة بجمل الإجلال والاحترام، مطرزة بوشائع الإكرام والإعظام. يريد أن يقلده في العلم فلا يعرف منه إلا كلمات يرددها بين شدقيه ترديدا لا يلجأ فيه إلى ركن من العلم وثيق، ولا يعتصم به من جهل شائن. يريد أن يقلده في الإحسان والبر فيترك جيرانه وجاراته يطوون حنايا الضلوع على أمعاء تلتهب فيها نار الجوع التهابا حتى

_ 1 الأرن النشط.

إذا سمع دعوة إلى اكتتاب في فاجعة نزلت في القطب الشمالي أو كارثة ألمت بسد يأجوج ومأجوج سجل اسمه في فاتحة الكتاب، ورصد هبته في مستهل جريدة الحساب. يريد أن يقلده في تعليم المرأة وتربيتها فيقنعه من علمها مقالة تكتبها في جريدة أو خطبة تخطبها في محفل ومن تربيتها التفنن في الأزياء والمقدرة على سحر النفوس واستلاب الألباب. هذا شأنه في الفضائل الغربية يأخذها صورة مشوهة وقضية معكوسة لا يعرف لها مغزى ولا ينتحي بها مقصدا ولا يذهب فيها إلى مذهب، فيكون مثله في ذلك كمثل جهلة المتدينين الذين يقلدون السلف الصالح في تطهير الثياب وقلوبهم ملأى بالأقذار والأكدار، ويجارونهم في آداء صور العبادات وإن كانوا لا ينتهون عن فحشاء ولا عن منكر، أو كمثل الذي يتشبهون بعمر في ترقيع الثياب وإن كانوا أحرص على الدنيا من صيارفة الإسرائيليين. أما شأنه في رذائلها فإنه أقدر الناس على أخذها كما هي فينتحر كما ينتحر الغربي ويلحد كما يلحد ويستهتر في الفسوق استهتاره، ويترسم في الفجور آثاره. إن في المصريين عيوبا جمة في أخلاقهم وطباعهم ومذاهبهم

وعاداتهم فإن كان لا بد لنا من الدعوة إلى إصلاحها فلندع إلى ذلك باسم المدنية الشرقية، لا باسم المدنية الغربية. إن دعوناهم إلى الحضارة فلنضرب لهم مثلا بحضارة بغداد وقرطبة وثيبة وفينيقيا لا بباريس ورومة وسويسرة ونيويورك، وإن دعوناهم إلى مكرمة فلنتل عليهم آيات الكتب المنزلة وأقوال أنبياء الشرق وحكمائه لا آيات رُسو وباكون ونيوتن وسبنسر، وإن دعوناهم إلى حرب ففي تاريخ خالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص وموسى بن نصير وصلاح الدين ما يغنينا عن تاريخ نابليون وولنجتون وواشنطون ونلسن وبلوخر، وفي وقائع القادسية وعمورية وأفريقية والحروب الصليبية ما يغنينا عن وقائع واترلو وترافلغار وأوسترليتز والسبعين. إن عارا على التاريخ المصري أن يعرف المسلم الشرقي في مصر من تاريخ بونابرت ما لا يعرف من تاريخ عمرو بن العاص، ويحفظ من تاريخ الجمهورية الفرنسية، ما لا يحفظ من تاريخ الرسالة المحمدية، ومن مبادئ ديكارت وأبحاث درون ما لا يحفظ من حكم الغزالي وأبحاث ابن رشد، ويروى من الشعر لشكسبير وهوجو ما لا يروى للمتنبي والمعري. لا مانع من أن يعرب لنا المعربون المفيد النافع من مؤلفات

علماء الغرب والجيد الممتع من أدب كتابهم وشعرائهم على أن ننظر إليه نظر الباحث المنتقد لا الضعيف المستسلم، فلا نأخذ كل قضية علمية قضية مسلمة ولا نطرب لكل معنى أدبي طربا متدفعا، ولا مانع من أن ينقل إلينا الناقلون شيئا من عادات الغربيين ومصطلحاتهم في مدنيتهم على أن ننظر إليه نظر من يريد التبسط في العلم بشئون العالم والتوسع في التجربة والاختبار لا على أن نتقلدها وننتحلها ونتخذها قاعدتنا في استحسان ما نستحسن من شئوننا، واستهجان ما نستهجن من عاداتنا. وبعد فليعلم كتاب هذه الأمة وقادتها أنه ليس في عادات الغربيين وأخلاقهم الشخصية الخاصة بهم ما نحسدهم عليه كثيرا، فلا يخدعوا أمتهم عن نفسها ولا يفسدوا عليها دينها وشرقيتها ولا يزينوا لها هذه المدنية الغربية تزيينا يرزؤها في استقلالها النفسي، بعد ما رزأتها السياسة في استقلالها الشخصي.

يوم الحساب

يوم الحساب: ساهرت الكوكب ليلة أمس حتى ملني ومللته, وضاق كل منا بصاحبه ذرعا وقد وقف الهم بيني وبين الكرى أجذبه فيدفعه، وأدنيه فيبعده، حتى أسلس قياده، وسكن جماحه. لم تخالط جفني سنة الكرى حتى خيل إلي أني قد انتقلت من العالم الأول إلى العالم الثاني ورأيت كأني بعثت بعد الموت وكأن أبناء آدم مجتمعون في صعيد واحد يحاسبون على أعمالهم, فألهمت أنه موقف الحشر وأنه يوم الحساب. أنشأت أمشي مشية الحائر الذاهل لا أعرف لي مذهبا ولا مضطربا ولا أجد من يأخذ بيدي ويدلني على نفسي في هذا الموقف الذي ينشد فيه كل ذي نفس نفسه فلا يجد إليها سبيلا، فطفقت أتصفح وجوه الواقفين، وأقلب النظر في الغادين والرائحين، علني أجد صديقا أستأنس به في وحدتي، وأستعين بمرافقته على وحشتي، فلا أرى إلا خلقا غريبا، ومنظرا عجيبا، ووجوها ما رأيت لها في حياتي شبيها ولا ضريبا، ولولا أني أعلم

أن الحساب خاص بالإنسان، لظننت أن الله يحاسب في هذا الموقف جميع أنواع الحيوان. هنالك وقد بلغ اليأس والهم مبلغهما من نفسي رأيت على البعد وجها يبتسم لي ويدنو مني رويدا رويدا, فأرقلت نحوه حتى بلغته فإذا صديقي "فلان" وإذا وجهه يتلألأ تلألؤ الكوكب في علياء السماء، فسألته ما فعل الله به؟ فقال: حاسبني حسابا يسيرا ثم غفر لي، وها أنذا ذاهب إلى ما أعد الله لعباده الصالحين في جنته من النعيم المقيم، فعجبت لشأنه وقلت في نفسي لقد هان أمر الحساب على كل عاص بعد ما هان على هذا الذي كنت أعرفه في أولاه لا يتقي مأثما، ولا يهاب منكرا، ولا يخرج من حان إلا إلى حان، ولا يودع مجمعا من مجامع الفسق إلا على موعد من اللقاء، فنظر إلي نظرة العاتب اللائم وابتسم ابتسامة علمت منها أن الرجل قد ألم بما أضمرته في نفسي فذكرت أن قد كشف الغطاء في هذه الدار, وأن قد رفع الحجاب بين الناس فلا سر ولا جهر، ولا بطن ولا ظهر، ولا فرق بين حركات اللسان، وخطرات الجنان، نظر إلي تلك النظرة وقال: لا تعجب لأمر في هذه الدار فكل ما فيها عجيب، واعلم أن الله حاسبني على كل ما كنت أجترح من الإثم في الدار الأولى، إلا أنه وجد

لي في جريدة حسناتي حسنة ذهبت بجميع السيئات، ذلك أنه كان لي جار من ذوي النعمة والثراء والصلاح والخير والمروءة والبر نكبه دهره نكبة ذهبت بماله فأهمني أمره وأزعجني أن أراه في مستقبل الأيام بائسا معدما يريق ماء وجهه على أعتاب الذين كان يسدي إليهم نعمته، وعلمت أني إن عرضت عليه شيئا من مالي أخجلته وصغرت نفسه في عينه فاحتلت على أن أدخل في بيته خادما كانت في بيتي وجعلت لها جعلا على أن تدس في كيس دراهمه كل ليلة خمسة دنانير من حيث لا يشعر بمأتاها، ولا يقف على سرها، وما زال هذا شأني وشأنه لا يعلم من أين يأتيه رزقه ولا يشعر أحد من الناس باستحالة حاله، وذهاب ماله، حتى فرق الموت بيني وبينه، فما نفعني عمل من أعمالي ما نفعني هذا العمل، وما كان الإحسان وحده سبب سعادتي بل كان سببها أنه أصاب الموضع وخلص من شائبة الرياء، فهنأته بنعمة الله عليه وشكوت إليه وحشتي من الوحدة وخوفي من المحاسبة، فقال: أما الوحشة فإني لن أفارقك حتى يأتي دورك، وأما الخوف فلا حيلة لي ولا لأحد من الناس في نقض ما أبرم الله في شأنك، فقلت: أنت من السعداء فهل تستطيع أن تشفع لي أو تطلب لي شفاعة من ولي من الأولياء، أو نبي من الأنبياء، قال: لا تطلب

المحال، ولا تصدق كل ما يقال، فقد كنا مخدوعين في الدار الأولى بتلك الآمال الكاذبة التي كان يبيعها منا تجار الدين بثمن غال, ولا يتقون الله في غشنا وخداعنا، وما الشفاعة إلا مظهر من مظاهر الإكرام والتبجيل به الله بعض عباده المقربين، فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، ولا يأذن بالشفاعة لأحد إلا إذا كان بين أعمال المشفوع له, أو في أعماق سريرته ما يقتضي إثاره بالمغفرة على غيره من العصاة والمذنبين، والله سبحانه وتعالى أجل من العبث وأرفع من المحاباه. وما وصل من حديثه إلى هذا الحد حتى رأينا كوكبة من ملائكة العذاب تحيط برجل يساق إلى النار, ورأينا في يد كل واحد منهم مقرعة من الحديد يقرع بها رأسه وهو يصرخ ويقول: "أهلكتني يا أبا حنيفة" فسألت صاحبي ما ذنب الرجل، فقال: إنه كان في حياته يتخذ في أعماله ما يسمونه "الحيل الشرعية" فكان يهب ماله لأحد أولاده على نية استرداده قبل أن يحول عليه الحول ليتخلص من فريضة الزكاة، ويطلق زوجته ثلاثا ثم يأتي بمحلل يحللها له فيعود إلى معاشرتها، وكان يرابي باسم الرهن فإذا جاءه من يريد أن يقترض منه مالا أبى أن يقرضه إلا إذا وضع في يده رهنا فإذا وضع يده على ضيعته ألزمه أن يستأجرها

منه بمال كثير يراعي فيه النسبة التي يراعيها المرابون بين الربح وأصل المال، وكان إذا حلف لا يدخل بيتا دخله من نافذته، أو لا يأكل رغيفا أكله إلا لقمة منه، فذنبه أنه كان يعمد إلى الأحكام الشرعية فينتزع منها حكمها وأسرارها ثم يرفعها إلى الله قشورا جوفاء ليخدعه بها ويغشه فيها كما يفعل مع الأطفال والبله مستندا على تقليد أبي حنيفة أو غيره من كبار الأئمة, وأبو حنيفة أرفع قدرا وأهدى بصيرة من أن يتخذ الله هزأ أو سخرية وأن يكون ممن يهدمون الدين باسم الدين. وما انقطع عنا صوت هذا الشقي حتى رأينا شقيا آخر ذا لحية طويلة كثة قد أحاط به ملكان وشدا عنقه بسبحة طويلة ذات حبات كبيرة, وقد أخذ كل منهما بطرف منها وهو يهمهم بكلمات مبهمة فيقرعه أحدهما على رأسه ويقول له: "أمكر وأنت في الحديد" فدنوت منه وأنعمت النظر في وجهه فعرفته, فتراجعت ذعرا وخوفا وقلت: أيكون هذا من أشقياء الآخرة وقد كان بالأمس من أقطاب الأولى، فقال لي صاحبي: إن هذا الذي كنت تحسبه في أولاه من الأقطاب كان أكبر تاجر من تجار الدين، وما هذه اللحية والسبحة والهمهمة والدمدمة إلا حبائل كان ينصبها لاصطياد عقول الناس وأموالهم ولكن الناس لا يعلمون

وما زال المنصرفون من موقف القضاء يمرون بنا هذا إلى جنته وذاك إلى ناره وأنا أسأل عن شأن كل منهم واحدا فواحدا فأرى سعيدا من كنت أحسبه شقيا، وشقيا من كنت أحسبه سعيدا، فسجلت أن الله سبحانه وتعالى يحاسب الناس على قلوبهم، لا على جوارحهم، ويسألهم عن نياتهم، لا عن أفعالهم، وأن لا سعادة إلا الصدق، ولا شقاء إلا الكذب، وعلمت أن الله لا يغفر من السيئات إلا ما كان هفوة من الهفوات يلم بها صاحبها إلماما ثم يندم عليها، ورأيت أن أكبر ما يعاقب الله عليه جناية المرء على أخيه بسفك دمه أو هتك عرضه أو سلب ماله، وأن أضعف الوسائل إلى الله ذلك الركوع والسجود، والقيام والقعود، فلو أن امرأ قضى حياته بين ليل قائم، ونهار صائم، ثم ظلم طفلا صغيرا في لقمة يختطفها من يده لاستحالت حسناته إلى سيئات، وما أغني عنه نسكه من الله شيئا. وبينا أنا أحدث نفسي بهذا الحديث وأقلب النظر في وجوه تلك المواعظ والعبر إذا قال لي صاحبي: أتعرف هذين، وأشار إلى رجلين واقفين ناحية يتناجيان، أحدهما شيخ جليل أبيض اللحية، وثانيهما كهل نحيف قد اختلط مبيضه بمسوده، فما هي إلا النظرة الأولى حتى عرفت الرجلين العظيمين، رجل الإسلام "محمد عبده"

ورجل المرأة "قاسم أمين"، فقلت لصاحبي: هل لك في أن ندنو منهما ونسترق نجواهما من حيث لا يشعران، ففعلنا فسمعنا الأول يقول للثاني: ليتك يا قاسم أخذت برأيي وأحللت نصحي لك محلا من نفسك، فقد كنت أنهاك أن تفاجئ المرأة المصرية برأيك في الحجاب قبل أن تأخذ له عدته من الأدب والدين فجنى كتابك عليها ما جناه من هتك حرمتها وفسادها وتبذلها وإراقة تلك البقية الصالحة التي كانت في وجهها من ماء الحياء، فقال له صاحبه: إني أشرت عليها أن تتعلم قبل أن تسفر وأن لا ترفع برقعها قبل أن تنسج لها برقعا من الأدب والحياء، قال له: ولكن قد فاتك ما كنت تنبأت لك به من أنها جاهلة لا تفهم هذا التفصيل, وضعيفة لا تعبأ بهذا الاستثناء، فكنت كمن يعطي الجاهل سيفا ليقتل به غيره فيقتل نفسه، فقال له: أتأذن لي يا مولاي أن أقول لك إنك قد وقعت في مثل ما وقعت فيه من الخطأ, وأنك نصحتني بما لم لم تنتصح به، أنا أردت أن أنصح المرأة فأفسدتها كما تقول, وأنت أردت أن تحيي الإسلام فقتلته، إنك فاجأت جهلة المسلمين بما لا يفهمون من الآراء الدينية الصحيحة والأغراض الشريفة فأرادوا غير ما أردت وفهموا غير ما فهمت، فأصبحوا ملحدين، بعد أن كانوا مخرفين،

وأنت تعلم أن دينا خرافيا خير من لا دين، أولت لهم بعض آيات الكتاب فاتخذوا التأويل قاعدة حتى أولوا الملك والشيطان والجنة والنار، وبينت لهم حكم العبادات وأسرارها، وسفهت لهم رأيهم في الأخذ بقشورها دون لبابها، فتركوها جملة واحدة، وقلت لهم: إن الولي إله باطل، والله إله حق، فأنكروا الألوهية حقها وباطلها، فتهلل وجه الشيخ وقال له: ما زلت يا قاسم في أخراك، مثل في دنياك، لا تضطرب في حجة، ولا تنام عن ثأر، يا قاسم لا تحمل هما، ولا تخش شرا، وثق أن الله سيحاسبنا على نياتنا وسرائرنا، ويعفو عن هفواتنا وسقطاتنا، إنا ما أردنا إلا الخير لأمتنا، وما قدرنا لها في مستقبلها إلا ما تحتمله عقولنا، فإن كذبت فراستنا أو أخطأ تقديرنا فذلك؛ لأن المستقبل بيد الله. وما وصلا من حديثهما إلى هذا الحد حتى تركا مكانهما وذهبا لشأنهما، فقلت لصاحبي: هل لك أن تريني الميزان والصراط والجنة والنار فإني ما زلت في شوق إلى رؤية تلك الأشياء, ورؤية مواقعها منذ رأيتها في "خريطة الآخرة" التي رسمها الشعراني في بعض كتبه؟ قال: أما الميزان فتقدير الأعمال والموازنة بين الحسنات

والسيئات، وأما الصراط فهو سبيل الإنسان إلى سعادته أو شقائه، وأما الجنة والنار فلا علم لي حتى الساعة بهما. وبينا أنا كذلك إذ سمعت صوتا صارخا ما قرع سمعي في حياتي مثله يناديني باسمي فعلمت أن قد جاء دوري فأدركني من الهول والرعب ما أيقظني من نومي، فاستيقظت فلم أر حسابا ولا عقابا، ولا موقفا ولا محشرا، فعلمت أنها خيالات وأوهام، أو أضغاث أحلام، وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين.

الشعرة البيضاء

الشعرة البيضاء: مررت صباح اليوم أمام المرآة فلمحت في رأسي شعرة بيضاء، تلمع في تلك اللمة السوداء، لمعان شرارة البرق في الليلة الظلماء. رأيت الشعرة البيضاء في فودي1 فارتعت لمرآها كأنما خيل إلي أنها سيف جرده القضاء على رأسي، أو علم أبيض يحمله رسول جاء من عالم الغيب ينذرني باقتراب الأجل، أو يأس قاتل عرض دون الأمل، أو جذوة نار علقت بأهداب حياتي علوقها بالحطب الجزل, ولا بد مهما ترفقت في مشيتها واتأدت في مسيرها من أن تبلغ مداها، أو خيط من خيوط الكفن الذي تنسجه يد الدهر وتعده لباسا لجثتي عندما تجردها من لباسها يد الغاسل. أيتها الشعرة البيضاء: ما رأيت بياضا أشبه بالسواد من

_ 1 الفود ناحية الرأس.

بياضك، ولا نورا أقرب إلى الظلمة من نورك, لقد أبغضت من أجلك كل بياض حتى بياض القمر، وكل نور حتى نور البصر، وأحببت فيك كل سواد حتى سواد الغربان، وكل ظلام حتى ظلام الوجدان. أيتها الشعرة البيضاء: ليت شعري من أي نافذة خلصت إلى رأسي، وفي أي مسلك من مسالك الدهر مشيت إلى فودي. كيف طاب لك المقام في هذه الأرض الموحشة التي لا تجدين فيها أنيسا يسامرك، ولا جليسا يساهرك، وكيف لم يرع قلبك لمنظر هذا الليل الفاحم، ولم يعش بصرك في هذا الظلام القاتم. أيتها الشعرة البيضاء: لقد عييت بأمرك، وبعلت1 بحملك، وأصبحت لا أعرف وجه الحيلة في البعد عنك، والفرار من وجهك. لا ينفعني معك أن أنزعك من مكانك؛ لأنك لا تلبثين أن تعودي إليه، ولا ينقذني منك أن أخضبك بالسواد؛ لأنك لا تلبثين أن تنصلي2؛ ولأني لا أحب أن أجمع على نفسي بين

_ 1 بعل بالشيء برم به واستثقله. 2 نصل الشعر خرج من الخضاب.

مصيبتين، مصيبة الشيب، ومصيبة الكذب. أيتها الشعرة البيضاء: يخيل إلي وأنا أنظر إليك أنك من ذوات الحيلة والدهاء والكيد والخبث، وأنك تهمسين في آذان أخواتك السود اللواتي بجانبك تحاولين إغراءهن بالتشبه بك والتردي بردائك، وكأني بك وقد أشعلت في هذه البيئة الهادئة المطمئنة حربا شعواء، وفتنة عمياء، يختلط فيها الرامح بالنابل1 والدارع بالحاسر2، ويهلك فيها القاعد والقائم، والمظلوم والظالم. إن كان هذا مصيرك فسيكون شأنك شأن ذلك السائح الأبيض الذي ينزل بأمة الزنج مستكشفا فيصبح مستعمرا، ويدخل أرضها سلما، ويفارقها حربا، فأسأل الله لرأسي العافية منك، ولأمة الزنج السلامة من صاحبك، فكلاكما مشئوم الطلعة في مقامه وارتحاله، وكوكب النحس في وقوفه وتسياره. أيتها الشعرة البيضاء: ما أنت، وما وفودك إلي، وما مكانك مني، وما مقامك عندي، إن كنت ضيفا فأين استئذان الضيف وتلطفه، وتجمله وتودده، وإن كنت نذيرا فأنا أعلم

_ 1 الرامح حامل الرمح والنابل ذو النبل. 2 الدارع لابس الدرع والحاسر خلافه.

من الموت وشأنه ما لا أحتاج معه إلى نذير، فلم يبق إلا أن تكوني أوقح الخلائق وجها، وأصلبها خدا، وأنك قد نزلت من السماحة والفضول منزلة لا أرى لك فيها شبيها إلا تلك الحية التي تلج كل جحر من أجحار الهوام والحشرات تعده جحرها، وتحسبه بيتها. أيبلغ بك الشأن وأنت التي يضربون الأمثال بدقتها وخفائها ويبعثون وراءها الملاقط والمقاريض فلا يكادون يعرفون السبيل إلى مدارجها ومكامنها أن تملئي من الرعب قلبا لا يروعه السيف المجرد، ولا السهم المسدد. لا لا، ما ذعرت ولا ارتعت، وما حزنت ولا بكيت، وإنما هي خطرة من خطرات الأمل الكاذب، ولمحة من لمحات البرق الخالب. أيتها الشعرة البيضاء: هل لك أن تتجاوزي عما أسأت به إليك في إطالة عتبك، واستثقال ظلك، فلقد رجعت إلى نفسي فعلمت أنك أكرم الخلائق عندي، وأعظمها في عيني، هنيئا لك رأسي مصيفا ومرتبعا، وهنيئا لك فودي مرادا ومسرحا، فأنت رسول الموت الذي ما زلت أطلبه مذ عرفته، فلا أجد له سبيلا، ولا أعرف له رسولا

ما الذي يحمله في صدره لك من الحقد والموجدة رجل لم ينعم بشبابه، فيحزن على ذهابه، ولم يذق حلاوة الحياة، فيجزع لمرارة الممات، ولم يستنشق نسمات السعادة غصنا رطبا، فيأسى عليها عودا يابسا. ما الذي ينقمه منك من الشئون رجل يعلم أنك وحي الأمل الذي يبشره بقرب النجاة من حياة ليس فيها من السعادة والهناء إلا لحظات قليلة, يكدرها ما يحيط بها من الهموم والأحزان كما تكدر أنفاس الحزن الحارة صفحة المرآة. أليس كل ما أعده عليك من الذنوب أنك طليعة الموت, والموت هو الذي يخلصني من منظر هذا العالم المملوء بالشرور والآثام، الحافل بالآلام والأسقام، الذي لا أغمض عيني فيه إلا لأفتحها على صديق يغدر بصديقه، وأخ يخون أخاه، وعشير يحدد أنيابه ليمضغ عشيره، وغني يضن على الفقير بفتات مائدته، وفقير يقترح على الدهر حتى بلغه الموت فلا يظفر بأمنيته، وملك لا يفرق بين رعيته وماشيته، ومملوك لا يميز بين ملك الملك وربوبيته، وقلوب تضطرم حقدا على غير طائل، ونفوس تتفانى قتلا على لون حائل، وظل زائل، وغرض باطل، وعقول تتهالك وجدا على نار تحرقها، وأنياب تمزقها، وعيون حائرة، في رءوس

طائرة، تنظر ولا ترى شيئا مما حولها، وتلمع ولا تكاد تبصر ما تحتها، إن كان هذا هو ذنبك عندي فاستكثري من ذنوبك فإني لك من الغافرين. أيتها الشعرة البيضاء: مرحبا بك اليوم ومرحبا بأخواتك غدا، ومرحبا بهذا القضاء الواقف وراءك أو الكامن في أطوائك، ومرحبا بتلك الغرفة التي أخلو فيها بربي وآنس فيها بنفسي، من حيث لا أسمع حتى دوي المدافع، ولا أرى حتى غبار الوقائع. أهلا بوافدة للشيب واحدة ... وإن تراءت بشكل غير مودود

الصياد

الصياد: حدث أحد الأصدقاء قال: بينا أنا في منزلي صبيحة يوم إذ دخل علي رجل صياد يحمل في شبكة فوق عاتقه سمكة كبيرة, فعرضها علي فلم أساومه فيها بل نقدته الثمن الذي أراده فأخذه شاكرا متهللا وقال: هذه هي المرة الأولى التي أخذت فيها الثمن الذي اقترحته، أحسن الله إليك كما أحسنت إلي وجعلك سعيدا في نفسك، كما جعلك سعيدا في مالك، فسررت بهذه الدعوة كثيرا وطمعت أن تفتح لها أبواب السماء، وعجبت أن يهتدي شيخ عامي إلى معرفة حقيقة لا يعرفها إلا القليل من الخاصة، وهي أن للسعادة النفسية شأنا غير شأن السعادة المالية، فقلت له: يا شيخ وهل توجد سعادة غير سعادة المال؟، فابتسم ابتسامة هادئة مؤثرة وقال: لو كانت السعادة سعادة المال لكنت أنا أشقى الناس؛ لأنني أفقر الناس، قلت: وهل تعد نفسك سعيدا؟ قال: نعم؛ لأنني قانع برزقي مغتبط بعيشي لا أحزن على فائت من العيش

ولا تذهب نفسي حسرة وراء مطمع من المطامع فمن أي باب يخلص الشقاء إلى قلبي، قلت: أيها الرجل أين يذهب بك وما أرى إلا أنك شيخ قد اختلس عقله، وكيف تعد نفسك سعيدا وأنت حاف غير منتعل وعار إلا قليلا من الأسمال البالية والأطمار السحيقة، قال: إن كانت السعادة لذة النفس وراحتها، وكان الشقاء ألمها وعناءها، فأنا سعيد؛ لأني لا أجد في رثاثة ملبسي ولا في خشونة عيشي ما يولد لي ألما، أو يسبب لي هما، وإن كانت السعادة عندكم أمرا وراء ذلك، فأنا لا أفهمها إلا كذلك، قلت: ألا يحزنك النظر إلى الأغنياء في أثاثهم ورياشهم، وقصورهم ومراكبهم، وخدمهم وخولهم، ومطعمهم ومشربهم، ألا يحزنك هذا الفرق العظيم بين حالتك وحالتهم، قال: إنما يصغر جميع هذه المناظر في نظري ويهونها عندي أني لا أجد أن أصحابها قد نالوا من السعادة بوجدانها، أكثر مما نلته بفقدانها. هذه المطاعم التي تذكرها إن كان الغرض منها الامتلاء فأنا لا أذكر أني بت ليلة في حياتي جائعا، وإن كان الغرض منها قضاء شهوة النفس فأنا لا آكل إلا إذا جعت فأجد كل ما يدخل جوفي لذة لا أحسب أن في شهوات الطعام لذة تفضلها، أما القصور فإن لدي كوخا صغيرا لا أشعر بأنه يضيق بي وبزوجتي

وولدي فأقرع السن على أن لم يكن قصرا كبيرا، وإن كان لا بد من إمتاع النظر بالمناظر الجميلة فحسبي أن أحمل شبكتي فوق كتفي كل مطلع فجر وأذهب بها إلى شاطئ النهر فأرى منظر السماء والماء، والأشعة البيضاء، والمروج الخضراء، فما هي إلا لفته الجيد حتى يطلع من ناحية الشرق قرص الشمس كأنه ترس من ذهب، أو قطعة من لهب، فلا يبعد عن خط الأفق ميلا أو ميلين حتى ينثر فوق سطح النهر حليه المتكسر، أو دره المتحدر، فإذا تجلى هذا المنظر في عيني يتخلله سكون الطبيعة وهدوؤها ملك على شعوري ووجداني فاستغرقت فيه استغراق النائم في الأحلام اللذيذة حتى لا أحب أن أعود إلى نفسي إلى يوم النشور، ولا أزال هكذا غارقا في لذتي حتى أشعر بجذبة قوية في يدي فأنتبه فإذا السمك في الشبكة يضطرب، وما اضطرابه؛ إلا لأنه فارق الفضاء الذي كان يهيم فيه مطلق السراح وبات في المحبس الذي لا يجد فيه مراحا ولا مسرحا، فلا أجد له شبيها في حالتيه إلا الفقراء والأغنياء، يمشي الفقير كما يشتهي ويتنقل حيث يريد كأنما هو الطائر الذي لا يقع إلا حيث يطيب له التغريد والتنقير، ولولا أن تتخطاه العيون وتنبو عنه النواظر ما كار في كل فضاء، ولا تنقل حيث يشاء، أما الغني فلا يتحرك

ولا يسكن إلا وعليه من الأحداق نطاق، ومن الأرصاد أغلال وأطواق، ولا يخرج من منزله إلا إذا وقف أمام المرآة ساعة يؤلف فيها من حقيقته وخياله ناظر ومنظورا ثم يطيل التفكير هل يقع المنظور من الناظر موقعا حسنا، حتى إذا استوثق من نفسه بذلك خرج إلى الناس يمشي بينهم مشية يحرص فيها على الشكل الذي استقر رأيه عليه فلا يطلق لجسمه الحرية في الحركة والالتفات حتى لا يخرج بذلك من حكمها ولا لفكره الحرية في النظر والاعتبار بمشاهد الكون ومناظره مخافة أن يغفل عن إشارات السلام، ومظاهر الإكرام. فإذا أخذت من السمك كفاف يومي عدت به وبعته في الأسواق أو على أبواب المنازل، فإذا أدبر النهار وعدت إلى منزلي فيعتنقني ولدي وتبش زوجتي في وجهي، فإذا قضيت بالسعي حق عيالي وبالصلاة حق ربي نمت في فراشي نومة هادئة مطمئنة لا أحتاج معها إلى ديباج وحرير، أو مهد وثير، فهل استطيع أن أعد نفسي شقيا وأنا أروح الناس بالا، وإن كنت أقلهم مالا. لا فرق بيني وبين الغني إلا أن الناس لا ينهضون إجلالا لي إذا رأوني، ولا يمدون أعناقهم نحوي إذا مررت بهم، وأهون

به من فرق لا قيمة له عندي ولا أثر له في نفسي، وما يعنيني من أمرهم إن قاموا أو قعدوا، أو طاروا في الهواء، أو غاصوا في أعماق الماء، ما دمت لا علاقة بيني وبينهم، وما دمت لا أنظر إليهم إلا بالعين التي ينظر بها الإنسان إلى الصور المتحركة. لا علاقة بيني وبين أحد في هذا العالم إلا تلك العلاقة التي بيني وبين ربي، فأنا أعبده حتى عبادته وأخلص في توحيدة فلا أعتقد ربوبية أحد سواه، ولا أكتمك يا سيدي أني لا أستطيع الجمع بين توحيد الله والاعتراف بالعظمة لأحد من الناس، ولقد أخذ هذا اليقين مكانه من قلبي حتى لو طلع علي الملك المتوج في مواكبه وكواكبه، وبطانته وجنده، لما خفق له قلبي خفقة الرهبة والخشية، ولا شغل من نفسي مكانا أكثر مما يشغله ملك التمثيل. ولقد كان هذا اليقين أكبر سبب في عزائي وراحة نفسي من الهموم والأحزان، فما نزلت بي ضائقة ولا هبت علي عاصفة من عواصف هذا الكون إلا انتزعني من بين مخالبها وهونها علي حتى لا أكاد أشعر بوقعها، وكيف أتألم لمصاب أعلم أنه مقدور لا مفر منه وأنني مأجور عليه على قدر احتمالي إياه وسكوني إليه.

آمنت بالقضاء والقدر خيره وشره، وباليوم الآخر ثوابه وعقابه، فصغرت الدنيا في عيني وصغر شأنها عندي حتى ما أفرح بخيرها، ولا أحزن لشرها، ولا أعول على شأن من شئونها حتى شأن الحياة فيها، وأقسم ما خرجت مرة إلى شاطئ النهر حاملا شبكتي فوق عاتقي إلا وقع الشك في نفسي هل أعود إلى منزلي حاملا أم محمولا. ما العالم إلا بحر زاخر، وما الناس إلا أسماكه المائجة فيه، وما ريب المنون إلا صياد يحمل شبكته كل يوم ويلقيها في ذلك البحر فتمسك ما تمسك، وتترك ما تترك، وما ينجو من شبكته اليوم لا ينجو منها غدا، فكيف أغتبط بما لا أملك، أو أعتمد علي غير معتمد، إذا أنا أضل الناس عقلا وأضعفهم إيمانا. قال المحدث: فأكبرت الرجل في نفسي كل الإكبار وأعجبت بصفاء ذهنه وذكاء قلبه وحسدته على قناعته واقتناعه بسعادة نفسه وقلت له: يا شيخ إن الناس جميعا يبكون على السعادة ويفتشون عنها فلا يجدونها فاستقر رأيهم على أن الشقاء لازم من لوازم الحياة لا ينفك عنها، فكيف تعد العالم سعيدا وما هو إلا في شقاء، قال: لا يا سيدي، إن الإنسان سعيد بفطرته وإنما هو الذي يجلب بنفسه الشقاء إلى نفسه، يشتد طمعه في المال فيتعذر

عليه مطمعه فيطول بكاؤه وعناؤه، ويعتقد أن بلوغ الآمال في هذه الحياة حق من حقوقه فإذا أخطأ سهمه والتوى عليه غرضه أنَّ وشكى شكاة المظلوم من الظالم، ويبالغ في حسن ظنه بالأيام فإذا غدرت به في محبوب لديه من مال أو ولد فاجأه من ذلك ما لم يكن يقدر وقوعه, فناله من الهم والألم ما لم يكن ليناله لو خبر الدهر وقتل الأيام علما وتجربة وعرف أن جميع ما في يد الإنسان عارية مستردة، ووديعة موقوتة، وأن هذا الامتلاك الذي يزعمه الناس لأنفسهم خدعة من خدع النفوس الضعيفة ووهم من أوهامها. إن أكثر ما يصيب الناس من الشقوة من طريق الأخلاق الباطنة، لا من طريق الوقائع الظاهرة، فالحاسد يتألم كلما وقع نظره على محسود، والحقود يتألم كلما تذكر أنه عاجز عن الانتقام من عدوه، والطماع يتألم كلما خاب أمله في مطمع، والشارب يتألم كلما أفاق من سكره، والزاني يتألم كلما فاوضته في الإثم سريرته، والظالم يتألم كلما سمع ابتهال المظلوم بالدعاء عليه أو حاق به ظلمه، وكذلك شأن الكاذب والنمام والمغتاب وكل من تشتمل نفسه على رذيلة من الرذائل

من أراد أن يطلب السعادة فليطلبها بين جوانب النفس الفاضلة، وإلا فهو أشقى العالمين وإن ملك ذخائر الأرض وخزائن السماء. قال الصديق: فما وصل الصياد من حديثه إلى هذا الحد حتى نهض قائما وتناول عصاه وقال: أستودعك الله يا سيدي وأدعو لك الدعوة التي أحببتها لنفسك وأحببتها لك، وهي أن يجعلك الله سعيدا في نفسك، كما جعلك سعيدا في مالك، والسلام عليك ورحمة الله.

الانتحار

الانتحار: في كل موسم من مواسم الامتحان المدرسي نسمع بكثير من حوادث الانتحار بين المتخلفين من التلاميذ والراسبين، ولو ربي التلميذ تربية دينية لما هان عليه أن يخسر سعادته الأخروية خسرانا مبينا أسفا على أن لم ينل كل حظه من السعادة الدنيوية, ولو ربي تربية أدبية لما احتقر حياته الثمينة وازدراها ولو وجهه عنها؛ لأنها لم تقدم إليه في لفافة الشهادة المدرسية، ولو أن أستاذه ملأ قلبه بنور الإيمان ولقنه فيما يلقنه من قواعد الدين وأحكامه أن جناية المرء على نفسه أكبر إثما عند الله وأعظم جرما من جنايته على غيره لما خاطر بدينه في آخر ساعة من ساعات حياته، وهي الساعة التي ينيب فيها العاصي إلى ربه ويستغفر فيها المذنب من ذنبه، ولو أنه لقنه فيما يلقنه من دروس الأخلاق والآداب أن العلم صفة من صفات الكمال لا سلعة من سلع التجارة يجب أن يحفل به صاحبه من حيث ذاته لا من

حيث كونه وسيلة من وسائل العيش لما جرى على تلك القاعدة الفاسدة "الشهادة بلا علم خير من العلم بلا شهادة"، ولو أنه رباه على الاستقلال الذاتي وعلمه أن الشرف في هذه الحياة على قدر ما يبذل الإنسان من الجهد في خدمة الأمة أو المجتمع سواء أكان في قصر الملك أم في دار الوزارة، وفي حانوت التجارة، أم في معمل الصناعة، لما أكبر مناصب الحكومة هذا الإكبار ولا احتفل بها احتفال من لا يرى للحياة معنى بدونها، ولو أنه نفث في روعه روح الشجاعة النفسية وعوده الصبر والجلد في مواقف الشدة والبلاء لما جزع هذا الجزع الفاضح ولا جن هذا الجنون الذي خيل إليه أن عذاب النزع أهون من عذاب الهم. الوالد والأستاذ والمجتمع في مصر عون على الناشئ المتعلم وآفة على عقله وأخلاقه وآدابه. أما الوالد فإنه يقول له وهو ذاهب به إلى المدرسة: ستكون غدا يا بني حاكما كهذا الحاكم ووزيرا كهذا الوزير، وكلما أراد أن يحثه على الاجتهاد في طلب العلم ويخوفه عاقبة الخيبة في الامتحان صور له المستقبل المجرد من الوظيفة أقبح تصوير وأشنعه، وربما أشار عليه بالانتحار من طرف خفي فيقول له: إذا لم تنجح في الامتحان فموتك أفضل من حياتك، وأما الأستاذ فإنه يضرب

له من نفسه مثلا على وجوب احترام المنصب وإجلاله وإنزاله المنزلة الأولى بين أعمال المجتمع الإنساني إذ يراه بعينه يتجرع مرارة الذل ويعاني من كبرياء رؤسائه وقسوة المسيطرين عليه عناء شديدا ويحتمل من ذلك ما لا يحتمله الرجل الشريف حرصا على منصبه وإرعاء عليه، فكأنما يتلقى عنه درسا عمليا موضوعه "إن من يخاطر بمنصبه يخاطر بحياته؛ لأن المنصب كل شيء في هذه الحياة" أما المجتمع فإنه يحترم الموظف الصغير، أكثر مما يحترم العالم الكبير، ويطير إلى تهنئته بإقبال المنصب عليه وتعزيته عن إدباره عنه, كأن الكوكب لا يدور إلا في دائرة المناصب نحوسا وسعودا، فإذا رأى الناشئ ذلك أكبر الوظيفة أيما إكبار ولج به الحرص عليها، واللصوق بها، وكان سروره وحزنه على قدر قربها منه أو بعدها عنه، فإذا وفق إليها لطم بأنفه قبة السماء، وداس بنعله رأس الجوزاء، وإن يئس منها قتل نفسه وهو يتمثل بقول ذلك الشاعر الأحمق: فإما الثريا وإما الثرى أيها الناشئ: لقد جهل أبوك وغشك أستاذك وخدعك هذا المجتمع الفاسد فكن أحسن حالا منهم, واعلم أن شرف العلم أكبر من شرف المنصب وأن المنصب ما كان شريفا؛ إلا لأنه حسنة من حسنات العلم وأثر من آثاره، فإن فاتك حظك منه

فلا تحفل به فهو أحقر من أن تشتد في أثره أو تبذل حياتك حزنا عليه، ولا تحسد أرباب المناصب على مناصبهم فإنما هم يخدعونك بزخرف من القول وظاهر من النعمة وبهرج من الابتسام، ووراء ذلك لو علمت قلب يقطر دماء وفؤاد يضطرم لوعة وأسى. خذ لنفسك حظها من العلم والأدب، ولا تحفل بعد ذلك بشيء، فقد ربحت كل شيء.

الجمال

الجمال: الجمال هو التناسب بين أجزاء الهيئات المركبة سواء أكان ذلك في الماديات أم في المعقولات، وفي الحقائق أم الخيالات. ما كان الوجه الجميل جميلا إلا للتناسب بين أجزائه، وما كان الصوت الجميل جميلا إلا لتناسب بين نغماته، ولولا التناسب بين حبات العقد ما افتتنت به الحسناء، ولولا التناسق في أزهار الروض ما هامت به الشعراء. ليس للتناسب قاعدة مطردة يستطيع الكاتب أن يبينها، فالتناسب في المرئيات، غيره في المسموعات، وفي الرسوم غيره في الخطوط، وفي الشئون العلمية، غيره في القصائد الشعرية، على أنه لا حاجة إلى بيانه ما دامت الأذواق السليمة تدرك بفطرتها ما يلائمها فترتاح إليه وما لا يلائمها فتنفر منه. إن كثيرا من الناس يستحسنون الأنف الصغير في الوجه الكبير، والرأس الكبير في الجسم الصغير، ولا يفرقون بين البرص في الجسم الأسود، والخال في الخد الأبيض، ويطربون

لنقيق الضفادع كما يطربون لخرير الماء، ويفضلون أنغام النواعير على أنغام العيدان، ويعجبون بشعر ابن الفارض وابن معتوق والبرعي أكثر مما يعجبون بشعر أبي الطيب وأبي تمام والبحتري، ويضحكون لما يبكي ويبكون مما يضحك، ويرضون بما يغضب ويغضبون مما يرضي. أولئك هم أصحاب الأذواق المريضة، وأولئك هم الذي تصدر عنهم أفعالهم وأقوالهم مشوهة غير متناسبة ولا متلائمة؛ لأنهم لم يدركوا سر الجمال فيصدر عنهم، ولم تألفه نفوسهم فيصير غريزة من غرائزهم. إن رأيت شاعرا يبتدئ قصائد التهنئة بالبكاء على الأطلال، ويودع القصائد الرثائية، النكات الهزلية، ويتغزل بممدوحه، كما يتغزل بمعشوقه، أو متكلما يقتضب الأحاديث اقتضابا ويهزل في موضع الجد ويحد في موضع الهزل، أو صحفيا يضع العنوان الضخم للخبر التافه، ويكتب مقدمة في السماء لموضوع في الأرض، أو حاكما يضع الندى في موضع السيف والسيف في موضع الندى، أو ماشيا يتلوى في طريقه من رصيف إلى رصيف كأنما يرسم خطا متعرجا، أو لابسا في الشتاء غلالة الصيف وفي الصيف فروة الشتاء، فاعلم أن ذوقه مريض وأنه في حاجة إلى معالجة

ذوقه، كحاجة المجنون إلى علاج عقله، والمريض إلى علاجه جسمه. كما أنه ليس كل مجنون يرجى شفاؤه، ولا كل مريض يرجى إبلاله، كذلك ليس كل من فسد ذوقه يرجى صلاحه، فإن رأيت من تؤمل في صلاحه خيرا وتجد في نفسه استعدادا لتقويم ذوقه فعلاجه أن تحفه بأنواع الجمال وتدأب على تنبيهه على متناسباته ومؤتلفاته، وإن استطعت أن تعلمه فنا من الفنون الجميلة كالشعر والتصوير والموسيقى فأفعل فإنها المقومات للأذواق، والغارسات في النفوس ملكات الجمال.

الكذب

الكذب: كذب اللسان من فضول كذب القلب، فلا تأمن الكاذب على ود، ولا تثق منه بعهد، واهرب من وجهه الهرب كله، وأخوف ما أخاف عليك من خلطائك وسجرائك الرجل الكاذب. عرف الحكماء الكذب بأنه مخالفة الكلام للواقع ولعلهم جاروا في هذا التعريف الحقيقة العرفية ولو شاءوا لأضافوا إلى كذب الأقوال كذب الأفعال. لا فرق بين كذب الأقوال وكذب الأفعال في تضليل العقول والعبث بالأهواء وخذلان الحق واستعلاء الباطل عليه، ولا فرق بين أن يكذب الرجل فيقول إني ثقة أمين لا أخون ولا أغدر فأقرضني مالا أؤده إليك ثم لا يؤديه بعد ذلك، وأن يأتيك بسبحة يهمهم بها فتنطق سبحته بما سكت عنه لسانه من دعوى الأمانة والوفاء فيخدعك في الثانية كما خدعك في الأولى، لا بل يستطيع كاذب الأفعال أن يخدعك ألف مرة قبل أن يخدعك كاذب الأقوال مرة واحدة؛ لأنه لا يكتفي بقول الزور

بلسانه حتى يقيم على قضيته بينة كاذبة من أحواله وأطواره. ليس الكذب شيئا يستهان به فهو أس الشرور ورذيلة الرذائل فكأنه أصل والرذائل فروع له، بل هو الرذائل نفسها وإنما يأتي في أشكال مختلفة ويتمثل في صور متنوعة. المنافق كاذب؛ لأن لسانه ينطق بغير ما في قلبه، والمتكبر كاذب؛ لأنه يدعي لنفسه منزله غير منزلته، والفاسق كاذب؛ لأنه كذب في دعوى الإيمان ونقض ما عاهد الله عليه، والنمام كاذب؛ لأنه لم يتق الله في فتنته، فيتحرى الصدق في نميمته، والمتملق كاذب؛ لأن ظاهره ينفعك وباطنه يلذعك. لقد هان على الناس أمر الكذب حتى إنك لتجد الرجل الصادق فتعرض على الناس أمره وتظرفهم بحديثه كأنك تعرض عجائب المخلوقات، وتتحدث بخوارق العادات. فويل للرجل الصادق من حياة نكدة لا يجد فيها حقيقة مستقيمة، وويل له من صديق يخون العهد، ورفيق يكذب الود، ومستشار غير أمين، وجاهل يفشي السر، وعالم يحرف الكلم عن مواضعه، وشيخ يدعي الولاية كذبا، وتاجر يغش في سلعته، ويحنث في أيمانه، وصحفي يتجر بعقول الأحرار كما يتجر النخاس بالعبيد والإماء، ويكذب على نفسه وعلى الله وعلى الناس في كل صباح ومساء،

غرفة الأحزان

غرفة الأحزان: كان لي صديق أحبه لفضله وأدبه، أكثر مما أحبه لصلاحه ودينه، فكان يروقني منظره ويؤنسني محضره، ولا أبالي بعد ذلك بشيء من نسكه وعبادته، أو فسقه واستهتاره؛ لأني ما فكرت قط أن أتلقى عنه علوم الشريعة أو دروس الأخلاق فقد علمت من ذلك ما حسبي به وكفى. قضيت في صحبته عهدا طويلا ما أنكر من أمره ولا ينكر من أمري شيئا حتى سافرت من القاهرة سفرا طويلا فتراسلنا حينا, ثم انقطعت عني كتبه فرابني من أمره ما رابني, ثم عدت فجعلت أكبر همي أن أراه فطلبته في جميع المواطن التي كنت أعرفه فيها فلم أجده، فذهبت إلى منزله فحدثني جيرانه أنه هجره من عهد بعيد وأنهم لا يعرفون أين مذهبه، فوقفت بين اليأس والرجاء برهة من الزمان، ثم شعرت كأن أولهما يغالب ثانيهما حتى غلبه، فعلمت أن قد فقدت الرجل وأني لن أجد بعد اليوم إليه سبيلا

هنالك ذرفت من الوجد دموعا لا يذرفها إلا من قل نصيبه من الأصدقاء، وأقفر ربعه من الأوفياء، وأصبح غرضا من أغراض الأيام لا تخطئه سهامها، ولا تغبه آلامها1. بينما أنا عائد إلى منزلي في ليلة من ليالي السرار2 إذ دفعني الجهل بالطريق في هذا الظلام المدلهم إلى زقاق موحش مهجور يتخيل الناظر إليه في مثل تلك الساعة التي مررت فيها أنه مسكن الجان، أو مأوى الغيلان، فشعرت كأن بحرا أسود يتدفق بين جبلين شامخين، وكأن أمواجه تقبل بي وتدبر، وتقوم وتقعد، فما توسطت لجته حتى سمعت في منزل من تلك المنازل المهجورة أنة تردد في جوف الليل, فأصغيت إليها فتلتها أختها ثم أخواتها فأثر في نفسي مسمعها تأثيرا شديدا وقلت يا للعجب، كم يكتم هذا الليل في صدره من أسرار البائسين، وخفايا المحزونين، وكنت قد عاهدت الله قبل اليوم ألا أرى محزونا حتى أقف أمامه وقفة المساعد إن استطعت، أو الباكي إذا عجزت، فتلمست الطريق إلى ذلك المنزل حتى بلغته فطرقت الباب طرقا خفيفا فلم يفتح لي فطرقته أخرى طرقا شديدا ففتحت لي فتاة صغيرة لم تكد تسلخ العاشرة من عمرها فتأملتها على ضوء المصباح الضئيل

_ 1 أغبه الألم جاءه حينا بعد حين. 2 السرار آخر ليلة من ليالي الشهر.

الذي كان في يدها فإذا هي في ثيابها الممزقة، كالبدر وراء الغيوم المتقطعة، وقلت لها: هل عندكم مريض، فزفرت زفرة كاد ينقطع لها نياط قلبها, وقالت: أدرك أبي أيها الرجل فهو يعالج سكرات الموت. ثم مشت أمامي فتبعتها حتى وصلت إلى غرفة ذات باب قصير مسنم فدخلتها فخيل إلي أني قد انتقلت من عالم الأحياء إلى عالم الأموات، وأن الغرفة قبر والمريض ميت، فدنوت منه حتى صرت بجانبه فإذا قفص من العظم يتردد فيه النفس تردد الهواء في البرج الخشبي، فوضعت يدي على جبينه ففتح عينيه وأطال النظر في وجهي, ثم فتح شفتيه قليلا قليلا وقال بصوت خافت: "أحمد الله فقد وجدت صديقي" فشعرت كأن قلبي يتمشى في صدري جزعا وقلقا وعلمت أني قد عثرت بضالتي التي كنت أنشدها وكنت أتمنى ألا أعثر بها وهي في طريق الفناء، وعلى باب القضاء، وألا يجدد لي مرآها حزنا كان في قلبي كمينا، وبين أضالعي دفينا، فسألته ما باله وما هذه الحالة التي صار إليها، وكأن أنسه بي أمد مصباح حياته الضئيل بقليل من النور فأشار إلي أنه يحب النهوض, فمددت يدي إليه فاعتمد عليها حتى استوى جالسا وأنشأ يقص علي هذه القصة: منذ عشر سنين كنت أسكن أنا ووالدتي بيتا يسكن بجانبه

جار لنا من أرباب الثراء والنعمة، وكان قصره يضم بين جناحيه فتاة ما ضمت القصور أجنحتها على مثلها حسنا وبهاء، ورونقا وجمالا، فألم بنفسي من الوجد بها ما لم أستطع معه صبرا، فما زلت بها أعالجها فتمتنع وأستنزلها فتتعذر وأتأتى إلى قلبها بكل الوسائل فلا أصل إليه حتى عثرت بمنفذ الوعد بالزواج فانحدرت منه إليها، فسكن جماحها، وأسلس قيادها، فسلبتها قلبها وشرفها في يوم واحد، وما هي إلا أيام قلائل حتى عرفت أن جنينا يضطرب في أحشائها فأسقط في يدي وطفقت أرتئي بين أن أفي لها بوعدها، أو أقطع حبل ودها، فآثرت أخراهما على أولاهما وهجرت ذلك المنزل إلى المنزل الذي كنت تزورني فيه أيها الصديق، ولم أعد أعلم بعد ذلك من أمرها شيئا. مرت على تلك الحادثة أعوام طوال وفي ذات يوم جاءني منها مع البريد هذا الكتاب ومد يده تحت وسادته وأخرج كتابا باليا مصفرا فقرأت فيه ما يأتي: لو كان بي أن أكتب إليك لأجدد عهدا دارسا أو ودا قديما ما كتبت سطرا، ولا خططت حرفا؛ لأني لا أعتقد أن عهدا مثل عهدك الغادر، وودا مثل ودك الكاذب، يستحق أن أحفل به فأذكره، أو آسف عليه فأطلب تجديده,

إنك عرفت حين تركتني أن بين جنبي نارا تضطرم، وجنينا يضطرب، تلك للأسف على الماضي، وذاك للخوف من المستقبل، فلم تبل بذلك وفررت مني حتى لا تحمل نفسك مئونة النظر إلى شقاء أنت صاحبه، ولا تكلف يدك مسح دموع أنت مرسلها، فهل أستطيع بعد ذلك أن أتصور أنك رجل شريف، لا بل لا أستطيع أن أتصور أنك إنسان؛ لأنك تركت خلة من الخلال المتفرقة في نفوس العجماوات والوحوش الضارية إلا جمعتها في نفسك وظهرت بها جميعها في مظهر واحد. كذبت علي في دعواك أنك تحبني وما كنت تحب إلا نفسك، وكل ما في الأمر أنك رأيتني السبيل إلى إرضاء نفسك فمررت بي في طريقك إليها، ولولا ذلك ما طرقت لي بابا، ولا رأيت لي وجها. خنتني إذ عاهدتني على الزواج فأخلفت وعدك ذهابا بنفسك أن تتزوج امرأة مجرمة ساقطة، وما هذه الجريمة ولا تلك السقطة إلا صورة نفسك، وصنعة يدك، ولولاك ما كنت مجرمة ولا ساقطة، فقد دفعتك جهدي حتى عييت بأمرك فسقط بين يديك سقوط الطفل الصغير، بين يدي الجبار الكبير, سرقت عفتي، فأصبحت ذليلة النفس حزينة القلب أستثقل

الحياة وأستبطئ الأجل، وأي لذة في العيش لامرأة لا تستطيع أن تكون زوجة لرجل ولا أما لولد, بل لا تستطيع أن تعيش في مجتمع من هذه المجتمعات البشرية إلا وهي خافضة رأسها، مسبلة جفنها، واضعة خدها على كفها، ترتعد أوصالها، وتذوب أحشاؤها، خوفا من عبث العابثين، وتهكم المتهكمين. سلبتني راحتي؛ لأني أصبحت مضطرة بعد تلك الحادثة إلى الفرار من ذلك القصر الذي كنت متمتعة فيه بعشرة أبي وأمي, تاركة ورائي تلك النعمة الواسعة وذلك العيش الرغد إلى منزل حقير في حي مهجور لا يعرفه أحد ولا يطرق بابه طارق لأقضي فيه الصبابة الباقية من أيام حياتي. قتلت أمي وأبي فقد علمت أنهما ماتا وما أحسب موتهما إلا حزنا لفقدي، ويأسا من لقائي. قتلتني؛ لأن ذلك العيش المر الذي شربته من كأسك، وذلك الهم الطويل الذي عالجته بسببك، قد بلغا مبلغهما من جسمي ونفسي فأصبحت في فراش الموت كالذبالة المحترقة، وأحسب أن الله قد صنع لي وأجاب دعائي وأراد أن ينقلني من دار الموت والشقاء، إلى دار الحياة والهناء. فأنت كاذب خادع، ولص قاتل، ولا أحسب أن الله تاركك

بدون أن يأخذ لي بحقي منك. ما كتبت إليك هذا الكتاب لأجدد بك عهدا، أو لأخطب إليك ودا، فقد عرفت مكانك من نفسي، على أنني أصبحت على باب القبر وفي موقف وداع هذه الحياة خيرها وشرها، سعادتها وشقائها، وإنما كتبت إليك؛ لأن لك عندي وديعة وهي فتاتك، فإن كان الذي ذهب بالرحمة من قلبك أبقى لك منها رحمة الأبوة فأقبل إليها وخذها إليك حتى لا يدركها من الشقاء ما أدرك أمها من قبلها. فما أتممت قراءة الكتاب حتى نظرت إليه فرأيت مدامعه تتحدر من مقلتيه فسألته ماذا تم بعد ذلك؟ قال: إني ما قرأت هذا الكتاب حتى أحسست برعدة تتمشى في أضالعي وخيل لي أن صدري يحاول أن ينشق عن قلبي حزنا وجزعا, فأسرعت إلى منزلها وهو هذا المنزل الذي تراني فيه الآن فرأيتها في هذه الغرفة على هذا السرير جثة هامدة لا حراك بها، ورأيت فتاتها إلى جانبها تبكي بكاء مرا فصعقت لهول ما رأيت وتمثلت لي جرائمي في غشيتي كأنما هي وحوش ضارية، وأساود ملتفة، هذا ينشب أظافره وذاك يحدد أنيابه، فما أفقت حتى عاهدت الله ألا أبرح هذه

الغرفة التي سميتها "غرفة الأحزان" حتى أعيش فيها عيشتها ثم أموت موتها. وها أنذا أموت اليوم راضيا مسرورا فقد حدثني قلبي أن الله قد غفر لي سيئاتي بما قاسيت من العناء، وكابدت من الشقاء. وما وصل من حديثه إلى هذا الحد حتى انعقد لسانه واصفر وجهه وسقط على فراشه فأسلم الروح وهو يقول: ابنتي يا صديقي. فلبثت بجانبه ساعة قضيت فيها ما يجب على الصديق لصديقه, ثم كتبت إلى أصدقائه ومعارفه فحضروا تشييع جنازته وما رئي مثل اليوم أكثر باكية وباكيا. ولما حثونا الترب فوق ضريحه ... جزعنا ولكن أي ساعة مجزع ويعلم الله أني لأكتب قصته ولا أملك نفسي من البكاء والنشيج ولا أنسى ما حييت نداءه لي وهو يودع نسمات الحياة وقوله: "ابنتي يا صديقي". فيا أقوياء القلوب من الرجال، رفقا بضعفاء النفوس من النساء، إنكم لا تعلمون حيت تخدعونهن عن شرفهن وعفتهن أي قلب تفجعون، وأي دم تسفكون.

الشرف

الشرف: لو فهم الناس معنى الشرف لأصبحوا كلهم شرفاء. ما من عامل يعمل في هذه الحياة إلا وهو يطلب في عمله الشرف الذي يتصوره أو يصوره له الناس، إلا أنه تارة يخطئ مكانه وتارة يصيب. يقتل القاتل وفي اعتقاده أن الشرف في أن ينتقم لنفسه أو عرضه بإراقة هذه الكمية من الدم، ولا يبالي أن يسميه القانون بعد ذلك مجرما؛ لأن البيئة التي يعيش فيها لا توافق على هذه التسمية وهي في نظره أعدل من القانون حكما، وأصدق قولا. يفسق الفاسق وفي اعتقاده أنه قد نفض عن نفسه بعمله هذا غبار الخمول والبله الذي يظلل الأعفاء والمستقيمين، وأنه استطاع أن يعمل عملا لا يقدم عليه إلا كل ذي حذق وبراعة وشجاعة وإقدام. يسرق السارق ويزور المزور ويخون الخائن وفي اعتقاد كل منهم أن الشرق كل الشرف في المال وإن كان السبيل إليه دنيئا وسافلا،

وأن للذهب رنينا تخفت بجانب صوته أصوات المعترضين والناقدين شيئا فشيئا ثم تنقطع حتى لا يسمع بجانبه صوت سواه هكذا يتصور الأدنياء أنهم شرفاء، وهكذا يطلبون الشرف ويخطئون مكانه، وما أفسد عليهم تصورهم إلا الذين أحاطوا بهم من سجرائهم وخلطائهم وذوي جامعتهم، أولئك الذين يحتقرون الموتور حتى يغسل الدم بالدم فيعظمونه، وينعون على الرجل المستقيم العفيف بلاهته وخموله حتى يفجر ويستهتر فيبخبخون له ويقرظونه، ويكرمون صاحب الذهب, ولو أن كل دينار من دنانيره محجم من الدم، وأولئك الذين يسمون الفقير سافلا، وطيب القلب مغفلا، وطاهر السريرة بليدا، والحليم عاجزا. لا تعجب إن سمعت أن جماعة الأغنياء الجهلاء تنعكس في أدمغتهم صور الحقائق حتى تلبس في نظرهم ثوبا غير ثوبها، وتتراءى في لون غير لونها، فإن بين الخاصة الذين نعتد بعقولهم ونمتدح أفهامهم ومداركهم من لا يفرق بين الرذيلة والفضيلة، حتى إنه ليكاد يفخر بالأولى ويستحيي من الأخرى. لولا فساد التصور ما افتخر قائد الجيش بأنه قتل مائة ألف من النفوس البشرية في حرب لا يدافع فيها عن فضيلة, ولا يؤيد بها حقا من الحقوق الشرعية، ولولا فساد التصور ما وضع المؤرخون

اسم ذلك السفاح بجانب أسماء العلماء والحكماء والأطباء خَدمة الإنسانية وحملة عرشها وأصحاب الأيادي البيضاء عليها في سطر واحد من صحيفة واحدة، ولولا فساد التصور ما جلس القاضي المرتشي فوق كرسي القضاء يفتل شاربيه، ويصعر خديه، وينظر نظرات الاحتقار والازدراء إلى المتهم الواقف بين يديه موقف الضراعة والذل، ولا ذنب له إلا أنه جاع وضاقت به مذاهب العيش فسرق درهما، ولا توهم وهو اللص الكبير، أنه أشرف من هذا اللص الصغير، ولو باتا عند قدريهما لوقفا معا في موقف واحد أمام قاض عادل يحكم بإدانة الأول؛ لأنه سرق مختارا ليرفه عيشه، وبراءة الثاني؛ لأنه سرق مضطرا لينقذ حياته من براثن الموت. فمن شاء أن يهذب أخلاق الناس ويقوم اعوجاجها فليهذب تصوراتهم، وليقوم أفهامهم، يوافه ما يريد من التهذيب والتقويم. ليس من الرأي أن يشير المعلم على المتعلم أن يجعل هذا المجتمع الإنساني ميزانا يزن به أعماله، أو مرآة يرى فيها حسناته وسيئاته، فالمجتمع الإنساني مصاب بالسقم في فهمه، والاضطراب في تصوره، فلا عبرة بحكمه، ولا ثقة بوزنه وتقديره. ليس من الرأي أن يرشد المعلم إلى أن يطلب في

حياته الشرف الاعتباري، فليس كل ما يعتبره الناس شرفا هو في الحقيقة كذلك. ألا تراهم يعدون أشرف الشرف أن يتناول الرجل من الملك قطعة من الفضة أو الذهب يحلي بها صدره، وربما كانوا يعلمون أنه ابتاعها بماله كما تبتاع المرأة من الصائغ حليتها. لا شرف إلا الشرف الحقيقي وهو الذي يناله الانسان ببذل حياته أو ماله أو راحته في خدمة المجتمع البشري جميعه أو خدمة نوع من أنواعه. فالعالم شريف؛ لأنه يجلو صدأ العقل الإنساني ويصقل مرآته، والمجاهد في سبيل الدفاع عن وطنه شريف؛ لأنه يحمي مواطنيه غائلة الأعداء، ويقيهم عادية الفناء، والمحسن الذي يضع الإحسان في موضعه شريف؛ لأنه يأخذ بأيدي الضعفاء، ويحيي أنفس البؤساء، والحاكم العادل شريف؛ لأنه رسول العناية الإلهية إلى المظلومين يمنعهم أن يبغي عليهم الظالمون، وصاحب الأخلاق الكريمة شريف؛ لأنه يؤثر بكرم أخلاقه وجمال صفاته في عشرائه وخلطائه، ويلقي عليهم بالقدوة الصالحة أفضل درس في الأخلاق والآداب، والصانع والزارع والتاجر أشراف متى كانوا أمناء مستقيمين؛ لأنهم هم الذيني يحملون على عواتقهم هذا

المجتمع البشري وهم الذين يحتملون ما يحتملون من المئونة والمشتقة في سبيله حذرا عليه من التهافت والسقوط. فإن رأيت في نفسك أيها القارئ أنك واحد من هؤلاء علم أنك شريف وإلا فاسلك طريقهم جهدك، فإن لم تبلغ غايته فأخذ القليل خير من ترك الكثير، فإن لم يكن هذا ولا ذاك فلتبك على عقلك البواكي.

الحب والزواج

الحب والزواج: قرأت في بعض المجلات قصة قصها أحد الكتاب, وموضوعها أن كاتبها غاب عن بيروت بضعة أعوام ثم عاد إليها بعد ذلك فزار صديقا له من أسرياء الرجال ووجوههم ومن ذوي الأخلاق الكريمة والأنفس العالية فوجده حزينا كئيبا على غير ما يعهد من حاله قبل ذلك، فاستفهم منه عن دخيلة أمره فعرف أنه كان متزوجا من فتاة يحبها ويجلها ويفديها بنفسه وماله فلم تحفظ صنيعه ولم ترع عهده وأنها فرت منه إلى عشيق لها رقيق الحال وضيع النسب، فاجتهد الكاتب أن يلقى تلك الفتاة ليعرف منها سر فرارها من بيت زوجها فلقيها في منزل عشيقها فاعتذرت إليه عن فعلتها بأنها لا تحب زوجها؛ لأنه في الأربعين من عمره وهي لم تبلغ العشرين، وقالت إنها جرت في ذلك على حكم الشرائع الطبيعية وإن خالفت الشرائع الدينية؛ لأن الأولى عادلة والثانية ظالمة، وقالت: إن ما يسميه الناس بالزنا والخيانة هو في الحقيقة طهارة وأمانة؛ لأن أساسه الحب، وكل

ما كان أساسه الحب فهو طاهر شريف، وإن كان في أعين الناس عيبا وعارا، وقالت: ما الخيانة ولا الجريمة ولا الغش ولا الخداع إلا أن تعاشر المرأة زوجا تكرهه معاشرتها من تحبه فيفترشها الأول كما يفترشها الثاني؛ لأنها لا تكون في حكم العقل ولا في نظر العدل زوجا له ما دامت لا تحبه ولا تألف عشرته، وقالت: لو أدرك الناس أسرار الديانات وأغراضها لعرفوا أنها متفقة في هذه المسألة مع الشرائع الطبيعية, وأنها ربما تعد المرأة في بيت زوجها زانية، وفي بيت عشيقها طارهة، إذا كانت تكره الأول وتحب الثاني. هذا ملخص القصة على طولها وأحسبها قصة موضوعة على نحو ما يضع الكتاب القصص الخيالية لنشر رأي من الآراء أو تأييد مذهب من المذاهب؛ لأن الكاتب أعذر1 تلك الفتاة فيما فعلت, واقتنع بصحة أقوالها وصحة مذهبها وأعداها على زوجها2 وحكم لها عليه. وسواء أكانت القصة حقيقية أم خيالية فالحق أقول: إن الكاتب أخطأ في وضعها, وما كنت أحسب إلا أن مذهب

_ 1 أعذرها قبل عذرها. 2 أعداها عليه انتصف لها منه.

الإباحية1 قد مضى وانقضى بانقضاء العصور المظلمة حتى قرأت هذه القصة منشورة باللغة العربية بين الأمة العربية فنالني من الهم والحزن ما الله عالم به. قرأنا ما كتب الكاتبون في سبيل المرأة الساقطة, وهي التي هفت في حياتها هفوة دفعها إليها دافع خداع أو سائق حاجة ثم ثاب إليها رشدها وهداها فقلنا لا بأس بغيرتهم على ذنب جسمته العادة وألبسته ثوبا أوسع من ثوبه، ولا بأس برحمتهم فتاة مذنبة تحاول الرجوع إلى ربها، والتوبة من ذنبها، ويأبى المجتمع البشري إلا أن يسددونها أبواب السماء المفتحة للقاتلين والمجرمين. فأما وقد وصل الحد إلى تزيين الزنا للزانية وتهوين إثمه عليها وإغراء العفيفة الصالحة بالتمرد على زوجها والخروج من طاعته كلما دعاها إلى ذلك داع من الهوى فهذا ما لا يطاق احتماله، ولا يستطاع قبوله. إن فتاة الرواية لم تهف في جريمتها فقط كما يهفو غيرها من النساء؛ لأنها مقيمة في منزل عشيقها من زمن بعيد, وقد عقدت عزمها على البقاء فيه ما دامت روحها باقية في جسدها، ولم يسقها إلى ذلك سائق شهوة بشرية إن صح أن تكون الشهوة البشرية

_ 1 مذهب قديم كان يستحل أصحابه كل شيء رأيا واعتقادا.

عذرا يدفع مثلها إلى مثل ما صنعت؛ لأنها فرت من فراش زوجها، لا من وحشة خلوتها، ولا سائق جوع؛ لأنها كانت أرق النساء عيشا، وأروحهن بالا، بل كانت على حالة من الرفاهية والنعمة والتقلب في أعطاف العيش البارد لم تر مثلها من قبل ولا من بعد، إذن فهي امرأة مجرمة لا يمنحها العدل من الرحمة ما منح المرأة الساقطة. إن كانت هذه الفتاة عفيفة طاهرة كما يزعم الكاتب فقد أخطأ علماء اللغة جميعا في وضع كلمة الفساد في معاجمهم؛ لأنها لا مسمى لها في هذا العالم عالم العفة والطهارة والخير والصلاح، ولا يمكن أن يكون المراد منها فتاة المواخير؛ لأنها لم تترك وراءها زوجا معذبا ناقما منكوبا ولم تكن راضية تمام الرضى عن نفسها, ولا مغتبطة بعيشها فتبلغ في حالها مبلغ "ورده الهاني". كل الأزواج ذلك الرجل إلا قليلا، فإذا جاز لكل زوجة أن تفر من زوجها إلى عشيقها كلما وقع في نفسها الضجر من معاشرة الأول, وبرقت لها بارقة الأنس من بين ثنايا الثاني فويل لجميع الرجال من جميع النساء، وعلى النظام البيتي والرابطة الزوجية بعد اليوم ألف سلام. أيها الكاتب: ليس في استطاعتي ولا في استطاعتك ولا

في استطاعة أحد من الناس أن يقف دورة الفلك ويصد كر الغداة ومر العشى حتى لا يبلغ الأربعين من عمره فتراه زوجته غير أهل لمعاشرتها إذا علمت أن في الناس من هو أصغر منه سنا وأكثر رشاقة وأنضر شبابا. إن الضجر والسآمة من الشيء المتكرر المتردد طبيعة من طبائع النوع الإنساني فهو لا يصبر على ثوب واحد أو طعام واحد أو عشير واحد، وقد علم الله سبحانه وتعالى ذلك منه, وعلم أن نظام الأسرة لا يتم إلا إذا بني على رجل وامرأة تدوم عشرتهما، ويطول ائتلافهما، فوضع قاعدة الزواج الثابت ليهدم بها قاعدة الحب المضطرب، وأمر الزوجين أن يعتبرا هذا الرباط رباطا مقدسا حتى يحول بينهما وبين رجوعهما إلى طبيعتهما, وذهابهما في أمر الزوجية مذهبهما في المطاعم والمشارب من حيث الميل لكل جديد، والشغف بكل غريب. هذا هو سر الزواج وهذه حكمته، فمن أراد أن يجعل الحب قاعدة العشرة بدلا من الزواج فقد خالف إرادة الله وحاول أن يهدم ما بناه ليهدم بهدمه السعادة البيتية. أي امرأة متزوجة بأجمل الرجال لا تحدث نفسها بالرغبة في استبداله بأجمل منه، وأي رجل متزوح بأجمل النساء

لا يتمنى أن يكون في منزله أجمل منها, لولا هذا الرباط المقدس رباط الزوجية، فهو الذي يعالج أمثال هذه الأماني وتلك الهواجس, وهو الذي يعيد إلى النفوس النزاعة سكونها وقرارها. لا بأس أن يتثبت الرجل قبل عقد الزواج من وجود الصفة المحبوبة لدية في المرأة التي يختارها لنفسه، ولا بأس أن تصنع المرأة صنيعه، ولكن لا على معنى أن يكون الحب الشهوي هو قاعدة الزواج يحيا بحياته، ويموت بموته، فالقلوب متقلبة والأهواء نزاعة، بل بمعنى أن يكون كل منهما لصاحبه صديقا، أكثر منه عشيقا، فالصداقة ينمو بالمودة غرسها، ويمتد ظلها، أما الحب فظل يتنقل، وحال تتحول.

الاسلام والمسيحية

الاسلام والمسيحية: ما عجبت لشيء في حياتي عجبي لهؤلاء الناس الذين يعجبون كثيرا مما كتبه اللورد كرومر عن الإسلام, كأنما كانوا يتوقعون من رجل يدين بدين غير دين الإسلام ويضن به فوق ضنه بنفسه وماله أن يعتقد الوحدانية، ويصدق الرسالة المحمدية، ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة, ويحج البيت ما استطاع إليه سبيلا. إن اللورد كرومر يعتقد كما يعتقد كل مسيحي متمسك بيسوعيته أن الإسلام دين موضوع ابتدعه رجل عربي بدوي أمي ما قرأ في حياته صحيفة، ولا دخل مدرسة، ولا سمع حكمة اليونان، ولا رأى مدنية الرومان، ولا تلقى شيئا من علوم الشرائع والعمران. هذا مبلغ معتقده فيه فكيف يرى نفسه بين يديه أصغر من أن يناقشه ويناظره ويخطئه فيما وضعه للناس من الشرائع والأحكام، وكيف يسمح لنفسه أن ينظر إليه بالعين التي ينظر بها المسلم إليه من حيث كونه نبيا مرسلا موحى إليه من عند الله

تعالى بكتاب كريم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أما ما نقرؤه أحيانا لبعض علماء الغرب المسيحيين من وصف الدين الإسلامي بصفات جميلة أو مدح آرائه وأحكامه فهي مكتبوة بأقلام أقوام مؤرخين أدوا للتاريخ حق الأمانة والصدق فلم يعبث التعصب الديني بكتاباتهم، ولا تمشت الروح المسيحية في أقلامهم، ولا ريب في أن اللورد كرومر ليس واحد منهم، فإن من قرأ كتابه "مصر الحديثة" تخيل أنه يسمع صوت راهب في صومعته قد لبس قلنسوته ومسوحه وعلق صليبه في زناره. فهل يحق بعد ذلك لأحد من المسلمين أن يندهش أو يذهب به العجب كل مذهب إذا رأى في كتاب اللورد كرومر ما يراه كل يوم في كتب المبشرين الإنجيليين وجرائدهم ومجلاتهم من الطعن على الإسلام وعقائده وشرائعه. بلغ التعصب الديني بجماعة المبشرين أن حكموا بوجود اللحن في القرآن بعد اعترافهم بأنه كتاب عربي, نطق به على حسب معتقدهم رجل هو في نظرهم أفصح العرب، وليست مسألة الإعراب واللحن مسألة عقلية يكون للبحث العقلي فيه مجال، وإنما الإعراب ما نطق به العرب واللحن ما لم ينطقوا به، فلو أنهم اصطلحوا على نصب الفاعل ورفع المفعول مثلا لكان رفع الأول

ونصب الثاني لحنا، ولكن جهلة المبشرين لم يدركوا شيئا من هذه المسلمات, واستدلوا على وجود اللحن في القرآن بقواعد النحو التي ما دونها علماؤه إلا بعد أن نظروا في كلام العرب وتتبعوا تراكيبه وأساليبه، وأكبر ما اعتمدوا عليه في ذلك هو القرآن المجيد، فالقرآن حجة على النحاة وليست النحاة حجة على القرآن، فإذا وجد في بعض تراكيب القرآن أو غيره من الكلام العربي ما يخالف قواعد النحاة حكمنا بأنهم مقصرون في التتبع والاستقراء، على أنهم ما قصروا في شيء من ذلك, وما تركوا كثيرا ولا قليلا ولا نادرا ولا شاذا إلا دونوه في كتبهم، فما في القرآن لحن، ولا النحاة مقصرون، ولكن المبشرين جاهلون، فإذا كان التعصب الديني الأعمى أنطق ألسنتهم بمثل هذه الخرافة المضحكة فليس بغريب أن نسمع من هذا الرجل المتشبه بهم هذا الطعن على الإسلام في نظاماته وأحكامه. إنا لا ننازع اللورد كرومر ولا أمثاله من الطاعنين على الإسلام في معتقدهم, ولكن نحب منهم ألا ينازعوننا في معتقدنا وأن يعطونا من الحرية في ذلك ما أعطوه لأنفسهم. يقول اللورد كرومر: إن الدين الإسلامي دين جامد لا يتسع صدره للمدنية الإنسانية, ولا يصلح للنظام الاجتماعي. ويقول: إن

ما لا يصلح له الدين الإسلامي يصلح له الدين المسيحي ويستدل على الإسلام بالمسلمين، وعلى المسيحية بالمسيحيين. في أي عصر أيها الفيلسوف التاريخي كانت الديانة المسيحية مبعث العلم والعرفان، ومطلع أشعة المدنية والعمران، أفي العصر الذي كانت تدور فيه رحى الحروب الدموية بين الأرثوذكس والكاثوليك تارة وبين الكاثوليك والبروتستانت تارة أخرى بصورة وحشية فظيعة اسود لها لباس الإنسانية, وبكت الأرض منها والسماء، أم في العصر الذي كانت إرادة المسيحي فيه صورة من إرادة الكاهن الجاهل فلا يعلم إلا ما يعلمه إياه، ولا يفهم إلا ما يلقيه إليه، فما كان يترك له الحرية حتى في الحكم على نفسه بكفر أو إيمان، وبهيمية أو إنسانية، فيكاد يتخيل في نفسه أن له ذنبا متحركا وخيشوما طويلا وأنه يمشي على أربع إذا قال له الكاهن: أنت كلب أو قال له: إنك لست بإنسان، أم في العصر الذي كان يعتقد فيه المسيحي أن دخول الجمل في سم الخياط أقرب من دخول الغني في ملكوت السموات، أم في العصر الذي كان يحرم فيه الكاهن الأعظم على المسيحي أن ينظر في كتاب غير الكتاب المقدس وأن يتلقى علما في مدرسة غير مدرسة الكنيسة، أم في العصر الذي ظهرت فيه النجمة ذات

الذنب فذغر لرؤيتها المسيحيون ورفعوا إلى البابا عرائض الشكوى فطردها من الجو فولت الأدبار، أم في العصر الذي أهدى فيه الرشيد العباسي الساعة الدقاقة إلى الملك شارلمان فلما رآها الشعب المسيحي وسمع صوتها فر من وجهها ظنا منه أنها تشتمل على الجن والشياطين، أم في العصر الذي ألفت فيه محكمة التفتيش لمحاكمة المتهمين بمزاولة العلوم فحكمت في وقت قصير على ثلاثمائة وأربعين ألفا بالقتل حرقا أو صلبا، أم في العصر الذي أحرق فيه الشعب المسيحي فتاة حسناء بعد ما جرد لحمها عن عظمها؛ لأنها كانت تشتغل بعلوم الرياضة والحكمة. هذا الذي نعلمه أيها الفيلسوف التاريخي من تاريخ العلم والعرفان والمدنية والعمران في العصور المسيحية، ولا نعلم أكانت تلك المسيحية التي كان هذا شأنها وهذا مبلغ سعة صدرها صحيحة في نظرك أم باطلة، وإنما نريد أن نستدل بالمسيحيين على المسيحية وإن لم نقف على حقيقتها، كما فعلت أنت في استدلالك بالمسلمين على الإسلام وإن لم تعرف حقيقته وجوهره، على أن استدلالنا صحيح واستدلالك باطل، فإن المدنية الحديثة ما دخلت أوربا إلا بعد أن زحزحت المسيحية منها لتحل محلها كالماء الذي لا يدخل الكأس إلا بعد أن يطرد منه الهواء؛ لأنه لا يتسع لهما، ولا يجمع

بينهما، فإن كان قد بقي أثر من آثار المسيحية اليوم في أكواخ بعض العامة في أوروبا فما بقي إلا بعد أن عفت عنه المدنية ورضيت بالإبقاء عليه، لا باعتبار أنه دين مقدس يجب إجلاله وإعظامه، بل باعتبار أنه زاجر من الزواجر النفسية التي تستعين الحكومات بها وبقوتها على كسر شرة النفوس الجاهلة، فلا علاقة بين المسيحية والتمدين الغربي من حيث يستدل به عليها أو باعتبار أنه أثر من آثارها، ونتيجة من نتائجها، ولو كان بينه وبينها علاقة ما افترقت عنه نحو تسعة عشر قرنا كانت فيها أوربا وراء ما يتصوره العقل من الهمجية والوحشية والجهل، فما نفعتها مسيحيتها، ولا أغنى عنه "كهنوتها" ولا "إكليروسها". أما المدنية الإسلامية فإنها طلعت مع الإسلام في سماء واحدة من مطلع واحد في وقت واحد، ثم سارت إلى جانبه كتفا لكتف ما ينكر من أمرها ولا تنكر من أمره شيئا، فالمتعبد في مسجده، والفقيه في درسه، والمعرب في مكتبته، والرياضي في مدرسته، والكيمائي في معمله، والقاضي في محكمته، والخطيب في محفله، والفلكي أمام إسطرلابه، والكاتب بين محابره وأوراقه، إخوة متصافون؛ وأصدقاء متحابون، لا يختصمون

ولا يقتتلون، ولا يكفر بعضهم بعضا، ولا يبغي أحد منهم على أحد. أيها الفيلسوف التاريخي: إن كان لا بد من الاستدلال بالأثر على المؤثر فالمدنية الغربية اليوم أثر من آثار الإسلام بالأمس, والانحطاط الإسلامي اليوم ضربة من ضربات المسيحية الأولى، وإليك البيان: جاء الإسلام يحمل للنوع البشري جميع ما يحتاج إليه في معاده ومعاشه، ودنياه وآخرته، وما يفيده منفردا، وما ينفعه مجتمعا. هذب عقيدته بعدما أفسدها الشرك بالله والإسفاف إلى عبادة التماثيل والأوثان وإحناء الرءوس بين أيدي رؤساء الأديان, وأرشده إلى الإيمان بربوبية إله واحد لا يشرك به شيئا، ثم أرشده إلى تسريح عقله ونظره في ملكوت السموات والأرض ليقف على حقائق الكون وطبائعه، وليزداد إيمانا بوجود الإله وقدرته وكمال تدبيره، وليكون اقتناعه بذلك اقتناعا نفسيا قلبيا فلا يكون آلة صماء، في يد الأهواء، تفعل به ما تشاء، ثم أرشده إلى مواقف تذكره بربه، وتنبهه من غفلته، وتطرد الشرور والخواطر السيئة عن نفسه كلما ابتغت إليها سبيلا وهي مواقف العبادات، ثم أطلق له الحرية في القول والعمل ولم يمنعه إلا من الشرك بالله والإضرار

بالناس، وعرفه قيمة نفسه بعد ما كان يجهلها, وعلمه أن الإنسانية لا فرق بين فقيرها وغنيها، ووضيعها ورفيعها، وضعيفها وقويها، وأن الملك والسوقة والشريف الهاشمي، والعبد الزنجي، أمام الله والحق سواء، وأن الأمر والنهي والتحليل والتحريم والنفع والضر والثواب والعقاب والرحمة والغفران بيد الله وحده لا ينازعه فيها منازع، ولا يملكها عليه أحد من الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين، ثم نظر في أخلاقه فأرشده إلى محاسنها، وحال بينه وبين رذائلها، حتى علمه آداب الأكل والشرب والنوم والمشي والجلوس والكلام والسلام، ثم دخل معه منزله فعلمه كيف يبر الابن أباه، ويرحم الوالد ولده، ويعطف الأخ على أخيه، ويكرم الزوج زوجته، وتطيع الزوجة زوجها، وكيف يكون التراحم والتواصل بين الأقرباء وذوي الرحم، ثم نظر في شئونه الاجتماعية ففرض عليه الزكاة التي لو جمعت ووضعت في مصارفها لما كان في الدنيا بائس ولا فقير، وندبه إلى الصدقة ومساعدة الأقوياء للضعفاء، وعطف الأغنياء على الفقراء، ثم شرع له شرائع للمعاملة الدنيوية ووضع له قوانين البيع والشراء والرهن والهبة والقرض والتجارة والإجارة والمزارعة والوقف والوصية والميراث ليعرف كل إنسان فلا يغبن أحد أحدا،

ثم قرر له عقوبات دنيوية تمنعه أن يبغي بعضه على بعض بشتم أو سب أو قتل أو سرقة أو انتهاك حرمة أو مجاهرة بمعصية أو شروع في فتنة أو خروج على أمير أو سلطان، ثم نظر في شئونه السياسة فقرر الخلافة وشروطها، والقضاء وصفاته، والإمارة وحدودها، وقرر كيف يعامل المسلمون مخالفيهم في الدين البعيدين عنهم، والنازحين إليهم، وذكر مواطن القتال معهم، ومواضع المسالمة لهم. وجملة القول إن الدين الإسلامي ما غادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ولا ترك الانسان يمشي في ميدان هذه الحياة خطوة من مهده إلى لحده إلا مد يده إليه وأنار له مواقع أقدامه وأرشده إلى سواء السبيل. طلعت هذه الشمس المشرقة في سماء بلاد العرب فملأت الكون نورا وإشراقا واختلف الناس في شأنها ما بين معترف بها ومنكر وجودها، ولكنهم كانوا جميعا سواء في الانتفاع بنورها، والاستنارة بضيائها، على تفاوت في تلك الاستنارة، وتنوع في ذلك الانتفاع. طلعت هذه الشمس المشرقة فتمشت أشعتها البيضاء إلى أوروبا من طريق أسبانيا وجنوب إيطاليا وفرنسا فأبصرها عدد

قليل من أذكياء الغربيين فانتبهوا من رقدتهم، واستيقظوا من سباتهم، ورأوا من جمال المذاهب الإسلامية وشرائع الكون ونظاماته وقواعد الحرية والمساواة ما لفت نظرهم إلى المقابلة بين المجتمع الغربي الخامل الضعيف والمجتمع الشرقي اليقظ النابه، فقالوا أيمكن أن يعيش الإنسان على ظهر هذه المسكونة حرا لا يستعبده ملك ولا يسترقه كاهن، أيمكن أن يبيت الإنسان ليلة واحدة في حياته هادئا في مضجعه مطمئنا في رقدته لا يروعه دولاب العذاب ولا سيف الجلاد، أيمكن أن تملك النفس حريتها في النظر إلى نظام العالم وطبائعه ودراسة العلوم الكونية ومزاولتها، أيمكن أن يطلع فجر المدنية الاسلامية على هذا المجتمع الغربي فيمحو ظلمته التي طال عهدنا بها حتى عشيت أبصارنا فما يكاد يرى بعضنا بعضا. كانت هذه الخواطر المترددة في عقول أولئك الأذكياء هي الخطوة الأولى التي مشتها أوروبا في طريق المدنية والعمران بفضل الإسلام وشرائعه التي عرفها هؤلاء الأفراد من مخالطة المسلمين في أوروبا, ومطالعة كتبهم ومناظرة حضارتهم ومدنيتهم، ثم أخذوا يعلمونها الناس سرا ويبثونها في نفوس تلاميذهم شيئا فشيئا ويلقون في سبيل نشرها عناء شديدا، واستمر هذا النزاع بين

العلم والجهل قرونا عديدة حتى انتهى أمره بالثورة الفرنسية, فكانت هي القضاء الأخير على الوحشية السالفة، والهمجية القديمة. أيها الفيلسوف التاريخي: إنك لا بد تعلم ذلك حق العلم؛ لأنه أقل ما يجب على المؤرخ أن يعلمه كما تعلم أن المدنية الإسلامية إذا وسعت غيرها فأحر بها أن تسع نفسها، ولكن التعصب الديني قد بلغ من نفسك مبلغه فما كفاك أن أنكرت فضل صاحب الفضل عليك حتى أنكرت عليه فضله على نفسه. لا حاجة بي إلى أن أشرح لك المدنية الإسلامية أو أسرد لك أسماء علمائها وحكمائها ومؤلفاتهم في الطبيعة والكيمياء والفلك والنبات والحيوان والمعادن والطب والحكمة والأخلاق والعمران, أو أعدد لك مدارسها ومجامعها ومراصدها في الشرق والغرب أو أصف لك مدنها الزاهرة، وأمصارها الزاخرة، وسعادتها وهناءها، وعزتها وسطوتها، فأنت تعرف ذلك كله إن كنت مؤرخا كما تقول. غير أني لا أنكر عليك ما لحق بالمسلمين في هذه القرون الأخيرة من الضعف والفتور، وما أصاب جامعتهم من الوهن

والانحلال، ولكن ليس السبب في ذلك الإسلام كما تتوهم بل المسيحية التي سرت عدواها إليهم على أيدي قوم من المسيحيين, أو أشباه المسيحيين لبسوا لباس الإسلام وتزيوا بزيه ودخلوا بلاده وتمكنوا من نفوس ملوكه الضعفاء، وأمرائه الجهلاء، فأمدوهم بشيء من السطوة والقوة تمكنوا به من نشر مذاهبهم السقيمة وعقائدهم الخرافية بين المسلمين حتى أفسدوا عليهم مذاهبهم وعقائدهم وأوقعوا الفتنة فيهم وحالوا بينهم وبين الاستمداد من روح الإسلام وقوته فكان من أمرهم بعد ذلك ما كان. كل ما نراه اليوم بين المسلمين من الخلط في عقيدة القضاء والقدر وعقيدة التوكل وتشييد الأضرحة وتجصيص القبور وتزيينها والترامي على أعتابها والاهتمام بصور العبادات وأشكالها دون حكمها وأسرارها, وإسناد النفع والضرر إلى رؤساء الدين وأمثال ذلك أثر من آثار المسيحية الأولى وليس من الإسلام في شيء. أيها الفيلسوف التاريخي: لا تقل إننا متعصبون تعصبا دينيا فإنك قد أسأت إلينا وإلى ديننا فلم نر بدا من الذب عنا وعنه بما نعلم أنه حق وصواب، على أنه لا عار علينا فيما تقول،

وهل التعصب الديني إلا اتحاد المسلمين يدا واحدة على الذود عن أنفسهم، والدفاع عن جامعتهم، وإعلاء شأن دينهم ونصرته حتى يكون الدين كله لله. إن كان رفضا حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي

أهناء أم عزاء

أهناء أم عزاء: فارق مصر على أثر الدستور العثماني كثير من فضلاء السوريين بعدما عمروا هذه البلاد بفضائلهم ومآثرهم وصيروها جنة زاخرة بالعلوم والآداب ولقنوا المصريين تلك الدروس العالية في الصحافة والتأليف والترجمة، وبعدما ما كانوا فينا سفراء خير بين المدنية الغربية والمدنية الشرقية، يأخذون من كمال الأولى ليتمموا ما نقص من الأخرى، وبعدما علّموا المصري كيف ينشط في العمل, وكيف يجد ويجتهد في سبيل العيش, وكيف يثبت ويتجلد في معركة الحياة. قضوا بيننا تلك البرهة من الزمان يحسنون إلينا فنسيء إليهم, ويعطفون علينا فنسميهم تارة دخلاء، وأخرى ثقلاء، كإنما كنا نحسب أنهم قوم من شذاذ الآفاق أو نفايات الأمم جاءوا إلينا يصادروننا في أرزاقنا، ويتطفلون على موائدنا، ولو أنصفناهم لعرفناهم وعرفنا أن أكثرهم من بيوتات المجد والشرف, وإنما ضاقت بهم حكومة الاستبداد ذرعا وكذلك شأن كل حكومة

مستبدة مع أحرار النفوس وأباة الضيم فأحرجت صدورهم، وضيقت عليهم مذاهبهم، ففروا من الظلم تاركين وراءهم شرفا ينعيهم، ومجدا يبكي عليهم، ونزلوا بيننا ضيوفا كراما، وأساتذة كبارا، فما أحسنا ضيافتهم ولا شكرنا لهم نعمتهم. وبعد فقد مضى ذلك الزمن بخيره أو شره وأصبحنا اليوم كلما ذكرناهم خفقت أفئدتنا مخافة أن يلحق باقيهم بماضيهم فلا نعلم أنشكر للدستور أن فرج عنهم كربتهم، وأمنهم على أنفسهم، وردهم إلى أوطانهم، أم ننتقم منه أن كان سببا في حرماننا منهم بعد أنسنا بهم، واغتباطنا بحسن عشرتهم، وجميل مودتهم، ولا ندري هل نحن بين يدي هذا النظام العثماني الجديد في هناء أم في عزاء. فيأيها القوم المودعون، والكرام الكاتبون. اذكرونا مثل ذكرانا لكم ... رب ذكرى قربت من نزحا واذكروا صبا إذا غنى بكم ... شرب الدمع وعاف القدحا

الزوجتان

الزوجتان: حدث أحد الأصدقاء قال: سأقص عليك قصة لسيت من خيالات الشعراء ولا أكاذيب القصاصين. أويت إلى مضجعي في ليلة من ليالي الشتاء حالكة الجلباب, غدافية الإهاب، فما استقبلت أول طليعة من طلائع النوم حتى قرع باب غرفتي فتسمعت فإذا الخادم تقول: إن امرأة سيئة الحال بذة الثياب في زي المتسولات تلح في طلب مقابلتك وتقول إن لها عندك شأنا، فقلت في نفسي لا شأن لي مع امرأة, وربما كانت ذات حاجة وكانت حاجتها إلي أكثر من حاجتي إلى النوم، على أن النوم لا يفوتني، فليل الشتاء أطول من يوم القضاء، فارتديت ردائي ونزلت فإذا فتاة في ملاءة بالية وبرقع خلق ينم بجمالها كما ينم السحاب المتقطع بضوء الشمس، وإذا هي ترعد وتضطرب وتقول بصوت شجي: أما في الناس أخو همة ومروءة يعين على الدهر الغادر ويطفئ هذه الجذوة التي تأجج بين أضعالي بقطرة واحدة من الرحمة، فقلت: من أنت

يرحمك الله؟ قالت: أنا فلانة زوج فلان، فدهشت وغصصت بريقي حتى ما أجد بلة أحرك بها لساني لهول ما سمعت، وسوء ما رأيت، وقلت يا للعجب، زوجة فلان على عظمه وعظمها، وجلاله وجلالها، تخرج في مثل هذه الساعة في مثل هذه الملابس، فسألتها ما شأنك يا سيدتي ومم تبكين؟ قالت: لا تحدث نفسك بريبة ولا تذهب بك الظنون مذاهبها, فوالله ما جئت إليك تحت حجاب الليل إلا وأنت أوثق الناس عندي، وأرفعهم في عيني، ولولا شدة أقلقت مضجعي وفرقت ما بين جفني والكرى ما خضت سواد الليل في مثل هذه الساعة, ولا حملت في سبيلي إليك ما حملت، قلت: عهدي بسيدتي رخية البال ناعمة العيش سعيدة الحظ بزوج عذب الأخلاق كريم السجايا لا يؤثر هوى نفسه على هواك ولا يعدل بك أحدا، قالت: إنك تقص علي حديث الأمس وقد مضى به الفلك الدائر، والكوكب السيار، فاسمع مني حديث اليوم. إنك لا بد تعلم تاريخ زواجي منه منذ ثلاثة أعوام, وأن أبي لم يبتغ به بدلا على كثرة الخاطبين إليه من علية القوم وجلتهم, وأنا لا ألومه على ذلك رحمة الله عليه فما أراد بي شرا ولا اعتمد أن يسيء الاختيار لي, ولكنه كان رجلا أبيض السريرة طاهر

القلب فخدعه الخادعون عني، ومن ذا الذي لا يخدع بشاب متعلم مهذب من ذوي المناصب الكبيرة والرتب العالية، وكيفما كان الأمر فقد تم عقد الزواج بيننا فاعتبطت به واعتبط بي برهة من الزمان حسبتها دائمة لا انقطاع لها حتى يفرق بيننا الموت، وكنت امرأة أجمع في نفسي جميع ما يمت به النساء إلى الرجال فما خنته ولا ضقت ذرعا بأمره ولا قطبت في وجهه مرة ولا أتلفت له مالا ولا نقضت له عهدا, فجازاني سوءا بالإحسان، وكفر بنعمة الله بعد الإيمان، وخان ودي، ونقض عهدي، لا لذنب أتيته، أو وصمة يصمني بها، وكل ما في الأمر أنه رجل ملول، ولا تغضب يا سيدي إن قلت لك إن قلب الرجل متقلب متلون يسرع إلى البغض كما يسرع إلى الحب، وإن هذه المرأة التي تحتقرونها وتزدرونها وتضربون الأمثال بخفة عقلها وضعف قلبها أوثق منه عقدا، وأمتن ودا، وأوفى عهدا، ولو وفى الزوج لزوجته وفاءها له ما استطاع أن يفرق بين قلبيهما إلا ريب المنون، قلت: أنا لا أغضب لشي إلا للإنسانية أن ينقض عهدها، ويخفر ذمامها، ثم ماذا تم بعد ذلك، قالت: مات أبي كما تعلم وخلف لي مالا أمكنت منه زوجي فأتلفه بين الخمر والقمر، فكنت أغضي على هفواته رحمة به وشفقة عليه واستبقاء لوده,

حتى إذا صفرت يدي وأقفر ربعي أحسست منه مللا كان يدعوه إلى سوء عشرتي وتعذيب جسمي ونفسي، وكان كثيرا ما يتهكم بي ويقول: إني لا أحب المرأة الجاهلة التي لا تفهمني ولا أفهمها، وآونة كان يعرض بي قائلا: إن الرجل السعيد هو الذي يرزق زوجة متعلمة تقرأ له الجرائد والمجلات، وتفاوضه في المسائل الاجتماعية والسياسية، بل يتجاوز التعريض إلى التصريح فيقول كلما دخل علي متأففا متذمرا: ليت لي زوجة كفلانة فإنها تحسن الرقص والغناء والتوقيع على "البيان" فكنت أشك في سلامة عقلة, وأقول في نفسي كيف يفضل الزوجة المتبذلة المستهترة على الحبيبة المحتشمة، ووالله ما تمنيت مرة أن أكون على الصفة التي يحبها ويرضها مع ما كنت أبذل في رضاه من ذات اليد وذات النفس، وبعد فما زال الملل يدب في نفسه دبيب الصهباء، في الأعضاء، حتى تحول إلى بغضاء شديدة، فما كان يلحظني إلا شزرا ولا يدخل المنزل إلا لتناول غرض أو قضاء حاجة، فكنت أحتمل كل هذا بقلب صبور، وجنان وقور، ثم عرض له بعد ذلك أن نقل إلى منصب أرقى من منصبه في بلد آخر على ما تعلم فسافر وحده وتركني في المنزل وحيدة لا مؤنس لي غير طفلتي فلبثت أترقب كتابا منه يدعوني فيه إلى اللحاق به فما أرسل كتابا

ولا رسولا ولا نفقة، فاستكتبت إليه الكتاب بعد الكتاب فما أسلس قياده، ولا طاوع عناده، فسافرت إليه مخاطرة بنفسي غير مبالية بغضبه لأعلم غاية شأنه وشأني معه، فما نزلت من القطار حتى قيض الله لي من وقفني على حقيقة أمره وأعلمني أنه تزوج من فتاة متعلمة تقرأ له الجرائد والروايات وتفاوضه في المسائل الاجتماعية والسياسية وتحسن الرقص والغناء والتوقيع على "البيان"، فداخلني من الهم ما الله به عليم، وجزعت ولكن أي ساعة مجزع، ولا أظن إلا أن العدل الإلهي سيحاسبه على كل قطرة من قطرات الدموع التي أرقتها في هذا السبيل حسابا غير يسير. وكأنه شعر بمكاني فجاء إلي يتهددني ويتوعدني فتوسلت إليه ببكاء طفلته التي كنت أحملها بين يدي وذكرته بالعهود والمواثيق التي تعاقدنا عليها, وذهبت إلى استعطافه كل مذهب فكنت كأنني أخاطب ركودا صماء1، أو أستنزل أبودا عصماء2، ثم طردني وأمر من حملني إلى المحطة فعدت من حيث أتيت

_ 1 الركود من الركود وهو الثبات والسكون، والصخرة الصماء الصلبة المصمتة. 2 أبدت البهيمة توحشت، والعصماء من الظباء التي في ذراعيها بياض وسائرها أسود.

فما وصلت إلى المنزل حتى خلعت ملابسي ولبست هذه الثياب, وجئتك متنكرة في ذمام الليل؛ لأني وحيدة في هذا العالم لا قريب لي ولا حميم؛ ولأني أعلم كرمك وهمتك وما بينك وبين ذلك الرجل من الود والاتصال عسى أن ترى لي رأيا في التفريق بيني وبينه علني أجد في فضاء الحرية منفذا كسم الخياط أرتشف منه ما أتبلغ به أنا وطفلتي حتى يبلغ الكتاب أجله. فأحزنني من أمر تلك الفتاة البائسة ما أحزنني ووعدتها بالنظر في أمرها بعد أن خفضت كثيرا من أحزانها ولواعجها، فعادت إلى منزلها وعدت إلى مضجعي أفكر في هذه الحادثة الغريبة وقد اكتنفني همان: هم تلك البائسة التي لم أر في تاريخ شقاء النساء قلبا أشقى من قلبها، ولا نجما أنحس من نجمها، وهم ذلك الصديق الذي ربحته سنين طوالا وخسرته في ساعة واحدة, فقد كنت أغبط نفسي عليه فأصبحت أعزيها عنه، وكنت أحسبه إنسانا فإذا هو ذئب عملس1 تسترة الصورة البشرية وتواريه البشاشة والابتسام. هذا ما قصه علي ذلك الصديق الكريم: ثم لم أعد أعلم بعد ذلك ما تم من أمره مع تلك الفتاة المسكينة ولا ما تم من أمرها

_ 1 العملس السريع.

مع زوجها حتى جاءني منه أمس ذلك الكتاب بعد مرور عام على تلك القصة الغريبة، وهذا نصه: سيدي. يهمني كثيرا أن أرى بين كتب التهنئة التي ترد إلي كتابا منك لأسر بمشاركتك إياي في سروري وهنائي. إنك لا بد تذكر تلك القصة التي كنت قصصتها عليك منذ عام في شأن تلك الفتاة البائسة التي خانها زوجها "فلان" وغدر بها وهجرها إلى أخرى غيرها بعدما جردها مما كانت تملك يدها وما كان من أمر مجيئها عندي وبث شكواها إلي، وربما كنت لا تعلم بما تم من أمرها بعد ذلك, فاعلم أنها دفعت زوجها إلى موقف القضاء فضاق بأمرها ذرعا فطلقها وكنت أفكر في ذلك التاريخ في الزواج كما تعلم من زوج صالحة أجد السعادة في العيش بجانبها وما كنت لأجد زوجة أشرف نفسا ولا أكرم جوهرا ولا أذكى قلبا منها، فتزوجتها فأمتعت نفسي بخير النساء، وأنقذت الإنسانية المعذبة من شقوتها وبلائها، وأبشرك أن الله قد انتقم لهذه الفتاة المظلومة من ذلك الرجل الظالم انتقاما شديدا، فقد حدثني من يعلم دخيلة أمره أنه يعاني اليوم من زوجه الجديدة الموت الأحمر، والشقاء الأكبر، وأنها

امرأة قد أخذت التربية الحديثة من نفسها مأخذا عظيما فحولتها إلى فتاة غربية في جميع شئونها وأطوارها، والرجل شرقي بفطرته، أما غربيته فهي متكلفة متعملة يدور بها لسانه ولا أثر لها في نفسه، فهو لا يزال رجلا غيورا شريفا، ولا يزال يقاسي اليوم من تلك المرأة الخرقاء، أضعاف ما كانت تقاسيه منه أشرف النساء، والسلام.

في سبيل الإحسان

في سبيل الإحسان: الإحسان شيء جميل وأجمل منه أن يحل محله، ويصيب موضعه. الإحسان في مصر كثير، ووصوله إلى مستحقه وصاحب الحاجة إليه قليل، فلو أضاف المحسن إلى إحسانه إصابة الموضع فيه لما سمع سامع في ظلمة الليل شكاة بائس ولا أنة محزون. ليس الإحسان هو العطاء كما يظن عامة الناس، فالعطاء قد يكون نفاقا ورياء، وقد يكون أحبولة ينصبها المعطي لاصطياد النفوس وامتلاك الأعناق، وقد يكون رأس مال يتجر فيه صاحبه ليبذل قليلا ويربح كثيرا. إنما الإحسان عاطفة كريمة من عواطف النفس تتألم لمناظر البؤس ومصارع الشقاء، فلو أن جميع ما يبذله الناس من المال ويسمونه إحسانا صادر عن تلك العاطفة الشريفة لما تجاوز محله ولا فارق موضعه.

فوضى الإحسان: الإحسان في مصر فوضى لا نظام له، يناله من لا يستحقه ويحرم منه مستحقه، فلا بؤسا يرفع، ولا فقرا يدفع، فمثله كمثل السحاب الذي يقول فيه أبو العلاء: ولو أن السحاب همى بعقل ... لما أروى مع النخل القتادا1 الإحسان في مصر أن يدخل صاحب المال ضريحا من أضرحة المقبورين فيضع في صندوق النذور قبضة من الفضة أو الذهب ربما يتناولها من هو أرغد منه عيشا وأنعم بالا، أو يهدي ما يسميه نذرا من نعم وشاء إلى دفين في قبره قد شغله عن أكل اللحوم والتفكه بها ذلك الدود الذي يأكل لحمه، والسوس الذي ينخر عظمه، وما أهدى شاته ولا بقرته لو يعلم إلا إلى "ديوان الأوقاف" وكان خيرا له أن يهديها إلى جاره الفقير الذي يبيت ليله طاويا يتشهى ظلفا2 يمسك رمقه، أو عرقوبا يطفئ لوعته. وأعظم ما يتقرب به محسننا إلى الله ويحسب أنه بلغ من البر والمعروف غايتيهما أن ينفق بضعة آلاف من الدنانير في بناء مسجد للصلاة في بلد مملوء بالمساجد، حافل بالمعابد، وفي البلد كثير من البائسين وذوي الحاجات، ينشدون مواطن

_ 1 القتاد شجر صلب له شوك لا فائدة منه. 2 ظلف البقرة ظفرها.

الصلات، لا أماكن الصلوات، أو يبني بنية ضخمة فخمة مرفوعة القباب، فسيحة الرحاب، مموهة الجوانب والأركان، مذهبة السقوف والجدران، يسميها سبيلا، ولا يهولنك هذا الاسم الضخم فكل ما في الأمر أن السبيل مكان يشتمل على حوض من الماء ربما لا يكون بينه وبين ماء النهر إلا بضع خطوات، على أن الماء كالهواء، ملء الأرض والسماء، أو يقف الرقاع الواسعة من الأرض لتنفق غلتها على أقوام من ذوي البطالة والجهالة نظير انقطاعهم لتلاوة الآيات، وترديد الصلوات، وقراءة الأحزاب والأوراد، وهو يحسب أنه أحسن إليهم، ولو عرف موضع الإحسان لأحسن إليهم بقطع هذا الإحسان عنهم علهم يتعلمون صناعة أو مهنة يرتزقون منها رزقا شريفا، فإن كان يظن أنه يعمل في ذلك عملا يقربه إلى الله فليعلم أن الله تعالى أجل من أن يعبأ بعبادة قوم يتخذون عبادته سلما إلى طعام يطعمونه، أو درهم يتناولونه، أو يفتح أبواب منزله لهؤلاء المحتالين المتلصصين الذين يسمونهم مشايخ الطرق، ولو أنصفوهم لسموهم قطاع الطرق، ولا فرق بين الفريقين إلا أن هؤلاء يتسلحون بالبنادق والعصي، وأولئك يتسلحون بالسبح والمساويك، ثم يسقطون على المنازل سقوط الجراد على المزارع

فلا يتركون صادحا ولا باغما، ولا خفا ولا حافرا، ولا شيئا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها إلا أتوا عليه. أسوأ الإحسان: لم أر مالا أضيع ولا عملا أخيب ولا إحسانا أسوأ من الإحسان إلى هؤلاء المتسولين الذين يطوفون الأرض ويقلبونها ظهرا على عقب ويجثمون في مفارق الطرق وزوايا الدروب وعلى أبواب الأضرحة والمزارات يصمون الأسماع بصريخهم، ويقذون النواظر بمناظرهم المستبشعة، ويزاحمون بمناكبهم الفارس والراجل والجالس والقائم، فلو أن نجما هوى إلى الأرض لهووا على أثره, أو طائرا طار إلى الجو لكانوا قوادمه وخوافيه. وإن شئت أن تعرف المتسول معرفة حقيقية لتعرف هل يستحق عطفك وحنانك عليه, وهل ما تسديه إليه من المعروف تسديه إلى صاحب حاجة, فاعلم أنه في الأعم الأغلب من أحواله رجل لا زوجة له ولا ولد ينفق عليهما ولا مسكن عنده يحتاج إلى مؤن ومرافق ولا شهوة له في مطعم أو مشرب أو ملبس حتى لو علم أن الانقطاع عن ذلك الخسيس من الطعام والقذر من الشراب لا يقعده عن السعي في سبيله لانقطع عنه، وهو لو

شاء أن يتزوج أو يتخذ له مأوى يأوي إليه لفعل, ولوجد في حرفته متسعا لذلك، ولكنه الحرص قد أفسد قلبه وأمات نفسه، فهو يتوسل بأنواع الحيل وصنوف الكيد ليجمع مالا لا فائدة له من جمعه ولا نية له في إصلاح شأن نفسه به إذا اجتمع عنده منه ما يقوم له بذلك, بل ليدفنه في باطن الأرض حتى يدفن معه, أو لينظمه في سلك مرقعته حتى يرثه الغاسل من بعده. ولقد يبلغ به الحرص الدنيء والشره السافل أن يحمل في سبيل المال ما لا يستطيع مجاهد أن يحمل مثله في سبيل الله فيتعمد قطع يده أو ساقه أو إتلاف عينيه أو إحداهما ليستعطف القلوب عليه، وكثيرا ما يحسد صاحبه إذا رآه أفظع منه شكلا أو أكثر تشويها كما يحكي أن شحاذا مقطوع الساق قد وضع مكانها أخرى من الخشب تقابل مع آخر كفيف البصر فتنافسا في مصيبتيهما أيتهما أقذى للأعين وأوقع في النفس وأجلب للرحمة، فقال الأول للثاني: لقد وهبك الله نعمة العمى ومنحك بسلب ناظريك أفضل حبالة لاصطياد القلوب، واستفراغ الجيوب، فقال له صاحبه: وأين يبلغ العمى من هذه الرجل الضخمة الثقيلة التي تجلب في كل عام وزنها ذهبا. إن أكبر جريمة يجرمها الإنسان إلى الإنسانية أن يساعد

هؤلاء المتسولين بماله على الاستمرار في هذه الخطة الدنيئة فيغري كل من شعر في نفسه بالميل إلى البطالة وإيثار الراحة بالسعي على آثارهم، والاحتراف بحرفتهم، فكأنه قطع من جسم الإنسانية عضوا كاملا، لو لم يقطعه لكان عضوا عاملا، وكأنه هدم بعمله هذا جميع تلك المساعي الشريفة التي بذلها الأنبياء والحكماء قرونا عديدة لإصلاح المجتمع الإنساني وتهذيب أخلاقه وتخليصه من آفات الجمود والخمول، فهل رأيت معروفا أقبح من هذا المعروف وإحسانا أسوأ من هذا الإحسان. تنظيم الاحسان: ليست كمية المال التي ينفقها المحسنون في سبيل الإحسان مما يستهان به فلو قال قائل إنها تبلغ في مصر وحدها كل عام مليونا من الذهب لما أخطأ التقدير. سألت رجلا من وجوه الريف المعروفين بالبر والإحسان عن كمية ما ينفقه كل عام في هذا السبيل فأطلعني على جريدة حسابه فرأيتها هكذا. جنية 10 ولائم لمشايخ الطرق. 60 ليالي في مولد البيومي والعفيفي.

72 مرتبات قراءة القرآن والدلائل والصلوات في مسجده ومنزله. 30 هبات كبيرة للطائفين في البلاد الذين يستجدون باسم المجد القديم والشرف الداثر. 18 صدقات للمتسولين على تقدير خمسة قروش يوميا تقريبا. 10 توضع في صناديق الأضرحة. 40 ثمن خبز ولحم وملابس تفرق في المواسم الدينية. 240 المجموع فهذه أربعون ومائتا جنية ينفقها في سبيل الإحسان رجل واحد من متوسطي الثروة في عام واحد، وفي مصر مئات مثله وعشرات يزيدون عليه وآلاف يقلون عنه، فلا غرابة في أن يقدر هذا النوع من الإحسان بمليون جنية ينفقه منفقوه على غير شيء سوى إغراء الكسلان بكسله، وحمل العامل على ترك عمله، وفي اعتقادي لو أن هذا المقدار حل من الإحسان محله، وأصاب منه موضعه، وأنفق في سبيل الخيرات النافعة ووجوه البر الحقيقية لارتقى بالأمة المصرية إلى ذروة الكمال، ولكان له الأثر الجليل في وصولها إلى ما تتطلع إليه من هناء العيش وسعادة الحياة. لذلك أقترح في تنظيم الإحسان اقتراحا نافعا, وأدعو الكاتبين

الذين لا غرض لهم من وراء الكتابات السياسية ولا غاية لهم من الاشتغال بإثارة الخواطر وتهييجها وإغراء بعض الناس ببعض أن يساعدوني بأقلامهم على تحقيق ما أتمناه في هذا المقترح المفيد. أقترح أن يقوم جماعة من سراة الأمة ووجوهها وأصحاب الرأي والبصيرة فيها بتأليف مجتمع في القاهرة يسمى "مجتمع الإحسان" ويكون له في كل مدينة من مدائن الريف فرع تابع له. أما أعماله التي أحب أن يقوم بها بالاتحاد مع فروعه فهي ثلاثة: أ- استخدام فريق من مهرة الكتاب وفصحاء الخطباء يقومون بتعليم أفراد الأمة بكل واسطة من وسائط النشر, وبكل وسيلة من وسائل التأثير معنى الإحسان، وما هو الغرض منه، وما هي أفضل وجوهه، وأي أنواعه أجمع لخيري الدنيا والأخرة. ب- بذل الجهد في حمل الناس على اعتبار مجتمع الإحسان هذا بيت مال لهم أو وكالة عامة عنهم تتولى جمع الصدقات منهم وتوزيعها على مستحقيها، وحسبها أن تأخذ من كل فرد في كل عام مجموع ما يحسن به عادة في ذلك العام, فلا يكون بعد ذلك

مأخوذا بشيء من الإحسان أمام ربه, وأمام أمته أكثر مما قدمه لهذا المجتمع. جـ- إنفاق ما يجتمع من المال على تربية اليتامى الذين لا كاسب لهم, والقيام بأود العاجزين والعاجزات عن الكسب وتفقد شئون الذين نكبهم الدهر وتنكر لهم بعد العز والنعمة, وصيانة ماء وجوههم أن تراق على تراب الأعتاب, والإنفاق على تعليم من يتوسم فيهم الذكاء والفطنه ويرجي أن تنتفع بهم الأمة في مستقبلها من أبناء الفقراء، إلى أمثال هذه الأعمال الخيرية الشريفة التي لا يتحقق الإحسان بدونها، ولا ينصرف معناه إلا إليها. أنا أعتقد اعتقادا لا ريب فيه أن من يخطو الخطوة الأولى في سبيل هذا العمل الجليل ومن يضع الحجر الأول في بناء مجتمع الإحسان، هو أفضل عامل في الوجود وأشرف إنسان.

أدب المناظرة

أدب المناظرة: أنا لا أقول إلا ما أعتقد ولا أعتقد إلا ما أسمع صداه من جوانب نفسي فربما خالفت الناس أو بعض الناس في أشياء يعلمون منها غير ما أعلم، ومعذرتي إليهم في ذلك أن ألحق أولى بالمجاملة منهم وأن في رأسي عقلا أجله عن أن أنزل به إلى أن يكون سيقة1 للعقول وريشة في مهاب الأغراض والأهواء. فهل يجمل بعد ذلك بأحد من الناس أن يرميني بجارحة من القول أو صاعقة من الغضب؛ لأني خالفت رأيه أو ذهبت غير مذهبه أو أن يكون له من الحق في حملي على مذهبه أكثر مما يكون لي من الحق في حمله على مذهبي. لا بأس أن يؤيد الإنسان مذهبه بالحجة والبرهان، ولا بأس أن ينقض أدلة خصمه ويزيفها بما يعتقد أنه مبطل لها، ولا ملامة عليه في أن يتذرع بكل ما يعرف من الوسائل إلى نشر الحقيقة التي يعتقدها إلا وسيلة واحدة لا أحبها له ولا أعتقد

_ 1 السيقة ما يساق سوقا ومنه: إنما ابن آدم سيقه يسوقه الله.

أنها تنفعه أو تغني عنه شيئا، وهي وسيلة الشتم والسباب. إن لإخلاص المتكلم تأثيرا عظيما في قوة حجته وحلول كلامه المحل الأعظم من القلوب والأفهام، والشاتم يعلم الناس جميعا أنه غير مخلص فيما يقول، فعبثا يحاول أن يحمل الناس على رأيه أو يقنعهم بصدقه وإن كان أصدق الصادقين. أتدري لم يسب الإنسان مناظره؛ لأنه جاهل وعاجز معا، أما جهله؛ فلأنه يذهب في واد غير وادي مناظره وهو يظن أنه في واديه؛ ولأنه ينتقل من موضوع المناظرة إلى النظر في شئون المناظر وأطواره كأن كل مبحث عنده مبحث "فسيولوجي"، وأما عجزه؛ فلأنه لو عرف إلى مناظره سبيلا غير هذا السبيل لسلكه وكفى نفسه مئونة ازدراء الناس إياه, وحماها من الدخول في مأزق هو فيه من الخاسرين محقا كان أم مبطلا. لا يجوز بحال من الأحوال أن يكون الغرض من المناظرة شيئا غير خدمة الحقيقة وتأييدها، وأحسب أن لو سلك الكتاب هذا المسلك في مباحثهم لاتفقوا على مسائل كثيرة هم لا يزالون مختلفين فيها، وما اختلفوا فيها؛ إلا لأنهم فيما بينهم مختلفون، يسمع أحدهم الكلمة من صاحبه ويعتقد أنها كلمة حق لا ريب فيها, ولكنه يبغضه فيبغض الحق من أجله فينهض للرد عليه بحجج

واهية وأساليب ضعيفة وإن كان هو قويا في ذاته؛ لأن القلم لا يقوى إلا إذا استمد من القلب فإذا عي بالحجج والبراهين لجأ إلى المراوغة والمهاترة، فيقول لمناظرة مثلا إنك رجل جاهل لا يعتد بآرائك أو إنك رجل مضطرب الرأي لا ثبات لك؛ لأنك تقول اليوم غير ما قلت بالأمس، وهنالك يقول له الناس رويدا لا تخلط في كلامك، ولا تراوغ في مناظرتك، ولا شأن لك بعلم صاحبك أو جهله، فإنه يقول شيئا فإن كان صحيحا فسلم به أو باطلا فبين لنا أوجه بطلانه، وهبه قولا لا تعلم قائله، ولا شأن لك باضطراب القائل وثباته، فربما كان بالأمس على رأي تبين له خطؤه اليوم، والمرء يخطئ مرة ويصيب، فإذا ضاق بمناظره وبالناس ذرعا فر إلى أدنى الوسائل وأضعفها فسب مناظره وشتمه وذهب في التمثيل به كل مذهب فيسجل على نفسه الفرار من تلك الحرب والانخذال في ذلك الميدان. على أن أكثر الناس متفقون على ما يظنون أنهم مختلفون فيه، فإن لكل شيء جهتين، جهة مدح وجهه ذم، فأما أن تتساويا أو تكبر إحداهما الأخرى، فإن كان الأول فلا معنى للاختلاف؛ وإن كان الثاني وجب على المختلفين أن يعترف كل

منهما لصاحبه ببعض الحق لا أن يكون كل منهما من سلسلة الخلاف في طرفها. كان يقع بين ملك من الملوك ووزيره خلاف في مسائل كثيرة حتى يشتد النزاع, وحتى لا يلين أحدهما لصاحبه في طرف مما يخالفه فيه، فحضر حوارهما أحد الحكماء في ليلة وهما يتناظران في المرأة، يعلو بها الملك إلى مصاف الملائكة، ويهبط بها الوزير إلى منزلة الشياطين، ويسرد كل منهما على مذهبه أدلته، فلما علا صوتهما واشتد لجاجهما خرج ذلك الحكيم وغاب عن المجلس ساعة, ثم عاد وبين أثوابه لوح على أحد وجهيه صورة فتاة حسناء وعلى الآخر صورة عجوز شوهاء، فقطع عليهما حديثهما وقال لهما: أحب أن أعرض عليكما هذه الصورة، ليعطيني كل منكما رأيه فيها، ثم عرض على الملك صورة الفتاة الحسناء فامتدحها ورجع إلى مكان الوزير وقد قلب اللوح خلسة من حيث لا يشعر واحد منهما بما يفعل وعرض عليه صورة العجوز الشمطاء فاستعاذ بالله من رؤيتها وأخذ يذمها ذما قبيحا، فهاج غيظ الملك على الوزير وأخذ يرميه بالجهل وفساد الذوق وقد ظن أنه يذم الصورة التي رآها هو, فلما عاد إلى مثل ما كانا عليه من الخلاف الشديد تعرض لهما الحكيم وأراهما اللوح من جهتيه فسكن ثائرهما وضحكا

كثيرا، ثم قال لهما: هذا هو الذي أنتم فيه منذ الليلة، وما أحضرت إليكم هذا اللوح إلا لأضربه لكما مثلا لتعلما أنكما متفقان في جميع ما كنتما تختلفان فيه لو أن كلا منكما ينظر إلى المسائل المختلف فيها من جهتيها، فشكرا له همته وأثنيا على فضله وحكمته، وانتفعا بحيلته انتفاعا كثيرا حتى ما كانا يختلفان بعد ذلك إلا قليلا.

الإحسان في الزواج

الإحسان في الزواج: ورد إلي في البريد هذا الكتاب بهذا التوقيع حضرة السيد الفاضل ضمني وجماعة من الأصدقاء مجلس جرى فيه الحديث عن صديق لنا عرف امرأة من البغايا فأخذته الرأفة بها فتزوجها, وكان القوم ما بين مستحسن لهذا العمل ومستهجن له, وطالت مدة الجدل بيننا ساعات ولم يستطع أحد الفريقين أن يقنع الآخر برأيه فاتفق رأينا جميعا على أن نكتب إليك بذلك علك تلقي على هذا الموضوع نظرة من نظراتك الصادقة والسلام. ف. س أيها السائل الكريم إن كان باعث الرجل على الزواج بهذه البغي شهوة يريد قضاءها من امرأة يعشقها, ولا يرى له سبيلا إلى طول استمتاعه بها والاستئثار بحظه منها إلا هذا السبيل كما هو شأن أكثر الذين يتزوجون من البغايا فقد أخطأ خطأ جما؛ لأن من كان هذا شأنه

لا يعنيه إلا ذات نفسه ولا يشغله من شئون تلك المرأة إلا الشأن الذي يرتبط بشهوته، ويتعلق بلذته، وآية ذلك أنه لا ينظر بعد اتصاله بها في إصلاح قلبها، ولا يحاول أن ينزع من بين جنبيها ملكة الفساد الراسخة في نفسها، ولا يداخلها مداخلة المؤدب المهذب الذي يصور في نظرها معيشة الفساد بصورة تنفر منها وتشمئز لها، بل لا يكفيها مئونة العيش ولا يرفهها ولا يقلبها في الرغد والنعمة إلا إذا شعر بأن في قلبه بقية من الوجد والشغف بها، فإذا أقفر قلبه من حبها وعلم أن فراقها لا يهيج له وجدا، ورجوعها إلى عيشها السالف لا يثير منه غيرة، فارقها فراقا هادئا مطمئنا لا يمازجه حزن على فسادها، ولا يخالطه أسف على سقوطها، وهنالك تعود تلك المرأة إلى عشها الذي طارت منه, وقد أمسكت بين جوانحها من الحقد والموجدة على معيشة الصلاح والاستقامة ما الله عالم به. فالرجل الذي يتزوج من البغي قضاء لشهوته وإيثارا للذته، لا ينفعها ولا يحسن إليها؛ لأنه لا يهذب نفسها، ولا يفي لها بما عاهدها عليه من البقاء معها، والاستمرار على عشرتها، بل يسيء إليها بسوء تصرفه معها فيبغض إليها الصلاح ويحبب إليها الفساد، وعندي أنه في عمله هذا فاسق لا متزوج؛ لأنه لو لم ير أن الزواج

وسيلة من وسائل الاستئثار والتوسع في الاستمتاع ما سعى الأجر مهرا ولا المتعة عقدا. فإن كان حقا ما تقول من أن باعثه إلى ذلك الرحمة والرأفة والحنان والشفقة فقد أحسن كل الإحسان، ولا أحسب أن بين أعماله الصالحة عملا هو أفضل عند الله ذخرا، وأعظم أجرا، من هذا العمل الصالح. العرض أثمن من الحياة فإن كان من يمنح الحياة فاقدها شريفا فأشرف منه من يرد العرض الضال إلى صاحبه المفجوع فيه. ليت الرجال يتفقون جميعا على أن يستنقذوا بهذه الوسيلة الشريفة كل امرأة ساقها فقرها وعدمها أو فقد عائلها إلى البغاء، بل ليتهم يتفقون على الزواج منهن قبل أن تضيق بهن حلقات العيش فيسقطن. لم لا يكون بابا من أبواب الإحسان أن يتفقد المحسنون من الرجال الفقيرات من النساء فيتزوجوا منهن أو يزوجوهن من أولادهم وأقربائهم, وإن لم يكن من ذات الجمال أو ذوات النسب؛ لأنه إحسان والإحسان لا يجمل إلا إذا أصاب موضعه من الشدة ومكانه من الشقاء. لو عرف المحسنون معنى الإحسان لعرفوا أن إنفاق الأموال

على بناء التكايا والزوايا وتوزيعه على المتسولين والمتكففين ووقفه على القارئين والذاكرين لا يدخر لهم من المثوبة والأجر عند الله ما يدخره لهم الإحسان إلى النساء، بالعصمة من البغاء. البغاء للبغي شقاء ما جناه عليها إلا الرجل، فجدير به أن يغرم ما أتلف ويصلح ما أفسد. يهجم الرجل على المرأة ويعد لمهاجمتها ما شاء الله أن يعده من وعد كاذب، وقول خالب، وسحر جاذب، حتى إذا خدعها عن نفسها، وغلبها على أمرها، وسلبها أثمن ما تملك يدها، نفض يده منها وفارقها فراقا لا لقاء بينهما من بعده. هنالك تجلس في كسر بيتها جلسة الكئيب الحزين مسبلة دمعها على خدها، مسندة رأسها بكفها، تفلي أناملها التراب، لا تدري أين تذهب، ولا ماذا تصنع، ولا كيف تعيش. تطلب العيش من طريق الزواج فلا تجد من يتزوجها؛ لأن الرجل يسميها ساقطة، وتطلبه من طريق العمل فلا تجد ما تحسنه منه؛ لأن الرجل أهمل شأنها فلم يعلمها من العلم ما تستعين به على ضائقة العيش، وتطلبه من طريق التسول فلا تجده؛ لأن الرجل يؤثر أن يمنحها القنطار حراما، على أن يمنحها الدرهم حلالا، فلا تجد لها بدا من أن تطلبه من طريق البغاء.

فها أنت ذا ترى أن شقاء المرأة الساقطة رواية من الروايات المحزنة، وأن الرجل هو الذي يمثل جميع أدوارها، ويظهر في كل فصل من فصولها، ومهما حال بيننا وبينه من ذلك الستار المسبل فإنا لا نزال نعتقد أن الرجل غريم المرأة, وأن حقا عليه أن يؤدي دينه ويغرم أرش1 جنايته. إن أبى الرجل أن يتزوج المرأة بغيا فليحل بينها وبين البغاء، ولا سبيل له إلى ذلك إلا إذا اعتبر الزواج بابا من أبواب الإحسان، أي: إنه يتزوجها لها أكثر مما يتزوجها لنفسه، وأحق النساء بالإحسان أولئك اللواتي لم يرزقهن الله الجمال والمال، والحسب والنسب، فإن أبى إلا أن يتزوج المرأة السعيدة، فليعلم أنه هو الذي أخذ الشقية من يدها، وساقها بنفسه إلى قرارة الشقاء ورماها بيده في هوة الفسق والبغاء.

_ 1 الأرش دية الجراحات.

لاهمجية في الإسلام

لا همجية في الإسلام 1: أيها المسلمون: إن كنتم تعتقدون أن الله سبحانه وتعالى لم يخلق المسيحيين إلا ليموتوا ذبحا بالسيوف، وقصفا بالرماح، وحرقا بالنيران، فقد أسأتم بربكم ظنا، وأنكرتم عليه حكمته في أفعاله، وتدبيره في شئونه وأعماله، وأنزلتموه منزلة العابث اللاعب الذي يبني البناء ليهدمه، ويزرع الزرع ليحرقه، ويخيط الثوب ليمزقه، وينظم العقد ليبدده. لم يزل الله سبحانه وتعالى مذ كان الإنسان نطفة في رحم أمه يتعهده بعطفه وحنانه، ويمده برحمته وإحسانه، ويرسل إليه في ذلك السجن المظلم الهواء من منافذه، والغذاء من مجاريه، ويذود عنه آفات الحياة وغوائلها نطفة فعلقة فمضغة فجنينا فبشرا سويا. إن إلها هذا شأنه مع عبده وهذه رحمته به وإحسانه إليه

_ 1 كتبت لمناسبة ما أشيع من هياج المسلمين على المسيجين في ولاية أطنه من ولايات الدولة العثمانية وقتلهم إياهم وتمثيلهم بهم في عام 909 1.

محال عليه أن يأمر بسلبه الروح التي وهبه إياها أو يرضى بسفك دمه الذي أمده به ليجري في شرايينه وعروقه، لا بين تلال الرمال، وفوق شعاف الجبال. في أي كتاب من كتب الله وفي أي سُنة من سنن أنبيائه ورسله قرأتم جواز أن يعمد الرجل إلى الرجل الآمن في سربه، القابع في كسر بيته، فينزع نفسه من بين جنبيه، ويفجه فيه أهله وقومه؛ لأنه لا يدين بدينه، ولا يتقلد مذهبه. لو جاز لكل إنسان أن يقتل كل من يخالفه في رأيه ومذهبه لأقفرت البلاد من ساكنيها وأصبح ظهر الأرض أعرى من سراة أديم. أن وجود الاختلاف بين الناس في المذاهب والأديان والطبائع والغرائز سنة من سنن الكون التي لا يمكن تحويلها ولا تبديلها، حتى لو لم يبق على ظهر الأرض إلا رجل واحد لجرد من نفسه رجلا آخر يخاصمه وينازعه، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} . إن الحياة في هذا العالم كالحرارة التي تنتج من التحاك بين جسمين مختلفين، فمحاولة توحيد المذاهب والأديان محاولة القضاء على هذا العالم وسلبه روحه ونظامه.

أيها المسلمون: ليس ما كان يجري في صدر الإسلام من محاربة المسلمين المسيحيين مرادا به التشفي والانتقام منهم، أو القضاء عليهم، وإنما كان لحماية الدعوة الإسلامية أن يعترضها في طريقها معترض أو يحول بينها وبين انتشارها في مشارق الأرض ومغاربها حائل، أي: إن القتال كان ذودا ودفاعا، لا تشفيا وانتقاما. وآية ذلك أن السرية من الجيش ما كانت تخطو خطوة واحدة في سبيلها الذي تذهب إليه حتى يصل إليها أمر الخليفة القائم أن لا تزعج الرهبان في أديرتهم، والقسيسين في صوامعهم، وأن لا تحارب إلا من يقاومها، ولا تقاتل إلا من يقف في سبيلها، ولقد كان أحرى أن تسفك دماء رؤساء الدين المسيحي وتسلب أرواحهم لو أن غرض المسلمين من قتال المسيحيين كان الانتقام منهم والقضاء عليهم. لو أنكم قضيتم على كل من يتدين بدين غير دينكم حتى أصبحت رقعة الأرض خالصة لكم لانقسمتم على أنفسكم مذاهب وشيعا وتقاتلتم على مذاهبكم تقاتل أرباب الأديان على أديانهم، وهكذا حتى لا يبقى على وجه الأرض مذهب ولا متمذهب. أيها المسلمون: ما جاء الإسلام إلا ليقضي على مثل هذه

الهمجية والوحشية التي تزعمون أنها الإسلام. ما جاء الإسلام إلا ليستل من القلوب أضغانها وأحقادها ثم يملؤها بعد ذلك حكمة ورحمة ليعيش الناس في سعادة وهناء، وما هذه القطرات من الدماء التي أراقها في هذا السبيل إلا بمثابة البضع العضوي الذي يتذرع به الطبيب إلى شفاء المريض. عذرتكم لو أن هؤلاء الذين تريقون دماءهم في بلادكم كانوا ظالمين لكم في شأن من شئون حياتكم، أو ذاهبين في معاشرتكم والكون معكم مذاهب سوء تخافون مغبتها، وتخشون عاقبتها، أما والقوم في ظلالكم والكون تحت أجنحتكم أضعف من أن يمدوا إليكم يد سوء أو يبتدروكم ببادرة شر فلا عذر لكم. عذرتكم بعض العذر لو لم تقتلوا الأطفال الذين لا يسألهم الله عن دين ولا مذهب قبل أن يبلغوا سن الحلم، والنساء الضعيفات اللواتي لا يحسن في هذه الحياة أخذا ولا ردا، والشيوخ الزاحفين إلى القبور قبل أن تزحفوا إليهم وتتعجلوا قضاء الله فيهم. أما وقد أخذتم البريء بجريرة المذنب فأنتم مجرمون لا مجاهدون، وسفاكون لا محاربون. من أي صخرة من الصخور أو هضبة من هضبات الجبال

نحتم هذه القلوب التي تنطوي عليها جوانحكم والتي لا تروعها أنات الثكالى، ولا تحركها رنات الأيامى. من أي نوع من أنواع الأحجار صيغت هذه العيون التي تستطيعون أن تروا بها منظر الطفل الصغير والنار تأكل أطرافه وتتمشى في أحشائه وبين جوانحه فتصرخ أمه وأمه عاجزة عن معونته؛ لأن النار لم تترك لها يدا تحركها، ولا قدما تمشي عليها. لا أستطيع أن أهنئكم بهذا الظفر والانتصار؛ لأني أعتقد أن قتل الضعفاء جبن وعجز، ولؤم ودناءة، وأن سفك الدماء بغير ذنب ولا جريرة وحشية وهمجية أحرى أن يعزى صاحبها فيها، لا أن يهنأ بها. أيها المسلمون: أقتلوا المسيحيين ما شئتم وشاءت لكم شراستكم ووحشيتكم، ولكن حذار أن تذكروا اسم الله على هذه الذبائح البشرية فالله سبحانه وتعالى أجل من أن يأمر بقتل الأبرياء، أو يرضى باستضعاف الضعفاء، فهو أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين.

البخيل

البخيل: سألني سائل ماذا يستفيد الإنسان من بخله حتى على نفسه, وأي غرض يرمى إليه من ذلك؟ فأجبته بهذا الجواب: البخل إحدى الملكات النفسية، والملكة صفة راسخة في النفس تصدر عنها آثارها عفوا بدون روية ولا اختيار، فكما لا يسئل المسرف عن سبب إسرافه، والغاضب عن غايته من غضبه، والحاسد عن غرضه من حسده، كذلك لا يسئل البخيل عما يستفيده من بخله وحرصه، فكثيرا ما تعرض لأرباب هذه الملكات عوارض تنزع بهم إلى الرغبة عن التخلي عنها حينا فلا يجدون إلى ذلك سبيلا لمكان تلك الملكات من نفوسهم ونزولها منها منزلة لا تزعجها الرغبات، ولا تزعزعها الإرادات، وربما عرض للبخيل ما يدفعه إلى بذل شيء من ماله فإذا وضع يده في كيسه وحاول القبض على شيء مما فيه أحس كأن تيارا كهربائيا قد سرى من نفسه إلى يده فتشنجت أعصابها وأعيت أناملها على الالتواء والانثناء فأخرجها صفرا كما أدخلها وبوده أن لا يفعل

لولا أن للغريزة قوة فوق قوة الإرادة وسلطانا تخضع له الرغبات وتنقاد إليه العقول إلا إذا كان وراءها وازع من القانون يزعها فإنه يكسر شرتها أحيانا، وإن لم ينتزعها انتزاعا. ويحكى أن شحيحا تحركت في قلبه يوما الشفقة على ابنته الجائعة العارية فأراد نفسه على أن يبذل لها شيئا من ماله, فتأبت عليه فأذن لوكيله أن يختلس لها من ماله ما يسد خلتها من حيث لا يعلمه بذلك ولا يدعه ينتبه لشيء منه علما بأنه لايستطيع أن يكون كما يريد. فالوجه في السؤال أن يقال ما هي الأسباب التي غرست ملكة البخل في نفس البخيل؟ فيكون الجواب عن ذلك: أن الأسباب تختلف باختلاف الأشخاص البخلاء, وأطوارهم وأخلاقهم وتربيتهم، ونحن نذكر أهم تلك الأسباب من حيث ذاتها بقطع النظر عن افتراق ما يفترق منها واجتماع ما يجتمع. الأول -الوراثة- وهي وإن كانت سببا ضعيفا لما يعرض للأخلاق الموروثة أحيانا من التغير والانقلاب بمعاشرة المتصفين بأضدادها والتأثر بمخالطتهم إلا أنها كثيرا ما تنمو ووتجسم إذا أغفلت, ولم يعترضها ما يسد سبيلها ويقف في طريق نمائها. الثاني -التربية- إذا نشأ الطفل بين أهل أشحاء ولم

يكن في فطرته ما يقاوم سلطان التربية على نفسه أخذ أخذهم في الحرص وتخلق فيه بأخلاقهم كما يتخلق بها في العقائد والعادات من حيث لا يفكر في استحسان أو استهجان, كأنما هي عدوى الأمراض التي تسري إلى الإنسان من حيث لا يدري بها ولا يشعر بسريانها، ويحكى أن رجلا دخل منزلا يعرف أهله بالشح والحرص, فرأى طفلا صغيرا في يده ليمونة صغيرة فسأله إياها فأجابه الطفل: "إن يدك لا تسعها". الثالث –سوء الظن بالله- ذلك أن المتدين إذا أخذت عقيدة القضاء والقدر من نفسه مأخذها رسخ في قلبه الإيمان بأن لله سبحانه وتعالى عينا ساهرة على عباده الضعفاء, فهو أرحم من أن يغفل شأنهم ويكلهم إلى أنفسهم ويسلمهم لصروف الليالي وعاديات الأيام، فلا يلج به الحرص على الجمع، ولا يزعجه الخوف من البذل، وعلى العكس منه ضعيف الإيمان ضعيف الثقة بواهب الأرزاق ومقسم الحظوظ والجدود, فهو لسوء ظنه به لا يزال الخوف من الفقر نصب عينيه حتى يصير البخل ملكة راسخة فيه. الرابع -النكبات- كثيرا ما تحل بالإنسان نكبات تصهر قلبه وتزعج غريزته عن مستقرها، ومن ذلك النكبات

التي يكون مرجعها قلة المال, كأن يقع الرجل في خصومة يرى أنه لولا ضيق ذات يده لما وقع فيها, فلا يكون له فكر بعد ذلك إلا في التوقي من الوقوع في أمثالها، فكلما تمثلت له نكبته لج به الحرص وأغرق في المنع حتى يصير ذلك غريزة فيه وخلقا له، ومن ذلك جديد النعمة الذي ذاق مرارة الفقر برهة من الزمان, وتجسمت آلامه في نظره فإنه مهما حسنت حاله وأقبلت عليه الدنيا بوجهها وفاضت خزائنه بالذهب لا تذهب من فمه تلك المرارة, ولا تضيع من ذاكرته آلامها, فلا يزال يملك قلبه وسواس مقلق يخيل إليه ما لا يتخيل ويريه ما لا يرى, كمن تمثل له خيال الشيطان مرة في أبشع صورة وأفظع شكل فهاله منظره وذهب الخوف الشديد برشده وطار بطائر عقله فلا يزال يراه في كل مكان وزمان، وفي حالتي الأمن والخوف، والوحشة والأنس. الخامس -اللؤم- فإن النفس إذا خبثت طينتها ولؤم طبعها كان من أخص صفاتها الحقد على الوجود بأجمعه وبغض الخير للناس قاطبة, فكيف يمنحهم من ذات يده ما يزيده ألما على ألم وحسرة فوق حسرة، وهو لو استطاع أن يكف عنهم سارية السماء ويعترض دونهم نابتة الأرض لفعل. السادس -سقوط الهمة- إذا نشأ الإنسان عالي الهمة

طموحا إلى المعالي محبا للذكر الحسن والثناء الجميل سهل عليه أن يبذل في سبيل ذلك كل ما يستطيع بذله من ذات يده أو ذات نفسه، وحب المجد أسال الذهب من خزائن الأغنياء، وصبر نفوس الشجعان نهبا مقسما بين شفرات السيوف وأسنة الرماح طلبا لسعادة الحياة بالذكر وسعادة الممات بالخلود، فمن لساقط الهمة ضعيف النفس بدافع يدفعه إلى بذل المال على مكانته من قلبه وامتزاج حبه به، أيدفعه حب الثناء وهو لا يشعر بلذته، أم خوف المذمة وهو لا يتألم منها ولا يتذوق مرارتها، أم سعادة الحياة وسعادة الممات، وهو لا يفهم للسعادة معنى غير ما فهمه الزبرقان بن بدر حينما قنع على لسان الحطيئة من المكارم بلقمة يمضغها، وحلة يلبسها. السابع -فساد المجتمع الإنساني- ذلك أن كثيرا من الناس قد بلغ بهم حب المال والتعبد له أن صاروا يعظمون صاحبه لا لفائدة يرجونها أو خير يطمعون فيه؛ بل لأنه ذو مال وذو المال في نظرهم أحق الناس بالمحبة والإخلاص والإجلال والإعظام وإن لم يحصلوا منه على طائل، فلو أنهم عبدوا الله سبحانه وتعالى بهذا النوع من العبادة ساعة واحدة لأصبحوا من عباده المقربين، فمن ذا الذي لا يحب من البخلاء أن ينال هذه المنزلة في نفوس هؤلاء

المتملقين وليس بينه وبينها إلا الحرص الذي لا يتكلفه ولا يتعمل له والذي هو أشهى الأشياء إليه وأكثرها ملاءممة لفطرته ليزداد شرفا وعزا، كلما ازداد بالحرص ثراء ووفرا، ومن هنا قال أحد البخلاء لأولاده: يا بني لأن يعلم الناس أن عند أحدكم مائة ألف درهم أعظم له في أعينهم من أن يقسمها فيهم، وقال رجل لآخر: يا بخيل، فقال له: لا أحرمني الله بركة هذا الاسم فإني لا أكون بخيلا إلا إذا كنت غنيا فسم لي المال ولقبني بما تشاء. هذه هي أهم الأسباب التي تألفت منها رذيلة البخل فإن أغفلنا النظر إليها, وسلمنا للسائل صحة سؤاله عما يستفيده البخيل من بخله حتى على نفسه, وفرضنا البخيل مختارا فيما يفعل غير مساق إلى هذا المورد الوبيل بسائق الغريزة الفاسدة كان منال النجم أقرب من تطبيق حاله على قاعدة من قواعد العقل؛ لأن الله تعالى خلق الإنسان وركب فيه رغبات وشهوات مختلفة بعضها نفسي والآخر جسدي، فهو لا يزال يتطلبها ما لم يعجز عنها، فصاحب المال الكثير الذي يقنع بالشملة والمضغة، والجرعة والظلة، ويحمل في كل لحظة أشد الآلام من مقاومة نزوات نفسه إلى ميولها ورغباتها، لا يمكن أن يحمل حاله على محمل العجز؛ لأنه قادر، ولا على الزهد؛ لأنه ما زهد فيما لا ينفع فيزهد فيما ينفع، ولا على

الخوف من الفقر؛ لأن عنده من المال ما يفني الأعمار, فهيهات أن يفنيه عمر واحد، ولا على الرغبة في سعادة الذرية؛ لأن محبة الأب لولده لا يمكن أن تزيد على رغبته في أن يراه شريكا له في سعادته، فأما أن يشقى هو في حياته، ليسعد ولده بعد مماته، فمما لا يقبله العقل، ولا يدخل في دائرة من دوائر الفهم، فلم يبق لنا إلا أن نتوسل إلى علماء النفس أن يأذنوا لنا بالتوسع في تفسير معنى الجنون حتى لا يكون مقصورا على المعربدين والهاذين، بل يكون شاملا للعابثين، الذين لا يدرون ما يأخذون وما يتركون، والذين يجلبون لأنفسهم بإرادتهم واختيارهم آلاما نفسية هي أشد مما يجلبه المجانين على أنفسهم بمناطحة الجدران، ومطاردة الصبيان، كما نتوسل إلى علماء الشرائع أن يضعوا قانونا لاستخراج المال من خزائن المقترين، كما وضعوا قانونا لحفظ المال في صناديق المبذرين، فإن تبذير المال يضر قوما وينفع أقواما، أما حبسه فيضر صاحبه ويضر معه الناس أجمعين.

البعوض

البعوض: جلست ليلة أمس إلى مكتبتي وعلقت قلمي بين أصابعي وأنشأت أفكر في الموضوع الذي يجمل بي أن أكتب فيه، وتلك عادتي التي يعرفها عني كثير من خلطائي وعشرائي أنني لا أميل إلى الكتابة في بياض النهار ولا أحب أن أخط حرفا على ما أحب وأرتضي إلا في ظلام الليل وهدوئه. ولا يظن المتفلسفون في اكتناه القائق والمولعون بالصناعة اللفظية، والأنواع البديعة، أنني أريد بذلك مراعاة النظير بين سواد المداد وسواد الظلام، أو أنني أترقب طلوع النجم لأتسلق أشعته إلى سماء الخيال، فكل ذلك لم يكن، وليس في الناس من هو أدرى بدخيلة نفسي مني، وكل ما في المسألة أن هذه عادتي، وتلك حكايتي، وكفى. لم أكد أفرغ من التفكير في الموضوع حتى شعرت بطنين البعوض في أذني, ثم أحسست بلذعاته في يدي فتفرق من ذهني ما كان مجتمعا، وتجمع من همي ما كان مفترقا، ولم أرد بدا من

إلقاء القلم وإعداد العدة لمقاومة هذا الزائر الثقيل. طاردته بالمذبة فما أجدى ذلك نفعا؛ لأنه على الطيران أقوى من يميني على المطاردة، وفتحت النوافذ لأخرج ما كان داخلا، فدخل ما كان خارجا، وحاولت قتله فوجدته متفرقا، ولو كان مجتمعا في دائرة واحدة لهلك بضربة واحدة، ولم أر في حياتي أمة ينفعها تفرقها ويؤذيها تجمعها غير أمة البعوض، فما أضعف هذا الإنسان وما أضل عقله في اغتراره بقوته، واعتداده بنفسه، واعتقاده أن في يده زمام الكائنات يصرفها كيف يشاء، ويسيرها كما يهوى، وأنه لو أراد أن يذهب بنظام هذا الوجود ويأتي له بنظام جديد لما كان بينه وبين ذلك إلا أن يرسل أشعة عقله ويبتعث عزيمته، ويقتدح فكرته. يزعم ذلك وهو يعلم أنه أضعف من أن يحتال لنفسه في مدافعة أصغر الحيوان جسما وعقلا، وأدناها قيمة وشأنا، بيد أنه يعلم ذلك بلسانه وفي فلتات وهمه، ولو علمه علما يتغلغل في نفسه، ويتمثل في سويداء قلبه لكفكف من غلوائه، وخفض من كبريائه، وعلم علم اليقين أن الإنسان العاقل والحيوان الملهم والنبات النامي والجماد الجامد سواء بين يدي القوة الإلهية الكبرى التي لا ينفع معها حول ولا قوة.

علمت أني عييت بأمر هذا الحيوان فلذت بجانب الصبر، والصبر كما يعلم إخواننا الصابرون حجة العاجز، وحيلة الضعيف، وأيسر ما يستطيع أن يدفع به دافع عن نفسه ملامة اللائمين، وفضول المتطفلين، وقلت في نفسي لو كان البعوض يفهم ما أقول لقصصت عليه قصتي، وشرحت له عذري، وسألته أن يمنحني ساعة واحدة أقوم فيها بكتابة رسالتي هذه ثم هو بعد ذلك في حل من جسمي ودمي ينزل منهما حيث يشاء، ويمتص منهما ما يشاء، ولكنه ويا للأسف لا يسمع شكاتي, ولا يرحم ضراعتي ولا يفهم معنى الرحمة, ولا يعرف قيمة المروءة؛ لأنه ليس بإنسان. أحسب أن لذعات البعوض قد أخذت مأخذها من عقلي وفهمي, وأني قد بدأت أهذي هذيان المحموم فمن أين لي أن لو كان البعوض إنسانا كان يسمع شكاتي، ويكشف ظلامتي، أو يفهم معنى الرحمة، ويعرف قيمة المروءة، ومتى كان الإنسان أحسن حالا من البعوض, وأرحم منه قلبا وأشرف غاية, فأتمنى أن لو كان مكانه، بل من أين لي أن هذا الذي أحسبه بعوضا ليس بإنسان تقمص البعوض وتمثل لي في جسمه الصغير وجناحه الرقيق، وأي غرابة في أن أتخيل ذلك ما دام الإنسان والبعوض سواء في حب الشر والميل إلى الأذى، وما دامت الصورة الجثمانية لا قيمة لها في جانب

الأعراض الذاتية والصفات المقومة للماهية. أي قيمة لما يمتصه البعوض مجتمعا من جسم الإنسان في جانب ما يمتصه القاتل منفردا من جسم المقتول. إن البعوض في امتصاصه الدم من الجسم أقل من القاتل ضررا وأشرف غاية وأجمل مقصدا؛ لأنه إن آذى الجسم فقد أبقى على الحياة؛ ولأنه يطلب عيشه وهذا طريقه الطبيعي الذي لا يعرف سواه، ولا يستطيع أن يدبر لنفسه غيره، ولو استطاع لعافت نفسه أن يكون كالإنسان يتطوع للشر، ويتعبد بالضر. إني وجدت بين الإنسان والبعوض شبها قريبا في صفات كثيرة, أنا ذاكر لك طرفا منها وتارك لفطنتك الباقي. البعوض يمتص من الدم فوق ما يستطيع احتماله، لا يزال يشرب حتى يمتلئ فينفجر، فهو يطلب الحياة من طريق الموت، ويفتش عن النجاة في مكامن الهلاك، وهو أشبه شيء بشارب الخمر يتناول الكأس الأولى منه؛ لأنه يرى فيها وجه سروره وصورة سعادته، فتطمعه الأولى في الثانية، والثانية من الثالثة، ثم لا يزال يلح بالشراب على نفسه حتى يتلفها ويودي بها من حيث يظن أنه ينعشها, ويجلب إليها سرورها وهناءها.

البعوض سيئ التصرف في طلب العيش؛ لأنه لا يسقط على الجسم إلا بعد أن يدل على نفسه بطنينه وضوضائه، فيأخذ الجالس منه حذره ويدفعه عن مطلبه أو يقتله قبل البلوغ إليه، فمثله في ذلك مثل بعض الجهلة من أصحاب المطالب السياسية يطلبون المآرب النافعة المفيدة لأنفسهم ولأمتهم, غير أنهم لا يكتمونها ولا يحسنون الاحتفاظ بها في صدورهم ولا يبتغون الوسيلة إليها إلا بين الصراخ والضجيج، ولا يمسكون بالحلقة الأولى من سلسلتها حتى يملئوا الخافقين بذكرها، ويشهدوا الملأ الأعلى والأدنى عليها، وهناك يدرك عدوهم مقاصدهم فيعد لها عدتها ويتلمس وجه الحيلة في إفسادها عليهم هادئا ساكنا من حيث لا يشعرون. البعوض خفيف في وطأته، ثقيل في لذعته، فهو كذلك الصاحب الذي يسرك منظره، ويسوءك مخبره، يلقاك بابتسامة هي العذب الزلال، عذوبة وصفاء، والسحر الحلال، جمال وبهاء، وبين جنبيه في مكان القلب صخرة لا تنفذها أشعة الحب، ولا يتسرب إليها ماء الوفاء، يقول لك: إني أحبك؛ ليغلبك على قلبك، ويملك عليك نفسك، فإن تم له ما أراد سلبك مالك إن كنت من ذوي المال، أو استخدم جاهك إن كنت من ذوي الجاه،

فإن لم تكن هذا ولا ذاك أغراك بالسير في طريق يسقط مروءتك ويثلم شرفك، فإن فاته ما يشفي به داء بطنته، لا يفوته ما يطفئ به نار حقده وحسده. لا يزال البعوض ملحا في مهاجمتي، فلا طاقة لي بكتابة سطر واحد أكثر مما كتبت والسلام.

الجزع

الجزع: يا صاحب النظرات لي صديق سقط في امتحان "البكالوريا" هذه السنة فأثر فيه ذلك السقوط تأثيرا كبيرا, فهو لا ينفك باكيا متألما حتى أصبحنا نخاف عليه الجنون، وكلما عزيناه عن مصابه يقول: كيف أستطيع معاشرة إخواني ومعارفي, وكيف أستطيع مقابلة والدي وأهلي؟ فهل لك أيها السيد أن تعالج نفسه بنظرة من نظراتك التي طالما عالجت بها القلوب المحزونين؟ حقوقي ليست المسألة مسألة صديقك وحده بل مسألة الساقطين أجمعين، فإن المرء لا يكاد يتناول نظره منهم في هذه الأيام إلا وجوها قد نسج الحزن عليها غبرة سوداء، وجفونا تحار فيها مدامعها حيرة الزئبق الرجراج، حتى ليخيل إليك أن نازلة من نوازل القضاء قد نزلت بهم فزلزلت أقدامهم، أو فاجعة من فواجع الدهر قد دارت عليهم دائرتها فأثكلتهم ذخائر نفوسهم، وجواهر عقولهم، وأقامت

بينهم وبين سعادة العيش وهنائه سدا لا تنفذه المعاول، ولا تنال من أيده الزلازل. خفض عليك قليلا أيها الطالب فالأمر أهون مما تظن وأصغر مما تقدر، واعلم وما أحسبك إلا عالما أنك لم تسقط من قمة جبل شامخ إلى سفح متحجر فتبكي على شظية طارت من شظايا رأسك، أو دم مسفوح تدفق من بين لحييك. إنك قد سعيت إلى غرض فإن كنت هيأت له أسبابه، وأعددت له عدته، وبذلت له من ذات نفسك ما يبذل مثله الباذلون في مثله، فقد أعذرت إلى الله وإلى الناس وإلى نفسك, فحري بك أن لا تحزن على مصاب لم يكن أثرا من آثار يديك، ولا جناية من جنايات نفسك عليك، وإن كنت قصرت في تلمس أسبابه، ومشيت في سبيله مشية الظالع المتقاعس، فما حزنك على فوات غرض كان جديرا بك أن تترقب فواته قبل وقت فواته؟ وما بكاؤك على مصاب كان خيرا لك أن تعلم وقوعه قبل يوم وقوعه؟ ما لك تبكي بكاء الواثق بمواتاة الأيام ومطاوعة الأقدار, فهل تستطيع أن تبرز لنا صورة العهد الذي أخذته على الدهر أن يكون لك كما تحب وتشتهي وعلى الفلك أن لا يدور إلا بسعدك، ولا

يجري إلا بجدك، وعلى القلم أن لا يكتب في لوحه إلا ما دللته عليه، وأوحيت به إليه. لا تجعل لليأس سبيلا إلى نفسك, فلعل الأمل يعوض عليك في غدك ما خسرت في أمسك، وامض لشأنك ولا تلتفت إلى ما وراءك، فإن تم لك في عامك المقبل من طلبتك ما أردت فذاك، أو لا فما فقدت إذ فقدت الا ورقة كان كل ما تستفيده منها أن تشتري بها قيدا لرجلك، وغلا لعنقك، ثم ترتبط في سجن من سجون الحكومة بجانب رئيس من الرؤساء المدلين بأنفسهم يسومك من الذل والخسف ما لا يحتمله الأسراء في سجون الآسرين. إن اعتدادك بهذه الورقة هذا الاعتداد وإكبارك إياها هذا الإكبار دليل على أنك كنت تريد أن تجعلها منتهى أملك وغاية همتك، وأنك لا ترى بعدها مزيدا من الكمال لمستزيد، فإن صدقت فراستي فيك فاعلم أن الله قد خار لك في هذا المصير وساق إليك من الخير ما لا تعرف السبيل إليه، إنه ما خيب رجاءك في هذا الكمال الموهوم إلا لتطلب لنفسك كمالا معلوما، وما صرف عنك هذه الشهادة المكتوبة في صفحات الأوراق إلا لتسعى وراء الشهادة المكتوبة في صفحات القلوب. إن كنت تبكي على الشرف فباب الشرف مفتوح بين يديك

لا شأن للحكومة فيه ولا حاجب لها عليه، وما هو إلا أن تجد في التزيد من العلم والمعرفة واستكمال ما ينقصك من الفضائل النفسية, فإذا أنت شريف في نفسك وفي نفس الخاصة من الناس, وإذا أنت في منزلة يحسدك عليها كثير من أرباب الشهادات والمناصب، ولا حيا الله شرفا يحيا بورقة ويموت بأخرى، ولا مجدا تأتى به قعدة وتذهب به قومة، وإن كنت تبكي على العيش ففي أي كتاب من كتب الله المنزلة قرأت أن أرزاقه وقف على الحاكمين، وحبائس على المستخدمين، وأنه لا ينفق درهما واحدا من خزائنه إلا إذا جاءته "حوالة" بتوقيع أمير، أو إشارة وزير. أيها الطالب: قل لأبيك وأخيك وأهلك وأصدقائك ومعارفك بلا خجل ولا استحياء أن الذي وهبني عقلي يسلبنيه، وأن الذي صور لي أعضائي لم يحل بيني وبين الذهاب بها إلى ما خلقت له، وأن الذي خلقني سوف يهديني فهو الرزاق ذو القوة المتين.

الاتحاد

الاتحاد: ألمت بي كربة من تلك الكرب التي لا تزال تختلف إلي كما تختلف إلى المحموم نوباته حينا بعد حين. كربة ما كفاها أنها حبست قلمي عن الكتابة وفكري عن الحركة حتى حالت بيني وبين مطالعة الصحف والإشراف على الأمة من نوافذها برهة من الزمان، ثم أدركتني رحمة الله فاستفقت فإذا صخب ولجب، وضجيج وضوضاء، وأصوات ملء الفضاء، وكظة الأرض والسماء، فما هو إلا سؤال السائل وإجابة المجيب حتى عرفت كل شيء. عرفت أن الأمة المصرية في موقف من أحرج مواقفها، ومسلك من أضل مسالكها، وأنها بين ماضغي الأسد وفوق روق الظبي، وأن حوادث الدهر وعاديات الأيام قد ملكت عليها سبيلها والتفت حولها التفاف الحية بالعنق وأحاطت بها إحاطة الجامعة باليد والقيد بالرجل، فمثلها كمثل رجل أحاطت النار ببيته من كل جانب وعلقت بسقوفه وجدرانه، ونوافذه وأبوابه، فما

هو بناج إن أراد نجاء، ولا بباق إن أراد بقاء، بل مثلها كمثل آخر ضل به سبيله، واشتبهت عليه مسالكه، في ليلة داجية مدلهمة قد غابت كواكبها، واستسرت نجومها، فوقف وقفة الحائر المضطرب يسمع العواء والزئير، والفحيح والصفير، فلا يعلم أيقدم فيزداد ضلالا، أم يحجم فلا يجد مجالا، أم يقف فيصبح فريسة المفترس ولقمة المزدرد. عرفت أن الأمة المصرية أصبحت لا تدري ما تريد، ولا ما يراد بها، ولا تجد من يرد إليها رشدها، ولا من يمد يده إليها، ليأخذ بيدها في هذا الظلام الحالك، والليل المدلهم. كثر رؤساؤها، وتعددت قادتها، وتنوعت مذاهبهم، واختلفت طرقهم، واستحكمت حلقات البأس بينهم فلم يتفقوا في شأن من شئون هذه الأمة على شيء إلا على وضع حبل متين في عنقها, قد أخذ كل منهم بطرف من طرفيه يجذبه إليه جذبة المستقتل المستميت حتى بح صوتها، وضاق صدرها، وتعلقت أنفاسها، وجحظت مقلتاها، وجف ريقها، وتحجر لسانها، وهم ينظرون إليها نظرة المداعب اللاعب، ولا أحسب أنهم تاركوها حتى يفرقوا بين الرأس والجسد فراقا لا لقاء بينهما من بعده.

لو بعث أرسطو واضع علم المنطق من قبره وأراد أن يضع لهذه الأمة حدا تاما جامعا مانعا لما استطاع إلا أن يضع لها هذا الحد "الأمة المصرية هي التي تصدق كل ما يقال"، ولقد عرف منها كل أولئك اللاعبين بها والعابثين بميولها وأهوائها هذا الخلق وتلك الطبيعة, وكانوا قساة القلوب غلاظ الأكباد فنفذوا من تلك الآذان اللينة إلى تلك القلوب الطيبة, فما بلغوها حتى أخذوا يلعبون بها لعب الصبي بكرته، ويتلقفونها واحدا بعد واحد، فهي لا ترتفع حتى تتناولها الصوالجة، ولا تستقر حتى تدفعها الأقدام، كل يزعم أنه صديقها، وكل يزعم أنه يدلها على عدوها، والله يعلم أنهم أعداؤها قبل الأعداء، وخصومها أكثر من الخصماء، وأن السماء بصواعقها ورجومها، والأرض بزلزالها وبراكينها، أعجز من أن تبلغ منها ما بلغوه، أو تجني عليها ما جنوه. فيأيها الرؤساء والزعماء: أي خير تطلبون لهذه الأمة بعد أن فرقتموها شيعا، وصيرتموها أحزابا، وقطعتم أوصالها ووشائجها وألقيتم العداوة والبغضاء بين الرجل وولده، والرجل وأخيه، والجار وجاره، والصديق وصديقه، حتى ركب كل فرد من أفرادها رأسه ومضى لسبيله، وحتى تناكرت الوجوه، واستوحشت النفوس، وأصبحت ساحة البلد كساحة الحرب، لا ترى فيها إلا

نابا يقرع نابا، وعينا تنظر شزرا وصدرا يغلي حقدا، وقلبا يخفق خوفا وحذرا. كل غرض تزعمون أنكم تسعون إليه لإبلاغ هذه الأمة أمنيتها من السعادة والهناء، لا قيمة له بعد ما أضعتم عليها غرضها من الاتحاد والائتلاف، بل لا سبيل لها إلى بلوغ غرض من أغراضها إلا إذا كان الاتحاد قائدها إليه، ودليلها عليه. ليس هذا التنافر بين أفراد الأمة والتفرق بين جماعاتها حالة من الحالات الطبيعية التي لا بد منها، ولا مناص عنها، أو حادثة من الحوادث السماوية التي تحتملها النفوس، وتسكن إليها القلوب، وتطرف عليها العيون إجلالا للسماء، ورضاء للقضاء، وإنما هي صنعة أيديكم، وجناية أقلامكم، ولو أنكم تركتم هذه الأمة وشأنها، وخليتم بينها وبين فطرتها، ما كان يخطر لها ببال أن تتعادى وأن تتباغض ولا كان يوجد بين أفرادها من تحدثه نفسه بمقاطعة أخيه في سبيل صحيفة من الصحف أو حزب من الأحزاب. عجز الاختلاف الديني بين عنصري الأمة المصرية عن أن يفرق بين أوصالها، وأن يحل جامعتها، وعجز الاختلاف الجنسي أن يؤثر في جامعتها تأثير أمثاله في أمثالها من الجوامع الأخرى، فكان حريا أن يعجز الاختلاف السياسي، عما عجز عنه الاختلاف

الديني والجنسي، لولا أنكم كبرتم ما صغر من هذا الاختلاف وعظمتم منه ما حقر، وألححتم عليه إلحاحا شديدا حتى حولتموه إلى فتنة شنعاء، وغارة شعواء. أنا لا أطلب منكم رحمة بهذه الأمة ولا شفقة عليها، فإن قلوبا مثل قلوبكم التي تنطوي عليها جوانحكم أقسى من أن ينفذ فيها سيف الضارب، أو قلم الكاتب، وإنما أريد أن أحدث الأمة المصرية بكلمة لا أريد منها أن تأخذها مني عفوا, ولا أن تسلم بها قبل إنعام نظرها فيها، وعرضها على عقلها، فذلك ما لا أحبه لها، بل ذلك ما أنقمه منها. أيها المصريون، إني لأكتب إليكم كلمتي هذه وليس على وجه الأرض ولا تحت أديم السماء أمة أحب إلي منكم، وحسبكم من ذلك الحب أني أسمع بالكارثة تحل بكم، والنازلة تنال منكم، فيشغلني من أمركم ما لا يشغلني من أمر نفسي، وتجود عيني في سبيلكم بما لا تجود بأكثر منه في أحرج مواقفها، وأصعب مواطنها. بهذا القلم الذي يستمد مداده من هذا القلب المخلص إليكم أدعوكم إلى الاتحاد والائتلاف وأن تتبايعوا بين يدي الله والوطن على الحب والود والصفاء والإخلاص, وأن لا تجعلوا لهؤلاء المفسدين

منفذا ينفذون منه إلى قلوبكم، فإن طاف بكم طائف من شياطينهم فأعرضوا عنه وامضوا في سبيلكم، واحذروا أن تكونوا سيقة لرئيس أو لعبة في يد زعيم, وليكن كل منكم زعيم نفسه، ومسترشد قلبه، فنفوسكم أرحم بكم، وقلوبكم أصدق في نصيحتكم، فإن فعلتم ذلك نجوتم من ذل الانقياد، وسلكتم سبيل الرشاد، وأصبحتم وإذا أنتم أمة واحدة ترى رأيا واحدا وتحس إحساسا واحدا. واعلموا أن ما بينكم اليوم من الاختلاف في الرأي والاضطراب في المذهب إنما هو وهم من الأوهام الكاذبة، وخيال من الخيالات الباطلة، ولو رجعتم إلى أنفسكم وأصغيتم إلى أصوات قلوبكم، لتبين لكم أنه لا يوجد فرد من أفرادكم إلا وهو أحرص من أخيه على حب الوطن وإرادة الخير له. سدد الله طريقكم، وأنار لكم سبيلكم، وأفاض عليكم من رحمته وإحسانه ما يفرج كربتكم، ويكشف غمتكم والسلام.

النبوغ

النبوغ: من العجز أن يزدري المرء نفسه فلا يقيم لها وزنا، وأن ينظر إلى من هو فوقه من الناس نظر الحيوان الأعجم إلى الحيوان الناطق، وعندي أن من يخطئ في تقدير قيمته مستعليا، خير ممن يخطئ في تقديرها متدليا، فإن الرجل إذا صغرت نفسه في عين نفسه يأبى لها من أحواله وأطواره إلا ما يشاكل منزلتها عنده، فتراه صغيرا في علمه، صغيرا في أدبه، صغيرا في مروءته وهمته، صغيرا في ميوله وأهوائه، صغيرا في جميع شئونه وأعماله، فإن عظمت نفسه عظم في جانبها كل ما كان صغيرا في جانب النفس الصغيرة. ولقد سأل أحد الأئمة العظماء ولده وكان نجيبا, أي غاية تطلب في حياتك يا بني، وأي رجل من عظماء الرجال تحب أن تكونه؟ فأجابه: أحب أن أكون مثلك، فقال: ويحك يا بني لقد صغرت نفسك، وسقطت همتك، فلتبك على عقلك البواكي، لقد قدرت لنفسي يا بني في مبدأ نشأتي أن أكون كعلي بن أبي طالب

فما زلت أجد وأكدح حتى بلغت المنزلة التي تراها، وبيني وبين علي ما تعلم من الشأو البعيد والمدى المستحيل، فهل يسرك وقد طلبت منزلتي أن يكون ما بينك وبيني من المدى مثل ما بيني وبين علي. كثيرا ما يخطئ الناس في التفريق بين التواضع وصغر النفس، وبين الكبر وعلو الهمة، فيحسبون المتذلل المتملق الدنيء متواضعا، ويسمون الرجل إذا ترفع بنفسه عن الدنايا وعرف حقيقة منزلته من المجتمع الإنساني متكبرا، وما التواضع إلا الأدب، ولا الكبر إلا سوء الأدب، فالرجل الذي يلقاك متبسما متهللا، ويقبل عليك بوجهه ويصغي إليك إذا حدثته، ويزورك مهنئا ومعزيا، ليس صغير النفس كما يظنون، بل هو عظيمها؛ لأنه وجد التواضع أليق بعظمة نفسه فتواضع، والأدب أرفع لشأنه فتأدب. فتى كان عذب الروح لا من غضاضة ... ولكن كبرا أن يقال به كبر فإن بلغ الذل بالرجل ذي الفضل أن ينكس رأسه للكبراء ويترامى على أيديهم وأقدامهم لثما وتقبيلا، ويتبذل بمخالطة السوقة والغوغاء بلا ضرورة ولا سبب، ويكثر من شتم نفسه

وتحقيرها ورميها بالجهل والغباوة ليكون متواضعا، ويبصبص برأسه بصبصة الكلب بذنبه ليكون متأدبا، ويجلس في مدارج الطرق جلسة البائس المتسول، ويمشي مشية الخائف المبلس، فاعلم أنه صغير النفس ساقط الهمة لا متواضع ولا متأدب. إن علو الهمة ساقط إذا لم يخالطه كبر يزري به ويدعو صاحبه إلى التنطع وسوء العشرة كان أحسن ذريعة يتذرع بها الإنسان إلى النبوغ في هذه الحياة، وليس في الناس من هو أحوج إلى علو الهمة من طالب العلم؛ لأن حاجة الأمة إلى نبوغه أكثر من حاجتها إلى نبوغ سواه من الصانعين والمحترفين، وهل الصانعون والمحترفون إلا حسنة من حسناته، وأثر من آثاره، بل هو البحر الزاخر الذي تستقي منه الجداول والغدران. فيا طالب العلم كن عالي الهمة، ولا يكن نظرك في تاريخ عظماء الرجال نظرا يبعث في قلبك الرهبة والهيبة فتتضاءل وتتصاغر كما يفعل الجبان المستطار حينما يسمع قصة من قصص الحروب، أو خرافة من خرافات الجن، وحذار أن يملك اليأس عليك قوتك وشجاعتك فتستسلم استسلام العاجز الضعيف, وتقول من لي بسلم أصعد عليها إلى السماء حتى أصل إلى قبة الفلك فأجالس فيها عظماء الرجال.

يا طالب العلم أنت لا تحتاج في بلوغك الغاية التي بلغها النابغون من قبلك إلى خلق غير خلقك، وجو غير جوك، وسماء وأرض غير سمائك وأرضك، وعقل وأداة غير عقلك وأداتك، ولكنك في حاجة إلى نفس عالية كنفوسهم، وهمة عالية كهممهم، وأمل أوسع من رقعة الأرض وأرحب من صدر الحليم، ولا يقعدن بك عن ذلك ما يهمس به حاسدوك في خلواتهم من وصفك بالوقاحة أو بالسماجة، فنعم الخلق هي إن كانت السبيل إلى بلوغ الغاية، فامض على وجهك ودعهم في غيهم يعمهون. جناحان عظيمان يطير بهما المتعلم إلى سماء المجد والشرف، علو الهمة، والفهم في العلم، أما علو الهمة فقد عرفته، وأما الفهم في العلم فإليك الكلمة الآتية: العلم علمان، علم محفوظ وعلم مفهوم، أما العلم المحفوظ فيستوي صاحبه فيه مع الكتاب المرقوم، ولا فرق بين أن تسمع من الحافظ كلمة، أو تقرأ في الكتاب صفحة، فإن أشكل عليك شيء مما تسمع فانظر إن نطق الكتاب بشرح مشكلاته، نطق الحافظ بتفسير كلماته. الحافظ يحفظ ما يسمع؛ لأنه قوي الذاكرة، وقوة الذاكرة قدر مشترك بين الذكي والغبي والنابه والأبله؛ لأن الحافظة ملكة

مستقلة بنفسها عن بقية الملكات، وإنك لترى الشيخ الفاني الذي لا يميز بين الطفولة والهرم، والذي يبكي على الحلوى بكاء الطفل عليها، ويرتعد فرقا إذا سمع ابنته تخيف طفلها بأسماء الشياطين، يسرد لك من تواريخ شبيبته وكهولته ما لو دونته لكان تاريخا صحيحا ضخما مملوءا بالغرائب والنوادر، وقيل لأحد العلماء إن فلانا حفظ متن البخاري فقال: لقد زادت نسخة في البلد. ذلك هو السر العظيم في كثرة المتعلمين وقلة العاملين؛ لأن من فهم معلوما من المعلومات حق الفهم أشربته روحه، وخالط لحمه ودمه، ووصل من قلبه إلى سويدائه، وكان إحدى غرائزه لا يرى له بدا من العمل به رضي أم أبى. لولا أن العلم الديني اليوم علم محفوظ لما وجدت في العلماء من يجمع بين اعتقاد الوحدانية والتردد على أبواب الأحياء والأموات في مزاراتهم أو في مقابرهم يسألهم المعونة والمساعدة على قضاء الله وقدره، ولا وجدت بين الذين يحفظون قوله تعالى {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا} من يسند النفع والضرر إلى كل من سال لعابه، وتمزق إهابه، ولا وجدت في الناس كثيرا من ضعفاء العزيمة الذين يحفظون ما ورد على ألسنة النبوة والحكمة من مدح الفضائل وذم الرذائل، ثم لا تجد فرقا بينهم وبين العامة

في ارتكاب المنكرات، والنفور من الصالحات. لو كان العلم المحفوظ علما وهو على ما نشاهد ونعلم من سوء الأثر وقلة الجدوى ما ورد مدح العلم في كتاب ولا سنة ولا قدسه كاتب أو ترنم بمدحه شاعر، فإذا سمعت ذكر العلم فاعلم أنه العلم المفهوم لا المحفوظ، وإذا أردت أن تلقب بالعالم فلا تلقب به من يحفظ بل من يفهم ما يحفظ، وآية فهم المعلوم تأثر العالم به, وظهوره في حركاته وسكناته وترقرقه في شمائله ترقرق الصهباء في وجه شاربها، ولا تثق بالحافظ فيما ينقل إليك فربما مر بالمعلوم محرقا فأخذه على علاته، وأقبح ما عرفنا من أطواره أنه يجمع في حافظته بين النقيض ونقيضه، والغث والثمين، والجيد والزائف, فكأن ذاكرته حانوت عطار اختلطت فيها الأدوية الشافية بالعقاقير السامة. وجملة الأمر أن الحافظ البحت لا رأي له في مبحث فيسأل عن مذهب، ولا أثر لمعلوماته في نفسه فيقتدى به، ولا ذوق له في الفهم فيعتمد على شرحه وتأويله. أما العلم المفهوم فهو الواسطة التي إذا جمع المتعلم بينها وبين علو الهمة طار إلى المجد بجناحين، وكان له سبيل مختصر إلى منزلة العظماء ودرجة النابغين، والعلم سلسلة طويلة طرفاها في يدي آدم

أبي البشر وإسرافيل صاحب الصور1، ومسائله حلقات يصنع كل نابغة من نوابغ العلماء منها حلقة، ولن يبلغ المتعلم درجة النبوغ إلا إذا وضع في العلم الذي مارسه مسألة، أو كشف حقيقة، أو أصلح هفوة، أو اخترع طريقة، ولن يسلس له ذلك إلا إذا كان علمه مفهوما لا محفوظا، ولا يكون مفهوما إلا إذا أخلص المتعلم إليه، وتعبد له، وأنس به أنس العاشق بمعشوقه، ولم ينظر إليه نظر التاجر لسلعته، والمحترف إلى حرفته، فالتاجر يجمع من السلع ما ينفق سوقه، لا ما يغلو جوهره، والمحترف لا يهمه من حرفته إلا لقمة الخبز وجرعة الماء، أحسن أم أساء. لا يزور العلم قلبا مشغولا بترقب المناصب، وحساب الرواتب، وسوق الآمال وراء الأموال، كما لا يزور قلبا مقسما بين تصفيف الطرة، وصقل الغرة، وحسن القوام، وجمال الهندام، وطول الهيام، بالكأسين: كأس المدام، وكأس الغرام.

_ 1 المراد أن العلوم لا يتم تدوينها ولا تنحصر مسائلها ما دامت العقول تفكر, فالعمل دائب فيها من ابتداء الدنيا إلى انتهائها.

البائسات

البائسات: زرت منذ أيام حاكم بلدة في منزله فرأيت بين يديه فتاة في الثانية عشرة من عمرها بائسة عليلة تشكو ألما في عنقها، وجرحا في ذراعها، وهما في نفسها، وتدير في الحاضرين عيونا حائرة مضطربة كأنما ركبت على زئبق رجراج، فسألت ما شأنها فعلمت أن أهلها زوجوها وهي في هذه السن وعلى هذه السذاجة من رجل وحشي الخَلق والخُلق, ثم زفوها إليه فحاول أن يفترشها وهي على حالة لا تستطيع معها أن تلم بفراش فامتنعت عليه فأراد اغتصابها فعجز, فضربها هذا الضرب الذي رأينا آثاره في جسمها ففرت منه إلى منزل أهلها فنقموا منها هذا الإباء الذي سموه بلادة أو غفلة, وأعادوها إلى منزل زوجها كما يعاد المجرم الفار من السجن إلى سجنه مرة أخرى، وهنالك عاد زوجها إلى عادته معها فعادت هي إلى فرارها فعاد أهلها إلى قسوتهم وجبروتهم، فلما أعياها الأمر خرجت إلى الطريق العامة هائمة على وجهها لا تعرف لها مذهبا ولا مستقرا حتى رفع إلى ذلك الحاكم شأنها بعد أيام

فآواها إلى منزله ليخلصها من ذلك الموقف الذي كانت فيه بين ذراعي وجبهة الأسد، وما فرغ من هذه القصة حتى رفعت إليه حادثة أخرى تشبه الحادثة الأولى من جميع وجوهها إلا أن الزوج في هذه المرة خدع زوجه عن نفسها وسقاها مخدرا فعقرها كما عقر شقي ثمود ناقته من قبل. إن المرأة المصرية شقية بائسة ولا سبب لشقائها وبؤسها إلا جهلها وضعف مداركها. إنها لا تحسن عملا ولا تعرف باب مرتزق ولا تجد بين يديها سلعة تتجر بها وتقتات منها إلا قلب رجل، فإن استطاعت أن تمتلكه عاشت عيشا رغدا، أو لا فلا مفر لها من الشقاء من المهد إلى اللحد. ودون امتلاكها هذا القلب القاسي المتحجر أهوال عظام وعقبات لو كلف الرجل على ما به من قوة وأيد وسعة حيلة أن يجتاز عقبة واحدة منها لسقط بين اليأس والاستسلام. متى بلغت الفتاة سن الزواج سواء أكان ذلك على تقدير الطبيعة أو تقدير أولئك الجهلاء أولياء أمر تينك الفتاتين استثقل أهلها ظلها وبرموا بها وحاسبوها على المضغة والجرعة، والقومة والقعدة، ورأوا أنها عالة عليهم، وأن لا حق لها في العيش في

منزل لا يستفيد من عملها شيئا، وودوا لو طلع عليهم وجه الخاطب يحمل في جبينه آية البشرى بالخلاص منها. وإن قوما هذا مبلغ عقولهم من الفهم وقلوبهم من القسوة وهذه منزلة فلذات أكبادهم من نفوسهم لا يمكن بحال من الأحوال أن يفاوضوها في اختيار الزوج أو يحسنوا الاختيار لها. فإن دخلت هذا المنزل الجديد الذي لا تعرفه ولا تعرف شأنا من شئون صاحبه دخلت في دور الجهاد العظيم بينها وبين قلب الرجل. فإن كانت ذات جمال أو مال فقد استوثقت لنفسها, وأمنت آلام الهجر وفجائع التطليق، وإلا فهي تقاسي كل صباح ومساء في الحصول على الحسن المجلوب، والجمال المصنوع، آلاما جثمانية تطفئ نور شبيبتها, وتذبل زهرة حياتها، وتلاقي في سبيل مصانعة الزوج ومداراته والبكاء في موضع الابتسام إن ابتسم، والابتسام في موضع البكاء إن بكى، ما يجعل أخلاقها فضاء مملوءا بالكذب والكيد، والخبث والرياء، وهي على ذلك تنتظر من فم زوجها في كل ساعة كلمة الطلاق، كما ينتظر القاتل من فم قاضيه كلمة الإعدام. ليست كلمة الإعدام من قبيل الاستعمال المجازي فما أنس

لا أنسى ليلة زرت فيها صديقا لي فرأيت عند باب منزله امرأة بائسة ليس وراء ما بها من الهم غاية، وكأنما هي الخلال رقة وذبولا، ووراءها صبية ثلاث يدورون حولها، ويجاذبونها طرف ردائها، فتسبل فضل مئزرها على مآقيها المقرحة رأفة بهم أن يلموا ببعض شأنها فيبكوا لبكائها، فسألتها عن شأنها فأخبرتني أنها مطلقة من زوجها, وأن بيدها حكما من المحكمة الشرعية بالنفقة لأولادها وقد مر عليها زمن طويل و"الإدارة" تماطلها في إنفاذه، فجاءت إلى هذا الصديق تستعين به على أمرها، ثم أخذت تشرح من حالها وحال أطفالها في مقاساة الشدة ومعالجة القوت، ما أسال شئوننا، وصعد زفراتنا، وأمسكنا له أكبادنا خشية أن تصدعا. فخففت أنا وصديقي شيئا من آلامها فانصرفت، وفي صباح تلك الليلة سمعنا أن امرأة فقيرة ماتت بحمى دماغية فسألنا عنها فعلمنا أنها صاحبتنا بالأمس, وأنها ماتت شهيدة الزوجية الفاسدة. أيها الرجل، إن كنت تعتقد أن المرأة إنسان مثلك وهبها الله مدارك مثل مداركك، واستعدادا مثل استعدادك، فعلمها كيف تأكل لقمتها من حرفة غير هذه الحرفة النكدة، وإلا فأحسن إليها وارحمها كما ترحم كلبك وشاتك.

إن كنت زوجا فلا تطردها من منزلك بعد أن تقضي مأربك منها كما تصنع بنعلك التي تلبسها، وإن كنت أبا فهذه فلذة كبدك لا تضق بها ذرعا ولا تلق بها في حجر وحش ضار يأكل لحمها، ويمتص دمها، ثم يلقي إليك بعظامها. ويا أيها المحسنون، والله لا أعرف لكم بابا في الإحسان تنفذون منه إلى عفو الله ورحمته أوسع من باب الإحسان إلى المرأة. افتحوا لها المكاتب، وابنوا لها المدارس, وعلموها من العلم ما يرفع همتها، ويرقي آدابها، ومن الصناعة ما يناسب قوتها, وما يشبع جوعتها، إن نبا بها دهر، أو تجهم لها حظ. علموها لتجعلوا منها مدرسة يتعلم فيها أولادكم قبل المدرسة، وأدبوها ليتربى في حجرها المستقبل العظيم، للوطن الكريم.

البيان

البيان: قال لي أحد الرؤساء ذات يوم: "إني لتأتيني أحيانا رقاع الاستعطاف فأكاد أهملها لما تشتمل عليه من الأساليب المنفرة لولا أن الله تعالى يلهمني نيات كاتبيها وأين يذهبون، ولولا ذلك لكنت من الظالمين". ذلك ما يراه القارئ في كثير من المخطوطات التي يخطها اليوم كاتبوها في الصحف ورقاع الشكوى والكتب الخاصة والمؤلفات العامة. هزل في موضع الجد، وجد في موضع الهزل، وإسهاب في مكان الإيجاز، وإيجاز في مكان الإسهاب، وجهل بفرق ما بين العتاب والتأنيب، والانتقام والتأديب، والاستعطاف والاستخفاف، وقصور عن إدراك منازل الخطاب ومواقفه بين السوقة والأمراء، والعلماء والجهلاء، حتى إن الكاتب ليقيم في الشوكة يشاكها، مناحة لا يقيمها في الفاجعة يفجع بها، ويكتب في الحوادث الصغار، ما يعجز عن كتابة مثله في الحوادث

الكبار، ويخاطب صديقه بما يخاطب به عدوه، ويناجي أجيره، بمثل ما يناجي به أميره. ذهب الناس في معنى البيان مذاهب متفرقة واختلفوا في شأنه اختلافا كثيرا ولا أدري علام يختلفون، وأين يذهبون، وهذا لفظه دال على معناه دلالة واضحة لا تشتبه وجوهها، ولا تتشعب مسالكها. ليس البيان إلا الإبانة عن المعنى القائم في النفس وتصويره في نظر القارئ أو مسمع السامع تصويرا صحيحا لا يتجاوزه ولا يقصر عنه، فإن علقت به آفة من تينك الآفتين فهو العي والحصر. جهل البيان قوم فظنوا أنه الاستكثار من غريب اللغة ونادر الأساليب فأغصوا بها صدور كتاباتهم وحشوها في حلوقها حشوا يقبض أوداجها ويحبس أنفاسها، فإذا قدر لك أن تقرأها وكنت ممن وهبهم الله صدرا رحبا، وفؤاد جلدا، وجنانا يحتمل ما حمل عليه من آفات الدهر ورزاياه، قرأت متنا مشوشا من متون اللغة، أو كتابا مضطربا من كتب المترادفات. وجهله آخرون فظنوا أنه الهذر في القول والتبسط في الحديث واقعا ذلك من حال الكلام ومقتضاه حيث وقع، فلا يزالون يجترون بالكلمة اجترار الناقة بجرتها، ويتمطقون بها

تمطق الشفاه بريقتها، حتى تسف، وتتبذل، وحتى ما تكاد تسيغها الحلوق، ولا تطرف عليها العيون، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. يخيل إلي أن الكتاب في هذا العصر يكتبون لأنفسهم أكثر مما يكتبون للناس، وأن كتابتهم أشبه شيء بالأحاديث النفسية التي تتلجلج من نفس الإنسان حينما يخلو بنفسه، ويأنس بوحدته، فإني لا أكاد أرى بينهم من يضع فمه على أذن السامع وضعا محكما، وينفث في روعه ما يريد أن ينفث من خواطر قلبه، وهواجس نفسه. البيان صلة بين متكلم يفهم، وسامع يفهم، فبمقدار تلك الصلة من القوة والضعف تكون منزلة الكاتب من الرفعة والسقوط، فإن أردت أن تكون كاتبا فاجعل هذه القاعدة في البيان قاعدتك، واحرص الحرص كله على أن لا يخدعك عنها خادع فتسقط مع الساقطين. ما أصيب البيان العربي بما أصيب به إلا من ناحية الجهل بأساليب اللغة العربية، ولا أدري كيف يستطيع الكاتب أن يكون كاتبا عربيا قبل أن يطلع على أساليب العرب في أوصافهم ونعوتهم، ومدحهم وهجوهم، ومحاوراتهم ومساجلاتهم، وقبل

أن يعرف كيف كانوا يعاتبون ويؤنبون، ويعظون وينصحون، ويتغزلون وينسبون، ويستعطفون ويسترحمون، وبأي لغة يحاول أن يكتب ما يريد إن لم يستمد تلك الروح العربية استمدادا يملأ ما بين جوانحه حتى يتدفق مع المداد من أنبوب يراعه على صفحات قرطاسه. إني لأقرأ ما كتبه الجاحظ وابن المقفع والصاحب الصابي والهمذاني والخارزمي وأمثالهم من كتاب العربية الأولى, ثم أقرأ ما خطه هؤلاء الكاتبون في هذه الصحف والأسفار فأشعر بما يشعر به المنتقل دفعة واحدة من غرفة محكمة نوافذها، مسبلة ستورها، إلى جو يسيل قرا وصرا، ويترقرق ثلجا وبردا. ذلك لأني أقرأ لغة لا هي بالعربية فأغتبط بها، ولا هي بالعامية فأتفكه بهذيانها ومجونها. رأيت أكثر الكاتبين في هذا العصر بين رجلين، رجل يستمد روح كتابته من مطالعة الصحف وما يشاكلها في أساليبها من المؤلفات الحديثة والروايات المترجمة، وربما كان كتاب تلك المخطوطات أحوج من قارئيها إلى الاستمداد، فإذا علقت بنفسه تلك الملكة الصحفية ألقى بها في روع قارئ كتابته أدون مما أخذها فيدلي به آخذها كذلك إلى غيره أسمج صورة وأكثر

تشويها، وهكذا حتى لا يبقى فيها من روح العربية إلا كما يبقى من الأطلال البالية بعد كر الغداة ومر العشي، وطالب قصارى ما يأخذ عن أستاذه نحو اللغة وصرفها وبديعها وبيانها ورسمها وإملاؤها ومفرداتها ومتونها ومؤتلفاتها ومختلفاتها وغير ذلك من آلاتها وأدواتها، أما روحها وجوهرها فأكثر أساتذة البيان في المدارس علماء غير أدباء، وحاجة طالب اللغة إلى أستاذ يفيض عليه روح اللغة ويوحي له بسرها، ويفضي إليه بلبها وجوهرها، أكثر من حاجته إلى أستاذ يعلمه وسائلها وآلاتها، وعندي أن لا فرق بين أستاذ الأخلاق وأستاذ البيان، فكما أن طالب الأخلاق لا يستفيدها إلا من أستاذ كملت أخلاقه، وحسنت آدابه، كذلك طالب البيان لا يستفيده إلا من أستاذ مبين. ولا يقذفن في روع القارئ أني أحاول استلاب فضل الفاضلين أو أني أنكر على فصحاء هذه اللغة ما وهبهم الله من نعمة البيان، فما هذا أردت، ولا إليه ذهبت، وإنما أقول إن عشرة من الكتاب المجيدين، وخمسة من الشعراء البارعين، قليل في بلد يقولون عنه إنه بلد اللغة العربية اليوم ومرعاها الخصيب.

وبعد فإني لا أرى لك يا طالب البيان العربي سبيلا إليه إلا مزاولة المنشئات العربية منثورها ومنظومها, والوقوف بها وقوف المتثبت المتفهم لا وقوف المتنزه المتفرج، فإن رأيت أنك قد شغفت بها، وكلفت بمعاودتها والاختلاف إليها، وأن قد لذ لك منها ما يلذ للعاشق من زورة الطيف في غرة الظلام، فاعلم أنك قد أخذت من البيان بنصيب فامض لشأنك ولا تلو على شيء مما رواءك حتى تبلغ من طلبتك ما تريد. ولا تحدثنك نفسك أني أحملك على مطالعة المنشئات العربية لأسلوب تسترقه، أو تركيب تختلسه، فإني لا أحب أن تكون سارقا ولا مختلسا، على أنك إن ذهبت إلى ما ظننت أني أذهب إليه في نصيحتك لم يكن دركك دركا، ولا بيانك بيانا، وكان كل ما أفدته1 من ذلك أن تخرج للناس من الباين صورة مشوهة لا تناسب بين أجزائها، وبردة مرقعة لا تشابه بين ألوانها، وإنما أريد أن تحصل لنفسك ملكة في البيان راسخة تصدر عنها آثارها بصورة واحدة حتى لا يكون شأنك شأن أولئك الذين قد علقت ذاكرتهم بطائفة من منثور العرب ومنظومها فقنعوا بها, وظنوا أنهم قد بلغوا من اللغة ما أرادوا،

_ 1 أفاد واستفاد بمعنى.

فإذا جد الجد وأرادوا أنفسهم على الإفصاح عن شيء من خلجات نفوسهم رجعوا إلى تلك المحفوظات ونبشوا دفائنها، فإن وجدوا بينها ما يدل على المعنى الذي يريدونه انتزعوه من مكانه انتزاعا، وحشروه في كتابتهم حشرا، وإلا فإما أن يتبذلوا باستعمال التراكيب الساقطة المشنوعة، أو يهجروا تلك المعاني إلى أخرى غيرها لا علاقة بينها وبين سابقاتها ولاحقاتها، فهم لا بد لهم من إحدى السوأتين، إما فساد المعاني واضطرابها، أو هجنة التراكيب وبشاعتها. فاحذر أن تكون واحدا منهم أو أن تصدق ما يقولونه في تلمس العذر لأنفسهم من أن اللغة العربية أضيق من أن تتسع لجميع المعاني المستحدثة، وأنهم ما لجئوا إلى التبذل في التراكيب إلا لاستحالة الترفع فيها، فاللغة العربية أرحب صدرا من أن تضيق بهذه المعاني العامة المطروقة بعدما وسعت من دقائق العلوم ما لا قبل لغيرها باحتماله وقدرت من هواجس الصدور وأحاديث النفوس وسرائر القلوب على الذي عيت به اللغات القادرات. وليس الشأن في عجز اللغة وضيقها وإنما الشأن في عجز المشتغلين بها عن الاضطراب في أرجائها، والتغلغل في أثنائها، واقتناعهم من بحرها بهذه البلة التي لا تثلج صدرا، ولا تشفي أواما

وكل ما يعد عليها من الذنوب أنها لا تشتمل على أعلام لهذه الهنات المستحدثة, وهو في مذهبي أقل الذنوب جرما، وأضعفها شأنا، ما دمنا نعرف وجه الحيلة في علاجه بالاشتقاق إن وجدنا السبيل إليه، أو التعريب والوضع إن عجزنا عن الاشتقاق، فالأمر أهون من أن نحار فيه، وأصغر من أن نقضي أعمارنا في الوقوف ببابه، والأخذ والرد في شأنه، والمساجلة والمناظرة في اختيار أقرب الطرق إليه، وأجداها عليه. واعلم أنه لا بد لك من حسن الاختيار فيما تريد أن تزاوله من المنشئات العربية فليس كل متقدم ينفعك، ولا كل متأخر يضرك، ولا أحسبك إلا واقفا بين يدي هذا الأمر موقف الحيرة والاضطراب؛ لأن حسن الاختيار طلبة تتعثر بين يديها الآمال، وتقطع دونها أعناق الرجال، فالجأ في ذلك إلى فطاحل الأدباء الذين تعرف ويعرف الناس منهم ذوقا سليما، وقريحة صافية، وملكة في الأدب، كأنها مصفاة الذهب، فإن فعلت وكنت ممن وهبهم الله ذكاء وفطنة وقريحة خصبة لينة صالحة لنماء ما يلقى فيها من البذور الطيبة عدت وبين جنبيك ملكة في البيان زاهرة يتناثر منها منثور الأدب ومنظومه تناثر الورود والأنوار، من حديقة الأزهار.

السريرة

السريرة: لو كشف للإنسان عن سريرة الإنسان لرأى منها ما يرى من غرائب هذا الكون وعجائبه أعمى أدركته رحمة الله بعد طول محنته فارتد بصيرا. تتراءى لك السريرة في ظاهرها كأنها أديم السماء، أو صفحة الماء، فإن بدا لك أن تكتنه باطنها فإنك غير بالغ من ذلك مأربك إلا إذا استطعت أن تخترق السماء فترى ما وراءها من بدائع الكائنات، وتغوص في أعماق الماء فتشاهد ما في باطنه من عجائب المخلوقات. يعجز المرء عن رؤية الهباء فيتريث ريثما تمج الشمس لعابها من نافذة غرفته فإذا هو مائج وضاء يروح ويغدو رواح السانحات، وغدو البارحات، ويعجز عن رؤية الجراثيم فيستعين عليها بمنظار يصورها في نظره تصويرا يخيل إليه أنه يكاد يلمسها بيمينه، ويعجز عن اكتناه السريرة فلا يجد إلى الوصول إليها سبيلا. وقف آدم أمام باب السريرة يوم الشجرة يعالج فتحه فاستعصى

عليه، ثم وقف بنوه من بعده موقفه فعجزوا عجزه، فلج بهم الشوق إليها لجاجا طار بعقولهم، وذهب بألبابهم، فتراموا على أقدام المنجمين والعرافين لثما وتقبيلا، وابتدروا النصب والتماثيل ركوعا وسجودا، وهاموا بزاجرات الطير والضوارب بالحصى هيام الإبل العطاش بمنازل الماء يطلبون ما وراء السريرة, والسريرة كنز مرصود لا تنجع فيه النفثات، ولا تجدي معه العزائم والرقي. إنك لترى الرجل يتلألأ جبينه تلألؤ الكوكب في جنح ليل مبرد، ويفتر ثغره عن الأنوار، افترار الأكمام عن الأزهار، فتحسده على نعمته وسعادته، وتتمنى أن لو منحك الله ما منحه من هناء ورغد، وإن بين جنبيه لو تعلم هما يعتلج، وقلبا يدب فيه اليأس دبيب الآجال في الأعمار، وكبدا مقروحة لو عرضها في سوق الهموم والأحزان، ما وجد من يبتاعها منه بأبخس الأثمان. وإنك لترى الصديق فيعجبك منه حديثه الحلو وثغره المبتسم، ويروقك من وده كلفه بك، وإعظامه لك، وإعجابه بشمائلك ومحاسنك، وتشيعه لآرائك ومذاهبك، ولو كشف لك من نفسه ما كشف له منها لوددت أن لو استطعت أن تبتاع أقدام السليك1 بجميع ما تملك يمينك ففرت من وجهه فرارك

_ 1 السليك رجل معروف بسرعة العدو عند العرب

من وجه الأسود السالخ1 ووددت بجدع الأنف أن لا يصافح وجهك وجهه من بعدها حتى في جنة النعيم. لولا ما أسدل الله دون السرائر من الحجب لبدلت الأرض غير الأرض، وكان للكون نظام غير هذا النظام، وللتاريخ صفحات غير هذه الصفحات. لو علم الجند أنهم لا يحاربون إلا ليضعوا "نيشانا" في صدر القائد، أو جوهرة في تاج الملك، وأنهم كثيرا ما يكونون مخدوعين في وقائعهم ومواقفهم بأشراك الوطنية وحبائل الدين، لما دالت الدول ولا انتقلت التيجان، ولضعف ظهر الأرض عن حمل ما فوقه من بني الإنسان، ولو علم جهلة المتدينين أن رؤساء الأديان كثيرا ما يشترون عقولهم وأموالهم بالقليل التافة من هذه المدهشات الدينية، والأحلام النفسانية، ويملئون قلوبهم بالمخاوف والمزعجات ليبيعوهم الأمن والسلامة بثمن غال لضعفت أصوات النواقيس، وقصرت قامات المنائر، ولهلك أرباب الطيالس والقلانس جوعا وسغبا، ولأصبحت حبات السبح أكسد في سوق الأديان من بعر النوق في سوق الأنعام، ولو علم الابن أن أباه يحبه لما يرجوه من منفعته في شيخوخته، وأنه لا يعجب إلا

_ 1 ذكر الحيات.

بنفسه في إعجابه وثنائه عليه، ولا يفخر إلا بقوة عقله وحسن تدبيره في فخره بذكائه ونبوغه، لضعفت صلة الود بينه وبينه، ولما كانت بين حلقات الأنساب هذه الوشائج وتلك الأواصر، ولو علمت الزوجة أن زوجها يحب منها جسمها أكثر مما يحب نفسها، وأنه يتربص بها الدوائر ويعد ليومها الساعات والأيام، لما وثقت بوده، ولا اطمأنت لعهده، ولما كان للمنازل سقوف تظل الأسرة والمهاد.

زيد وعمرو

زيد وعمرو: أراد داود باشا أحد الوزراء السالفين في الدولة العثمانية أن يتعلم اللغة العربية فأحضر أحد علمائها, وأنشأ يتلقى عليه دروسها عهدا طويلا فكانت نتيجة علمه ما ستراه. سأل شيخه يوما ما الذي جناه عمرو من الذنوب حتى استحق أن يضربه زيد كل يوم ويقتله تقتيلا ويبرح به هذا التبريح المؤلم, وهل بلغ عمرو من الذل والعجز منزلة من يضعف عن الانتقام لنفسه، وضرب ضاربه ضربة تقضي عليه القضاء الأخير؟ سأل شيخه هذا السؤال وهو يتحرق غيظا وحنقا ويضرب الأرض بقدميه, فأجابه الشيخ: ليس هناك ضارب ولا مضروب، وإنما هي أمثلة يأتي بها النحاة لتقريب القواعد من أذهان المتعلمين، فلم يعجبه هذا الجواب, وأكبر أن يعجز مثل هذا الشيخ عن معرفة الحقيقة في هذه القضية فغضب عليه وأمر بسجنه، ثم أرسل إلى نحوي آخر فسأله كما سأل الأول فأجابه بنحو جوابه فسجنه كذلك، ثم ما زال يأتي بهم واحدا بعد واحد حتى امتلأت

السجون وأقفرت المدارس وأصبحت هذه القضية المشئومة الشغل الشاغل له عن جميع قضايا الدولة ومصالحها، ثم بدا له أن يستوفد علماء بغداد فأمر بإحضارهم فحضروا وقد علموا قبل الوصول إليه ماذا يراد بهم، وكان رئيس هؤلاء العلماء بمكانة من الفضل والحذق والبصر بموارد الأمور ومصادرها، فلما اجتمعوا في حضرة الوزير أعاد عليهم ذلك السؤال بعينه, فأجابه الرئيس: إن الجناية التي جناها عمرو يا مولاي يستحق أن ينال لأجلها من العقوبة أكثر مما نال، فانبسطت نفسه قليلا وبرقت أسارير وجهه, وأقبل على محدثه يسأله: ما هي جنايته؟ فقال له: إنه هجم على اسم مولانا الوزير واغتصب منه الواو فسلط النحويون عليه زيدا يضربه كل يوم جزاء وقاحته وفضوله "يشير إلى زيادة واو عمرو وإسقاط الواو الثانية من داود في الرسم" فأعجب الوزير بهذا الجواب كل الإعجاب، وقال لرئيس العلماء: أنت أعلم من أقلته الغبراء، وأظلته الخضراء، فاقترح علي ما تشاء، فلم يقترح عليه سوى إطلاق سبيل العلماء المسجونين، فأمر بإطلاقهم وأنعم عليهم وعلى علماء بغداد بالجوائز والصلات. أحسن داود باشا في الأولى وأساء في الأخرى، ولو كنت مكانه لما أطلقت سبيل هؤلاء النحاة من سجنهم حتى آخذ عليهم

عهدا وثيقا أن يتركوا هذه الأمثلة البالية إلى أمثلة جديدة مستطرفة تؤنس نفوس المتعلمين وتذهب بوحشتهم وتحول بينهم وبين النفور من منظر هذه الحوادث الدموية بين زيد وعمرو، وخالد وبكر. لا ينال المتعلم حظه من العلم إلا إذا استطاع تطبيقه على العمل والانتفاع به في مواضعه ومواطنه التي وضع لأجلها، ولن يستطيع ذلك إلا إذا استكثر له معلمه من الأمثلة والشواهد الملائمة لقواعد ذلك العلم, وافتن له في إيرادها افتنانا يقرب إلى ذهنه تلك الصلة بين العلم والعمل ويسهل له الوصول إلى القدرة على تلك المطابقة، وإن أكثر المتعلمين في مدرسة الأزهر أبعد الناس عن القدرة على المطابقة لما حال بينهم وبين ذلك من الوقوف عند المثل الواحد لكل قاعدة من قواعد العلم، فلو أنك أردت أحدهم على أن يخرج في المنطق عن الحيوانية والناطقية، وفي النحو عن ضرب زيد عمرا وقتل خالد بكرا، وفي البيان عن تشبيه زيد بالبدر واستعارة الأظافر للمنية، وفي الصرف عن فعلل وافعوعل، لوجدت في نفسه من الجهد والمشقة وفي لسانه من العي والحصر ما يحزنك على أعوام طوال قضاها بين المحابر والدفاتر، ثم لم يحصل من بعدها على طائل.

علام يتعلم الطالب النحو والصرف إن عجز عن أن يقرأ صحيحا في كل كتاب وكل صحيفة، وعلام يتعلم علوم البلاغة إن عجز عن معرفة أسرار الكلام وأوجه بلاغته وفهم المراد من مختلفات أساليبه وعن البيان بيانا فصيحا يضمنه ما يشاء من أغراضه ومقاصده، وعلام يتعلم المنطق إن عجز عن التمييز بين فاسد القضايا وصحيحها في كل مناحيه ومذاهبه، وإن لم يكن الموضوع الإنسان، ولا المحمول الحيوان الناطق. عجيب جدا أن يفهم الصانع الأمي أن العلم للعمل فلا يتعلم النجارة إلا ليصنع الأبواب والصناديق، والحدادة إلا ليصنع الأقفال والمفاتيح، وأن يجهل المتعلم هذه القضية الضرورية, فلا يهمه من العلم إلا الاستكثار من المعلومات والقواعد, وإن عجز بعد ذلك عن التصرف فيها، والانتفاع بها في مواطنها. ما دامت مدرسة الأزهر على هذه الحال من أسلوب التعليم العقيم فليس بمقدور لها في مستقبل الأيام أن ينبغ منها العلماء الذين تستطيع أن تنتفع بهم الأمة انتفاع أمثالها بأمثالهم في مشارق الأرض ومغاربها، فويل للعلم من العلماء.

أبو الشمقمق

أبو الشمقمق 1: إن كثيرا من الفقراء لم تمتد يد الفقر إلى رءوسهم، كما امتدت إلى جيوبهم، فهم يدركون كما يدرك الأغنياء، ويفهمون كما يفهمون، وكما أن في أغنياء الجيوب فقراء الرءوس، كذلك في فقراء الجيوب أغنياء الرءوس. ولقد جلست في منزلي صبيحة يوم مع قوم من الماديين المستهترين الذين ملأ المال فراغ أذهانهم حتى أنساهم كل شيء وأنساهم أنفسهم قبل ذلك، فأخذوا يتجاذبون أسلاك الأحاديث الذهبية ما بين تاجر يعجب بصفقته الرابحة، وزارع يفخر بقلة ما أعطى وكثرة ما أخذ، وآخر يعلل نفسه بكثرة الغلات وارتفاع الأسعار، والكل متفقون على أن السعادة التي أظلتهم أجنحتها في هذا العهد الأخير عهد العدل عهد الحرية والمساواة عهد الترقي والعمران, هي أشبه شيء بسعادة المتقين في جنات النعيم. كل هذا وأبو الشمقمق جالس ناحية يخزر طرفه، ويهز

_ 1 هو في الأصل رجل أديب من أدباء المولدين كان شديد الفقر.

رأسه، ويصعد أنفاسه، ويمضغ أضراسه، ويئن من قلبه أنينا خفيا يكاد يسمع فيه السامع قول الشاعر: فيالك بحرا لم أجد فيه مشربا ... على أن غيري واجد فيه مسبحا فما هو إلا أن قضوا لبانتهم من الكلام المملول والحديث المعاد حتى قاموا يطيرون مع الآمال، وراء الأموال، فأشرت إلى أبي الشمقمق أن يتخلف ففعل فسألته: ما لك لم تشترك معنا فيما كنا فيه؟ فأجاب: إني أكره الفضول في الحديث, وقد فرق المقدار بيني وبينكم في المال، فلا أشترك معكم في المقال، فقلت: ألا يعجبك يا أبا الشمقمق حديث النهضة الحديثة التي نهضتها الأمة المصرية في العهد الأخير, وأنت فرد من أفرادها، وجزء من أجزاء جسمها، فنهوضها نهوضك وسقوطها سقوطك، والأمة كما تعلم هي الفرد المكرر والواحد الدائر، فأنت الأمة والأمة أنت، فقال: والله لا أدري هل تكلمني بلسان الصوفية ولست بصوفي، أم بلغة الفلاسفة ولا أفهم للفلسفة معنى، وكأنك تقصدني بالفرد المكرر والواحد الدائر، فإن كنت تريد أني فرد مكرر كثير الأشباه والأمثال في العوز والفاقة، وواحد لا سند لي ولا عضد، ودائر في مدارج الطرق ومعابر السبل، فقد أصبت وأحسنت، وإن كنت تريد معنى غير ذلك، فأنا

لا أفهم إلا كذلك، فهل لك أن تعفيني من هذه المعميات, وتزن كلامك على قدر عقلي وتحدثني فيما يتناوله سمعي وبصري. فقلت: أنا لم أخرج بك عن المألوف المعروف، ولا أريد إلا أن الأمة ليست في الخارج شيئا غير أفرادها فإذا سعدت أو شقيت فالسعداء والأشقياء أبناؤها، وحسبك أن ترى تقدم الأمة المصرية في ثروتها وعمرانها، وبذخها وترفها، وكثرة ناطقها وصامتها، فتسعد بسعادتها وتسر بسرورها، فقال: إن لم تبين لي سهمي من هذه السعادة ونصيبي من ذلك الارتقاء فلا أصدق سعادة ولا أتصور ارتقاء، وما دمت أرى أن لي هوية مستقلة من هوية سواي من السعداء، ويدا تقصر عما يتناولونه، وبطنا لا يمتلئ بما تمتلئ به بطونهم، وما دمت لا أرى واحدا بينهم يلبس معي ردائي الممزق، وقميصي المخرق، ويقاسمني همي، ويشاطرني فقري، فهيهات أن أسعد بسعادتهم، وأسر بسرورهم، وهيهات أن أفهم معنى قولك: أنت الأمة والأمة أنت، فقلت: إن الغيث إذا نزل يسقي الخصيب والجديب، والنجد والوهد، وينتظم من الأرض الميت والحي، فقال: كل سماء فيها هذا الغيث إلا سماء مصر، فإني أراه؛ كبدر أضاء الأرض شرقا ومغربا ... وموضع رجلي منه أسود مظلم

ما لي وللروض الذي لا أستنشق روحه وريحانه، والقصر الذي لا أدخله مالكا ولا زائرا، وهب أن الطرق مفروشة بالحرير والديباج لا بالحصى والمدر فهل أبقى لي الدهر من حاسة اللمس شيئا فأميز بين خشن الملمس وناعمه، ومعوج الأرض ومستقيمها، وهبني إذا مشيت خضت في بحر مائج بأنوار الكهرباء فهل يغني ذلك عني شيئا، وهل يكون نصيبي منه إلا انكشاف سوءتي ورثاثتي لأعين الناظرين، ولقد حبب إلي الظلام حتى تمنيت دوامه لألبس من ثوبه الطبيعي ما يكفيني مئونة الرتق والفتق، والتمزيق والترقيع، وبعد فما هو الارتقاء الذي تزعمه وتزعم أنه يعنيني ويشملني، هل ترقت غرائز الإحسان في نفوس المحسنين، وهل خفقت قلوب الأغنياء رحمة بالفقراء، فقلت: نعم، أما ترى الأموال التي يتبرع بها الأغنياء للجمعيات الخيرية, والتي ينفقها المحسنون على بناء المدارس والمكاتب والمستشفيات. فقال: إن هذه التي تسميها مكارم، لا يسميها أصحابها إلا مغارم، ألجأهم إليها التملق للكبراء، وحب التقرب من الرؤساء، والطمع في الزخرف الباطل، والجاه الكاذب. ما لي وللمدارس والمستشفيات وأنا جوعان خبز لا جوعان علم، ولا مرض عندي إلا مرض الفاقة، فهل أجد في المدارس

خبزا أو في المستشفيات دواء كذلك الدواء الذي وصفه أحد الأطباء الكرماء لرجل جائع دخل عليه وشكا إليه مرضا فعرف سر مرضه فأعطاه علبة وكتب عليها "يؤخذ منها عند اللزوم" فلما ذهب بها الفقير وفتحها وجد فيها عشرة دنانير. أنا رجل ضعيف البصر ضعيف القوة كما ترى، فلا قدرة لي على العمل، وعندي صبية صغار ليس بينهم من يستطيع عملا أو يحسن صنعا، ولقد كان لي في الزمن الذي تذمونه، والعهد الذي تنقمون عليه، منفسح عظيم في منازل المحسنين، ومورد نمير من صدقاتهم وهباتهم، وظل ظليل من تحنن الأغنياء ورحمتهم بالفقراء البائسين، أما اليوم فإني أبيت طاويا، وأصبح شاكيا، وأغدو راجيا، وأروح يائسا. وهنا أرسل من جفنيه دمعة ليست بأول دمعة بلل بها رداءه, ولكنها أحر من سابقاتها؛ لأنه لم يبك في غير خلوته غير هذه المرة, ثم نهض ومد يده إلي مودعا فمسحت بيميني دمعة واحدة من دموعه الكثيرات.

دورة الفلك

دورة الفلك 1: أيها القصر: أين الكوكب الزاهر الذي كان يتنقل في أبراجك، أين النسر الطائر الذي كان يحلق في أجوائك، أين الملك القادر الذي كان يطلع شمسا في صباحك، وبدرا في مسائك. أين الأعلام والبنود تخفق في شرفاتك، والقواد والجنود تخطر في عرصاتك، أين الشفاه التي كانت تلثم ترابك، والأفواه التي كانت تقبل أعتابك، والرءوس التي كانت تطرق لهيبتك، والقلوب التي كانت تخفق لروعتك. أين الصوت الذي كان يجلجل فيقرع أذن الجوزاء. ويهدر فتتلفت عيون السماء، أين الفلك الذي كان يدور بالسعد والنحس، والنعيم والبؤس، والرفع والخفض، والإبرام والنقض. كيف استطاع الدهر أن يمد يده إلى شملك فيبدده، وجمعك فيفرقه، وسمائك فيكور شموسها، وأرضك فيزعج أنيسها. أين كانت أسوارك وأبوابك، وحراسك وحجابك، وكيف

_ 1 كتبت بمناسبة سقوط السلطان عبد الحميد.

عجزت أن تمتنع على القضاء، وتصد عن نفسك عادية البلاء ولم أر مثل القصر إذ ريع سربه ... وإذ ذعرت أطلاؤه وجآذره تحمل عنه ساكنوه وهتكت ... على عجل أستاره وستائره أيها السجن: حل بأرجائك اليوم ملك تضيق به الدنيا فكيف وسعته، وتعجز عن احتماله قلل الجبال الرواسي فكيف احتملته. رفقا به لا تزعجه ولا تحرج صدره، وضم جانحتيك عليه كما تضم على القلب حنايا الضلوع، واعطف عليه عطف المرضعات على الرضيع، ارحم هذا الجلال الذاهب، والعز الزائل، والرأس الذي بيضته حوادث الدهور، والظهر الذي قوسته أيدي المقدور. أيها الدهر: ألا تستطيع أن تنام عن هذا الإنسان لحظة واحدة، ألا تستطيع أن تسقيه كأس السرور خالصة لا يمازجها كدر ولا يشوبها عناء. إن كنت تريد أن تسلبه فلم أعطيته، وإن كنت تريد أن تعطيه فلم سلبته، كان خيرا له أن لا تعطيه حتى لا تفجعه في تلك العطية, وأن لا تسقيه كأس السرور حتى لا يتجرع ذلك السم الذي أودعته تلك الكأس

أيها الراحل المودع: كان ارتفاعك عظيما فوجب أن يكون سقوطك عظيما. إنك ذقت حلاوة الحياة خالصة فلما ذقت مرارتها جزعت وقطبت كما يجزع ويقطب كل من ذاق من الشراب ما لا عهد له به، ولا قبل له باحتماله. لا تأس على ما فاتك فإنما كان وديعة من ودائع الدهر أعاركها برهة من الزمان ثم استردها. إنك لا تدري لعل الله أراد بك خيرا فمنحك قبل حلول أجلك فرصة من الزمان تخلو فيها بنفسك، وتراجع فيها فهرس أعمالك، فإن رأيت خيرا اغتبطت، أو شرا استغفرت. قضى الله أن يقيم في كل حين لهذا العالم الغافل الراقد عبرة من العبر تزعجه من رقدته، وتوقظه من غفلته، فكنت أنت عبرة هذا الدهر وموعظته. من بات بعدك في ملك يسر به ... فإنما بات بالأحلام مغرورا

تأبين فولتير

تأبين فولتير 1: في مثل هذا اليوم، منذ مائة عام, مات الرجل العظيم، مات الرجل الخالد، مات فولتير. ما مات فولتير حتى احدودب ظهره تحت أثقال السنين الطوال، وأثقال جلائل الأعمال، وأثقال الأمانة العظمى التي عرضت على السموات والأرض فأبين أن يحملنها فحملها وحده، وهي تهذيب السريرة الإنسانية فهذبها فاستنارت فاستقام أمرها. مات فولتير مرذولا محبوبا في آن واحد، يبغضه الماضي؛ لأنه يجهله، ويحبه الحاضر؛ لأنه عرفه. إن في هاتين العاطفتين، البغض والحب، سرا عظيما من أسرار المجد العظيم، لذلك الرجل العظيم. كان وهو على سرير الموت محفوفا بعاطفتين مختلفتين شكلا، متفقتين معنى؛ لأنهما جميعا في سبيل مجده وفخاره، كان ينظر

_ 1 وهي ترجمة خطبة خطبها فكتور هيجو في باريس في حفلة تأبين فولتير الفيلسوف المشهور سنة 1878 بعد مرور قرن على وفاته مع بعض تصرف.

أمامه، فيسره منظر التبجيل والتعظيم من حاضره ومستقبله، ويلتفت وراءه فيطربه مشهد البغض والازدراء والحقد الذي يكنه الماضي في صدره لأولئك الرجال البواسل الذين حاربوه فانتصروا عليه. كان فولتير رجلا وأكبر من رجل، كان وحده أمة كاملة، إنه عاهد نفسه على إنجاز عمل عظيم فأنجزه ولم يخلف وعده، وكأن الإرادة الإلهية المتجلية في الشرائع، تجليها في الطبائع، نثرت كنانة هذا المجتمع الإنساني وعجمت عيدانه فوجدت فولتير أصلبها عودا فاختارته للقيام بالعمل الذي قام به فأتمه. إنا أتينا هنا لفصل الخطاب في المسائل الاجتماعية، جئنا لنرفع شأن المدنية ونكرم الفلسفة إكراما ينفعها ويفيدها، جئنا لنتلو على القرن الثامن عشر رأي القرن التاسع عشر فيه، جئنا لنكرم المجاهدين، والعاملين المخلصين، اجتمعنا لنمهد الطريق للوحدة الإنسانية التي يسعى إليها العلماء والعاملون، والصناع المجدون، وجملة القول إنا ما اجتمعنا هنا إلا لنمجد العاطفة الشريفة السامية عاطفة السلام العام. إنا نمجد السلام حبا في المدنية وحرصا على رونقها وروائها، فإن السلام فضيلة المدنية والحرب رذيلتها.

نحن في هذه الساعة العظيمة، في هذا الموقف الرهيب، نجثو على الركب ونعفر جباهنا بين يدي الشريعة الأدبية ونقول للعالم الذي ينصت لسماع صوت فرنسا "لا قوة إلا قوة الضمير ولا مجد إلا مجد الذكاء" ذلك في سبيل العدل، وهذا في سبيل الحق. لقد كان شأن المجتمع الإنساني قبل الثورة الفرنساوية على هذا المثال، الشعب في المنزلة الدنيا، وفوق الشعب الدين والقضاء، هذا يمثله القضاة، وذاك يمثله "الإكليروس". أتدرون كيف كان الشعب، وكيف كان الدين، وكيف كان القضاء في ذلك العهد؟ كان الشعب جهلا، والدين رياء، والقضاء ظلما. إن كنتم في شك مما أقول فإني أقص عليكم حادثتين من حوادث ذلك التاريخ, أرى فيهما غناء ومقتنعا: في 13 أكتوبر سنة 1761 وجد شاب مصلوبا في الطبقة الأرضية من بيت في مدينة "طولوز" فهاج الشعب ولغط "الإكليروس" وبحث القضاة، فكانت النتيجة أن كان الشاب منتحرا فسمي قتيلا، وكان والده بريئا فسمي قاتلا. هكذا أراد الدين وأرادت مصلحته أن يهلك والد الفتى

لأنه كان بروتستانيا؛ ولأنه كان يمنع فتاه أن يتدين بالكثلكة، إنها لجناية عظيمة جدا ينكرها الدين ويحيلها العقل، ولكن هان عليهم أمرهم ولم يحفلوا بالشريعتين شريعة القلب وشريعة العقل، فحكموا أن الشيخ الكبير، قتل ولده الصغير. هكذا قضى القضاء وهكذا كانت النتيجة فاستمعوها. في شهر مارس سنة 1762 سيق إلى الميدان العام شيخ أبيض الشعر هو "جان كالاس" ثم جرد من ثيابه وطرح على دولاب العذاب وشدت به أطرافه وترك رأسه متدليا. ثلاثة رجال تلوثت أيديهم بدم القتيل، كاهن يحمل الصليب، وجلاد يحمل القضيب، وقاض يحمل في صدره عهد القوم إليه بالتنكيل والتعذيب. لم يكن الشيخ المسكين وقد شق الخوف مرارته وتمشى قلبه في صدره لينظر إلى الصليب في يد الكاهن بل إلى القضيب في يد الجلاد. رفع الجلاد القضيب وضرب ذراع الشيخ ضربة كاسرة صاح على أثرها صيحة مؤلمة, ثم أغمي عليه فتقدم القاضي الرحيم وأمر له بالمنبهات فانتعش فضربه الجلاد الضربة الأخرى فوق الذراع الآخر فعاد إلى صرخته وإغمائه، فعادوا إلى تنبيهه وإنعاشه،

وهكذا حتى تم لكل ذراع من ذراعيه ضربتان وصدعتان، فكأنما قتلوه قبل موته ثماني مرات. في الإغماء الثامن بعد مرور ساعتين من العذاب تقدم الكاهن ومد إليه الصليب ليقبله فحول وجهه عنه، وكذلك تبلغ القسوة الدينية من نفوس المتدينين، فأقبل الجلاد وسدد إلى صدره الطرف الغليظ من القضيب الحديد وضربه ضربة ألصقت صدره بظهره فكانت القاضية. على هذه الصورة مات "جان كالاس". وما هي إلا أيام قلائل حتى عرف الناس أن الفتى مات منتحرا مقتولا، فحكموا ببراءة الشيخ بعد أن نفذ سهم القضاء فيه، وماذا يعنيه بعد الموت أمات جانيا أم بريئا. أما الحادثة الأخرى فهي عبرة الشباب كما كانت الأولى موعظة الشيخوخة. بعد مضي ثلاث سنين من تاريخ الحادثة الأولى وجدوا في "إيفيل" في ليلة عاصفة صليبا عتيقا أكل السوس أحشاءه حتى عاف البقاء فيه, مطرحا فوق الجسر بعد أن عاش فوق السور ثلاثة قرون. من ألقى به من أعلى السور، من أهانه، من ذا الذي دنس

هذا الأثر المقدس، من ذا الذي أجرم هذا الجرم العظيم. ربما عصفت به ريح، أو عبث به عابر طريق، أو هوى به ضعف الشيخوخة وإعياء الهرم، لا لا، كل ذلك لم يكن؛ لأن الدين أبى إلا أن يوجد مجرما، هنالك أعلن مطران "إميان" براءة من غفران الله ورحمته لكل مؤمن علم أو ظن أنه علم شيئا عن هذه الحادثة فكتمه. إن الحرمان في الكثلكة جريمة فظيعة قاتلة متى أوخى به التعصب الذميم، إلى الجهل العظيم، كان هذا الحرمان سببا في أن القضاء عرف أو ظن أنه عرف أن ضابطين اسم أحدهما "لابار" والآخر "ديتالون" مرا على جسر "إيفيل" في تلك الليلة المشئومة يترنحان سكرا وينشدان نشيدا عسكريا، مرا بالجسر وأنشدا النشيد فهما المجرمان، وكانت المحكمة مقدس "إيفيل" ولم تكن بأقل عدلا وإنصافا من مجلس "الكابيتول" في "طولوز" فأمرت بالقبض على الرجلين فاختفى ديتالون وقبض على لابار وأسلم إلى القضاء، فاعترف بالنشيد وأنكر المرور على الجسر فحكمت عليه محكمة إيفيل بالإعدام وأيد حكمها برلمان باريس فدنت الساعة المخيفة الهائلة. لقد تفننوا في تعذيب لابار وإرهاقه ليكشفوا عن سر

فعلته، وعن شركائه في جريمته، أي: جريمة المرور على الجسر وإنشاد النشيد. لقد عذبوه عذابا أليما حتى إن الكاهن الذي جيء به ليسمع اعترافه أغمي عليه حينما سمع قرقعة عظام ركبتيه. مضى هذا اليوم وجاء اليوم الثاني وهو يوم 5 يونيه سنة 1766 وجيء بالشاب المظلوم إلى ساحة "إيفيل" الكبرى حيث تشتعل نار العذاب وتضطرم اضطراما فأسمعوه نص الحكم ثم بتروا يده ثم استلوا لسانه بقابض من الحديد فاستأصلوه، ولكنهم رحموه بعد ذلك فقطعوا رأسه وألقوا بها في النار. على هذه الصورة مات "الشيفاليه دي لابار" كما مات من قبله "جان لا كاس". أحزنك هذا المنظر يا فولتير وآلم نفسك وملك عليك شعورك ووجدانك فصحت صيحة الرعب والجزع فكانت تلك الصيحة الحجر الأول في بناء مجدك العظيم الخالد. هنالك انبعثت نفسك إلى النزول في ميدان المجتمع الإنساني لتكف عادية الظالمين وتقلم أظفار الوحوش الضارية، وجلست في منصة القضاء لتحاكم الماضي على جرائمه وتنتصف منه للمستقبل فانتصفت وانتصرت وكنت من المحسنين.

فيا أيها الرجل العظيم: طبت حيا وميتا. حدثت تلك الحوادث التي ذكرتها على مشهد من المجتمع المهذب الراقي وفي حياة حافلة بالسعادة مغتبطة بالهناء يغدو إليها الإنسان لاهيا، ويروح ساهيا، لا يرفع رأسه فيعلم ما فوقه، ولا يخفضها فيرى ما تحته. حدث ذلك وأيام البلاط أعيادو "فرسايل" تتلألأ حسنا وبهاء، ورونقا وماء، وظرفاء الشعراء مثل "سان اولاير" و"بوفلير" و"جنتيل برنار" لاهون بالغزل الرقيق والوصف الجميل. حدث ذلك وباريس تتجاهل ما يجري حولها, فاستطاع القضاء الظالم بمعونة القسوة الدينية أن يمثل بالشيخ ذلك التمثيل الفظيع بذلك القضيب الحديد، وأن يستل لسان الفتى؛ لأنه أنشد الأناشيد. كان المجتمع في ذلك التاريخ مؤلفا من قوى عظيمة هائلة، قوة البلاط، وقوة الأشراف، وقوة المال، وقوة الشعب المائج المتدفع، وقوة الحكومة التي كانت أسدا على الرعية ونعامة بين يدي الملك تجثو أمامه خاضعة صاغرة إلا أن جُثِيَّها كان على

جثة الشعب، وقوة "الإكليروس" المؤلف من الرياء الكاذب والتعصب الأعمى. تقدم فولتير وحده وأثار حربا عوانا على هذا العالم المؤلف من تلك القوى المختلفة المخيفة, ولم يره أكبر من أن ينخذل، ولم ير نفسه أصغر من أن ينتصر. أتدري ما كان سلاحه، ما كان له سلاح غير تلك الأداة التي تجاري العاصفة في هبوبها، وتسبق الصاعقة في انقضاضها، ما كان له سلاح غير القلم، فبالقلم حارب وبالقلم انتصر. انتصر فولتير، فولتير وقف وحده تلك المواقف المشهودة، فولتير أدار وحده رحى تلك الحروب الهائلة، حرب العلم والجهل، والعدل والظلم، والعقل والهوى، والصلاح والفساد، فتم على يديه الغلب للخير على الشر وفاز فوزا مبينا. كان فولتير قلبا وعقلا، كان له رقة الفتاة في غلالتها1 وشدة الأسد في لبدته. فولتير محى الخرافات الدينية والعادات الفاسدة، وأرغم أنف الكبرياء، وأذل عز الرؤساء، ورفع السوقي إلى حيث لا يصل إليه ظلم القاضي وتنطع الكاهن

_ 1 الغلالة شعار يلبس تحت الثوب.

علم ومدن وهذب ولقي في سبيل ذلك من الشدائد والمحن والنفي والقهر ما يكسر سورة النفس فلم تنكسر سورته ولم تفتر عزيمته، بل كان يلقى الاستبداد بالسخرية، والغضب بالاستخفاف، والقوة القاهرة، بالابتسامة المؤثرة. أقف هنا قليلا إجلالا لابتسامة فولتير. فولتير هو الابتسامة، والابتسامة هي فولتير. أفضل مزايا الرجل الحكيم أن يملك نفسه عند الغضب وكذلك كان فولتير. كان عقله ميزان أعماله، فما غلبه حتى الغضب للحق. كنت تراه عابسا مقطبا فما هي إلا كرة الطرف حتى ترى فولتير الضاحك المبتسم في مكان فولتير العابس المقطب. يكاد يكون ابتسامه ضحكا لولا حزن الحكيم وهم العاقل كان ابتسامه كبارقة السيف يرتاع لها الأعداء، ويرتاح لها الأولياء. كان يبتسم للقوي فيخجله بتهكمه واستخفافه، وللضعيف فيسره بتحننه وانعطافه. فلنمجد تلك الابتسامة التي كانت أشعتها كأشعة الفجر تمحو الظلام وتبعث الأنوار.

نعم الابتسام ابتسام أنار الطريق للعدل والحق والصلاح وبدد ظلمات التقليد. إن ابتسامة فولتير أنشأت هذه الهيئة الاجتماعية وزينتها بالإخاء والمودة والحرية والمساواة، فنال العقل منزلته من الإجلال والإعظام، سواء أسكن القصر الكبير، أم الكوخ الحقير، ولبس المعلم تاج الملك فتصرف في العقائد الباطلة والعادات الفاسدة والخرافات الدينية تصرف الحاكم القدير، ونشر السلام أجنحته البيضاء على المجتمع الإنساني فقرت السيوف في الأغماد، وهدأت الدماء في العروق والأرواح في الأجسام، كل ذلك بفضل ابتسامة فولتير، ولسوف يأتي ذلك اليوم العظيم يوم الرحمة بالضعفاء والعفو عن الخاطئين فيبتسم فولتير في السماء ابتسامة تتلألأ بين لألاء النجوم. فلنمجد ابتسامة فولتير كل التمجيد، ولنكبرها كل الإكبار. هل كان فولتير يحلم دائما فلا يستخف حلمه الغضب، كلا بل كان يغضب أحيانا في سبيل الحق. إن التوسط وحفظ الموازنة بين الأخلاق هو القانون العقلي للإنسان حتى لا تهبط به كفة وتعلو به أخرى، وحتى لا يهلك بين عاطفتي الحب والبغض، وإن الفلسفة هي الاعتدال وإظهار

الحقائق واضحة بين مؤتلفات الأعمال والأقوال، ولكن أرى أن حب الحق يجب أن يكون في مرتبة الغلو حتى تهب عاطفته هبوب العاصفة فتذهب بالأقذاء والأقذار. يعيش المرء بين سعادتين من حاضره ومستقبله، أما الأولى فيكفلها العدل، وأما الثانية فيحرسها الرجال والأمل، لذلك يحب الناس القاضي العادل، والكاهن الصالح؛ لأن الأول صورة العدل، والثاني مثال الرجاء، فإذا انقلب العدل ظلما، والأمل يأسا، عافهما الإنسان ولوى وجهه عنهما، وقال للقاضي: "لا أحب قانونك" وللكاهن "لا أعتقد بدعتك" وهناك يهب الفيلسوف الغيور غاضبا فيحاكم القضاء أمام العدل والكهنوت أمام الله، وكذلك فعل فولتير فكان من المحسنين. إن الرجل العظيم لا يظهر في المجتمع وحيدا إلا قليلا، وكلما كثر العظماء حوله ارتفع شأنه وعلا ذكره، فهو كالشجرة تكون في نظر الناظر أطول في الغابة الشجراء منها في التربة الجرداء؛ لأنها تكون في منبتها ومستقرها، وكان فولتير في غابة من العقول الكبيرة، روسو وديدرو وبوفون وبومارشه ومونتسكيو، أولئك القوم المفكرون هم الذين علموا الناس النظر في حقائق الأشياء والتفكر الموصل إلى إتقان الأعمال، وعلموهم

أن صلاح القلب أثر من آثار صلاح العقل فأجادوا وأفادوا. مات أولئك القوم العظام وهوت من أفقها كواكبهم، ولقد كانوا في حياتهم جسدا وروحا، أما الجسد فقد طواه القبر، وأما الروح فهي الثورة التي تركوها من بعدهم. أجل، إن الثورة روحهم والمظهر الساطع المتلألئ بحكمتهم ومبادئهم. هم في الحقيقة أبطال الثورة المقدسة التي هي خاتمة الماضي وفاتحة المستقبل. إنك تراهم بعين بصيرتك في كل مواقفها ووقائعها، إذا اخترقت أشعة العقل حجاب المسببات ونفذت إلى الأسباب نرى في نور الثورة الساطع أن ديدرو كان واقفا وراء دانتون وروسو وراء روبسبير وفولتير وراء ميرابو ونجد أن أبطال الثورة صنيعة أبطال الفلسفة1. إن الكلمة الأخيرة التي أنطق بها في هذا الموقف هي دعاء المجتمع البشري إلى التقدم بهدوء وسكون وثبات ووقار. قد وجد الحق ضالته التي كان ينشدها وهي الإخاء الإنساني والتعارف النفسي، فمن العبث أن تشغل القوة بعد ذلك مكانا من

_ 1 دانتون وروبسبير وميرابو أبطال الثورة الفرنسية.

هذا المجتمع، فإن فعلت كان أليق الأسماء بها الاستبداد. إن المجتمع الإنساني أنكر على القوة حقها المزعوم وضاق صدره بجرائمها وآثامها فقاضاها بين يدي التمدين, ووضع بين يديه جريدة المتهمين من الرؤساء والزعماء وأتى بالتاريخ شاهدا على دعواه, فقضى التمدين له عليها وجاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا. شف ثوب الرياء عما تحته, وظهرت الحقيقة بيضاء ناصعة لا غبار عليها فأصبح الأبطال والمجرمون في نظر الإنسان سواء. هدم التمدن تلك القاعدة الفاسدة، وهي أن الجرم العظيم أصغر من الجرم الصغير، فأدرك الإنسان أن قتل الشعوب أكبر إثما وأعظم جريرة من قتل الأفراد، واستكبر أن يعتبر الحرب مجدا وهو يعتبر السرقة عارا، وبالجملة عرف أن الجريمة جريمة حيث حلت، وفي أي مظهر ظهرت، وأن القاتل لا يغني عنه من الله شيئا يسمى القيصر أو يدعى الإمبراطور، ولا يخفى على الله من أمره شيء سواء ألبس تاج الملك أم قلنسوة الإعدام. فلنصرح بالحقيقة المقررة الواضحة، ولنحتقر الحرب أشد الاحتقار. إن الحرب المباركة لا أثر لها في الوجود.

إن منظر الدماء والأشلاء أفظع منظر. لا يعقل أن يكون الشر طريق الخير، وأن يكون الموت وظيفة الحياة. أيتها الأمهات الجالسات حولي، خففن من أحزانكن فقد أوشكت يد الحرب أن تكف عن اختلاس أفلاذ أكبادكن. أتشقى المرأة فتلد، ويغرس الزارع فيكسو الأرض بساطها الأخضر، ويجهد العامل فيملأ الخزائن ذهبا وفضة، ويأتي الصانع بعجائب المصنوعات، وغرائب المدهشات، حتى إذا أخذت الأرض زخرفها، وفاخرت السماء بنجومها وكواكبها، وذهبنا لرؤية معرضها العام وجدناه ساحة القتال. لا لا: إنا لا نستطيع أن نخدع أنفسنا وننكر أن الساعة التي نحن فيها تشتمل على بضع دقائق محزنة تكدر صفوها وتنتقص من سرورها. لا تزال في مرآة السماء الصافية سحابة سوداء. إن الشعب لم يقض كل أربه من السعادة؛ لأن الحرب لم تزل باقية. فلنذكر عند ذكر ملوك الحرب فولتير وجان جاك وديدرو ومونتسكيو ملوك السلام، ولنوجه وجهتنا إلى تلك الروح

العالية، إلى تلك الحياة العظيمة، إلى ذلك الدفين المقدس، إلى فولتير، ولنركع أمام قبره عسى أن يمدنا بروح منه ويهدينا إلى حظيرة السلام، فإنه بعد مرور قرن على موته لم يزل في الأحياء الخالدين. ولنقف في طريق الدماء المتدفقة لنقول للسفاكين بصوت عال: كفى كفى، إنها همجية، إنها تشوه وجه المدنية الجميل. إن أسلافنا من الفلاسفة هم رسل الحق إلى البشر، فلنضرع إليهم، في تذكارهم هذا أن يتداركوا الفتنة قبل وقوعها، وينادوا أن الحياة ملك للإنسان، وعظيم عليه أن تسلب منه، وأن التمتع بالحرية حق من حقوق العقول والأفكار. إن النور لا أثر له بين أضواء القصور، فلنطلبه بين ظلمات القبور.

العلماء والجهلاء

العلماء والجهلاء: لا تحسبن أن الفلسفة الاصطلاحية مطلب من المطالب التي لا ترام، أو أن بين من نسميهم العلماء ومن نسميهم الجهلاء ذلك الفرق العظيم الذي يتصوره الناس عند ما يريدون التفريق بينهما، وإنزالهما منازلهما، فالعلماء والجهلاء إن دققت النظر سواء، لا فرق بينهما إلا أن هؤلاء يعلمون المعلومات منظمة، وأولئك يعلمونها مبعثرة، وأن هؤلاء يحسنون البيان عنها وأولئك لا يبينون. ومن نظر إلى البصائر نظرا ثاقبا نافذا وجد أن المعاني الصحيحة والقضايا الكونية المتعلقة بالخير والشر، والنفع والضر، والمسائل المنوطة بالإنسان في حياتيه المادية والمعنوية يشترك في العلم بها الناس جميعا عامتهم وخاصتهم، كبارهم وصغارهم، من نشأ منهم تحت سقوف الجامعات، ومن عاش تحت سقوف السموات؛ لأن العلم ينبوع يفور من الداخل، لا سيل يتدفق من الخارج؛ ولأن المعلومات كامنة في النفوس كمون النار في الزند والقوة في

المادة، وما وظيفة التعليم إلا استثارتها من مكامنها، وبعثها من مراقدها. وآية ذلك أنك لا تجد مثلا من أمثال العلماء التي يفخرون بها ويعدونها مظهر حكمتهم، وآية فلسفتهم، إلا وترى في ألسنة العامة وشوارد أقوالها وأمثالها ما يرادفها ويشاكلها، كما أنك لا تجد قاعدة من قواعد الحكمة ولا قضية من قضايا الآداب والأخلاق التي نعدها من ذخائر الأسفار ونفائس الأعلاق إلا وهي ملقاة تحت أقدام العامة، ومذالة بين أيدي الجاهلين والأميين. وعندي أنه لولا عجز العامة عن بيان ما يجول في خواطرهم ويهجس في ضمائرهم من المعلومات على صورة مرتبة منظمة لما تخيل إليهم أنهم يسمعون من الخاصة كلاما عجيبا، أو معنى غريبا. وليست هذه الغبطة التي نراها تعلق بنفوسهم عندما يتلقون أحاديث الخاصة من أجل أنهم علموا ما لم يكونوا يعلمون، أو أدركوا ما لا عهد لهم به من قبل؛ بل لأنهم عثروا على من يترجم عن أفكارهم، ويجمع لهم شمل المعاني المبعثرة في أنحاء أدمغتهم؛ ولأنهم وجدوا في أنفسهم لذة الأنس بأفكار تشابه أفكارهم، وآراء تشاكل آراءهم. ولا أخشى بأسا إن قلت إن علم العامة أفضل من علم

الخاصة؛ لأنه علم خالص من شائبة التكلف والتعمل، حتى إنك لتجد في بعض الأحايين بين معلومات الخاصة ومذاهبهم وآرائهم ما يضحك الثكلى لغرابته وشذوذه, وما يترفع أضيق العامة ذهنا وأضعفهم فهما أن يجعل له شأنا، أو يقيم له وزنا؛ ولأنه يعلق بالنفس ويتغلغل بين طياتها تغلغلا تظهر آثاره على الجوارح، وكثيرا ما تجد بين الجهلاء من تعجبك استقامته، وبين العلماء من يدهشك اعوجاجه، وإن كان صحيحا ما يقولون من أن العلم ما ينتفع به صاحبه، فكثير من الجهلاء، أعلم من كثير من العلماء. فلا تبالغ في تقدير فلسفة الفلاسفة وعلم العلماء، ولا تنظر إليهم نظرا يملأ قلبك رهبة وهيبة، ولا تغل في احتقار الجهلاء، وازدراء العامة والضعفاء، ولا تكن ممن يقضون حياتهم أسرى العناوين وعبيد الألقاب. وإن في اختفاء الحقائق الكونية وتنكرها وضلال هذا العالم في مذاهبه ومراميه وتفرقه مذاهب وشيعا, وركوب كل فريق رأسه وهيامه على وجهه, ووقوف طلاب الحقيقة في كل دهر وعصر في مفارق الطرق ورءوس المسالك حيارى ينشدون فلا يجدون، ويجدّون فلا يصلون، لدليلا على أن الفلاسفة والحكماء والعلماء كلمات غير مفهومات، وأسماء بلا مسميات،

وأن حقائق الأشياء وأسرار الكائنات قد استأثر الله بعلمها، واحتجنها من دون عباده، ولم يمنحهم منها إلا بلة تزيدهم وجدا كلما وجدوا بردها، وتملأ قلوبهم شوقا كلما تذوقوا طعمها. ضريبك في بني الدنيا كثير ... وعز الله ربك من ضريب وما العلماء والجهلاء إلا ... قريب حين تنظر من قريب

الرجل والمرأة

الرجل والمرأة: حضرة السيد المحترم لا تعجب إن رأيت إعجابي بك ظاهرا في كل سطر من سطور كتابي هذا, فإنما أنا انطق بلسان كثير من العقلاء الذين يحبونك حبا جما, ويعتقدون أنك فريد في أدبك، فريد في قلمك، فريد في تسامحك وتساهلك؛ لذلك أردنا أن نوجه إليك السؤال الآتي راجين منك الإجابة عليه. لماذا نرى الهيئة الاجتماعية تحكم على المرأة الفاسقة حكما صارما فتنبذها وتحتقرها ولا تحكم بمثل هذا الحكم على الرجل الفاسق مع أن جريمتهما واحدة؟ هذا ما أردنا أن نسترشد برأيك فيه والسلام. سائل يعتقد كثير من الناس أن الرجل والمرأة سواء في العقل والذكاء، وعندي أنهم أخطئوا في الأولى وأصابوا في الأخرى. تستطيع المرأة أن تجاري الرجل في سرعة الفهم وحضور

البديهة ولا تستطيع أن تجاريه في الأناة والرفق والاستمساك, وامتلاك هوى النفس والأخذ بفضيلة الصبر على ما تكره وعن ما تحب. تستطيع المرأة أن تدرك ما يدركه الرجل من الشئون والأطوار وأن تستخرج كما يستخرج المجهولات من المعلومات، ولكنها لا تستطيع أن تنتفع بمعلوماتها كما ينتفع؛ لأن بين جنبيها نفسا غير نفسه، وهوى غير هواه؛ ولأن لها قلبا صغيرا لا يقوى على احتمال ما يحتمله عقله الكبير. يمشي الرجل وراء عقله فيهديه، وتمشي المرأة وراء قلبها فيضلها، فما وقفت معه في موقف إلا سقطت بين يديه عجزا وضعفا؛ لأنه يعرف السبيل إلى قلبها، ولا تعرف السبيل إلى عقله. لا تعجب إن قلت لك إن الذكاء غير العقل، فاللصوص والمحتالون والمزورون والكاذبون والفاسقون والمنافقون أذكياء وليس بينهم عاقل واحد؛ لأنهم يوردون أنفسهم موارد التلف والهلاك من حيث لا يغني عنهم ذكاؤهم شيئا، وكثيرا ما يكون الذكاء الشديد داعية الجنون، حتى إنك لا تكاد ترى ذكيا من الأذكياء إلا وترى له في شئونه وأطواره أحوالا شاذة, لا تنطبق على قانون من قوانين العقل ولا قاعدة من قواعد الطبيعة،

وعندي أن أكثر ما يصيب النوابغ والأذكياء من بؤس العيش وسوء الحال عائد إلى ضعف في عقولهم، ونقص في تصوراتهم، وبعد فالذكاء في رأس الإنسان كالسيف في يد الشجاع، وكثيرا ما يضرب الشجاع رأس نفسه بسيفه إذا كان طائشا أهوج لا يملك نفسه في موقف من مواقف الحزن أو الغضب. فماذا يغني المرأة ذكاؤها إذا لم يكن وراءه عقل يملكها ويصرفها ويمسك بيدها أن تعثر في جريانها واشتدادها بعقبة من عقبات هذه الحياة. سيثقل هذا الحكم على نفوس النساء ونفوس الرجال الذين يجاملونهن، ولكن ماذا أعمل وبين يدي برهان قاطع ليس في استطاعتهن أن ينازعنني فيه مع شدة ذكائهن، ولا في استطاعة أنصارهن من الرجال أن ينقضوه ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. لولا أن الرجل أعقل من المرأة ما كان له عليها هذا السلطان وذلك الغلب, ولا استطاع أن يقودها وراءه كما يقاد الجنيب1, ولا أن يملك عليها أمر فقرها وغناها وحبسها وإطلاقها وحجابها وسفورها, ويستأثر من دونها بوضع القوانين والشرائع الخاصة بها

_ 1 الجنيب المهر الذي يقاد إلى مهر آخر.

من حيث لا ترى في نفسها قوة لدفعها والخروج عليها. القوي يملك على الضعيف بحكم الطبيعة كل شيء حتى نفسه وهواه، وكذلك كان شأن الإنسان مع الحيوان وشأن الرجل مع المرأة. الإنسان نوع من أنواع الحيوان لم يكن في مبدأ خليقته خيرا منها في شأن من شئون الحياة، ولكنه كان أوفر منها عقلا وأوسع حيلة، فما زال يطلب لنفسه الغاية التي تناسب استعداده وفطرته حتى أصبح سيد الحيوان، فمدن المدن ومصر الأمصار وشاد وبنى وتأنق وترّفه, ثم طرد صاحبه إلى تلال الرمال، ورءوس الجبال، يأكل بعضه بعضا، والرجل أخو المرأة وقسيمها في الرحم والمهد، والأبوة والأمومة، والقومة والقعدة، والنومة واليقظة، ولكنه وجد في نفسه فضلا من قوة العقل والتدبير عليها, وكان ظالما خشن النفس قاسي القلب فأبى إلا أن يأسرها ويغلبها على أمرها, ويملك عليها جسمها ونفسها فتم له ما أراد. ملك عليها جسمها؛ لأنه حجبها عن النور والهواء فأذعنت، وملك عليها نفسها؛ لأنه ألقى في روعها أن ذنبها في الفسق المشترك بينه وبينها أكبر من ذنبه، وإن جريمتها ضعف جريمته فصدقت، وطلب منها أن تسلم إليه الأمر في تدبير شئونها والتصرف بأموالها

فسلمت، وأصبحت تنظر إلى هذه القوانين الجائرة التي وضعها لها, والاعتبارات الفاسدة التي اعتبرها بالنسبة إليها كما ينظر إليها هو بعين الإجلال والإعظام. يخدع الرجل المرأة عن شرفها فيسلبها إياه، فإذا سقطت هاج المجتمع الإنساني عليها وملأ قلبها هولا ورعبا وأوسع نفسها تقريعا وتأنيبا من حيث لا تطير على الرجل شرارة واحدة من هذه النار المتأججة؛ لأنه هو الذي وضع هذا القانون وشرع تلك الشريعة، وما كان له أن يقصر في مجاملة نفسه ومحاباتها؛ لأنه شره طماع محب لذاته، ولا أن يعدل في القضاء في قضية غيره؛ لأنه ظالم جبار. ولو كان للمرأة ما للرجل من قوة العقل لاستطاعت أن تحجبه في المنزل وأن تتولى شأنه وأن تعبث بعقله فتعظم جريمته وتصغر جريمتها في عينه, وأن تنفذ إلى قلبه فتلعب به لعب الصبي بالكرة, وأن تحدثه فيصدق وتأمره فيأتمر, وأن تسن له القوانين الجائرة والشرائع الفاسدة فيؤمن بها إيمانه بالإله المعبود كما صنع هو بها في جميع ذلك فبلغ منها ما أراد. لا أريد أن هذا الفرق في القوة العقلية بين الرجل والمرأة يمنحه هذا الحق في ظلمها وغلبتها على حقها، بل أريد أن هذا

الفرق هو سبب ذلك السلطان القاهر، والحكم الجائر. وجملة القول أن حكم المجتمع الإنساني بإدانة المرأة الزانية وبراءة الرجل الزاني حكم ظالم، ولو أنه أنصفهما لعرف فرق ما بينهما في القوة العقلية, فجعل عقاب الرجل القوي المهاجم فوق عقاب المرأة الضعيفة المدافعة، ولكنه لم يفعل ذلك؛ لأن رجاله ظلمة جائرون؛ ولأن نساءه ساذجات ضعيفات، يصدقن الرجال في أقوالهم وينظرن إلى المستحسنات والمستهجنات بأنظارهم، فإن أردنا أن تنال المرأة حقها من الرجل وأن تنتصف منه فليس سبيلها إلى ذلك المغالبة والمصارعة، فإنها أضعف منه جسما وعقلا، بل السبيل إليه أن نعلمها العلم لتعرف كيف تستعطفه وتسترحمه وكيف تحمله على إجلالها وإعظامها، وأن نعلمه كذلك ليستطيع أن يكون شخصا كريما، وإنسانا رحيما.

الدعوة

الدعوة: ما من قائم يقوم في مجتمع من هذه المجتمعات البشرية داعيا إلى ترك ضلالة من الضلالات إلا وقد آذن نفسه بحرب لا تخمد نارها ولا يخبو أوارها حتى تهلك تلك الضلالة أو يهلك دونها. ليس موقف الجندي في معترك الحرب بأحرج من موقف المرشد في معترك الدعوة، وليس سلب الأجسام أرواحها بأقرب منالا من سلب النفوس غرائزها وميولها. لا يضن الإنسان بشيء مما تملك يمينه ضنه بما تنطوي عليه جوانحه من المعتقدات، وإنه ليبذل دمه صيانة لعقيدته، ولا يبذل عقيدته صيانة لدمه، وما سالت الدماء ولا تمزقت الأشلاء في مواقف الحروب البشرية من عهد آدم إلى اليوم إلا حماية للمذاهب وذودا عن العقائد. لذلك كان الدعاة في كل أمة أعداءها وخصومها؛ لأنهم يحاولون أن يرزءوها في ذخائر نفوسها، ويفجعوها في أعلاق قلوبها. الدعاة أحوج الناس إلى عزائم ثابتة وقلوب صابرة على احتمال

المصائب والمحن التي يلاقونها في سبيل الدعوة حتى يبلغوا الغاية التي يريدونها أو يموتوا في طريقها. الدعاة الصادقون لا يبالون أن يسميهم الناس خونة أو جهلة أو زنادقة أو ملحدين أو ضالين أو كافرين؛ لأن ذلك ما لا بد أن يكون. الدعاة الصادقون يعلمون أن محمدا -صلى الله عليه وسلم- عاش بين أعدائه ساحرا كذابا فلما مات مات سيد المرسلين، وأن الغزالي عاش متهما بالكفر والإلحاد ومات حجة الإسلام، وأن ابن رشد عاش ذليلا مهانا حتى كان الناس يبصقون عليه إذا رأوه ومات فيلسوف الشرق، فهم يحبون أن يكونوا أمثال هؤلاء العظماء أحياء وأمواتا. سيقول كثير من الناس: وما يغني الداعي دعاؤه في أمة لا تحسن به ظنا، ولا تسمع له قولا، إنه يضر نفسه من حيث لا ينفع أمته فيكون أجهل الناس وأحمق الناس. هذا ما يوسوس به الشيطان للعاجزين الجاهلين، وهذا هو الداء الذي ألم بنفوس كثير من العلماء فأسكت ألسنتهم عن قول الحق وحبس نفوسهم عن الانطلاق في سبيل الهداية والإرشاد، فأصبحوا لا عمل لهم إلا أن يكرروا للناس ما يعلمون، ويعيدوا عليهم ما يحفظون، فجمدت الأذهان وسكنت المدارك وأصبحت

العقول في سجن مظلم لا تطلع عليه الشمس ولا ينفذ إليه الهواء. الجهل غشاء سميك يغشي العقل، والعلم نار متأججه تلامس ذلك الغشاء فتحرقه رويدا رويدا، فلا يزال العقل يتألم لحرارتها ما دام الغشاء بينه وبينها، حتى إذا أتت عليه انكشف له الغطاء فرأى النار نورا، والألم لذة وسرورا. لا يستطيع الباطل أن يصرع الحق في ميدان؛ لأن الحق وجود والباطل عدم، وإنما يصرعه جهل العلماء بقوته، ويأسهم من غلبته، وإغفالهم النداء به، والدعاء إليه. محال أن يهدم بناء الباطل فرد واحد في عصر واحد، وإنما يهدمه أفراد متعددون في عصور متعددة فيهزه الأول هزة تباعد ما بين أحجاره، ثم ينقض الثاني منه حجرا والثالث آخر وهكذا حتى لا يبقى منه حجر على حجر. الجهلاء مرضى والعلماء أطباء، ولا يجمل بالطبيب أن يحجم عن العمل الجراحي فرارا من إزعاج المريض أو خوفا من صياحه وعويله أو اتقاء لسبه وشتمه، فإنه سيكون غدا أصدق أصدقائه وأحب الناس إليه. وبعد فقليل أن يكون الداعي في الأمة الجاهلة حبيبا إليها إلا إذا كان خائنا في دعوته سالكا سبيل الرياء والدهان في دعوته،

وقليل أن ينال حظه من إكرامها وإجلالها إلا بعد أن تتجرع مرارة دوائه، وتشعر بحلاوة الشفاء، بعد مرارة ذلك الدواء. الدعاء في هذه الأمة كثيرون ملء الفضاء، وكظة1 الأرض والسماء، ولكن لا يكاد يوجد بينهم داع واحد؛ لأنه لا يوجد بينهم شجاع. أصحاب الصحف وكتاب الرسائل والمؤلفون وخطباء المجامع وخطباء المنابر كلهم يدعون إلى الحق وكلهم يعظون وينصحون ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ولكن لا يوجد بينهم من يستطيع أن يحمل في سبيل الدعوة ضرا، أو يلاقي في طريقها شرا. رأيت الدعاة في هذه الأمة أربعة، رجل يعرف الحق ويكتمه عجزا وجبنا، فهو ساكت طول حياته لا ينطق بخير ولا شر، ورجل يعرف الحق وينطق به، ولكنه يجهل طريق الحكمة والسياسة في دعوته فيهجم على النفوس بما يزعجها وينفرها، وكان خيرا له لو صنع ما يصنعه الطبيب الماهر الذي يضع الدواء المر في "برشامة" ليسهل تناوله وازدراده، ورجل لا يعرف حقا ولا باطلا، فهو يخبط في دعوته خبط الناقة العشواء في مسيرها, فيدعو إلى الخير والشر والحق والباطل والضار والنافع في موقف واحد،

_ 1 الكظة البطنة.

فكأنه جواد امرئ القيس الذي يقول فيه: مكر مفر مقبل مدبر معا ورجل يعرف الحق ويدعو الأمة إلى الباطل دعوة المجد المجتهد، وهو أخبث الأربعة وأكثرهم غائلة؛ لأنه صاحب هوى يرى أنه لا يبلغ غايته منه إلا إذا أهلك الأمة في سبيله، فهو عدوها في ثياب صديقها؛ لأنه يوردها موارد التلف والهلاك باسم الهداية والإرشاد، فليت شعري من أي واحد من هؤلاء الأربعة تستفيد الأمة رشدها وهداها. ما أعظم شقاء هذه الأمة وأشد بلاءها، فقد أصبح دعاتها في حاجة إلى دعاة ينيرون لهم طريق الدعوة, ويعلمونهم كيف يكون الصبر والاحتمال في سبيلها، فليت شعري متى يتعلمون، ثم متى يرشدون. تم الجزء الأول من النظرات

فهرست الجزء الأول من النظرات

فهرست الجزء الأول من النظرات: صفحة أتاريخ حياة المنفلوطي أ-1 تقديم بقلم د. جبرائيل جبور 3 المقدمة 51 الغد 55 الكأس الأولى 61 الدفين الصغير 67 مناجاة القمر 70 أين الفضيلة 76 الغني والفقير 80 مدينة السعادة 90 أيها المحزون 92 إلى الدبر 98 الرحمة 106 رسالة الغفران 119 عبرة الدهر 129 أفسدك قومك 132 الصدق والكذب 143 النظامون 145 الحرية 150 عبرة الهجرة 154 الإنصاف 156 المدنية الغربية 162 يوم الحساب 171 الشعرة البيضاء 177 الصياد 185 الانتحار 189 الجمال 192 الكذب 194 غرفة الأحزان 202 الترف 207 الحب والزواج 213 الإسلام والمسيحية 226 أهناء أم عزاء 228 الزوجتان 236 في سبيل الإحسان 245 أدب المناظرة 250 الإحسان في الزواج 255 لا همجية في الإسلام 260 البخيل 267 البعوض

صفحة 273 الجزع 277 الاتحاد 283 النبوغ 290 البائسات 295 البيان 303 السريرة 307 زيد وعمرو 311 أبو الشمقمق 316 دورة الفلك 319 تأبين فولتير 335 العلماء والجهلاء 339 الرجل والمرأة 345 الدعوة "تمت الفهرست"

المجلد الثاني

المجلد الثاني الحياة الذاتية ... الحياة الذاتية: أكثر الناس يعيشون في نفوس الناس أكثر مما يعيشون في نفوسهم، أي: إنهم لا يتحركون ولا يسكنون ولا يأخذون ولا يدعون، إلا لأن الناس هكذا يريدون. حياة الإنسان في هذا العالم حياة ضمنية مدخلة في حياة الناس، فلو فتش عنها لا يجد لها أثرا إلا في عيون الناظرين، أو آذان السامعين، أو أفواه المتكلمين. يتمثل لي أن الإنسان لو علم أن سيصبح في يوم من أيام حياته وحيدا في هذا العالم لا يجد بجانبه أذنا تسمع صوته, ولا عينا تنظر شكله, ولا لسانا يردّد ذكره لآثر الموت على الحياة علّه يجد في عالم غير هذا العالم من آذان الملائكة أو عيون الجِنة مقاعد يقتعدها, فيطيب له العيش فيها. إذا كانت حياة كل إنسان متلاشية في حياة الآخرين, فأي مانع يمنعني من القول بأن تلك الحياة التي نحسبها متكثرة في هذا العالم حياة واحدة يتفق جوهرها, وتتعدد صورها كالبحر المائج

نراه على البعد فنحسبه طرائق قِدَدا, ونحسب كل موجة من أمواجه قسما من أقسامه, فإذا دنونا منه لا نرى غيره, ولا نجد لموجة من أمواجه حيزا ثابتا, ولا وصفا معينا. لا حي في هذا العالم حياة حقيقية إلا ذلك الشاذّ الغريب في شئونه وأطواره وآرائه وأعماله, الذي كثيرا ما نسميه مجنونا, فإن رضينا عنه بعض الرضى في بعض الأحايين سميناه فيلسوفا ونريد بذلك أنه نصف مجنون، فهو الذي يتولى شأن الإنسان وتغيير نظاماته وقوانينه, وينتقل به من حال إلى حال بما يقلب من عاداته ويحوّل من أفكاره. أي قيمة لحياة امرئ لا عمل له فيها إلا معالجة نفسه وتذليلها على الرضى بما يرضى به الناس, فيأكل ما لا يشتهي ويصدف نفسه عما تشتهي, ويسهر حيث لا يستعذب طعم السهر وينام حيث لا يطيب له المنام ويلبس من اللباس ما يحرج صدره أو يقصم ظهره, ويشرب من الشراب ما يحرق أمعاءه ويأكل أحشاءه, ويقف على ما يكره ويمشي إلى ما لا يحب, ويضحك لما يُبكي ويبكي لما يُضحك, ويبتسم لعدوه ويقطب في وجه صديقه, وينفق في دراسة ما يسمونه علم آداب السلوك أي: علم الدهان والملق, زمنا لو أنفق عشر معشاره في دراسة علم من علوم الحقيقة لكان

نابغته المبرز فيه حرصا على رضاء الناس, وازدلافا إلى قلوبهم. ليست شهوة الخمر من الشهوات الطبيعية المركبة في غرائز الناس، فلو لم يذوقوها لما طلبوها ولا كلفوا بها، وما جناها عليهم إلا كلف تاركيها برضاء شاربيها، وما كان الترف خلقا من الأخلاق الطبيعية للإنسان ولكن كلف المتقشفون برضاء المترفين فتترفوا، فحملوا في ذلك السبيل من شقاء العيش وبلائه وأثقال الحياة ومؤنها ما نغّص عليهم عيشهم وأفسد عليهم حياتهم، وإنك لترى الرجل العاقل الذي يعرف ما يجب ويعلم ما يأخذ وما يدع يبيع منزله في نفقة المأتم وأثاث منزله في نفقة العرس, فلا تجد لفعله تأويلا إلا خوفه من سخط الناس واتقاءه مذمتهم، وكثيرا ما قتل الخوف من سخط الناس والكلف برضاهم ذكاء الأذكياء، وأطفأ عقول العقلاء، فكم رأينا من ذكي يظل طول حياته خاملا متلففا لا يجرؤ على إظهار أثر من آثار فطنته وذكائه؛ مخافة هزء الناس وسخرهم، وعاقل لا يمنعه من الإقدام على إصلاح شأن أمته وتقويمها إلا سخط الساخطين, ونقمة الناقمين. وما أعجبت برجل في حياتي إعجابي بأديب من أدباء هذه الأمة من الذين يملئون الصدور والأسماع, يرمي بالرسالة من رسائله في الصحيفة من الصحف ثم يمضي لسبيله قُدُما فلا يمشي

وراءها مشية المتسمع المتجسس ليعلم ما رأي الناس فيها وما حديثهم عنها, وهل سخطوا عليها أو رضوا بها, ولا يمشي متنقلا في المجامع والأندية مسائلا عنها كل غادٍ ورائح ليجد خيرا فيضحك ويستبشر، أو شرا فيبكي ويبتئس، بل كثيرا ما رأيته يسمع حديث الناس عنه في حالي رضاهم وسخطهم ساكنا هادئا كأنما يحدثون غيره ويعنون سواه، حتى كدت أتخيل أن لا فرق عنده بين أحسنتَ وأجدتَ، وأسأتَ وأخطأتَ، بل قلما رأيته على كثرة لصوقي به وتفقدي مواقع سمعه وبصره يقرأ ما تكتبه الصحف عنه وما تعلقه على آرائه في رسائله من مدح أو ذمّ حتى كدتُ أحمل تلك الحال الغريبة من أمره على البله والغفلة, أو العظمة والكبرياء لولا أني فاتحته مرة في ذلك وسألته: لم لا تحفل برأي الناس فيك؟ ولم لا تقرأ ما يكتبون عنك؟ فأجاب: إنني ما أقدمت على الكتابة للناس في إصلاح شئونهم وتقويم معوجّهم إلا بعد أن عرفت أني أستطيع أن أنزل منهم منزلة المعلم من المتعلم، والناس خاصة وعامة، أما خاصتهم فلا شأن لي معهم ولا علاقة لي بهم ولا دخل لكلمة من كلماتي في شأن من شئونهم, فلا أفرح برضاهم ولا أجزع لسخطهم؛ لأني لم أكتب لهم ولم أتحدث معهم ولم أُشهدهم أمري ولم أُحضرهم

عملي، بل أنا أتجنب جهد المستطيع أن أستمع منهم كل ما يتعلق بي من خير أو شر؛ لأني راضٍ عن فطرتي وسجيتي في اللغة التي أكتب بها, فلا أحب أن يكدّرها عليّ منهم مكدِّر وعن آرائي ومذاهبي التي أودعها رسائلي, فلا أحب أن يشككني فيها منهم مشكك، ولم يهبني الله من قوة الفراسة ما أستطيع أن أميز به بين مخلصهم ومشوبهم, فأصغي إلى الأول لأستفيد علمه, وأعرض عن الثاني لأتقي غشه، فأنا أسير بينهم مسير رجل بدأ يقطع مرحلة لا بد له أن يفرغ منها في ساعة محدودة, ثم علم أن على يمين الطريق الذي يسلكه روضة تعتنق أغصانها وتشتجر أفنانها وتغرد أطيارها وتتألق أزهارها، وأن على يساره غابا تزأر أسوده وتعوي ذئابه وتَفِحّ أفاعيه وصلاله, فمشى قدما لا يلتفت يمنة مخافة أن يلهو عن غايته بشهوات سمعه وبصره, ولا يسرة مخافة أن يهيج بنظراته فضول تلك السباع المقعية والصلال الناشرة فتعترض دون طريقه، وأما عامتهم فهم بين ذكي قد وهبه الله من سلامة الفطرة وصفاء القلب ولين الوجدان ما يعده لاستماع القول واتباع أحسنه فأنا أحمد الله في أمره، وضعيف قد حِيل بينه وبين نفسه فهو لا يرضى إلا عما يعجبه ولا يسمع إلا ما يطربه فأكل أمره إلى الله وأستلهمه صواب الرأي فيه حتى يجعل

له من بعد عسر يسرا، فأنا أكتب لا لأعجب الناس بل لأنفعهم، ولا لأسمع منهم أنت أحسنت بل لأجد في نفوسهم أثرا مما كتبت، فلو أن هذه العشرة الملايين التي يحتضنها هذان الجبلان أجمعت أمرها على الإعجاب بي والرضاء عني ثم رأيت من بينها رجلا واحدا ينتفع بما أقول لكان الواحد المستفيد آثر في نفسي من الملايين المعجبين، أتدري لِمَ عجز كتاب هذه الأمة عن إصلاحها؟ لأنهم يظنون أنهم لا يزالون حتى اليوم تلاميذ في المدارس, وأنهم جالسون بين أيدي أساتذة اللغة يتلقون عنهم دروس البيان، فترى الواحد منهم يكتب وهمه المالئ قلبه أن يعجب اللغويين، أو يروق المنشئين، أو يطرب الأدباء، أو يضحك الظرفاء، ولا يدخل في باب أغراضه ومقاصده أن يتفقد المسلك الذي يريد أن يسلكه إلى قلوب الناس الذين يقول: إنه يعظهم أو ينصح لهم أو يهذبهم أو يثقفهم؛ ليعلم كيف ينفذ إلى نفوسهم وكيف يهجم على قلوبهم وكيف يملك ناصية عقولهم, فيعدل بها عن ضلالها إلى هداها، وعن فسادها إلى صلاحها، فمثله كمثل الفارس الكذاب الذي تراه كل يوم حاملا سيفه إلى الجوهري يرصع له قبضته, أو الحداد ليشحذ له حده, أو الصيقل ليجلو به صفحته, ولا تراه يوما في ساحة الحرب ضاربا به.

قد يكون الولع برضاء الناس والخوف من سخطهم مذهبا من مذاهب الخير, وطريقا من طرق الهداية للضالّ عنها لو أن الفضيلة هي الخلق المنتشر فيهم والغالب على أمرهم، بل لو كان الأمر كذلك لآثرت أن يعرض المرء نفسه على الفضيلة ذاتها من حيث هي, لا من حيث تشخصها في أفعال الناس وأقوالهم، فإذا استوثق منها وعلم أنها قد خالطت قلبه وأخذت مستقرها من نفسه جعلها ميزانا يزن به أقواله وأفعاله كما يزن به أقوال الناس وأفعالهم, ثم لا يبالي بعد ذلك أرضوا عنه أو سخطوا عليه, أو أحبوه أو أبغضوه, فإنما يبكي على الحب النساء.

العبرات

العبرات: كنت أغبط نفسي على التجلد والصبر, وأحسبني قادرا على الاستمساك في كل رزء مهما جل شأنه وعظم وقعه، فلما مات مصطفى كامل علمت أن من الرزايا ما لا يطاق تجرعه، ولا يستطاع احتماله. كل يوم نرى الموت ولا نزال نعد الموت غريبا، هيهات لا غرابة في الموت، ولكن الغريب موت الغريب. كل يوم تمر بنا قوافل الموتى فلا نأبهُ لها، وأكبر نصيبها منا الحوقلة والاسترجاع، فلما مرت قافلة مصطفى كامل دهشنا وجزعنا؛ لأنه كان غريبا في حياته، فأحرى أن يكون غريبا في مماته. مات مصطفى كامل فعرفنا الموت وما كنا نعرفه قبل ذلك؛ لأننا ما كنا نرى إلا أمواتا ينقلون من ظهر الأرض إلى بطنها، أما مصطفى كامل فكان حيا حياة حقيقية, فكان موته كذلك. لا يحسب الكاتبون أنهم صنعوا شيئا إذا بذلوا لذلك الفقيد

العظيم قطرة من الدمع أو قطرة من المداد، فإنه كان يبذل لهم ماء حياته قطرة قطرة حتى أفناه ومضى لسبيله، فشتان ما بين صنيعهم وصنيعه. أين قطرات الدموع التي يريح بها الباكون أنفسهم، أو قطرات المداد التي يرصّع بها الكتاب أقلامهم، من قطرات الحياة التي أراقها مصطفى كامل في سبيل وطنه وأمته؟! كان مصطفى كامل سراجا كبير الشعلة، وكل سراج تكبر شعلته يفرغ زيته وشيكا وتحترق ذبالته, فينطفئ نوره. كان مصطفى كامل نشطا سريع الحركة, فقطع جسر الحياة في لحظة واحدة. كان الوطنيون قبل اليوم يتكلمون، فلما جاء مصطفى كامل علّمهم كيف يصيحون، فلما صاحوا وأسمعوا عرفوا أن آذان السياسة لا يخترقها إلا الصوت الجهوري, ولولاه ما كانوا يعرفون. كان الوطنيون يحتقرون أنفسهم ويسيئون الظن بها, فلا يصدقون أن تربة مصر تنبت أمثال فولتير وهوجو وغاريبالدي وواشنطون، فلما نبغ بينهم مصطفى كامل عرفوا أن تربة مصر لا تختلف كثيرا عن تربة أوروبا لو تعهدها الزارعون. كان لمصطفى كامل أنامل أشبه شيء بريشة الموسيقار يضرب

بها على أوتار القلوب، وكأنما كان بينه وبينها سلك كهربائي, فهي تتحرك بحركته وتسكن بسكونه. ما كان مصطفى كامل أذكى الناس ولا أعلم الناس ولا أعقل الناس, ولكنه كان أشجع الناس. كان يفكر فيقتنع فيصمم فيمضي, فلا ينثني حتى الموت. كان يخطئ أحيانا في اتخاذ الوسائل إلى آماله، ولكنه ما كان يتمهل كثيرا ليتبين أي طريق يأخذ, ولا أي مسلك يسلك مخافة أن تفتر همته بين الأخذ والرد, فيكون خطؤه في قعوده أكثر من خطئه في جهاده. كان له منافسون يرمونه بالخفة والطيش، ويقولون له: إنك مخطئ أو مضر أو غير محسن أو غير عظيم، فما كان يصدق من ذلك شيئا، كأنما كان ينظر بعين الغيب إلى هذا اليوم الذي اتفق فيه أصدقاؤه وأعداؤه, وخصومه وأولياؤه أنه رجل عظيم. ما كان مصطفى كامل من الأغنياء ولا من بيت الملك، وما كان آمرا ولا ناهيا، ولا رافعا ولا خافضا، ولكنه لقي من إجلال الناس لموته وإعظامهم لمصيبته ما لم يلق واحد من هؤلاء، ولا فضل لهم في ذلك عليه، فهو الذي علمهم كيف يحترمون العقول ويجلون المناقب والمزايا.

فيأيها القارئ الكريم: إن كان لك ولد تحب أن تجعله رجلا, فاجعل بين يديه حياة مصطفى كامل؛ ليتعلم منها الشجاعة والإقدام. ويأيها المصري: كن أحرص الناس على وطنيتك، ولا تبغ بها بدلا من عرض الدنيا وزخرفها؛ فإنك إن فعلت كنت مصطفى كامل. ويأيها الإنسان: أقدم على عظائم الأمور ولا تلتفت يمنة ولا يسرة, واخترق بسيف شجاعتك صفوف المعترضين والمنتقدين والمتهكمين، فإنهم سيعترفون بفضلك ويسمونك عظيما كما سموا مصطفى كامل. ويأيها الراحل المودع: إن بين جنبي لوعة تعتلج لفراقك, لا أعرف سبيلا إلى التعبير عنها إلا القلم. ها أنذا أعالج القلم علاجا شديدا على أن يسعفني بحاجتي, وها أنذا أقلبه ظهرا لبطن وأكثر من استمداده وأضغط به على القرطاس ضغطا شديدا, فلا أراه يغني عني شيئا. خطر لي أن الحزن في سويداء القلب, وأنه بعيد الغور لا تبلغ إليه هذه الأداة القصيرة التي في يدي فاستبدلت منها أداة أطول منها, فكان حكمها حكم سابقتها.

إذن كيف أعبر عن وجدي عليك أيها الفقيد الكريم، وقد خرس القلم وعيَّ اللسان؟! الآن عرفت السبيل, ووصلت إلى ما أريد. أنت الآن في عالم الأرواح وقد انكشف لك كل شيء من أسرار القلوب ودخائل الصدور، ولا بد أن يكون قد انكشف لك ما يكنّ قلبي من الوجد عليك، فما حاجتي بعد ذلك إلى ترجمة القلم أو تعبير اللسان. أيها الراحل المودع: طبت حيا وميتا، خدمت أمتك في حياتك وبعد مماتك، لولا حياتك ما نمت العاطفة الوطنية في نفوس المصريين، ولولا مماتك ما عرف العالم بأجمعه أن الأمة المصرية على اختلاف مشاربها ومذاهبها تجمعها كلمة واحدة، وهي حب الوطن وحب رجاله العاملين.

دمعة على الإسلام

دمعة على الإسلام: كتب إليّ كاتب من علماء الهند كتابا يقول فيه: إنه اطلع على مؤلَّف ظهر حديثا بلغة "التأميل" وهي لغة الهنود الساكنين بناقور وملحقاتها بجنوب مِدارس، موضوعه تاريخ حياة السيد عبد القادر الجيلاني وذكر فضائله وكراماته, فرأى فيه من بين الصفات والألقاب التي وصف بها السيد عبد القادر ولقبه بها صفات وألقابا هي أجدر بمقام الألوهية منها بمقام النبوة, فضلا عن مقام الولاية كقوله: "سيد السموات والأرض" و"النفاع الضرار" و"المتصرف في الأكوان" و"المطلع على أسرار الخليقة" و"محيي الموتى" و"مبرئ الأعمى والأبرص والأكمه" و"أمره من أمر الله" و"ماحي الذنوب" و"دافع البلاء" و"الرافع الواضع" و"صاحب الشريعة" و"صاحب الوجود التام" إلى كثير من أمثال هذه النعوت, والألقاب. ويقول الكاتب: إنه رأى في ذلك المؤلَّف فصلا يشرح فيه المؤلف الكيفية التي يجب أن يتكيف بها الزائر لقبر السيد عبد القادر الجيلاني, يقول فيه:

"أول ما يجب على الزائر أن يتوضأ وضوءا سابغا, ثم يصلي ركعتين بخشوع واستحضار, ثم يتوجه إلى تلك الكعبة المشرفة, وبعد السلام على صاحب الضريح المعظم يقول: "يا صاحب الثقلين أغثني وأمدني بقضاء حاجتي، وتفريج كربتي". "أغثني يا محيي الدين عبد القادر، أغثني يا ولي عبد القادر، أغثني يا سلطان عبد القادر، أغثني يا بادشاه عبد القادر، أغثني يا خوجه عبد القادر". "يا حضرة الغوث الصمداني, يا سيدي عبد القادر الجيلاني عبدك ومريدك مظلوم عاجز, محتاج إليك في جميع الأمور في الدين والدنيا والآخرة"". ويقول الكاتب أيضا: إن في بلدة "ناقور" في الهند قبرا يسمى "شاه الحميد" وهو أحد أولاد السيد عبد القادر كما يزعمون, وإن الهنود يسجدون بين يدي ذلك القبر سجودهم بين يدي الله، وإن في كل بلدة وقرية من بلدان الهند وقراها مزارا يمثل مزار السيد عبد القادر, فيكون القبلة التي يتوجه إليها المسلمون في تلك البلاد, والملجأ الذي يلجئون في حاجاتهم وشدائدهم إليه، وينفقون من الأموال على خدمته وسَدَنته وفي موالده وحفلاته

ما لو أنفق على فقراء الأرض جميعا لصاروا أغنياء. هذا ما كتبه إلي ذلك الكاتب، ويعلم الله أني ما أتممت قراءة رسالته حتى دارت بي الأرض الفضاء، وأظلمت الدنيا في عيني, فما أُبصر مما حولي شيئا حزنا وأسفا على ما آلت إليه حالة الإسلام بين أقوام أنكروه بعدما عرفوه، ووضعوه بعدما رفعوه، وذهبوا به مذاهب لا عهد له بها، ولا قِبَل له باحتمالها. أي عين يجمل بها أن تستبقي من شئونها قطرة لا تريقها أمام هذا المنظر المؤثر؛ منظر أولئك المسلمين وهم ركّع سجّد على أعتاب قبر ميت ربما كان بينهم من هو خير منه في حياته، فأحرى أن يكون كذلك بعد مماته! أي قلب يستطيع أن يستقر بين جنبي صاحبه ساعة واحدة فلا يخفق وجدا أو يطير جزعا حينما يرى المسلمين أصحاب دين التوحيد أكثر المشركين إشراكا بالله، وأوسعهم دائرة في تعدد الآلهة وكثرة المعبودات. لماذا ينقم المسلمون التثليث من المسيحيين؟! ولماذا يحملون لهم في صدورهم تلك الموجدة وذلك الضغن؟! وعلام يحاربونهم وفيم يقاتلونهم، وهم لم يبلغوا من الشرك بالله مبلغهم، ولم يغرقوا فيه إغراقهم؟!

يدين المسيحيون بآلهة ثلاثة, ولكنهم كأنهم يشعرون بغرابة هذا التعدد وبعده عن العقل, فيجملون فيه يقولون: إن الثلاثة في حكم الواحد، أما المسلمون فيدينون بآلاف من الآلهة أكثرها جذوع أشجار وجثث أموات وقطع أحجار من حيث لا يشعرون. كثيرا ما يضمر الإنسان في نفسه أمرا وهو لا يشعر به، وكثيرا ما تشتمل نفسه على عقيدة وهو لا يحس باشتمال نفسه عليها، ولا أرى مثلا لذلك أقرب من المسلمين الذين يلجئون في حاجاتهم ومطالبهم إلى سكان القبور ويتضرعون إليهم تضرعهم للإله المعبود، فإذا عتب عليهم في ذلك عاتب قالوا: إنا لا نعبدهم وإنما نتوسل بهم إلى الله، كأنهم لا يشعرون أن العبادة ما هم فيه، وأن أكبر مظهر من مظاهر الإله المعبود أن يقف عباده بين يديه ضارعين إليه يلتمسون إمداده ومعونته، فهم في الحقيقة عابدون لأولئك الأموات من حيث لا يشعرون. جاء الإسلام بعقيدة التوحيد ليرفع نفوس المسلمين ويغرس في قلوبهم الشرف والعزة والأنفة والحميّة, وليعتق رقابهم من رقِّ العبودية فلا يذل صغيرهم لكبيرهم، ولا يهاب ضعيفهم قويهم، ولا يكون لذي سلطان بينهم سلطان إلا بالحق والعدل، وقد

ترك الإسلام بسرّ عقيدة التوحيد ذلك الأثر الصالح في نفوس المسلمين في العصور الأولى، فكانوا ذوي أنفة وعزة وإباء وغيره, يضربون على يد الظالم إذا ظلم، ويقولون للسلطان إذا جاوز حده في سلطانه: لا تغلُ في تقدير نفسك، ولا تخرجْ عن دائرتك؛ فإنما أنت عبد مخلوق، لا رب معبود، واعلم أنه لا إله إلا الله. هذه صورة من صور نفوس المسلمين في عصر التوحيد، أما اليوم وقد داخل عقيدتهم ما داخلها من الشرك الباطن تارة والظاهر أخرى فقد ذلت رقابهم، وخفقت رءوسهم، وضرعت نفوسهم، وفترت حميتهم، فرضوا بخطة الخسف واستناموا إلى المنزلة الدنيا, فوجد أعداؤهم السبيل إليهم فغلبوهم على أمرهم, وملكوا عليهم نفوسهم وأموالهم ومواطنهم وديارهم فأصبحوا من الخاسرين. والله لن يسترجع المسلمون سالف مجدهم، ولن يبلغوا ما يريدون لأنفسهم من سعادة الحياة وهنائها إلا إذا استرجعوا قبل ذلك ما أضاعوه من عقيدة التوحيد، وإن طلوع الشمس من مغربها وانصباب ماء النهر في منبعه أقرب من رجوع الإسلام إلى سالف مجده ما دام المسلمون يقفون بين يدي الجيلاني كما يقفون بين يدي الله, ويقولون للأول كما يقول للثاني -جل جلاله:

"أنت المتصرف في الكائنات، وأنت سيد الأرضين والسموات". إن الله أغير على نفسه من أن يُسعد أقواما يزدرونه ويحتقرونه ويتخذونه وراءهم ظهريا، فإذا نزلت بهم جائحة أو ألمت بهم ملمة ذكروا الحجر قبل أن يذكروه، ونادوا الجذع قبل أن ينادوه. بمن أستغيث وبمن أستنجد ومن الذي أدعو لهذه الملمة، أأدعو علماء مصر وهم الذين يتهافتون على يوم "الكنسة"1 تهافت الذباب على الشراب، أم علماء الأستانة وهم الذين قتلوا جمال الدين الأفغاني فيلسوف الإسلام وأحيوا أبا الهدى الصيادي شيخ الطريقة الرفاعية، أم علماء العجم وهم الذين يحجون إلى قبر الإمام كما يحجون إلى البيت الحرام، أم علماء الهند وبينهم مثل مؤلف ذلك الكتاب؟! يا قادة الأمة ورؤساءها، عذرنا العامة في إشراكها وفساد عقائدها، وقلنا: إن العامي أقصر نظرا وأضعف إدراكا من أن يتصور الألوهية إلا إذا رآها ماثلة في النصب والتماثيل والأضرحة والقبور، فما عذركم أنتم وأنتم تتلون كتاب الله, وتقرءون صفاته ونعوته, وتفهمون معنى قوله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاّ اللَّهُ} وقوله

_ 1 يوم يذهب فيه علماء الدين إلى ضريح الإمام الشافعي؛ للتبرك بكنس ترابه.

مخاطبا نبيه: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا} , وقوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} ؟! إنكم تقولون في صباحكم ومسائكم وغدوكم ورواحكم: "كل خير في اتباع من سلف، وكل شر في ابتداع من خلف" فهل تعلمون أن السلف الصالح كانوا يجصِّصون قبرا أو يتوسلون بضريح؟! وهل تعلمون أن أحدا منهم وقف عند قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أو قبر أحد من الصحابة وآل بيته يسأله قضاء حاجة أو تفريج كربة؟! وهل تعلمون أن الرفاعي والدسوقي والجيلاني والبدوي أكرم عند الله وأعظم وسيلة إليه من الأنبياء والمرسلين، والصحابة والتابعين؟! وهل تعلمون أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما نهى عن إقامة الصور والتماثيل نهى عنها عبثا ولعبا أم مخافة أن تعيد للمسلمين جاهليتهم الأولى؟! وأي فرق بين الصور والتماثيل وبين الأضرحة والقبور ما دام كل منها يجر إلى الشرك, ويفسد عقيدة التوحيد؟! والله ما جهلتم شيئا من هذا ولكنكم آثرتم الدنيا على الآخرة, فعاقبكم الله على ذلك بسلب نعمتكم، وانتقاض أمركم، وسلط عليكم أعداءكم يسلبون أوطانكم، ويستعبدون رقابكم، ويخربون دياركم، والله شديد العقاب.

السياسة

السياسة: حضرة السيد الفاضل ما لك لا تكثر من الكتابة في الشئون السياسية إكثارك منها في الشئون الأخلاقية والاجتماعية؟ وكيف يضيق بالسياسة قلمك وقد وسع كل شيء؟ فاكتب لنا في السياسة, فأمتك تحب أن تراك سياسيا والسلام فلان. أيها الكاتب: يعلم الله أني أبغض السياسة وأهلها بغضي للكذب والغش والخيانة والغدر. أنا لا أحب أن أكون سياسيا؛ لأني لا أحب أن أكون جلّادا. لا فرق عندي بين السياسيين والجلادين إلا أن هؤلاء يقتلون الأفراد, وأولئك يقتلون الأمم. هل السياسي إلا رجل عرفت أمته أنه لا يوجد بين أفرادها من هو أقسى منه قلبا، ولا أكثر كيدا؛ فنصبته

للقضاء على الأمم الضعيفة وسلبها ما وهبها الله من الحسنات، وأجزل لها من الخيرات. أليس أكبر السياسيين مقاما وأعظمهم فخرا وأسيرهم ذكرا ذلك الذي نقرأ صفحات تاريخه, فنرى حروفها من أشلاء القتلى, ونُقَطها من قطرات الدماء. أيستطيع الرجل أن يكون سياسيا إلا إذا كان كاذبا في أقواله وأفعاله، يبطن ما لا يظهر، ويظهر ما لا يبطن، ويبتسم في مواطن البكاء، ويبكي في مواطن الابتسام. أيستطيع الرجل أن يكون سياسيا إلا إذا عرف أن بين جنبيه قلبا متحجرا لا يقلقه بؤس البائسين، ولا تزعجه نكبات المنكوبين. كثيرا ما يسرق السارق, فإذا قضى مأربه رفع يده متضرعا إلى الله أن يرزقه المال حلالا حتى لا يتناوله حراما، وكثيرا ما يقتل القاتل فإذا فرغ من أمره جلس بجانب قتيله يبكي عليه بكاء الثكلى على وحيدها، أما السياسي فلا يرى يوما في حياته أسعد من اليوم الذي يعلم فيه أن قد تم له تدبيره في إهلاك شعب وإفقار أمة، وآية ذلك أنه في يوم انتصاره كما يسميه هو أو في يوم جنايته كما أسميه أنا يسمع هتاف الهاتفين مطمئن القلب

مثلج الصدر، حتى ليخيل إليه أن الفضاء بأرضه وسمائه أضيق من أن يسع قلبه الطائر المحلق فرحا وسرورا. يقولون: إن السياسة ليست علما من العلوم التي يتعلمها الإنسان في مدرسة أو يدرسها في كتاب، وإنما هي مجموعة أفكار قانونها التجارب وقاعدتها العمل، أتدري لماذا؟ لأن العلماء أشرف من أن يدونوا المكايد والحيل في كتاب، والمدارس أجلّ من أن تجعل بجانب دروس الأخلاق والآداب دروس الأكاذيب والأباطيل، وإلا فكل طائفة من طوائف المعلومات المتشابهة تدخل بطبيعتها تحت قانون عام يؤلفها, ويجمع بين أشتاتها. هؤلاء هم السياسيون وهذه هي أخلاقهم وغرائزهم في الأعم الأغلب من شئونهم وأطوارهم، فهل تظن أيها الكاتب أن رجلا نصب نفسه لنصرة الحقيقة والأخذ بضبعي الفضيلة لاستنقاذها من بين مخالب الرذيلة, ووقف قلمه على تهذيب النفوس وترقية الخلاق, وملأ في رسائله فضاء الأرض والسماء بكاء ونواحا على أمته المسكينة المستضعفة, يستطيع أن يكون سياسيا أو محبا للسياسيين؟!

خداع العناوين

خداع العناوين: لقد جهل الذين قالوا: إن الكتاب يعرف بعنوانه، فإني لم أر بين كتب التاريخ أكذب من كتاب بدائع الزهور ولا أعذب من عنوانه، ولا بين كتب الأدب أسخف من كتاب جواهر الأدب ولا أرق من اسمه، كما لم أر بين الشعراء أعذب اسما وأحط شعرا من ابن مليك وابن النبيه والشاب الظريف. لقد كثر الاختلاف بين العناوين وبين الكتب حتى كدنا نقول: إن العناوين أدل على نقائضها منها على مفهوماتها، وألصق بأضدادها منها بمنطوقاتها، وإن العنوان الكبير حيث الكتاب الصغير، والكتاب الجليل حيث العنوان الضئيل. الأتقياء: لولا خداع العناوين ما سمينا صالحا تقيا كل من حرك سُبحته، وأطال لحيته، ووسع جُبته، وكوّر عمامته، ولقد نعلم أن وراء هذا العنوان الأبيض كتابا أسود الصفحات، كثير السقطات، وأن تحت هذا الستر الحريري الرقيق نفسا سوداء

مظلمة لا ينفذ إليها شعاع من أشعة الرحمة، ولا تهبّ عليها نسمة من نسمات الإحسان. لن يؤمن المؤمن حتى يبذل في سبيل الله أو في سبيل الجماعة من ذات نفسه أو ذات يده ما يشق على مثله الجود بمثله، أما الجود بالشفاه للهمهمة، والأنامل للمسبحة، فعمل لا يتكلف صاحبه له أكثر مما يتكلف لتقليب ناظريه، وتحريك هُدبيه، وهل خلقت الشفاه إلا للتحريك، والأنامل إلا للتقليب؟ إن للإيمان مواقف يمتحن الله فيها عباده ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين، فإن بذل الضنين بماله ماله في مواقف الرحمة والشفقة، والشحيح بنفسه نفسه في سبيل الذود عن حوضه، والذب عن عشيرته وقومه، وضعيف العزيمة ما يملك من قوة وأيد في مغالبة شهوات النفس ومقاومة نزواتها، فذلك المؤمن الذي لا يشوب إيمانه رياء ولا دهان، ولا يخالط يقينه خداع ولا كذب، أو لا فأهون بهمهمته ودمدمته، ومسواكه ومسبحته، وهو بعنوان المنافق الكاذب أحرى منه بعنوان التقي الصالح {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} .

الوطنيون: كنا وكان الرجل لا يبلغ ما يشتهيه من رتبة الوطنية إلا إذا قام في أمته مقاما محمودا يخاطر فيه بإحدى جوهرتيه ليدفع عنها خطبا مقبلا أو ينقذها من بلاء محيط، فإما بلغ في هجرته الغاية التي يريدها، وإما هلك من دونها هلاكا لا تؤلم نفسه صدمته، ولا تمر بفمه غضاضته؛ لأنه مخلص، وحسب المخلص جزاء له على إخلاصه أنه وفّى دينه الذي كان يثقل ظهره وكفى، فأصبحنا وليس بين المرء وبين نيل ألقاب الوطنية الأولى, وشاراتها الفضلى إلا صرخة عالية يصرخها في أحد المجامع, أو كلمة تافهة يكتبها في إحدى الصحف حتى تقام له الحفلات كما تقام لعظماء الرجال، وتمد إليه الأصابع كما تمد للقواد الأبطال، وربما كانت صرخة ذلك الصارخ جنة تمثلت في رأسه تمثل النهيق في رأس الحمار، فلما حان حينها عطس بها في ذلك المجمع الذي صادفه في طريقه لينفس عن نفسه، ويفرج من كربته، وربما كانت كلمة ذلك الكاتب نغمة من نغمات السؤال التي يترنم بها المتسولون، أو رقية من رقى الممخرقين التي يهمهمون بها استنداء للأكف, واستدرارا لحسنات المحسنين. أعجب ما يعجب له المرء في هذه الأمة أنها لا تصدق الرجل

المستور إذا ادعى على آخر بفلس أو سحتوت حتى تطالبه بالشهود العدول والصكوك المؤكدة والأيمان المحرِّجة، فإذا قام بين يديها من لا تعرف له عدلا في سيرته، ولا صدقا في قوله، ولا إخلاصا في عمله، فادعى الوطنية لنفسه، والوطنية أثمن من الجوهر المنتقى واللؤلؤ المكنون، حكمت له بصحة دعواه في قضيته حكم القضاة الظالمين, بغير بيِّنة ولا يمين. لولا خداع العناوين لوجدنا بين التجار الأمناء الذين يخدمون أمتهم بالصدق في القول والأمانة في العمل، والموظفين الشرفاء الأعفاء الذين لا يحابون ولا يصانعون، والحكام العادلين المخلصين لله وللأمة في السر والعلن، والزارعين المستقيمين، والصناع المجدين، والأكَّارين المستضعفين، من هو أولى بلقب الوطنية من أولئك الصارخين المتهوسين، والكاتبين المخادعين. الأمجاد: يقولون: إن الولد سر أبيه, ويريدون بذلك أنه المرآة التي ترتسم فيها صورته والبذرة التي تكمن فيها حقيقته وماهيته، وعلى هذه القاعدة بنى البانون قاعدة المجد, فأعظموا شأن الرجل الذي يمسك بطرف سلسلة في النسب يتصل أولها بعظيم من عظماء النفوس، أو شريف من شرفاء الأخلاق.

ثم ما زال الناس يعبثون بعنوان الشرف ويتوسعون في معناه حتى نظموا في سلكه الجبابرة الذين يسمونهم أمراء، والظلمة الذين يسمونهم ملوكا، والسفاحين الذين يسمونهم قوادا، واللصوص الذين يسمونهم وجهاء، فساقهم الخطأ في فهم الشرف إلى الخطأ في فهم المجد، فسموا ماجدا كل من ولد في فراش ملك وإن كان الحاكم بأمر الله، أو أمير وإن كان الحجاج، أو وزير وإن كان ابن الزيات، أو قائد وإن كان تيمورلنك، أو غني وإن كان قارون. لا مجد إلا مجد العلم، ولا شرف إلا شرف التقوى، ولا عظمة إلا عظمة الآخذين بيد الإنسانية البائسة رحمة بها, وحنانا عليها. أولئك هم الأمجاد، وأولئك الذين يفخر الفاخرون بالاتصال بهم والانتماء إليهم، وأولئك هم المفلحون. الأغنياء: لم أر بين جماعة المتسولين الذين يضربون في الأرض وراء لقمة يتبلغون بها أو خرقة يتقون بخيوطها البالية ما يتقون من لفحة الرمضاء، وهبة النكباء، ولا بين البؤساء الذين يحرقون فحمة الليل بكاء ونحيبا حول صغار كفراخ القطا يتلوَّوْن في

مضاجعهم من الجوع تلوّي الأفاعي المضطربة فوق الرمال الملتهبة، وتحت الشمس المحرقة، أسوأ حالا، ولا أنكد عيشا، ولا أكثر عناء، من هؤلاء الفقراء الذين يسميهم الناس أغنياء. يأكل الموسر الباخل كما يأكل الفقير ويجلس كما يجلس وينام كما ينام ويتشهى كما يتشهى حتى لتكاد تثب أمعاؤه من جوفه وتسيل أحشاؤه من فمه شوقا إلى ما حرّم على نفسه من شهوات العيش وملذاته، ويستنّ1 استنان الجواد الضامر في ميدان السبق وراء الدرهم البعيد مناله حتى تنبهر أنفاسه، وتتخاذل أوصاله، حتى لو تخيل أن نجوم السماء دنانير منثورة لطار إليها بغير جناح فسقط هاويا, أو أن في بطن الأرض كنزا مذخورا لتمنى أن لو انفجر بركانها تحت قدميه فابتلعه, فأصبح من الهالكين. الغني هو الغني بما في يده عما في أيدي الناس، والفقير هو الذي لا يقنعه في هذه الحياة مقنع، ولا تقف به نفسه عند مطمع, فانظر تحت أي عنوان من هذين العنوانين تضع البخلاء الموسرين. المجرمون: حضرت مجلسا من مجالس الأحكام حكم فيه قاضٍ مرتشٍ على متهم سرق رغيفا، فوضعت يميني على فمي مخافة أن يخرج أمر

_ 1 استن الجواد: قمص وعدا, إقبالا وإدبارا.

نفسي من يدي, فأهتف صارخا لما ألم بقلبي من الرعب والفزع صرخة تدوي بها جوانب القاعة دوي الموج الثائر في البحر الزاخر، قائلا: مهلا رويدا أيها الحاكم الظالم، فأنت إلى قاض عادل تقف بين يديه أحوج منك إلى كرسي فخم تجلس عليه، ولو عدل القانون بينك وبين هذا الماثل بين يديك لبت وأعلاكما الأسفل. إنك ترتزق في كل شهر ثلاثين دينارا فلم ترتش إلا لأنك شره طماع، وهذا السارق لم يسرق ذلك الرغيف إلا لأنه جائع ملتاع، ولو ملك مما تملك ثلاثين درهما ما فعل فعلته التي فعل، فأنت مجرم إلا أنك في وشاح شريف، وهو شريف إلا أنه في شملة مجرم. فيا لله للحقيقة التي عبثت بها القوانين، ولعبت بعقول الناس فيها العناوين. رب نفس بين جدران السجون أطهر قلبا وأنقى ردنا وأبيض عرضا من مثلها بين جدران القصور، ورب طريدة من طرائد المجتمع الإنساني ساقها المقدار الذي لا مفر من حكمه إلى وقفة فوق أعواد المشنقة كان أجدر بها ذلك المرابي الذي ينصب حبالة ماله لخراب البيوت العامرة، وإطفاء النجوم الزاهرة، أو ذلك القائد الذي يسفك في مواقفه دم مائة ألف أو يزيدون في

غير سبيل سوى سبيل المجد المصنوع، والفخر الموضوع، أو ذلك السياسي الذي يدبر المكيدة للحملة على أمة مستضعفة آمنة في مرقدها، سعيدة في نفسها، فيستعبد أحرارها، ويستذل أعزاءها، ثم يسلبها أثمن ما تملك يمينها من حريتها واستقلالها، وسعادتها وهنائها. المتمدينون: ليس بين المصري وبين أن يأخذ من إخوانه المصريين لقب الشاب العصري أو الرجل المتمدين إلا أن يصقل جبهته، ويصفف طرّته، ويفتح فمه للابتسام المتصنع، ويقوس يده للسلام المتعمل، ويستكثر في حديثه من ذكر المدنية الغربية وشئونها، وسرد أسماء نسائها ورجالها، وطرفها ونوادرها، ويستحسن ما تستحسنه وإن كان البراز والانتحار، ويستطرف ما تستطرفه وإن كان الزندقة والإلحاد، وربما زاد على ذلك شيئا من العلم بفلسفة الميكروبات، ونظرية البالونات، ثم لا يحول بعد ذلك تمدينه بينه وبين أن يكون فاسقا ينتهك الحرمات، أو مدمنا يترامى على أعتاب الحانات، أو أحمق لا يصفح عن ذنب، ولا يصانع في هفوة، ولا يعفو عن سيئة، أو سفيها يشتم حتى أميره وسلطانه، ووالده وأستاذه، أو وقاح الوجه لا يستحيي لمكرمة

ولا يغضي لمروءة، أو شحيحا لا يشرك صاحبه في مطعم ولا مشرب، ولا يفتح بابه لضيف زائر، أو طارق حائر. إن كان حقا ما يقولون من أن التمدين يصقل الطباع الخشنة، ويقوّم الألسنة المعوجة، ويهذب النفوس الجافية، ويوسع الصدور الحرجة، فكثير ممن ندعوهم متمدينين متوحشون، وكثير ممن نسميهم همجيين مهذبون. لو كان بي أن أكتب لمحو الفساد من المجتمع الإنساني والقضاء على شروره وآثامه لما حركت يدا، ولا جردت قلما؛ لأني أعلم كما يعلم الناس جميعا أن طلب المحال عثرة من عثرات النفوس، وضلة من ضلالات العقول، ولكنني أطلب مطلبا واحدا لا أرى في عقول الناس وأفهامهم ما يحول بينهم وبين تصوره وإدراكه، أن يهذبوا قليلا من هذه المصطلحات التي أنسوا بها، والعناوين التي جمدوا عليها. فلا يسمون المنافق تقيا، ولا المخادع وطنيا، ولا المتمجد ماجدا، ولا البخيل غنيا، ولا المفلوك مجرما، ولا المتوحش متمدينا، حتى لا ينزع محسن عن إحسانه، ولا يستمر مسيء في إساءته.

الإغراق

الإغراق: بين الإغراق في المدح, والإغراق في الذم تموت الحقيقة موتا لا حياة لها من بعده إلى يوم يبعثون. يسمع السامع أن زيدا ملك كريم، ثم يسمع أنه شيطان رجيم، فيخرج منه صِفْر اليدين، لا يعلم أين مكانه من هذين الطرفين. يقولون: إن المشعوذين إذا أرادوا أن يسحروا أعين الناس وضعوا في سقف غرفة قطعة من المغناطيس وفي أرضها قطعة أخرى، ثم يتركون في الفضاء قطعة من الحديد لا تزال تترجح بين هذين الجاذبين. هكذا تضطرب الحقيقة في أيدي المغرقين، اضطراب الحديدة في أيدي المشعوذين. الحقيقة بين الكاذب والكاذب، كالحبل بين الجاذب والجاذب، كلاهما ينتهي به الأمر إلى الانقطاع. لو علم الذي ينصب نفسه للموازنة بين الأشخاص أنه جالس

على كرسي القضاء, وأن الناس سيسألونه عما قال كما يسألون القاضي عما حكم، ما طاش سهمه في حكمه، ولا ركب متن الغلو في تقديره. كما أنه يجب على القاضي أن يقدر لكل جريمة ما يناسبها من العقوبة، كذلك يجب على الكاتب أن يضع كل شخص في المنزلة التي وضعته فطرته فيها، وأن لا يعلو به فوق قدره ولا ينزل به دون منزلته. ليس بين كتَّاب هذا العصر من لم يقرأ في التاريخ الماضي متناقضات الأحكام على الأشخاص، وليس بينهم من لم يتمنّ أن يكون في موضع أولئك المؤرخين حتى لا يغلو غلوهم، ولا يتطرف تطرفهم في أحكامهم. أيها الكتاب المحزونون: لا يحزنكم ما كان؛ فقد مضى ذلك الزمن بخيره وشره، ولئن فاتكم أن تكونوا مؤرخي العصر الماضي فلن يفوتكم أن تكونوا مؤرخي العصر الحاضر، وكما أن للماضي مستقبلا وهو حاضركم هذا، فسيكون لهذا الحاضر مستقبل يحاسبكم فيه رجاله على هفواتكم في أحكامكم، كما تحاسبون اليوم رجال الماضي على غلوهم في أحكامهم، وتطرفهم في آرائهم. إن من التناقض بين أقوالكم وأعمالكم أن تنقموا من

المؤرخين المتقدمين ما أنتم فاعلون، وتأخذوا عليهم ما أنتم به آخذون. كل كاتب عندكم أكتب الكتَّاب، وكل شاعر أشعر الشعراء، وكل مؤلف أعلم العلماء، وكل خطيب رئيس الأمة، وكل فقيه إمام الدين، فأين الفاضل والمفضول، وأين الرئيس والمرءوس؟ وكيف يكون زيد اليوم أفضل من عمرو، ويكون عمرو غدا أفضل منه؟ وأين ملكة التمييز التي وهبها الله لكم لتميزوا بها بين درجات الناس ومنازلهم؟ وهل بلغ التفاوت بين عقولكم وأذواقكم أن يكون الرجل الواحد في نظر بعضكم خير الناس، وفي نظر البعض الآخر شر الناس؟ إني حبست الآن قلمي عن الكتابة؛ لأتجرد عن نفسي ساعة من الزمان, فتخيلت كأني رجل من رجال العصور الآتية، وأني ذهبت إلى دار من دور الكتب القديمة لأفتش فيها عن تاريخ عظيم من عظماء عصركم, فقرأت ما كتبتموه عنه في مؤلفاتكم وصحفكم, فرأيته تارة عظيما وأخرى حقيرا، ومرة شريفا ومرة وضيعا، ورأيته عالما وجاهلا وذكيا وغبيا وعاقلا وممرورا1 في آن واحد، فخرجت أضل مما دخلت، لا أعرف من تاريخ

_ 1 الممرور: المصاب بخبل في عقله.

الرجل أكثر من أنه رجل، أي: إنه ذكر بالغ من بني آدم. أيها القوم: إنكم لا تستطيعون أن تكونوا رجالا عادلين في أحكامكم وآرائكم إلا إذا أصلحتم نفوسكم قبل ذلك, وتعلمتم كيف تستطيعون أن تتجردوا عن أهوائكم وأغراضكم قبل أن تمسكوا بأقلامكم. أيها القوم: إن عجزتم عن أن تكونوا عادلين، فكونوا راحمين، فارحموا أنفسكم وأعفوها من الدخول في مأزق أنتم عاجزون عنه، فقد ضاقت صدورنا بهذه المتناقضات، وسئمت نفوسنا تلك المبالغات.

اللقيطة

اللقيطة: مر عظيم من عظماء هذه المدينة بزُقاق من أزقة الأحياء الوطنية في ليلة من ليالي الشتاء ضرير نجمها، حالك ظلامها، فرأى تحت جدار متهدم فتاة صغيرة في الرابعة عشرة من عمرها جالسة القرفصاء1 وقد وضعت رأسها بين ركبتيها اتقاء للبرد الذي كان يعبث بها عبث النكباء بالعود، وليس في يدها ما تتقيه به إلا أسمال تتراءى مزقها2 فوق جسمها العاري, كأنها آثار السياط فوق أجسام المستعبدين في عهود الاستبداد. وقف الرجل أمام هذا المشهد المحزن المؤثر وقفة الكريم الذي تؤلمه مناظر البؤس وتزعج نفسه مواقف الشقاء، ثم تقدم نحوها وهز يدها برفق فرفعت رأسها مرتاعة مذعورة, وهمت بالفرار من بين يديه وهي تصيح: "لا أعود, لا أعود" فلم يزل يمسحها3 ويروضها حتى هدأ روعها وعاد إليها رشدها, وعلمت

_ 1 القرفصاء: أن يحتبي الرجل بيديه, فيضعهما على ساقيه وهو جالس. 2 المزق: القطع. 3 مسحه: أمرَّ يده عليه.

أنها ليست بين يدي الرجل الذي تخافه, فنظرت إليه نظرة هادئة ساكنة لو أنها اتصلت بلسان ناطق وفم لحدثت عما وراءها من لواعج الأحزان، وأفانين الأشجان. - ما اسمك أيتها الفتاة؟ - لا أعلم يا سيدي. - بماذا ينادونكِ؟ - يدعونني اللقيطة. - وهل أنت لقيطة كما يقولون؟ - نعم يا سيدي؛ لأني لا أعرف لي أبا ولا أما في الأحياء ولا في الأموات سوى رجل يتولى شأني ويضمني في منزله، وكنت أحسبه أبي فيمتلئ قلبي سرورا به وعطفا عليه، فلما رأيت أنه يعذبني عذابا أليما ويحمِّلني من آلام الحياة وأسقامها ما لا يحمِّله الآباء أبناءهم, علمت أني وحيدة في هذا العالم وفهمت معنى الكلمة التي يناديني بها، فألمّ بنفسي من الحزن والألم ما الله عالم به، وكنت كلما مشيت في الطريق ورأيت فتاة صغيرة سألتها: ألكِ أم؟ فتجيبني: نعم، ثم تقص علي من قصص عطف أمها عليها ورأفتها بها ما يزيدني هما، ويملأ قلبي يأسا، حتى كان يخيل إلي أنني أذنبت قبل وجودي في هذا العالم ذنبا عاقبني الله عليه

بهذا الوجود، بيد أني صبرت على هذا الرجل وعلى ما كان يكلفني به من التسول على قارعة الطريق؛ إبقاء على نفسي وضنا بحياتي أن تغتالها غوائل الدهر، وكان كلما رأى حاجتي إليه وإلى مأواه اشتطّ في ظلمي ولؤُم في معاملتي، حتى صار يضربني ضربا مبرحا كلما عدت إليه عشاء بأقل من الجعل الذي فرض علي جمعه في كل يوم، وما زلت أصابره برهة من الزمان حتى جاءني هذه الليلة بداهية الدواهي ومصيبة المصائب، فقد حاول أن يسلب من بين جنبيّ جوهرة العفاف التي لم يبق في يدي ما يعزيني عما فقدته من هناء الحياة ونعيمها سواها، فلم أر لي بدا من أن أفر من بين يديه متسللة تحت جنح الظلام من حيث لا يشعر بمكاني، وما زلت أمشي على غير هدى لا أعرف لي مذهبا ولا مضطربا حتى أويت إلى هذا الزقاق كما تراني، فهل لك يا سيدي أن تحسن إلي كما أحسن الله إليك، وأن تبتاع لي رغيفا من الخبز أتبلغ به، فقد مر بي يومان لم أذق فيهما طعاما ولا شرابا؟ سمع الرجل من الفتاة هذه القصة المحزنة فما استقبلها إلا بدموع حارة تنحدر على خديه انحدار العقد وهَى سلكة، ثم أخذ بيدها ومشى بها صامتا واجما لا يكاد يستفيق شهيقا وزفيرا حتى بلغ منزله، وهنالك صنع بها صنع الكريم بأهله، وأبلغها من

دهرها ما لم تكن تمني نفسها بالوشل القليل منه، وما هي إلا أيام قلائل حتى ظهرت في قصر ذلك الرجل العظيم فتاة جديدة من أجمل الفتيات وجها وأكرمهن أخلاقا وأرقهن شمائل وأكملهن آدبا، يعرفها كل من عرف صاحب القصر أنها ابنة قريب له مات عنها وخلفها يتيمة, فكان إلى هذا القصر مصيرها. وكان لصاحب القصر فتاة من الفتيات اللواتي ربين التربية الحديثة التي يسمونها "التربية العصرية" ويريدون منها التربية الإفرنجية، فكان كل ما حصلت عليه من العلوم والمعارف, الفنون الآتية: 1- الرطانة الأعجمية حتى مع خادمها الزنجي، وكلبها الرومي. 2- الولوع بمطالعة الروايات الغرامية. 3- البراعة في معرفة أي الأزياء أعلق بالقلوب, وأجذب للنفوس. 4- الكبرياء والعظمة, واحتقار كل مخلوق سواها حتى أبويها. 5- الأثرة وحب الذات حبا يملأ قلبها غيرة وحسدا, حتى إنها لا تستطيع أن تسمع وصفا من أوصاف الحسن يوصف به سواها.

رأت هذه الفتاة الشريفة أن هذه الفتاة اللقيطة قد أصبحت تقاسمها قلب أبيها وقلوب الزائرات من النساء بما وهبها الله من جمال الخَلق وجمال الخُلق، فأضمرت لها في قلبها من البغض والموجدة ما يضمره أمثالها من اللواتي ربين تربيتها ونهجن في سبل الحياة منهجها، فكانت تتعمد إساءتها وازدراءها وتغرى بتبكيتها وتأنيبها، والفتاة لا تبالي بشيء من هذا وفاء لسيدها وولي نعمتها، وترفعا عن النزول إلى منزلة من يغضب لمثل الهِنات الصغيرة حتى حدثت ذات يوم هذه الحادثة: دخل صاحب القصر قصره ليلة من الليالي, فبينا هو صاعد على سلم القصر إذ عثر برقعة ملقاة فتناولها, فقرأ فيها هذه الكلمة: سيدتي: أنا منتظرك عند منتصف الليل في بستان القصر تحت شجرة السرو المعهودة. حبيبك. فما أتم الرجل قراءة البطاقة حتى دارت به الأرض الفضاء, وحتى لمس قلبه بيمينه ليعلم أطار أم لا يزال في مكانه، ثم كأنه أراد أن يخفف ما ألم بنفسه من الحزن والقلق فقال: لعل ذلك الموعد مع تلك الفتاة اللقيطة، ومن الظلم أن أتهم ابنتي قبل أن أعلم الحقيقة، فنظر في ساعته فإذا الساعة قريبة فرجع أدراجه وما زال

يترفق في مشيته ويتنقل في الحديقة من شجرة إلى شجرة حتى وصل إلى شجرة اللقاء، فكمن وراءها ينتظر ما خبأ له الدهر من حدثانه، وما أضمر له الغيب في طياته. لم تكن الرسالة رسالة اللقيطة الوضيعة بل رسالة السيدة الشريفة، وبينما كانت الثانية واقفة في غرفتها أمام مرآتها تختار لنفسها أجمل الأزياء وأليقها بمواقف اللقاء, كانت الأولى نائمة في غرفتها نوما هادئا مطمئنا لا تزعجه زورة الطيف ولا تروعه أحلام الشباب، حتى سمعت وقع أقدام سيدها على سلم القصر فاستيقظت, ثم رابها موقفه فأشرفت عليه من حيث لا يشعر بمكانها فعرفت كل شيء, وعلمت أن سيدها سيقف على سر ابنته الذي كانت تعالج كتمانه زمنا طويلا وأنه لا بد قاتل نفسه في ذلك الموقف حزنا ويأسا، فعناها من أمره ما عناها ثم أطرقت برأسها لحظة تتلمس وجه الحيلة في دفع هذه النازلة وتطلب المخرج منها, ثم رفعت رأسها وقد قررت في نفسها أمرا. نزلت مسرعة من سلم القصر فرأت الفتاة قد خرجت من باب القصر إلى ذلك الموعد, فأدركتها وأمسكت بطرف ثوبها فارتاعت والتفتت إليها وقالت لها: ماذا تريدين مني؟ أتتجسسين عليَّ؟ قالت لها: لا يا سيدتي، وأفضت إليها بالقصة من مبدئها إلى

منتهاها، فأسقط في يدها وعلمت أن أباها قد وقف على سرها فقالت لها: لا تزعجي نفسك فإن أباك لا يعلم أيتنا صاحبة الكتاب, فعودي إلى غرفتك وسأذهب إلى الموعد, مكانك حتى إذا رآني هناك ذهب من نفسه ما كان يخالجها من الشك في أمرك. ثم استمرت أدراجها حتى وصلت إلى تلك الشجرة, وهنالك برز الرجل من مكمنه واقترب منها حتى عرفها, فحمد الله على سلامة شرفه وشرف ابنته ثم قال لها: أيتها الفتاة, إني أحسنت إليك واستنقذتك من يد البؤس والشقاء فأسأت إلي بما فعلت حتى كدت أهلك الليلة حزنا وغما, وألصق بابنتي ذنبك وأحمل عليها عارك, فاخرجي من منزلي, فاللئيم ليس أهلا للإحسان. فخرجت خائبة تتعثر في أذيالها حتى وصلت إلى شاطئ النهر, وهنالك أخرجت مذكرتها من محفظتها وكتبت فيها آخر كلمة خطتها أناملها: "أحمد الله أني قدرت على مكافأة ذلك الرجل الذي أحسن إلي بستر عاره, وإزالة همه وحزنه, وافتدائه بنفسي". ثم ألقت بنفسها في النهر، وما هي إلا دورة أو دورتان حتى

افترق ذانك الصديقان الوفيان، جسمها وروحها، فطفا منهما ما طفا ورسب ما رسب. وفي صباح ذلك اليوم عثر الشرَط بجثة الفتاة الشهيدة, فعرفوها وعادوا بها إلى منزل سيدها فبكاها بكاء كثيرا, وندم على ما أساء به إليها من طردها وإزعاجها, ثم أمر بدفنها ولم يبق في يده من آثارها غير حقيبتها التي حفظها في صندوقه دهرا طويلا. مرت الأيام تلو الأيام وجاءت الحوادث إثر الحوادث, وظهر للرجل من أخلاق ابنته وطباعها وتهتكها واستهتارها ما لم يكن يعرفه من قبل, حتى ضاق بأمرها ذرعا وجلس في غرفته في إحدى الليالي يفكر فيما ساق إليه الدهر من خطوبه ورزاياه، ثم ألم به الضجر فقام يقلب في صندوقه حتى عثر بتلك الحقيبة ولم يكن قد فتحها حتى هذه الساعة، فإنه ليقرأ فيها إذ عثر بتلك الكلمة التي كتبتها الفتاة على شاطئ النهر قبل موتها, فما أتى على آخرها حتى عرف كل شيء، فسقط مغشيا عليه يعالج من الحزن والهم ما يعالج المحتضر من سكرات الموت. فما استفاق من غشيته حتى صار يهذي هذيان المحموم, ولبث على هذا الحال بضعة أشهر يمرض ثم يبل, ثم يمرض ثم يبل, حتى أدركته رحمة الله فمرض مرضا لم ينقض إلا بانقضاء أجله.

فيأيها الوالد المجهول الذي قذف بتلك الفتاة البائسة في بحر هذا الوجود الزاخر: أعلمت قبل أن تفعل فعلتك التي فعلت أنك ستبرز إلى هذا العالم فتاة تلاقي من شقائه وآلامه ما لا قبل لها, ولا لمخلوق من البشر باحتماله. ويأيها الآباء العظماء: إن كنتم تريدون أن تسلموا بناتكم إلى هذه المدنية الغربية تتولى عنكم شأنهن وتكفل لكم تربيتهن, فانتزعوا من بين جنوبكم قبل ذلك غرائز الشهامة والعزة والأنفة، حتى إذا رزأكم الدهر فيهن وفجعكم في أعراضهن, وقفتم أمام تلك المشاهد هادئين مطمئنين، لا تتعذبون ولا تتألمون. ويأيها الناس جميعا: لا تحفلوا بعد اليوم بالأنساب والأحساب، ولا تفرقوا بين تربية الأكواخ وتربية القصور، ولا تعتقدوا أن الفضيلة وقف على الأغنياء، وحبائس على العظماء، فقد علمتم ما أضمر الدهر في صدره من رذائل الشرفاء، وفضائل اللقطاء.

الصندوق

الصندوق: حضرة السيد الفاضل: يوجد في ضريح السيد البدوي صندوق توضع فيه النذور التي يبلغ مجموعها في العالم نحو ستة آلاف جنيه, فإذا فتح ذلك الصندق يختص بعض الخلفاء بأخذ نحو الربع مما فيه والباقي يوزع على أصحاب الأنصبة الكثيرين الذين يعدون بالمئات، فهل ترون أن هذه القسمة شرعية مع أن الذين يأخذون الألوف أغنياء، والذين يأخذون الآحاد الفقراء؟ أفتنا أيها السيد الفاضل بما يوجبه الإنصاف والعدل الديني في هذه المسألة التي أصبحت الشغل الشاغل للكثير من الناس. ابن جلا. أيها السائل: أراك تسألني عن القسمة الشرعية في هذا المال كأنك تعتقد أنه ميراث شرعي, وأن لهؤلاء الذين تسميهم أصحاب الأنصبة من الحق في هذا المال ما للوارثين من مال المورّثين. إن الذي أعلمه أن هذا الحق المزعوم حق موهوم لا يستطيع

أن يحمله الحامل على وجه من الوجوه الشرعية؛ لأن الذين يضعون المال في ذلك الصندوق وأمثاله لا يريدون أن يهبوه لأحد من سدنة ذلك الضريح أو خدمته أو أصحاب العلائق بالميت المدفون فيه، ولو أنهم أرادوا ذلك لما كان بينهم وبين هؤلاء القوم حائل يمنعهم عن وضع ذلك المال في أيديهم، ولكنهم لما تصوروا أن ذلك الميت حي في قبره يسمع نجواهم ويفهم حديثهم ويلبي دعاءهم تجسم في نظرهم هذا الخيال, فأرادوا أن يعطوه جميع أحكام الأحياء حتى في حب المال وادخاره، فخيل إليهم أن الصندوق من الميت بمنزلة الكيس من الحي، فهم يهبونه المال ويضعونه في صندوقه؛ لأنهم يعجزون عن وضعه في يده. أما كيفية تصرف الميت بهذا المال والبحث عن مذاهبه ومراميه فهو أمر لا يخطر على بالهم, ولا يدخل في باب مقاصدهم وأغراضهم. فإن وجد بينهم من يعلم أن مرجع هذا المال الذي يضعه في الصندوق إلى سدنة الضريح وخدمته وأشياع صاحبه, فعلمه هذا لا يستفاد منه أنه يهبه لهم أو يمنحه إياهم؛ لأنهم لو أرادوه على أن يعطيهم ذلك المال أو يعطيهم بعضه ويستبقي لنفسه البعض الباقي لما وسعه ذلك, ولا رأى إن فعله أنه عمل عملا صالحا.

بل هو يعتقد أن أخذهم المال من الصندوق أمر لا علاقة له به ولا شأن له فيه؛ لأن المال قد خرج من يده إلى صاحب الضريح, وصاحب الضريح يتصرف في ماله كيف يشاء. فهو في جميع حالاته وشئونه لا يهب هبة صحيحة, ولا يتصرف تصرفا شرعيا, ولا يضع صدقة في موضعها, ولا يطرق بابا من أبواب البر والمعروف. وعندي أن مثل هذا المال بعد أن خرج من يد صاحبه إلى غير يد, وانقطعت ملكيته الأولى من حيث لم تقم مقامها ملكية أخرى يعتبر مالا مهملا لا صاحب له, ولا علاقة لأحد به. وأحسن الحالات الشرعية والعقلية في مثل هذا المال أن ينفق في مصارف الصدقات التي اعتبرها الشارع واعتمدها, وافتتحها بأداة الحصر التي تمنع غيرها من الاشتراك معها في حكمها في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} . فإن كان بين هؤلاء القوم المتظلمين من قلة أنصبتهم في ذلك الصندوق ذو حاجة, فهو داخل في قسمه من الآية الشريفة، فله

الغناء العربي

الغناء العربي: الغناء بقية خواطر النفس التي عجز عن إبرازها اللسان، فأبرزتها الألحان، فهو أفصح الناطقين لسانا، وأوسعهم بيانا، وأسرعهم نفاذا إلى القلوب وامتزاجا بالنفوس واستيلاء على العقول وأخذا بمجامع الأفئدة، وبيان ذلك أن النطق ثلاث طبقات تختلف درجاتها باختلاف درجات الإبلاغ والتأثير فيها، فأدناها النثر، وأوسطها الشعر، وأعلاها الغناء، فلو أن عاشقا برح به الهجر مثلا فأراد أن يبلغك ما في نفسه من ذلك فإن قال لك: إني مهجور فحسب, فقد أبلغك بعض ما في نفسه وترك في قلبك من الأثر بمقدار ما تحتمله طبقة النثر من التأثير، وإن أنشدك قول الشاعر: فوا كبدا من حب من لا يحبني ... ومن زفرات ما لهن فناء أو قول الآخر: كأن قطاة علقت بجناحها ... على كبدي من شدة الخفقان فقد سلك بك طريق الخيال وصور لك خواطر نفسه بصورة أوضح من الصورة الأولى, وترك في نفسك أثرا أعظم من الأثر الأول،

وإن رفع عقيرته, وكان يجيد التوقيع يتغنى بقول القائل: وارحمتا للغريب بالبلد النا ... زح ماذا بنفسه صنعا فارق أحبابه فما انتفعوا ... بالعيش من بعده ولا انتفعا فقد صور لك قلبه كما هو وألمسك مواقع الآلام والأوجاع فيه, فبلغ بك التأثير منتهاه, وربما بكيت عند سماعه حزنا ورحمة، وما بكيت إذ بكيت إلا لأن الغناء لم يُبق بقية من خواطر هذه النفس القريحة إلا نطق بها لك وأسمعك إياها، وكما أن الأبيات قيود المعاني كذلك الألحان قيود الأبيات، فلا يزال المعنى مشردا ههنا وههنا حتى يحتويه بيت من الشعر فيستقر في مكانه، ثم لا يزال البيت يتجانف عن الآذان ذات اليمين وذات الشمال حتى يقوده الصوت الحسن, فإذا هو مستودع في الصدور. والغناء فن من الفنون الطبيعية تهتدي إليه الأمم بالفطرة المترنمة في هدير الحمام وخرير المياه وحفيف الأشجار، فمن أبكاه الحمام غرد تغريده كلما أراد البكاء، ومن أطربه صوت الناعورة رنّ رنينها ليطرب جمله أو ناقته فينشطان للمسير، وما زال هذا الفن متبديا ببداوة الأمة العربية لا يكاد يتخطى فيها حداء الجمال، ومناغاة الأطفال، حتى إذا انتقلت من مضيق الحاجيات إلى منفسح الكماليات توسعت فيه, وزادت في أنغامه

وضروبه وتفننت في آلاته وأدواته. وكذلك كان شأن العرب في جاهليتهم ينظمون أشعارهم على نسب متوازية، فالبيت يوازن البيت في ترتيب الحركات والسكنات وتعدادها، والشطر والتفعيلة يوازنان الشطر والتفعيلة كذلك، فكأنهم كانوا يهيئون لأنفسهم بمذهبهم هذا في الشعر ألحانا موسيقية، غير أن معارفهم لم تكن تتسع لأكثر من هذا النوع من الموسيقى، وهو نوع التناسب الشعري الذي هو قطرة من بحر هذا الفن الزاخر، ثم استمر شأنهم على هذا حتى جاء الإسلام واختلطت الأمة العربية بالأمة الفارسية التي كان لها من حضارتها وتمدينها متسع للبراعة في هذا الفن والتفنن في مناحيه ومقاصده، ووفد الكثير من مغني الفرس والروم موالي في بيوت العرب, وفي أيديهم العيدان والطنابير والمعازف والمزامير يلحنون بها أشعارهم الفارسية والرومية، فسمعها منهم العرب فاقتبسوها ولحنوا بها أشعارهم تلحينا بذوا فيه أساتذتهم, وولدوا ألحانا وأنغاما لم يؤت بها من قبلهم شأنهم في جميع الفنون والصنائع التي كانوا يقتبسونها من الأمم المتمدينة المعاصرة لهم، وظهر فيهم رجال أذكياء كان لهم الفضل الباهر في تقدم الغناء واتساعه مثل ابن سريج، ومخارق، وطويس، وإبراهيم الموصلي، وابنه إسحاق، وإبراهيم بن المهدي،

ومعبد الذي طالما ضربت به وبحسن صوته الأمثال على ألسنة فحول الشعراء كقول أبي عبادة البحتري في وصف فرس كان أهداه إليه أحد الأمراء: هزج الصهيل كأن في نبراته ... نغمات معبد في الثقيل الأول والثقيل والخفيف الأول والثاني أسماء اصطلح عليها العرب, ومرجعها إلى حركات الأصابع الخمسة في أوتار العود الخمسة شدة وضعفا، وما أحسن قول أبي العلاء المعري: ولقد ذكرتك يا أميمة بعدما ... نزل الدليل إلى التراب يسوفه1 وهواك عندي كالغناء لأنه ... حسن لدي ثقيله وخفيفه وبالرغم من غضاضة الدين وغضارته في ذلك العهد عهد الصدر الأول, وشدته في النهي عن التلهي بالغناء والعزف والزمر وأمثالها ونعيه على من يحترف بذلك أو يتخلقه, فقد كان للمغنين الشأن الرفيع في مجالس الخلفاء والأمراء والنصيب الأوفر من جوائزهم وصلاتهم، ولا غرو في ذلك، فسلطان الوجدان فوق سلطان الأديان، ولقد بلغ من شأن المغنين وإدلالهم على الخلفاء أن إسحاق الموصلي شتم إبراهيم بن المهدي في حضرة أخيه

_ 1 ساف التراب: اشتمه، يريد أنه ذكر حبيبته في أعظم أوقات شدته, وهو وقت ضلال الركب ونزول الدليل لشتم التراب؛ ليعرف منه نوع الأرض التي يسيرون فيها.

الرشيد غير هياب ولا وجل, فما استطاع أخو الخليفة أن ينتصف لنفسه منه هيبة وإجلالا، وكان ابن عائشة المغني لا يغني إلا لملك أو ولي عهد حتى كان الخليفة إذا أراد أن يختار من بين أبنائه من يعهد إليه بالأمر من بعده لا يكتب له بذلك عهدا بل يأذن لابن عائشة أن يغني عنده, فلا تطلع عليه الشمس حتى يفد الناس إليه يهنئونه بولاية العهد، فإن دعاه إلى الغناء لديه أمير أو وزير ووجد من قوة الدالّة بنفسه ما يدفع به الطلب عنه، ويروى أن ابن أبي عتيق وهو من نعلم في شرف البيت وجلال المحل رأى ابن عائشة يوما وحلقه مخدوش فقال: من فعل بك هذا؟ قال: فلان، وأشار إلى ضاربه، فمضى ونزع ثيابه وعاد فجلس للرجل على بابه، فلما خرج أخذ بتلبيبه1 وجعل يضربه ضربا موجعا, والرجل يصيح: أي شيء صنعت؟ وما ذنبي إليك؟ وهو لا يجيبه حتى بلغ منه، وأقبل الناس فحالوا بينه وبينه وسألوه عن ذنبه، فقال: إنه أراد أن يكسر مزمارا من مزامير داود، يريد أنه خنق ابن عائشة وخدشه في حلقه. ومما يروى من حوادث تيهه وترفعه أنه خرج من عند الوليد بن عبد الملك وقد غناه: أبعدك معقلا أرجو وحصنا ... قد أعيتني المعاقل والحصون

_ 1 التلبيب: ما في موضع اللبب من الثياب أي: ما يدور بالعنق من القميص ونحوه.

فأطربه وأمر له بثلاثين ألف درهم وكثير من الثياب, فبينا هو يسير إذ نظر إليه رجل من أهل وادي القرى كان يشتهي الغناء, فدنا من غلامه وقال: من هذا الراكب المختال؟ قال: ابن عائشة المغني، فدنا منه وقال: جُعلت فداءك, أنت ابن عائشة أم المومنين؟ قال: لا، أنا مولى لقريش وعائشة أمي وحسبك هذا فلا تكثر، قال: وما هذا الذي بين يديك؟ قال: غنيت أمير المؤمنين صوتا فأطربته, فأمر لي بهذا المال وهذه الكسوة، قال: جعلت فداءك, هل تمنّ علي بأن تسمعني ما أسمعته ياه؟ فقال له: ويلك أمثلي يكلم بمثل هذا في الطريق! قال: فما أصنع؟ قال: الحقني إلى المنزل، يريد مخاتلته والنجاة منه، وحرك بغلة شقراء تحته لينقطع عنه, فعدا معه حتى وافيا المنزل كفرسي رهان، ودخل ابن عائشة فمكت طويلا طمعا في أن ينصرف فلم يفعل، فلما أعياه قال لغلامه: أدخله، فلما دخل قال له: من أين صبّك الله علي؟ قال: أنا رجل من أهل وادي القرى أشتهي هذا الغناء، قال له: هل لك فيما هو أنفع لك منه؟ قال: وما ذاك؟ قال: مائتا دينار وعشرة أثواب تنصرف بها إلى أهلك، فقال له: جعلت فداءك, والله إن لي لبنية ما في أذنها -علم الله- حلقة من الوَرِق1, وإن لي زوجة

_ 1 الورق: الفضة.

ما عليها -يشهد الله- قميص، ولو أعطيتني جميع ما أمر لك به أمير المؤمنين على خلتي وحاجتي لكان الصوت أعجب إلي منه، وما زال به حتى رحمه ابن عائشة, وغناه الصوت بعد لأي1 فطرب له الرجل طربا شديدا وجعل يحرك رأسه, وينطح بها الجدار حتى خِيف أن يندقّ عنقه، ثم انصرف ولم يرزأه في ماله شيئا. وفي هذا الحديث فوق الغرض الذي سقناه له ما يدل على أن الغناء العربي كان قريبا إلى القلوب وأنه كان منها بمنزلة الأصابع من الأوتار، فإذا لمسها رنت رنن الثكلى المرزوءة في واحدها، وأن الوجدان العربي وجدان رائق شفاف تأخذ منه مختلفات الأنغام، فوق ما تأخذ الكهرباء من الأجسام، كما تبلغ منه نظرات الغرام، فوق ما تبلغ من عقل شاربها المدام. وكانت الأصوات عندهم تنسب إلى واضعيها وتسمى بأسماء أصحابها كما هو الشأن في الشعر، فيقال: صوت إسحاق أو معبد كما يقال: شعر مسلم أو بشار، وكان المغني أحرص على صوته من الكريم على عرضه، فإذا صنع صوتا لا يسمح لأحد من المغنين بأخذه عنه حتى يغنيه مرارا وتعرف نسبته إليه كما يفعل اليوم المخترعون والصانعون من أخذ الامتيازات بمخترعاتهم

_ 1 اللأي: الجهد.

ومصنوعاتهم، وكان لإسحاق الموصلي القدرة الغريبة على مخاتلة المغنين عن أصواته، حتى صنع مرة صوتا وأراد الفحول منهم أن يأخذوه بعدما سمعوه منه أكثر من سبعين مرة, فما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، وكانت مجالس الغناء عندهم تشبه أن تكون مجالس علم لدراسة هذا الفن وتهذيبه، فكان أحدهم لا يحجم إن رأى في صوت صاحبه منتقدا أن يفجأه بالانتقاد ويبين له مواضع الخطأ مهما عظم شأن المجلس وشأن صاحبه، وكانت تقع بينهم المنافسات الشديدة في ذلك كما تقع بين العلماء في مجادلاتهم ومناظراتهم مما يدل على أن الغناء العربي كان له عند العرب صبغة جدية فوق صبغة اللهو, وأن الغربيين في هذا العهد الأخير ليسوا بأعلم بصناعة الغناء ولا أقوم على أمرها من العرب في ذلك العهد الأول، ولو أن العرب توسعوا في فنونه وضروبه لبلغوا فيه الغاية التي لا غاية وراءها، ولكنهم كانوا قلما يحفلون بإدخاله في الأغراض العالية كالحروب ومواقف الفخر وأمثال ذلك من المناحي والمقاصد إلا قليلا، كما ورد في تاريخ الدولة العباسية أن أعداء البرامكة لما أرادوا الإيقاع بهم وعلموا أن سبيل الوشايات بهم إلى الرشيد سبيل وعر دسوا له من القيان من يغنيه بقول عمر بن أبي ربيعة: ليت هندا أنجزتنا ما تعد ... وشفت أنفسنا مما تجد

واستبدت مرة واحدة ... إنما العاجز من لا يستبد فحرك ذكر العجز والاستبداد ما كان كامنا في نفس الرشيد من شعوره بسلطان البرامكة عليه واستبدادهم بالأمر من دونه، فقال عند تمام الصوت: "نعم إني عاجز، إني عاجز" ثم كان من أمره معهم بعد ذلك ما كان، ولقد مضى الصدر الأول من الإسلام وشأن فن الغناء العربي هذا الشأن العظيم خصوصا في أواخر الدولة الأموية وأوائل الدولة العباسية، ثم أخذت شمسه الباهرة تنحدر إلى الغروب بانحدار اللغة العربية وشعرها حتى أصبح في حضارة الاندلس قدودا وموشحات، بعد أن كان قصائد ومقطعات، فكان لا يسمع أبناء العرب في ذلك العهد إلا قول المغني: "كحل الدجى يجري، من مقلة الفجر، على الصباح، ومعصم النهر، في حلل خضر، من البطاح" أو قوله: "كللي، يا سحب تيجان الربا، بالحلى، واجعلي، سوارها منعطف الجدول" وليت الأمر وقف عند هذه الموشحات, فإنها وإن لم تكن شعرية اللفظ فهي شعرية المعنى عالية الخيال، وهي على علاتها خير من شعر العامة الذي قضى عليهم فساد اللغة وانحطاطها بانتهاجه والتغني به كالزجل والمواليا والقوما والدوبيت وكان ويكون وغير ذلك مما يسمى في عهدنا هذا بالأدوار والتواشيح والأغصان والمذاهب وأمثالها.

فهل لجماعة المغنين في عصرنا أن يعفونا من "أحب جميل طبعه الدلال" ومن "يا حلو صن عهد ودادي الله يصونك" ويأخذوا بنا في مسلك أشرف من هذا المسلك, ويعيدوا للغناء العربي عهده الأول كما صنع شعراء العصر برفيقه الشعر، فلقد كان الشعر والغناء أخوين أليفين، رضيعي ثدي وضجيعي مهد، ثم ضربهما الدهر بضرباته فافترقا، فماذا علينا لو قصرنا مسافة البعد بينهما، وماذا على المغنين والشعراء في مصر لو عقدوا بينهم عهدا أن يهذبوا أخلاق أمتهم ويرفعوا شأنها ليكون لهم من الفضل في نهضتها وارتقائها ما عجز عن دركه الفلاسفة والحكماء، فينظم الشاعر المقطعات الرقيقة العذبة السائغة في فضائل الأعمال ومكارم الأخلاق كالشجاعة والشهامة والشرف وحب الوطن والاتحاد والتزهيد في صغائر الأمور والترغيب في عزائمها, فيأخذها منه المغني ولا يتكلف في تلحينها أكثر مما يتكلفه في تلحين سواها من الأدوار والمواويل ثم يغنيها في الناس غير مبالٍ بما يفجؤه به ضعفاء النفوس من العامة من الانتقاد الملازم لكل عمل شريف في مبدئه. وفي اعتقادي أن لهذه الطريقة من الأثر الحسن في نفوس العامة وتهذيب أخلاقهم وطباعهم وتقويم ألسنتهم وعقولهم ما يخلد للملحنين والمغنين أجمل ذكر في تاريخ عظماء الرجال.

التوبة

التوبة: علم فلان وكان شابا من شبان الخلاعة واللهو, وقاضيا من قضاة المحاكم أن المنزل الذي يجاور منزله يشتمل على فتاة حسناء من ذوات الثراء والنعمة والرفاهية والرغد, فرنا إليها النظرة الأولى فتعلقها فكررها أخرى فبلغت منه, فتراسلا ثم تزاورا ثم افترقا, وقد ختمت روايتهما بما تختم به كل رواية غرامية يمثلها أبناء آدم وحواء على مسرح هذا الوجود. عادت الفتاة إلى أهلها تحمل بين جانحتيها هما يضطرم في فؤادها، وجنينا يضطرب في أحشائها، ولقد يكون لها إلى كتمان الأول سبيل، أما الثاني فسر مذاع، وحديث مشاع، إن اتسعت له الصدور لا تتسع له البطون، وإن ضن به اليوم لا يضن به الغد. ذلك ما أسهر ليلها، وأقضّ مضجعها، وملك عليها وجدانها وشعورها، فلم تر لها بدا من الفرار بنفسها والنجاة بحياتها، فعمدت إلى ليلة من الليالي الداجية فلبستها وتلفعت بردائها ثم رمت

بنفسها في بحرها الأسود, فما زالت أمواجها تتلقفها وتترامى بها حتى قذفت بها إلى شاطئ الفجر، فإذا هي في غرفة صغيرة في أحد المنازل البالية، في بعض الأحياء الخاملة، وإذ هي وحيدة في غرفتها لا مؤنس لها إلا ذلك الهم المضطرم، وذلك الجنين المضطرب. كان لها أم تحنو عليها وتتفقد شأنها وتجزع لجزعها وتبكي لبكائها ففارقتها، وكان لها أب لا هم له في حياته إلا أن يراها سعيدة في آمالها، مغتبطة بعيشها، فهجرت منزله، وكان لها خدم يقمن عليها ويسهرن بجانبها فأصبحت لا تسامر غير الوحدة، ولا تساهر غير الوحشة، وكان لها شرف يؤنسها ويملأ قلبها غبطة وسرورا ورأسها عظمة وافتخارا ففقدته، وكان لها أمل في زواج سعيد من زوج محبوب, فرزأتها الأيام في أملها. ذلك ما كانت تناجي نفسها به صباحها ومساءها، بكورها وأصائلها، فإذا بدا لها أن تفكر في علة مصائبها وسبب أحزانها علمت أنه ذلك الفتى الذي وعدها أن يتزوجها فخدعها عن نفسها ثم لم يف لها بعهده, فقذف بها وبكل ما تملك يمينها إلى هذا المصير. فلا يكاد يستقر ذلك الخاطر في فؤادها ويأخذ مكانه من نفسها حتى تشعر بجذوة نار تتقد بين جنبيها من الحقد والموجدة على ذلك الفتى لأنه قتلها، وعلى المجتمع الإنساني لأنه لا يعاقب القاتل

على جرمه ولا يسلكه في سلسلة المجرمين. وما هي إلا أيام قلائل حتى جاءها المخاض, فولدت وليدتها من حيث لا ترى بين يديها من يأخذ بيدها أو يساعدها على خطبها غير عجوز من جاراتها ألمت بشأنها, فمشت إليها وأعانتها على أمرها بضع ساعات, ثم فارقتها تكابد على فراش مرضها ما تكابد، وتعاني من صروف دهرها ما تعاني. ولقد ضاق صدرها ذرعا بهذا الضيف الجديد وهو أحب المخلوقات إليها, وأكثرهم قربا إلى نفسها, فجلست ذات ليلة وقد حملت طفلتها النائمة على حجرها وأسندت رأسها إلى كفها وظلت تقول: ليت أمي لم تلدني, وليتني لم أكن شيئا. لولا وجودي ما سعدت، ولولا سعادتي ما شقيت. إن كان في العالم وجود أفضل منه العدم فهو وجودي. لقد كان لي قبل اليوم سبيل إلى النجاة من الحياة، أما اليوم وقد أصبحت أما فلا سبيل. أأقتل نفسي فأقتل طفلتي؟! أم أحيا بجانبها هذه الحياة المريرة؟! لا أحسب الموت تاركي حتى يذهب بي إلى قبري, فماذا يكون حال طفلتي من بعدي؟ إنها ستعيش من بعدي وتشقى في الحياة شقائي لا لذنب جنته, ولا لجريمة اجترمتها سوى أنني أمها.

هل تعيشين أيتها الفتاة حتى تغفري لي ذنب أمومتي حينما تسمعين قصتي، وتفهمين شكاتي؟ لم يبق في يدي يا بنيتي من حلاي إلا قليل سأبيعه كما بعت سابقه, فكيف يكون شأني وشأنك بعد اليوم؟ محال أن أعود إلى أبي فأقص عليه قصتي؛ لأنه لم يبق لي مما يعزيني عن شقاء العيش وبلائه إلا أن أهلي لا يعرفون شيئا من أمري، فهم يبكونني كما يبكون موتاهم الأعزاء, ولأن يبكوا مماتي خير لي ولهم من أن يبكوا حياتي. وكذلك ظلت تلك البائسة تحدث نفسها تارة وطفلتها أخرى بمثل هذا الحديث المحزن حتى غلبها صبرها على أمرها، فأرسلت من جفنيها قطرات حارة من الدموع هي كل ما يملك الضعفاء، ويقدر عليه البؤساء. دارت الأيام دورتها وباعت الفتاة جميع ما تملك يدها وما يحمل بدنها وما تشتمل عليه غرفتها من حلى وثياب وأثاث، ولم يبق لها إلا قمصها الخلقان وملاءتها وبرقعها، ولم يبق لطفلتها إلا ثياب باليات تنم عن جسمها نميمة الوجه عن السريرة، فكانت تقضي ليلها شر قضاء حتى إذا طار غراب الليل عن مجثمه أسدلت برقعها على وجهها وأتزرت بمئزرها وأنشأت تطوف شوارع المدينة

وتقطع طرقها لا تبغي مقصدا ولا تريد غاية سوى الفرار بنفسها من همها وهمها لا يزال يسايرها، ويترسم مواقع أقدامها. وأحسب أن عجوزا من عجائز المواخير رأتها فألمت ببعض شأنها فاقتفت أثرها حتى عادت إلى غرفتها فوغلت عليها ثم سألتها ما خطبها فأنست بها, وكذلك يأنس المصدور بنفثاته، والبائس بشكاته، فكشفت لها عن أمرها، وألقت إليها بخبيئة صدرها، ولم تترك خبرا من أخبار نعيمها، ولا حادثا من حوادث بؤسها لم تحدثها به، فعرفت الفاجرة محنتها ورأت بعينها ذلك الماء من الحسن الذي يجول في أديم وجهها جولان الراح في زجاجتها، وعلمت أنها إن أحرزتها في منزلها فقد أحرزت لنفسها غنى الدهر، وسعادة العمر، فلم ترسل إليها عقاربها وتنفث في نفسها عزائمها ورقاها حتى غلبتها على أمرها وقادتها إلى منزلها، فما هي إلا عشية أو ضحاها حتى بلغت تلك الفتاة البائسة الغاية التي لا مفر لها, ولا لأمثالها من بلوغها. عاشت تلك البائسة في منزلها الجديد عيشا أشقى من عيشها الأول في منزلها القديم؛ لأنها ما كانت تستطيع أن تزدرد لقمتها التي هي كل ما حصلت عليه في دورها الثاني إلا إذا بذلت

راحتها وشرَّدت نومها وأحرقت دماغها بالسهر وأحشاءها بالشراب وصبرت على كل ما يسوقه إليها حظها من سباع الرجال وذئابهم على اختلاف طباعهم، وتنوع أخلاقهم؛ لأنها لم تر لها بدا من ذلك, فاستسلمت استسلام اليائس الذي لم تترك له ضائقة العيش إلى الرجاء سبيلا. ولو أن الدهر وقف معها عند هذا الحد لألِفت الشقاء ومرنت عليه كما يألفه ويمرن عليه كل من أصيب بمثل ما أصيبت به، ولكنه أبى إلا أن يسقيها الكأس الأخيرة من كئوس شقائه، فساق إليها رجلا كان ينقم عليها شأنا من شئون شهواته ولذاته, فزعم أنها سرقت كيس دراهمه في إحدى لياليه عندها ورفع أمرها إلى القضاء, واستعان عليها ببعض أترابها الساقطات اللواتي كن يحسدنها وينفسن عليها حسنها وبهاءها حتى أدانها. جاء يوم الفصل في أمرها فسيقت إلى المحكمة وفي يدها فتاتها وقد بلغت السابعة من عمرها, فأخذ القاضي ينظر في القضايا ويحكم فيها بما يشاء ويشاء له قانونه, أو ذمته حتى أتى دور الفتاة فأدناها منه، فما وقع بصرها عليه حتى شدهت عن نفسها وألم بها من الاضطراب والحيرة ما كاد يذهب برشدها، ذلك أنها عرفته وعرفت أنه ذلك الفتى الذي كان سبب شقائها، وعلة بلائها،

فنظرت إليه نظرة شزراء ثم صرخت صرخة دوَّى بها المكان دويا, وقالت: رويدك يا مولانا القاضي، ليس لك أن تكون حكما في قضيتي، فكلانا سارق وكلانا خائن، والخائن لا يقضي على الخائن، واللص لا يصلح أن يكون قاضيا بين اللصوص. فعجب القاضي والحاضرون لهذا المنظر الغريب, وغضب لهذه الجرأة العجيبة وهمّ أن يدعو الشرطي لإخراجها, فحسرت قناعها عن وجهها فنظر إليها نظرة ألم فيها بكل شيء، فشعر بالرعدة تتمشى في أعصابه وسكن في كرسيه سكون المحتضر على سرير الموت، وعادت الفتاة إلى إتمام حديثها فقالت: أنا سارقة المال وأنت سارق العرض، والعرض أثمن من المال، فأنت أكبر مني جناية وأعظم جرما. إن الرجل الذي سرقتُ ماله يستطيع أن يعزي نفسه باسترداده أو الاعتياض عنه، أما الفتاة التي سرقتَ عرضها فلا عزاء لها؛ لأن العرض الذاهب لا يعود. لولاك لما سرقت، ولا وصلت إلى ما إليه وصلت، فاترك كرسيك لغيرك وقف بجانبي ليحاكمنا القضاء العادل على جريمة واحدة أنت مدبرها, وأنا المسخرة فيها.

إن شريعة تعلم أننا شركاء في جريمة واحدة ثم تأتي بنا إلى هذا المكان فتقف أحدنا في أشرف المواقف, وتقف الآخر في أدناها لشريعة ظالمة, ليس بينها وبين العدل نسب موصول أو ذمام غير منقضب. رأيتك حين دخلت إلى هذا المكان وسمعت الحاجب يصرخ لمقدمك، ويستنهض الصفوف للقيام لك، ورأيت نفسي حين دخلت والعيون تتخطاني والقلوب تقتحمني فقلت: يا للعجب، كم تكذب العناوين وكم تخدع الألقاب؟ وكم يعيش هذا العالم في ضلالة عمياء، وجهالة جهلاء؟ بخ بخ لأولئك القوم الذين منحوك هذه الشهادة, شهادة العلم والفضل والأخلاق والآداب، ومرحى مرحى لأولئك الذين أقعدوك هذا المقعد ووضعوا بين يديك هذا القانون ووقفوا أمامك هذا الشرطي, يأتمر بأمرك وينفذ حكمك وينزل على هواك. إن تحت هذه الثياب التي تلبسونها -معشر القضاة- نفوسا ليست بأقل من نفوسنا شرا ولا أخبث منها مذهبا، وربما لا يكون بيننا وبين الكثير منكم فرق إلا العناوين والألقاب، والشمائل والأزياء.

أتيت بي إلى هنا لتحكم علي بالسجن, كأن لم يكفك ما أسلفت إلي من الشقاء حتى أردت أن تجيء بلاحق لذلك السابق. ألم أحسن إليك بساعة من ساعات السرور فترعاها؟ ألم تك إنسانا فترثي لشقائي وبلائي؟ إن لم تكن عندي وسيلة أمتّ بها إليك فوسيلتي إليك ابنتك هذه؛ فهي الصلة الباقية بيني وبينك. فرفع القاضي رأسه ونظر إلى ابنته الصغيرة نظرة شفقة ورحمة، وقد قرر في نفسه أن لا بد له من أن ينصف تلك البائسة وينتصف لها من نفسه، غير أنه أراد أن يخلص من هذا الموقف خلوصا جميلا, فأعلن أن المرأة قد طاف بها طائف من الجنون وأن لا بد من إحالتها على الطبيب, فصدق الناس قوله. ثم قام من مجلسه بنفس غير نفسه، وقلب غير قلبه، وما هي إلا أيام قلائل حتى هجر القاضي منصبه بحجة المرض، وما زال يسعى سعيه حتى ضم إليه ابنته واستخلص أمها من قرارتها وهاجر بها إلى بلد لا يعرفهما فيها أحد، فتزوج منها وأنس بعشرتها واحترف في دار هجرته بحرفة لولا أن أدل عليه إذا ذكرتها لفعلت، ولا يزال حتى اليوم يكفر عن سيئاته إلى زوجته بكل ما يستطيعه من صنوف العطف وألوان الإحسان، حتى نسيا ما فات، ولم يبق أمامهما إلا ما هو آتٍ.

الحسد

الحسد: لو عرف المحسود ما للحاسد عنده من يد وما أسدى إليه من نعمة لأنزله من نفسه منزلة الأوفياء المخلصين، ولوقف بين يديه تلك الوقفة التي يقفها الشاكرون بين أيدي المحسنين. لا يزال صاحب النعمة ضالا عن نعمته لا يعرف لها شأنا، ولا يقيم لها وزنا، حتى يدله الحاسد عليها بنكرانها، ويرشده إليها بتزييفها والغض منها، فهو الصديق في ثياب العدو والمحسن في صورة المسيء. أنا لا أعجب لشيء عجبي لهذا الحاسد، ينقم على حسوده نعم الله عليه ويتمنى لو لم تبق له واحدة منها وهو لا يعلم أنه في هذه النقمة وفي تلك الأمنية قد أضاف إلى نعم محسوده نعمة هي أفضل من كل ما في يديه. وجه الحاسد ميزان النعمة ومقياسها، فإن أردت أن تزن نعمة وافتك فارم بخبرها في فؤاد الحاسد ثم خالسه نظرة خفية, فحيث ترى الكآبة والهم فهناك جمال النعمة وسناؤها.

ليس بين النعم التي ينعم بها الله على عباده نعمة أصغر شأنا وأقل خطرا من نعمة ليس لها حاسد، فإن كنت تريد أن تصفو لك النعم فقف بها في سبيل الحاسدين، وألقها في طريق الناقمين، فإن حاولوا تحقيرها وازدراءها فاعلم أنهم قد منحوك لقب "المحسَّد" فليهنأ عيشك، وليعذب موردك. إن أردت أن تعرف أي الرجلين أفضل، فانظر إلى أكثرهما نقمة على صاحبه وكلفا بالغض منه والنيل من عرضه, فاعلم أنه أصغرهما شأنا وأقلهما فضلا. قد جعل الله لكل ذنب عقوبة آتية يتألم لها، فالشارب يتألم عند حلول مرضه، والمقامر يوم نزول فقره، والسارق يوم زيارة سجنه. أما الحاسد فعقوبته حاضرة, لا تفارقه ساعة واحدة. إنه يتألم لمنظر النعمة كلما رآها، والنعمة موجود من الموجودات الثابتة التي لا يلم بها إلا التنقل من مظهر إلى مظهر والتحول من موقف إلى موقف، فهيهات أن يفنى ألمه أو ينقضي عذابه، حتى تقر عينه التي تبصر، ويسكن قلبه الذي يخفق. الحسد مرض من الأمراض القلبية الفاتكة، ولكل داء دواء، ودواء الحسد أن يسلك الحاسد سبيل المحسود ليبلغ مبلغه

من تلك النعمة التي يحسده عليها، ولا أحسب أنه ينفق من وقته وعمله في هذه السبيل أكثر مما ينفق من ذلك في الغض من شأن محسوده والنيل منه، فإن كان يحسده على المال فلينظر أي طريق سلك إليه فليسلكه، وإن كان يحسده على العلم فليتعلم، أو الأدب فليتأدب، فإن بلغ من ذلك مأربه فذاك، وإلا فحسبه أنه ملأ فراغ عمره بشئون لولاها لقضاه بين الغيظ الفاتك، والكمد القاتل.

الوفاء

الوفاء: يا صاحب النظرات: تزوجت منذ سنة من زوجة صالحة طيبة القلب والسريرة, فاغتبطت بعشرتها برهة من الزمان، وفي هذه الأيام عرض لها رمد في عينيها فذهب ببصرها, فأصبحت عمياء وأصبحت أعمى بجانبها، وقد بدا لي أن أطلقها وأتزوج من غيرها فماذا ترى؟ إنسان. أيها الإنسان: لا تفعل؛ فإنك إن فعلت كان عليك إثم الخائنين وجرم الغادرين، كن اليوم أحرص على بقائها بجانبك منك قبل اليوم، حتى تستطيع أن تدخر لنفسك عند الله من المثوبة والأجر ما يدخر أمثالك من الصابرين المحسنين. لا تقل: إنها عمياء فلا خير لي فيها ولا غبطة لي بها، فإنك ستجد في نفسك من لذة المروءة والإحسان، والعطف والحنان، ما يحسدك عليه الناعمون بالحور الحسان، في مقاصير الجنان. اجلس إليها صباحك ومساءك, وحادثها محادثة الصديق

لصديقه، بل الزوج لزوجه، وتلطف بها جهدك، وروِّح عن نفسها ما يساورها من الكروب والأحزان، وقل لها: لا تجزعي ولا تحزني, فإنما أنا بصرك الذي به تبصرين، ويدك التي بها تبطشين. أعيذك أيها الإنسان بالله ورحمته، والعهد وذمامه، أن تجعل لهذا الخاطر السيئ خاطر الطلاق أو الفراق سبيلا إلى نفسك، فإنها لم تسئ إليك فتسئ إليها، ولم تنقض عهدك فتنقض عهدها، فإن كنت لا بد ثائرا لنفسك فاثأر لها من القدر إن استطعت إلى ذلك سبيلا. إن عجزا من الرجل وضعفا أن يغضب فيمد يده بالعقوبة إلى غير من أذنب إليه، ويعتدي على من لم يعتد عليه. إن لم يكن احتفاظك بزوجك وإبقاؤك عليها عدلا يسألك الله عنه، فليكن إحسانا تحاسبك الإنسانية عليه. إنك خسرت بصرها ولكن ستربح قلبها, وحسب الإنسان من لذة العيش وهنائه في هذه الحياة قلب يخفق بحبه، ولسان يهتف بذكره. إنها أسعدتك برهة من الزمان, فليخفق قلبك حنانا عليها بقدر ما خفق سرورا بها.

لا أحسب أنها كانت تاركتك أو مغفلة أمرك لو أن هذا السهم الذي أصابها أصابك من دونها، فاحرص الحرص كله على أن لا تكون امرأة ضعيفة أسبق منك إلى فضيلة الصدق والوفاء. إلى من تعهد بها بعد فراقك إياها؟ وأي موطن من المواطن هيأته لمقامها؟ وماذا أعددت لها من الوسائل التي تستعين بها على شئون عيشها، وتأنس بها في وحشتها ووحدتها؟ كيف يهنأ لك عيش أو يغمض لك جفن إذا أظلك الليل فذكرتها وذكرت أنها تقاسي في وحدتها من الوحشة ما لا قبل لها باحتماله، وأنها ربما كانت تطلب جرعة ماء فلا تجد من يقدمها إليها، أو كسرة خبز فلا تجد من يدلها عليها، أو ربما قامت من مضجعها في سكون الليل وهدوئه تتلمس الطريق إلى حاجة من حاجها فأخطأ تقديرها, فصدمها الجدار في جبينها صدمة سال لها دمها حتى امتزج بدمعها. أيها الإنسان: إن لم تكن عادلا ولا وفيا ولا محسنا, فارحم نفسك من هذا الخيال الذي لا بد أن سيساورك ويفت في عضدك ويزعجك من مرقدك، فإن لم تكن هذا ولا ذاك فغيرك أخاطب؛ لأني لا أحسن إلا مخاطبة الإنسان. إني محدثك عن صديق لي من كرام الناس وأوفيائهم تزوج

زوجة حسناء فاغتبط بها برهة من الزمان, ثم أصابها الدهر بمثل ما أصاب به زوجتك ولم يترك لها من ذلك النور الذاهب إلا مثل ما تترك الشمس من الشفق الأحمر في صفحة الأفق بعد غروبها، فلم يقنعه من الوفاء لها أن استبقاها واستمسك بها, بل كان يحرص جهده على أن لا تعلم أنه ينكر من أمرها شيئا، حتى إنه كان يعتب عليها في بعض الأحايين في ذنوب ما كان له أن يؤاخذها بها إلا من حيث كونها ناظرة مبصرة، يريد بذلك أن يلقي في نفسها أنه لا يعرف من قصة نظرها شيئا، وأنه لا يرى فيها غير ما يراه الرجال من نسائهم المبصرات؛ رفقا بها وإبقاء على ما ربما تحب أن تحاوله من الاعتداد بنفسها, والإدلال بمزاياها. ولقد قرأت جملة صالحة من نوادر العرب في آدابهم ومكارمهم وأخلاقهم ولطف وجدانهم, فلم أر بينها نادرة أعلق بالقلوب ولا أجمل أثرا في النفوس من قول أبي عيينة الكاتب المعروف في عهد الدولة العباسية, وكان كفيف البصر "اختلفت إلى القاضي أحمد بن أبي دؤاد أربعين سنة, فما سمعته مرة يقول لغلامه عند تشييعي: خذ بيده يا غلام، بل يقول: اخرج معه يا غلام". فإن كنت تريد أن يسجل لك من الوفاء في صفحات القلوب

ما سجل لأحمد بن أبي دؤاد في صفحات التاريخ فلا تطلق زوجتك, ولا تنقم منها أمرا قد خرج حكمه من يدها، وإن أبيت إلا أن تأخذ لنفسك حظها من لذة العيش وهنائه فاعلم أنه ما من لذة يلذ بها الإنسان في حياته إلا ويشوبها الكدر أو يعقبها الألم، إلا لذة الإحسان.

خبايا الزوايا

خبايا الزوايا: جلس قاضي التحقيق أمس على كرسيه في غرفته ووقف عن يمينه رجل من ذوي الأسنان1 قذر الثوب دميم المنظر تسنح شعراته البيض في أكناف رأسه ولحيته سنوح الشرر الأبيض، في الدخان الأسود، وتتمشى في أديم وجهه صفرة مغبرة من رآها علم أنها نسيج ذلك الدخان دخان الحشيشة الذي ينفثه من فيه في صباحه ومسائه، وغدوه ورواحه، ووقف عن يساره صبية ستة نحّل الأبدان جوّع الأكباد لم يترك لهم الدهر آكل البؤساء وشاربهم إلا هياكل من عظام تضطرب في رءوسها عيون لا تستقر في محاجرها إلا إذا استقر الزئبق في قرار مكين. نظر إليهم قاضي التحقيق نظرات تمازجها الرحمة، وتخالطها الشفقة، والقضاة لا يرحمون ولا يشفقون لولا أن من المناظر مناظر تنال من القلوب القاسية، وتستهوي الأفئدة المتحجرة،

_ 1 جمع سن, وهو العمر.

وأنشأ يسألهم واحدا بعد واحد ما شأنهم وما خطبهم وما مصيرهم، فكان جوابهم جوابا واحدا خلاصته أن هذا النمر اللابس ملابس الإنسان رأى خلتهم1 من حيث يخفى مكانها فثغر2 فيها ثغرة انحدر منها إلى أعراضهم فعبث بها ما شاء وشاء العابثون، فكانوا في داره الضروع التي يحتلبها حتى إذا استنفد درتها3 ألح على دمائها فاستنزفها، وقالوا: إنه كان يديم مطال الجوع في بطونهم فإذا علم أنهم هلكوا أو كادوا طفق يعللهم باللقمة بعد اللقمة، والمضغة أثر المضغة، ويرمّقهم4 العيش ترميقا لا إبقاء عليهم بل على ما كان يغتنمه من بسطة العيش من ورائهم، وزعموا أنه كان يريبه منهم في بعض الأحيان تمردهم عليه واحتفاظهم بأعراضهم من دونه, فيُدخل في أدمغتهم لصا من دخان الحشيشة يسرق عقولهم، ويحل عقدة منعتهم، ويتركهم لا يدرون ما يأتون ولا ما يدعون. وما وصلوا من شكواهم إلى هذا الحد حتى سقط منهم اثنان بين يدي القاضي, فراعه من أمرهم ما راعه ثم علم أنه الجوع, فأمر لهم بخبز وأدم, فازدحموا عليه يتناهبونه ويزدردونه ازدراد الوحش

_ 1 الخلة: الحاجة. 2 ثغر الشيء: ثلمه وفتحه. 3 الدرة: اللبن. 4 ترمق اللبن: أخذه حسوة حسوة.

فريسته، وقد وقف ذلك الذئب المستأنس ينظر إليهم نظرة شزراء, كتلك النظرة التي يرمي بها الصائد صيده إذا أفلت من حبالته. بذلك حدثني من رأى هذا المنظر بعينه, فارتعت لسماع حديثه الارتياع كله وحسبت أنه يحدثني عن حادثة وقعت في مبدأ الخليقة في مغارة من مغاور الجن أو شعَفة1 من شعفات الجبال، وقلت له: أتعلم أيها الرجل أنك تحدثني عن إنسان؟ فقال: لا تعجل فما حدثتك إلا عن رجل حمّار لا يفارق وجهه سوءة حماره ليله ونهاره، وربما سرت إليه تلك النتيجة من هذه المقدمة، فكيف بك لو علمت أن هذه الرذيلة لا يترفع عنها في هذا البلد كثير من الأتقياء والصالحين، والأساتذة والمعلمين؟ إن بين جدران هذه البنى التي يسمونها المدارس وقائع لا يسر منظرها، ولا يروق مخبرها، وحوادث لو تلاها التالون على مسمع الفلك الدائر لوقف عن دورته، أو الجبل الشامخ لصعق من دهشته. إن بين هؤلاء الذين تراهم وقوفا في أشرف المواقف بعد مواقف الرسل والذين تغضي بين أيديهم العيون إجلالا وإكبارا، وتترامى على أيديهم الأفواه لثما وتقبيلا، والذين أسلمت الأمة

_ 1 الشعفة: رأس الجبل.

أمر بنيها إليهم وأخذت عليهم ما شاء الله أن تأخذ من العهود والمواثيق أن يكونوا لأولئك الأبناء آباء محسنين، وأوصياء راحمين، قوما لصوصا يسرقون الأعراض، وخونة يعبثون بالأمانات، وقتلة يفتكون بأعراض تلاميذهم فيوردونهم موارد الحتف والهلاك، ويجعلون مصيرهم مصير أولئك الصبيان الذين فارقناهم في غرفة التحقيق. وما وصل من حديثه إلى هذا الحد حتى سُرِّي عن نفسي ما كنت أمسكه بين جنبي من الموجدة على ذلك الرجل، وعلمت أن الجناية ليست جناية الحشاشين والحمارين، وإنما هي جناية المربين، وجريرة المهذبين. أساء الأب بإدخال ولده المدرسة، وكان خيرا له لو أدخله المزرعة حيث لا سقوف ولا جدران، ولا خبايا ولا زوايا، ولا مكامن ولا مخادع، وحيث يجد النابت هناك من الطبيعة الطاهرة أستاذا أمينا مستقيما، لا عاهرا ولا فاسقا، ولا خائنا ولا غادرا، وحيث يرتشف من عرق جبينه نهلات باردات أصفى من المرآة وأطهر من الكوثر. وأساء المعلم لأنه هو الذي عمد إلى ذلك الصبي الطاهر فمزق

عنه برقع عفافه وتصوُّنه، ثم قذف به في ذلك المزدحم الإنساني المائج بالشرور والآثام, لا يحمل في يده سلاحا يحارب به، ولا يعرف السبيل إلى جُنّة يدفع بها عن نفسه، فما له بد من العجز أمام القادرين، والهزيمة بين أيدي المهاجمين. وأساء الناس جميعا بإغفالهم أمر هؤلاء البؤساء وإمساكهم القوت عنهم والمعونة لهم، ولو أحسنوا إليهم لأنقذوهم من حياة كلها شقاء وبلاء، وعيب وعار. ليست مسألة خبايا الزوايا أمرا يستهان به، فإننا نريد أن نعد لوطننا من بعدنا رجالا ذوي شجاعة وجرأة، وثبات وإقدام، من الذين إذا عظم الخطب كانوا حماة الديار، وإذا اشتد البأس لا يولون الأدبار.

الجامعة الإسلامية

الجامعة الإسلامية: أنا لا أحب أن أخدع نفسي عن نفسي، ولا أحب أن أخدع الناس عنها. أنا مسلم قبل كل شيء، أي: قبل أن أكون وطنيا أو سياسيا أو مجتمعا، بل قبل أن أكون نسمة حية في هذا الوجود. لو علمت أن مآرب هذه الدنيا وأغراضها لا تنال إلا بترك شعيرة من شعائر الدين أو العبث بفريضة من فرائضه لعفتها واجتويتها, ونفضت يدي منها وقلت لها كما قال لها علي بن أبي طالب من قبل: إليك عني, غرّي غيري, ما لي بك حاجة. لو لم يكن في الأمر إلا أن أخسر ديني فأربح دنياي، أو أخسر دنياي فأربح ديني، لآثرت أخراهما على أولاهما؛ لأني أعلم أني إن خسرت ديني فقد خسرت كل شيء. لو علمت أن الوطنية وهي أفضل ما حمل امرؤ بين جنبيه من خلال الخير تعترض دون طريقي إلى آخرتي، أو تمتد حجابا بيني وبين ربي، لخرجت منها كما أخرج من ردائي، ثم خلصت

إلى شعفة من شعفات الجبال أو صخرة في منقطع العمران أخلو فيها بنفسي من حيث لا أسمع دعاء غير دعاء القلب، ولا نداء غير نداء الله، حتى يحين حيني، وينقضي أجلي. ما أبغضت في حياتي شيئا بغضي للكذب والرياء، فإما أن أكون مسلما، فها هو ذا الإسلام، وهذه شروطه وقيوده, وصفاته وطبائعه، أولا أبديت للناس صفحتي، وأعلنت لهم أمري، حتى يعلموا من أمر نفسي مثل ما أعلم منها؟! أنا لا أحدث في ذلك عن نفسي خاصة بل عن المسلم من حيث كونه مسلما، أي: مصدقا بالله ورسوله، ووعده ووعيده، وثوابه وعقابه، معتقدا أن الحياة الدنيا معبر يعبره إلى الحياة الأخرى، وأنه محاسب في أخراه حسابا غير يسير على ما فرط في أولاه، وأن الله لا يقبل منه في موقف الحساب من المعاذير إلا ما رخص له فيه أو رفع عنه مئونته، فلا سبيل له إلا أن يلبس ثوب الإسلام معلما، لا خائفا ولا مترقبا، ولا متنكرا ولا متكتما، ولا محتفلا بقول العيسوي أو الموسوي له: أنت متعصب، ولا بقول الملحد أو الجاحد: أنت مخرف، فهو ليس متعصبا بل متمسكا، ولا مخرفا بل مستيقنا، وأن يعترف به جهرة في جميع مواطنه ومواقفه لا مستحييا ولا خجلا، فقد انقضى عهد

الإسرار والإخفاء من تاريخ ذلك اليوم الذي أسلم فيه عمر بن الخطاب فمشى إلى المسجد الحرام حيث يجتمع كفار قريش, وأعلن فيه إسلامه بين هياجهم ونقمتهم، ثم مر يقرع أبواب رؤسائهم بابا بابا فإذا فتحوا له حدثهم عن إسلامه, فضربوا الباب في وجهه غيظا وحنقا. التمسك غير التعصب، والتهاون غير التسامح، فليس كل متمسك متعصبا؛ لأن التمسك محافظة المرء على العمل بأوامر الدين ونواهيه، والتعصب بغضه لمخالفيه في دينه بغضا يحمله على محاولة النكاية بهم، والعبث بما حقن الله من دمائهم، وصان من أعراضهم وأموالهم، وليس كل متهاون متسامحا؛ لأن التهاون ترك المرء العمل بما فرض الدين عليه أن يفعل أو أن يترك، والتسامح إغضاؤه عن خلف المخالفين له، بحيث لا يعد تلك الفروق الدينية التي بينه وبينهم وسيلة إلى بغضهم أو مناضلتهم، أو نصب الغوائل لهم، أو سد سبل العيش في وجوههم. ولقد اعترضتُ الآراء والمذاهب حلوها ومرها، ومعوجها ومستقيمها، فلم أر رأيا أضعف حجة ولا أضل سبيلا من رأي الذي يقول: إن الدين لا يجوز أن يتجاوز عتبة المسجد، وكيف يستطيع المسلم أن ينفرد بنفسه عن دينه في موطن من المواطن،

أو مذهب من المذاهب، وهو رفيق طيته، ولصيق نفسه، في قيامه وقعوده، ويقظته ونومه، وانفراده واجتماعه. ذلك أن المسلم لا يستطيع أن لا يعطف على أخيه المسلم عطفا خاصا به فوق عطفه على غيره من أفراد البشر؛ لأنه مأمور أن يكون منه بمنزلة اللبنة من اللبنة في البناء الواحد، أي: أن يكون عضدا له في شئون دينه ودنياه. ولا يستطيع أن يسمع كلمة سوء يريد بها قائلها النيل من دينه والغض منه دون أن يغضب لها؛ لأنه من دينه على بينة، والغضب لا يزال رذيلة من الرذائل حتى يكون للحق فهو أفضل الفضائل. ولا يستطيع أن يبيع أو يبتاع، ويقرض أو يقترض، وينطق أو يصمت، ويعاشر أو يقاطع، ويوافق أو يخالف، إلا إذا نظر فيما أحل الدين من البيع وحرم من الربا، وفيما رخص للمتكلم أن ينطق به وأوجب عليه أن يمسك عنه، وفيما شرع من معاشرة خيار الناس ومجانبة شرارهم، وموافقة المحقين ومخالفة المبطلين، وهكذا حتى لا يخرج عنه في جميع شئونه وحالاته، سواء أكان في المسجد أو البيعة أو المنزل أو السوق أو المجتمعات العامة أو الأندية الخاصة.

وكما لا يستطيع أن يخرج عن أحكام الدين في شيء من هذا, كذلك لا يستطيع أن يخرج عنها في كيفية معاملة المخالفين له في الدين من الرأفة بهم، والعطف عليهم، والإحسان إليهم، ما داموا موالين له غير خارجين عليه، ولا مادين إليه يد سوء. فلتنعموا أيها المسيحيون بالا، ولتثلجوا صدورا، ولتعلموا أن المسلم لا يستطيع أن يكون متعصبا ما دام متمسكا بدينه؛ لأن في تعصبه هدما لأعظم ركن من أركان الدين الذي يتعصب له. فإن رأيتم أنه يغضب لشتم دينه أو نبيه في صحيفة تنشر في بلاده، أو يضمر في قلبه جزعا من العهد بشئون المسلمين الدينية إلى غير مسلم، فلا تقولوا: إنه متعصب، وإنما هو متمسك بدينه تمسككم بدينكم، ولا تطلبوا عنده أكثر مما تطلبون عند أنفسكم، وارحموه ولا تعذبوه بإدماء قلبه، وإحراج صدره، فإنه يرحمكم ولا يعذبكم. وإن خيل إليكم أن في المسلمين متعصبين, فاعلموا أنهم متعصبو أقوال لا متعصبو أفعال، أي: إنهم يبغضون المسيحيين ولا يقاطعونهم، ويدعون عليهم بالهلاك ولا يمدون إليهم يد سوء، ويسيئون الظن بهم وهم يستعينون بهم في جميع أعمالهم سرها وجهرها، ويتمنون لهم الخسران وهم يحمونهم مما يحمون منه

أنفسهم وأولادهم، فهذا التعصب -لو تبينتم- مظهر من مظاهر الحماقة والبله لا أثر له في نفوسهم، ولا علاقة بينه وبين تدينهم، ولا يمكن بحال من الأحوال أن يشبه تعصب المعروفين بالتعصب من المسيحيين الذين يضمرون للمسلمين في قلوبهم ما تصمت عنه ألسنتهم، وتنطق به أعمالهم، فترى الواحد منهم لا يبتاع حاجته إلا من المسيحي إن كان مشتريا، ولا يستعين على عمله إلا بالمسيحي إن كان تاجرا أو صانعا، ولا يوظف إلا المسيحي إن كان رئيسا في مصلحة، ولا يهتم إلا بالدفاع عن المسيحي إن كان محاميا، ولا يرحم إلا المسيحي إن كان قاضيا. إن المسيحي الذي يقول للمسلم: أنت متعصب قبل أن يرى في سيماء وجهه أثر العداوة والبغضاء له وإرادة الايقاع به, لا يريد بكلمته هذه مصاحبته برأيه فيه، بل خديعته عن دينه والهجوم على قلبه، والتمكن من مجالسته على مائدة واحدة تختلط فيها الأيدي والأفواه، ويخطئ فيها العد ويضيع الحساب، فيتناول منها ما لذ وحلا ويترك له ما مر وتفه، ولقد بلغ منه في كثير من الأحيان الغرض الذي أراده فخدع كثير من المسلمين عن دينهم، ونالت تلك المكيدة المدبرة من نفوسهم، وعظم عليهم أن يسموا متعصبين وكانوا لا يدركون فرق ما بين التمسك والتعصب, فتهاونوا في أمر

دينهم وازدروه، واستحيوا من اللصوق به، والأخذ بشعائره، فأصبح الواحد منهم لا يجرؤ أن يفتتح خطابه أو كتابه أو طعامه بالبسملة، ولا يجرؤ على السلام أو رده بالصيغة المأثورة، ولا على إقامة الصلوات في أوقاتها في مجتمع عام، ولا على الاعتذار عن ترك منكر من المنكرات بعذر الدين، بل إن فيهم من يرائي بالفسق والضلال كما يرائي الفساق والضلل بالصلاح والتقوى، فيقيم الصلاة في بيته ويزعم أنه تاركها، ويترك شرب الخمر تدينا ويزعم أنه تاركها توفيرا لماله أو خوفا على صحته، فرارا من تهمة التعصب، أي: تهمة التدين، ولله الأمر من قبل ومن بعد. ولم أر في حياتي منظرا أبرد ولا أسمج من منظر المسلم الذي يجالس المسيحي في مجتمع عام فيقول له: إني أحبك محبتي لنفسي؛ لأني أعتقد أن كلينا يعبد إلها واحدا ويدين بدين صحيح يأمر بفضائل الأعمال وينهى عن رذائلها، وربما كان يضمر له في قلبه في تلك الساعة من العداوة والبغضاء ما لو طارت شرارة منه لأحرقتهما جميعا وتركتهما رمادا تذروه الرياح، وعندي أن الأفضل من هذا الرياء الكاذب والدهان المصنوع أن يقول له: إني أعتقد صحة ديني, فلا بد لي من أن أعتقد فساد غيره من

الأديان؛ لأني لو كنت معتقدا صحتها لتقلدتها وهجرت ديني لأجلها، وإني على ذلك لا أحمل لك في صدري ضغينة ولا موجدة لأني أعلم أنك إنسان، وديني لا يسوغ لي أن أبغض أحدا من الناس، غير أني لا أستطيع أن أحبك محبتي لأخي المسلم؛ لأني إن أحببت الذي يساعدني على حفظ مالي أو صيانة ولدي حبا جما فأحرى بي أن أحب الذي يساعدني على حفظ ديني الذي هو أعز علي من نفسي, وولدي حبا لا حد له. إن المصانعة والمجاملة في الدين ليست سبيل الاتحاد والاتفاق كما يظن الذين يصانعون ويجاملون، وما هي إلا الخداع والغش، وما علمنا أن أمة أسعدها الغش أو رفعها الخداع، وها هي ذي الجرائد المسيحية والإسلامية في مصر يفتتح أكثرها كل يوم فصول العداوة والبغضاء بعناوين المحبة والإخاء، فلم يف خيرها بشرها، ولا نفعها بضرها، بل السبيل إلى ذلك أن يعلم المتدين علما صحيحا أن الاختلاف في الدين شيء والتباغض فيه شيء آخر، وأن الدين الذي يسوق العالم إلى الهلاك والفناء لا يمكن أن يكون دينا إلهيا. إن الإبهام والإغماض في التدين يقتل الدين في نفوس المتدينين قتلا لا حياة له من بعده، فلا بد للمسلم من أن يكون

مسلما في جميع حالاته وشئونه، وإسراره وإعلانه، فلا يستحيي أن يلبس عمامته في باريس كما يلبسها في مصر، وأن يقيم الصلاة لوقتها في قصر الفاتيكان كما يقيمها في مسجد قريته، وأن يترفع عن مجاراة الغربيين في عاداتهم التي يرى أنها لا تلائم دينه، فلا يشرب نخب أحد من الناس وإن كان في مجلس الإمبراطور، ولا يأكل لحم الخنزير وإن قدمه له بيده القيصر، ولا يحمل بساط الرحمة في جنازة ميت من الأموات وإن كان بابا روما، ولا يحمل سلاحه راكضا إلى مقاتلة أخيه المراكشي إن كان جزائريا، أو المصري إن كان هنديا، ولو كان دون ذلك موته صبرا، وليعلم أن ذلك سبيله الذي لا سبيل له غيره إلى العظمة التي يحب أن تكون له في نفوس مخالفيه في دينه أو عاداته، وإن حاول مخادع أن يخدعه عن نفسه ويلقي في روعه أن اطّراح المسلمين للدين وسيلة تقدمهم كما كان اطّراحه وسيلة تقدم المسيحيين, فليذكر دائما كلمة ذلك الرجل العظيم السيد جمال الدين الأفغاني في قوله: "ترك المسيحيون دينهم فتقدموا، وترك المسلمون دينهم فتأخروا". الجامعة الإسلامية بالنسبة للمسلم هي الجامعة الكبرى التي يجب أن يمنحها بنات قلبه وجوهر لبه، قبل أن يمنح ذلك غيرها

من الجوامع الأخرى، وما احتاج المسلمون إلى تلك الجامعة في دور من أدوار حياتهم احتياجهم إليها في هذا العصر الذي أصبحوا فيه شتى المسالك والمذاهب بين سمع الأرض وبصرها، وأصبحوا لا موطن لهم إلا تلك البقاع المبعثرة في مشارق الأرض ومغاربها التي يعيشون فيها عيش الأذلاء المستضعفين، بين مهاجر يأكل خبزهم, ومستعمر يشرب دمهم، ومبشر يفتنهم عن دينهم، أو ينغص عليهم عيشهم بمشاغبتهم ومجادلتهم، والاستهزاء بعقائدهم وشعائرهم، فإن لم يتعارفوا ويتعاقدوا على التعاون والتناصر تعاقدا يأنسون به عند اشتداد الكربة، ويفزعون إليه من كلب الزمان وغدره، كان آتيهم شرا من حاضرهم، كما كان حاضرهم شرا من ماضيهم. أنا لا أريد بالجامعة الإسلامية أن يجتمع المسلمون على قتال المخالفين لهم في دينهم، فقد مضى زمن القتل والقتال، بل أريد أنهم إن كانوا يحتفلون بالجامعة الجنسية أو الوطنية مرة لأنها وسيلة دنياهم، فأحرى بهم أن يحتفلوا بالجامعة الدينية ألف مرة؛ لأنها وسيلة دنياهم وأخراهم، وللآخرة خير وأبقى.

القمار

القمار: لا أستطيع أن أعتقد ما يسمونه الجنون الفرعي ويريدون منه جواز أن يكون الإنسان مجنونا في بعض شئونه عاقلا في باقيها، وعندي أن الرجل إما أن يكون عاقلا أو مجنونا ولا ثالث لهما. العقل قوة يقتدر بها المرء على الاستمساك في مزالق الشهوات وبين مهابّ الأهواء, فموقفه أمامها موقف واحد، فإما أن يغلبها جميعها أو يغلبه جميعها. أما ما يراه الرائي أحيانا من استهتار الرجل في بعض الشهوات استهتارا يستهلك نفسه ويستهوي عقله, وزهده في بعضها زهد الأعفاء المستمسكين فذلك لأنه رغب في الأولى فاسترسل وراء رغبته ولم يدعه إلى الأخرى داعٍ من خواطر قلبه ونزوات نفسه، ولو دعاه لخف إليه ولباه، ولن يسمى الرجل زاهدا أو عفيفا إلا إذا أمسك نفسه عن شهوة تدعوه إليها فيدافعها, وتتلهب بين جنبيه فيطفئها. لا تقل: إن السكير عاقل إن رأيته غير فاسق ولا عاهر, واعلم

أنه لا يشتهي الفسق ولا تجذبه إليه جواذبه، ولو اشتهاه لوقف من المواخير موقفه من الحانات، ولا تقل: إن الفاسق عاقل إن رأيته غير سارق ولا مختلس, فإنه لا يحب السرقة ولا الاختلاس، ولو أنه أحبهما لكان في تسلق الدور والقصور أبرع منه في التسلل إلى مكامن الفسق والفجور، ولا تقل: إن المقامر عاقل إن رأيته لا شاربا ولا فاسقا, فإن القمار قد استهلك شهوته واستخلصها لنفسه ولم يدع فيها فضلة لسواها، ولولا ذلك لكان أكبر السارقين وأفسق الفاسقين. لو كنت من المصانعين الذين يزخرفون لأرباب الرذائل رذائلهم حتى يصوروها في نظرهم فضائل بما يلبسونها من أثواب التأويل، ويصبغونها من ألوان التعليل، لما استطعت أن أصانع المقامر؛ لأن حاله من الجهل الفاضح والغباوة المستحكمة أبعد الحالات عن عذر المعتذرين، وتأويل المتأولين. أي عذر يعتذر به المعتذر عن رجل يريد أن يمشي في طريق الغنى فيمشي في طريق الفقر, والطريقان واضحان معلمان لا غموض فيهما, ولا إبهام. ما جلس المقامر إلى مائدة القمار إلا بعد أن استقر في نفسه أن الدرهم الذي في يده سيتحول بعد برهة من الزمان إلى دينار

يعود به إلى أهله فرحا مغتبطا، وأحسب أن العقول العشرة مجتمعة ومتفرقة تعجز عن إدراك سر هذه العقيدة ومثارها. إن كان يؤمل الربح لأنه رأى عن يمينه رجلا قد ربح فلم لا يخاف الخسران لأنه رأى عن يساره مائة خاسرين؟ وإن كان يضحكه منظر الربح لأنه رأى في بعض مواقفه أحد الرابحين مبتسما, فلم لا يبكيه منظر أصدقائه ورفقائه الخاسرين وهم يتساقطون حواليه تساقط جنود الحرب بين يدي القذائف؟ ما أشبه المقامر الذي يطلب من الدينار الواحد مائة بالكيماوي الذي يطلب من القصدير فضة ومن النحاس ذهبا، كلاهما يتاجر بالأحلام في سوق الأوهام، فيربح ربحا مقلوبا، ويكسب كسبا معكوسا، وما أشبههما جميعا بذلك الرجل الذي علم أن في صحراء من صحارى إفريقيا كنزا دفينا لا تعرف له بقعة وليس عليه دليل, فحمل فأسه على كتفه ومشى في تلك الصحراء يحفر الحفرة التي تستنفد قوته وتستهلك منته، وتبلغ من نفسه ما لا يبلغ منها كر الغداة ومر العشي حتى إذا بلغ مستقرها وعلم أنه لم يعثر بضالته تركها وبدأ يحفر غيرها بجانبها, فلا يكون نصيبه من الأخرى أوفر من نصيبه من الأولى, وهكذا حتى أدركه الموت وهو في بعض تلك الحفر فكان هو نفسه الكنز الدفين

في تلك الصحراء إلا أنه كنز لا يطمع فيه طامع، ولا يرغب فيه راغب. إن كنت لم تسمع في حياتك باجتماع النقيضين وتلاقي الضدين, فاعلم أن المقامر في آن واحد أجشع الناس وأزهد الناس، فلولا حبه المال لما هان عليه أن يبذل راحته وشرفه وحياته في سبيله، ولولا زهده فيه لما أقدم باختياره على تبديده على مائدة القمار لا لغاية يطلبها, ولا لمأرب يسعى إليه. أنا لا أريد أن أنصح إلى المقامر بترك القمار؛ لأني أعتقد أن من يملك عقلا مثل عقله, وفهما مثل فهمه لا يستطيع أن يفهم كلمة مما أقول، ومن عجزت حوادث الدهر وعبر الأيام عن أن ترد عليه ضالة عقله وتهديه السبيل إلى نفسه فلن تنفعه كلمة كاتب ولا موعظة خاطب، وإنما أريد أن أقول للذين لم يخطوا خطوة واحدة في هذا الطريق الوعر حتى اليوم: لا تقامروا جدا ولا هزلا فإن هزل القمار يجر إلى جده, ولا تمروا بمعاهد القمار فإن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه, ولا تصاحبوا المقامرين فإنهم لا يرضون عنكم حتى تتخذوا ملتهم, فإن فعلتم خسرتم مالكم وشرفكم وعزيمتكم وحياتكم من حيث لا تجدون من رحمة القلوب ورأفتها ما يعوض عليكم ما خسرتم، فارحموا أنفسكم إن كنتم راحمين، واتقوا الله إن كنتم مؤمنين.

الأوصياء

الأوصياء: مرض فلان مرض الموت فلم يحفل بالمنية؛ لأنه اقتطف زهرة الحياة جميعها, ولأن الثمانين قد ألحت عليه بصبحها ومسائها وليلها ونهارها, فلم تترك له خيطا من خيوط الأمل ولا شعاعا من أشعة الرجاء لولا أن بين يديه ولدا صغيرا في السابعة من عمره قد ماتت أمه من عهد قريب، وللشيوخ الكبار إلى أبنائهم الصغار حنين الإبل إلى أعطانها، فنظر إليه وهو يحوم حول فراشه نظرة طويلة لم يسترجعها إلا مبللة بالدمع المنسجم, ثم زفر زفرة شديدة خيل لرائيها أنها الزفرة الأخيرة, وأنشأ يقول: أي بني، من لي بقلب يرعاك مثل قلبي، وعين تسهر عليك مثل عيني، وروح ترفرف فوق رأسك مثل روحي، ونفس تضم جوانحها عليك مثل نفسي؟ أي بني، كأني بركب الموت وقد نزل بي وحلّ بساحتي، وكأني به وقد احتملني من فضاء القصر إلى مضيق القبر، ومن

نور الحياة إلى ظلمة الموت، وكأني بك وقد طفقت تنشدني فلا تجدني, وتفتش عني فلا تراني, ففزعت وارتعت ثم صرخت فصعقت, فلم تجد بجانبك من يمسح دمعك ويخفف حزنك. من لي بصديق أثق بوده وإخلاصه ورحمته وحنانه, فأكل إليه أمرك وأعتمد عليه في تأديبك وتخريجك وإبلاغك ما أرجو لك من السعادة في مستقبل دهرك؟ فما أتم نجاءه حتى دخل عليه صديقه الوحيد الذي كان يأنس به ويستخلصه لنفسه, وقد سمع آخر نجواه فقال له: هون عليك أيها الصديق, فأنا صديقك الذي تنشده وأنا والد ولدك من بعدك وخليفتك بعد الله عليه، ثم ترامى على فراشه يبكي لبكائه وينشج لنشيجه, فاستنار قلبه بنور الأمل وقال: أحمدك اللهم, فقد رحمت ولدي وحفظت بيتي. وما هي إلا أيام قلائل حتى كتب الشيخ كتاب الوصية بيده, ثم أجاب دعوة ربه تاركا في يد ذلك الصديق الكريم مجده وشرفه وماله وولده. اتخذ الشيخ ذلك الرجل صديقا له في العامين الأخيرين من أعوام حياته بعدما رآه يكثر الاختلاف إليه ويطيل اللبث بجانبه, ويلازم الوقوف عند أمره ونهيه, ويخف لقضاء حاجاته ولباناته،

ذلك إلى ما كان يراه متجملا به من صلاح مملوء بالركعات والسجدات، والتسبيحات المتواليات، وعفة حتى عن لقمة من الزاد يصيبها على مائدته، وتورع حتى عن جرعة من الماء يتجرعها في حضرته، فاستخلصه لنفسه وأنزله من قلبه المنزلة التي لا يجاوره فيها غير ولده, وأصبح آثر الناس عنده حتى ما يستطيع فراقه لحظة ولا يصبر عنه ساعة إلى أن أحس باقتراب الأجل, فأوصاه بما أوصى وعهد إليه بما عهد. هذا تاريخ ذلك الصديق في حياة الشيخ، أما تاريخه بعد مماته فسأسمعك منه ما تهوي له الأفلاك عجبا وتخر له الجبال هدا. لم تكن صلاته إلا رياء ونفاقا وركوعه وسجوده إلا كيدا ودهانا وعفته وزهادته إلا حبالة نصبها ليعلق بها عقل الشيخ وقد علق، فيسلبه ماله وولده وقد فعل، وما كان اختلافه إليه ولا تردده عليه إلا طمعا في هذا المصير الذي صار إليه، فلما علم أن قد تم له من أمره ما أراد أطلق يده في مال الصغير يعبث به عبث النكباء بالعود ويبتاع به لنفسه ما شاء الله أن يبتاع من قصور ودور وبساتين وضياع, فنبه ذكره بعدما كان خاملا، ونبت ريشه بعدما كان عاريا، وأصبح صاحب السلطان المطلق في ذلك القصر يذل من يشاء, ويعز من يشاء.

أما شأنه مع الولد فقد علم أنه سيبلغ عما قليل أشده ويملك رشده, وأنه سيقطع عليه لذته ويقف له موقف المعترض سبيله ويحاسبه على القليل والكثير والصغير والكبير, فلم ير له بدا من أن يعد لذلك اليوم عدته, فعمد إلى الولد فقطعه عن المدرسة لأنه لا يحب أن ينشأ متعلما، ثم أغرى به من ساقه إلى مواطن الفسق ومجامع الشراب لأنه لا يحب أن ينشأ عاقلا، وما زال ينفق عليه وعلى الموكلين بإفساده من وراء حجاب حتى علق برأسه الشراب علوق السلال بالصدور, فأصبح بين الحانات والمواخير كالطائر بين أغصان الأشجار, لا يرسل الساق إلا ممسكا ساقا. فكأنما وكل بعقله مقراضا يقرض له في كل يوم منه قطعة حتى كاد يأتي عليه، فما بلغ السن التي يرشد فيها القاصرون حتى استحال الوصي على القاصر قيما على المعتوه, ولم يبذل في سبيل الوصول إلى ذلك أكثر من لقيمات ألقاها من فتات تلك المائدة إلى المجلس الحسبي, فأدخله تلك الجنة الزاهرة بغير حساب ولا عقاب. شرع الله شريعة الحجر على السفهاء والمعتوهين وإقامة القوام عليهم رحمة بهم, فاستحالت على يد المجالس الحسبية نقمة عليهم

وأصبح اللص الذي لا يحسن صناعة فتح الأقفال ويتقي مغبة تسلق الجدران, قادرا على أن يسرق ما يشاء حينما يشاء تحت راية هذه الشريعة المقلوبة من حيث يأمن الوقوف أمام محكمة الجنايات وجر الأثقال في غيابات السجون, وانتقلت الثروات العظيمة من أيدي أصحابها مخافة أن يسرفوا فيها إلى أيدي آخرين يبددونها تبديدا ويمزقون أديمها تمزيقا من حيث لا يكون بينهم وبين المورث صلة نسب أو وشيجة رحم حتى أصبح السعي في جمع المال في هذا العصر وادخاره للوارثين عملا من الأعمال الباطلة وضربا من ضروب الجهل الفاضح، فمن لي إن أنا دبرت المال وجمعته ألا يكون وارثي فيه من بعدي لصا من أولئك اللصوص الذين تمنحهم المجالس الحسبية ما تمنعهم الشرائع الإلهية، ومن لي أن أعيش إلى أن أدرك ولدي فأتولى أمر تربيته بنفسي قبل أن يظفر به في حداثته ظفر جارح من أظفار الأوصياء, فيميت نفسه ويقتل عقله ويفسد عليه شأن حياته ويلبسه من الفضيحة والعار ما يقلق نفسي في عالمها, ويزعج عظامي في مرقدها. فلقد حدثني من قص علي تلك القصة الماضية أن ذلك الوصي لما علم أن قد تم له من الحجر على ذلك الغلام ما أراد عمد إلى تزويجه من فتاة حسناء من بنات الأشراف ما كان يعنيه أن

يزوجه منها لولا أن له في ذلك مأربا من المآرب الفاسدة, فما كادت تخلع العروس خلعة عرسها حتى أنشأ يختلف إليها ويكثر ازديارها في الجناح الذي تسكنه من القصر بما له عليها من حق الولاية والرعاية والنظر في شئونها ومرافقها، ثم ما زال يختلها عن نفسها ويزين لها ما يزينه الشيطان للإنسان حتى علقت بحبالته كما علق بها غيرها من قبلها, ففركت زوجها وبرمت به فرابه من أمرها ما رابه, فرصدها حتى عرف موطن سرها وموقع هواها فشكا فلم يجد سامعا, ثم بكى فلم يجد راحما, فكان يقضي كثيرا من لياليه في غرفة من غرف القصر واجما مطرقا مسلما رأسه إلى ركبتيه ودمعه إلى خديه, لا سمير له ولا مؤنس إلا نغمات الضحكات التي كان يسمعها في غرفة زوجته, فتارة يثب وثبة الأسد فيثير في القصر ثائرة شعواء تضج لها جوانبه, فيتسارع إليه الخدم فيضربون على يده وفمه بأمر سيدهم, وأخرى يعود إليه بلهه فينظر إلى هذه المناظر المؤلمة نظر الضاحك اللاعب. مرت على تلك الحوادث سنوات عديدة استأثر فيها ذلك الوصي بتلك الدائرة الواسعة, وألح عليها بكلكله حتى اجتز وبرها, ثم استكشط جلدها فلم يبق منها إلا هيكل العظام, وعلم أن قد قامت قيامة الناس عليه وأن قصته مع زوجة الغلام وماله قد

ملأت مسمع الخافقين, وأن نجمه الثاقب قد مال إلى الأفول, عمد إلى حيلة شيطانية ختم بها تلك الرواية بمثل ما تختم به الروايات المحزنة. تفتّح للغلام بعد انقباضه وابتسم إليه بعد تقطيبه, وابتاع له ما اقترحه عليه من ثوب فاخر ومركب فاره ومزاهر وعيدان وكئوس ودنان، ثم خلا به في ساعة من ساعات نشوته وارتياحه فقال له: أيها الصديق قد آن أوان قيامك بشأنك وانفرادك بأمرك, فاكتب إلى المجلس الحسبي رقعة تطلب فيها رفع الحجر عنك, واكتب توقيعك على هذه الجريدة جريدة الحساب, فداخل الغلام من السرور والغبطة ما طار بلبه, فكتب الأولى ووقع الأخرى, ثم أوعز الوصي إلى المجلس الحسبي بتلبية طلبه فلباه وقضى برفع الحجر عنه, فاستقبل الغلام تلك النعمة استقبال الظامئ كأس الشراب وكان لا بد له من أن يشرب حتى يبشم, ففتش بين يديه عن مال ينفقه فلم يجده وكان الرجل قد وكل به عونا من أعوانه يداخله ويتحين فرصة حاجته إلى المال فيمنحه, فكان يعطيه المال باليمين ويأخذ منه صك البيع باليسار, فما زال هذا يعطي وذاك يأخذ حتى أصبح نصف تلك الدائرة بعد عامين اثنين ملكا لعون الوصي وللوصي غدا بثمن لا يساوي عشر معشارها, بل

بغير ثمن, وهل ابتاعها مبتاعها إلا بمالها وأنفق عليها إلا ثمرتها؟ هنالك قام الوصي وقعد ونادى في الناس بصوت يشبه صوت الحق ونغمة تشاكل نغمة الصدق: أيها الناس, قد كنت أنذرتكم بمصير هذا الغلام إن صار أمره إلى نفسه فكذبتم قولي, وفندتم رأيي وما زلتم تقولون كيت وكيت حتى أحرجتم صدري, ودفعتموني إلى الغدر بذلك العهد الذي أخذه علي ذلك الصديق الكريم أن أتولى شأن ولده من بعده, وألا أتخلى ساعة واحدة عن رعايته وتعهده, فكان ما كان مما تعلمون من تبديد ثروته وتمزيقها, فها أنتم ترون بأعينكم شؤم رأيكم وجريرة سعيكم. ثم أعاد كرته على الغلام وسعى سعيه في المجلس الحسبي, فأعاده سيرته الأولى ووضع في عنقه غلا لا فكاك له من بعده إلى يوم يبعثون. ليت شعري هل يعلم ذلك المقبور في لحده ما صنعت يد الحدثان بماله وولده, وأن المال قد ورثه غير وارثه واستأثر به غير صاحبه, وأن الولد قد أصبح بعد ذلك الملك الكبير، والجنة والحرير، يطلب المضغة فتعوزه والجرعة فتتعذر عليه، وأنه يبيت الليالي ذوات العدد مطرحا في زواية من زوايا الحانات لا وطاء غير أديم التراب، ولا غطاء غير قطع السحاب، وهل أعد

عدته للوقوف بين يدي الله في ذلك اليوم المشهود, يوم تكشف الهنات وتفضح العورات، فيمسك ولده بيمناه ووصيه بيسراه ثم يناجي ربه ويقول: اللهم اعدني على هذا الكاذب الذي ختلني وخدعني وخفر ذمتي وخاس بعهدي وخان أمانتي وأفسد وصيتي, وخذ لولدي بحقه من هذا الظالم الذي سرق ماله وهتك عرضه وعذب نفسه ونغص عيشه, فأنت أعدل الحاكمين وأرحم الراحمين.

العام الجديد

العام الجديد: في مثل هذا اليوم من كل عام يقف ركب هذا العالم السائر على منزلة من منازل الحياة, فينزل عن مطاياه ليستريح فيها ساعة من وعثاء السفر بعد أن نال منه الأين والكلال, وأنضاه سرى الليل ومسير النهار خمسة وستين وثلاثمائة يوم. هنالك يجتمع السفر في صعيد واحد فيتعارفون ويتفقد بعضهم بعضا, فيجدون أن فلانا مات جوعا وفلانا مات ظمأ وآخر افترسه سبع وآخر قتله لص وآخر مات غيلة وآخر سقط عيا وآخر طارت به قنبلة وآخر هوت به طيارة وآخر اجتاحه بركان وآخر تردى عليه منجم، ثم يعودون إلى جرائد الإحصاء ليدونوا فيها حاضرهم كما دونوا فيها ماضيهم، ثم يوازنون بين هذا وذاك فيجدون أن الحاضر شر من الماضي, وأن ميادين الحروب لا تزال ملوثة بالدماء ومصانع الموت لا تزال تفتن في عدده وتستكثر من أدواته, وأن أغراس الشر لا تزال عالقة بنفوس البشر حتى ما يكاد أحد يتمنى أن تقع عينه على أحد, وأن

سحائب البغضاء لا تزال ناشرة أجنحتها السوداء على المجتمع الإنساني من أدناه إلى أقصاه شعوبا وقبائل وأجناسا وأنواعا ومذاهب وأديانا ومنازل وأوطانا, فيبغض الرجل صاحبه لأنه يخالفه في جنسه, فإن عرف أنه يوافقه أبغضه لأنه يخالفه في دينه, فإن وافقه في هذه أبغضه لأنه ينطق بغير لغته, فإن نطق بها أبغضه لأنه لا يشاركه في وطنه، فإن كان مشاركا له أبغضه لأنه يزاحمه في حرفته أو صناعته, فإن بعد عن طريقه أبغضه لأنه يخالفه في رأيه, فإن كان موافقا له أبغضه لأنه لا يحاكيه في لونه, فإن لم يجد شيئا من هذا ولا ذاك أبغضه لأنه شحص سواه، كأن قضاء حتما على الإنسان أن يبغض كل صورة غير الصورة التي يراها كل يوم في مرآته، فإذا فرغوا من النظر في جرائد حسابهم والموازنة بين حاضرهم وماضيهم أضافوا إلى سيئاتهم الماضية سيئة الغش والكذب, فتناسوا كل هذا ووضع كل منهم يده في يد أخيه مهنئا له بالعيد السعيد, داعيا له بدوام الرفاهية والسعادة ثم تنادوا للرحيل ليستقبلوا المرحلة الآتية بعد قطع المرحلة الماضية. علام يهنّئ الناس بعضهم بعضا؟ وماذا لقوا من الدنيا فيحرصوا على البقاء فيها ويغتبطوا بقطع المراحل التي يقطعونها

منها؟ ومن منهم يستطيع أن ينطق بلسان يصدق الحديث عما في نفسه فيقول: إنه أصبح سعيدا كما أمسى أو أمسى سعيدا كما أصبح, أو إنه رأى بارقا من بوارق السعادة قد لمع يوما من الأيام في سماء حياته, ولم ير بجانبه مثل ما يرى في الليلة البارقة من نجوم هاوية ورعود قاصفة وصواعق محرقة وغيوم متلبدة؟ بأي نعمة من النعم أو حسنة من الحسنات تمنّ الحياة على رجل يتنقل فيها من ظلمة الرحم إلى ظلمة العيش ومن ظلمة العيش إلى ظلمة القبر كأنما هو يونان الذي التقمه الحوت, فأصبح في ظلمات بعضها فوق بعض؟ وأي صنيعة من الصنائع أسدتها الأيام إلى إنسان يظل فيها من مهده إلى لحده حائرا مضطربا يفتش عن ساعة راحة وسلام يبل بها غلته, ويثلج بها صدره فلا يعرف لها مذهبا ولا يجد إليها سبيلا؟ إن كان غنيا اجتمعت حوله القلوب المضطغنة واصطلحت عليه الأيدي الناهبة، فإما قتلته وإما أفقرته، وإن كان فقيرا عد الناس فقره ذنبا جنته يداه, فتتناوله الأكف وتتقاذفه الأرجل وتتجاذبه الألسن حتى يموت الموتة الكبرى، وإن كان عالما ولع به الحاسدون واستهتروا في تزييفه والتشهير به, وأغروا بنفثاته وآثاره حتى يعطيهم عهده وميثاقه أن يعيش عالما كجاهل وحيا كميت، وأن يكتم سر علمه

في صدره فلا يفضي به إلى لسان ولا قلم أو يموت دون ذلك، وإن كان جاهلا اتخذه العالمون مطية لا يزالون يركبونها إلى مقاصدهم وأغراضهم من حيث لا يرحمونها ولا يرفقون بها ولا يقيمون صلبها حتى يعقروها، وإن كان بخيلا ازدرته القلوب واقتحمته العيون وتقلصت له الشفاه وبرزت له الأنياب وانقبضت له الأسرة والتهبت له الأنظار وأرسلت إليه الأضغان ألسنة نيرانها حتى تحرقه، وإن كان كريما محسنا عاش مترقبا في كل ساعة من ساعات ليله ونهاره شر الذين أحسن إليهم، إما لأنه منحهم أولا ثم منعهم آخرا فهم يحاولون أن ينتقموا منه؛ لأنه أذاقهم لقمة ناعمة ما كانوا يقدرون لها في أنفسهم حسابا, فلما ذاقوها استعذبوها فاستزادوا منها فلم يجدوا ما يريدون, فتمتلئ صدورهم حقدا على تلك اليد التي هاجت بطنتهم وأشعلت نارها ثم لم تطفئها، أو لأنهم من أصحاب النفوس الشريرة الذين يشعرون كأن المحسن يريد أن يشتري منهم نفسه بما يسدي إليهم من إحسانه, فيتناولون منه الإحسان لأنهم طماعون ويطوون القلوب على الحقد عليه والموجدة له؛ لأنهم كانوا يريدون أن يتمكنوا من عرضه ينالون منه كما يشاءون, فحيل بينهم وبين ذلك. لا سعادة في هذه الحياة إلا إذا نشر السلام أجنحته البيضاء

على هذا المجتمع البشري، ولن ينتشر السلام إلا إذا هدأت أطماع النفوس واستقرت فيها ملكة العدل والإنصاف فعرف كل ذي حق حقه, وقنع كل بما في يده عما في يد غيره, فلا يحسد فقير غنيا ولا جاهل عالما, وأشعرت القلوب رحمة وحنانا على البؤساء والمنكوبين, فلا يهلك جائع بين الطاعمين ولا عارٍ بين الكاسين, وامتلأت النفوس عزة وشرفا, فلا يبقى شيء من تلك الحبائل المنصوبة لاغتيال أموال الناس باسم الدين أو باسم الوطنية أو باسم الإنسانية أو باسم العلم ولا نرى طبيبا يدعي علم ما لم يعلم ليسلب المريض روحه وماله, ولا محاميا يخدع موكله عن قضيته ليسلب منه فوق ما يسلب منه خصمه, ولا تاجرا يشتري بعشرة ويبيع بمائة ثم ينكر بعد ذلك أنه لص سارق, ولا كاتبا يضرب الناس بعضهم ببعض حتى تسيل دماؤهم فيمتصها كما يضرب القادح الزند بالزند ليظفر بالشرر المتطاير منهما، وما دامت هذه المطالب أحلاما كاذبة وأماني باطلة فلا مطمع في سلام ولا أمان ولا أمل في سعادة ولا في هناء، ولا فرق بين أمس الدهر ويومه، ولا بين يومه وغده، ولا فرق بين مغفلات أيامه ومعلمات أعياده، فليهنأ بالعيد من عرف من أيامه غير ما عرفت، وذاق من نعمائه غير ما ذقت، وليفرح بالعام الجديد من حمد ماضي أيامه وسالف أعوامه.

سحر البيان

سحر البيان: رأيت في إحدى روايات شكسبير وهي الرواية المعروفة برواية "يوليوس قيصر" موقفا لبطلين من أبطال الفصاحة, وفارسين من فرسان البيان قد وقف كل منهما من صاحبه موقف اللاعب من اللاعب, ووقف الشعب الروماني بينهما موقف الكرة بين مضارب الأقدام تعلو بها حينا وتسفل أحيانا فلا تثبت صاعدة ولا تستقر هابطة فعلمت أن العامة عامة في كل عصر، والشعب شعب في كل مصر، وأن سواد الأمة تحت صرح فرعون مثله تحت عرش قيصر، وأنه في رأس التاريخ اليسوعي مثله في ذنب التاريخ المحمدي، تدنو به كلمة وتنأى به أخرى، وتجذبه دمعة وتدفعه ابتسامة، وتطير بلبه الشعريات والخيالات طيران الريح الهوجاء بذرات الهباء. علم بروتس الشريف الروماني أن يوليوس قيصر قد استعبد الشعب الروماني, وأذل نفسه ذلا ملك عليه حواسه ومشاعره حتى ما يكاد يشعر بمرارته، وكذلك الذل إذا نزل بالنفوس سلبها

كل شيء حتى الشعور بنزوله بها، وعلم أن حياة ذلك الشعب في موت ذلك القيصر فهان عليه أن يقتل صديقه وسيده افتداء لأمته, فطعنه طعنة نجلاء سلبته نفسه فهاج الشعب الروماني على القاتل وأعوانه هياج الأمواج المتدافعة على السفن المبعثرة في أكناف الدأماء، فوقف الرجل خطيبا في وجه هذا الشعب المائج المحتدم حزنا على خلاصه من يد قاتله وقفة المستبسل المستميت، وكان لا بد له في موقفه من أحد المصيرين؛ إما نصر يعلو به إلى مدار الأفلاك، أو خذلان يهوي به إلى مقر الأسماك، ومن أحد المخرجين؛ إما مخرجه مرفوعا على محفة الأبطال، أو محمولا على أعناق الرجال، فبعد لأي ما استطاع بعض الناس أن يسكن ثائرة الثائرين ويستدرجهم إلى سماع دفاع القاتل عن نفسه أو التفكه بمنظر هذيانه وهو يتلمس في هذه الظلمة الحالكة المخرج من جرمه. الخطبة: بروتس "وهو على منبر الخطابة": أيها الرومانيون، أتعدونني بالصبر القليل على سماع ما أقول من حلو الكلام, ومره إكراما لموقفي, وإكراما للعدل؟ أنا لا أريد أن أخدعكم عن أنفسكم, ولا أن أعبث بعقولكم

وأهوائكم, بل أريد منكم أن تنظروا إلى قضيتي نظر المستيقظ الحذر الذي لا يعطي هوادة ولا يسلس قيادا ولا ينام عن شاردة ولا واردة؛ لأني لا أعتقد أن في زاوية من زوايا قضيتي هذه كمينا أخاف أن تقع عليه العيون. أيها الرومانيون، إن كان بينكم صديق لقيصر يحبه, ويتهالك وجدا عليه فليسمح لي أن أقول له: أيها الصديق الكريم، إن بروتس قاتل قيصر كان يحبه أكثر من حبك إياه. أيها القوم، والله لو كذبت الناس جميعا ما كذبتكم، فأعلموا أني ما قتلت قيصر لأني كنت أبغضه, بل لأني كنت أحب روما أكثر منه. كان قيصر يحبني فأحببته، وكان شجاعا فاحترمته، ولكنه كان طماعا فقتلته، ففي ساعة واحدة منحته دمعي وقلبي وخنجري. أنا لا أصدق أن بينكم من يحزن لموت قيصر, فأنتم رومانيون والروماني لا يحب أن يعيش ذليلا. من منكم يكره أن يكون رومانيا؟ من منكم يكره أن يكون حرا؟ من منكم يحتقر نفسه؟ من منكم يزدري وطنه؟ إن كان بينكم واحد من هؤلاء فليتكلم؛ لأنه هو الذي يحق له أن

يثأر لنفسه مني؛ لأني لم أسئ إلى أحد سواه. الشعب: لا، لا، ليس فينا واحد من هؤلاء. بروتس: إذن أنا لم أسئ إلى أحد منكم. وما وصل بروتس من حديثه إلى هذا الحد حتى دخل أنطونيوس صديق قيصر ورأس الناقمين على قتلته والطالبين بثأره هو وآخرون, ومعهم جثة قيصر لتأبينه في هذا المجمع الحاشد, فاستأنف بروتس الكلام وقال: بروتس: ها هي جثة قيصر وها هو صديقه أنطونيوس قد جاء ليؤبنه فاستمعوا له، واعلموا أن قيصر المذنب غير قيصر الماجد، وقد سمعتم ما قيل عن الأول فاسمعوا ما قيل عن الثاني، واسمحوا لي أن أقول كلمة أختم بها خطابي. أيها الرومانيون، إن الخنجر الذي ذبحت به قيصر في سبيل روما لا يزال باقيا عندي لذبح بروتس في سبيل قيصر إذا أرادت روما ذلك. تأثير الخطبة: الشعب: ليحي بروتس. أحد الناس: أنا أقترح أن نحمله على الأكف والرءوس إلى بيته.

آخر: انصبوا له تمثالا. آخر: امنحوه عرش قيصر. آخر: إنه أفضل من قيصر. آخر: إن قيصر كان ظالما. آخر: إنه كان الظلم بعينه. آخر: لتهنأ روما بالخلاص منه. آخر: ألا نسمع تأبين أنطونيوس؟ آخر: نعم نسمعه؛ لأن بروتس أمر بذلك. وهنا خرج بروتس والقلوب طائرة حوله, والعيون حائمة عليه وقد نال بتأثير خطابه من نفوس الشعب الروماني ما أراد، ثم صعد أنطونيوس على منبر الخطابة, فهزأ الشعب بموقفه ولولا كلمة من بروتس ما ثبت في موقفه لحظة واحدة، ثم أنشد قصيدة التأبين المشهورة التي هي آية الآيات في اللغة الإنجليزية فصاحة وبيانا, والتي يكاد لا يوجد إنجليزي لا يحفظها ولا يمجدها تمجيد الأمم المتعبدة آيات الكتب المقدسة. القصيدة: أنطونيوس: أيها الرومانيون. أحد الناس: اسمعوا ما يقوله أنطونيوس.

آخر: لا، لا نسمعه. أنطونيوس: اسمعوني إكراما لبروتس. أحد الناس: ماذا يقول هذا الرجل عن بروتس؟ آخر: لا يقول شيئا. آخر: إذن نسمعه. أنطونيوس: أيها الأصدقاء، أنا ما جئت هنا اليوم لأرثي قيصر بل لأدفن جثته. أيها القوم، ما من أحد من الناس إلا وله في حياته أعمال حسنة, وأخرى سيئة. أما حسناته فتموت بموته, وأما سيئاته فتبقى من بعده خالدة إلى يوم يبعثون. كذلك كان قيصر في حياته ومماته، وحسناته وسيئاته. أيها القوم، ما كنت لأستطيع أن أقف موقفي هذا بينكم ولا أن أقول كلمة مما أريد أن أقول لولا أن بروتس قاتل قيصر أمرني بالوقوف وأمرني بالكلام, وها أنتم ترون أنني قد أطعته واستمعت له؛ لأنه رجل شريف. أيها القوم، يقول الشريف بروتس: إن قيصر كان رجلا طماعا وأنا لا أستطيع أن أخالفه فيما يقول؛ لأنه رجل شريف.

أنا لا أستطيع أن أقول: إن قيصر كان رجلا قانعا عادلا أمينا؛ لأن الشريف بروتس يقول غير هذا. كل ما أستطيع أن أقوله, إن الفدية التي افتدى بها أعداؤنا أسراهم الذين جاء بهم قيصر إلى روما قد ملأت الخزانة العامة حتى فاضت بها. كل ما أستطيع أن أقوله, إني رأيت قيصر بعيني يبكي لبكاء الفقراء ويحزن لحزنهم, ويبيت الليالي ذوات العدد ساهرا لا يغتمض له جفن حدبا بهم, وعطفا عليهم. كل ما أستطيع أن أقوله, إني عرضت بنفسي تاج الملك على قيصر في لوبركال ثلاث مرات فأباه زهدا فيه, وازدراء له. كنت أستطيع أن أقول: إن الطمع لا يسكن قلبا مثل هذا القلب, ولا يخالط فؤادا مثل هذا الفؤاد لولا أن بروتس يقول: إن قيصر رجل طماع, وأنا لا أستطيع مخالفته لأنه رجل شريف. أيها الرومانيون، إنكم أحببتم قيصر قبل اليوم حبا جما, فما الذي يمنعكم اليوم من البكاء عليه؟ إن لم تبكوه لصفاته الكريمة فابكوه لأنكم كنتم تحبونه، ابكوه لأنه كان بالأمس ينطق الكلمة فتدوي في صدور العظماء دوي الرعد في آفاق السماء، فأصبح اليوم مطرحا

في ظل هذا الحائط, لا يجد بين الناس من يأبه له ولا من ينظر إليه. أيها العقل الإنساني، كيف حالت حالك وتغيرت آيتك؟ وكيف انتقلت من الصدور الإنسية إلى الصدور الوحشية؟ وكيف ضللت سبيلك وعميت عليك مذاهبك فحسبت الخير شرا، والشر خيرا، واختلط عليك الأمر بين الحسنات والسيئات, والمكارم والجرائم؟ أيها الرومانيون، عفوا إن هذيت بينكم أو أسأت إليكم، واعلموا أن الحزن قد قسم فؤادي قسمين: قسم على هذا المنبر، وقسم في ذلك النعش. أيها الأصدقاء، إن بين جنبي قلبا يخفق بحبكم والعطف عليكم والرأفة بكم, ولولا مخافة أن تنفجر صدوركم حزنا وجزعا لقلت لكم: إن قيصر قتل مظلوما. إنني أعتقد أن بروتس ورفاقه قوم شرفاء عظماء؛ لذلك أحب أن أسيء إلى نفسي وإلى قيصر وإليكم قبل أن أقول: إنهم أخطئوا في قتل قيصر, فأسيء إليهم. "وهنا أرسل أنطونيوس من جفنيه قطرات من الدموع". الانقلاب: أحد الناس "يقول لصاحبه": يلوح لي أن فيما يقول الرجل شيئا معقولا.

آخر: إنك إذا أنعمت النظر وجدت أن قيصر قد أسيء إليه. آخر: لقد أثر في نفسي زهده في تاج الملك. آخر: لقد أحزنني عليه أنه كان يبكي لبكاء الفقراء. آخر: إن الذي يرثي لبؤس البؤساء لا يكون طماعا, ولا ظالما, ولا قاسيا. آخر: إذن فسيكون لمقتل قيصر شأن غير شأنه الأول. آخر: لا بد من عقاب القاتل. آخر "يقول لجليسه": انظر إلى أنطونيوس, فقد بكى حتى احمرّت مقلتاه. آخر: ليس في روما رجل أشرف من أنطونيوس. أنطونيوس: أتأذنون لي بالنزول من المنبر لأقف قليلا بجانب جثة القتيل؟ الشعب: نعم نعم. "فنزل أنطونيوس ومشى حتى وصل إلى جثة قيصر وهو لا يزال في ملابسه التي قتل فيها, ولا تزال طعنات الخناجر ظاهرة في قبائه ثم قال" أنطونيوس: من كان يملك منكم دموعا فليعدها لهذا

الموقف, فإني سأبكيكم في هذه الساعة بكاء شديدا. إنكم جميعا تعرفون هذا القباء ولكنكم لا تعرفونه كما أعرفه أنا، أنا أعلم أن قيصر لبسه أول مرة في مساء اليوم الذي انتصر فيه على "الذفي" ذلك الانتصار الباهر الذي نالت به روما فخرا عظيما. "ثم وضع يده على الثقوب التي في القباء وقال" في هذا القباء الشريف تمزقت جثة هذا الفاتح العظيم. في هذا الثقب طعنه بروتس طعنته, ومن هذا الثقب أطل دم قيصر ليرى بعينه وجه الضارب، وأحسب أن أفراد هذا النوع الإنساني جميعهم قد مروا بخاطر قيصر فردا فردا قبل أن يمر بخاطره بروتس. عرف قيصر أن قاتله هو صديقه وصنيعة إحسانه, ففترت همته وعجز عن المقاومة لأن الطعنة التي أصابته في جسمه لم تكن أقل من الطعنة التي أصابته في قلبه، ولم يكن منظر المدى والخناجر أبشع في نظره من منظر الخيانة والغدر، هنالك عجز قيصر عن أن يقول شيئا غير الكلمة التي ودع بها قاتله الوداع الأخير: "وأنت أيضا يا بروتس! ". وهنالك تحت تمثال بومباي وجد قيصر قتيلا وقد لف وجهه

بقبائه حتى لا تتألم نفسه مرة ثانية بمنظر كفر النعمة, ونكران الجميل. ها أنتم تبكون على قيصر, فشكرا لكم على هذه الدموع الكريمة التي طهرتم بها ما لوث به الخونة تربة الأرض من الدماء. إنكم تبكون لمنظر قباء قيصر الممزق, فكيف بكم لو شاهدتم ما تمزق من جثته. "ثم دنا وكشف القباء عن جسمه, وقال" إن في كل جرح من هذه الجروح لسانا يشكو إليكم فاستمعوا له, فهو أنطق من لسان الرثاء. أحد الناس: يا له من منظر فظيع. آخر: وا رحمتاه لقيصر. آخر: إن يوما يقتل فيه قيصر ليوم شره مستطير. آخر: يا للدناءة والسفالة. آخر: يا للغدر والخيانة. آخر: الانتقام الانتقام. الشعب "وهو يضجّ ضجيجا عظيما": أحرقوا القتلة، مزقوهم، لا تبقوا على أحد منهم. أنطونيوس: مهلا مهلا, أنا لا أريد أن أشعل بينكم فتنة

عمياء، ولا أريد أن تطالبوا القتلة بالدماء التي أراقوها, فإني لا أزال أعتقد أنهم قوم شرفاء وربما كانوا يعرفون أسبابا لقتله لا نعرفها, وإنما أريد أن أقول لكم: إن قيصر كان يحبكم حبا جما, فهو يستحق رثاءكم له, وبكاءكم عليه. لولا أني أوثر الإبقاء عليكم, ولولا أني أحب تخفيف ما ألم بقلوبكم من الحزن على فقيدكم لتلوت عليكم وصيته لتعلموا أن الرجل كان يحبكم, وأنه ما كان خليقا أن يقتل بينكم وفيكم عين تطرف وفؤاد يخفق. الشعب: اقرأ الوصية. أنطونيوس: إني أخاف على صدوركم أن تنفجر حزنا على القتيل الشهيد. الشعب: نريد سماع الوصية. أنطونيوس: إنه يعطي كل فرد من أفراد الرومان خمسة وسبعين فرنكا, ويوصي بجميع غاباته ومنتزهاته ورياضه لأمته. أحد الناس: يا له من رجل كريم. آخر: يا له من رجل شريف. آخر: ويل للقتلة. آخر: الثورة، الثورة.

آخر: سنحرق منزل بروتس ومنازل رفاقه. ثم خرج الشعب يتدفق في شوارع روما تدفق الأمواج الثائرة في القاموس المحيط. أنطونيوس "في موقفه وحده": أيتها الفتنة العمياء, قد أيقظتك من مرقدك فارفعي رأسك وامضي في سبيلك واشتعلي حتى يحرق لسانك أديم السماء, وحتى لا تبقي على شيء مما حواليك ا. هـ. وهكذا استطاع أنطونيوس في موقف واحد أن يستعبد الشعب الروماني لنفسه وما كاد يخلص من استعباد قيصر، وهكذا الأمم الضعيفة لا مفر لها من العبودية لحملة التيجان، أو حملة البيان.

الكبرياء

الكبرياء: حضرة السيد الفاضل: لي في البلدة التي أسكنها كرامة الحاكم؛ لأني أشغل وظيفة عالية فيها وقد بدا لي أن أختلف إلى المسجد لصلاة الجمعة, فاختلفتُ حتى فاجأني يوما من الأيام ما لم يكن في الحسبان. حدث أن صعلوكا يعرفني, ويعرف مقامي تمادى في وقاحته وسوء أدبه حتى وقف بجانبي في الصلاة فاشمأزت نفسي من هذا الأمر كل الاشمئزاز, وحاولت أن أحتمله فلم أستطع, وخفت إن طردته أن يؤاخذني الناس به, فهل تعرف مسوغا شرعيا يفرق بين درجات الناس في مواقف الصلوات؟ "سائل". يا مولانا الحاكم: رحماك بهذا الصعلوك المفلوك الواقف بجانبك، لا تضن عليه بظلك الظليل أن يمتد إليه, فيقيه أشعة التصعلك الحارة ساعة من الزمان, ولا تحرمه نفحة من نفحات السعادة التي تهب عليه من بين أردانك العطرة علَّه يجد في تلك اللذة الخيالية

ما يهون عليه مصابرة البلاء، ومعاناة الشقاء، وأحسن كما أحسن الله إليك, إن الله يحب المحسنين. ليفرخ روعك وليثلج صدرك, واعلم أن هذا الفقير الصعلوك الواقف بجانبك لا يستطيع مهما نال منه العدم, وبرَّح به الشقاء أن يقتطع قطعة من سعادتك أو يفتلذ فلذة من شرفك، فسعادتك وشرفك كالمصباح تستنير منه المصابيح, ونوره نوره وبهاؤه بهاؤه. لا تظلم الرجل ولا تقل: إنه وقاح الوجه أو سيئ الأدب؛ فإني أعلم بما أعرف من آمال هؤلاء البؤساء وأمانيهم أنه ما وقف بجانبك إلا طمعا في دورة الفلك التي علت بك, وأنزلتك منازل العظماء أن تدور به دورتها بك, وأن تنزله منزلتك, فاغفر له جهله وقصوره, فمثلك من يقيل العثرة ويستر الزلة. إنك تريد مني أن أتلمس لك في أبواب الشريعة الإسلامية مسوغا يسوغ لك طرد هذا الصعلوك المجترئ عليك من موقفه الذي اختاره لنفسه بجانبك, فاسمع ما ألقي عليك: إن الذي وقفت بين يديه في مصلاك أجلّ شأنا وأعظم خطرا من أن يحفل بثوبك اللامع وجبينك الساطع وردائك المطرز وقميصك المحبر, وأن يعرف لك من الفضل والشرف

أكثر مما يعرف لصاحبك, فما كان له أن يأمرك أن تتقدمه, أو يأمره أن يقف منك موقف العبد من السيد والمحكوم من الحاكم. إن للجمعة والجماعة فضائل كثيرة وحكما جمة أرادها الشارع منها، وإنك لن تجد بين هذه الحكم وتلك الفضائل حكمة أدق, ولا فضيلة أنفس من التواضع الذي يشعره العظيم قلبه كلما رأى أنه قد وقف من الفقير في ذلك الموطن المقدس موقف الأخ من أخيه, والنظير من نظيره. إن كنت تريد يا مولانا الحاكم من الاختلاف إلى المسجد ألا تترك للفقير موطنا من المواطن يملك فيه الخيار لنفسه في مواقفه, ومذاهبه حتى موقفه بين يدي ربه فخير لك أن تستصحب معك فريقا من شرطتك وأعوانك لتأمرهم في ذلك الفقير بما يرضيك من إقصائه أو طرده أو التنكيل به كلما رأيته تمادى في وقاحته وسوء أدبه، فإن تم لك من ذلك ما أردت فاحذر أن يخدعك خادع عن نفسك, فيزين لك أن تنطق في موقفك هذا بآية العبودية بعدما نطقت بكلمة الألوهية حتى لا تجمع على نفسك بين رذيلتين: رذيلة الظلم, ورذيلة الرياء. فإن كنت تريد الصلاة للصلاة, فاعلم أن الله لا يقبلها منك, ولا يجزل لك ثوابها حتى تقف بين يديه موقف من ألمت بقلبه

الخشية, وملكت عليه السكينة سمعه وبصره فلم يعد يبصر شيئا مما حوله, ولا يعلم إن كان واقفا في حضرة الملوك، أو في زمرة الصعاليك. أيها العظماء: ليست العظمة التي تعرفونها لأنفسكم إلا منحة من منح الفقراء عليكم, وحسنة من حسناتهم إليكم, فلولا تواضعهم بين أيديكم ما علوتم، ولولا تصاغرهم في حضراتكم ما استكبرتم، فلا تجزوهم بالإحسان سواء ولا تجعلوا الكفر مكان الشكر تستدفعوا النقم, وتستديموا النعم. أيها العظماء: ما هذه القصور التي تسكنونها, ولا هذه النعم التي ترفلون في أثوابها, ولا هذه الحاشية التي تدلون بها إلا ألوان وأصباغ لا علاقة بينها وبين نفوسكم, ولا دخل لها في جوهر من جواهر أفئدتكم وقلوبكم, وما هي إلا أن تشرق عليها شمس الحقيقة فتذهب بها ذهابها بألوان السحاب، وأصباغ الثياب، فإذا أنتم عراة مجردون لا تشفع لكم إلا فضائلكم، ولا تنفعكم إلا مواهبكم ومزاياكم. أيها العظماء: لا عذر لكم في الكبرياء في جميع حالاتكم وشئونكم، فإن

كنتم من أرباب الفضائل, فحري بالفاضل أن لا يشوه وجه فضيلته برذيلة الكبرياء، أو لا فما تحمل الأرض على ظهرها أسمج وجها, ولا أصلب خدا من جهلة المتكبرين، فانظروا أين تنزلون، وفي أي مقام تقيمون!

الانتحار

الانتحار: قرأت في الصحف أن رجلا من تجار المسلمين انتحر لا لضيق يد أو شدة مرض أو بؤس حال, بل لأنه حزن على وفاة صديق له, فقتل نفسه. إن الرجل مؤمن يعتقد ولا شك بسوء عاقبة المنتحر, فكيف هان عليه وهو في آخر يوم من أيام حياته أن يضم إلى خسارة دنياه خسارة آخرته, وهي العزاء الباقي عن كل ما يلاقي المؤمن في حياته من شقاء وعناء. إن الانتحار من حيث هو مبدأ فاسد, وعادة مستهجنة رمتنا بها المدنية الغربية فيما رمتنا به من مفاسدها وآفاتها. ولقد كنا نعجب قبل اليوم من تهالك المصريين على حب تقليد الغربيين حتى فيما يؤذيهم في مالهم أو عرضهم وصحتهم, أو كنا إذا أردنا المبالغة في تمثيل هذا التهالك قلنا: يوشك أن يقتل المصري نفسه بنفسه إذا علم أن ذلك عادة من العادات الغربية

فقد صار قريبا ما كان بعيدا, وأصبح مألوفا ما كنا نعده مثلا من الأمثال. الانتحار منتهى ما تصل إليه النفس من الجبن والخور, وما يصل إليه العقل من الاضطراب والهوس, وأحسب ألا يقدم الإنسان على الانتحار وفي نفسه ذرة من العزم، أو في عقله لمحة من الحزم. حب النفس غريزة وضعها الله سبحانه وتعالى في نفس الإنسان لتكون ينبوع العمل ومبعث الحركة ومطلع شمس المدنية والعمران، والمنتحر يبغض نفسه بأشد مما يبغض الإنسان أعدى أعدائه، فهو شاذ في طبيعته, غريب في خلقه, معاند لإرادة الله تعالى في حياة الكون وعمرانه، ومن كان هذا شأنه كان بلا قلب ولا عقل. لا عذر للمنتحر في انتحاره مهما امتلأ قلبه من الهم ونفسه من الأسى, ومهما ألمت به كوارث الدهر ونزلت به ضائقات العيش؛ فإن ما أقدم عليه أشد مما فر منه, وما خسره أضعاف ما كسبه. لو كان ذا عقل لعلم أن سكرات الموت تجمع في لحظة واحدة جميع ما تفرق من آلام النفوس وشدائدها, وأن قضاء ساعة واحدة فيما أعد الله لقاتل نفسه من العذاب الأليم الدائم أشد

مما يلاقيه من مصائب الحياة, وأرزائها لو يعمر ألف سنة. ما أكثر هموم الدنيا وما أطول أحزانها، لا يفيق المرء فيها من هم إلا إلى هم ولا يرتاح من فاجعة إلا إلى مثلها, ولا يزال بنوها يترجحون ما بين صحة ومرض وفقر وغنى وعز وذل وسعادة وشقاء، فإذا صح لكل مهموم أن يكره حياته وكل محزون أن يقتل نفسه خلت الدنيا من أهلها واستحال المقام فيها, بل استحال الوفود إليها وتبدلت سنة الله في خلقه, ولن تجد لسنة الله تبديلا. ما سمي القاتل مجرما إلا لأنه قاسي القلب متحجر الفؤاد، وأقسى منه قاتل نفسه لأنه ليس بينه وبينها من الضغينة والموجدة ما بين القاتل والمقتول, فهو أجرم المجرمين وأفظع القاتلين. يخدع المنتحر نفسه إن ظن أنه مقتنع بفضل الموت على الحياة, وأنه يفعل فعلته عن روية وبصيرة فإنه لا يكاد يضع قدمه في المأزق الأول من مآزق الموت حتى يثوب إليه رشده وهداه, ويحاول التخلص مما وقع فيه لو وجد إلى ذلك سبيلا. إن ألقى نفسه في الماء تخبط ومد يده إلى من يرجو الخلاص على يده, وود لو يفتدى نفسه بكل ما تملك يمينه، وإن أغلق على نفسه نوافذ غرفة مملوءة بغاز الفحم ود لو سقط عليه سقف

الغرفة ليستنشق نسمات الهواء, ولو عاش بعد ذلك كسير اليد والرجل, فاقد السمع والبصر. إن فكرة الانتحار نزغة من نزغات النفس وخطرة من خطرات الشيطان, فمن حدثته نفسه بقتل نفسه فليتمهل ريثما يتبين كيف يكون صبره على احتمال سكرات الموت وآلام النزع, وكيف يكون حديث الناس عنه بعد موته, وهل يمكن أن يوجد بينهم عاذر له أو ساكت عن ازدرائه واحتقاره ورميه بالعته والجنون، وليستحضر في مخيلته أشكال العذاب وألوان العقاب التي أعدها الله في الدار الآخرة لأمثاله, ثم لينظر أيرتكب جريمة الانتحار؟ لا أظنه بعد ذلك فاعلا إلا إذا كان وحشا في ثوب إنسان، أو بطلا من أبطال البيمارستان.

الحياة الشعرية

الحياة الشعرية: لولا الحياة الشعرية التي يحياها الناس أحيانا لسمج في نظرهم وجه الحياة الحسية, ومر مذاقها في أفواههم حتى ما يغتبط حي بنعمة العيش, ولا يكره ميت طلعة الموت. لذلك نرى كل حي يهرب من الحياة الحسية جد الهرب لاجئا إلى الحياة الشعرية من أي باب من أبوابها؛ لأنه يرى في هذه ما لا يراه في تلك, مما يريح فؤاده ويثلج صدره وينفي عن نفسه السآمة والضجر من صنوف المناظر, وأفانين المشاهد, وغرائب المؤتلفات, وعجائب المختلفات. لولا حب الناس الحياة الشعرية لما وجد فيهم كثير من المولعين بتخدير أعصابهم كشاربي الخمر ومدخني الحشيشة والأفيون، وهي وإن كانت في نظرهم حياة سعادة يتخللها شقاء، إلا أنها عندهم خير من حياة شقاء لا تتخللها سعادة، ولولا حب الحياة الشعرية لما وجد في الناس هذا الجم الغفير من الشعراء المتخيلين، والمتصوفة المتهوسين.

لا يجد السكير لذة العيش وهناءه إلا إذا أسلم نفسه إلى كأس الشراب فنقله من هذا العالم البسيط المحدود إلى عالم هائل غريب, يرى فيه كل ما تشتهي نفسه أن يراه، فإن كان قبيح الوجه مشوه الخلق تخيل أنه شرك الأبصار، وفتنة النظار، وأن القلوب محلقة على جماله تحليق الأطيار على الأشجار، وإن كان وضيعا حقيرا لا يملك فلسا توهم أنه جالس على كرسي الملك والصولجان في يمينه والتاج فوق رأسه واعتقد أن عبيد الله عبيده, وجنود الحكومة جنوده، حتى الجندي الذي يسحبه على وجهه إلى السجن. وبالجملة لا تقع عينه على ما يحزنه من المنظورات، ولا تسمع أذنه ما ينفره من المسموعات، حتى ليرى الجمال الباهر في وجه العجوز الشمطاء، ويسمع في صوت الرعد القاصف ألحان الغناء. ولا يشعر الصوفي بنعيم الحياة إلا إذا جنّ الليل وأوى إلى معبده وخلا بنفسه, فتخيل أن له أجنحة من النور كأجنحة الملائكة يطير بها في فضاء السماء, فيرى الجنة والنار والعرش والكرسي ويسمع صرير قلم القدرة في اللوح المحفوظ, ويقرأ في أم الكتاب حديث ما كان وما يكون وما هو كائن. ولا يستفيق الشاعر من هموم الدنيا وأكدارها ومصائبها

وأحزانها إلا إذا جلس إلى مكتبه وأمسك بيراعه, فطار به خياله بين الأزهار والأنوار، وتنقل به بين مسارح الأفلاك ومسابح الأسماك، ووقف به تارة على الطلول الدوارس يبكي أهلها النازحين وقطانها المفارقين، وأخرى على القبور الدوائر يندب جسومها الباليات، وأعظمها النخرات. ليس الأمل إلا بابا من أبواب الحياة الشعرية, ولا يمكن أن يوجد بين قلوب البشر قلب لا يخفق بالآمال، فالأمل هو الحياة الشعرية العامة التي يشترك في العيش فيها جميع الناس أذكياء وأغبياء، فهماء وبلداء، والأمل هو السد المنيع الذي يعترض في سبيل اليأس ويقف دونه أن يتسرب إلى القلوب، ولو تسرب إليها لزهد الناس العيش في هذه الحياة الحسية التي لا قيمة لها في أنظارهم, ولا لذة لها في نفوسهم, ولطلبوا الفرار منها إلى الموت تسليا بالتغير والانتقال، وتلذذا بالتحول من حال إلى حال. يقولون: أشقى الناس في هذه الحياة العقلاء, ويقولون: ما لذة العيش إلا للمجانين. أتدري لماذا؟ لأن نصيب الأولين من الحياة الشعرية أضعف من نصيب

الآخرين، وذلك أن عقل العاقل يحول بينه وبين استمرار الطيران في فضاء الخيالات الذهنية والمغالطات الشعرية، فلا يرى سوى ما بين يديه من المحسوسات، ويمنعه علمه بأحوال الدنيا وشئونها ومعرفته أن الهموم والأحزان لازمة من لوازمها لا تنفك عنها أن يؤمل منها ما ليس في طبيعتها من دوام السعادة, واستمرار السرور والهناء، فلا يطلب سعة العيش من وراء الأمل كبقية المؤملين، ولا يتلذذ بتصديق ما لا يكون تلذذ المجانين. والحق أقول: لولا الحياة الشعرية التي أحياها أحيانا في هذه النظرات لأحببت زهدا في الحياة الحسية أن تطلع الشمس من مغربها ولو قامت القيامة بعد ذلك، ولتمنيت حبا في الانتقال من حال إلى حال أن أنتقل ولو إلى رحمة الله.

رباعيات الخيام

رباعيات الخيام: وقفت برباعيات عمر الخيام1 كما يقف مسافر ضل به سبيله في فلوات الأرض ومجاهلها بوادٍ معشوشب زاهر في وسط فلاة جرداء عند منقطع العمران، فما خطوت فيه بعض خطوات حتى رأيت ما شاء الله أن أرى من أنوار بيضاء، وورود حمراء، وألوان من النبات مشتبهات وغير مشتبهات، وغدران مسلسلة مطردة تتبسط في تلك الديباجة الخضراء، تبسط الشهب الثاقبة في الديباجة الزرقاء، وأسراب من الحمام والعصافير والكراكي والبلابل تتطاير من فرع إلى فرع، وتتناثر من غصن إلى غصن وتجتمع لتفترق وتفترق لتجتمع، وتقتتل مرة وتتلاثم أخرى، وتصعد حتى تلامس بأجنحتها جلدة السماء، ثم تهبط فتقبّل صفحة الماء، ولا تزال تغرد في صعودها وهبوطها تغريدا مختلف النغمات

_ 1 عمر الخيام شاعر فارسي كان في القرن السادس من الهجرة, ورباعياته هذه ترجمت إلى أكثر اللغات الإفرنجية واللغة العربية حديثا.

متنوع اللهجات، فيتألف من ذلك الاختلاف نغم بديع لا أعرف له شبيها إلا تلك الصورة الخيالية التي أتخيلها في نغم الحور الحسان، في فراديس الجنان. فلم أزل أتقلب في أعطاف تلك الغلائل الخضراء، وأجرّ ذيول تلك الجداول البيضاء، وأقلب طرفي فلا أرى رائحا ولا غاديا، وأتسمع فلا أسمع هاتفا ولا داعيا، حتى وقف بي الحظ على دوحة فرعاء، ماثلة على رأس بعض الجداول، قد اضطجع في ظلها على قطيفة من ذلك العشب الناعم، رجل هانئ باسم، يقرأ تارة سورة الجمال في وجه فتاة جالسة بين يديه، ويقبل أخرى ثغر الكأس التي في يمينه، ويترنم فيما بين هذا وذاك بمقطوعات شعرية بديعة، يمثل فيها جمال الطبيعة وهدوءها، وسعادة الوحدة وهناءها، ويطير بأجنحة خياله في عالم بديع من عوالم الغيب كأنما يريد أن يفر بنفسه من هذا العالم المملوء بالآلام والأحزان, ويحاول أن يطارد كل خاطر من خاطرات الهموم التي تتطاير حول قلبه ليستكمل لذته في العيش، ويتغلغل في أعماق المتعة بوحدته وكتابه، وكأسه وفتاته. فإن مر بخاطره ذكر الملوك والأمراء وما ينعمون به من عز وسلطان ولذة واستمتاع قال: ما لي وللملك والسلطان،

والحاشية والجند والقصور الشماء، والجنان الفيحاء، هنالك المحنة والشقاء، والفتنة الشعواء، والهموم والأرزاء، والدماء والأشلاء، والعويل والبكاء، وهنا الراحة والسكون في ظلال الوحدة والانفراد، حيث لا سيد ولا مسود، ولا عابد ولا معبود، وبين هذين الثغرين ثغر الفتاة وثغر الكأس، وذينك الصديقين، هذا الكتاب المفتوح وذلك الغصن المطل، كل ما يقدر السعداء لأنفسهم من غبطة في الحياة وهناء. وإن ذكر الآخرة وما أعد الله فيها من العذاب للمسرفين على أنفسهم قال: إن من العجز أن أبيع عاجل السعادة المعلوم بآجلها المجهول، أنا اليوم موجود فلا بد أن أستمتع بمتعة الوجود، أما الغد فلا علم لي به ولا بما قُدِّر لي فيه، وعسير علي أن أتصور أننا معشر الأحياء كنوز من الذهب ندفن اليوم في باطن الأرض لينبش عنا النابشون غدا. ثم يعود إلى نفسه مستغفرا الله من ذنبه في شكه وارتيابه, فيقول: اللهم إنك تعلم أني ما كفرت بك منذ آمنت، ولا أضمرت لك في قلبي غير ما يضمر لك المؤمنون الموحدون، فاغفر لي آثامي وذنوبي، فإني ما أذنبت عنادا لك ولا تمردا عليك، ولكنها الكأس غلبتني على أمري، وحالت بيني وبين عقلي،

وأنت أجل من أن تقاضيني كما يقاضي الدائن مدينه؛ لأنك كريم والكريم يرتجل المنحة ارتجالا، ولا يقرضها قرضا، ويسبغ نعمته حتى على العصاة والمذنبين. وأحيانا يستشعر قلبه الرحمة بالعباد, فيبكي أحياءهم وأمواتهم ويقول مخاطبا فتاته: رويدا أيتها الفتاة في خطواتك على هذه الأعشاب, فلعل جذورها تستمد حياتها من كبد فتاة مثلك كان لها قلب مثل قلبك، ووجدان مثل وجدانك، وجمال ورُواء مثل جمالك ورُوائك، ثم ضرب الدهر ضرباته فإذا أنتِ في غلالة هذه الأشعة البيضاء، وإذا هي في دجنة تلك الأعماق السوداء، فارفقي بها واسكبي هذه الفضلة من كأسك على تربتها, علها تتسرب إلى نفسها فتطفئ ذلك اللاعج الذي يتأجج بين جوانحها. ثم يتخيل أحيانا كأنه واقف أمام رجل خزَّاف يحرق آنيته في تنوره فيقول له: رحمة أيها الخزاف بهذه الحمأة التي تقلبها في هذه النار, فقد كانت بالأمس إنسانا مثلك، وستكون في مستقبل الأيام حمأة مثلها, وربما ساقك الدهر إلى يدي خزاف تحتاج إلى رحمته ورفقه، فارفق بها اليوم يرفق بك خزافك غدا. وآونة يلبس ثوب الواعظ المنذر, فينعي على السعداء سعاداتهم ويذكرهم بما آلت إليه حال الملوك السالفين، والأقيال الماضين،

من خراب دورهم، وعمران قبورهم، وغروب شموسهم واندثار آثارهم. ثم ينتقل من ذلك إلى البكاء على نفسه وترقب ذلك اليوم الذي تصوّح فيه زهرته، وتنطفئ جذوته، وتضعف منته، ويمحو نهار مشيبه ليل شبابه؛ فيزحف إلى قبره شيئا فشيئا حتى يتردى فيه، فيعود كما كان سرا مكتوما في ضمائر الأقدار، وذرة هائمة في مجاهل الأكوان. وهكذا ما زال يتنقل من عبرة بليغة إلى عظمة بديعة, ومن خيال جميل إلى تشبيه رقيق، ومن وصف ناطق إلى تمثيل صادق، حتى أصبحت أعتقد أن هذه النفس التي تشتمل عليها بردة هذا الشاعر الجليل مرآة صافية قد تمثل فيها هذا الكون بأرضه وسمائه، وليله ونهاره، وناطقه وصامته، وصادحه وباغمه، وأن فخار الأعراب بمتنبيها ومعريها، والفرنسة بلامرتينها وفيكتورها، والسكسون بشكسبيرها وملتونها, والطليان بدانتيها، والألمان بجيتها، والرومان بفرجيلها، واليونان بهوميرها، ومصر القديمة ببنتاءورها، ومصر الحديثة بأحمدها، لا يقل عن فخار فارس بخيامها.

إلى تولستوي

إلى تولستوي 1: قف ساعة واحدة نودعك فيها قبل أن ترحل لطيتك، وتتخذ السبيل إلى دار عزلتك، فقد عشنا في كنفك على ما بيننا وبينك من بعد الدار وشط المزار، عهدا طويلا كنا فيه أصدقاءك وإن لم نرك، وأبناءك وإن كنا لنا آباء من دونك، وعزيز علينا أن تفارقنا قبل أن نقضي حق عشرتك بدمعة واحدة نسفحها بين يديك في موقف الوداع. حدثنا الناس عنك أنك ضقت بهذا المجتمع الإنساني ذرعا بعد أن أعجزك إصلاحه وتقويمه فأبغضته وعفت النظر إليه، وأبغضت لبغضه كل شيء حتى زوجك وولدك، ففررت بنفسك منه إلى غاب تسمع زئير سباعه؛ أو دير تأنس برنة ناقوسه، وأسجلت أن لا تعود إليه وأن تقطع كل سبيل بينك وبينه،

_ 1 كتبت هذه المقالة لمناسبة ما جاء في الأخبار أن تولستوي الفيلسوف الروسي المشهور ترك قبل وفاته ببضعة أيام منزله, هائما على وجهه ليعتزل الناس في أحد الأديرة.

فعذرناك ولم نعتب عليك ولم نسمك جبانا ولا منهزما ولا مواليا ولا مدبرا؛ لأنك قاتلت فأبليت حتى لم يبق في غمدك سيف ولا فوق عاتقك رمح ولا في كنانتك سهم، والعدو كثير عدده صعب مراسه وافرة قوته، والشجاعة في غير موطنها جنون، والوقوف أكثر من ثمانين عاما أمام عدو لا أمل في براحه ولا مطمع في زياله عناد، وهل كان يكون مصيرك إن أنت قاتلت حتى سقطت قتيلا في المعركة إلا مصير الفلاسفة من قبلك الذين قاتلوا حتى قتلوا, فهدرت دماؤهم واغتمضت عيونهم قبل أن يروا منظرا من مناظر الصلاح والاستقامة في المجتمع البشري يعزون به أنفسهم عن أنفسهم, ويروحون به ما يجدون بين جوانحهم من ألم النزع, وفي أفواههم من مرارات الموت؟ ماذا لقيت من الدنيا, وماذا أفدت منها, وأين وقع علمك وفضلك ولسانك وقلمك وقوة عارضتك ومضاء حجتك من آثام الناس وشرورهم وقسوة قلوبهم وظلم ألسنتهم وأيديهم؟ قلت للقيصر: أيها الملك, إنك صنيعة الشعب وأجيره لا إلهه وربه، وإنك في مقعدك فوق عرشك لا فرق بينك وبين ذلك الأكَّار في المزرعة وذلك العامل في المصنع, كلاكما مأجور على عمل يعمله فيسدده، وكلاكما مأخوذ بتبعة زلله وسقطه، فكما

أن صاحب المصنع يسأل العامل هل وفّى عمله ليمنحه أجره، كذلك يسألك الشعب هل قمت بحماية القانون الذي وكل إليك حراسته فأنفذته كما هو من غير تبديل ولا تأويل، وهل عدلت بين الناس فآسيت بين قويهم وضعيفهم، وغنيهم وفقيرهم، وقريبهم وبعيدهم، وهل استطعت أن تستخلص عقلك من يدي هواك فلم تدع للحب ولا للبغض سلطانا على نفسك يعدل بك عن منهج العدل ومحجته، وهل أصممت أذنك عن سماع الملق والدهان والمدح والثناء فلم تفسد على الناس فضائلهم، ولم تقتل عزة نفوسهم، ولم يذهب بهم الخوف من ظلمك أو الطمع في غفلتك مذهب التوسل إليك بالكذب والنميمة والتجسس وذلة الأعناق وضرع الخدود، فإن وجدك الشعب عند ظنه ورآك أمينا على العهد الذي عهد به إليك أبقى عليك وأبقى لك سلطانك وعرف لك يدك عنده وأحسن إليك كما أحسنت إليه، أو لا كان له معك شأن غير ذلك الشأن ورأي غير ذلك الرأي. فما سمع منك هذه الكلمات حتى أكبرها وأعظمها؛ لأنه لم يجد بين الكثير الذي يعاشره من يسمعه مثلها، فحقد عليك ونقم منك وأزعجك من مكانك واستعان على مطاردتك بأولئك الذين أذل نفوسهم وأفسد ضمائرهم بظلمه وجوره من قبل ليعدهم

لمقاتلة الحق ومصارعته في أيام خوفه, وقلقه. وقلت للجبار الروسي: ليس من العدل أن تملك وحدك وأنت نائم في سريرك في قصرك بين روضك ونسيمك، وظلك ومائك، هذه الأرض التي تضم بين أطرافها مليون فدان، ولا يملك واحد من هؤلاء الملايين الذين يحرثونها ويبذرون بذورها ويستنبتون نباتها، ويربون ماشيتها، ويتقلبون بين حرها وبردها، وأجيجها وثلجها، شبرا واحدا فيها، فاعرف لهم حقهم وأحسن القسمة بينك وبينهم وأشعر قلبك الخجل من منظر شقائهم في سبيل سعادتك، وموتهم في سبيل حياتك، واعلم أن الأرض لله يورثها من يشاء، ثم لم تقنع بما بذلت له من العظة والنصيحة حتى ضربت له مثلا من نفسك, فعمدت إلى أرضك فجعلتها قسمة بينك وبين القائمين عليها من الزارعين، ثم عمدت إلى فأسك فاعتقلتها وماشيتك فأخذت بزمامها, وما زلت حتى بلغت مزرعتك الصغيرة التي استبقيتها لنفسك فضربت مع الضاربين, وخضت مع الخائضين لتعلم ذلك الجبار بيدك ما عجزت عنه بلسانك، فسخر منك ورثى لعقلك وألف من حادثتك رواية غريبة يروح بها عن قلبه في مجتمعات أنسه ولهوه ما يكابده من ألم السآمة والضجر

وقلت للكاهن: إن المسيح عاش معذبا مضطهدا؛ لأنه لم يرض أن يقر الظالمين على ظلمهم وأبى أن يخفي ذلك المصباح الذي في يده تحت ثوبه, بل رفعه فوق رأسه غير مبالٍ بنقمة الملوك على ذلك النور الذي يكشف سوءتهم، ويهتك سترهم، وأنت تزعم أنك خليفته وحامل أمانته والقائم بنشر آياته وكلماته والمترسم مواقع أقدامه في خطواته، فما هذه الجلسة الذليلة التي أراك تجلسها تحت عروش الظالمين، وما هذه اليد التي تضعها في أيديهم كأنك تأخذ عليهم العهود والمواثيق أن يقتلوا ويسلبوا باسمك وفي حمايتك وحماية الكتاب المقدس، وما هذه السلطة التي تزعمها لنفسك أن تدخل الجنة من تشاء وتخرج منها من تشاء، وما هذه القصور التي تسكنها والديباج الذي تلبسه والعيش البارد الذي تنعم به وأنت الراهب المتبتل الذي كتب على نفسه الانقطاع عن زخرف الدنيا, ونعيمها إلى عبادة الله والانكماش في طاعته. ذلك ما قلت للكاهن, فكان جوابه أن أرسل إليك كتاب الحرمان وهو يعلم أنك لا تعترف له بالقدرة على إعطاء أو منع, ولكنه أراد تشويه سمعتك والغض منك وإغراء العامة بك وصرف القلوب عنك, فكان ذلك كل ما استفدت من نصيحتك وعظتك

وأبكاك منظر المنفيين في سيبريا وما يلاقون من صنوف العذاب ويعالجون من أنواع الآلام, فصرخت صرخة دوى بها الملأ الأعلى والملأ الأدنى وقلت: أيها الناس, إن الشر لا يدفع الشر، والأشقياء مرضى فعالجوهم ولا تنتقموا منهم, فالتربية الصالحة تمحو الجرائم والانتقام يلهب نارها، واجعلوا مكان السجون مدارس ومكان السجانين معلمين، فلم يسمع صرختك سامع، ولا بكى لبكائك باكٍ، وما زال القضاة يحكمون، والجند يصادِرون، والسجانون يعذِّبون، والمسجونون يصرخون. وأزعجك منظر الدماء المتدفقة في معارك الحروب وبكاء النساء المعولات خلف أزواجهن وأولادهن وإخوتهن وهم سائرون إلى حرب لا يعرفون لها مصدرا ولا موردا, وقد حمل بعضهم لبعض بين الجنوب ضغائن وسخائم لا سبب لها إلا ذلك الوهم الذي غرسه في قلوبهم قساة السياسة، فتخيلوا أنهم أعداء وهم أصدقاء، فتسلبوا من لباس الإنسانية ولبسوا فراء السباع وتقلدوا أظفارها وأنشب كل منهم ظفره في صدر أخيه كأنما يفتش عن قلبه, فينتزعه من مكانه فيلوكه في فمه ثم يلفظه، ذلك القلب الذي لو شق عن سويدائه لوجد لنفسه فيه مكانا عليا لولا جور السياسة وضلالها.

فما أغنى عنك بكاؤك وحنينك، ولا أجدى عويلك وأنينك؛ فالحرب لم تزل باقية ومصانع الموت لم يقنعها ما أعدت من المهلكات لمعارك الأرض, حتى أصبحت تعد مثلها لمعارك السماء. فهنيئا لك أيها الرجل العظيم ما اخترتَ لنفسك من تلك العزلة المطمئنة, فقد نجوت بها من حياة لا سبيل للعاقل فيها إلا أن يسكت فيهلك غيظا, أو ينطق فيموت كيدا. إن الحكيم يستطيع أن يحيل الجهل علما والظلمة نورا والسواد بياضا والبحر برا والبر بحرا, وأن يتخذ نفقا في الأرض أو سلما في السماء, ولكنه لا يستطيع أن يحيل رذيلة المجتمع الإنساني فضيلة وفساده صلاحا. ما دام الإنسان لا ينتهي عن ظلم الإنسان حتى يخافه, وما دام لا يحسن إليه إلا إذا أراد أن يتخذه عبدا يعبده من دون الله, وما دام للأثرة هذا السلطان الأكبر على أفراد المجتمع من أكبر كباره إلى أصغر صغاره, فالإنسان اليوم هو بعينه إنسان الغابات والأحراش بالأمس, لا فرق بينه وبينه إلا أنه اليوم قد أوى بشروره ومفاسده إلى بيت من الزجاج يفعل فعلاته من ورائه, ولكن الزجاج شفاف كثوب الرياء.

مقدمة مختارات المنفلوطي

مقدمة مختارات المنفلوطي: عرفت حاجتك يا بنيّ أعزك الله إلى كتاب1 يجمع لك من جيد منظوم العرب ومنثورها في حاضرها وماضيها, وفي كل فن وغرض من فنونها وأغراضها ما تستعين باستظهاره أو ترديد النظر فيه على تهذيب بيانك وتقويم لسانك, وعلمت أنك لن تستطيع أن تجد طلبتك هذه في مختار من مختارات المتقدمين، ولا في مجموعة من مجموعات المعاصرين، أما المتقدمون فهم بين نحوي لا يعجبه من الكلام إلا ما يجد فيه مذاق شواهد العلم الذي يعالجه, ولا تسكن نفسه إلا إلى البيت الذي يرى فيه عقدة يتفصح بحلها أو خطأة يتفكه بتأويلها أو نادرة من نوادر الإعراب والبناء يؤيد بها رأيا أو يساجل بها خصما, ولغوي مولع بما يشتمل على الغريب النادر من مفردات اللغة وتراكيبها, فلا يكاد يعدل بشعر الجاهلية وما جرى مجراه شعر طبقة من الطبقات ولا يرى

_ 1 هو كتاب مختارات جمعها المؤلف من منظوم ومنثور, وقد ظهر الجزء الأول منه بهذا العنوان مفتتحا بهذه المقدمة.

غير كلامهم كلاما ولا مذهبهم مذهبا، وعصر الجاهلية فيما أعتقد هو عصر الطفولة الشعرية أي: إن الشعر كان فيه بسيطا ساذجا لم يهذبه العلم ولم تصقله الحضارة ولم تصل به أشعة الخيال, فتنير ظلمته، فهو وإن كان أصدق الشعر وأجدره أن يكون صفحة صحيحة لتاريخ عصره ولكن قلما يستفيد شاعر الحضارة من أكثره أكثر من المادة اللغوية، وما الفرق بين شعر الجاهلية وشعر طبقة المحدثين والمولدين من بعده إلا كالفرق في الموسيقى بين نغمات الحداة في أعقاب الإبل, ونغمات الضاربين على أوتار الأعواد والبرابط في عصر الحضارة الإسلامية، وعندي أن للنزعة التاريخية سلطانا على نفوس المولعين بالشعر الجاهلي أكثر من النزعة الفنية, فمثلهم كمثل المولعين بالعاديات الذين يؤثرون حجر الجرانيت على حجر الماس, ويعجبهم منظر هرم خوفو أكثر مما يعجبهم منظر برج إيفل، وراوية همه في حياته أن يدور بيده ليله ونهاره في زوايا رأسه عله يعثر ببيت لا يعرفه غيره منسوبا إلى قائل لا يعرف نسبته إليه سواه, ثم لا يبالي بعد ذلك أحسن أم أساء، فهو بالمؤرخ أشبه منه بالأديب، وأديب جمع ما جمعه لعصر غير عصرك وقوم غير قومك وحال ومجتمع غير حالك ومجتمعك, فإن أفادك قليله لا ينفعك كثيره، وأحسب أن ما جمعه

من الشعر بالحماسة ووصف الحروب وأسلحتها ودمائها وغبارها وأشلائها ووصف الإبل في مباركها والشاء في حظائرها والأبقار في مراتعها هو آخر ما يحتاج المتأدب إلى النظر فيه في هذا العصر، وبين مطيل قد خلط جيده برديئه وغثّه بسمينه فلا تصل يدك إلى ما في منجمه من ذرات التبر حتى تنبش عنها ما لا قبل لك باحتماله من حقائب الرمل, ومقصر يختص بالاختيار عصرا دون عصر أو فردا دون فرد أو قوما دون قوم أو بابا من أبواب البيان دون باب, وهو يعلم أن المتأدب شاعرا كان أو كاتبا لا يكمل أدبه ولا تصفو قريحته ولا تلمع صفحة بيانه ولا تنحل عقده لسانه إلا إذا تمهل في روض البيان, فاقتطف ألوان زهراته من أنواع شجراته، وأن الشاعر لا يغنيه المدح والهجاء عن البكاء والرثاء، ولا العتاب والود عن التشبيه والوصف، ولا البكاء على المنازل والديار وفراق الأحبة وموت الموتى عن البكاء على المجد الضائع، والملك الساقط، والعرض المغلوب، والشرف المسلوب، كما لا يغنيه وصف السيف في رونقه وبهائه عن وصفه في حدته ومضائه، ولا وصف البدر في جماله ورُوائه عن وصفه في عزته وخيلائه، ولا تشبيه قوادم الحمامة عن تشبيه ذنب القطاة، ولا تصوير ذكاء الفيل عن تمثيل إحساس النملة، وأن الكاتب لا يبلغ

مرتبة البيان ولا يصل إلى منزلة القدرة على الإفصاح عن أغراضه ومراميه في جميع مواقفه ومذاهبه حتى يأخذ بأزمَّة القول جميعها ويشتمل على أساليب الكلام بأنواعه, ويعلم أن الكتابة في العلم غير الكتابة في الأدب, وأن للخطب أسلوبا غير أسلوب الكتب, وأن لكل نوع من أنواع العلوم والفنون طريقا في الكتابة خاصا به لا يفارقه إلى غيره ولا يشركه فيه سواء, وأن الانتقاد غير الهجاء والهجاء غير التهكم والتهكم غير التأنيب والتأنيب غير الإنذار والتهديد، وأما المعاصرون فهم إما تابع متأثر يعتمد في اختيار ما يختار على نباهة النابه وفي اطراح ما يطرح على خمول الخامل, ويعتبر التقدم في الزمن شافعا يشفع في إساءة المسيء والتأخر فيه ذنبا يذهب بإحسان المحسن، وإما خابط متقمم يعتمد في الاختيار على يده لا على بصره, فيأخذ من كل كتاب صفحة ومن كل ديوان ورقة ثم يعرض على الأنظار كتابا غريبا في اختلاف ألوانه وتزايل أوصاله, جامعا بين معلقة امرئ القيس وألفية ابن مالك في مكان وبين مقامات البديع ومقامات السيوطي في مكان آخر، وإما عالم أديب قد حال بينه وبين انتفاع المتأدبين بعلمه وفضله وسلامة ذوقه وصفاء قريحته أنه يبالغ في سوء الظن بأفهامهم, ويذهب في تقدير مداركهم مذاهب ما كان

لمثله أن يذهب إلى مثلها فتراه يعمد في اختيار ما يختار إلى ما يزعم أنه القريب إلى أذهانهم اللاصق بعقولهم غير الملتوي عليهم ولا المتعثر بهم, فيتبذّل كل التبذّل ويسف كل الإسفاف ويورد في كتابه من قطع الشعر وجمل النثر ما يشبه أن يكون مادة للطفل في هجائه، لا مادة للأديب في بيانه، وسبيل كتب المختارات التي يراد منها غرس ملكة البيان في نفس المتأدب غير سبيل كتب العلم التي لا يراد منها غير حصول ما تشتمل عليه من قواعد العلوم ومسائلها في ذهن المتعلم، ولن تستقر ملكة البيان في النفس حتى يقف المتأدب بطائفة من شريف القول, منظومه ومنثوره وقوف المستثبت المستبصر الذي يرى المعنى بعيدا فيمشي إليه أو نازحا فيستدنيه أو محلقا فيصعد إليه أو متغلغلا فيتمشى في أحشائه حتى يصيب لبه ولا يزال يعالج ذلك علاجا شديدا ينضح له جبينه وتنبهر له أنفاسه حتى تتكيف ملكته بالكيفية التي يريدها، وما أرى هذه النكبة العامة التي أصابت الناشئين في ملكاتهم الكتابية وما رزئوا به من نضوب مادتهم اللغوية والنزوع إلى تلك المنازع الأعجمية في التصور والتخيل إلا أثرا من آثار تلك المختارات التي يجمعها لهم الجامعون جمعا

محفوفا بالحذر والاحتياط, بل بما هو فوق ذلك من الخوف والوسواس فيستكثرون لهم من أبواب الحكم والأخلاق والمواعظ والزهد وأمثال ذلك مما لا يكاد يتراءى فيه قلب الشاعر, ولا تتجلى فيه نفس الكاتب ويفرون الفرار كله من كل ما يتعلق بوصف جمال الطبيعة أو جمال الصناعة أو تصوير عواطف النفوس وخوالجها في الخير والشر والعرف والنكر, كأنما يحسبون أن كل بيت غزل بيت ريبة وكل قصيدة خمرية حانة شراب، وما سمعنا من قبل ولا نحسب أن سيسمع السامعون من بعد أن متأدبا أفسده ديوان غزل أو أغراه بالشراب وصف خمر, لا بل إنما يرد ذلك على من يرد عليه منهم من فساد الخلطاء, أو ضلال المؤدبين. أما الشعر المشتمل على وصف الجمال, والنثر المتضمن تصوير دقائق المعاني النفسية والخواطر القلبية ما دام بعيدا عن فاحش القول وهجره, فهو أعون الذرائع على تنمية ملكة الفصاحة والبيان في نفس الناشئ؛ لذلك لم أر بدا من أن أستخير الله تعالى في أن أجمع لك يا بني في هذا السفر من جيد المنظوم, والمنثور ما أعلم أنه ألصق بك وأدنى إليك وأنفع لك في تثقيف عقلك وتقويم لسانك وتحليل ما أسأرته الأيام من العجمة في قلمك ولسانك, فهززتُ لك دوحة الأدب العربي هزة تناثرت فيها هذه الثمرات

الناضجة التي تراها بين يديك ولم أترك من ورائي في جميع ما تصفحته من دواوين الشعر ومجاميع الأدب وكتب المختارات إلا ما كان رديئا, أو مشوبا بشيء من هجر القول ومعيبه, أو بالغا من الشهرة والسيرورة منزلة لا يخطئها نظر الناظر, أو واقعا في منزلة بين الجودة والرداءة، وقد جعلت قاعدتي في الاختيار جمال الأسلوب أولا وجمال المعنى ثانيا, فربما أختار ما حسن لفظه وتوسط معناه, وقد أختار ما توسط لفظه وسما معناه كما صنعت في بعض مختارات قسم المنثور من الباب الأول وهو باب الفصاحة والبيان, ولكنني لا أختار بحال ما كان معناه ساميا ونظمه فاسدا، أما الجيد فقاعدته عندي ما يأتي: "كل كلام صحيح النظم والنسق إذا قرأه القارئ وجد في نفسه الأثر الذي أراده الكاتب منه, من حيث لا يجد فيه مسحة تدل على أن صاحبه يحاول أن يكون فيه بليغا, فهو بليغ" ولا أكتمك أني قد استجزت لنفسي ما استجازه لأنفسهم المختارون من قبلي فتصرفت في قليل من المختارات بعض التصرف بالتقديم والتأخير والاختصار والتلخيص والحذف، وقد لقيت في هذا السبيل وفي كل سبيل سلكته إلى جمع هذه المختارات عناء كثيرا لا أسألك يا بني عليه أجرا سوى أن تنتصح بما أنصحك به في كلمتي هذه، وهي أنك لن تستطيع

أن تنتفع بهذه المختارات إلا بشروط ثلاثة: أولها: أن تملأ قلبك من الثقة بها, والسكون إليها حتى لا يصرفك عنها صارف ولا يخدعك عنها خادع، وثانيها: أن تقف بها وقوف الدارس المتعلم لا وقوف المتنزه المتفرج فلا يمنعك فهم ما فهمته من معاودته وترديد النظر فيه حتى ترشف فيه من الكأس ثمالتها ولا تصعب ما تصعب عليك من مراجعته والاختلاف إليه والتغلغل في أحشائه فإنك لا بد ماخض زبدته ومصيب لبه, وثالثها: أن تحمي نفسك النظر في هذه المخطوطات المختلفة التي تتجدد كل يوم أمام عينيك في أسفار هذا العصر وصحفه؛ فإن التربية الكتابية مثل التربية الأخلاقية يسري فيها الداء ثم يعوز الدواء، اللهم إلا ما كان من أمثال ما يكتبه الكتّاب وينظمه الشعراء الذين اخترت لهم في هذا الكتاب في المعاني التي عُرفوا بها وبرزوا فيها، فإن أخذت بنصيحتي وعنيت بها العناية كلها وكنت ممن رزقهم الله قريحة خصبة صالحة لنماء ما يغرس فيها من البذور الصالحة, بلغت ما أردت لك إن شاء الله تعالى.

وارحمتاه

وارحمتاه: في ذلك البلد القفر من تلك الصحراء المحرقة من هذا الإقليم القاحل طائفة من فقراء المسلمين وضعفائهم, لا يملكون من الحول غير قلوب يملؤها اليقين بالله والثقة به والاعتماد عليه, ولا من القوة غير ألسنة لا تزال تهتف في صباحها ومسائها وبكورها وأصائلها بالدعاء إلى الله تعالى أن يتولى أمرهم ويسدد خطواتهم وييسر لهم السبيل إلى الخلاص من ذلك العدو القاهر الذي نزل بهم في دار أمنهم وسكونهم نزول القضاء الذي لا مرد له, ولا منتدح عنه, يريد أن يسلبهم ما أبقت يد الأيام في أيديهم من لقيمات غير سائغة, وجرعات غير هنيئة, وظل غير ظليل. وا رحمتاه لجماعة المسلمين في طرابلس, إنهم عاجزون عن أن يعدوا لعدوهم الزاحف عليهم بقنابله ورصاصه غير أجسام ستصبح في الغد أشلاء ممزقة, تطؤها النعال وتدوسها الحوافر، وقلوب لا تزال تدق حتى تسمع دقات المدافع والبنادق فتسكن، وأرواح ستطير في علياء السماء طيران ذلك الدخان في أجواز الفضاء

وا رحمتاه لهم, إنهم يستغيثون فلا يجدون مغيثا, ويستصرخون فلا يسمعون مجيبا، قد تقطعت بهم الأسباب وأعوزتهم الوسائل وسدت في وجوههم السبل فلم يبق لهم منها إلا سبيل الموت، وفي الموت راحة البائسين والمنكوبين من شقاء الحياة وبلائها, لولا أنهم يتركون من بعدهم بين يدي ذلك العدو الظالم أرامل ضعفاء، وأيتاما صغارا, وشيوخا كبارا لا يعلمون ماذا أضمر لهم القدر في صدره من نعيم أو شقاء. كأني أراهم وقد غلت في صدورهم حمية الدين والوطن, ودارت في رءوسهم سكرة العزة العربية, فأبوا إلا أن يتقدموا إلى الموت الأحمر تقدم المستقتل المستبسل, الذي يعلم أن باب الحياة الأبدية السعيدة لا يفتح إلا بين يدي الأرواح التي احتقرت أجسادها وازدرتها فتجردت من أثوابها الرثة البالية وألقتها من ورائها، وكأني أرى الرجل منهم وقد دخل إلى بيته ليعد عدته, ويودع أهله الوداع الأخير فبكت أمه وناحت زوجته وصاح ولده, فبكى لبكائهم ورنّ لرنينهم لا جزعا من الفراق لأنه فراق يعزيه عنه لقاء الله تعالى, ولا خشية من الموت لأنه يعلم أن الحياة الذليلة أحقر من أن يضن صاحبها بروحه في سبيل الله حرصا عليها، بل مخافة أن تستبدّ بأعراض بيته وحرماته تلك الأيدي الظالمة

التي لا ترحم صغيرا ولا تعطف على كبير, أو أن يهلكوا من بعده جوعا وفقرا؛ لأنه لم يترك لهم قوتا يتبلَّغون به ولا عمادا يعتمدون عليه، فإذا علم أن موقفه بينهم موقف جلل يكاد يُغلَب فيه على أمره حزنا وإشفاقا نظر في وجه السماء نظرة طويلة, أرسل فيها إلى حضرة ربه كل ما تهتف به نفسه القريحة من وجد ورحمة وبكاء وحنين, ثم انفتل من بين أيديهم انفتالا ومضى لسبيله لا يلوي على شيء مما وراءه حتى يبلغ ساحة الحرب, فلا يزال يقرع باب الحياة الأخرى حتى يفتح له. هنالك تنوح النائحات وتبكي الباكيات وتطير النفوس وتصعق القلوب وترنّ المنازل والدور بالنحيب والتعداد، وهنالك ترى المرأة المسلمة المخبأة التي لم تر في حياتها وجه الشمس إلا من كوة بيتها برزة الوجه عارية الرأس حيرى مولهة هائمة في الطرق والمذاهب, تسائل الغادين والرائحين ما فعل الله بولدها أو زوجها أو أخيها، فإما بقيت في حيرتها بياض يومها وسواد ليلها، وإما عادت إلى بيتها بالثكل القاتل والحزن الدائم، وترى الشيوخ الكبار والأطفال الصغار والعاجزين والضعفاء لائذين بالتلال والآكام, يتقون بها صواعق الحرب وشهبها فلا تقيهم، أو عائذين بالمضايق والمنافذ يفرون إليها من وجوه الخيل

وسنابكها فلا تحميهم، وهنالك ترى أولئك القوم الذين يسمون أنفسهم مجاهدين أو فاتحين أو قوادا عظاما أو سواسا كبارا يمشون بين بيوت المسلمين ومجامعهم مشية الفرح المختال, وينظرون إلى أولئك القوم الذين سرقوا حريتهم واستقلالهم, وانتهبوا أرواحهم وأموالهم نظر السيد إلى مولاه الذي ملك ولاءه بماله واستعبده بفضله وإحسانه، وربما رموا إليهم في تلك الساعة بلقيمات كتلك التي يلقيها سيد الكلب إلى كلبه, أو صاحب الماشية إلى ماشيته ليشهدوا العالم الإنساني بأجمعه على كرمهم وسخائهم وعطفهم ورحمتهم, وأنهم ما سفكوا الدماء ولا قطعوا الأوصال ولا يتموا الأطفال ولا انتهكوا الحرمات إلا خدمة للإنسانية العامة, وإجلالا لشأنها. لا أحسب أن مسلما دخل الإيمان قلبه فملأه رحمة وإحسانا وعطفا وحنانا يستطيع أن يتخذ لجنبه في ظلمة الليل مضجعا, أو يجد لنفسه في ضحوة النهار قرارا حزنا على هؤلاء المنكوبين الحائرين الذين يدورون بأعينهم في مشارق الأرض, ومغاربها يتلمسون ناصرا يعينهم على أمرهم, أو منجدا يدفع عنهم عادية البلاء فلا يجدون إلا أمما إسلامية قد أصابها مثل ما أصابهم من قبل, فهي تعجز عن النظر لنفسها فأحرى أن تعجز عن النظر لغيرها, فلم يبق بين أيديهم من الأمل إلا تلك الرحمة التي يعتقدون

أنها باقية لهم في قلوب الأفراد من إخوانهم المسلمين أن يمدوهم بقليل من القوت, يستعينون به على جهاد عدوهم, ويعودون بما بقي منه على عيالهم الذين يتضوَّرون جوعا من بعدهم. أيها المسلمون: إنكم لن تجدوا بعد اليوم موقفا هو أقرب إلى الله, وأدنى إلى رحمته وإحسانه, وأجلب لمغفرته ورضوانه من موقفكم بين هؤلاء الضعفاء المساكين؛ تطعمون جائعهم وتكسون عاريهم وتسلحون أعزلهم وتعالجون جريحهم وتخلفون قتيلهم في أهله وولده. إنكم إن تحسنوا إليهم تحسنوا إلى أنفسكم, وإن تنقذوهم من كربتهم تنقذوا جامعتكم وملتكم, فإن بينكم وبينهم لحمة أقوى من لحمة النسب ووشيجة أوثق من وشيجة القربى, وإنكم جميعا تصلون إلى قبلة واحدة, وتهتفون في الغداة والعشي بذكر واحد, وتتوجهون بقلوبكم في نعمائكم وبأسائكم إلى إله واحد, وتقفون في بيت الله وحرمه بين الركن والمقام موقفا واحدا. أيها المسلمون: إنكم إن اجتمعتم اليوم لن تفترقوا غدا, وإن هديتم لرشدكم في موقفكم هذا لن تضلوا من بعده, وإنكم إن قدمتم بين أيديكم هذا العمل الصالح أحسن الله جزاءكم, وأعانكم على أمركم, ووفى لكم بما وعدكم من نصره ومعونته, وإن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم.

خطبة الحرب

خطبة الحرب: يا أبطال برقة وليوث طرابلس وحماة الثغور وذادة المعاقل والحصون, صبرا قليلا في مجال الموت, فها هي نجمة النصر تخفق في آفاق السماء, فاستنيروا بنورها واهتدوا بهديها, حتى يفتح الله عليكم. إن الله وعدكم النصر ووعدتموه الصبر, فأنجزوا وعدكم ينجز لكم وعده. لا تحدثوا أنفسكم بالفرار؛ فوالله إن فررتم لا تفرون إلا عن عرض لا يجد له حاميا، ودين يشكو إلى الله قوما أضاعوه، وأنصارا خذلوه. إنكم لا تحاربون رجالا أشداء, بل أشباحا تتراءى في ظلال الأساطيل وخيالات تلوذ بأكناف الأسوار والجدران, فاحملوا عليهم حملة صادقة تطير بما بقي من ألبابهم, فلا يجدون لبنادقهم كفا ولأسيافهم ساعدا. إنهم يطلبون الحياة وأنتم تطلبون الموت، ويطلبون القوت

وتطلبون الشرف، ويطلبون غنيمة يملئون بها فراغ بطونهم وتطلبون جنة عرضها السموات والأرض، فلا تجزعوا من لقائهم؛ فالموت لا يكون مر المذاق في أفواه المؤمنين. إنكم تعتمدون على الله, وتثقون بعدله ورحمته فتقدموا إلى الموت غير شاكين, ولا مرتابين, فما كان الله ليخذلكم ويكلكم إلى أنفسكم وأنتم من القوم الصادقين. إن هذه القطرات من الدماء التي تسيل من أجسامكم ستستحيل إلى شهب نارية حمراء تهوي فوق رءوس أعدائكم فتحرقهم، وإن هذه الأنات المترددة في صدوركم ليست إلا أنفاس الدعاء صاعدة إلى إله السماء أن يأخذ لكم بحقكم ويُعديكم على عدوكم، والله سميع الدعاء. إن أعداءكم قتلوا أطفالكم وبقروا بطون نسائكم، وأخذوا بلحى شيوخكم الأجلاء فساقوهم إلى حفائر الموت سوقا, فماذا تنتظرون بأنفسكم؟! أجلبوا عليهم بخيلكم ورجلكم, واصدقوا حملتكم عليهم وجعجعوا بهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم واطلبوهم بكل سبيل وتحت كل أرض وفوق كل سماء, وأزعجوهم حتى عن طعامهم وشرابهم ويقظتهم ومنامهم, فما أعذب الموت في سبيل تنغيص الظالمين.

احفروا لأنفسكم بسيوفكم قبورا, فالقبر الذي يحفر بالسيف لا يكون حفرة من حفر النار. لا تطلبوا المنزلة بين المنزلتين، ولا الواسطة بين الطرفين، ولا العيش الذي هو بالموت أشبه منه بالحياة, بل اطلبوا إما الحياة أبدا وإما الموت أبدا. غدا يخفر أعداؤكم حرمة أرضكم ودياركم, ويملكون عليكم نساءكم وأولادكم, ويطئون بحوافر خيولهم مساجدكم ومعابدكم, وينظمون في ثقوب آنافكم مقاود يقودونكم بها إلى مواقف الذل والهوان كما تقاد الإبل المخشوشة إلى معاطنها, فافتدوا أنفسكم من هذا المصير المهين بجولة تجولونها في سبيل الله ثم تموتون. موت الجبان في حياته وحياة الشجاع في موته, فموتوا لتعيشوا؛ فوالله ما عاش ذليل ولا مات كريم. إن هذه الأساطيل الرابضة على شواطئكم, والمدافع الفاغرة أفواهها إليكم, والبنادق المسددة إلى صدوركم ونحوركم لا يمكن أن يتألف منها سور منيع يعترض سبيلكم في رحلتكم من هذه الدار إلى تلك الدار، فسيروا في طريقكم إلى آخرتكم؛ فإن الأعداء إن ملكوا عليكم طريق الحياة لا يملكون عليكم طريق الموت. المستميت لا يموت والمستقتل لا يقتل, ومن يهلك في الإدبار

أكثر ممن يهلك في الإقدام, فإن كنتم لا بد تطلبون الحياة فانتزعوها من بين ماضغي الموت. إن كتّاب التاريخ قد علقوا أقلامهم بين أناملهم, ووضعوا صحائفهم بين أيديهم, وانتظروا ماذا تملون عليهم من حسنات أو سيئات, فأملوا عليهم من أعمالكم ما يترك في نفوسهم مثل ذلك الأثر الذي تجدونه في نفوسكم عندما تقرءون تلك الصحائف البيضاء التي سجلها التاريخ لأولئك الأبطال العظماء. موتوا اليوم أعزاء قبل أن تموتوا غدا أذلاء. موتوا قبل أن تطلبوا الموت فيعوزكم, وتنشدوه فيعجزكم. موتوا اليوم شهداء في ساحة الحرب تكفنكم ثيابكم, وتغسلكم دماؤكم, وتصل عليكم ملائكة الرحمن قبل أن يسبق قضاء الله فيكم, فيموت أحدكم فلا يجد بجانبه مسلما يصلي عليه صلاة الجنازة, ثم يرافق نعشه إلى قبره حتى يودعه حفرته, ويخلي بينه وبين ربه. إن الشيخين أبا بكر وعمر والفارسين خالدا وعليا والأسدين حمزة والزبير والفاتحين سعدا وأبا عبيدة والمهاجرين طارق بن زياد وعقبة بن نافع وجميع حماة الإسلام وذادته السابقين الأولين, المجاهدين الصابرين, يشرفون عليكم اليوم من علياء السماء؛ لينظروا

ماذا تصنعون بميراثهم الذي تركوه في أيديكم, فامضوا لسبيلكم واهتكوا بأسيافكم حجاب الموت القائم بينكم وبينهم, وقولوا لهم: إنا بكم لاحقون، وإنا على آثاركم لمهتدون. إن هذا اليوم له ما بعده, فلا تسلموا أعناقكم إلى أعدائكم؛ فإنكم إن فعلتم لن يعبد الله بعد اليوم على ظهر الأرض أبدا.

الإنسانية العامة

الإنسانية العامة: الجامعة الإنسانية هي الجامعة الكلية العامة التي يلجأ إلى كنفها هذا المجتمع الإنساني كلما أزمته أزمة أو نزلت به نازلة, وهي المطلع الذي تشرق منه شمس الرحمة الإلهية على هذا الكون فتنير ظلماءه، وتكشف غماءه، وهي الحكم العدل الذي يفصل في قضايا المجتمعات البشرية حين تنفصم عروتها ويدبّ دبيب العداوة والبغضاء بين أحيائها، وهي السلطان المطلق الذي يجلس في كرسي عظمته وجلاله, فتخر له جميع الجباه سجدا, وتبتدر يديه لثما وتقبيلا. الجامعة الإنسانية هي الجامعة الجوهرية الثابتة التي رأت طينة آدم أولا وسترى نفخة إسرافيل آخرا والتي تسير مع الإنسان حيث سار في بره وبحره وسهله وحزنه وحياته وموته, وتدور معه حيث دار في إيمانه وكفره وصلاحه وفساده واستقامته واعوجاجه, لا يتغير لونها ولا يتحول ظلها ولا تستحيل مادتها ولا تبلى جدتها على كر الليالي, ومر الأيام.

ما من جامعة من الجوامع القومية أو الجنسية أو الدينية أو الأهلية إلا وهي تعتمد على الجامعة الإنسانية في سيرها وتستظل بظلها وتهتدي بهديها، فالمجاهد الوطني يقول: إني أدافع عن وطني وأحمي حوزته وأقوم على ثغوره وعوراته مقام الذائد المناضل؛ لأني أعتقد أنني إن أغفلت ذلك وأغفله في وطنه كل مضطلع بمثل ما أنا مضطلع به في وطني تساقطت الحواجز القائمة في وجه المطامع البشرية فجرى سيلها متدفعا لا يقوم له شيء حتى يأتي عليه، والفاتح الديني يقول: إني أعتقد أن الإنسانية لا تزال معذبة يأكل قويها ضعيفها, ويغتال كبيرها صغيرها, ويستضعف حاكمها محكومها حتى تدين بالدين الذي أدين به، فأنا إن حاربت البلاد وقاتلت العباد فإنما أريد أن أخوض هذا البحر الأحمر من الدماء لأصل إلى سفينة الإنسانية المشرفة على الغرق, فأستخلصها من يد الموت الذي يساورها. هكذا يقول دعاة الدين ودعاة الوطن ودعاة كل جامعة, وهكذا يجب أن يقولوا, فإن لم يفعلوا وأبوا إلا أن يغفلوا الجامعة الإنسانية في دعائهم إلى جوامعهم التي يدعون إليها فليعلموا أن الإنسانية ملاك كل شيء, فإذا ذهبت ذهب بذهابها كل شيء. ليس لساكن وطن من الأوطان أو صاحب دين من الأديان

أن يقول لغيره ممن يسكن وطنا غير وطنه, أو يدين بدين غير دينه: أنا غيرك, فيجب أن أكون عدوك لأن الإنسانية وحدة لا تكثر فيها ولا غيرية, ولأن هذه الفروق التي بين الناس في آرائهم ومذاهبهم ومواطن إقامتهم وألوان أجسادهم وأطوالهم وأعراضهم إنما هي اعتبارات واصطلاحات, أو مصادفات واتفاقات تعرض لجوهر الإنسانية بعد تكونه واستتمام خلقه وتختلف عليه اختلاف الأعراض على الأجسام, ففي كل بلد وفي كل يوم يستعجم العربي ويستعرب الأعجمي ويسلم المسيحي ويتهود الوثني ويلحد المؤمن ويؤمن الجاحد ويستشرق المغربي ويستغرب المشرقي، ولو أشاء أن أقول لقلت: إنه لا يوجد فوق رقعة الأرض من لا يزال يمسك حتى اليوم بطرف سلسلة ينتهي طرفها الآخر بوطن غير وطنه, ودين غير دينه, وأمة غير أمته. إذا جاز لكل إقليم أن يتنكر لغيره جاز لكل بلد أن يتنكر لكل بلد, بل جاز لكل بيت أن ينظر تلك النظرة الشزراء إلى البيت الذي يجاوره, بل جاز للأب أن يقول لولده وللولد أن يقول لأبيه: إليك عني, لا تمد عينيك إلى شيء مما في يدي, ولا تطمع أن أوثرك على نفسي بشيء مما اختصصتها به؛ لأنني غيرك فيجب

أن أكون عدوك، وهنالك تنحل كل عقدة وتنفصم كل عروة, ويحمل كل إنسان لأخيه بين أضلاعه من لواعج البغض والشحناء ما يرنق عيشه ويطيل سهده ويقلق مضجعه ويحبب إليه صورة الموت ويبغض إليه وجه الحياة, وهنالك يصبح الإنسان أشبه شيء بذلك الإنسان الأول في وحشته وانفراده يقلب وجهه في صفحات السماء, ويفتش بيديه في طبقات الأرض, فلا يجد له في الوحشة مؤنسا, ولا على الهموم مُعِينا. الجامعة الإنسانية أقرب الجوامع إلى قلب الإنسان وأعلقها بفؤاده وألصقها بنفسه؛ لأنه يبكي لمصاب من لا يعرف وإن كان ذلك المصاب تاريخا من التواريخ, أو خيالا من الخيالات, ولأنه لا يرى غريقا يتخبط في الماء, أو حريقا يتقلب في النار حتى تحدثه نفسه بالمخاطرة في سبيله فيقف موقف الحزين المتلهف إن كان ضعيفا ويندفع اندفاع الشجاع المستقتل إن كان قويا, ويسمع وهو بالمشرق حديث النكبات بالمغرب فيخفق قلبه وتطير نفسه؛ لأنه يعلم أن أولئك المنكوبين إخوانه في الإنسانية وإن لم يكن بينه وبينهم صلة في أمر سواها، ولولا أن ستارا من الجهل والعصبية يسبله كل يوم غلاة الوطنية والدين, أو تجارهما على قلوب الضعفاء والبسطاء, لما عاش منكوب في هذه الحياة

بلا راحم, ولا ضعيف بلا معين. لا بأس بالوطنية ولا بأس بالحمية الدينية ولا بأس بالعصبية لهما والذياد عنهما, ولكن يجب أن يكون ذلك في سبيل الإنسانية وتحت ظلالها, أي: أن تكون جميع دوائر المجتمعات باقية في أماكنها, دائرة حول نفسها بحيث لا تخرج واحدة منها عن دائرة الإنسانية العامة التي تضمها جميعا وتشتمل عليها، والوطنية لا تزال عملا من الأعمال الشريفة المقدسة حتى تخرج عن حدود الإنسانية فإذا هي خيالات باطلة وأوهام كاذبة، والدين لا يزال غريزة من الغرائز المؤثرة في صلاح النفوس وهداها حتى يتمرد على الإنسانية, ويعتزلها فإذا هو شعبة من شعب الجنون. فإن كان لا بد للإنسان من أن يحارب أخاه أو يقاتله فليحاربه مدافعا لا طاعنا, وليقاتله مؤدبا لا منتقما, وليقف أمامه في كل ذلك موقف المحق المنصف والشفيق الرحيم, فيدفنه قتيلا ويعالجه جريحا ويكرمه أسيرا ويخلفه على أهله وولده بأفضل ما يخلف الرجل الكريم أخاه الشقيق أو صديقه الحميم على ذريته من بعده، وليكن شأنه معه شأن تلك الفئة المتحاربة التي وصفها الشاعر في قوله: إذا احتربت يوما ففاضت دماؤها ... تذكرت القربى ففاضت دموعها

أدوار الشعر العربي

أدوار الشعر العربي: كانت العرب في جاهليتها أمة هائمة متبدية على الفطرة البيضاء النقية لا تعبث الحضارة بجمالها، ولا تغبّر المدنية في وجهها، تطلع الشمس في آفاقها فتتبسط على سهولها وحزونها ونجادها ووهادها من حيث لا تعترض في سبيلها من المظلات سحب، ولا من السقوف حجب، وينبت نباتها حيث يجري ماؤها لا تعبث فيه الأيدي بتربيع ولا تدوير ولا تقويس ولا تعريج, ويجري ماؤها في سبيله متدفقا حيث ينساب به تسلسله واطراده لا تلوي به عن قصده الحفائر، ولا تتنصب في وجهه القناطر، ويهيم وحشها في جبالها وطيرها في أجوائها من حيث لا يحبس الأول عرين موصود، ولا الآخر قفص محدود، والشعر من وراء ذلك كله مرآة صافية تتمثل فيها تلك المناظر الفطرية على طبيعتها وجوهرها. ينطق العربي بما يعلم ويقول ما يفهم, ويصور ما يرى ويحدث عما تمثل في نفسه حديثا صادقا لا تكلف فيه ولا تعمل؛ لأن كل

ما هو محيط به من هواء وماء وأرض وسماء وطعام وشراب ومرافق وأدوات على الفطرة السليمة الخالصة, فأحرى أن يكون شعره كذلك. ذلك كان شأن الشعر العربي والعرب على فطرتهم, وذلك معنى قولهم: الشعر ديوان العرب؛ لأنه صورة حياتهم الاجتماعية والأدبية وتمثال خواطرهم الحقيقية والخيالية, فإن ظن ظان أن التماثيل والنصب والمخطوطات والمنسوجات والصور والتهاويل وبقايا الآثار وقطع الأحجار التي نراها في خرائب اليونان والرومان والفينيقيين والفراعنة أدل على تواريخ أولئك الأقوام من الشعر العربي على تاريخ العرب قلنا له: ما من ديوان من دواوين الأمم الماضية إلا وتحدث المؤرخون بعبث الأيدي به ولعبها بسطوره وسجلاته, أما الديوان العربي فصورة صحيحة وآية مقدسة لا تغيير فيها ولا تبديل. ثم جرت بعد ذلك جوارٍ بالسعد والنحس, فانتقلت الأمة العربية من بداوتها إلى حضارتها وهاجر معها شعرها بهجرتها, فطلع جيش المولدين يحمل لواءه الشاعران الجليلان بشار وأبو نواس, فطرقوا معاني لم تكن مطروقة ونهجوا مناهج لم تكن معروفة فقلنا: لا بأس, فالشعر العربي أوسع من أن يضيق بحاجات أمته في جميع شئونها وحالاتها حتى جاء أبو تمام شيخ المحسنات اللفظية, فسلك

إلى أكثر معانيه البديعة طريق اللفظ المصنوع والأسلوب المزخرف, فثغر في الشعر العربي ثغرة ألح عليها السائرون على أثره من بعده بأظفارهم, وأنيابهم حتى صيروها بابا أفوه لا يمنع ما وراءه, ولا يدفع ما أمامه, فأصبح الشعر على عهد ابن حجة وابن الفارض وابن مليك والصفدي والسراج والجزار والحلي وأمثالهم أشبه شيء بتلك الآنية الفضية أو الصينية التي يضعها المترفون في زوايا مجالسهم وعلى أطراف موائدهم ظهرا زاهيا وبطنا خاويا, لا تشفي غلة ولا تبض بقطرة ولا تسمن ولا تغني من جوع، ثم جاء على أثر هؤلاء من تدلى إلى منزلة أدون من هذه المنزلة, فجاءوا بشيء هو أشبه الأشياء بتلك المقاييس والتفاعيل التي وضعها الخليل ميزانا للشعر, لا يروق لفظها ولا يفهم معناها. وعلى هذا المورد الوبيل وقف الشعر بضعة قرون وقفة لا يتزحزح عنها, ولا يتحلحل حتى أنزل الله إليه من ملائكة البيان رسلا في هذا العهد الأخير, أخذوا بيده ونشروه من قبره, ونفضوا عنه غباره فأصبحنا نرى في أبراد الكثير منهم أجسام أبي نواس وأبي عبادة وأبي تمام والشريف وبشار, لا فرق بينهم وبينهم إلا أن هؤلاء مقلدون يتبعون الآثار، وأولئك مبتدعون يفترعون الأبكار.

حوانيت الأعراض

حوانيت الأعراض: أنا لا أستطيع أن أتصور الفرق بين رجل يمد يده إلى خزينة من خزائن بيتي فيسرق مالي, وبين آخر يمد لسانه أو قلمه إلى شرفي فيستلبه، كلاهما مجرم فاتك وكلاهما لص مغتال، وإن كان أولهما في نظر القانون وفي نظر الناس أكبرهما إثما, وأسوأهما أثرا. المال خادم من خدام الشرف وحاجب من حجابه الوقوف على بابه، ولولا مكان الشرف والكلف بصيانته والضن به أن يعبث بجوهره عابث ما كان لامرئ في هذا المعدن الصامت أرب أكثر من أن يقيم به صلبه ويمسك به حوباءه، فإن كان سارق المال مجرما من حيث كونه هاتكا لذلك الستار المسبل دون الشرف, فجدير بمن يسرق الشرف نفسه أن يكون رأس الجانين، وأكبر المجرمين. يكون للرجل من الصحفيين مثلا عند الرجل من كرام الناس وسراتهم وذوي السيرة الصالحة فيهم مأرب من المآرب التي لا يعرف لنفسه فيها حقا, ولا يمت إليها بسبب من الأسباب

الظاهرة أو الباطنة, فما هو إلا أن يمتنع عليه حتى يرميه بسهم جارح من مريشات سهامه يصيب به مقتلا من شرفه، ولا ذنب له عنده إلا أنه لم يمكنه من لحيته يلف عثنونها حول أصابعه, ثم يقوده بها إلى حيث شاء كما يقاد التيس إلى مربعه. يحب الرجل المجد حبا يملأ ما بين جوانحه ويغري به حتى يصبح آثر في نفسه من نفسه التي بين جنبيه، ويظل يقضي سواد لياليه يساهر الكوكب حتى ينحدر إلى مغربه، ويطوي بياض نهاره بين شمس تحرق عارضيه، وحصباء تمزق قدميه، ويقيم بينه وبين شهوات نفسه ونزعات قلبه حربا عوانا يحمل في سبيلها ما لا يستطيع أن يحمله بشر كلفا به ووجدا عليه، وحتى إذا أمكنه المقدار منه وبدأ ينهل أول نهلة من مورده البارد العذب رآها ممزوجة بذلك العلقم المر مما صبه له في إنائه ذلك المجرم الأثيم. إن بين جدران بعض قاعات الصحف قوما مفاليك قد دارت عليهم الأيام دورتها, وسلبتهم المواهب التي يعيش بها أمثالهم ممن ولد مولدهم, ونشأ في تربتهم فضاقت بهم سبل العيش التي ما كان تضيق بهم لو أن الله أبقى لهم بعد أن سلبهم فضيلة الفهم والعلم مزية العمل الصالح والسيرة المستقيمة، فلما لم يجدوا بين أيديهم منفذا ينفذون منه إلى القوت, فتحوا حوانيت للتجارة

بأعراض الناس سموها صحفا, وأكثر مشتملات حوانيتهم من تلك البضاعة أعراض الأشراف والعظماء وأرباب الجد والعمل الذين سبقوهم إلى فردوس السعادة, وخلفوهم وراءهم يتأكلون غيظا لحرمانهم مما قسم الله لهم، فهم إن فتشت عنهم وكشفت عن دخائل نفوسهم علمت أن لا فرق بينهم وبين أولئك الفوضويين الذين يدينون بقتل العظماء والأمراء، وأستغفر الله فللفوضويين مبدأ منظم يتقلدونه ورأي في تلك الجرائم على ما به من خطل يتمذهبون به من حيث كونه عقيدة ثابتة لا تجارة رابحة، بل هم كقطاع الطريق الذين يهاجمون الغادين والرائحين ولا ذنب لهم عندهم إلا أنهم مزوّدون, وهم مقفرو الأيدي من الزاد. ولقد كان يكون خطبهم سهلا ومصابهم محتملا لو أنهم صرحوا عن أنفسهم وأبدوا للناس صفحات وجوههم, وطلبوا قوتهم من طريق الكدية الواضحة البينة، ولكنهم مراءون مخادعون يشتمون باسم الموعظة ويقرضون الأعراض باسم النصيحة ويتهمون الأبرياء باسم الغيرة الدينية ويملئون فضاء الأرض والسماء كذبا وابتداعا وتدليسا وتضليلا باسم الوطنية، ووالله ما بهم من وطنية ولا دين ولا عظة ولا نصيحة ولكنهم قوم محدودون قد بلغت

الفلاكة من نفوسهم مبلغها وضاقت بهم الأرض الفضاء على رحبها, فهم يروحون عن نفوسهم بالنيل من شرف الشرفاء وتنغيص لذة السعداء، ويطلبون قوتهم فيما بين ذلك من يد تلك الفئة الساذجة من الأمة التي لا تستطيع أن تفرق بين أشراف الصحافة والدخلاء فيها, وبين الكاتب الذي يكتب ليقوم معوجا أو يصلح مختلا أو يرفع بدعة باطلة أو يكشف حقيقة خافية, والآخر الذي يدور مع الدينار دورة الحرباء مع الشمس صعودا وهبوطا, والذي لا يلذه شرب الماء إلا ممزوجا بالدماء، ووالله ما أدري من الذي أقامهم هذا المقام وعهد إليهم بهذا العهد, ومن الذي وكل إليهم النظر في شئون الناس والفصل في قضاياهم والقيام على حسناتهم وسيئاتهم وما هم البررة الأتقياء الذين يصلحون أن يكونوا أمثلة حسنة في منازلهم فيكونوا قدوة صالحة في أمتهم، ولا بالعلماء الفضلاء فنهتدي بهداهم ونترسم مواقع أقدامهم، ولا بالصادقين المخلصين الذين يؤثرون أمتهم على أنفسهم فنتعبد بإجلالهم وإعظامهم، بل ليس لواحد منهم فضل الصانع في مصنعه ولا التاجر في حانوته, فضلا عن الوزير في كرسيه والأمير في عرشه, فيصلح أن يكون حكما بينهم وميزانا لحسناتهم وسيئاتهم، وعندي أن لو جمعت عيوب الناس جميعها

في كفة ميزان ووضعت في الكفة الأخرى عيوبهم الجامعة للسفاهة والكذب والنميمة التجسس وهتك الأعراض واتهام الأبرياء واستهواء الضعفاء, لثقلت كفتهم أمام كفة الذين يزعمون أنهم يقومون معوجهم, ويصلحون فاسدهم.

الرثاء

الرثاء: ما أنسى لا أنسى رجلا كان خير من لقيت من الرجال, وكان يعجبني منه أدبه وفضله وعفته وحياؤه وشرف نفسه وطهارة قلبه, وأنه كان صبورا محتملا تقرع الخطوب صفاة قلبه فترتد عنها نابية كما ترتد الكرة عن الحائط إذا قرعتها. كان فقيرا لا يملك من هذه الدنيا أكثر مما يقيم صلبه ويمسك حوباءه ويستر سوءته, فزوجه أبوه بابنة عم له ذات مال لم يك مثلها في دمامتها وسوء خلقها وجفاء طبعها ممن يطمع في مثله في جمال خُلقه ولين حاشيته وانسجام طبعه، فكبرت نفسه عن مخالفة أبيه؛ لأنه كان برا به مطيعا له نازلا عند أمره ونهيه وعن مجافاة زوجه واطراحها والانقباض عنها؛ لأنه كان كريم الأخلاق واسع الصدر رفيقا بالضعفاء والمنكوبين، فتزوجها وفي نفسه من المضض والارتماض ما يلهب الجوانح, ويذيب لفائف القلوب. وأذكر أني على طول معاشرتي له ولصوقي بنفسه ما سمعته, ولا

سمعت عنه أنه شكا إلى أحد من الناس ما يواثب قلبه عند النظر إليها أو إلى ما يدب من عقارب شرها إليه ثقة منه بالله ورحمته, وإيثارا لفضيلة الصبر, وسكوتا إلى ما جرت به الأقلام في ألواح المقادير، فكنت أرحم صمته وسكونه وأبكي لجمود عينيه عن البكاء؛ لأني أعلم أن نيران الأحزان لا يسكن اضطرامها ولا يهدأ اعتلاجها إلا باطراد العبرات، وتصاعد الزفرات. وكان كل ما ينعم به من لذائذ هذه الحياة وأنعمها أنه كان يسافر في كل شهر مرة أو مرتين إلى صديق له في بلد ريفي ناءٍ, يقضي فيه يومين أو ثلاثة ثم يعود وفي ثغره ابتسامة تتلألأ تلؤلؤ نجمة الصبح عند انحدارها إلى الغروب, ثم لا تلبث أن تتلاشى ولا يلبث أن يعود إلى جموده الأول لا يحزن فيبكي ولا يفرح فيبتسم، حتى يخيل للناظر إليه أنه في عالم غير هذا العالم لا يظله ليل, ولا يضيئه نهار. قضيت في صحبته على حاله تلك بضع سنين أعلم من آلام قلبه ما يحسب أني أجهله فأكاتمه ذلك العلم جهدي رفقا به وإجلالا له وإشفاقا عليه، حتى زرته في منزله ذات يوم فرأيته جاثما في مقعده الذي كان يقتعده من غرفته, وقد أطرق إطراقا طويلا ذهب فيه عن نفسه, فلم يشعر بخفق نعليَّ حتى أخذت

مكاني فرفع رأسه فأدهشني من منظره اصفرار وجهه وذبول عينيه, وما كان يغشى جبينه من دخان تلك النار التي تشتعل بين جوانحه, ثم نظر إلي نظرة طويلة لا عهد لي بمثلها من قبل, ثم قال بصوت خافت مضطرب: أتعتقد أن الله موجود؟ فقلت: نعم، معالجا نفسي على كتمان ما كاد يذهب بلبي من تنكر حاله وغرابة أمره. فقال: وتعتقد أنه عادل؟ قلت: نعم. قال: وراحم؟ قلت: نعم. فبسط يده إليَّ فعل الضارع المستصرخ وقال: هل لك أن تحدثني أيها الصديق عن نزول الصواعق وثورة البراكين وطغيان البحور وغرق السفن وانتشار الأوباء وفتك الأدواء ونكبات الفقر والجوع وتلك العيون التي لا تزال منهلة بالبكاء، والضلوع التي لا تزال ملتهبة بالآلام والأحزان؟ هل تعتقد أن ذلك كله عدل من الله ورحمة؟ قلت: نعم, إن الله يمتحن عباده ليعلم الذين صبروا فيدخر لهم

في دار نعيمه من المثوبة والأجر أضعاف ما كانوا يقدرون لأنفسهم من سعادة الحياة وهنائها. قال: إن الله أكرم من أن يجعل الشر طريقا إلى الخير, وأن لا يحسن إلا بعد أن يسلف الإساءة. قلت: ذلك ما كتب على نفسه أن يجازى كل عامل بعمله, إن خيرا فخير وإن شرا فشر. قال: إنه قد كتب على نفسه الرحمة. قلت: نعم, إنه أكرم الكرماء وأرحم الرحماء. قال: حدثني إذًا عن الولد الصغير الذي لم يخالط نفسه شر ولم يتسرب إلى قلبه كيد، ما لي أراه مفترشا حجر أمه وقد تولى الليل إلا أقله يتقلب على مثل شوك القتاد من الآلام التي تساوره, فيثب تارة ويضطرب أخرى ويصرخ صرخات تستمطر المدامع وتحول بين الجنوب ومضاجعها؟ وما لي أرى أمه باكية مولهة مقرحة الجفون منحلة الشعور موجعة القلب, تفزع لفزعاته وتصرخ لصرخاته, وقد اختبل عقلها واضطرب أمرها وعظم يأسها وفنيت حيلتها وقل مساعدها وضعف ناصرها, فأنشأت تقلب وجهها في السماء ضارعة إلى الله تعالى أن يأخذ بيدها ويرحم نفسها برحمة ولدها، وبينا هي تنتظر صوت الإجابة يرن في أفق

السماء إذا بها تسمع حشرجة الموت في صدر ولدها, وإذا به ينزع نزعا مؤلما يطير باللب ويذهب ببقية الصبر حتى تفيض نفسه، فماذا جنى هذا الولد الصغير حتى أصبح لا يستحق رحمة من الله, ولا رأفة؟ قلت: وما يدريك لعل الله أراد به خيرا, فرحمه بالموت المعجل من حياة علم أنه سيلقى فيها كما تلقى أنت اليوم عذابا أليما, وشقاء ممضا. فنالت هذه الكلمة من نفسه وانتفض لها ثم قال: أحسنت يا صديقي، ليت الذين يشقون في هذه الحياة يشعرون بصغر هذه الدنيا وحقارة شأنها, فيتمنون لو لم تلدهم أمهاتهم, ولم يكتب لهم سطر واحد في ألواح المقادير، وبعد فهل لك في سفرة معي إلى صديقي الريفي نقضي عنده يوما واحدا, ثم نعود على أن تكون معي كما كان فتى موسى مع مولاه {فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} ؟ فوافيت رغبته وقبلت شرطه, ثم قام وقمت وبودي لو ملكت الدنيا بحذافيرها لحظة واحدة لأهبها لمن يكشف لي سر صديقي ويدلني على نكبته التي زعزعت نفسه وصهرت قلبه وملكت عليه لبه وكادت تعبث بيقينه، وما هي إلا ساعات قلائل حتى

كنا في المنزل الذي أردناه وقد أظل الليل بجناحيه فقضينا واجب التحية والسلام, ثم خلا الصديق بصديقه خلوة طويلة لا أعلم ما دار فيها بينهما ثم خرجا إلي فجلسنا ساعة نتحدث ثم قمنا إلى فراشنا فنمت نوما متقطعا مملوءا بالوساوس والهواجس, فما انتصف الليل حتى شعرت أن صديقي يتحرك في فراشه وينظر إلي ليعلم أنائم أنا أم مستيقظ, فتناومت حتى رأيته قد قام من مكانه يختلس الخطا حتى وصل إلى مشجب الملابس فلبس أثوابه ثم خرج من الغرفة, فخفق قلبي خفقة الرعب والفزع وقلت: لا بد أن الرجل يريد بنفسه شرا، وإني أكون ألأم صديق إن أنا تركته وشأنه، فقمت على أثره أترسم خطواته وأتتبع مخرجه ومدخله من مدرجة إلى أخرى حتى بلغ ضاحية البلد ثم استمر في شأنه حتى أطل على مقبرة واسعة قد جثمت قبورها في أرجائها جثوم الآبال في مرابعها, فوقف هنيهة ثم مشى فمشيت على أثره من حيث لا يشعر بمكاني منه ثم أنشأ يتصفح القبور قبرا قبرا فخيل لي أنه شبح من أشباح الموتى يتنقل في أرجاء تلك المقبرة, فملكني من الخوف والرعب ما كاد يحل عقدة لساني لولا إجلالي هذا الموقف المرهب, وشعوري أنني واقف على

أبواب تلك الدور التي سلب خوفها العاقلين عقولهم وأطار طائر الاغتماض عن أجفانهم ونغص عليهم ما يتمنون أن ينعموا به من مطاعمهم ومشاربهم والتي يفد إليها كل يوم وفود البشر محمولين على أيدي آبائهم وأمهاتهم ليقدموهم بأنفسهم هدايا ثمينة إلى الدود, ثم يخلون بينهم وبينه يأكل لحومهم ويمتص دماءهم ويتخذ من أحداق عيونهم ومباسم ثغورهم مراتع يرتع فيها كما يشاء بلا رقبى ولا حذر من حيث لا يملك مالك عن نفسه دفعا, ولا يعرف إلى نجاة سبيلا. مرت بخاطري تلك الذكرى فملكت علي نفسي حتى ذهلت عن موقفي وأنستني الحيرة في أمر نفسي الحيرة في أمر صديقي وفيما ساقه إلى هذا الموطن, وأين يذهب وماذا يريد وعم يفتش، ثم استفقت فرأيته جاثيا فوق قبر من تلك القبور جثو العابد أمام معبده, فدلفت إليه حتى دنوت منه فسمعته يقول: اللهم إنك تعلم أني ما كفرت بنعمتك ولا خفرت ذمتك ولا هتكت حرمة من حرمك ولا نزلت عند سخطك ولا تبرمت بقضائك وقدرك, وأنك جازيتني فأحسنت جزائي ووهبتني تلك الفتاة فكانت كل ما أفدت من نعيم هذه الحياة وهنائها, ثم لم تلبث أن سلبتنيها وشيكا أشوق ما كنت إليها وإلى قضاء

ساعات العمر بجانبها, فاغفر لي جزعي وحزني, فكثير علي أن لا أجزع ولا أحزن. لقد تبدلت الأرض غير الأرض والسموات, وكأنما استحالت في نظري حقائق الأشياء فأصبحت لا أرى في النجمة لألاءها ولا في الزهرة جمالها ولا في السماء صفاءها ولا في البحر جلاله, فهل كانت فتاتي سر هذا الوجود حتى ذهبت, فذهب بذهابها كل شيء؟ ذهبت بي الأيام كل مذهب وجرعتني من كئوس الشقاء جرعا ما احتمل فم قبل فمي مرارتها, فاغتفرت لها كل ذنوبها عندي؛ لأنها أسدت إلي صنيعة كانت هي العزاء لي عن هموم الحياة وأحزانها، أما اليوم وقد صفرت منها يدي وأقفر بفراقها ربعى وحالت تلك الصفائح بيني وبينها, فلا سلوى ولا عزاء. من لي بضربة من ضربات الدهر تذهب بذاكرتي, فلا أعود أذكر أيام حياتها ومقعدها بجانبي وابتسامها إلي واعتناقها إياي وصوتها الرقيق وحديثها العذب وصفاء عينيها وجمال وجهها وقيامها وقعودها وجيئتها وذهوبها وضحكها وبكاءها ويقظتها ومنامها وحزنها لفراقي وسرورها بلقائي, فإني كلما ذكرت ذلك شعرت كأن قلبي المجموع قد استحال إلى أفلاذ صغيرة

لا يلوي بعضها على بعض. اللهم إني أعلم أن الدنيا ليست بدار قرار, فلا أمل في البقاء فيها والركون إليها والاستمتاع بلذة الحياة فيها, وأنها الجسر الذي يمر به الأحياء إلى الدار الأخرى وقد أحسنت إلى كل عبد من عبيدك برفيق يكون عونا له على قطع تلك الشقة واختصصتني وحدي بالحرمان من ذلك المعين, فكيف أسير وأين أذهب ومن أين أبتدئ وإلى أين أنتهي؟ اللهم إنك سلبتني كل شيء حتى الدموع التي يريح بها الباكون أنفسهم ويطفئ بها المحزونون لوعات قلوبهم, فأصبح الحزن يغلي بين جوانحي غليان الماء في قدر محكمة الغطاء, فامنن علي بدمعة واحدة أبرد بها غليلي, ولا أحسب أنك تمنعنيها فالدموع هي الرحمة العامة التي كتبت على نفسك أن تعالج بها جراح المنكوبين. اللهم لا ريبة في عدلك ولا ظنة في كرمك ولا اعتراض على قضائك وقدرك ولا سخط في ابتلائك ومحنتك, ولكنك سلبتني عقلي بعدما سلبتني راحتي وهنائي وفتاتي, فخرج أمر نفسي من يدي وأصبحت لا أعرف لي مذهبا في هذه الأرض, ولا مضطربا. اللهم إنك منعتني حظي من الحياة فلا تمنعني حظي من الموت, فاستردّ إليك عاريتك التي أعرتنيها فقد عجزت عن احتمالها

وضقت ذرعا بأمرها, إنك بعبادك رءوف رحيم. وما أتم كلمته هذه حتى سقط على صفائح القبر مكبا على وجهه, فعلمت أن المرجل قد انفجر وأن الله قد اجتبى هذا الرجل لنفسه واختار له ما عنده, فصرخت صرخة كانت ثانية لصرخة أخرى بجانبي, فالتفت فإذا صديقه واقف ورائي فدنونا منه معا وحركناه فإذا هو ميت، فنقلناه إلى المنزل وبتنا حول سريره نقضي حق صحبته تارة بالدموع وأخرى بالخشوع، وهنالك قص علي صديقه قصته وكشف لي عن ذلك السر الذي كان يكتمه عني؛ فحدثني أنه قضى زمنا طويلا يشكو إليه ما يجد في نفسه من البغضاء لزوجته التي زوجه أبوه منها على الرغم منه فخفت عليه التلف حزنا وكمدا, فزوجته منذ عشر سنين بأختي سرا من حيث لا يعلم أبوه؛ لأنه كان يخاف غضبه ولا زوجته؛ لأنه كان يرحمها، فكان يزورها في كل شهر مرة أو مرتين حتى ماتت تلك الأخت رحمة الله عليها وتركت له هذه الفتاة, فما زال يزورها كما كان يزور أمها ويعزي بالثانية نفسه عن الأولى، فشغف بها شغفا بلغ به حد الجنون, وكان كثيرا ما يقول لي: إني أشعر أن حياتينا حياة واحدة وأنا إما أن نعيش معا أو نموت معا، وكأنه أُلهم بما سيكون, فحمت الفتاة منذ ستة أيام فما نشبت أن هصر

الموت غصنها النضير ولم تسلخ ثماني حجج فنعيتها إليه بكتاب أرسلته له, فجاء وجئت معه, ثم كان بعد ذلك ما قدر الله أن يكون. دفنت صديقي بيدي وألحدته بجانب تلك الصغيرة التي قطع جسر الحياة الطويل في لحظة واحدة شوقا إليها ووجدا عليها، ثم عدت إلى بلدتي صفر اليد من ذلك الإنسان الذي كنت مالئا منه يدي, والذي كنت أجله وأعظمه حيا ولا أزال أبكيه وأذكره ميتا, وأتخذ حياته الشريفة الحافلة بمواقف الصبر والجلد والوفاء والكرم درسا أتعلمه وأعلمه الناس حتى يجمع الله بيني وبينه: كفى حزنا بموتك ثم إني ... نفضت تراب قبرك من يديا وكانت في حياتك لي عظات ... وأنت اليوم أوعظ منك حيا

الشعر

الشعر: كتب إلي كاتب يقول: عرفناك قبل اليوم شاعرا ما تكتب فقرة ثم رأيناك بعد ذلك كاتبا ما تنظم بيتا، فلم لم تكتب في عهدك الأول، ولم تنظم في عهدك الثاني، كأنما ظن عافاه الله أني أكتب اليوم بقلم غير قلم الأمس, أو أهيم في واد غير ذلك الوادي، وهل الشعر إلا نثارة1 من الدر ينظمها الناظم إن شاء شعرا، وينثرها الكاتب إن شاء نثرا، أو نغمة من نغمات الموسيقى يسمعها السامع مرة من أفواه البلابل والحمائم، وأخرى من أوتار العيدان والمزاهر، أو عالم من عوالم الخيال يطير فيه الطائر بقادمتين2 من عروض وقافية، أو خافيتين3 من فقر وأسجاع؟ الكاتب الخيالي شاعر بلا قافية ولا بحر، وما القافية والبحر

_ 1 النثارة: ما تناثر من الشيء. 2 القادمة مفرد قوادم, وهي عشر ريشات في مقدم جناح الطائر. 3 الخوافي: ريشات إذا ضم الطائر جناحيه اختفت.

إلا ألوان وأصباغ تعرض للكلام فيما يعرض له من شئونه وأطواره, لا علاقة بينها وبين جوهره وحقيقته، ولولا أن غريزة في النفس أن يردد القائل ما يقول ويتغنى بما يردد ترويحا عن نفسه, وتطريبا لعاطفته ما نظم ناظم شعرا، ولا روى عروضي بحرا. ما كان العربي في مبدأ عهده ينظم الشعر ولا يعرف ما قوافيه وأعاريضه، وما علله وزحافاته، ولكنه سمع أصوات النواعير وحفيف أوراق الأشجار وخرير الماء وبكاء الحمائم فلذ له صوت تلك الطبيعة المترنمة, ولذ له أن يبكي لبكائها، وينشج لنشيجها، وأن يكون صداها الحاكي لرناتها ونغماتها، فإذا هو ينظم الشعر من حيث لا يفهم منه إلا أنه ذلك الخيال الساري المتمثل في قريحته المتردد بين شدقيه، ولا من أوزانه وضروبه إلا أنها صورة من صوره, ولون من ألوانه. ذلك منتهى نظر العربي إلى الشعر, وذلك ما دعاه إلى أن يسمي النبي الذي بعثه الله إليه شاعرا وهو يعلم كما يعلم غيره من الناس أنه ما قصد في حياته قصيدة, ولا رجز أرجوزة, ولكنه سمع من كتاب الله وآياته المفصلات أبلغ الكلام وأفصحه وأعلقه بالنفوس وآخذه بالألباب وأملكه للعواطف والوجدان وأجمعه

لصنوف التشبيهات البديعة والاستعارات الدقيقة والمجازات الرائعة والكنايات المستطرفة وأمثال تيك مما لا ينطق به الناطق في أكثر مناحيه ومنازعه إلا عند ذهابه مذهب الخيال الشعري فشبه له, فسمى ما سمعه شعرا وسمى الناطق به شاعرا, وما هو بشاعر ولا ساحر ولا كاهن ولا مجنون. ما كل موزون شعرا ولا كل ناظم شاعرا, فالوزن ملكة تعلق بالنفس من طول ترديد المنظوم والتغني به مقطعا تقطيعا يوازن تفاعيله فهو نغمة موسيقية, ولحن خاص من ألحان الغناء يتمثل في قول الملك الضليل1: "قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل" كما يتمثل في قول الخليل: "فعولن مفاعلين فعولن مفاعلن" ويتراءى في أوتار الحلق الناطق كما يتراءى في أوتار العود الصامت. أما الشعر فأمر وراء الأنغام والأوزان, وما النظم بالإضافة إليه إلا كالحلى في جيد الغانية الحسناء, أو الوشي في ثوب الديباج المعلم، فكما أن الغانية لا يحزنها عطل جيدها والديباج لا يزري به أنه غير معلم, كذلك الشعر لا يذهب بحسنه ورُوائه أنه غير منظوم ولا موزون. ذلك هو الفرق بين الشعر والنظم, وها أنت ترى أن لا صلة

_ 1 هو لقب امرئ القيس.

بينهما إلا تلك الصلة الاصطلاحية التي لا سبب لها إلا اعتياد الناس أنهم ينظمون ما يشعرون، وتلك الصلة هي التي خلطت بينهما وعمَّت على كثير من الناس أمرهما، وهي التي أدخلت النظامين في عداد الشعراء وألقت عليهم جميعا رداء واحدا لا يستطاع معه التمييز بينهما إلا للقليل من الناقدين المستبصرين، فأصبحنا نقرأ لبعض المعاصرين القصيدة ذات المائة بيت فلا نجد بيتا, ونتصفح الديوان ذا المائة قصيدة فلا نعثر بقصيدة وأصبحنا لا نكاد نجد بيننا قارئا غير شاعر؛ لأنه لا يوجد في الناس شخص واحد يعجزه تصور تلك النغمة العروضية, وتصويرها حتى العامة والأميين. ولقد كتب الكاتبون في تعريف الشعر وافتنوا في ذلك افتنانا بعد به عن مكانه، وعندي أن أفضل تعريف له أنه "تصوير ناطق" لأن قاعدة الشعر المطردة هي التأثير، وميزان جودته ما يترك في النفس من الأثر، وسر ذلك التأثير أن الشاعر يتمكن ببراعة أسلوبه وقوة خياله ودقة مسلكه وسعة حيلته من هتك ذلك الستار المسبل دون قلبه, وتصوير ما في نفسه للسامع تصويرا يكاد يراه بعينه ويلمسه ببنانه, فيصبح شريكه في حسه ووجدانه يبكي لبكائه ويضحك لضحكه ويغضب لغضبه ويطرب لطربه ويطير

معه في ذلك الفضاء الواسع من الخيال, فيرى الطبيعة بأرضها وسمائها وشموسها وأقمارها ورياضها وأزهارها وسهولها وجبالها وصادحها وباغمها1 وناطقها وصامتها من حيث لا ينقل إلى ذلك قدما، ولا يلاقي في سبيله نصبا. فإن سمع قول القائل: وقانا لفحة الرمضاء وادٍ ... سقاه مضاعف الغيث العميم نزلنا دوحه فحنا علينا ... حنو المرضعات على الفطيم وأرشفنا على ظمأ زلالا ... ألذ من المدامة للنديم يصد الشمس أنَّى واجهتنا ... فيحجبها ويأذن للنسيم يروع حصاه حالية2 العذارى ... فتلمس جانب العقد النظيم خيل إليه أنه يخطر في ذلك الروض البليل بين أنواره وأزهاره، خطران النسيم بين ظلاله وأشجاره، وأنه يرى بعينه أولئك العذارى السانحات وقد راعهن منظر الحصباء اللامع فوق تلك الديباجة الخضراء, فتولهن وفزعن إلى جوانب عقودهن يلمسنها بأطراف بنانهن, يحسبن أن قد وهت فانتثرت جواهرها في ذلك الروض الأريض.

_ 1 يقال: بغم الغزال إذا صوت بأرخم صوته, فهو باغم. 2 الحالية: لابسة الحلى.

وإن سمع قول الآخر: ودار ندامى عطلوها وأدلجوا ... بها أثر منهم جديد ودارس حبست بها صحبي وجمّعت شملهم ... وإني على أمثال تلك لحابس أقمنا بها يوما ويوما وثالثا ... ويوما له يوم الترحل خامس تدار علينا الراح في عسجدية ... حبتها بأنواع التصاوير فارس قرارتها كسرى وفي جنباتها ... مها تدّريها1 بالقسي الفوارس فللراح ما زرت عليه جيوبها ... وللمآء ما دارت عليه القلانس تمثل له كأنه مر في ضاحية من ضواحي بغداد بدار موحشة, فسمع فيها أصوات قوم يلهون ويقصفون2 ويقرعون الكئوس بأمثالها, فاقترب منها وأطل من خَصاص3 بابها فرأى أولئك القوم مجتمعين حول دَنّ من الخمر قد تكاملت سنه وشيب الدهر فوديه4, ففصدوه فسال دمه الأحمر في كئوس من الذهب منقوشة نقوشا فارسية قد استقرت في قرارتها صورة كسرى فارس, ودارت في باطنها صور فرسانه متنكبي قسيهم كأنما يطاردون بقر الوحش أمامهم ورآهم يملئون الكئوس إلى ما يوازي

_ 1 ادّرى الصيد: ختله. 2 قصف: أقام في أكل وشرب ولهو. 3 الخصاص: كل خلل, وخرق في باب أو غيره. 4 الفودان: ناحيتا الرأس.

أعناق أولئك الفرسان, ثم يمزجونها بالماء إلى ما يغطي رءوسهم، فتسلل من مكانه مغتبطا بمجمعهم وبما هيئ لهم من الهناء والنعمة فيه، ثم مر بتلك الدار بعد أيام فرآها مقفرة من أهلها لا تسمع بها نغمة ولا نأمة1, فدخلها فلم ير فيها إلا أعواد ريحان قد يبس أكثرها مبعثرة في جوانبها وخطوطا كانت رسمتها زقاق الخمر فوق تربتها في غدوها ورواحها بين أولئك الندماء، فانصرف حزينا مكتئبا يسمع صفير الريح الضاربة في جوانبها, فيردد قول القائل: رب ركب قد أناخوا حولنا ... يشربون الخمر بالماء الزلال عصف الدهر بهم فانقرضوا ... وكذاك الدهر حالا بعد حال وإن سمع قول الآخر: ويوم كتنُّور الإماء سجرنه2 ... وأوقدن فيه الجزل حتى تضر ما رميت بنفسي في أجيج سمومه ... وبالعيس حتى بض منخرها دما شعر كأن لهيب تلك الهاجرة يهبّ في وجهه, فيشيح عنه فرارا من لفحاته, ويكاد يبكي رحمة لذلك الشبح المصهور الذي ملكت عليه تلك التنُوفة الحمراء سبيله وحالت بينه وبين

_ 1 النأمة: النغمة والصوت. 2 سجر الرجل التنور: ملأه وقودا.

نفسه, فلا هو بصابر إن رام صبرا, ولا بناجٍ إن أراد نجاء. وإن سمع قول الآخر: وا رحمتا للغريب في البلد النا ... زح ماذا بنفسه صنعا فارق أحبابه فما انتفعوا ... بالعيش من بعده ولا انتفعا هملت عيناه وجدا على ذلك الغريب الحائر, وتمنى أن لو رآه في بعض مذاهبه وعطف عليه وآنس وحشته، وخفّض لوعته، ثم أخذ بيده فأنزله من نفسه منزلا كريما وأبدله أهلا بأهل وجيرانا بجيران. وإن سمع قول الآخر: وإن الذي بيني وبين بني أبي ... وبين بني عمي لمختلف جدا فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم ... وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا وإن ضيعوا غيبي حفظت غيوبهم ... وإن هم هووا غيي هويت لهم رشدا وإن زجروا طيرا بنحس تمر بي ... زجرت لهم طيرا تمر بهم سعدا ولا أحمل الحقد القديم عليهم ... وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا لهم جل مالي إن تتابع لي غنى ... وإن قل مالي لم أكلفهم رفدا وإني لعبد الضيف ما دام ثاويا ... وما شيمة لي غيرها تشبه العبدا أكبر تلك المكرمة العظيمة وأجلها ونظر إليها في علياء سمائها كما ينظر الفلكي إلى كوكبه, وشعر كأن نورها قد لمع فامتد

شعاعه إلى جوانب نفسه فأضاءها. ولا غرو أن يبلغ الشعر من نفسه هذا المبلغ, فلطالما كان للشعر السلطان الأكبر على النفوس العظيمة فقد نكب الرشيد البرامكة عندما دس له أعداؤهم ذلك المغني الذي غناه هذا الصوت: ليت هندا أنجزتنا ما تعد ... وشفت أنفسنا مما تجد واستبدت مرة واحدة ... إنما العاجز من لا يستبد وأمر السفاح بقتل وجوه بني أمية بعدما قربهم وأدناهم عندما دخل عليه سديف مولاه, وأغراه بهم في قوله: لا تقيلن عبد شمس عثارا ... واقطعن كل رقلة1 وغراس أنزلوها بحيث أنزلها اللـ ... ـه بدار الهوان والاتعاس خوفهم أظهر التودد فيهم ... وبهم منكم كحز المواسي أقصهم أيها الخليفة واحسم ... عنك بالسيف شأفة الأرجاس فلقد ساءني وساء سوائي ... قربهم من نمارق وكراسي بل عطف عمر بن الخطاب على الحطيئة, وأطلقه من سجنه حين سمعه يقول: ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ ... حمر الحواصل لا ماء ولا شجر ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة ... فاغفر عليك سلام الله يا عمر

_ 1 الرقلة: النخلة التي تفوت اليد.

بل سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- قول قتيلة بنت الحارث تعاتبه في قتله أخاها النضر بن الحارث على رحمه منه, واتصال نسبه به: أمحمد يا خير صنو كريمة ... في قومها والفحل فحل معرق ما كان ضرك لو مننت وربما ... من الفتى وهو المغيظ المحنق والنضر أقرب من أصبت وسيلة ... وأحقهم إن كان عتق يعتق ظلت سيوف بني أبيه تنوشه ... لله أرحام هناك تشقق فبكى وقال هو من لا ظنة1 في عدله ولا ريبة في حكمه: "لو سمعتها قبل اليوم ما قتلته". لا مؤثر في نفس الإنسان غير الشعر، وما خضع الإنسان لشيء في جميع أدوار حياته إلا للشعر، وللشعر الفضل الأول في نبوغ الإنسان وارتقائه وبلوغه هذا المبلغ من الكمال، ولقد أحب الإنسان الشعر ناطقا وصامتا، أما الناطق فقد عرفته، وأما الصامت فالتماثيل التي يراد بنصبها تمثيل حياة عظماء الرجال شعر، وهذه النغمات الموسيقية التي تصور خواطر القلوب ووجداناتها فتهيج عاطفة الحب في نفس العاشق وعاطفة الحماسة في نفس الجندي شعر، وهدير الأمواج شعر لأنه يمثل عظمة الجبارين، وظلام الليل شعر لأنه

_ 1 الظنة: التهمة.

يطلق دموع الباكين، وحفيف أوراق الأشجار شعر لأنه يمثل المناجاة في مواقف العشاق، وبكاء الحمائم شعر لأنه يمثل فجعة البين ولوعة الفراق، تلك النغمات الشعرية التي نسمعها من فم الإنسان مرة وفم الطبيعة أخرى هي التي زخرفت لنا هذه الحياة وألبستها ذلك الثوب الناعم الأبيض من السعادة والهناء حتى أحببناها, وولعنا بها وحرصنا عليها, وأعددنا العدد للبقاء فيها والسكون إليها, فكتبنا ودونا وألفنا واخترعنا، وتعلمنا فعلمنا، وبنينا فشيدنا، وغرسنا فجنينا، وعملنا فربحنا، واجتهدنا فأثرينا، وأملنا فسعينا، وسعينا فبلغنا، فكأن الشعر سر هذه الحياة وعلة هذا الوجود، لا تطير إلينا الحقائق إلا على جناحيه، ولا يطيب لنا العيش إلا في جواره، فلنمجد الشعراء كل التمجيد ولنكبرهم كل الإكبار، فهم مشارق شموس الحكمة، وأفلاك كواكب العلم والفضل، وهم الينابيع الصافية التي يترقرق ماؤها ثم يتسرب إلى الأفئدة, والقلوب فيملؤها وسعادة وهناء.

الشهيدتان

الشهيدتان: لم تغتمض عيناي ليلة أمس؛ لأنني بت أسمع في الدار اللاصقة لبيتي أنين امرأة متوجعة تعالج هما ثقيلا وتشكو مرضا أليما, وكان يخيل إلي أني لا أسمع بجانبها معللا يعللها, ولا جليسا يتوجع لها فلما أصبح الصباح ذهبت إليها فإذا قاعة صغيرة مظلمة تكاد لا تشتمل على أكثر من سرير بالٍ يتراءى فوقه شبح ماثل من أشباح الموتى, فترفقت في مشيتي حتى دنوت منها وكأنها شعرت بمكاني, فحركت شفتيها تطلب جرعة ماء فأسعفتها بها, فاستفاقت قليلا ثم تقدمت نحوها أسائلها عن خطبها فأنشأت تقص علي قصتها بصوت خافت متقطع, كنت أكاد أنتزعه منها انتزاعا وتقول: زوجني أبي منذ سبع سنين من رجل مزواج مطلاق لا يكاد يصبر على امرأة واحدة عاما واحدا, ولو كان لفتاة أن تستبد بأمرها من دون أوليائها لأحسنت الاختيار لنفسي, بل لو لم يكن في الأمر إلا أن أتبتل أو أصير إلى هذا المصير لكان لي في الرهبانية رأي غير ما يراه فيها النساء، ولكنني عجزت فأذعنت

وزُففت إليه, فاستقبلني بأحسن ما يستقبل به الزوج الكريم أحظى نسائه عنده وأكرمهن عليه، فكان يريبني من ذلك ما يريب الفريسة من ابتسامة الأسد وكنت أنتظر يوم الفراق كما ينتظر القاتل يوم القصاص، فما أفقت من صرعة النفاس حتى علمت أنه خطب فتزوج فبنى وأني أصبحت في المنزل وحيدة لا مؤنس لي إلا طفلتي الصغيرة, فجزعت عند الصدمة الأولى ثم نزلت على حكم القضاء الذي لا أملك رده ولا أعرف وجه الحيلة فيه، واحتملت طفلتي إلى بيت أبي فوجدته مريضا مشرفا, فبكى رحمة بي واستغفرني من ذنبه إلي فغفرته له، وما هي إلا أيام قلائل حتى مضى لسبيله مفجوعا برزئي ورزئه, فعلمت أن الدهر قد سجل علي في جريدة الشقاء أياما طوالا لا أعلم متى يكون انقضاؤها, ولا أدري ما الله صانع فيها، فظللت أستكتب الناس الكتب إلى ذلك الرجل أسأله القوت لأستعين به على تربية طفلته أو التسريح عسى أن يبدلني الله خيرا منه زكاة وأقرب رحما, فضن بالأولى واستعظم الأخرى, فلم أر لي سبيلا غير سبيل العمل, فلبثت بضع سنين ساهرة الليل قائمة النهار, أستقطر الرزق من سم الخياط فلا أكاد أبلغ منه الكفاف حتى بلغ مني الجهد, فدهيت بمعضلة من الأدواء خرجت لها عن كل ما أملك من

حلية وذخيرة وكسوة وآنية وأصبحت لا أملك درهما أبتاع به قارورة الدواء, ولا أجد مزقة أمسك بها قوائم هذا السرير المضطرب، وما قنع الدهر مني بذلك حتى رماني بالداهية الدهياء التي يصغر في جانبها كل عظيم من خطوبه ونكباته، فقد كتبت إلى والد الفتاة منذ شهر أصف له حالتي وأفضي إليه بذات نفسي, وأسأله أن يمدني وابنتي بقليل من القوت نمسك به تلك الصبابة التي أبقتها خطوب الأيام ورزاياها من أعظمنا وجلودنا, ولبثت أترقب رجع الكتاب كما يترقب الغريق سواد السفينة, فإني لجالسة في هذا المقعد أعد على الدهر ذنوبه إلي وسيئاته عندي فلا أفرغ من عقد إلا إلى عقد, ولا أنتهي إلا إلى حيث أبتدئ وقد جلست طفلتي بين يدي أتطلع إلى وجهها الساطع في ظلمات تلك الخطوب كما يتطلع الملاح في ظلماته إلى نجمة القطب إذا هجم علي ذلك الظالم الجبار فاختطف ابنتي من بين يدي من حيث لا أملك دفعا لما نابني, ولا أجد ما أذود به عن نفسي إلا زفرات لا يسمعها سامع وعبرات لا يرحمها راحم، فشعرت كأن أسهم الدهر التي كانت تروغ ههنا وههنا قد أصابت في هذه المرة المقتل, فبت ليلتي تلك كما يجب أن تبيت امرأة بائسة معدمة فجعها الدهر في نفسها بعد أن فجعها في زوجها وأبيها وولدها, فأصبحت لا تجد أمامها يدا تنبسط

إليها ولا عينا تبكي عليها، وقد مر بي بعد ذلك نيف وعشرون ليلة لا يرقأ لي دمع ولا يهدأ بي مضجع، حتى إذا اختلست من يد الظلام نعسة تراءت لي الفتاة كأنها في فراشها مريضة تهتف باسمي, وكأن أباها يوسعها ضربا وتعذيبا وكأنني أحاول أن أستنقذها فلا أجد إليها سبيلا، وها أنا ذا أشعر أن سحابة الموت السوداء تغشّي على بصري, وأنني مفارقة هذا العالم قبل أن أنظر إلى فتاتي نظرة أتزودها في سفري إلى تلك الدار. وما وصلت من حديثها إلى هذا الحد حتى جرضت بريقها وحشرجت أنفاسها وشطر بصرها فجثوت عند سريرها أدعو لها الله أن يعينها على أمرها, ويمدها برحمته وإحسانه، فإني لكذلك وقد استغرقت في هذا المشهد الذي بين يدي استغراق العابد في هيكله إذ رأيت في خلال الدموع التي كانت تزدحم في عيني شبحا منتصبا عند باب الغرفة, فتأملته فإذا رجل يحمل بين يديه فتاة صغيرة فتقدمت إليه فرأيته خاشعا مستكينا ينظر إلى تلك التي يحملها نظرات الوجد والرحمة, ورأيت الفتاة كأنها خرقة بالية ملقاة لا يتحرك لها عضو, ولا ينبض منها عرق فقلت: من أنت وماذا تريد؟ قال: أنا زوج هذه المرأة ووالد هذه الفتاة، قلت: لعلك جئت تستغفر هذه البائسة المسكينة من ذنبك إليها في التفريق

بينها وبين ابنتها، قال: يا سيدي, ما زالت الفتاة منذ فارقت أمها تبكي عليها بكاء مرا, وتهتف باسمها في يقظتها ونومها حتى سقطت مريضة لا ينفعها طب ولا ينجع فيها دواء، فلما رأيت أنها وصلت إلى الحالة التي تراها جئت بها إلى أمها, أرجو أن تجد بين ذراعيها شفاء من دائها، قلت: ذلك موكول إلى القضاء ولا يعلم الغيب إلا الله، ثم تقدمت نحو الفتاة فرأيتها تجود بنفسها فاحتملتها برفق حتى وضعتها بين ذراعي أمها, فما هو إلا أن هتفت الفتاة بأمها والأم بفتاتها حتى فاضت نفساهما معا, كأنما كانتا من الردى على ميعاد. الآن وقد عدت من دفن الشهيدتين وجلست لكتابة هذه السطور, أشعر أني لا أكاد أمسك قلمي من الاضطراب, ولا مدمعي عن الانفجار حزنا على تلك البائسة المسكينة, لا بل حزنا على جميع البائسات من النساء اللواتي يقتلهن الرجال كل يوم صبرا من حيث لا يجدن راحما يأخذ بأيديهن، ولا ثائرا يثأر لهن.

الدعاء

الدعاء: وهو ملخص قصيدة لفيكتور هيجو بتصرف. قومي يا بنية إلى الصلاة, فقد نزل ستار الليل ودبّ الشفق الأحمر في حاشية الأفق, وأطلت عيون الكواكب من فروج السحب, وأجرى البدر المنير ليقته الفضية البيضاء على صفحة النهر, ومسحت أيدي النسائم المبتلة بندى الليل عن أوراق الأشجار غبار النهار. قومي يا بنية إلى الصلاة, فقد مات النهار وماتت بموته الآلام والأحزان, والأحقاد والأضغان, والمظالم والمآثم, ولم يبق من تلك الأعاصير والزوابع ما يعترض وفد الدعاء، في طريقه إلى أبواب السماء. قومي يا بنية إلى الصلاة, فقد أوى الناس إلى منازلهم والطيور إلى وكناتها والوحش إلى أوجرته, وأخذت الطبيعة مكانها من مرقدها ولم يبق من أصواتها إلا أنين الراحة المتمثل في رنين هذه المركبة المقبلة في جوف الليل, وجؤار هذه السائمة العائدة

من حقولها, وهدير تلك الرياح الضاربة في ذوائب الأشجار ورءوس الأبراج. قومي يا بنية إلى الصلاة, فقد جاءت الساعة التي يجثو فيها الأطفال حول أسرتهم حفاة الأقدام عراة الرءوس شواخص الأبصار يطلبون الرحمة من الله تعالى لآبائهم وأمهاتهم وللناس أجمعين, فترن أصواتهم في الملأ الأعلى رنين نغمات الموسيقى في أجواف الفضاء, فيرددها الملائكة طائرين بها إلى عرش الرحمن، فإذا فرغوا من دعائهم وقضوا حق الله عندهم وحقهم عند أنفسهم ذهبوا إلى مضاجعهم, وناموا نوما هادئا مطمئنا تتطاير فيه الأحلام الجميلة حول ثناياهم الباسمة كما تتطاير أسراب النحل حول أحواض الأزهار. قومي يا بنية إلى الصلاة, واطلبي الرحمة لتلك التي التقطت ذرتك الأولى من عالمها ثم اتخذت لك من حنايا ضلوعها سريرا قبل سريرك, ومن أحشائها مهادا قبل مهادك, والتي قدم لها الدهر كأسي شقائه ونعيمه, فشربت الأولى وآثرتك بالأخرى. اطلبي لها الرحمة؛ فإنها كانت بيضاء القلب صافية النفس, تحب من لا يحبها وترحم من لا يرحمها, وتبتسم ابتسامة عذبة رائقة لا تمازجها ريبة, وتمد يدها إلى اجتناء كل ثمرة إلا ثمرة الشجرة

المنهي عنها، وكانت تقف أمام مسرح الحياة الحافل بالزخارف والتهاويل وقفة المتريث المرتاب الذي يتهم سمعه وبصره, وتنظر إليه نظر الحكيم العاقل الذي يعلم أن السعادة الكاذبة أمر مذاقا في الأفواه من الشقاء الصادق، وأن هؤلاء الذين يضحكون سرورا بهذه الصورة الخيالية لا يعلمون أنهم يبكون من حيث لا يشعرون، وأن أولئك الجالسين حول مائدة الشهوات إنما يقامرون بأنفسهم ولا بد أنهم خاسرون، فتغض بصرها وتشيح بوجهها وتعود أدراجها بقلب غير مخدوع، وفؤاد غير مصدوع. اذكري يا بنية أن تطلبي الرحمة لأبيك كما تطلبينها لأمك, فهو أحوج إليها منها؛ لأن الخطايا قد أثقلت ظهره فأصبح لا يستطيع أن يرفع رأسه إلى السماء، وغلت يده فلا يستطيع أن يمدها إلى الله بالدعاء. إنني أشعر يا بنية حينما أسمع دعاءك لي كأنني أسمع صوت انفصام القيود عن قدميَّ, وكأن سحابة سوداء تنقشع عن قلبي قليلا قليلا, وكأن جناحي المهيض قد نبت له ريش ناعم جميل أحاول أن أطير به إلى أعالي السماء. اطلبي الرحمة لجميع الآباء العائدين إلى منازلهم تحت ستار الظلام

بدموع منهلة وقلوب واجمة بعد أن سايروا الشمس من مشرقها إلى مغربها, فلم يجدوا ما يمسحون به دموع أبنائهم حينما يعودون إليهم. اطلبي الرحمة لجميع الأمهات الجالسات حول أسرّة أبنائهن المرضى, وقد خفقت قلوبهن وحارت أبصارهن مخافة أن يذقن مرارة الثكل, والثكل كثير على قلوب الأمهات. اطلبي الرحمة للبخيل الذي يجيع بطنه ويشبع صندوقه, والأحمق الذي يبتسم للمعان الحرير في صدره والذهب في أصابعه, والقاضي الذي يبرئ القاتل المتعمد ويدين السارق المضطر, والملك الذي يشعل نار الحرب في أمته ليطفئ نار غضبه, والظالم الذي لا يحاسب نفسه على ليلة سوء يقضيها خارج بيته ويحاسب زوجته على ابتسامة كرم تبسمها لغيره وسائر البؤساء الذين لا يشعرون ببؤسهم والأشقياء الذين يظنون أنهم سعداء. اطلبي الرحمة لأولئك الذين عمروا الأرض وبنوا دورها وشادوا قصورها وزخرفوا سهولها وجبالها وأغوارها وأنجادها, فجازتهم سوءا بما عملوا وابتلعتهم في جوفها, فأصبحوا في تلك الحفرة المظلمة المخيفة التي تختلط فيها الرءوس بالأقدام والقوادم بالخوافي والنعال بالتيجان, والتي ينطوي فيها كل قديم تحت كل حديث انطواء اللجج المتراكبة في البحر العميق يتألمون ولا ينطقون

ويستصرخون فلا يجدون من يسمع نداءهم, أو يلبي دعاءهم. اطلبي الرحمة لهم, فإن الدعاء الخالص يستحيل في أنظارهم إلى روضة من رياض الجنان تنبت فوق أجداثهم, فتمد إليهم ظلالها وتنثر بينهم أوراقها وأزهارها, واركعي فوق التربة التي يئنون تحتها, واسقيها من دموعك قطرات باردة تبلّ غلتهم وتطفئ جذوة الندم المتوقدة في أحشائهم؛ إنهم إلى الرحمة محتاجون، وإلى الله راغبون. اطلبي الرحمة للأبرار والفجار, والعصاة والطائعين, والمؤمنين والملحدين, وكل دارجة في الأرض وكل سانحة في السماء, ولا تيأسي أن يستجيب الله دعاءك؛ فلكل بداية نهاية ولكل سائلة قرار، فكما أن النهر يتسرب إلى البحر والطائر يقع على الغصن والشمس تجري لمستقرها والنفس تصعد إلى عالمها كذلك أبواب السماء، مفتحة لخالص الدعاء.

ليلة في التمثيل

ليلة في التمثيل: من أراد أن يعرف الأخلاق العامة المصرية كما هي فليزر دار التمثيل العربي؛ فإنه يرى هنالك ما تفرّق من أخلاق هذه الأمة وغرائزها وميولها وأهوائها مجتمعا في بقعة واحدة. زرتُ تلك الدار ليلة أمس وكثيرا ما أزورها؛ لأني أحب التمثيل حبا يكاد يساوي حبي للشعر والموسيقى والجمال، فبدا لي أن أكون في تلك الليلة فيلسوفا أكثر مني متفرجا، أي أن أكون متفرجا على المتفرجين، ومطلعا على المطلعين، فكانوا جميعا يشاهدون ملعبا واحدا وكنت أشاهد وحدي ألف ملعب, لا يقل كل واحد منها عن ملعبهم غرابة وإبداعا. كان الزحام في تلك الليلة شديدا؛ لأن الأدباء يعجبهم من رواية روميو وجوليت ذلك الأسلوب الفصيح والترتيب البديع الذي انفرد به المرحوم الشيخ نجيب الحداد من بين كتاب الروايات ومترجميها، ولأن العاشقين يهمهم منها أن يروا فيها مواقف العناء والشقاء التي وقفها روميو وجوليت ليتخذوا منها لأنفسهم

تعزية عما يلاقونه في أمثال هذه المواقف من عناء وشقاء، ولأن النساء يطربهن منها منظر جوليت وهي قتيلة مخضبة بدمها ليجدن السبيل إلى الشماتة بها, والسخرية بضعف حيلتها وعجزها الذي كان سببا في حرمانها من سعادتها وحياتها، فكأنهن يقلن لها: لو كنا مكانك أيتها الفتاة الحمقاء لما بذلنا حياتنا في سبيل رجل لا يفوتنا حظنا من غيره إن فاتنا حظنا منه. وبالجملة: فقد كان أصحاب الأغراض المختلفة في هذه الرواية كثيرين جدا, وكانوا إذا اشتركوا في هتاف أو تصفيق دوى لهم في أرجاء القاعة صوت يصدع الرءوس ويؤثر في أعصاب السمع تأثيرا سيئا، فكنت إذا شرع المغني في نشيد وترقب الناس النغمة الأخيرة بتشوُّق وتلهف ترقبتُها بخوف وجزع؛ لأني لا أحب أن تكون آخر نغمة أسمعها في حياتي. رأيت فيما رأيت في ذلك المعرض العام أن عامة المصريين يحبون التصفيق حبا جما, ويتهالكون وجدا عليه. رأيت من كان يصفق حتى تحمرَّ كفاه وتكادا تبضان دما, ومن كان يضرب الأرض بقدميه حتى يكاد يجمد الدم في عروقهما. رأيت ملكة التقليد آخذة من نفوسهم مأخذها؛ لأنهم

ما كانوا يصفقون في مواقف الاستحسان جميعا بل كان يبتدئ أحدهم فيقلده الجالسون حوله, ثم يسري التصفيق تدريجيا بين الجميع، ولقد رأيت من استغرق في الضحك حتى كاد يسقط عن كرسيه ثم سمعته يسأل بعد ذلك جليسه: مم تضحكون؟ ولقد كنت أحسب أنهم لا يصفقون إلا في مواطن الاستحسان كما هو الشأن في ذلك, فإذا هم يصفقون لكل مشهد من المشاهد المؤثرة مفرحا كان أو محزنا, هزلا أو جدا, فصفقوا لمنظر جوليت وهي تتجرع السم, وصفقوا لمنظر روميو وهو يتحرق وجدا حينما فاجأه الخبر بموتها. أما النساء فملأن خدورهن ضحكا عندما سقط روميو قتيلا, ولا أعلم لذلك سببا إلا أن تكون عداوة الجنسية وحب الانتقام. أما آداب الاستماع فلا تسل عنها؛ لأنك لا ترى في جوابي ما يسرك، وأي منظر يروقك من مجتمع ما اجتمع في مثل هذا المكان إلا للاستماع ثم لا ترى بينه إلا مصفقا أو هاتفا أو راكضا أو ضاحكا أو صارخا أو مصفرا أو ماضغا أو متكلما، وكان يكون ذلك هينا لو وقع بين الفصل والفصل أو المنظر والمنظر أو الجملة والجملة, ولكنه يقع مطردا حيثما اتفق, وكيفما بدا.

وبعد, فقد استنتجت من منظر ذلك المعرض العام أن للجمهور المصري ثلاثة أخلاق هي ألزم من ظله وألصق به من نفسه: يحب التقليد ويحب الهزل ولا يستطيع أن يصبر عن إظهار ما تتأثر به نفسه من حزن, وسرور لحظة واحدة.

الكوخ والقصر

الكوخ والقصر: أنا إن كنت حاسدا أحدا على نعمة فإني أحسد صاحب الكوخ على كوخه قبل أن أحسد صاحب القصر على قصره، ولولا أن للأوهام سلطانا على النفوس لما سجد الفقراء بين أيدي الأغنياء، ولا ورم أنف الأغنياء أن يتخذهم الفقراء أربابا من دون الله. أنا لا أغبط الغني على غناه إلا في موطن واحد من مواطنه, فأغبطه إن رأيته يشبع الجائع ويواسي الفقير ويعود بالفضل من ماله على اليتيم الذي سلبه الدهر أباه والأرملة التي فجعها القدر في عائلها ويمسح بيده دمعة البائس والمحزون؛ ثم أرثي له بعد ذلك في جميع مواطنه الأخرى. أرثي له إن رأيته يتربص بالفقير وقوع الضائقة به ليدخل عليه مدخل الشيطان من قلب الإنسان, فيمتص الثمالة الباقية له من ماله ليسد في وجهه باب الأمل، وأرثي له إن رأيته يعتقد أن المال هو منتهى الكمال الإنساني, فيرغب عن الفضائل

والكمالات؛ لأنه يظن أنه قد كفي مئونة السعي إليها، وأرثي له وأبكي على عقله إن مشى الخيلاء، وطاول بعنقه السماء، وسلم بإيماء الطرف وإشاره الكف، ومشى في طريقه يخزر عينيه خزرا ليرى هل سجد الناس لمشيته، أو صعقوا من هيبته، وأرحمه الرحمة كلها إن عاش شحيحا مقترا على نفسه وعياله, بغيضا إلى قومه وأهله, ينقمون عليه حياته ويستبطئون أجله. أما الفقير فهو عندي أسعد الناس عيشا, وأروحهم بالا إلا إذا كان جاهلا ضعيفا مخدوعا يملك الوهم عليه مشاعره, فيظن أن الغني أسعد منه حظا وأرغد عيشا وأثلج صدرا, فيحسده على تلك السعادة التي يزعمها له, فيجلس في كسر بيته جلسة الكئيب المحزون يصعد الزفرة فالزفرة، ويرسل الدمعة أثر الدمعة، ولولا جهله وضعف قلبه لعلم أن رُبَّ صاحب قصر باذخ يتمنى كوخ الفقير وعيشه, ويرى أن ذلك السراج من الزيت أسطع ذبالا وأكثر لألاء من أنوار الشموع وباقات الكهرباء التي تأتلق بين يديه, وأن تلك الحشية من الأديم أو الوبر أنعم ملمسا وألين مضجعا من وسائد الحرير, ونضائد الديباج. لقد بلغ التسفل وضعف النفس بكثير من الناس أنهم

يحفلون بشأن الأغنياء؛ لأنهم أغنياء وإن كانوا لا ينالون منهم ما يبل غلة أو يسيغ غصة، وليت شعري إن كان لا بد لهم من إجلال المال, وإعظامه لذاته فما لهم لا يقبّلون أيدي الصيارفة ولا ينهضون إجلالا للكلاب المطوقة أعناقها بأطواق الذهب, وهم يعلمون ألا فرق بين هؤلاء وهؤلاء. لو عامل الفقراء بخلاء الأغنياء بما يجب أن يعاملوا به, لوجدوا أنفسهم في وحشة من أنفسهم وأموالهم، ولشعروا أن بدرات الذهب أساود ملتفة على أرجلهم وأغلال آخذة بأعناقهم, ولعلموا أن الشرف في كمال الأدب لا في رنين الذهب، وفي جلائل الأعمال لا في أحمال المال. فليعظم الناس الكرماء وليحتقروا الأغنياء، وليعلموا أن الشرف شيء وراء الغنى والفقر، والسعادة أمر وراء الكوخ والقصر.

حول سير الموت

حول سير الموت ... حول سرير الموت: مررت منذ سنوات على باب منزل في أحد أزقة القاهرة, فرأيت حوله مجتمعا حافلا تصطك فيه الأقدام بالأقدام وتمتزج فيه الأنفاس بالأنفاس, وقد تخلله قوم من رجال الشرطة وسمعت قائلا يقول: "قبح الله الانتحار" وآخر يقول: "أحسبه شابا غريبا؛ لأني لم أر عينا تدمع عليه" فعرفت مجمل القصة, وأن في هذا المنزل شابا غريبا منتحرا, وأن هذا الحادث سبب هذا الاجتماع. لم أقنع بالإجمال فأحببت معرفة التفصيل, فحاولت الدخول إلى المنزل فما استطعت فتريثت حتى جاء ضابط أعرفه من ضباط البوليس فدخلت معه. وهناك رأيت على سرير الموت شابا في نحو العشرين من عمره, رقيق الجسم أصفر اللون, لم تستطع يد الموت أن تمحو كل آثار جماله, بل بقيت منه بعد الموت بقية كتلك البقية من الرائحة العطرة التي يستنشقها الإنسان في الزهرة الذابلة. اهتم الضابط بملابسه لعله يجد فيها ما يدل عليه أو على

سبب انتحاره, واهتم الطبيب بالميت ليعرف علة موته, وجلست بجانبه جلسة الكئيب المحزون أفكر في مصيبته وأندب شبابه وجماله, فلمحت حول السرير أوراقا منثورة فجمعتها, ووضعتها في محفظتي من حيث لا يشعر الضابط ولا الطبيب. قرر الطبيب أنه منتحر بشرب سائل سام, وقرر الضابط نقل جثته إلى المستشفى, فنقلت وانفض الجمع المزدحم ثم لم أعد أعلم بعد ذلك من أمره شيئا. خلوت بنفسي والأوراق فنثرتها فرأيتها مجموعة خواطر عاشق تناول كأس الحب بيده, فارتشف منها الجرعة الأولى فوجدها حلوة المذاق, فاستمر في شأنه يشرب ولا يرفع الكأس عن فمه فلم يشعر بالمرارة المتجددة في الجرعات الأخرى حتى أتى على آخر جرعة, فإذا هي السم الناقع الذي قتله وذهب بحياته. قرأت تلك المفكرات فبكيت بكاء رحمت نفسي منه, ثم طويتها وألقيت بها في بطون الأعوام وبين ودائع الأيام. وبينا أنا أقلب أوراقي ليلة أمس إذ عثرت بها في ملف صغير قد اصفر لونه لتقادم العهد عليه كما يصفر الكفن حول الجثة البالية, فشعرت برعدة تتمشى في أعضائي حينما تخليت أنها في هذا السفط شبح كاتبها في ذلك القبر.

ثم عدت إلى نفسي فنشرتها للمرة الثانية, وأعدت قراءتها فرأيت قلب العاشق مرسوما فيها رسما صحيحا في حالي سعادته وشقائه، وها أنا أنشرها في الناس لتكون عبرة يعتبر بها المخاطرون بقلوبهم في هذا السبيل, سبيل الحب القاتل. 1- رأيتها فأحببتها وما كنت أعرف الحب من قبلها. كان قلبي في ظلام حالك لا يرى حتى نفسه, فلما أشرق فيه الحب أشرقت فيه شمس ساطعة منيرة لها من الشمس نورها وجمالها, وليس لها منها حرارتها ولذعاتها. كنت أشعر كأن قلبي في صحراء هذه الحياة وحيد موحش لا يعرف القلوب أو يعرفها ثم ينكرها، فلما أحببت رأيت بجانب قلبي قلبا لاصقا به يخفق لخفقانه, ويتحرك بحركته فكنت أجد بين جوانحي من السرور والهناء, واللذة والاغتباط ما لو قسم على القلوب جميعها ما خالطها حزن ولا مسَّها ألم. كنت أسمع باسم السعادة, ولا أفهم معناها غير أني كنت أسمعهم إذا ذكروها ذكروا بجانبها القصر والحديقة والفضة والذهب والسلطة والجاه والشهرة والصيت، فلما أحببت اعتقدت ألا سعادة غير الحب, وأيقنت أن الناس جميعا يطلبون سعادة

الأجسام لا سعادة الأرواح، فمثلهم كمثل الدفين المكفّن بالحرير والديباج, وباطنه مسرح الدود ومرتع الهوام والحشرات. 2- أحببتها قبل أن أعرفها, أو أعرف شأنا من شئونها سوى أنها تحبني فكأني ما منحتها قلبي إلا لأنها منحتني قلبها وهو ثمن قليل في جانب هذه المنحة الغالية التي ما كنت أحدث نفسي بها, ولا كانت تستطيع أن تمثلها في عيني خواطر الأماني, ولا سوانح الأحلام. عشتُ دهرا طويلا بين أقوام لا يعنيهم أمري ولا يهمهم شأني, وذقت من آلام الحياة وشقاء العيش ما لا يستطيع أن يتحمله بشر, فسمعت من يسألني: كيف حالك ومن يقول لي: ما أشد جزعي لمصابك ومن يتباكى رحمة بي وحنانا علي, ولكن لم أر بجانبي عينا تدمع ولا قلبا يخفق. رأيت من يحب جمالي كما يحب تمثالا متقن الصنع, ورأيت من يحب مالي كما يحبه في كيسه أو خزانته, ورأيت من يعجب بحديثي كما يعجب برواية بديعة, ولكن لم أر في حياتي من يحبني. أما اليوم, فقد وجدت بجانبي القلب الذي يخفق لأجلي, والعين التي تدمع علي, والنفس التي تحبني لا لشيء سواي، فقليل لها

مني أن أمنحها حياتي, فكيف أبخل عليها بقلبي؟! 3- خلوت بها للمرة الأولى, فحدثتني نفسي أن أمد يدي إلى يدها فأضعها على صدري لأطفئ بها غلتي, فما لمستها حتى نظرت إلي نظرة العاتب اللائم، وقالت: كن رجلا في حبك, واترك الطفولة لغيرك. إن كنت تحبني لنفسي فها أنت قد ملكتها علي وأحرزتها دوني حتى لا أعرف لي فيها مأربا, وإن كنت تحبني لهذه الصورة الجثمانية فما أضعف همتك, وما أصغر نفسك. أتذرف دمعك وتسهر ليلك وتذيب حبة قلبك من أجل عظمة تلمسها, أو جلدة تلثمها. أنت شريف في نفسك فكن شريفا في حبك، واعلم أني ما أحببت غير نفسك فلا تحب غير نفسي. ما وصلت من حديثها إلى هذا الحد حتى رأيتني قد صغرت في عين نفسي, وتمنيت أن لو عجل إلي أجلي قبل أن يمر هذا الخاطر الفاسد في ذهني, ثم استوهبتها ذنبي فوهبته لي وما عدت من بعدها إلى مثلها.

4- الآن عرفت مبلغ عظتها وفضل هدايتها ومقدار ما يبلغه الحب الشريف من النفس، فها أنا أشعر كأن نفسي المرآة التي يغشاها الصدأ, وكأن الحب صيقل يصقلها فيجلو صفحتها شيئا فشيئا. كنت أحمل بين جوانحي لأعدائي ضغنا وحقدا, فأصبحت لا أشعر بما كنت أشعر به من قبل؛ لأن الحب ملك علي قلبي, واستخلصه لنفسه فلم يترك فيه مجالا لشيء سواه. كنت ضيق الصدر إن مسني ضر سريع الغضب, إن فاتني مأرب فأصبحت فسيح رقعة الحلم لا يستفزني غضب ولا يحرجني محرج؛ لأني قنعت بسعادة الحب فأغفلت بجانبها جميع أنواع السعادة. كنت شديد القسوة متحجر القلب, لا أعطف على بائس ولا أحنو على ضعيف, فأصبحت أشعر بالمصيبة أراها تصيب غيري وأتألم لبؤس البائسين وحزن المحزونين؛ لأن الحب أشرق في قلبي فملأه نورا, فارتفع ذلك الستار الذي كان مسبلا بينه وبين القلوب. وبالجملة كنت وحشا ضاريا أعيا العالمين رياضته, فصرت بين يدي الحب الشريف إنسانا شريفا, وملكا كريما.

5- خرجت بها الليلة إلى شاطئ النهر وكان الماء رائقا والسماء صافية, وفي كل منهما نجوم وكواكب تتلألأ في صفحته, فاختلط علينا الأمر حتى ما نفرق بين الأصل والمرآة, ولا ندري أين مكان الماء من مكان السماء. فمشينا طويلا لا يكلم أحدنا صاحبه كأن سكون الليل سرى إلى أفئدتنا, وملأ ما بين جوانحنا فأمسكنا عن الحديث هيبة وإجلالا. وكنت أشعر في تلك الساعة بخفة في جسمي, وصفاء في نفسي حتى كان يخيل إلي أني لو شئت أن أطير عن وجه الأرض لطرت بغير جناح, وأني أستطيع أن أخترق بنظري حجاب السماء وأنفذ إلى الملأ الأعلى, فأرى هنالك ما هو محجوب عن نظر الناس أجمعين، وحتى صرت أتمنى أن يضل النجم سبيله فلا يهتدي إلى أفقه, وأن يتلفع الليل بردائه فلا يعثر به فجره, وأن تستمر مشيتنا هذه ما ضل النجم وما دام الظلام. فالتفت إليها وسألتها: هل تشعر بالسعادة التي أشعر بها؟ قالت: لا؛ لأني أعرف من شئون الأيام وأطوارها غير

ما تعرف، ولأني لا أنظر إلى الدنيا بالعين التي تنظر بها إليها. أنت سعيد بالأمل, وأنا شقية بالحقيقة الواقعة. إنك سعيد لأنك تظن أن سعادتك دائمة لا انقطاع لها، وأنا شقية لأني أتوقع في كل ساعة زوالها وفناءها. إن استطعت أن تقف الشمس في كبد السماء, وأن تحول بين الأرض ودورانها, وأن تمنع الساكن أن يتحرك والمتحرك أن يسكن فاضمن لنفسك استمرار السعادة وبقاءها. وهنا أمسكت عن الكلام وأطرقت برأسها طويلا, فرأيت مدامعها تنحدر من مقلتيها كأن عقدا وهي سلكه, فانتثرت حباته فبكيت لبكائها وقلت: لم تبكين؟ قالت: من خوف الفراق، قلت: فراق الحياة أو فراق الممات؟ قالت: لا أريد فراق الحياة, فليس في هذه الكائنات من ناطقها وصامتها ما يمنعني من الوصول إليك ما دام يجمعني وإياك عالم واحد، أنا لا أخاف إلا فراق الموت، قلت: هل لكِ أن نتعاهد أن نعيش معا ونموت معا؟ فتعاهدنا ثم عدنا على أعقابنا والليل يشمر أذياله للفرار من وجه النهار، ثم افترقنا على ميعاد وذهب كل منا لسبيله.

6- ألا يستطيع هذا الدهر الغادر أن ينام ساعة واحدة عن هذا الإنسان؟ ألا يستطيع أن يسقيه كأسا لا يخالطها كدر, ولا يمازجها شقاء؟ ألا يستطيع أن يمنعه السعادة ما دام يمنحها اليوم ليسلبها غدا؟ إن الإنسان لا يعجز عن احتمال الشقاء الدائم, ولكنه يعجز عن احتمال السعادة المسلوبة. يقولون: إن الأمل حياة الإنسان وما يقتل الإنسان إلا الأمل, فليتني ما سعدت لأنني ما شقيت إلا بسعادتي، وليتني ما أملت لأن اليأس القاتل ما جاء إلا من طريق الأمل الباطل. ماتت الفتاة التي كانت شمس حياتي وأشعة آمالي وينبوع سعادتي وهنائي. ماتت الفتاة التي كانت ملء الدنيا جمالا وبهاء, فمات بموتها كل حي في هذا الوجود. أرى الأرض غير الأرض والسماء غير السماء, وأرى الطير صامتة لا تغرد والغصون ساكنة لا تتحرك, وأرى النجوم آفلة والزهور ذابلة والطبيعة واجمة حزينة لا يفتر ثغرها ولا يتلألأ جمالها, وأرى الدنيا كأنها عادت إلى عصرها الأول لا يسكنها

إنسان، ولا يخطر بها حيوان، وكأنني فيها آدمها يندب جنته, ويشكو وحدته. أيها الدهر الغادر, إن غلبتني عليها فلن تغلبني على نفسي، لك أن تخرج من الدنيا من تشاء وليس لك أن ترد إليها من يخرج منها. ويأيتها النفس الهائمة في سمائها لا تجزعي ولا تعجلي؛ فوالله لأفين بعهدك ولأذهبن عما قليل وحشتك, وليكونن عهدنا في مستقبلنا كعهدنا في ماضينا، فما تعارفنا في العالم الأول إلا بأرواحنا، فلنكن كذلك في العالم الثاني.

غدر المرأة

غدر المرأة: يقصون في القصص الخرافية أن حكيما من حكماء اليونان كان يحب زوجته حبا ملك عليه عقله وقلبه, وأحاط به إحاطة الشعاع بالمصباح المتقد، وكان يمازج هناءه الحاضر شقاء مستقبل يسوقه إلى نفسه الخوف من أن تدور الأيام دورتها فيموت, ويفلت من أشراكه ذلك القلب الذي كان مغتبطا باعتلاقه إلى صائد آخر يعتلقه من بعده، وكان كلما أبث زوجته سره وشكا إليها ما يساور قلبه من ذلك الهم حنت عليه, وعللته بمعسول الأماني, وأقسمت له بكل محرجة من الأيمان أنها لا تسترد هبة قلبها منه حيا وميتا, فكان يسكن إلى ذلك سكون الجرح الذرب تحت ميزاب الماء البارد ثم يعود إلى هواجسه ووساوسه، حتى مر في بعض روحاته إلى منزله في ليلة من الليالي المقمرة بمقبرة المدينة, فبدا له أن يدخلها ليروح عن نفسه هموم الموت بوقفة بين قبور الموتى، وكثيرا ما يتداوى شارب الخمر بالخمر ويدفع الخوف الخائف إلى مبعث خوفه, ويلذ للجبان وهو يرتعد فرقا الإصغاء إلى حديث الأفاعي

وقصص الجان، فرأى في بعض مسالكه بين تلك القبور امرأة متسلبة جالسة أمام قبر جديد لم يجف ترابه, وبيدها مروحة من الحرير الأبيض مطرزة بأسلاك الذهب تحركها يمنة ويسرة لتجفف بها بلل ذلك التراب، فعجب لشأنها وتقدم إليها فارتاعت لمرآه, ثم أنست به حينما عرفته فسألها: ما شأنها وما مقامها هنا؟ ومن هذا الدفين وما الذي تفعل؟ فأبت أن تجيبه عما سأل حتى تفرغ من شأنها, فجلس إليها وتناول منها المروحة وظل يساعدها في عملها حتى جف التراب, فحدثته أن هذا الدفين زوجها وأنه دفن منذ ثلاثة أيام وأنها منذ الصباح جالسة مجلسها هذا لتجفف تراب قبره وفاء بيمين كانت أقسمتها له في مرض موته أن لا تتزوج من غيره حتى يجف تراب قبره, وأن هذه الليلة هي موعد بنائها بزوجها الثاني, فأبى لها وفاؤها لهذا الدفين الذي كان يحبها ويحسن إليها أن تحنث بيمين أقسمتها له أو تخيس بما عاهدته عليه، ثم قالت له: هل لك يا سيدي أن تقبل هذه المروحة هدية مني إليك, وجزاء لك على حسن صنيعك معي؟ فتقبلها منها شاكرا بعد أن هنأها بزواجها الجديد, ثم انصرف وليس وراء ما به من الهم غاية، ومشى في طريقه مشية الرائح النشوان يحدث نفسه ويقول: إنه أحبها وأحسن

إليها, فلما مات جلست فوق قبره لا لتبكيه ولا لتذكر عهده, بل لتتحلل من يمين الوفاء التي أقسمتها له؛ فكأنها وهي جالسة أمام زوجها الأول تعد عدد الزواج من زوجها الثاني، وكأنما اتخذت من صفائح قبره مرآة تصقل أمامها جبينها, وتصفف طرتها, وتلبس حليتها بين سمعه وبصره للزفاف إلى غيره. وما زال يحدث نفسه بمثل ذلك حتى رأى نفسه في منزله من حيث لا يشعر, ورأى زوجته ماثلة أمامه مرتاعة لمنظره المحزن فقال لها: إن امرأة خائنة غادرة أهدت إلي هذه المروحة فقبلتها منها لأهديها إليك؛ لأنها أداة من أدوات الغدر والخيانة وأنت أولى بها مني، ثم أنشأ يقص عليها قصة المرأة حتى أتى عليها فغضبت وانتزعت المروحة من يده ومزقتها, وأنشأت تسب تلك المرأة وتنعي عليها غدرها وخيانتها وتلقبها بأفحش الألقاب وأقبحها، ثم قالت: ألا يزال هذا الوسواس عالقا بصدرك ما دمت حيا؟ وهل تحسب أن امرأة في العالم ترضى لنفسها بما رضيت به لنفسها تلك المرأة الغادرة؟ فقال لها: إنكِ أقسمت لي ألا تتزوجي من بعدي, فهل تفين بعهدك؟ قالت: نعم ورماني الله بكل ما يرمى به الغادر إن أنا غدرت، فاطمأن لقسمها وعاد إلى راحته وسكونه. مضى على ذلك عام, ثم مرض الرجل مرضا شديدا فعالج

نفسه فلم يجد العلاج حتى أشرف, فدعا زوجته وذكَّرها بما عاهدته عليه, فادّكرت فما غربت شمس ذلك اليوم حتى غربت شمسه، فأمرت أن يسجى في قاعته حتى يحتفل بدفنه في اليوم الثاني ثم خلت بنفسها في غرفتها تبكي عليه وتندبه، وإنها لكذلك إذ دخلت عليها الخادم وأخبرتها أن فتى من تلاميذ مولاها حضر الساعة من بلدته لما سمع بأمر مرضه, وإنها حدثته حديث موته فصعق في مكانه حزنا ووجدا ولا يزال عند باب المنزل مطرحا لا تدري ما تصنع في أمره، فأمرتها أن تذهب به إلى غرفة الأضياف وأن تتولى شأنه حتى يستفيق، ثم عادت إلى بكائها ونحيبها، فلما مر الهزيع الثاني من الليل دخلت عليها الخادم مرة أخرى مرتاعة مولهة وهي تقول: رحمتك وإحسانك يا سيدتي, فإن ضيفنا يعالج من آلامه وأوجاعه عذابا أليما, وقد حرت في أمره وما أحسبه إن أغفلنا أمره ساعة واحدة إلا هالكا، فراعها الأمر فقامت تتحامل على نفسها حتى وصلت إلى غرفة المريض, فرأته مسجى على سريره والمصباح عند رأسه, فاقتربت منه ونظرت في وجهه, فرأت أبدع سطر خطته يد القدرة الإلهية في لوح المقادير, فتخيلت أن المصباح الذي أمامها قبس من ذلك النور المتلألئ في ذلك الوجه المنير, وتمثلت كأن أنينه نغمة موسيقية

محزنة ترنّ في جوف الليل البهيم، فأنساها الحزن على المريض المشرف الحزن على الفقيد الهالك وعناها أمره فلم تترك وسيلة من وسائل العلاج إلا توسلت بها إليه حتى استفاق, ونظر إلى طبيبته الراكعة بجانب سريره نظرة الشكر والثناء، ثم أنشأ يقص عليها تاريخ حياته فعرفت من أمره كل ما كان يهمها أن تعلمه، فعرفت مسقط رأسه وصلته بزوجها وأنه فتى غريب في قومه لا أب له ولا أم ولا زوجة، وهنا أطرقت برأسها ساعة طويلة عالجت فيها من هواجس النفس ونوازعها ما عالجت، ثم رفعت رأسها وأمسكت بيده وقالت له: إنك قد ثكلت أستاذك وأنا ثكلت زوجي فأصبح همنا واحدا, فهل لك أن تكون عونا لي وأن أكون عونا لك على هذا الدهر الذي لم يترك لنا مساعدا ولا معينا؟ فألم بما في نفسها, فابتسم لها ابتسامة الحزن والمضض وقال لها: من لي يا سيدتي أن أكون عند ظنك بي وهذا المرض الذي يساورني, ولا يكاد يهدأ عني قد نغص علي عيشي وأفسد علي حياتي, وقد أنذرني الطبيب باقتراب ساعة أجلي إلا أن تدركني رحمة الله، فاطلبي سعادتك عند غيري فأنت من بنات الوجود وأنا من أبناء الخلود، فقالت له: إنك ستعيش وسأعالجك ولو كان دواؤك بين سحري ونحري، قال: لا تصدقي يا سيدتي, فأنا عالم بدوائي وعالم

بأني لا أجد السبيل إليه، قالت: وما دواؤك؟ فامتنع عليها هنيهة لا يجيبها, فلما أعياه إلحاحها قال: حدثني طبيبي أن شفائي في أكل دماغ ميت ليومه، ولقد علمت أن ذلك يعجزني فأسجلت أن لا دواء لي ولا شفاء، فارتعدت وشحب لونها وأطرقت طويلا ثم رفعت رأسها هادئة ساكنة وقالت: لا أزال أقول لك: إني سأعالجك وإن كان دواؤك في ذهاب نفسي، ثم أمرته أن يأخذ قسطه من الراحة وخرجت من الغرفة متسللة حتى وصلت إلى غرفة سلاح زوجها, فأخذت منها فأسا ثم مشت تختلس خطواتها اختلاسا حتى وصلت إلى غرفة الميت, ففتحت الباب فدار على عقبه وصر صريرا مزعجا, فجمدت في مكانها وقد امتلأ قلبها رعبا وخوفا وذهبت بها الظنون كل مذهب، ثم عادت إلى سكونها فتقدمت لشأنها حتى دنت من السرير ورفعت الفأس وما كادت تهوي بها حتى رأت الميت فاتحا عينيه ينظر إليها, فسقطت الفأس من يدها وسمعت حركة وراءها, فالتفتت فرأت الضيف والخادم واقفين يتضاحكان, ففهمت كل شيء. وهنالك تقدم إليها زوجها وقال لها: أليست المروحة في يد تلك المرأة الغادرة أجمل من الفأس في يدك؟ أليست التي تجفف تراب قبر زوجها بعد دفنه أفضل من التي تكسر دماغه قبل نعيه؟ فصارت تنظر إليه نظرا غريبا, ثم شهقت شهقة كانت فيها نفسها.

الضاد

الضاد: إذا كان العرب الأولون يعبرون بالرأس عن مئين من الأعضاء والعظام والأعصاب والشرايين, فلم لا نعبر نحن بالضاد عن ثمانية وعشرين حرفا1 ونحن عرب مثلهم تجري في عروقنا دماؤهم كما تجري في عروقهم دماء آبائهم من قبل، فسهمنا في الضاد سهمهم وحقنا فيها حقهم، فلم يضعون الألفاظ للتفاهم والتخاطب ولا نضعها مثلهم لمثل ما وضعوا، وحاجاتنا أكثر من حاجاتهم ومرافقنا أوفر عددا من مرافقهم وأوسع فصولا وأنواعا؟ أين باديتهم الخلاء الجرداء المقفرة المصفرة إلا القليل من الخيام المبعثرة بين معاطن الإبل ومراتع الشاء ومرابض الوحش ومغاور الجن من مدائننا الفاخرة الزاخرة الحافلة بصنوف الموجودات، وأنواع الآلات والأدوات، وغرائب المصنوعات والمنسوجات، وأكثرها مستحدث مستطرف لم تغبرّ في وجهه

_ 1 أي: إنه لا مانع من أن تسمى اللغة العربية بالضاد, واللغة العربية مهما تعددت كلماتها فهي لا تخرج عن حروف الهجاء.

عواصف البادية ولم تلوثه الإبل, والأبقار بأبوالها وأرواثها. أليس من الظلم المبين والغبن الفاحش أن تضيق حاجاتهم عن لغتهم فيتفكهوا بوضع خمسمائة اسم للأسد وأربعمائة للداهية وثلاثمائة للسيف ومائتين للحية وخمسين للناقة، وتضيق لغتنا عن حاجاتنا فلا نعرف لأداة واحدة من الآلاف المؤلفة من أدوات المعمل الواحد اسما عربيا إلا قليلا من أمثال المسبر والمبرد والمنشار والمسمار. أيكون لسفينة البر وهي لا تحمل إلا الرجل أو الرجل ورديفه مائتا اسم لها ومئين من الأسماء لأعضائها وأوصالها ورحلها وكورها, ولا يكون لسفينة البحر وهي المدينة المتنقلة في الدأماء قليل من ذلك الحظ الكثير. كان لعرب الجاهلية الأولى مؤتمر لغوي يعقدونه في كل عام بالحجاز بين نخلة والطائف يجتمع فيه شعراؤهم وخطباؤهم يتناشدون ويتساجلون ويتحاورون ويعرضون أنفسهم على قضاة من نوابغهم يوازنون بينهم, ويحكمون لمبرّزهم على مقصرّهم حكما لا يرد ولا يعارض، ولقد شعروا بضرورة عقد هذا المؤتمر عندما أحسوا بتفرق لغتهم بين اليمن والشام ونجد وتهامة لصعوبة التواصل في تلك البقاع وبعد ما بين قاصيها ودانيها، فكان مطمح أنظارهم في ذلك المجتمع توحيد لغاتهم وجمع شتاتها

والرجوع بها جميعها إلى لغة قريش التي هي أفصح اللغات وأقربها مأخذا وأسهلها مساغا وأحسنها بيانا. أيقدر هؤلاء العجزة الضعفاء في جاهليتهم الأولى على ما نعجز عنه نحن؟ ونحن إلى مؤتمرهم أحوج منهم إليه؛ لأن تفرق اللغات في عصرهم لا يمكن أن يبلغ مبلغ تفرقها في عصرنا بين لغات العامة المتباينة ولغة العلماء ولغة الدواوين ولغة القصاصين ولغة الصحافيين. إن كان الجاهليون في حاجة إلى مجتمع لتوحيد اللغات المتفرقة فنحن في حاجة إلى مجتمعات كثيرة: مجتمع لجمع المفردات العربية المأثورة جميعها وشرح أوجه استعمالها الحقيقية والمجازية في كتاب واحد يقع الاتفاق عليه والإجماع على العمل به، ومجتمع دائم لوضع أسماء للمسميات الحديثة سواء كانت أعيانا أو معاني بطريق التعريب أو النحت أو الاشتقاق الكبير أو الصغير، وآخر للإشراف على الأساليب العربية المستعملة وتهذيبها وتصفيتها من المبتذل الساقط والمستغلق النافر والوقوف بها عند الحد الملائم للعصر الحاضر ولأذهان المعاصرين، وآخر للمفاضلة بين الكتاب والشعراء والخطباء, ومجازاة المبرز منهم والمقصر إن خير فخير، وإن شرا فشر.

سياحة في كتاب

سياحة في كتاب: أعجب ما أعرف من أمر نفسي أني أحب الجمال خيالا أكثر مما أحبه حقيقة, فيعجبني وصف الروض أكثر مما يعجبني مرآه ولا أطرب لمنظر الفتيات الجميلات طربي لمنظر القصائد الغزليات، وأحب أن أسمع وصف المدن الجميلة وأن أقرأ ما يكتبه الكاتبون عن رياضها ومنازلها وقصورها ودورها وسهولها وبطاحها وأنهارها وجداولها وميادينها وتماثيلها وأنديتها ومجامعها ولا يهمني أن أراها، كأنني أريد أن أستديم لنفسي تلك اللذة الخيالية وأخاف أن تحول الحقيقة بيني وبينها، وأحسب أني لو كنت عاشقا لأصبحت أضحوكة العاشقين وأعجوبة الهازئين والساخرين، وكان يكون مثلي مثل ذلك الرجل الذي أحبَّ امرأة فاستزارها فمانعته حينا ثم زارته, فلما رآها تركها وذهب لينام, فعجبت لشأنه وسألته: ما باله؟ فقال لها: أريد أن أنام علَّني أرى طيفك في المنام.

جاء يوم شم النسيم فخرج الناس إليه يستقبلونه استقبال الجيش المدجج، للملك المتوج، ويرحبون به ترحيب العشاق، بيوم التلاق، بعد طول الفراق، ويبسمون له ابتسام الرياض الزاهرة، للسحب الماطرة، وقد ذهبوا في شأنه المذاهب كلها؛ فمن صاعد إلى رءوس الجبال، وسارب في سهول الرمال، وواقف موقف الإعجاب والإجلال، بين جمال الأنوار وأنوار الجمال، ومقلب طرفه بين حسن الزهرات، وحسن الفتيات، ولا يعلم أتشبه القامات الغصون أم الغصون القامات. ذهب الناس في ذلك اليوم تلك المذاهب وما كان لي أن أذهب مذهبهم؛ لأني لا أعجب بما يعجبون، ولا أسر بما يسرون، فقبعت في كسر بيتي أبحث عن ضالة خيال أجد فيها من السعادة والهناء ما يجده الهائمون بين ثغر الحسناء وثغر الصهباء، فلمحت بجانبي كتاب بلاغة الغرب وهو الكتاب الذي ترجمه بعض فضلاء الكتَّاب, وجمع فيه نفائس اللغة الفرنسية وزبدة ما جادت به قرائح كتابها وشعرائها فقلت: حسبي من الرياض هذه الزهرات، ومن النسائم تلك النفحات. خطوت الخطوات الأولى من سياحتي في هذا الكتاب فرأيتني واقفا تحت نافذة قصر اللوفر في باريس, ورأيت الناس

وقوفا في ذلك الميدان الفسيح وقد ماج بعضهم في بعض، حتى ضاقت بهم رقعة الأرض، ورأيتهم يمدون أعناقهم إلى تلك النافذة وينظرون إليها نظر المنجم في الأسطرلاب، ويرقبون منها ما يرقب الروض من غادية السحاب، وإنهم لكذلك وإذا نابليون الأول قد أطل من نافذة قصره كما يطل البدر من وراء الأفق يحمل بين يديه طفله الصغير كما يسميه الناس وملك روما كما يسميه أبوه, فضج الناس لمطلعه ضجيجا ملأ مسمع الخافقين، وابتسموا لمرآه ابتساما أضاء ما بين المشرقين والمغربين، وهنا سمعت الشاعر الكبير1 يخاطب ذلك الملك العظيم بصوت يشبه صوت البحر الزاخر قائلا له: رويدا أيها الرجل المغرور بالتاج والسرير، والملك الكبير، والجيش الخاضع، والشعب الطائع، أنت تقدّر لطفلك في مستقبل الأيام ملكا كملكك، ومجدا كمجدك، وعزا وسلطانا كعزك وسلطانك، غير عالم بما تكتمه ضمائر الأيام، من الحوادث العظام، والخطوب الجسام، هل أخذت على الأيام عهدا لنفسك فتأخذه لولدك؟ وهل وثقت بما في يدك فتثق بما في يد غيرك؟ أيها الملك المغرور، إنك ستفارق عما قليل هذا القصر الكبير،

_ 1 فيكتور هيجو.

إلى ذلك الكوخ الحقير، وسيحيط بك الجند في منفاك إحاطة الإخضاع والإذلال لا إحاطة الإعظام والإجلال، وسيموت ولدك محروما هذا العرش الذي هيأته له بل محروما بضعة أشبار من تربة فرنسا يضطجع فيها ضجعة الموت. أيها الملك المغرور، لا تقل: إن المستقبل لي فإنما المستقبل لله، تركت هذا الموقف الفخم الجليل وقد امتلأت نفسي عبرة بمصائر الأيام، ومصارع الكرام، وتقلبات الدهور ما بين رفع وخفض، وإبرام ونقض، ومشيت حتى وصلت إلى برية جرداء، ودوية قفراء، لا يطرقها إنسان، ولا يدب بها حيوان، فلمحت على البعد رجلا يمشي عى شاطئ بحر فوق أرض رملية يخدع ظاهرها، ويقتل باطنها، ويدب الماء في أحشائها دبيب الصهباء في الأعضاء، ويكمن في صدرها كمون الأسرار في صدور الأقدار. فما هي إلا بضع خطوات حتى رأيت الرجل المسكين, وقد غاصت قدماه في الرمل فحاول نزعهما فغاص إلى ركبتيه, فتحلحل فغاص إلى صدره، وما زال يساعد على نفسه بمنازعته ومحاولته حتى لم يبق له فوق الأرض غير فم يصرخ بالنداء، وعين

تذرف بالبكاء، ثم ما لبثا أن غطاهما الرمل فرفع يديه بالدعاء، فلم يجد من رحمة في الأرض ولا في السماء. وقفت بين يدي هذا المشهد المؤثر المحزن وقفة أرسلتُ فيها قطرات من الدموع على هذا البائس المسكين, وقلت في نفسي: إنني قد عجزت عن إسعاده في نكبته، ومعونته في شدته, فلا أقل من أن أسعده بقليل من الزفرات, ووشل من العبرات. ثم فارقته ومشيت حتى بلغت منزل الشاعر لامارتين, فرأيته جالسا في غرفته وليس معه في منزله من يؤنسه غير كلبه, فسمعته يخاطبه ويقول له: أيها الكلب الأمين، قد هجرني الناس وبقيتَ بجانبي، وخانني الأصدقاء ووفيت لي، فأنت في نظري أوفى الأوفياء، وأصدق الأصدقاء، ولولا أنك كريم الأخلاق متواضع تأبى إلا أن تعرف لسيدك منزلته من السيادة عليك وتحفظ له فضل ما أسدى من النعمة إليك لأكبرت جلستك هذه عند عتبة الباب ولأجلستك بجانبي؛ لأنك صديقي ومؤنسي، ولأنك أحق بالإكرام من كثير من أولئك الذين يفترشون الطنافس ويتوسدون الوسائد، حسبي منك نظراتك التي تنظر بها إليَّ بود وإخلاص وكأنني أشعر حينما أراك تحدِّق بي أنك تفتش عن سريرتي في أسرَّتي، وتقرأ في صفحة

وجهي ما غاب عنك من دخيلة أمري، وكأنني أسمعك تقول: ما باله وما شأنه؟ وما الذي يحزنه وما الذي يبكيه؟ حسبي منك ذلك، وهل يجد الإنسان من أوفى أصدقائه أكثر مما أجده في لفتاتك وألمحه في نظراتك من الاهتمام بأمري والعناية بشأني والحزن لحزني والبكاء لبكائي؟ سمعت لامارتين يناجي كلبه بهذا النجاء الرقيق, فانسللت وذهبت لشأني وأنا أقول في نفسي: إذا كان لامارتين وهو أشعر شاعر في فرنسا وفرنسا مهبط وحي الشعر, لم يجد له صديقا وفيا غير كلبه المقعى على عتبة غرفته, فأين يذهب سائر الشعراء, ومتى يجدون الأصدقاء؟ تركت منزل لامارتين وذهبت إلى منزل دي موسيه, فرأيته معتزلا في غرفة من غرف منزله يبكي بكاء مرا ويزفر زفيرا تكاد تتقطع له أحشاؤه فقلت: ليت شعري ما أبكاه، وما الذي دهاه، فسمعته يترنم بقصيدة من قصائده يشرح فيها تاريخ وجده, وهواه شرحا مؤثرا مؤلما حتى خيل إلي أن كل بيت من أبياتها جذوة نار ملتهبة وسمعته يشكو فيها من خيانة حبيبته "جورج صاند" ويعالج نفسه على أن يسلوها ويتناسى عهدها وذمامها فلا يجد إلى ذلك سبيلا، وما هو إلا أن أتم قصيدته حتى تغير لونه وشخص

بصره واضطرب اضطراب الأغصان اليابسة، بين أيدي الرياح العاصفة، ثم أخذ يهذي هذيان المحموم ويخلط في كلامه خلطا شديدا, فعلمت أن الرجل قد جُنّ وأن العالم الشعري قد فُجع فيه، فمضيت لسبيلي وأنا أسأل الله العافية وأقول: إن جمال المرأة أحقر من أن يقتل أوفر عقل وأعجز من أن يطفئ أكبر قريحة, ولكنها الأقدار تجري بحكمها علينا, وأمر الغيب سر محجب. تركت منزل دي موسيه ومشيت في شارع من شوارع باريس, فرأيت شيخا رث الثياب زري الهيئة يمشي مشية هادئة مطمئنة ويجر في رجليه نعلا بالية قد أطلت أصابعه من خروقها كما تطل الحيات من أحجارها, فأتبعته نظري فرأيته لا يرفع طرفه سكونا وإطراقا ولا يحرك عضوا من أعضائه رزانة ووقارا, فقلت في نفسي: إن لهذا الرجل شأنا فمشيت وراءه حتى رأيته قد وقف على باب حانوت إسكاف فلم يجد صاحب الحانوت في مكانه فجلس على الأرض ينتظره حتى يعود فيخصف له نعله, فسألت بعض المارة عنه فقال: هذا "كورني" شاعر فرنسا, فأخذتني الدهشة وملكني العجب حتى كاد يحول بيني وبين عقلي, فقلت في نفسي: ويح لكم معشر الناس، أتضنون بقطعة من الجلد الأسمر على رجل يقلد أعناقكم الدر والجوهر؟! أعجزتم عن أن تجمعوا أمركم على أن تمسحوا هذه

الغصون عن تلك الجبهة التي تجود عليكم كل يوم بما يفرج كربتكم، وينعش نفوسكم، ثم رجعت أدراجي وأنا أقول: كأن قضاء حتما على الدهر ألا ينيل هؤلاء الأدباء من دهرهم ما يريدون، ولا يمنحهم من العيش ما يشتهون. إن في جلسة لامارتين منفردا في منزله لا مؤنس له غير كلبه, وفي عزلة دي موسيه في غرفته وخلوته ببكائه ونحيبه, وفي ضجعة كورني أمام حانوت الإسكاف لآية للمتفكرين، وعبرة للمعتبرين. الآن عدت من سياحتي في ذلك الكتاب أشكر للكاتب ما كتب, وللمترجم ما ترجم وأقول: من لي في كل يوم بسياحة مثل هذه السياحة في كتاب مثل هذا الكتاب؟

دمعة على الأدب

دمعة على الأدب: مات بالأمس إمام الشعر البارودي, وإمام النثر محمد عبده فجزعنا ما جزعنا، وسكبنا عليهما من الدموع ما سكبنا، ثم كفكفنا من تلك الدموع، وخفّضنا من زفرات الضلوع، حينما سمعنا قول القائل: إن في الباقي عزاء عن الفاني، وإن في الأبناء خلفا من الآباء، ولقد كر على عهدهما الشهر بعد الشهر، والدهر أثر الدهر، والأدب جاثٍ في مكمنه جاثم، لم يبعث من مرقده بعدما قبرناه، ولم ينشر من قبره بعدما واريناه، فتساءلنا: أين الباقي الذين يزعمون، والخلف الذين يذكرون؟ أين فطاحل اللغة الأدبية لا السياسية، وأرباب الأقلام العربية لا الأعجمية؟! عذرنا المويلحي الكبير واليازجي؛ لأنهما ماتا ولحقا بصاحبيهما, فهل مات شوقي وحافظ والبكري والمويلحي الصغير؟! ما مات منهم أحد، وإنما كانت حياة الرجلين حياة الصناعتين, وكان لوجودهما سر من الأسرار ينبعث في الألسنة فيطلقها،

والأقلام فيجريها، وكانت منزلتهما من الأحياء منزلة الأم من مصابيح الكهرباء، تشتعل المصابيح بتيارها، وتضيء بأسرارها، فإذا فرغت مادتها وانقضى أجلها عم الظلام واشتد الحلك، والمصابيح كما هي جسم بلا روح، ولفظ بلا معنى. أما شوقي فقد طار في جو غير هذا الجو، وهام في وادٍ غير ذلك الوادي، وما زالت تعبث به الأنواء، حتى أغرقته فى شبر من الماء، وأما حافظ فقد انقضت حياته النثرية قبل انقضاء البؤساء1.أما حياته الشعرية فلم يبق منها غير نظم المقالات السياسية من العام إلى العام، وأين هذه القيثارة البسيطة ذات اللحن الواحد من ذلك العود الأجوف الرنان الذي كنا نسمع منه مختلف الألحان، وأفانين الأشجان، وأما البكري والمويلحي فقد قضيا حق التأليف هذا بصهاريجه2 وذاك بفتراته3 ثم لحقا بالسابقين، ومضيا على أثر الماضين: أين سكانك لا أين لهم ... أحجازا أوطنوها أم شآما أين الروضة الغناء التي كنا نتفيأ ظلالها، ونصهر أغصانها، ونقطف ما شئنا من ورودها ورياحينها؟ وأين البلابل التي كانت

_ 1 هو كتاب لفيكتور هيجو الشاعر الفرنسي, ترجمه حافظ إبراهيم ترجمة فصيحة ولم يتمه. 2 هو كتاب صهاريج اللؤلؤ للسيد البكري. 3 هو كتاب فترة من الزمن المسمي عيسى بن هشام لمحمد المويلحي.

تتنقل بين أشجارها فتطرب بالأغاريد، وتستهوي بالأناشيد: فاسألْنها واجعل بكاك جوابا ... تجد الدمع سائلا ومجيبا أنا لا أعجب لشيء عجبي لهولاء الأدباء؛ يحزنون فلا يبكون، ويطربون فلا يضحكون، ويتألمون بلا أنين، ويعشقون بغير حنين. أيطرب البلبل فيغرد, ويشجى الحمام فينوح, ويطرب الشاعر ويشجى الكاتب فلا ينطق لسانهما, ولا يهتز قلمهما؟ لما أسن عمر بن أبي ربيعة ورأى أن الغزل والتصابي غير لائق بشيبه ووقاره عزم على هجره فما استطاع إلى ذلك سبيلا, وغُلب على أمره كما يغلب المرء على غرائزه وسجاياه، فاحتال لذلك بأن حلف ألا يقول بيتا من الشعر إلا أعتق رقبة, فشكا إليه رجل حبا برح به, فحن واهتاج ونظم أبياتا في شأن الرجل ووجده, ثم أعتق عن كل بيت رقبة. فهل نذر أدباؤنا ما نذر عمر بن أبي ربيعة وهم في شرخ الشباب وإبان الفتوة؟ إن كانوا فعلوا ذلك فأسأل الله لهم قصة كقصة عمر تهيج أشجانهم فتحنث أيمانهم، والأمة كفيلة لهم بوفاء النذور وكفارات الأيمان: وذو الشوق القديم وإن تعزى ... مشوق حين يلقى العاشقينا

الصحافة

الصحافة: يا صاحب النظرات: أنا عامل من العمال في دائرة من دوائر الحكومة أتناول منها في كل شهر عشرة ذهبا، وقد أشار علي بعض الذين يعتقدون أنني صاحب قلم أن أستقيل من ذلك العمل وأشتغل بالصحافة، وحجتهم في ذلك أن الصحافي يخدم أمته أكثر مما يخدمها غيره، وأنه يربح من المال أكثر مما يربح سواه، وقد أوشكت أن أصغي لقولهم وأعمل برأيهم, فماذا ترى؟ أشر علي برأيك؛ فقد أصبحت أعتقد أنك أعقل الكتاب وأكثرهم إخلاصا, والسلام، موظف. أيها الرجل لا تفعل؛ فإنك إن فعلت خسرت ماضيك من حيث لا ينفعك مستقبلك، فاحذر أن يخدعك عنك خادع واربأ بنفسك أن تكون من الجاهلين. إنك لن تستطيع أن تكون صحافيا رابحا إلا إذا كنت

صحافيا كاذبا، فإن كانت منزلة الأخلاق عندك دون منزلة المال فامض لشأنك. أنت في مستقبل أمرك بين اثنتين؛ إما أن تكون صاحب الصحيفة أو أحد المحررين فيها. فإن كنت الأول فأنت بين خاصة لا يرضيهم إلا أن تصعد عندهم، وعامة لا يعجبهم إلا أن تهبط إليهم، فإن صعدت إلى الأولين هلكت؛ لأن الخاصة هم الأقلون عددا والأقلون مالا، وإن نزلت إلى الآخرين خسرت؛ لأن العامة يبغضون الحقيقة ويبغضون لأجلها المحقين، وإن وقفت في منزلة بينهما سخط الفريقان عليك وارتابا بك، وأقسما جهد أيمانهما أنك من المرائين المتقلبين، وإن كنت الثاني فسيبتليك الله برئيس يحرج صدرك بمقترحاته، ويجرح قلبك بمؤاخذاته، ويطلب عندك من الرأي والفهم والأسلوب والنسق ما عند نفسه، وهيهات أن يجد عندك ما يريد منك إلا إذا صح مذهب التقمص واستطاعت نفس كل منكما أن تتسرب في أطواء صاحبتها, وتتلاشى فيها. ذلك إلى ما يرزؤك به كل يوم من الوقوف بينك وبين عقلك، فيستكتبك ما يريد، ويحول بينك وبين ما تريد، فكأنما يعمد إلى عقلك وهو أثمن من الجوهر فيبتاعه منك بلقيمات

لا تكاد تقيم بها صلبك، وكأنما إدارة الجريدة التي تعمل فيها آلة ميكانيكية أنت فيه عمود يدور اضطرارا، لا إنسان يتحرك اختيارا. إن هؤلاء الكاتبين الذين تراهم جلوسا على مقاعدهم في إدارات الجرائد المصرية أسوأ الناس حظا وأعظمهم شقاء، يكتب أحدهم في الصباح ما يستحيي له في المساء, ويقول في المساء ما يكتب غيره في الصباح، ويظل طول حياته كرة تتلقفها الأحزاب في أنديتها، والجرائد في إداراتها، ولقد يكتب أحدهم الرسالة يذيب فيها دماغه ويريق فيها عصارة مخه حتى إذا استوت له, وظن أن قد بلغ من الإحسان غايته رفعها إلى رئيسه فما هو إلا أن يقرأها ويرى فيها مدح من لا يحب, أو نقد ما لا يكره حتى يرمي بها وجهه ويردها عليه رد المبتاع على البائع سلعته فيعود بها باكيا مستعبرا، ولا يعلم إلا الله ما يلم بقلبه في تلك الساعة من الحزن على حياة كلها نفاق ورياء، وذل وضرع، يتلمس فيها عقله فلا يجده؛ لأن الصحافة قد ملكته عليه وسلبته إياه، ويسائل عن فهمه وإدراكه فلا يهتدي إليهما ولا يعرف لهما وجودا خاصا بهما؛ لأنه أصبح لا ينطق إلا بلسان غيره، ولا يكتب إلا بقلم سواه. لولا أن الله سبحانه وتعالى صنع لهؤلاء المحررين فرحمهم بتلك البساطة التي أودعها عقول السواد الأعظم من هذه الأمة

لما وجدوا في الناس من يسمع لهم قولا, أو يعتمد لهم رأيا. من ذا الذي يحفل بفكرة يعلم أنها لم تخالط قلب الكاتب ولم تمتزج بأجزاء نفسه ولم تلتئم مع ما يعرف له من أخلاقه وطباعه وميوله وأهوائه، وما هي إلا طريدة من طرائد الحاجات، وصنيعة من صنائع الحوادث، تعرض ثم تزول كما تعرض وتزول نقائضها وأضدادها، كالأمواج يأخذ بعضها برقاب بعض وتحل أخراها محل أولاها. من ذا الذي يحفل بفكرة كاتب يحرر في المؤيد اليوم فينتقد اللواء وكاتبه، ويحرر في اللواء غدا فيذم المؤيد وصاحبه، حتى إذا صار إلى "الجريدة" ذم الجريدتين، واستهجن الخطتين. أنا لا ألوم المحررين على تقلبهم في المذاهب واضطرابهم في الآراء، ولا ألوم أصحاب الصحف على وقوفهم في حياتهم هذه المواقف التي ساقهم إليها العيش ونزولهم تلك المنازل التي ألقتهم فيها يد الحاجات، وإنما ألوم الأمة على استهانتها بأدبائها، واحتقارها لكتابها، وأنها لا تقيم من الوزن لحملة المحابر والأقلام ما تقيمه لحملة المزامير والعيدان، حتى إنك لترى الرجل الذي لا بأس بعقله ولبه وفهمه وإدراكه يسهل عليه أن يمنح مائة دينار لمغنٍّ واحد غنى له صوتا واحدا في ليلة واحدة, ولا يسهل عليه أن يمنح مائة

قرش لجمعية من جمعيات التأليف والنشر في كل عام، وتراه ينفق في العام على مسح نعاله عشرة دنانير ولا ينفق واحدا منها على مجموعة ثمينة مؤلفة من كتاب "التربية الاستقلالية" و"روح الاجتماع" و"البؤساء" و"سر تقدم الإنجليز" و"تحرير المرأة" و"عيسى بن هشام". إني أتمنى على الله الغنى لا لأني في حاجة إلى المال فقد رزقني الله منه ما لا يعنيني أن أطلب لنفسي من بعده مزيدا، بل لأجمع خمسة من كتّاب هذه الأمة وخمسة من شعرائها وعشرة من علمائها في منزل واحد وأسبغ عليهم وعلى عيالهم من نعمة العيش ونعمة المال ما تثلج به صدورهم وتطمئن به نفوسهم، ثم أقول لهم: دونكم هذه الأمة, فاكتبوا لها من الرسائل وانظموا لها من القريض وألفوا لها من الكتب ما تعلمون أنه يأخذ بضبعيها ويطير بها من قرارة الجهل إلى سماء العلم، وكونوا فيما تأخذون به أنفسكم أحرارا غير مقيدين، وطلقاء غير مأسورين، لا يزعجكم عن مكانكم مزعج، ولا يكدر صفاءكم مكدر، ولا يعجلكم عن أمركم معجل، ولا يصدنكم عن سبيلكم خوف من كساد بضاعتكم، أو حذر من هياج الجاهلين عليكم، ثم أعمد إلى نفثات أقلامهم فأنثرها على رءوس الناس نثرا من حيث لا أبتغي لها ثمنا وأطلب عليها أجرا غير ذلك الأجر الذي يدخره الله في دار جزائه لعباده الصالحين.

فليت شعري هل يمنحني الله طلبتي، أو يلهم قوما من الأغنياء فكرتي، فيتم للأمة على يد تلك الجمعية العلمية الأدبية الحرة في عملها, المستقلة برأيها في عشرة أعوام ما لا يتم لها على يد هؤلاء الصحافيين المقيدين, والمؤلفين المغلولين في عشرة أعوام: أمنية شُغفتْ روحي بها زمنا ... واليوم أحسبها أضغاث أحلام أيها السائل، لا تحسد حملة الأقلام على صناعتهم، ولا يغرنك ما ترى لهم في نظر الأمة أحيانا من مظاهر الإجلال والإعظام، وما يطرق آذانهم كل حين من أصوات التحبيذ والاستحسان، فإنما هي صورة ظاهرة لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا تقل: إنهم يخدمون الأمة, فلن يخدم الأمة مثل الغني عنها الذي لا يبالي بها رضيت أم سخطت، قامت أم قعدت، ولا تقل: إنهم يربحون، فإنما هم يستنبطون أرزاقهم من شق القلم، وشق القلم لا يجود بالرزق إلا إذا جادت الصخرة بالماء الزلال.

التماثيل

التماثيل: جاءني الكتاب الآتي من حضرة الكاتب الفاضل محرر جريدة ثمرات الفنون ببيروت, وقد ناشدني الله أن أنشره بنصه فلم أر بدا من تلبية طلبه, وها هو: سيدي المنشئ الفاضل: أحييك بتحية الإسلام، وأبثك الشكر والثناء على ما تزين به صدر المؤيد الأغر من أبكار الأفكار ونفائس الآثار، مما يتلقاه أبناء هذا الثغر بالارتياح والابتهاج حتى إننا حلينا جيد الثمرات، بعدة من هاتيك الدراري اللامعات، فجزاك الله عنا جزاء الخادم لأمته، المحب لوطنه، الغيور على دينه، وزادك همة ونشاطا في هذا السبيل سبيل الإصلاح والهداية. ما كتبت إليك هذه الكلمات بقصد الإدلال على فضلك, والاعتراف بخدمتك فإن نفثات قلمك تدل على أنك من ذوي الأخلاق الفاضلة والنفوس الكبيرة الذين لا تغرهم أمثال هذه الزخارف الباطلة, فضلا عن أنك غني بنفسك عن كل مدح وثناء

وإنما كتبت إليك لألفت نظرك الكريم إلى أمر كان له عندنا أثر سيئ في نفوس المسلمين قاطبة, وهو عزم المصريين على نصب تمثال لفقيد مصر مصطفى كامل باشا رحمه الله، كأن إخواننا المصريين أصبحوا أغنياء عن كل مشروع علمي أو أدبي أو اجتماعي فلم يبق بين أيديهم ما ينفقون فيه أموالهم إلا أمثال هذه المشاريع التافهة، أو كأنهم لا يعلمون أنها محرمة في دينهم دين الإسلام، أو كأنه صار من المحتم اللازم علينا أن نقلد الأوروبيين في كل ما يعملون, شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى "لو دخلوا -كما قال عليه الصلاة والسلام- جحر ضب لدخلناه" أو شربوا نخبا لشربناه، أو صنعوا صنما لصنعناه، كل ذلك يدل أصرح دلالة على أن الجمود ما برح مستحكما فينا؛ لأن التقليد الأعمى شأن العاجز الضعيف الذي لا يدري بماذا فاقه القوي القادر, فهو يقلده في جميع حركاته وسكناته ظنا منه أنها سر قوته وقدرته. لو أقام المصريون لكل عامل بينهم تمثالا لعادت مصر إلى عهدها الأول في زمن الفراعنة حيث في كل بقعة هيكل وتمثال، وظني أن لو كان المرحوم مصطفى كامل باشا حيا لما رضي عن مشروع كهذا يمس الأمة المصرية في وطنيتها ودينها. فناشدتك الله يا سيدي أن تنشر كلماتي هذه بنصها على

صفحات المؤيد الأغر, فإن اليراع عندنا مغلول، إلى درجة ألف معها الخمول، فلا حول ولا قوة إلا بالله, محرر ثمرات الفنون أحمد حسن طبارة هذا نص كتابه, وقد كتبت إليه الرد الآتي: حضرة الكاتب الفاضل: قرأت كتابك فهبت علي من بين سطوره نسمة شرقية تمر بي الساعات والأيام والأشهر والأعوام في مصر أترقب هبوبها, فلا أجد إليها سبيلا. كتبت إلي كلمة كان في استطاعتك أن تكتبها في جريدتك, ولكن حال بينك وبين ذلك ظن قام في نفسك أن اللسان في مصر أطلق منه في بيروت, وأنك واجد في بلدنا ما لا تجد في بلدك من حرية الفكر وسعة الصدر، وليتك تعلم يا سيدي أن كلمتك هذه لم يستطع أن ينطق بها في مصر غير رجلين، فكان نصيب أحدهما السب والآخر الضرب. ليتك تعلم ذلك فلا تبالغ في حسن ظنك بحرية الأقلام في مصر, فإنها حرية موهومة لا يغتر بها من يعرف حقيقة الحرية ومن يعتبرها بنتائجها وآثارها، لا بزخارفها وتهاويلها.

نعم لا توجد في مصر شكائم في أفواه الناطقين، ولا جوامع في أيدي الكاتبين، ولكن محكمة الرأي العام فيها محكمة وجدانية أكثر منها قانونية، فهي إما أن تبرئ المتهم فتعلو به إلى مدار الأفلاك، أو تدينه فتهوي به إلى مقر الأسماك. إن كثيرا من عقلاء الرجال في مصر يهابون التصريح بالحقائق التي يعلمون أنها نافعة لأمتهم أكثر مما يهاب الكتاب في سوريا الشكائم والأغلال؛ ذلك لأن الرأي العام هنا متهور في مذاهبه ومراميه, ظالم في أحكامه لم يخط إلى اليوم الخطوة الأولى في احترام الآراء وإجلال الأفكار وإنزالها المنازل التي تستحقها. إن منظر العقلاء في مصر منظر محزن مؤثر يبعث الرحمة، ويستمطر العبرة، إنهم يعالجون من العامة فوق ما يعالج طبيب البيمارستان من مرضاه، إنهم يعانون من مجاراة الجاهلين في جهالاتهم وكتمان الحقائق التي تغلي في صدورهم غليان الماء في المرجل ما يرنق صفاء العيش ويشوه وجه الحياة، إنهم في حيرة لا يجدون إلى الخلاص منها سبيلا، إن نطقوا بكلمة إصلاح في الدين سماهم الجاهلون كفارا، أو في السياسة سموهم خونة، وإن سكتوا أغضبوا الله وأغضبوا الحق، فهم بين هذا وذاك كهارب من سبع مفترس لم يجد أمامه إلا الماء، فالهلاك إن أحجم، والغرق إن أقدم.

ربما تقول: إن الصحافة في مصر تملك زمام الرأي العام, فكيف تعجز عن حبس تياره وكسر شرته وقيادته إلى رشده وهداه؟ والجواب على ذلك أن الصحافة المصرية ناقصة نقصا كبيرا, مشتملة على عيوب ورذائل لو تجردت منها لبلغت الغاية التي تريدها من تعليم الشعب وتهذيبه وتقويم المعوج من ميوله ومذاهبه. الكتاب في مصر ثلاثة: جاهل لا يميز بين ما ينفع أمته وما يضرها، وعاقل يهاب مصادرة الرأي العام في مألوفاته ومعهوداته، فيسكت مغلوبا على أمره، ومنافق يعرف الحقيقة ويعبث بها، فمن أي واحد من هؤلاء الثلاثة تستفيد الأمة رشدها وهداها؟! وأكبر هؤلاء الثلاثة جرما، وأشدهم ضررا، وأسوؤهم أثرا، ذلك الكاتب المنافق الذي هو أشبه شيء بالنائحة التي تسدل على وجهها نقابا تتباكى من ورائه لتستبكي اللواتي يردن البكاء من النساء، وما في جفنها -يعلم الله- قطرة من الدمع، ولا في قلبها لاعج من الحزن، ولكن هكذا قدر لها أن يجري رزقها من بين العبرات والزفرات، وإن شئت فقل: إنه كشاعر القهوات يسرد على السامعين قصص الوقائع والحروب بين الأبطال الخياليين حتى يثير عواطفهم، ويهيج أحقادهم، فإذا قسمهم على أنفسهم وضرب

بعضهم ببعض خلص من بينهم إلى منزله فرحا مغتبطا برنين الدراهم في كيسه, وقد ترك وراءه أولئك البسطاء أسرى الهموم والأحزان، قتلى الضغائن والأحقاد. الكاتب العاقل يخدم عواطف الأمة بتنميتها وتهذيبها وتحويل تيارها إلى الخطة المثلى، أما الكاتب المنافق فإنه يستخدمها لنفسه وإن أفسدها على أصحابها. ولقد دخلت مرة على بعض الكتاب فعتبت عليه أنه يكتب غير ما يعتقد ويقول غير ما يعلم، وقلت: إن خطتك هذه مضرة بالأمة التي أنت أحد قادتها، وإنك قد سلكت في مذهبك هذا سبيلا ما كنا نعرفه لك قبل اليوم، فقد عهدناك تصدع بالحق لا تبالي أغضب الناس أم رضوا، وتجهر به وإن لم تجد أذنا واعية أو صدرا رحيبا، فأطرق طويلا ثم رفع رأسه وأحسب أني رأيت قطرة من الدمع تترقرق في عينيه وقال: والله ما سلكت هذا السبيل وأنا أعلم أن فيه رضى الله أو رضى الحق, ولكني امرؤ لا أعرف لنفسي صناعة غير صناعة القلم, قبحها الله وقبح كل ما تأتي به, وكنت أحسبني أستطيع أن أجمع فيها بين شرف النفس ورغد العيش فخاب ما أملت، إذ رأيت نفسي كسفينة ماخرة في بحر زاخر من شعب قاصر يطلب مني ما يلذه لا ما يفيده، ويتقاضاني

ما يعجبه لا ما ينفعه، فطفقت أرتئي بين أن أرضي الحقيقة فأهلك جوعا أو أرضي الأمة فأعيش سعيدا، فغلبني حب الحياة على أمري، فلم أر بدا من الدخول على الأمة من ذينك البابين المعروفين؛ باب الوطنية وباب الدين، فاصطنعتهما لنفسي بعدما كنت أصطنع نفسي لهما، فرغد عيشي وحسن حالي وأصبحت لا يكدر علي صفائي غير الأسف على الحقيقة الضائعة. هذه الأمة المصرية أيها الكاتب الفاضل، وهذه صحافتها، وهذا مبلغ الرأي العام فيها، وهذا موقف العقلاء بين يديه، فهل تظن بعد ذلك أن كاتبا يستطيع أن يقول للأمة ما لا تهوى، أو يجرؤ على التصريح بحقيقة يعتقدها بين هذا الشعب الهائج, وتلك الصحافة المتملقة. إن كثيرا من عقلاء مصر ينكرون كما تنكر أنت نصب تمثال للمرحوم مصطفى كامل باشا لا لصفته الشخصية, فإنه ممن يستحقون الإجلال والإعظام، بل لأنه مسلم شرقي، والأمة التي تريد نصب تمثال له مسلمة شرقية كذلك، فإسلامها يحرم عليها نصب التماثيل وشرقيتها تنعَى عليها هذا الإسفاف في تقليد الغربيين في جميع عاداتهم ومألوفاتهم, بينما هم يترفعون على الاعتراف باستحسان شيء من عاداتنا وصفاتنا, فضلا عن الأخذ بها أو محاكاتها،

إن نصب الغربيين التماثيل لنوابغ الرجال فلسفة تاريخية أرادوا بها تمثيل التاريخ اليوناني القديم, وإنزال عظمائهم ونوابغهم منزلة الآلهة وأنصاف الآلهة في ذلك التاريخ، أي: إنها عادة منحوتة من الديانات الوثنية، فهل يجمل بنا معشر المسلمين أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- هادم الأصنام وكاسر الأوثان، أن نحفل بعادة هذا منشؤها وتلك غايتها، وأن نستقبل بصدر رحب نصب التماثيل في بلد هي بقعة الإسلام، وباب البيت الحرام، ومعهد الأزهر الشريف، ومدفن الصحابة والتابعين والأئمة المطهرين. أيجمل بنا أن نتخذ هذه العادات الوثنية في عصر ندعو فيه إلى الإصلاح الإسلامي ونحارب العوائد الخرافية الداخلة في الدين لنرجع به إلى عصره الأول عصر السلف الصالح حيث لا يصلح آخره إلا بما صلح به أوله؟! على أنه إن كان الغرض من نصب التمثال للرجل العظيم تخليد ذكره واستبقاء صورته مرتسمة في أذهان الأجيال المستقبلة حتى لا تنساه, فإن جميع رجال الإسلام من علماء الدين إلى علماء الفنون لا تزال محفوظة بين الجوانح مآثرهم ومفاخرهم، مذكورة على الألسنة أسماؤهم وألقابهم، ولا نعرف لواحد منهم صورة مرسومة أو تمثالا قائما.

إن كان في أعمال الرجل وآثاره ما يضمن له بقاء ذكره في صدور الأجيال ومستقبل القرون فلا حاجة به إلى تمثال يخلد ذكره، أو لا، فمن المغالطة التاريخية الاحتيال على بقاء ذكره بنصب تمثاله. إن المسلمين لم يألفوا قبل اليوم أن يعتبروا نصب التمثال للرجل عنوان عظمته أو جائزة أدبية يكافأ بها على عمله، أي: إنه لا يوجد فيهم من إذا رأى تمثالا قائما يقول: ليتني أنفع أمتي أو أخدم وطني فينصب لي بعد موتي تمثال كهذا التمثال، فإذًا لا يمكن أن يكون نصب التماثيل في البلاد الإسلامية داعية الجد والاجتهاد في الأعمال، أو باعثا على التشبه بعظماء الرجال. إن للرجل العظيم بعد موته جلالا في القلوب لا يذهب به إلا نصب تمثاله على قارعة الطريق تحت نظرات الرجال والنساء والأطفال والأذكياء والأغبياء ومن يعرف قيمة الرجال ومن يجهل فائدة التمثال ومن لا يرى فرقا بينه وبين الصور الخشبية المنصوبة في حوانيت التجار. وغاية ما يستنتجه السواد الأعظم عند رؤية تمثال لأحد عظماء الرجال معرفة صورته الظاهرية, وأنه طويل أو قصير ونحيف أو بدين، وهي اعتبارات لا يعتد بها في رجولة الرجل ولا علاقة بينها وبين علمه وجهله، وذكائه وغباوته، وجبنه وشجاعته، وإنما

تظهر رجولة الرجل واضحة مفهومة حتى للبلداء والأغبياء في ثمرات عقله، ونتائج أعماله، وفي مكرمة يخلدها، أو مدرسة يشيدها, أو كتب يؤلفها, أو عقول يثقفها. هذه أيها الأخ الفاضل آراء كثير من عقلاء المسلمين في مصر, يتحدثون بها في مجالسهم ولا ينشرونها في الصحف مخافة أن تلتصق بهم تهمة الخيانة للوطن, وهي الكلمة التي يتسلح بها الكتاب المنافقون في مصر ليحاربوا بها كل من خالفهم في رأيهم أو نازعهم حرفتهم كما كان يصنع رجال الأكليروس في العصور الوسطى في استخدام تهمة الكفر للفتك بأعدائهم والانتقام من خصومهم, والله أعلم بالخيانة أين مكانها, وفي أي قلب مستقرها. أحسن أثر يقام لفقيد الوطن أن تنشأ باسمه مدرسة تربي فيها الناشئة الحديثة تحت رعاية الحزب الوطني على ما كان يحب الفقيد أن يكون عليه النشء الحديث في المعارف والأخلاق والآداب الدينية والمذاهب الوطنية, وينتخب لها معلمون متدينون مخلصون لله والوطن يستطيعون أن يقدموا للأمة في كل عام رجالا يكون كل واحد منهم صورة حية من صورة الفقيد, وتمثالا أنفع من تماثيل البرنز والأحجار. هذا ما أراه أكتبه إليك, وأملي ضعيف أن يحقق الله رجائي فيه، ولكنها الحقيقة لا بد من الجهر بها والسلام عليك ورحمة الله.

مدرسة الغرام

مدرسة الغرام: كنت لا أسأل الله تعالى إلا تقدم هذه الأمة وارتقاءها وبلوغها في المدنية مبلغا يؤهلها لمجاراة الأمم الغربية في عظمتها وسلطانها, فأصبحت أسأله ألا يستجيب دعائي وألا ينيلها من تلك المدنية فوق ما أنالها. أصبحت أعتقد أن مفاسد الأخلاق والمدنية الغربية شيئان متلازمان، وأخوان متحابان، لا افتراق لأحدهما عن صاحبه إلا إذا افترقت نشوة الخمر عن مرارتها، فكيف أتمناها لأمة هي أعز علي من نفسي التي بين جنبي. قرأت حوادث الانتحار في الغرب فقلت: قوم ضعفت قلوبهم عن احتمال حوادث الدهر وأرزائه, فلم يستطيعوا الوقوف بين يديها وقفة الشجاع المستقتل, ففروا من وجهه إلى حيث يجدون الراحة الدائمة في كسور القبور، وما أكثر الجبناء في مواقف الحروب. قرأت حوادث المبارزة هناك فقلت: قوم عجزت يد المدنية الحاضرة أن تستل من بين جنوبهم ما كانوا يعتقدونه في عهد الهمجية

الماضية من أن العرض إناء إذا ألم به القذى لا يغسله إلا الدم المسفوح، وكثيرا ما أوردت العقائد النفوس موارد الحتوف. قرأت حوادث عشاق الموتى الذين يتسللون تحت ستار الليل إلى المقابر فينبشونها عن رفات الفتيات المقبورات، شوقا إلى لثمة من خد يرشح صديده، أو رشفة من ثغر يتناثر دوده، حتى إنه ليروقهم من منظر الساكنات تحت الرجام، فوق ما يروقهم من منظر المقصورات في الخيام، وقرأت أن الحكومة طاردتهم عن أمنيتهم، وحالت بينهم وبين مواطن غرامهم ومعاهد عشقهم وهيامهم، فأرادوا أن يحتالوا على الإلمام بأولئك الموتى خيالا لما فاتهم الإلمام بهم حقيقة, فأنشئوا لأنفسهم تحت الأرض قاعة كبرى كسوا حيطانها بالأستار السوداء ووضعوا في وسطها صندوقا من صناديق الموتى تنام فيه فتاة حية تتصنع الموت باصفرار لونها، وإسبال جفونها، وسكون أعضائها، وتعليق أنفاسها، فإذا لج بأحدهم الشوق إلى قضاء حاجة من فتاة ميتة نزل إلى تلك القاعة السوداء وعالج مخيلته على أن يتصورها قبرا مظلما موحشا يضم بين أقطاره فتاة ميتة لا حراك بها, فيلم بها وهو يسمع نغمات الأحزان من قيثارة أعدت وراء القاعة لتجسيم ذلك الخيال. قرأت هذا, وقرأت أن من الناس ناسا في تلك الديار

تجاوزوا ذلك الحد إلى الغرام ببعض أنواع الحيوان, حتى إنهم نصبوا لأنفسهم مواخير خاصة يلمون فيها بالدجاج إلمام غيرهم بالنساء البغايا، فقلت: لا عجب في ذلك, وهل هو إلا فن من فنون الجنون التي لا يجد المرء إلى حصرها سبيلا. إن كنت أغتفر للمدنية الغربية كل ذنوبها, فإني لا أغتفر لها ذنبها في مدرسة الغرام التي أنشأها قوم من الأمريكيين في وسط مدينة من مدن أمريكا؛ ليعلموا فيها النساء والرجال فنون الحب والمغازلة جهرة من حيث لا يرون في ذلك بأسا, ولا يجدون فيه متلوما، وقد وضعوا لها هذا البرنامج الآتي: يوم الأحد-دروس استعدادية. يوم الاثنين-الغزل. يوم الثلاثاء-المطارحة. يوم الأربعاء-صناعة التقبيل والتجميش. يوم الخميس-فلسفة الدلال والتصبي. يوم الجمعة-انتقاء مواعيد اللقاء. يوم السبت-الامتحان. هذه هي المدرسة الغرامية وهذا نظامها, فهل سمعت في حياتك أن أمة من الأمم المتوحشة, التي يسمونها بالأمم البهيمية إشارة إلى ما بينها وبين البهائم من الشبه في حب الشهوات والاستهتار فيها,

بلغت في تهتكها وفساد أخلاقها مبلغ تلك الأمة التي يقولون عنها: إنها زهرة المدنية الحديثة, وتاجها المرصع. لماذا نسمي قبائل الزنوج قبائل متوحشة ونحن نعلم فيما نعلم من أخلاقهم أنهم لا يتركون عزابهم ينامون وسط البيوت مخافة أن يكون لهم سبيل إلى مخالطة النساء, فيأخذونهم جميعا إلى مكان خاص بهم خارج القرية يبيتون فيه فوق هضبة مرتفعة ينثرون حولها ترابا معبدا، حتى إذا أراد أحدهم أن يختلس من ظلام الليل غرة نم أثره عليه، كما نعلم أنهم يخيطون فروج العذارى من نسائهم حتى لا يحدث أحد من الرجال نفسه بقرع ذلك الباب إلا مالكه وصاحب الحق فيه، ولماذا نسمي الأمة الأمريكية أمة متمدينة وها هي تفتح المواخير باسم المدارس حتى لا تكون في نفس أحد من الناس غضاضة في دخولها والأخذ بنصيبه من لذائذها وشهواتها؟ إن كان توحش الأولين لإغراقهم في صون الأعراض, فالآخرون أكثر منهم توحشا لإغراقهم في هتكها وابتذالها، والإغراق في الخير خير من الإغراق في الشر. فيا أيها الزنجي المسكين، لقد ظلمك من سماك متوحشا, ويا أيها الأمريكي المتوحش لقد كذبك من سماك متمدينا.

أيها الزنجي الأسود، إن كنت أسود اللون فالفضيلة أشرف عنصرا من أن تتنزل لاعتبار السواد ذنبا تنفر منه وتأبى أن تأوي إليه، وإن كنت جاهلا فهل استفاد صاحبك من علمه إلا إمتاع نفسه بشهواتها ولذائذها والتفنن في فجور الحياة وفسوقها تفننا لا أحسبك تحن إليه، أو تتقطع نفسك حسرات عليه، وإن كنت عاريا فربما لبست من الفضيلة ثوبا يحسدك عليه لو يعقل ذاك الذي يفخر عليك بخزه وديباجه، ودمقسه وحريره: ولو بتما عند قدريكما ... لبت وأعلاكما الأسفل1

_ 1 أي: لو نزل كل منكما المنزلة التي يستحقها لأخذ الأعلى مكان الأسفل, والأسفل مكان الأعلى.

أمس واليوم

أمس واليوم: مثلنا ومثل آبائنا الأولين من قبل طلوع شمس هذا التمدين الحديث ومن بعده كمثل رجل ضل به طريقه في ليلة ليلاء غدافية الإهاب، حالكة الجلباب، قد تجسد ظلامها حتى كاد يلمس بالراح، فانقلب جوهرا بعد إذ هو عرض، فأصبح كأنما هو فحم سائل، أو مداد جامد، فأنشأ هذا الضال المسكين يخبط في ذلك الديجور ترفعه النجاد، وتخفضه الوهاد، لا يرى علما فيهتدي به، ولا يتنور نجما فيعتمد في سراه عليه. وإنه لكذلك وقد استوت في نظره الجهات الست؛ فسماؤه أرض وأرضه سماء، ووراءه أمام وأمامه وراء، وإذا بقرن الشمس قد نجم في جبهة الأفق وأفرغ في ناظره المملوء بالظلمة قطرات ملتهبة من ذائب أشعته المتلألئة فعشي بعد أن كان بصيرا، فما أغنى عنه ذلك الضياء شيئا، وما زال في ضلاله القديم إلا أن ذلك ضلال الظلام، وهذا ظلال الضياء، وهو شر الضلالين وأقتل الداءين، فإن ضلال الظلام يتخلله بريق الأمل في الضياء،

فأما وقد أصبح الدواء داء, فلا أمل في الشفاء: لو بغير الماء حلقي شرق ... كنت كالغصان بالماء اعتصاري ذلك مثلنا ومثل آبائنا من قبلنا بين يدي هذه المدنية الجديدة التي همى سيلها على هذا العالم الإنساني, فرأى الغرب تربة طيبة صالحة فسقاها فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، ورأى الشرق تربة صامتة متحجرة قد نجم فيها كثير من الأعشاب الضعيفة والجذور الفاسدة، فأما ما تحجر منها فلم تغن عنه السقيا شيئا، وأما ما اخضر وترعرع فقد نما فاسدا كأصله، وكان خيرا له لو ذهب ذلك الفيضان به وبجذوره. أي: إن المدنية الحديثة تمشت في صدر الغرب بقدم متثاقلة فما خفق لها قلبه ولا اضطرب، ثم وضعت يدها في أيدي الغربيين فصعدت بهم إلى سمائها خطوة خطوة كما يعود الطفل الصغير على المشي, وما أعجلتهم عن أمرهم كما أعجلتنا, فبلغوا ما أرادوا وهوينا إلى أعمق مما كنا كالحجر الثقيل يرمى به في الجو, فإذا ارتد ارتد إلى حفرة يدفن نفسه فيها. أي: إن الغربيين أحسوا فنهضوا فجدوا, فأثروا فتمتعوا بثمرات أعمالهم، ونحن أغفلنا جميع هذه المقدمات ووثبنا إلى الغابة وثبا فسقطنا.

فمهما كان نصيب آبائنا من الجهل وانفراج المسافة بينهم وبين هذه المدنية الحاضرة, فقد كانوا على علاتهم أسعد منا حالا وأروح بالا وأهنأ عيشا وأسد خطوات في سبل الحياة، وكانت المعيشة فيهم اجتماعية أكثر منها أفرادية، فكانت الأسرة الواحدة أشبه شيء بالمملكة الدستورية المنظمة يدبرها عقل واحد في جسوم كثيرة متفقة في الرأي والدين والمذهب والأخلاق والعادات، تجتمع حول المائدة كما تجتمع في نادي المسامرة, وتتلاقى في قاعة الصلاة كما تتلاقى في ساحة المتنزة، يحبون الله ولا يختلفون إلا في الطريق إلى رضاه، ويحبون الوطن ولا يختلفون إلا في الطريق إلى خدمته، ويحترمون عاداتهم وأخلاقهم ولغاتهم المكونة لهيئتهم الاجتماعية ويفرون من العادات والمشارب الغريبة عنهم فرارهم من الأسد مخافة أن يرق هذا الحاجز القائم بينهم وبين الأمم الأخرى, فتنحل جامعتهم فتهدأ حميتهم فتموت نفوسهم, فإذا هم ميتون ثم لا يبعثون. وكان بين الصغار في العائلة والكبار فيها معاهدة رحمة واحترام، يحترم الصغير الكبير فيكبر عمله وإرادته ومذهبه، فإذا أنزل نفسه منه هذه المنزلة أصبح بحكم الطبيعة مرآة له تنطبع فيها تلك الأعمال والإرادات والمشارب، حتى إذا أصبح الصغير كبيرا وجد

من صغيره ما وجد منه كبيره، فلا تزال سلسلة التوارث في العائلة متصلة اتصالا تعيا به الحوادث, وتكبو دونه عاديات الليالِ. ويرحم الكبير الصغير فلا يألوه نصحا في حاضره ومستقبله، ولا يفتأ يطلب عنده ما عند نفسه حتى يتم بينهما التناسخ فإذا هو هو حتى إذا قضى الله فيه قضاءه لا تفقد الأسرة بفقده شيئا. فمن لنا اليوم بتلك السعادة التي أثكلتنا إياها المدنية الغربية يوم أظلتنا بعلومها ومعارفها ومخترعاتها الحالية، وزخارفها اللامعة الباطلة، فانقلبت المعيشة البيتية الاجتماعية أفرادية محضة، فالأخوان متناكران، والزوجان متنافران، والولد شقي بأبيه، والابن شقي بولده، وكأن ساحة المنزل ساحة الحرب، لا ترى فيها غير وجوه مقطبة، ونفوس منقبضة، وأشلاء فوق أشلاء، ودماء أثر دماء، وشقاء ليس يعدله شقاء. ومن كان في شك من هذه الحقائق, فإني أكله إلى جداول القضايا في المحاكم, فإن لم ير أن أكثر المخاصمات فيها خصوصا المدنية منها واقعة بين الأقارب وذوي الرحم فله حكمه ما شاء. وإن أبيت إلا أن تتمثل لك الحقيقة بأكمل وجوهها فاسمع

قصة رجل مصري كان ذا ثروة متوسطة عاشرت آباءه أجيالا متعددة, فما كانت تضيق بهم وما كانوا يضيقون بها، وكان له ثلاثة أولاد و"امرأة جديدة" متعلمة تعرف كل شيء إلا واجباتها وواجبات منزلها وزوجها وأولادها، وليتها جهلت كل شيء غير هذا فتكون قد علمت كل شيء، وتحب مطالعة الروايات الغرامية حبا ملك عليها مشاعرها وخوالجها, فربما عرض لها المهم من الأمر فلا تخفّ له قبل فراغها من الفصل الذي تطالعه، وتحب التمثيل فتقضي ليلها في مشاهدته ونهارها في سرد وقائعه ومشاهده على أخدانها وأترابها, وربما كانت تهمس في آذانهن أن ليتها ترى "روميو" فتكون له "جوليت"1، وتبغض الحجاب بغض الحرائر للسفور, فيومها نصفان: نصف للخروج ونصف للتهيؤ له، فهي خارج المنزل من مطلع الشمس إلى مغربها، بنى بها زوجها بعد وفاة زوجه الأولى فلم يغتبط بها غير عام واحد ثم ضرب الدهر ضرباته, فإذا بينهما عيشة لا أظن أن الجحيم أشد نكالا منها. أما أولاده فأدخلهم مدارس مختلفة تعلموا فيها لغات مختلفة؛ الإنجليزية والفرنسية والألمانية، ثم تخرجوا, هذا إنجليزي بفظاظته وخشونته، وهذا فرنسي بخلاعته واستهتاره،

_ 1 روميو وجوليت اسما عاشق ومعشوق في إحدى الروايات الغرامية.

وذلك ألماني بخيلائه وكبريائه، وجميعهم متفرنجون مشربا ومذهبا, ومطعما وملبسا ومسكنا, وما فيهم من تفرنج همة وعملا. خرجوا من المدارس بلا دين ولا وطن، أما الدين فلأن أكثر مدارسنا حتى الأهلية منها مادية محضة, لا تعلق للدين بشأن من شئونها، والدين خُلق شأنه كبقية الأخلاق لا يرسخ في النفس إلا بتكرر الصور الدينية وتداولها عليه عهدا طويلا، فإن بعد عهدها به أغفلته وأنكرته، وكذلك كان شأن هؤلاء الأولاد المساكين؛ فقست قلوبهم وجمدت نفوسهم وفقدوا بفقد دينهم أطيب عزاء يستروحه الإنسان في هذه الحياة المملوءة بالمصائب الحافلة بالكوارث, والهموم. والإنسان مهما طال حوله وكثر طوله, واتسعت مذاهب قوته فليس ببالغ من هذا الدهر المعاند ما يريد لولا زهرة الأمل التي يتعهدها الدين بالسقيا في قلب المؤمن, فيستروح منها ما يروح عن قلبه ويسري عن نفسه, ويقينه أن هناك حولا أكبر من حوله، وطولا أعظم من طوله، وإلها قادرا يقرب إليه ما يريد مما ضاق به ذرعه، وقصرت عنه قوته. وأما الوطن؛ فلأن المدارس عندنا تديرها من وراء ستار أيدٍ أجنبية تربي التلاميد لها لا لأوطانهم.

فكنت ترى منزل الرجل كأنما هو مجمع من مجامع السفراء: عثماني متمسك بعثمانيته، وإنجليزي يهتف ليله ونهاره بأن دولة الإنجليز سيدة البحار وأن الشمس لا تغيب عن أملاكها، وفرنسي يعبد فرنسا ويسبح بحمدها ويصفها بأنها أمة العدل والرحمة وأن أسعد المستعمرات مستعمراتها، وألماني يستظهر خطب الإمبراطور غليوم وينجِّم أن المستقبل لألمانيا يوم يمحى اسم إنجلترا وفرنسا من مصورات الجغرافيا، وكثيرا ما يقع بين المتفرنس والمتألمن النزاع الطويل في شأن الألزاس واللورين وبين المتألمن والمتجلنز الشقاق العظيم في واقعة واترلو وأي القائدين كان له الغلب والفضل في كسر نابليون بلوخر أو والنجتون، ولا يتفقون إلا في الساعة التي يذكرون فيها أمتهم فإنهم يمثلونها لأنفسهم وللناس أقبح تمثيل, ويلبسونها ورجالها قديما وحديثا أثواب المرافع المضحكة غير مستحيين من أنفسهم ولا من الناس, ولا مبالين بالأدمع المنهلة من عيني والدهم الجالس ناحية يندبهم, ويندب نفسه معهم، فبئس الاختلاف حين يختلفون، ولا حبذا الاتفاق يوم يتفقون. وهكذا انحلت الجامعة في هذا المنزل وتفرق أفراد تلك العائلة أيما تفرق, وانقسموا على أنفسهم كل الانقسام, فلا يصطحبون في

متنزه ولا يجتمعون لصلاة ولا يتصافّون في سمر ولا يتفقون في شأن من شئونهم البيتية حتى أصبح لكل منهم من المأكل والمشرب والملبس وجميع مرافق الحياة ما يطالبه به خلقه المباين خلق أخيه أو أبيه. فأنى لهم التعاضد الذي كان لآبائهم من قبل في خوض غمرات الحياة؟ وأنى لوطنهم أن يسعد بهم بعد عجزهم عن إسعاد أنفسهم، والمنزل قوام الأمة تسعد بسعادته وتشقى بشقائه؟ وأي شأن لهذه المعلومات المتكثرة التي حشروها إلى أذهانهم؟ وهل أفادوا1 بها إلا هذرا في المنطق وثرثرة في اللسان وشغلا للأذهان لا يغني عن سعادة الحياة, وهنائها فتيلا؟ ولو عقلوا لعلموا أن المخترعات الحديثة والمكتشفات الجديدة والعلوم العصرية إنما هي خدم وحاشية بين يدي السعادة، والسعادة هي اللذة الباطنية التي يحس بها الإنسان عند أداء الواجب عليه لنفسه وعشيرته ووطنه ودينه، فما لم تكن مقدمة لهذه النتيجة كان وجودها أشبه شيء بالعدم. ولو عقلوا لعلموا أن الغربيين إنما يحفلون بجميع العلوم العصرية, حتى علوم الأخلاق والآداب والدين باعتبار أنها وسائل مادية

_ 1 أفادوا كاستفادوا.

يتوصل بها إلى تحصيل مرافق الحياة المحصلة لرفاهية العيش وسعادة الحال، ولا اعتبار عندهم لذواتها وأعيانها، فهم يعلمون للعمل ويخترعون للمتاجرة ويكتشفون للربح، ومن ظن غير ذلك فقد ضل ضلالا مبينا. ولو عقلوا لعلموا أن ذلك العلم القليل الذي كان يعلمه آباؤنا ونسميه نحن جهلا وهمجية هو خير من علمنا الكثير المستفيض الذي نساجلهم به, وننعي عليهم تاريخهم من أجله؛ لأنهم كانوا بقليلهم هذا يعملون ما نعجز عنه نحن بكثيرنا. أجل, إنهم كانوا يجهلون عدد أقسام الأرض وأن مصر في إفريقيا وسوريا في آسيا, ولكنهم كانوا يعلمون أن وطنهم حيثما حل من أقسام الأرض محبوب لديهم، وأن أبناء وطنهم إخوة لهم يسعدون معا ويشقون معا، وأن سعادتهم في استقلالهم وشقاءهم في امتداد اليد الأجنبية إليهم، وكانوا يجهلون الفرق بين المملكة والإمبراطورية والجمهورية، ولكنهم كانوا يعلمون أن صاحب الأمر فيهم كيفما كان لقبه يجب طاعته والالتفاف حوله للذود عنه وعن سلطته التي هي سلطتهم وقوتهم، وكانوا يعتقدون كثيرا من الخرافات والأوهام وأن هناك أرواحا خيرية وشرية تنفع وتضر, وكانوا يتمسحون بالمعابد والمشاهد ويذعنون لرؤساء

الأديان تحنثا وتعبدا، ورأيي أن دينا خرافيا وهميا خير من لا دين؛ لأن لهذه المعبودات الوهمية في نفوس المتعبدين لها سلطانا قاهرا على نفوسهم يقاوم أهواء الشر فيها, ويطهرها من كثير من الرذائل التي تعيا بها القوانين الشرعية والوضعية كالخيانة والكذب والحقد والحسد وسفك الدماء واغتيال الأموال, وغير ذلك من الشرور الإنسانية التي لا تنزجر النفس عنها ما لم يكن منها لها زاجر والتي فشت اليوم بين أكثر المتعلمين الذين أخذوا العلم مجردا عن التربية الصحيحة, كأكثر المتعلمين في مصر. ولقد كان آباؤنا على علاتهم يعتمدون في أكثر عقودهم من بيع وشراء وهبة وقرض ورهن على صدق ألسنتهم ووفاء قلوبهم, فكان الرجل يأمن أن يقرض صاحبه الآلاف المؤلفة من الذهب بلا كتابة صك ولا شهادة شاهد، فأصبحنا نكتب الصكوك ونستشهد الشهود على الدانق والسحتوت، والويل ثم الويل لصاحب الحق إذا ضاع صكه أو أنكر شهوده وكثيرا ما يفعلون. وجملة الحال أنهم كانوا يجهلون أكثر ما نعلم، ولكن لم يجن عليهم جهلهم أكثر مما جنى علينا علمنا، وكانوا محرومين أكثر ما ننعم به اليوم من مساكن زاخرة، ومراكب فاخرة،

وملابس زاهية، ومناظر زاهرة، وفرش وثيرة، وآنية صقيلة، وأدوات للمأكل والمشرب ثمينة، ولكنهم لم يكونوا محرومين في أنفسهم وفي خطرات عقولهم شيئا من هذا كله؛ لأنهم ألفوا معيشتهم البسيطة كما ألفنا نحن هذه المعيشة المركبة، فنحن وهم سواء في الرضى بحالتينا، إلا أن معيشتنا يكدرها الفقر والإفلاس الآجل أو العاجل، ومعيشتهم لم يكن يكدرها من ذلك شيء، وها هي دفاتر الصرف وبيوت الأموال مكتظة بديون الفلاحين التي كانوا في غنى عنها لولا المدنية الحاضرة التي قلبت الكماليات في نظرهم إلى حاجيات، فبنوا القصور، وشادوا الدور، وما شادوا لو يعلمون إلا قبورا دفنوا فيها راحتهم وهناءهم ومستقبلهم ومستقبل ذريتهم من بعدهم، فإن هؤلاء الأولاد المساكين بعد أن خرجوا من المدارس بلا دين, ولا وطن أرادوا أن لا يبقوا في قوس الحرية منزعا فأطلقوا لأنفسهم العنان في سبيل الشهوات واللذائذ, فكانوا يسهرون الليل بين رنين الكاسات، وغزل الغانيات، ثم ينامون النهار بين التمطي والثؤباء حتى نبت بهم وظائفهم التي هي كل ما حصلوا عليه من علومهم ومعارفهم فأبعدتهم عنها, فأصبحوا كلا على أبيهم وعلى الناس لم ينفعهم علمهم ولم تغن عنهم شهاداتهم بعد أن نفخت الكبرياء

في صدورهم, فأبوا أن يتنزلوا للاحتراف بما يقوم معاشهم كما يفعل أولئك القوم الذين أنضوا ركائب حياتهم في طريق تقليدهم, وباعوا في سوق التشبه بهم كل ما تملك أيمانهم وقلوبهم وبعد أن ملكت الشهوات قيادهم فما وجدوا في أنفسهم متسعا لسواها, فأغروا بثروة أبيهم يأخذون منها بالحق تارة وبالباطل تارات, وقد كانوا قلصوا ظلالها أولا بنفقات دراستهم وثانيا بابتياع ما حسن لفظه وقبح معناه من السلع الإفرنجية التي تفني خزائن روكفلر وروتشيلد, قبل الوصول إلى إشباع بطون تجارها فنضب معينها ولم يبق منها حتى الذماء1، فتبدل ذلك النعيم شقاء وتلك السعادة والرفاهية فقرا وعدما، أما الوالد فقضى شهيد العلوم والمعارف والمخترعات والمستحدثات، وأما الأولاد فاغتالت أحدهم يد الزهري وكانت لأمثاله من المغتالين، واحتوى الآخر فراش السل حيث لا زائر ولا طبيب، وافترش الثالث تراب السجن على أثر جناية دفعه إليها العوز والحاجة، وفرت المرأة الجديدة إلى معرض الأعراض حيث يبتاعها الشقاء بثمن بخس, وهو فيها من الزاهدين.

_ 1 الذماء: بقية النفس.

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر هذه قصة منزل من منازلنا وكل المنازل بيننا ذلك المنزل إلا ما رحم الله، فلو أن باكيا بكى على ما آلت عليه حالة هذه الأسرة الشقية فهو إنما يبكي أسرا متعددة وأمة كاملة: لقد لامني عند القبور على البكا ... رفيقي لتذراف الدموع السوافك فقلت له: إن الأسى يبعث الأسى ... دعوني فهذا كله قبر مالك1 وجملة القول أن للحاضر سيئات فوق سيئات الماضي فلا خير في العصرين، ولكن ويلا أخف من ويلين، والأمم لا تسعد بمعرفة الخير والشر، فالخير والشر معروفان حتى لأمة النمل، وإنما سعادتها في معرفة خير الخيرين وشر الشرين، ولئن دام هذا الحال واطرد المقياس فالغد شر من اليوم, كما كان اليوم شرا من الأمس.

_ 1 الأبيات لمتمم بن نويرة يرثي أخاه مالكا.

المرقص

المرقص: إن كان حقا ما يقولون من أن الكاتب لا يجمل به أن يصف مشهدا من المشاهد أو يحدث عن موقف من المواقف إلا إذا رآه بنفسه واضطلع به وأحاط علما بحقيقته, فقد أسقط في يدي وارتقيت في هذه النظرة مرتقى صعبا واستحال علي أن أكتب في هذا الموقف الذي أحاول الكتابة فيه سطرا واحدا؛ لأني لا أعرف من تقويم "الأزبكية" أكثر من أنها بقعة واقعة بين بساط الغبراء، وقبة السماء. ولولا أن الله أعانني بصديق من أصدقائي زار المرقص مرة واحدة في حياته, ووصف لي المشهد الآتي من مشاهده, لنفضت يدي منه نفض المودع يده من تراب الميت فرارا من تهكم المتهكمين، وسخرية الساخرين. حدث ذلك الصديق قال: ذهبت ذات ليلة إلى مرقص من مراقص الأزبكية, فرأيت على بابه جنديا يتمشى في عرصته مشية هادئة مطمئنة, فذعرت لمرآه وتراجعت قليلا قليلا وكدت أعتقد

أنني أخطأت الطريق إلى المرقص, وأنني بين يدي دار من دور الحكومة يحرسها حاجبها لولا أنني لم أر في وجوه الداخلين ذلك الخوف والاضطراب والذل والانكسار الذي اعتدت أن أراه في وجوه الشاكين والمتظلمين. ووقفت ساعة أتردد بين الإقدام والإحجام حتى لمس كتفي لامس فالتفت ورائي, فإذا صديق من أصدقائي يسألني: ما وقوفك ههنا؟ فقلت له ما قاله أبو العيناء لصاحبه حينما سأله عن سبب بكوره: "أراك تشاركني في الفعل وتفردني بالعجب"، قال: أنا أفتش عن ابن عمي، قلت: وأنا أفتش عنك، فابتسم ابتسامة المتهكم وقال: هيا بنا ندخل قبل أن تمتد سلسلة التفتيش إلى حيث لا تنتهي حلقاتها، وأمسك بيدي حتى جاز بي باب المرقص فسألته: ما هذا الجندي الواقف أمام الباب؟ قال: كيف ذهب عليك أن حكومتنا قد أصبحت اليوم حكومة مدنية مادية، لا أدبية ولا دينية، فتساوت في نظرها "المصالح" والمراقص, واختلط عليها الأمر بين مواقف القضاء ومعاهد البغاء، فأصبح الجندي يحمي أبواب العاهرات كما يحمي أبواب النظارات، ويقف أمام البارات موقفه أمام الإدارات؟! وإن العين لا تكاد تملك مدامعها سحا وتذرافا كلما أبصرت

هذا الجندي الشريف واقفا هذا الموقف الذليل يسمع قراع الدفوف لا قراع السيوف، ويرى حمرة الصهباء لا حمرة الدماء، ويحمي الفسق والفجور لا القلاع والثغور، وما أعجب لشيء عجبي لهذه الحكومة التي تضنّ بجنديها أن يشتمه شاتم أو يلمسه لامس فتغضب له غضبة مضرية تتراءى فيها الشهامة والحمية والعزة والنخوة, ثم لا تضن به أن تؤجره نائحة في الجنائز أو قوادا في المراقص، وهو هو بعينه الذي يمثلها في وقفاته، وينوب عنها في غدواته وروحاته! هذا ما كان يحدثني به ذلك الصديق وهو سائر بي إلى قاعة المرقص حتى وصلت إليها, فماذا رأيت؟ إن كنت لم تسمع في حياتك أن فدانا واحدا من الأرض يبتلع في جوفه ستة ملايين من الأفدنة فاعلم أنه المرقص الذي يأكل وحده جميع ما تنبته تربة مصر من الخيرات والبركات، فكأنه العين التي تسع الفضاء بأرضه وسمائه، أو القلب الذي يحمل في سويدائه علم ما كان وما يكون. رأيت الدنانير ذائبة في الكئوس، والعقول جامدة في الرءوس، والحبائل منصوبة لاستلاب الجيوب، والسهام مسددة لاصطياد القلوب، ورأيت من كنت أحسبه أوفر الناس عقلا

وأذكاهم قلبا ومن كنت أراه فأغضي بين يديه إجلالا وإكبارا واقعا في حبالة بغي تقيمه وتقعده، وتطويه وتنشره، وتعبث به عبث الطفلة بلعبتها، وهو في غير هذا المكان قيصر الروم عزة وفخارا، وكسرى فارس أنفة واستكبارا. رأيت من يزعم أن الله قد وهبه عقلا تخترق أشعته حجب الغيب, وعلما تتساوى أمامه المادة وما وراءها, ومن لا يزال يتمثل صبحه ومساءه بقول الشاعر: وعلمت حتى ما أسائل واحدا ... عن حرف واحدة لكي أزدادها يجهل بديهيا من البديهيات التي يشترك في فهمها الأذكياء والأغبياء، والعلماء والجهلاء. رأيته يجلس في المرقص فتمر به البغي فما هي إلا لمحة طرف, أو غمزة كف، حتى تحدثه نفسه أنه قد وقع من نفسها، وملأ فراغ قلبها، فيدعوها إليه فتجلس بجانبه فما هي إلا ابتسامة خالبة، وكلمة كاذبة، حتى يقسم بكل محرجة من الأيمان أن نفسه صادقة فيما حدثته، وأن الفتاة قد علقت بحبه علوقا لا نجاة لها من بعده إلى يوم يبعثون. هنالك يبذل لها ما تشاء من نفسه وشرفه وماله، ويرى أن ذلك قليل في جانب ما تبذل له من دقائق تقضيها بين يديه، وابتسامات تجود بها عليه.

لقد كذبتك نفسك أيها الرجل, فها هي المرآة بجانبك فهل ترى فيها منظرا رائعا، أو جمالا ساطعا، يأسر أقسى النساء قلبا، وأعصاهن عنانا؟ إن الفتاة التي أسمعتك كلمة الحب قد أسمعتها قبلك وستسمعها بعدك كل صاحب جيب مثل جيبك، وعقل مثل عقلك. إن كنت في شك مما أقول, فأمسك عن فتح الزجاجات لحظة قصيرة, ثم انظر بعد ذلك أين مكانك من نفسها، وموقعك من قلبها، فإن لم تمطر عليك سحائب اللعنات، وتجعلك غرضا لسهام التهكمات، فأنت أصدق الصادقين، وأنا أكذب الكاذبين. رأيت هنالك كل حاسة من الحواس قد لبست منظارا يكبر المنظورات، ويضاعف المسموعات، تغني المغنية بصوت مضطرب النغمات، بارد الترجيعات، ثقيل الحركات والسكنات، فتمتلئ أرجاء القاعة بالآهات، وتدوي فيها الصيحات المزعجات، وتطل العجوز الدردبيس على الناس بوجه مغضّن، وجفن مقرح، وسن بارز، وخد غائر، فتطير حولها القلوب، وتتحلب لها الأفواه، وتترامى تحت أقدامها الوجوه, فقلت في نفسي: أهذا هو المرقص الذي تخرب فيه البيوت العامرة، وتذبل فيه الرياض الزاهرة؟! أهذا هو الذي تتدفق فيه الأموال الغزار، تدفق الأنهار

في البحار، وتقبر فيه نفوس الكرام قبل أن تقبر تحت الرغام، والله لا يبلغ العدو منا بخيله ورجله، وأساطيله وقنابله، ولا تبلغ السماء منا بصواعقها ورجومها، ولا الأرض بزلازلها وبراكينها، ما يبلغ منا المرقص ببغاياه. قال المحدث: والحق أقول: إني دخلت المرقص وأنا أحسب أني أنفّس عن نفسي كربة, فرأيت ما زاد نفسي هما، وملأ قلبي غيظا، فقلت لصاحبي: هل لك في القيام؟ فقام وقمت وأنا أقول: والله ما أدري ما ترك هذا المكان للبيمارستان.

البعث

البعث: هي قصة خيالية, الغرض منها تمثيل أبي العلاء المعري في أخلاقه وآرائه لم يكتب منها غير هذه الأيام الثلاثة، وقد نشر في الذيل من كلام أبي العلاء عند المناسبات ما يميز بين الحقائق التاريخية والتصورات الخيالية. "اليوم الأول": نبا بي مضجعي ليلة لهمّ نزل بي والهم رسول من رسل الشر ينزل بأهداب العيون, فلا يزال يسعى سعيه حتى يوقظ الفتنة بين أشياعها، فظللت أساهر الكوكب حتى ملني ومللته وضاق كل منا بصاحبه ذرعا، فلما تقضى الليل إلا أقله ولم يبق إلا أن تنفرج لمة الظلام عن جبين الصباح سمعت طارقا يدق الباب دقا ضعيفا ما كدت أتبينه لولا هدوء الليل وسكونه، فقلت: من الطارق؟ قال: غريب حائر ضل به سبيله في هذه الرقعة السوداء, وأعوزه المأوى يطلب كريما يعتمد عليه، ومضجعا يأوي إليه، وقد أعد لمن يسدي إليه تلك النعمة ذخيرة صالحة من شكر لا يبلى ودعاء لا يخيب، فأعجبت بعابر سبيل يمر بعفو

لسانه من فصيح القول وصحيحه ما يعيا على جهد المتكلفين، وتزويق المزورين1، وقلت في نفسي: ما لهذا الرجل بد من شأت وفتحت الباب فإذا شيخ كنتيّ2 من حملة أعباء الدهر, قصير القامة ناحل الجسم زري الهيئة قد نيف على الثمانين من عمره, فخيل إلي أن ظهره المحدودب قوس وأن عصاه التي يعتمد عليها وتر قد شد إلى تلك القوس, وأنه قد أعد من هذه وتلك سلاحا يذود به عن نفسه عادية المنون3، فلما شعر بمكاني رفع رأسه إلي ورماني بنظرة خلت أنها نفذت إلى موضع الأسرار من قلبي وأحاطت بما بين قمة رأسي وأخمص قدمي, فرأيت وجها أسمر اللون قد انتثرت في أكنافه حفائر الجدري4 وأسارير

_ 1 زور الشيء: حسنه وقومه. 2 الرجل الكنتي: الكبير العمر, نسبة إلى قوله: كنت في شبابي كيت وكيت. 3 وصف أبو العلاء نفسه في شيخوخته في إحدى رسائله بقوله: "وإني لأعجز إذا اضطجعت عن القعود فربما استعنت بإنسان فإذا هم بإعانتي وبسط يديه لنهضتي ضربت عظامي لأنهن عاريات عن كسوة كانت عليهن" وقوله في لزومياته: يا نفس جسمك سربال له خطر ... وما يبدل في حال بسربال قد أخلقته الليالي فاتركيه لقى ... فما يزيدك لبس المخلق البالي 4 اعتل أبو العلاء في الرابعة من عمره بعلة الجدري فذهبت ببصره, وبقيت آثارها في وجهه بعد ذلك.

تنطوي تارة على عبر القرون وحوادث الدهور وتنفرج أخرى عن أنوار الصلاح والتقوى، ولحية بيضاء إلا أنها شعثاء، وعينين كبيرتين مستديرتين ينبعث منهما نور ساطع خفاق لا يراه الرائي حتى يطرق له إجلالا وإعظاما، وسحنة غريبة لا عهد لي بمثلها في حمراء الأمم وسودائها وأحسب أن لو كان بين يدي مثال من صور الناس في القرون الغابرة لنسبتها1, فمشيت إليه مشية الهائب الوجل وقلت: على الرحب والسعة يا سيدي, لقد حللت بمنزل أنت صاحبه وولي الأمر فيه، ثم قدمت إليه يدي فمشى معي يتوكأ, ويتحامل ويهمس بهذه الكلمة: ما أوسع الموت يستريح به الجسـ ... ـم المعنى ويخفت اللجب حتى وصلنا إلى غرفة الأضياف, فأعاد النظر إلي وقال: اذهب لشأنك فأنا في حاجة إلى الانفراد بنفسي، فتركته وذهبت إلى غرفة منامي وقد أخذ منظر الرجل مكانا من قلبي وشغلني من أمره ما كاد ينسيني هموم نفسي, فلم أزل أقلب النظر في حاله وأذهب المذاهب في استبطان سره حتى أخذ عيني نوم ثقيل لم أستيقظ منه إلا في صفرة الأصيل. سألت الخادم عن الضيف, فعلمت أنه أخذ حظه من المطعم

_ 1 نسبتها أي: ذكرت نسبتها إلى نوع من أنواع تلك الصور.

والمشرب والمضجع والمستحمّ وأنه لا يزال في مصلاه, فهبطت إليه في خلوته أهيب ما أكون له, فرأيته جالسا إلى قبلته يقلب وجهه في السماء، ويكرر هذا الدعاء: "اللهم لا راد لقضائك، ولا سخط على بلائك، أمرت فأطعنا وابتليت فرضينا، فأمطرنا غيث إحسانك, وأذقنا برد رحمتك، وألهمنا جميل صبرك، وثبت قلوبنا على طاعتك، فلا عون إلا بك، ولا ملجأ إلا إليك، إنك أرحم الراحمين وأعدل الحاكمين"1. ثم أطرق بعد ذلك إطراقا طويلا خلتُ أنه وصل فيه إلى مقام التجريد, وأن الذي أراه بين يدي جسد هامد قد أسرى بروحه إلى الملأ الأعلى, فجعلت أختلس الخطا إليه حتى صاقبته، فرفع رأسه إلي ذاهلا، وقال: أنت هنا؟ قلت: نعم، قال: في أي سنة نحن من تاريخ الهجرة؟ فعجبت لسؤاله وقلت: في السنة

_ 1 حدّث القاضي أبو الفتح أنه دخل على أبي العلاء في خلوته فسمعه يقول, وهو لا يعلم بمكانه: كم بودرت غادة كعوب ... وعمرت أمها العجوز يجوز أن تبطئ المنايا ... والخلد في الدهر لا يجوز ثم تأوه مرات وتلا قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآَخِرَةِ} الآية, ثم صاح وبكى بكاء شديدا وطرح نفسه على الأرض وهو يقول: سبحان من هذا كلامه، قال: فعلمت صحة دينه ويقينه.

التاسعة والعشرين بعد الثلاثمائة والألف، قال: ما اسم هذا المصر الذي تعمرونه؟ قلت: القاهرة المعزية، قال: أفي هذه الأمة كثير مثلك؟ قلت: لم أفهم ما تريد يا سيدي، قال: لقد استفتحت هذه الأبواب التي تليك فلم أجد من ورائها إلا ضعيفا لا يلبث أن يراني حتى يرعد مني فرقا فيوصد بابه في وجهي، أو ضنينا يرى بؤسي وشكاتي فيزوي ما بين حاجبيه ثم ينصرف عني، أو أعجميا لا يفهم ما أقول ولا أفهم ما يقول، قلت: ما في هذه الحلة التي تراها أعجمي قال: إنهم خاطبوني بلحن لا أعرفه وإن شئت أعدته عليك كما سمعته، ثم أخذ يسرد علي الكلمات العامية التي سمعها من الناس في طريقه إلي سردا متواصلا كما تسرد الببغاء كلماتها، فقلت: إنك قد أعدت يا سيدي بذكائك هذا عهد أبي العلاء المعري, فإنهم يتحدثون عنه أنه كان إذا سمع أعجميا يتكلم حفظ كلامه بدون أن يفهم معناه1 فما سمع كلمتي هذه حتى اضطرب جسمه وانكفأ لونه2 ورأرأ بمقلتيه3 وزحف إلي حتى اصطكت ركبتانا، فعجبت لأمره وما رأيت من استحالة حاله، ثم قال لي: من هو هذا المعري الذي حدثوك عنه؟ قلت: رجل

_ 1 ذكر المؤرخون لأبي العلاء قصصا متعددة تتضمن أنه كان يحفظ ما يسمعه من الأعاجم بلغتهم, فيبقى في ذهنه زمنا طويلا حتى يلقيه كما سمعه. 2 انكفأ لونه: تغير. 3 رأرأ بمقلتيه: حركهما, وأدارهما.

من علماء الأمة العربية وشعرائها, عاش في القرن الرابع والخامس من الهجرة, نقرأ سيرته في كتب التاريخ والأدب ونعجب بفهمه وعلمه وذكائه كل الإعجاب، قال: وما ظنكم به؟ قلت: إن الناس في أمره مختلفون، ومن يرفضه أكثر ممن يتشيع له، قال: ومن أيهم أنت؟ قلت: ممن يتشيع له، فقد قرأت كتبه قراءة مستثبت مستبصر فما شككت في مذهبه ودينه، قال: أكنت تؤثر أن تكون في عصره أو أن يكون في عصرك حتى تراه؟ قلت: ما أعدل بهذه الأمنية غيرها، قال: قد بلغك الله طلبتك، قلت: لم أفهم يا سيدي شيئا مما تقول، قال: أكاتم أنت علي سري؟ قلت: نعم، قال: أتقسم؟ قلت: إن للوفاء عندي حرمة مثل حرمة القسم ولو كنت متهما نفسي لأقسمت، قال: الآن عرفتك, أنا أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي المعري، فما قرعت هذه الكلمة مسمعي حتى أُسقط في يدي وعلمت أني قد هلكت، وكان أول ما كان مني أن التفت ناحية الباب لأرى هل أجد السبيل إلى الهرب إن عرض لي من هذا المجنون عارض سوء، وكأنه ألم بما في نفسي فقال: لا ألومك على ما ظننت فقد قدرت قبل أن ألقي إليك كلمتي هذه أنها بالغة منك ما بلغت فهل تؤمن بالله؟ قلت: نعم، قال: وتؤمن بالبعث؟ قلت: نعم، قال: وما يريبك من رجل

أماته الله ثم بعثه بعد موته؟ قلت: ذلك يوم يبعثون، قال: هبها قصة إبراهيم إذ قال له ربه: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا} وبعد, فوالله يا بني ما كفرت مذ آمنت, ولا كذبت مذ عرفت أن الصدق منجاة من النار, ولا استرد الله مني نعمة العقل بعدما منحني إياها ولو كذبت الناس جميعا ما كذبتك, فقد أسلفت إلي من أياديك ما لا أحتاج بعده إلى كذبة أتنفّق بها عليك، أو أزدلف بها إليك، وإني قاص عليك قصتي فأصخ لها ولك بعد ذلك حكمك، فسري عني قليلا ما كان ألم بنفسي من القلق, فأقبلت عليه بوجهي فأنشأ يقول: لا أزال يا بني حتى الساعة أشعر بمرارة الحساب في فمي, فقد حوسبت حسابا غير يسير على الكبير والصغير والدقيق والجليل والقومة والقعدة والخطرة واللمحة وكل ما وجدته حاضرا بين يدي في صحائفي, فكادت حسناتي تكافئ في الميزان سيئاتي لولا تلك الكلمات التي كنت أرددها في حياتي الأولى في تزهيد الناس في النسل والزواج1, فقد دخلت بها في زمرة المفسدين

_ 1 لأبي العلاء أقوال كثيرة في النهي عن الزواج والتزهيد في النسل جاء بها على صور مختلفة؛ فتارة كان يفرح بموت الطفل في مهده كقوله: =

الذين تنكروا لإرادة الله وأغفلوا حكمته في خلق النوع البشري, وطال حسابي عليها وحجاجي فيها, وكان لا بد من العقاب ففزعت

_ = قدم الفتى ومضى بغير تئية ... كهلال أول ليله من شهره لقد استراح من الحياة معجل ... لو عاش كابد شدة في دهره وتارة كان يفضل بقاءه في عالم الغيب كقوله: وإذا أردتم للبنين كرامة ... فالحزم أجمع تركهم في الأظهر وتارة كان يظهر سروره بأنه لم يتزوج, ولم ينسل كقوله: تواصل حبل النسل ما بين آدم ... وبيني ولم يوصل بلامي باء تثاءب عمرو إذ تثاءب خالد ... بعدوى فما أعدتني الثؤباء وقوله: بنت عن الدنيا ولا بنت لي ... فيها ولا عرس ولا أخت وقوله: لقد صرت في الدنيا غبينا مرزأ ... فأعفيت نسلي من أذاة ومن غبن فإن تحكمي بالجور فيّ وفى أبي ... فلن تحكميه في بناتي وفي ابني وتارة كان يعد ولادة الوالد لولده جناية منه عليه كقوله: ليذمم والدا ولد ويعتب ... عليه فبئس عمري ما سعى له وقوله: هذا جناه أبي علي ... وما جنيت على أحد وظاهر أن الذي أثار هذه الخواطر في نفسه ما كان يتصوره من أن الشقاء في هذا العالم لازم ضروري من لوازم النوع الإنساني, ولا خلاص له منه إلا من طريق العدم المحض, وإن إسناده الجناية إلى الوالد بولادة ولده ليس على ظاهره, بل أراد به الإمعان في تصوير هذا الشقاء =

إلى الروح الشريفة المحمدية مستشفعا بها لا أريد رد القضاء, ولكن أريد اللطف فيه، فتعلق محمد -صلى الله عليه وسلم- بقوائم العرش الإلهي وقال: "اللهم إنك تعلم أن عبدك هذا عاش في تلك الدار كارها لها متبرما بها, متسخطا عليها حابسا نفسه في كسر بيته فرارا من أهلها, يترقب فراقها في جميع آنائه وفيناته حتى لو رأى الشمس طالعة لتمنى ألا يرى مغربها ولو رآها غاربة لتمنى ألا يرى مشرقها، وقد قضى قضاؤك الذي لا مرد له ولا محيص عنه أن تعاقبه على ما اجترح من السيئات في دار العمل, فأسألك بقلمك النوراني الذي تمحو به في لوحك ما تشاء وتثبت أن تقي جسمه الذي طهره في الحياة الدنيا بالزهد في شهواتها ولذائذها والصبر على آلامها

_ = وتبيين ضرورة اتصاله بالإنسان, وأنه لو لم يولد لما كان شقيا, وقد أوضح غرضه هذا توضيحا بينا في قوله: ألا تفكرت قبل النسل في زمن ... به حللت فتدري أين تلقيه ترجو له من نعيم الدهر ممتنعا ... وما علمت بأن العيش يشقيه شكا الأذى فسهرت الليل وابتكرت ... به الفتاة إلى شمطاء ترقيه وأمه تسأل العراف قاضية ... عنه النذور لعل الله يبقيه وأنت أرشد منها حين تحمله ... إلى الطبيب يداويه ويسقيه ولو رقى الطفل عيسى أو أعيد له ... بقراط ما كان من موت يوقيه

وأهوالها من عذاب النار1, وأن تجعل عذاب قلبه فداء عذاب جسمه, فعاقبه بإرجاعه إلى تلك الدار التي كانت جحيمه ومستقر عذابه، وحسبه من العقاب أن يلقى فيها آخرا ما لقي فيها أولا, إنك بعبادك لطيف خبير". فقبل الله شفاعة نبيه, وقضى أن أعود إلى الدار الأولى لأقضي فيها من الأيام بعدد ما قضيت فيها من السنين, وقد علم سبحانه وتعالى أني كنت في العهد الأول أحمده على العمى كما يحمده غيري على البصر, فرد إلي بصري لتنفذ مشيئته في عقابي وتعذيبي, فله الحمد على سرائه وضرائه. هذه قصتي قصصتها عليك, وهذا أول يوم من الأيام التي سأقضيها في داركم هذه, فاكتم علي أمري حتى ينقضي أجلي, وكن لي خير معين على هموم الحياة وبأسائها, فقد اغتبطت بك مذ رأيتك وعلمت أن الله ما قيضك لي إلا وهو يريد أن يخفف

_ 1 كان أبو العلاء يعتقد ما يعتقد جميع الموحدين أن ما لقيه في هذه الحياة من عناء وشقاء, وما أخذ به نفسه من الزهد في العيش والرغبة عن لذائذ الحياة وأنعمها مدخر له أجره في دار الجزاء, كما يظهر من مثل قوله: أأخشى عذاب الله والله عادل ... وقد عشت عيش المستضام المعذب وقوله: أصبح في الدنيا كما هو عالم ... وأدخل نارا مثل قيصر أو كسرى

عني العذاب مرة أخرى. فما أتم قصته حتى ابتدرتُ يديه لثما وتقبيلا, وعلمت أني قد أحرزت في بيتي كنزا لا أعدل به كنوز الأرض ظاهرها وباطنها, وشعرت بما أضاء بين جوانحي من سرور ما كان يكدره علي إلا خوف انقضائه. ثم ما زلنا نتحدث حتى كادت تحترق فحمة الليل, فوضعت يدي في يده وعاهدته على كتمان سره, ثم ودعته وتركته في خلوته على أن نلتقي غدا. "اليوم الثاني": ما كنت أجهل قبل اليوم رأي الشيخ في الطعام وما يحب منه وما يكره, ولكنني ظننت أنه بعث بطبيعة غير طبيعته ورأي غير رأيه فقدمت إليه في طعام العشاء دجاجات ربلات1 كنت أعددتهن للضيفان من قبل، فلما أخذ بصره المائدة صار ينظر إليها مرة وإلي أخرى ثم قال: ما اسم هذا الطعام الذي تقدمه إلي؟ قلت: إنهن دجاجات لم يكن للخادم الصغرى عندي

_ 1 الربل: الكثير اللحم.

شأن غير رعايتهن والقيام عليهن والحدب بهن، فكانت تؤثرهن بأفضل ما نؤثرها به من طعام وشراب, وتنزلهن من نفسها منزلة الواحد من أمه حتى امتلأن واكتنزن1 واستدرن للذبح، وكنت أبقي عليهن كلما طرقني طارق إبقاء على الفتاة أن ينفجر صدرها حزنا على أترابها الصغيرات، أما اليوم فلم أر من ذلك بدا فذبحتهن إكراما لك, فسال من دموع الفتاة عليهن أكثر مما سال من دمائهن. فوجم الشيخ, ثم أطرق إطراقا طويلا سمعته يهينم2 فيه بهذه الكلمات: وا رحمتاه، ألا تزال هذه المُدى موكلة بهذه الأعناق، ألا يزال الحيوان الناطق ينكر على الحيوان الصامت حتى حسه ووجدانه ويأبى إلا أن ينظمه في سلك الجمادات الصم؛ لأنه صامت لا ينطق وأخرس لا يبين3, ربما كان زقاء الديك وقوقأة الدجاجة وصرصرة البازي وهديل الحمام وزقزقة العصفور وثغاء

_ 1 اكتنز اللحم: اجتمع وصلب. 2 الهينمة: الصوت الخفي. 3 من كلام أبي العلاء في إحساس الحيوان بالألم قوله في إحدى رسائله: "وقد علم أن الحيوان كله حساس يقع به الألم" وقوله: "ولم يزل من ينتسب إلى الدين يرغب في هجران اللحوم؛ لأنها لا يتوصل إليها إلا بإيلام حيوان يفر منه في كل أوان".

الشاة ومواء الهرة وخوار الثور وحنين النيب1 بكاء بغير دموع وشكوى بغير لسان، وربما كان يكتم ذلك الذبيح في نفسه من الوجد والبرحاء ما لو استطاع أن يبين عنه لأبكى العيون دماء, وفجر الصخر عيونا. ثم رفع رأسه إلي وقال: أما سمعت الدجاجات يقلن لك شيئا عندما أردت ذبحهن؟ قلت: لا يا مولاي ومتى قلن للناس شيئا فيقلن لي، فنظر إلي نظرة شزراء لا أنسى سهمها الواقع في قلبي ما حييت ثم قال: أما لو أن الله منح ذابح الدجاجة من نور البصيرة ما منحه من نور البصر لسمعها تقول له: مهلا رويدا أيها القاتل السفاك, لا تدن مني ولا تمدد يدك إلي, فلا شأن لك معي ولا ترة2 لك عندي. أنا صاحبة الحق المطلق في حياتي وأنا لا أريد أن أموت ولا رغبة لي في فراق الحياة؛ لأن ورائي أفراخا صغارا هن إلى حياتي أحوج منك إلى مماتي, وليس من الرأي أن أكل أمرهن إليك من بعدي؛ لأنك شره طماع, لا يشبع بطنك ولا تهدأ مديتك. أنت لا تملك أن تعطيني الحياة فلا تملك أن تسلبني إياها

_ 1 النيب جمع ناب, وهي الناقة المسنة. 2 الترة: الثأر.

كل ما تستطيع أن تمن به علي أنك كنت تطعمني وتسقيني فهل تعلم أنك ما كنت تطعمني إلا فتات مائدتك ولا تسقيني إلا غُسالة يديك, وأنك ما كنت تصنع ذلك رحمة بي ولا إحسانا إلي, بل لتهيئ لنفسك ما يسد شهوتها ويطفئ لوعتها، وهل تعلم أنك أنت الذي سجنتني في أقفاصك وحلت بيني وبين رزق الله أطعمه أنى ذهبت وأين حللت من حيث لا يساومني فيه مساوم, ولا يحاسبني عليه محاسب! أمن أجل تلك الخشارة1 القذرة والجرعة الكدرة تسلبني حياتي, وتفجع بي أفراخي ولا ذنب لي ولا لهن عندك إلا أنا كنا زينة بيتك, ولعبة أطفالك, وحماة آلك من بنات الأرض2 وهوامها, ورسل الفجر المنير إليك. لا تظلم السبع بعد اليوم ولا تنقم منه وحشيته وافتراسه؛ فكلاكما وحش وكلاكما مفترس لا فرق بينك وبينه إلا أنه لا يحسن الذبح والطبخ كما تحسن, فهو يبقر البطون بأظافره وأنت تفري الأوداج بمُداك، لا بل إن جريمتك أكبر من جريمته وعذرك أضعف من عذره؛ لأنه يفترس ليشبع بطنه

_ 1 الخشارة: فضالة المائدة. 2 المراد ببنات الأرض الحشرات التي تخرج من بطنها.

وأنت تفترس لترفّه نفسك, ولأنه يعجز عن الاحتيال لقوته وأنت على ذلك من القادرين1. استضعفتني فبرزت إليَّ, فهلا برزت لشبل الأسد أو ديسم الدب أو فرعل الضبع أو حرش الحية أو هيثم النسر أو ناهض العقاب2؟ ما أخبثك أيها الإنسان عاجزا وما أظلمك قادرا, وما أشقاك بنفسك وأشقى العالمين بشقائك. ذلك ما كان يسمعه الذابح من ذبيحته لو أن الله وهبه أذنا كالآذان وبصيرة كالبصائر, ولكن الناس لا يعلمون. هيه يا صاحب الدجاجات, حدثني عنك ألم يكن لك في جميع ما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها منادح لإكرامى والقيام بحقي, وأنت تعلم أنني رجل سلخت في دنياكم هذه من حياتي الأولى نيفا وأربعين سنة لم أذق فيها لحم

_ 1 فضّل أبو العلاء الحيوان على الإنسان في كثير من كلامه, كقوله: سببت بالكلب فأنكرته ... والكلب خير منك إذ ينبح وقوله: أقل منهم شرا ومرزية ... ما ركبوا في السرى وما ذبحوا وقوله: خير من الظالم الجبار شيمته ... ظلم وحيف ظليم يرتعي الذبحا 2 هذه فروق نتاج تلك الأنواع من الحيوان.

الحيوان ولا ثماره ولا نتاجه, فحميت نفسي حتى عسل النحل وبيض الدجاج وألبان ذوات الأثداء وأقنعتها بالبلسن طعاما والبلس حلوى1؛ لأني كنت أعلم أن النبات طعامي الذي لا يلائمني غيره ولا يشبهني سواه, وأن لحم الحيوان إنما خلق للشفاه الغليظة والأنياب العريضة والأظفار الحادة والجلود المزأبرة2 والأعضاء المتوثبة والهامات الضخمة، وكنت أرى أن أكلة اللحوم إنما يخادعون أنفسهم فيها ويجترُّونها إلى طبائعهم اجترارا؛ لأنهم لا يأكلونها إلا إذا عالجوها بالطبخ والصف3 والتقديد والشي والقلي ومزجوها بالخضر والتوابل والأبازير والأقزاح4 مزجا يكاد يخرج بها عن جوهرها إلى جوهر النبات حتى إذا نزل بهم عارض مرض نزعوا عنها وبرئوا إلى الله منها, وفزعوا إلى النبات في طعامهم وشرابهم وعقاقيرهم كأنما يطلبون شفاءهم في الرجوع إلى غذائهم الطبيعي الذي خلقوا له.

_ 1 البلسن: العدس, والبلس: التين, ومن كلام أبي العلاء: يقنعني بلسن يمارس لي ... فإن أتتني حلاوة فبلس 2 الثوب المزأبر: الذي له زئبر, وهو ما يظهر من درزه. 3 الصف: تشريح اللحم عراضا. 4 التوابل وما يليها: ما يطيب به المطبوخ من الأشياء اليابسة.

وأعجب ما كنت أعجب له من أمرهم أنهم كانوا ينكرون علي رأيي في ترك ذلك الطعام ويمعنون في مساءلتي عنه وحجاجي فيه وحملي عليه, ويلحون في ذلك إلحاحا شديدا حتى ظننت أنهم قاتليّ من دونه1 كأنما يزعمون في ضوضائهم هذه أنهم إنما يأكلون لحم الحيوان باسم الشريعة الدينية لا باسم القرم والجعم2, أو أن الله تعالى أنزل عليهم قرآنا ألا يقيم لهم يوم القيامة وزنا ولا يقبل منهم صرفا ولا عدلا إلا إذا قدموا عليه ببطون بجر3 مكتظة بلحوم الحيوان تتقدم بين أيديهم في منصرفهم من الحساب لتفتح لهم أبواب الجنان، وكأنهم فرغوا من أداء ما افترض الله عليهم أن يؤدوه وترك ما أمرهم أن يتركوه, فلم يبق

_ 1 كتب ابن أبي عمران إلى أبي العلاء جملة رسائل يسأله فيها عن سبب امتناعه عن أكل اللحم ويبكته فيها تبكيتا مؤلما, ويعرض عليه أن يحمل بعض الأمراء على أن يرسل إليه ما يكفيه مئونة ذلك إحراجا له وإعناتا, وأبو العلاء يومئذ في أواخر حياته ومنتهى شيخوخته, قد ضعفت شهوته عن اللحم وغيره ووهنت قوته عن المناظرة والجدل حتى قال في بعض أجوبته عن تلك الرسائل: "ولو مثل بحضرته السامية لعلم أنه لم يبق فيه بقية لأن يسأل, ولا أن يجيب وقد عجز عن القيام في الصلاة, فإنما يصلي قاعدا والله المستعان". 2 القرم والجعم: شهوة اللحم. 3 بجر جمع أبجر, وهو الممتلئ.

بين أيديهم من أبواب العبادة إلا باب التورع عن أكل اللحم مخافة أن ينقلب المباح بإعراضهم عنه حراما كما ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- صلاة التراويح بعد أدائها مخافة أن تنقلب سنتها باستمراره عليها فريضة1. وأحسب أن لو كنت فيهم من أكلة السحت أو الميتة والدم ولحم الخنزير أو أموال الناس بالباطل لأوسعوا لي في صدورهم من العذر ما لم يوسعوا في ترك مباح ما تركته نقمة على الشريعة أو تبرما بها أو تمردا عليها, ولكنني كنت امرأ جزوعا يزعجني منظر الشرائح الحيوانية على مائدتي؛ لأنه يذكرني بمنظر الذبيحة وارتياعها وولهها بين حبل الذابح وسكينه وكنت فقيرا بائسا لا أملك في كل عام من الرزق إلا نيفا وعشرين دينارا, لا يتسع مثلها لمثل ما يتسع له عيش الناعمين المترفين2 وما كنت

_ 1 من كلام أبي العلاء في الذين يحفلون بصغائر الذنوب, ويغفلون كبارها: يعيب أناس أن قوما تجردوا ... لحمامهم نصب العيون الشوازر لقد سعدوا إن كان لم يجر عندهم ... من الوزر إلا تركهم للمآزر 2 من كلام أبي العلاء في سبب امتناعه عن أكل اللحم قوله في بعض رسائله: "ومما حثني على ترك اللحم أن الذي لي في السنة نيف وعشرون دينارا, فإذا أخذ خادمي بعض ما يجب بقي ما لا يعجب، فاقتصرت على فول وبلسن وبعض ما لا يعذب في الألسن" ومن كلامه الدال =

أجد السبيل إلى غيرها إلا من طريق الكدية والتكفف, أي: بقبول صلات الأمراء وصدقات المحسنين، وقد علم الله من شأني أنني رجل لو علمت أني إن أذلت ما صان الله من ماء وجهي على عتبة أمير أو قدم وزير أمطرت السماء علي ذهبا, واستحالت الحصباء تحت قدمي درا ما فعلت ضنا بنفسي على هذا الموقف المستوبل, وإيثارا للرضاء بقضاء الله وقدره في قسمة أرزاقه بين عباده1.

_ = على أنه كان فقيرا معوزا قوله: واتهامي بالمال أوجب أن يطـ ... ـلب مني ما يقتضي التمويل ويقول الغواة خولك الله ... كذبتم لغيري التخويل 1 كان أبو العلاء غاية الغايات في قناعته وأنفة نفسه, وقد ظهر ذلك في حالة معيشته واعتقاله ببيته وانزوائه عن الناس مع رغبة الأمراء فيه, وإلحاح الكبراء عليه في البروز إليهم والكون معهم, فضلا عما كان لا يزال يهتف به من ذكر القناعة في شعره كقوله: الحمد لله قد أصبحت في دعة ... أرضى القليل ولا أهتم بالقوت وقوله: من مذهبي ألا أشد بفضة ... قدحي ولا أصغي لشرب معوج لكن أقضي مدتي بتقنع ... يغني وأخرج بالقليل الأروج هذا ولست أود أني قائم ... بالملك في ثوبي أغر متوج ولما اضطر أن يخرج إلى أسد الدولة صالح وهو بظاهر المعرة ليطلب =

فلم أر خيرا من ترك طعام لو اشتهيته لما قدرت عليه, ولو قدرت عليه لما اشتهيته من حيث لا يكون للتحريم والتحليل, ولا للإيمان والزندقة في ذلك مدخل. وما زال المتورعون من السلف الصالح يتركون ما هو لهم حلال مطلق من لذائذ هذه الحياة وشهواتها ويجزعون من ملامسته والدنو منه جزعهم من اجتراح السيئات وانتهاك الحرمات، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يجيع نفسه من غير عوز, وكانت عائشة -رضي الله عنها- تقول: إن رسول الله لم يمتلئ قط شبعا, وربما بكيت رحمة له مما أرى به من الجوع, فأمسح بطنه بيدي وأقول: نفسي لك الفداء, لو تبلغت من الدنيا بقدر ما يقويك، فيقول: "يا عائشة إخواني من أولي العزم من الرسل قد صبروا على ما هو أشد من هذا, فمضوا على حالهم فقدموا على

_ = منه إطلاق جماعة من الأسرى عنده قبل صالح شفاعته وأطلقهم, ولكنه جزع بعد ذلك لهذه الضراعة جزعا ظهر في قوله: تغيبت في منزلي برهة ... ستير العيون فقيد الحسد فلما مضى العمر إلا الأقل ... وحم لروحي فراق الجسد بعثت شفيعا إلى صالح ... وذاك من القوم رأي فسد فيسمع مني سجع الحمام ... وأسمع منه زئير الأسد فلا يعجبني هذا النفاق ... فكم نفقت محنة ما كسد

ربهم فأكرم مآبهم وأجزل ثوابهم" وكان يقول: "شرار أمتي الذين يأكلون مخ الحنطة"1 وعلا عمر -رضي الله عنه- ولده عبد الله بن عمر بالدرة2 إذ دخل عليه فرآه يجمع في طعامه بين الثريد والشواء, وكان بعض الصالحين يعد الجمع بين الخبز والملح شهوة فيتجنبها، وكان بعضهم يعجن دقيقه ويجففه في الشمس ثم يأكله قائلا كسرة وملح حتى يتهيأ في الآخرة الشواء، ومنهم من لم يأتدم في حياته لا بالجوذاب3 والكباب ولا بالخل والزيت. فهل كان واحد من هؤلاء بطرا بنعمة الله أو محرما ما حلل الله؟ لا فما كل من أبغض حلالا حرمه ولا كل من أحب حراما حلله فقد اعتقد صاحب أبي حنيفة بحل النبيذ, فلما أريد عليه قال: لو قطعت إربا إربا ما حرمته، ولو قطعت إربا إربا ما شربته، وعلم النبي -صلى الله عليه وسلم- بحل الطلاق ثم قال: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق" بل لو تبينت لعلمت أن قاعدة التحريم والتحليل في الشرائع الدينية مصادرة النفوس في ميولها

_ 1 مخ الحنطة: خالصها. 2 الدرة: السوط يضرب به, وكان في يد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- درة لا تكاد تفارق يده. 3 الجوذاب: طعام يتخذ من سكر ورز ولحم.

وشهواتها والنفوس لا تنفر إلا مما حل لها, ولا تشتهي إلا ما حرم عليها. فويل لي من هؤلاء الناس شركتهم في دنياهم فقالوا: شره طماع, وصدفت لهم عنها فقالوا: زنديق ملحد, فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون1. وما وصل من حديثه إلى هذا الحد حتى بلغ منه الجهد أو كاد فتفصد جبينه عرقا واستسر حديثه حتى ما يكاد يبين, فرثيت له مما به وأمرت برفع المائدة من بين يديه, وقدمت له مقترحه من الطعام فلبثنا نأكل صامتين حتى فرغنا فأردت أن أرفّه عليه ما ألم به من الهم فقلت له: يا مولاي إن للحيوان اليوم شأنا غير ذلك الشأن الذي تعرفه له من قبل, فقد ذهب كثير من الناس مذهب الرفق به والإحسان إليه واجتمع في كل مدينة من مدن العالم قوم من الراحمين المحسنين يأخذون أنفسهم بمناظرة المدارج والسبل والأسواق العامة, فإذا وجدوا من يحمل على دابته فوق ما تحتمل أو يسوطها سوطا عنيفا2 رفعوا إلى

_ 1 من كلام أبي العلاء في عدم رضاء الناس عنه, حتى في زهده عما في أيديهم: حورفت في كل مطلوب هممت به ... حتى زهدت فما خليت والزهدا 2 ساط دابته سوطا أي: ضربها بالسوط.

الحاكم أمره أو رأوا حيوانا هزيلا أو مهيضا1 حملوه إلى مكان خاص بمعالجة أمراض الحيوان, فعالجوه إن وجدوا إلى الرجاء فيه سبيلا وإلا قتلوه رحمة به, وإشفاقا عليه. قال: لقد أحسنوا في الأولى وأساءوا في الأخرى ومن لهم بعلم ما استتر وراء حجب الغيب من كوامن الأقدار في تحديد الآجال، وها نحن نرى في كل يوم مريضا يئل بعد إشرافه وبكاء الباكيات حوله وصحيحا يخترم في اجتماع قوته واستكمال فتوته وغليان ماء الشباب في وجهه كما تخترم الثمرة الغضة من غصنها الناضر, فهلا وكلوه إلى منيته تأتيه هادئة مطمئنة حيث يسوقها القدر إليه2. ما أحسب هؤلاء الراحمين الذين تحدثني عنهم إلا مرائين مصانعين, ولا هذه الرحمة التي ينتحلونها لأنفسهم إلا حبالة من الحبائل نصبوها لاصطياد العقول واختتال النفوس, ولا أنهم أرادوا بما فعلوا إلا أن يقول الناس عنهم: إنهم رحموا الحيوان فأحرى أن يرحموا الإنسان، فمثلهم كمثل المرائين في الدين الذين يتورعون عن

_ 1 المهيض: الكسير. 2 من كلام أبي العلاء في عجز العالم عن إدراك الغيب: وجدت الغيب تجهله البرايا ... فما شق هديت وما سطيح

التمرة حلالا تذرعا إلى البدرة حراما. يا بني آدم دعوا النوق في مراحها والشاء في زروبها والوحش في كناسه والضب في جحره والذئب في وجاره والقطا في أفاحيصه, ولا تزعجوا العصافير في أعشاشها ولا الحمام عن محاضنها ولا اليعاسيب عن خلاياها ولا الأسماك عن مسارحها1, وجنبوها فخاخكم وشباككم وقتركم وزباكم2 ومداكم وشفاركم, فإن لها نفوسا كنفوسكم ووجدانا كوجدانكم ورجاء في الحياة كرجائكم, واعلموا أن الله تعالى ما أغرى بعضكم ببعض ولا سلط قويكم على ضعيفكم ولا أجرى هذه الينابيع من الدماء بين أحيائكم إلا بعد أن ضريتم3 بهذه اللحوم ضراء السباع بفرائسها, وقطعتم إلى المتعة بها ما شئتم من الحلاقيم والغلاصم والأوداج والأباهر4 فارحموها ترحموا أنفسكم واعصموا دماءها يعصم الله دماءكم، إنكم

_ 1 هذه فروق أماكن تلك الحيوانات. 2 القتر جمع قترة بضم القاف وهو الناموس الذي يبنيه الصائد ليستتر عن الصيد, والزبى جمع زبية بضم الزاي وهي حفرة تحتفر في قمة الجبل لصيد الأسد. 3 ضرى الوحش باللحم: اعتاده وألفه. 4 الغلاصم جمع غلصمة وهي اللحمة بين الرأس والعنق, والأباهر جمع أبهر وهو عرق يخرج من القلب إلى سائر الشرايين, إذا انقطع مات صاحبه.

إلى الرحمة محتاجون، وإلى الله راغبون1.

_ 1 للمعري كلام كثير في الرفق بالحيوان والنهي عن إيذائه ومطاردته وذبحه وأكل لحمه والانتفاع بألبانه وثماره, كقوله في النهي عن ضرب الدواب: لقد ساءني مغدى الفقير بجهله ... على العير ضربا ساء ما يتقلد يحمله ما لا يطيق فإن ونى ... أحال على ذي فترة يتجلد وقوله يخاطب الحمامة, ويؤمنها من غدره وختله: لك النصح مني لا أغاديك خاتلا ... بمكر ولكني أغاديك مكرما إذا ما حذرت الصقر يوما فحاذري ... أخا الأنس أياما وإن كان محرما يصوغ لك الغادي قلادة هالك ... من الدم تخبي وجدك المتضرما وقوله في النهي عن صيد الوحش: لا تطرد الوحش فما يلبث المطرو ... د في الدنيا ولا الطارد وقوله في النهي عن تقطيع لحم الحيوان المذبوح وقت اختلاجه, وقبل مفارقته الحياة: روح ذبيحك لا تعجله ميتته ... فتأخذ النحض منه وهو يختلج وقوله في الاعتراض على صيد الأسماك: جاروا على حيوان البر ثم غدوا ... على البحار فقالوا الصيد ما فيها لم يقنع الحي منها ما تقنصه ... حتى أجاز أناس أكل طافيها وقوله يبكي على الطائر المقتول: وابك على طائر رماه فتى ... لاه فأوهى بفهره الكتفا أو صادفته حبالة نصبت ... فظل فيها كأنما كتفا بكر يبغي المعاش مجتهدا ... فقص عند الشروق أو نتفا كأنه في الحياة ما فرع الـ ... ـغصن فغنى عليه أو هتفا

ثم سكت بعد ذلك سكوت المجهد المتعب, وكان الظلام قد أظلنا بجناحيه فشعرت أن سنة من النوم قد رنقت1 في عينيه, فانسللت من بين يديه وتركته في مضجعه على أن ألقاه غدا. "اليوم الثالث": أصبحت في اليوم الثالث فإذا الشيخ قد فارق خلوته إلى حديقة المنزل فافترش ترابها، وتوسد أعشابها، وأنشأ يردد النظر بين أزهارها وأنوارها، ويبسم للعصافير تتنقل بين أنجمها2 وأشجارها، ويصغي إلى سرار الحديث بين حصبائها ومائها؛ فعرفت المدخل إلى قلبه والوسيلة إلى سروره وغبطته, فاقترحت عليه البروز إلى ضاحية البلد ليرفه عن نفسه ما ألم بها من الحزن والألم, فخرجنا يتوكأ على يدي مرة وعلى عصاه أخرى حتى وصلنا إلى وادٍ أفيح يهتزّ بصنوف الأشجار وأفانين الأزهار، ويتراءى في ألوان من النبات، مشتبهات وغير مشتبهات، من هائج

_ 1 يقال: رنق النوم في عينيه, إذا خالطهما كأنه مأخوذ من ترنيق الطائر أي: تحليقه ورفرفته بجناحيه. 2 الأنجم جمع نجم بفتح النون, وهو ما نجم من النبات على غير ساق.

وعميم، وبارض وجميم1, وكروم وأعناب، وسنابل وأعشاب، وتفيض أرجاؤه بالجداول والغدران، والقنى والخلجان، مطردات ومنعطفات، ومجتمعات ومفترقات، يفضي أولاها إلى أخراها، ويتصل أقصاها بأدناها، ويعطف كبيرها على صغيرها، وقويها على ضعيفها، فكأنها صلال رقشاء قد فرت من حر الظهيرة إلى هذا الروض الأريض تبترد بين روابيه وأكماته، ومصاعده ومنحدراته، فهي تنقبض وتنبسط، وتنساب وتتمعج2، وتقبل وتدبر، وتقوم وتقعد، وتتواثب وتتراجع، وتتواصل ثم تتقاطع، وكأن حفيف أوراقه وخرير مائه وتغريد أطياره وضجيج نواعيره وعجيج سائمته أنغام مختلفات يتألف من مجموعها لحن بديع يسمعه السامع, فيخيل إليه أنه هابط من أبواب السماء، أو أن سكان الألمب3 فوق عروشهم يغنون، وسكان الأرض بين أيديهم يستمعون.

_ 1 الهائج من النبات الذي اصفرّ ويبس, والعميم منه ما عم الأرض, والبارض أول ما يبدو من النبات, فإذا تحرك قليلا فهو الجميم. 2 تمعجت الحية: تلوت في سيرها, وتثنت. 3 الألمب في خرافات اليونان مجمع آلهتهم, ويقولون: إن لتلك الآلهة ساعات يشربون فيها في مجتمعهم هذا ويطربون.

هنالك وقف الشيخ أمام هذا المشهد المؤثر وقفة الحائر المشدوه، وقد ملكت عليه مشاعره وحيل بينه وبين نفسه, فجمد في مكانه كأنه نصب من الأنصاب, ووقفت وراءه أعجب لجموده وسكونه حتى فنيت كما فني في مشهده الذي بين يديه, فلم أرجع إلى نفسي حتى سمعته يقول: للمليك المذكرات عبيد ... وكذاك المؤنثات إماء فالهلال المنيف والبدر والفر ... قد والصبح والثرى والماء والثريا والشمس والنار والنثـ ... ـرة والأرض والضحى والسماء هذه كلها لربك ما عا ... بك في قول ذلك الحكماء ثم التفت إلي وقال: كل الناس يطلبون الحقيقة وكلهم عاجزون عنها؛ لأنهم يطلبونها من صحائف التاريخ والمؤرخون يصانعون ويدهنون، أو من أفواه الفقهاء والفقهاء تجار يرتزقون، لا هداة يرشدون، أو من خطرات عقولهم وقد أفسدها عليهم القائلون والكاتبون1, والحقيقة موجودة ولكنهم لا يعرفونها؛ لأنهم

_ 1 كثيرا ما نقم أبو العلاء على الرواة والقصاص أخبارهم التي يضعونها من عند أنفسهم ويدونونها في كتبهم مصانعة للعامة, واستهواء لقلوبهم, وطلبا للربح منهم كقوله: ويقال الكرام قولا وما في العـ ... ـصر إلا الشخوص والأسماء

لا يعرفون الطريق إليها، قلت: وأين تجدها؟ قال: في هذه الأودية الفيحاء، تحت تلك القبة الزرقاء، بين ذلك الظل والماء. هنا يرى الإنسان ربه في الغريسة, يلقي بها غارسها في التربة فإذا هي نبتة زاهرة مستوية على سوقها تعجب الزراع، ويراه في الحبة الدقيقة في الصرة المستديرة في النواة الصغيرة التي لا تلبث أن تأخذ مكانها من مغرسها حتى تصير نخلة سحوقا, تملأ الأرض خيرا بجذوعها وسعفها وجريدها وقنواتها وعثاكيلها وطلعها وبلحها وبسرها، ويراه في الكواكب الماثلة في السماء، والأسماك

_ = وأحاديث خبرتها غواة ... وافترتها للمكسب القدماء غلب المين منذ كان على الخلـ ... ـق وماتت بغيظها الحكماء وقوله في تكذيب ما ورد على ألسنتهم من أخبار المعمرين في التاريخ القديم: وادعوا للمعمرين أمورا ... لست أدري ما هن في المشهور أتراهم فيما تقضَّى من الأيـ ... ـام عدّوا سنيهم بالشهور وقوله في تكذيب القصاص الذين يزعمون أن أول من شاب من الرجال هو سيدنا إبراهيم -عليه السلام: ما أقبح المين قلتم لم يشب أحد ... حتى أتى الشيب إبراهيم عن أمم كذبتم ونجوم الليل شاهدة ... أن المشيب قديما حل في اللمم وقوله: لعمري لقد فضح الأولين ... ما كتبوه وما سطروا

السابحة في الماء، والأجواء المملوءة بالهواء، والليل إذا يغشى، والنهار إذا تجلى، فيمتلئ قلبه يقينا صافيا رائقا لا تعبث به المناظرات، ولا تشوه جماله المجادلات، ولا يحتاج بعده إلى متكلم يعلمه النظر، ولا فقيه يلقنه الجدل، فلا دليل على الله غيره، ولا هادي إليه سواه1.

_ 1 كان أبو العلاء من أشد الناس بغضا للمناظرات الدينية؛ لاعتقاده أنها تورث الأحقاد والأضغان, فضلا عما تلقيه أحيانا من الشكوك في نفوس الضعفاء، وكان يكره من المتناظرين أن المنافسة وحب الغلب كثيرا ما يحملهم على الخروج عن الحق وإنكار البديهيات كما يظهر ذلك من مثل قوله: لولا التنافس في الدنيا لما وضعت ... كتب التناظر لا المغني ولا العمد قد بالغوا في كلام بان زخرفه ... يوهي العيون ولم تثبت له عمد وما يزالون في شأم وفي يمن ... يستنبطون قياسا ما له أمد فذرهم ودناياهم فقد شغلوا ... بها ويكفيك منها الواحد الصمد وقوله: ملل غدت فرقا وكل شريعة ... تهدي لمضمر غيرها إكفارها وقوله: علم الفتى النظار أن بصائرا ... عميت فكم يخفى اليقين وكم يعم لو قال سيد غضا بعثت بملة ... من عند ربي قال بعضهم نعم وقوله: هذا الفتى أوقح من صخرة ... يبهت من ناظره حيث كان ويدعي الإخلاص في دينه ... وهو عن الإلحاد في القول كان يزعم أن العشر ما نصفه ... خمس وأن الجسم لا في مكان

هنا يرى الإنسان السائمة تأكل العشب, والعشب يأكل التراب, والتراب يأكل السائمة فيستحيل الجماد نباتا والنبات حيوانا والحيوان جمادا, فيعلم أن المواليد الثلاثة مادة واحدة تتلون ذراتها وتتشكل جواهرها, ويعلم أن هذا الإنسان الفاخر بنفسه والمدل بعظمته واقتداره ربما كان بالأمس صفيحة1 ملقاة على جانب قبر، وربما يكون في الغد جلدة بالية في ذؤابة2 نعل3

_ 1 الصفيحة: الحجر العريض. 2 الذؤابة من النعل: ما أصاب الأرض من المرسل منها على القدم. 3 ردد أبو العلاء هذا المعنى الخاص بتغير المادة وتشكلها كثيرا في كلامه, فمن ذلك قوله: مضى الأنام فلولا علم حالهم ... لقلت قول زهير أية سلكوا في الملك لم يخرجوا عنه ولا انتقلوا ... منه فكيف اعتقادي أنهم هلكوا وقوله: وما يدريك والإنسان غمر ... وقد يدرى خليلك وهو دار لعل مفاصل البناء تضحي ... طلاء للسقيفة والجدار وقوله: فلا يمس فخارا من الفخر عائد ... إلى عنصر الفخار للنفع يضرب لعل إناء منه يصنع مرة ... فيأكل فيه من أراد ويشرب ويحمل من أرض لأرض وما درى ... فواها له بعد البلى يتغرب وقوله في داليته المعروفة: رب لحد قد صار لحدا مرارا ... ضاحك من تزاحم الأضداد ودفين على بقايا دفين ... في طويل الأزمان والآباد

هنا يرى الإنسان الأرض الصلفاء يمر بها الماء وتلقى فيها البذور, فلا تلبث الشمس أن تجفف ماءها والريح أن تعصف ببذورها, فيعلم أن الحقائق الدينية لا يمكن أن تستقر في قلوب الأشرار إلى أن تبلغ شغافها, وأن الناس ما اختلفوا إلا لأنهم جاحدون، ولا اقتتلوا إلا لأنهم ملحدون. هنا يرى الإنسان الشمس طالعة من مشرقها مصفرة اللون, متقاربة الخطوات مخافة أن تطير إليها رشاشة سوداء من مآثم هذا العالم ومخازيه, ثم لا تلبث أن تأخذ مكانها من كبد السماء حتى تنحدر إلى مغربها هاربة, فتنغمس في ماء البحر قبل غروبها لتغسل عن جرمها الأبيض المشرق ما ألم به من تلك الأدران والأوحال، ويرى الليل مقبلا يقطب وجهه ويزوي ما بين حاجبيه ويربد شيئا فشيئا حتى يسود غضبا على هذا المجتمع البشري فيما يقترفه تحت ستاره من المفاسد والشرور، ولا يزال مادا يديه بالدعاء إلى الله تعالى أن يعجل أوبته إلى مستقره حتى يستجيب له ويداول بينه وبين النهار، ويرى الكواكب قد كمنت وراء ستر الظلام ثم أطلت بعيونها على هذا العالم الأرضي مرغمة لتنفس عن رفيقها الليل بعض ما خالط قلبه من الهم والكمد, فلا تلبث أجفانها أن تطرف انغلاقا وانفتاحا مخافة أن

يصيبها سهم نافذ من سهام الأشرار التي تتطاير يمنة ويسرة وصعودا وهبوطا, فلا يقوم لها شيء إلا أتت عليه. هنا يرى الإنسان الحقيقة في هذا العالم عارية الجسم, ويسمع صوتها واضح النبرات من حيث لا يحجب بصره تكلف المتكلفين، ولا خداع الخادعين، ولا يصد سمعه قرع النواقيس ولا صياح المؤذنين. فقلت: حسبك يا مولاي فقد نال منك أجيج هذه الرمضاء, وإني أرى في رأس هذا الوادي رجلا أحسبه فلاح هذه الأرض, فامض بنا إليه علّه ييسر لنا ظلة نفيء إليها, وجرعة باردة نفثأ بها هذه الصارّة1، فمشينا إليه حتى بلغناه فرأيناه مكبا على تربته يفلحها ويقلب عاليها سافلها وقد شرست يده وشثنت قدماه وزأبر صدره2، وأفرغ قرص الشمس في رأسه جعبة سهامه فتصبب عرقا حتى سالت منه على قدميه قطرات كقطرات البخار تسيل على جوانب القدر المضطرم, فحييناه بتحية حيا بأحسن منها, وأفضينا إليه بطلبتنا فأشار بيده إلى كوخه وكان منه على

_ 1 يقال: فثأ القدر إذا سكن غليانها, والصارة: العطش. 2 شرست اليد إذا غلظ ظهرها من برد فتشقق, وشثنت القدم إذا خشنت وغلظت, وزأبر الثوب إذا خرج له زئبر, وهو ما يظهر من درزه.

كثب فإذا عريش من عيدان القصب مسجج1 قد ارتفع فوقه سقف من جذوع الأشجار, واعتمد على أُسيطينة2 من اللبن الأسود وامتدت أمامه صفة مستطيلة واستدار به نؤي يمنع عنه مسيل الماء, فدخلناه فلم نر فيه إلا رثة3 من المتاع لا تكاد تزيد على جوالق للخبز اليبيس وخلقان من القمص والأبراد وقدر وأثفية وجرة مملوءة ماء وحشية4 بالية مفككة تضطرب في جوفها حشوة من الليف اضطراب الجنين في جوف الحامل، فشربنا حتى ارتوينا وأخذنا من تلك الحشية مضجعنا وما زلنا على حالنا تلك سكوتا لا نتكلم حتى جاء الرجل وقد مال ميزان النهار يقزل5 في مشيته ويحمل فأسه على عاتقه ويجر وراءه ولدين صغيرين له بين الثامنة والعاشرة, فجلس وجلس ولداه بين يديه وأنشأ يلقي إلينا معاذيره ويتوجع لعجزه عن إكرامنا وإسعافنا بما نحب, فعذرناه ثم جرى بينه وبين الشيخ الحديث الآتي، وكنت أترجم بينهما لأنهما لا يكادان يتفاهمان:

_ 1 يقال: سجج الحائط, إذا طلاها بطبقة رقيقة من الطين. 2 أسيطينة تصغير أسطوانة. 3 رثة المتاع بكسر الراء: ساقطه. 4 الحشية: الفراش المحشو. 5 قزل به قزل, وهو أقبح العرج.

الشيخ: من يملك هذه الأرض؟ الفلاح: هي لسيدي ومولاي أطال الله بقاءه وأتم عليه نعمته صاحب هذا القصر الذي تراه، وأشار إلى قصر فخم يرفرف بأجنحته في هذه البقعة الخضراء، رفرفة الحمامة البيضاء، في القبة الزرقاء. الشيخ: أراك تدعو له وتتمنى له الخير والسعادة, فلعلك سعيد بجواره مغتبط بمكانك منه, ولعله يمدك ببره وإحسانه ويغدق عليك من نعمته ما يطلق لسانك بحمده والثناء عليه. الفلاح: حسبي من سيدي أن أرى وجهه مرة في كل يوم أو يومين, ممتطيا فرسه الدهماء في ركب من أصحابه وحاشيته, مارا بهذه الأجمات الملتفة يتنزه ويتروح, ويطارد الثعالب والذئاب مطاردة الشجاع المستقتل, ثم يعود إلى قصره مسرورا مغتبطا بمصبحه وممساه. الشيخ: إنما أسألك عن أياديه عندك, وصنائعه لديك لا عن منازهه وطرائده وملذاته وشهواته. الفلاح: وهل يوجد في باب النعم جليلها ودقيقها نعمة أجل قدرا وأسنى قيمة من أن أكون عبدا مملوكا لسيد كهذا السيد رفيع الجاه جليل القدر واسع النعمة, تطأطئ بين يديه

رءوس العظماء ويختلف إلى حضرته كبار الأمراء؟ الشيخ: أيها الرجل ما عن هذا أسألك, إنما أسألك: هل يسلم عليك سيدك هذا إذا مر ببابك أو يخلو بك أحيانا ليتعرف همك, وما تهتف به نفسك من رغباتك وحاجاتك؟ الفلاح: الحق أقول, يا سيدي إني ما سمعت في حياتي بأعجب من سؤالك هذا، ومتى كان السيد يخاطب عبده إلا بالأمر والنهي, أو يرفع إليه طرفه إلا بالنظر الشزر, أو يلامس بيده جسمه إلا للتأديب والتهذيب، ولقد تمر بي وبعيالي الليالي ذوات العدد ولا نكاد نجد من الخبز المخشوشب ما يملأ بطوننا فلا أجد في نفسي من الحزن والألم ما أجد من نسيان سيدي إياي بضعة أيام أو إغفاله أمري ونهيي وزجري وتأديبي، وقد أعد لي حفظه الله وأمتعني بدوام رعايته وعنايته عصيا غلاظا يتعهدني بها من حين إلى حين كلما نسيت أمرا من أوامره, أو قصرت في رعاية غرض من أغراضه فأغتبط بذلك الاغتباط كله؛ لأني أعلم أني منه على ذكر1 وأني قد نزلت من نفسه منزلة من لا يهون عليه إغفاله واطراحه وإلقاء حبله على غاربه. الشيخ: وأين أم هذين الولدين؟

_ 1 الذكر: التذكر.

الفلاح: ماتت رحمها الله في سبيل خدمة سيدها؛ فقد كنا يوما نمتح1 على حافة بئر فزلقت أقدامنا وانبتّ بنا الحبل فسقطنا، أما هي فاستأثر الله بها وأما أنا فانكسرت رجلي وقدر الله لي الحياة, فما أسفت على شيء أسفي على أن لم أكن قد لحقتُ بها فأكون قد هلكت في سبيل خدمة سيدي كما هلكت؛ ليترحم علي كما ترحم عليها, ويأمر بدفني في مقبرة أجداده كما أمر بدفنها. الشيخ: ربما كنتَ قانعا من إحسان سيدك إليك, وعطفه عليك بما تعود به على نفسك وعيالك من غلة هذه الأرض وثمراتها. الفلاح: لا والله يا مولاي, ما أعلمني نازعت سيدي نعمته وسعادته في قفيز بُرّ أو حفنة تمر، إلا أن تسقط بين يدي تمرة أعلم أنه لا يأبه لها فتكون قسمة بيني وبين ولدي, أو أحتطب من أطراف هذا الوادي بضعة أعواد من الحطب أشعلها تحت قدري, وأستغفر الله مما سهوت عنه أو أخطأت فيه. وهنا رأيت أبا العلاء كأنما يحاول أن يكاتمني دمعة تترجح في مقلتيه, فأشرت إليه بالقيام فقمنا ومشينا صامتين لا ينطق ولا أنطق حتى بلغنا المنزل, وقد نزل ستر الظلام فقلت: أرجو يا مولاي

_ 1 متح الماء متحا: نزعه.

أن أكون قد بلغت ما أردت لك في مخرجك هذا من السرور والغبطة، قال: ما نغّص علي يومي إلا منظر ذلك الرجل الأبله المسكين في صغر نفسه وسقوط همته وذلة جانبه، وما أحسب إلا أن الظلم قد ألح على نفسه حتى قتلها وسلبها حسها ووجدانها, فأصبح لا يعرف لنفسه حياة ذاتية مستقلة عن حياة ذلك الإنسان الذي يسميه سيده1, فهو لا يفرح إلا لفرحه ولا يغتبط إلا باغتباطه ويرضيه منه كل شيء حتى سوء مجازاته إياه على إخلاصه إليه, وتعبده له بضربه وتعذيبه وتقتير الرزق عليه, وكذلك يفعل الظلم في نفوس المستضعفين. ثم تركني وانحدر إلى مخدعه, وهو يهتف بهذه الكلمات: يحسن مرأى لبني آدم ... وكلهم في الذوق لا يعذب أفضل من أفضلهم صخرة ... لا تظلم الناس ولا تكذب

_ 1 ما كان أبو العلاء يرى لأحد فضلا على أحد إلا بالفضائل النفسية, وقد ردد هذا المعنى كثيرا في كلامه كقوله: أسر إن كنت محمودا على خلق ... ولا أسر بأني الملك محمود وقوله: وأقصاني عن الرؤساء كوني ... وكونهم لخالقنا عبيدا وقوله: وإن أفضل من تعظيمهم رجلا ... صفرا من الحكم التعظيم للحجر

الرسائل

الرسائل: كتاب في التقاضي: أنا إن سألتك حاجتي أعزك الله وبسطت إليك يد رجائي فقد طرقتُ باب المكارم، واستمطرت غيث المراحم، ورجوت واحد الدهر همة وحزما، ونادرة الوجود كرما وفضلا، فإن أنجزتها فليست أولى الهمم، ولا واحدة النعم، فلكم سبقت إلي منك أياد تخرس دونها ألسنة الشكر، وتضيق بها جرائد الحصر، ولقد مثلت أيدك الله بين أن أستشفع إليك بذوي الجاه عندك، والزلفى لديك، وبين أن أكل ذلك إلى كرمك وفضلك، وما طبعت عليه نفسك الشريفة من خلال الخير، وسجايا البر، فرأيت أن الثانية بك أحرى، وبفضلك أجدر، السلام.

كتاب مقاطعة

كتاب مقاطعة: أتاني كتابك وقد أبللت من مرض حبك وصحوت من رقدة طال علي الغيب فيها, حتى خفت أن تتصل برقدة الموت، فلم ترُعني روائعك1، ولا أجدى عندي اعتذارك، ولا أخذ حديثك من قلبي مأخذه من قبل، ولم أر بين سطورك ذلك النور الذي كان يملأ عيني روعة2، وقلبي هيبة، فالحمد لله الذي أدالني منك، وأعتقني من رقك، وكشف لي من مكنونك ما كشف غشاء الهوى عن بصري، فجفت الدموع التي طالما أذلتها3 بين يديك، وقرت العين التي كنت أساهر بها الكوكب شوقا إليك، ولم يبق في خاطري من ذكرك إلا كما بقي في قلوب الناس من الوفاء، والحب شجرة يغرسها الأمل في القلب، ثم يغذوها بمائه وهوائه، فلا تزال تشتجر أغصانها، وترف4 ظلالها، وترن أطيارها، حتى يعصف بها عاصف من اليأس فتموت، ولقد عالجت هذا القلب الشموس5في الرجوع إلى سالف عهدك، وسابق ودك، فجمح جموح المهر الأرِن6، وركب رأسه إلى حيث لا مطمع في أوبته، وله العتبى فيما فعل، فقد ملكني قياده برهة من الزمان فأسأت عشرته، وخفرت ذمته، وأرغمت معطسه، وركبت به في سبيلك أخشن مركب، وأنهلته من جفائك وكبريائك شر منهل، فما هو إلا أن أمكنته الغرة فانطلق انطلاق السجين من سجنه، والطائر من قفصه، فلا أوبة حتى يئوب القارظان، ويبلى الجديدان: إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد ... إليه بوجه آخر الدهر تقبل

_ 1 أي: لم تعجبني محاسنك. 2 الروعة: المسحة من الجمال. 3 أذلتها: أهنتها. 4 رف النبات: اهتز واضطرب. 5 شمس: امتنع وأبى. 6 المهر الأرن: النشيط.

كتاب تهكم

كتاب تهكم: علمت أن ساسانيا1 طرق بابك بالأمس، وما زال يكيد لك ويماحلك، ويتغلغل في مواضع الضعف من قلبك، حتى خدعك عن نفسك، واقتطف زهرة من روضة مالك؛ وراح يفتر عن ثغر باسم، ورحت تقرع سن نادم، فما هذا الخلق الغريب الذي تخلقته، وما هذا المذهب الجديد الذي اعتنقته؛ ومتى أقامك آدم وصيا على أولاده من بعده، تكسو عاريهم، وتشبع جائعهم، على أن الفقراء في الدنيا كثير قد ضاقت بهم خزائن الأرض والسماء فكيف تسعهم خزائنك، وهل بين الدرهم الذي أعطيت، والدراهم التي أبقيت، إلا حرف واحد2، فليت

_ 1 النسبة إلى ساسان, وهو رجل كان معروفا بالفقر والبصر والاحتيال على الصدقات. 2 يشير إلى أن الفرق بين مفرد الدراهم وجمعه حرف واحد وهو الألف اللينة في الجمع, ويريد بذلك تعظيم شأن الدرهم وأنه لا يستهان به؛ لأن الدراهم وإن كثرت فهي ليست إلا درهما على درهم.

شعري من أين دهيت، ومن أي باب نفذ هذا الشيطان إلى قلبك، وإن أخوف ما أخاف عليك أن تكون أُتيت من باب تلك الخدعة الشيطانية التي يسمونها الرحمة، فإن كانت هي فالخطب عظيم، والبلاء جسيم؛ فإنك حيثما ذهبت، وأنى حللت، لا تقع عينك إلا على يد شلاء، ورجل بتراء، وعين عمياء، وصورة شوهاء، وثوب مخرق، وشلو ممزق، وطريح على التراب سقيم، وجسم أعرى من أديم، فإن لم تفارق الرحمة قلبك، فارق المال جيبك، فطفت مع الطائفين، وتسولت مع المتسولين، ثم لا تجد لك راحما ولا معينا، فارحم نفسك قبل أن ترحم سواك، ولا تنس أن تردد في صباحك ومسائك، وفي مستأنف خطواتك، وفي أعقاب صلواتك، كلمة ابن الزيات: "الرحمة خور في الطبيعة". وعلمت أنك دعيت إلى وليمة فلان فتحلب لها فوك، ورقصت لها أشداقك، فطرت إليها، ثم وقعت على خبزها وشوائها، وفاكهتها وحلوائها، مثلج الصدر، ثابت القدم، ساكن القلب، طيب النفس، كأنك لا تعلم أنها لذة الساعة ومرارة العمر، وشبع اليوم وجوع الأبد، وأنك إنما طعمت ما في الحبالة من الحب، تأكله اليوم ليأكلك غدا، فمن لك بالنجاة من مضيفك إذا جاءك يوما يتقاضاك دينه وقد حفت به

كوكبة من خلانه وصحبه، فطار لمرآه لبك، وتمشى له قلبك في صدرك، وخيرك بين لحم شاتك ولحمك، فالفقر إن منحت، والعار إن منعت، وأعجب من ذلك أنك ما برحت الوليمة حتى أخذ المغني مجلسه فسمعت وطربت، ومن طرب شرب، ومن شرب وهب، ومن وهب خرب، ولقد كان لك في انزوائك واعتزالك، واكتفائك بقرصك وزيتك، وخلوتك بصندوقك في كسر بيتك، من حيث لا تزور ولا تزار, منادح عن هذه اللقمة التي أسهرت ليلك، وأقضّت مضجعك، وأقعدتك على مثل روق الظبى خيفة وحذارا، فإياك والعود إلى مثلها يطل غمك، ويسود عيشك، والسلام.

كتاب يأس

كتاب يأس: كتابي إلى سيدي ومولاي والنفس بين جنة من الأمل تغنّ أشحارها، وترن أطيارها، وتشتجر أغصانها، وتعتنق غدرانها، وهاجرة من اليأس تتلظى نارها، ويعتلج أُوارها، وتحول بين الجفون واغتماضها، والجنوب ومضاجعها، والقلب يهبط به الخوف فيتمشى بين الأضالع مشية الطائر الحذر, ثم يدركه الأمن فيقر في مستقره قرار الماء في نهاية منحدره، وحالي كحال هذه الدنيا تضطرب ما بين فرح وهم، وسرور

وحزن، وقبض وبسط، ومد وجزر، أذكر الله ورحمته وإحسانه، ورأفته وحنانه، فيشرق لي من خلال ذكراه وجه الحياة الناضر، وثغرها البارق، وجمالها الساطع، وبشرها الضاحك، ثم أذكر الدهر وصروفه، والعيش وحتوفه، والأيام وما أعدت في طياتها لبنيها من عثرات، في الخطوات، ونكبات، في الغدوات والروحات، وما أخذته من العهد على نفسها من الوقوف بين النفوس وآمالها، والقلوب وأمانيها، فألمس صدري بيدي لأعلم أين مكان قلبي من أضالعي، ثم أنثني على كبدي من خشية أن تصدعا، فليت الله يصنع لي فيمطر علي قطرة واحدة من غيوث رحمته وإحسانه أبل بها غلتي، وأطفئ بها لوعتي، أو ليت القدر ينشب أظافره بين سَحْري1 ونحري نشوبا لا يستبقي بعده عرقا نابضا، ولا نفسا مترددا، فيستخلصني من موقف أنا فيه كالمريض المشرف, لا هو حي فيرجى، ولا ميت فيبكى. يقولون: ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل، وأقول: ما عذب الله عباده بنازلة القضاء، وصاعقة العذاب، وطاغية الطوفان، والزلزال الأكبر، والموت الأحمر، والخوف من الجوع والنقص من الأموال والأنفس والثمرات، بمثل ما عذبهم بالأمل الباطل،

_ 1 السحر: الرئة.

وما ليلة نابغية ضرير نجمها، حالك ظلامها، يبيت منها صاحبها على مثل روق الظبى خيفة وحذارا، فوق أرض تعزف جنانها1، وتحوم عقبانها، وتزأر سباعها، وتعوي ذئابها، وتحت سماء تتهاوى نجومها، وتتوالى رجومها، وتتراكم غيومها، بأسوأ في نفسه أثرا من رجاء كاذب يتردد بين جنبيه، تردد الغصة بين لحييه، لا هي نازلة فيطعمها، ولا صاعدة فيقذفها. قد أصبحت أحسد الوحوش الهائمة على وجوهها في بطون الأودية، وقنن الجبال، أن أراها ساربة في مساربها، سارحة في مسارحها، تتناول رزقها رغدا من بوارق المصادفات، ومفاجآت المقادير، لا يعنيها الأسف على فائت من العيش، ولا يقلقها الطمع في آتٍ من الرزق، قد قنعت من الماء بالكدر، ومن العيش بالجشب2، فتساوى لديها شحمها ولحمها، وشيحها وقيصومها، وسعدها ونحسها، ونعيمها وبؤسها، فما تحفل بنوازل القضاء، ولا رجوم السماء، ولا تبالي أسقطت على الموت أم سقط الموت عليها. فمن لي بهذا العيش من عيش مَثَلي فيه كمثل رجل عثرت به قدمه, فسقط في جوف بئر بعيد غورها، ناءٍ مكانها، فما زال يتخبط

_ 1 جمع جان. 2 الجشب: الخشن من الطعام.

ويضطرب، ويهب ويثب، حتى عثر بمرقاة علقت رجله بها ثم تلمس أخرى غيرها فما وجدها حتى بلغ منه الجهد أو كاد، فلم يصبر على الثانية صبره على الأولى فسقط فخاف الغرق, فعاد إلى تلمسه، فعاد إلى سقوطه، فلا هو بالغ رأس البئر فينجو من الموت، ولا هو بالغ قرارة الماء، فينجو من الشقاء. ارم بطرفك حيث شئت من الناس, هل تبصر إلا صريعا صرعه أمله، أو قتيلا قتله رجاؤه، أو صديقا يشكو غدر صديق كان يعده لنوائب الدهر فأصبح عون النوائب عليه، أو باكيا يبكي وليدا كان يرجوه لمستقبل دهره ففجعته الأيام فيه، أو ساعيا دائبا وراء غاية يطلبها من الدهر فلا يقرب منها حتى يبتعد عنها، ولا يمسك بها حتى تفلت من يديه، أو ساهرا متململا لولا أمله أن تنيله الأيام ما يشتهيه من هواه ما بات ليله شاكيا باكيا، داعيا مناجيا، لا تراه إلا عين السماء، ولا تسمعه إلا أذن الجوزاء. هذه حالتي، وذلك همي، وهذا ما وسوس لي أن أعتزل الناس جميعا وأفارق عشيرتي وصحبتي، ويراعي ومحبرتي، علني أجد في البعد عن مثارات الأماني ومباعث الآمال راحة اليأس، فاليأس خير دواء, لأمراض الرجاء.

فها أنذا قابع في كسر بيتي لا مؤنس لي إلا وحشتي، ولا أنيس إلا وحدتي، أتخيل البيت قبرا، والثوب كفنا، والوحشة وحشة المقبورين في مقابرهم؛ لأعالج نفسي على نسيان الحياة، وأمانيها الباطلة، ومطامعها الكاذبة، حتى يبلغ الكتاب أجله، وهذا آخر عهدي بك وبغيرك, والسلام.

الكلمات

الكلمات: الجرائد: لا أرى الصحف في مصر إلا ناديا من أندية القمار, ولا هؤلاء الكتاب إلا جماعة من اللاعبين قد وضعوا رءوس المصريين على مائدة اللعب كما توضع الأكر على طاولة "البليار"، ثم داروا حولها يلعبون بها ويتدافعونها فيكسبها في الصباح "زيد"، ويخسرها في المساء "عمرو"، وربما لا يأتي آخر الليل حتى يدور النحس دورته عليهم جميعا، فيخسرها الكل ويكسبها صاحب النادي. عبد الحميد: حضرت منذ أشهر قلائل تمثيل رواية في مسرح عربي, اختتمها جوق التمثيل بنشيد للسلطان عبد الحميد يصفه فيه ناظمه بالعدل والرحمة, والرفق والإحسان ويدعو له بسلامة عرشه، وطول بقائه، فما سمع الناس اسمه حتى هتفوا له هتافا يصم المسامع وصفقوا له تصفيقا كاد يضم أضلاع المسرح بعضها إلى بعض،

وحضرت ليلة أمس منظرا من مناظر الصور المتحركة, فرأيتهم يمثلون ذلك السلطان بعينه رجلا ظالما سفاحا ضعيف الهمة ساقط النفس زمِن المروءة جبانا مستطارا، ورأيتهم قد عمدوا إلى صورته فجعلوها مواطئ أقدامهم، ومضارب سيوفهم، فما رأى الناس هذا المنظر حتى راق في أعينهم وابتهجوا لمرآه ابتهاجا ملأ فضاء صدورهم، فتمشى في أعصاب أدمغتهم، حتى وصل إلى أعصاب أيديهم، فصفقوا له تصفيقا شديدا بتلك الأكف التي رأيتهم يصفقون بها في مسرح التمثيل. أنا لا أعلم إن كان عبد الحميد ظالما أو عادلا، كريما أو لئيما، شريفا أو وضيعا، وإنما أعلم أنني سأموت قبل أن أقف على حقيقة تاريخية في أمره ما دام الناس عامتهم وخاصتهم, كتابهم وشعراؤهم, علماؤهم وجهلاؤهم، هم الناس الذين يقول فيهم القائل: والناس من يلق خيرا قائلون له ... ما يشتهي ولأم المخطئ الهبل الشهرة: لا يمكن أن تكون الشهرة بحال من الأحوال ميزانا للفضل في مصر خصوصا في عالم الأدب، ولن يجري الفضل والذكر في ميدان واحد إلا إذا سلم السباق من كيد العابث

وخدعة الأريب، وأنى لنا ذلك وفي شعراء مصر من يغتصب الشهرة اغتصابا ويلصقها بنفسه إلصاقا وينزع إليها بوسائل لو عرفها الناس لأنزلوه منزلته، وألبسوه حلته، بينما ترى الآخر قد قنع من أدبه بلذة نفسه، وإمتاع جدانه، فلا يترنم بقصائده في المنتديات والمجامع، ولا يبتاع من الصحف الأسماء والألقاب، ولا يستخدم الكتاب لإطرائه والإشادة بذكره، ولا يتمم ما يجده من النقص في أدبه بالغض من أدب غيره، فترى للأول في هذا البلد الساذج دويا كدوي الرعد، وترى الآخر مطرحا مجفوا لا يؤبه له، والدر في الصدف أغلى قيمة وأرفع قدرا من جميع ما على وجه الأرض من ألواح البلور، وإن كان ملأ العيون حسنا وبهاء، ورونقا وماء. فكاهة: حدثني بعض الأصدقاء أنه دخل في أيام الحرب الروسية اليابانية حانوت حلاق معروف بالثرثرة أكثر من أفراد طائفته ليحلق له رأسه، وكان عنده جماعة من زائريه, فأجلسه على كرسي أمام مرآة وأمسك بالموسى وأنشأ يحلق له رأسا حلقا غريبا لا عهد له بمثله من قبل، فكان يحلق بقعة ويترك إلى جانبها أخرى مستطيلة أو مستديرة وأخرى مثلثة أو مربعة حتى رِيع الرجل

وظن أن الحلاق قد أصابه مس من الجنون، فارتعش بين يديه وخاف أن يمتد به جنونه إلى ما لا تحمد عقباه، واعتُقل لسانه فما يستطيع أن يسأله عن سر عمله هذا. فما انتهى الحلاق من أشكاله الهندسية ورسومه الجغرافية حتى التفت إلى جلسائه وقال لهم كأنه يتمم حديثا سابقا بينه وبينهم: لأجل فض النزاع بيننا ها قد رسمت لكم خريطة الحرب الروسية اليابانية في رأس "الزبون" هنا طوكيو، وهنا بور أرثر، وهنا انكسر كروباتكين، وهنا انتصر أوياما، وفي هذا الخط مر الأسطول الروسي، وفي هذه البقعة تلاقى الأسطولان، وهنا أخذ يتكلم بحدة وحماسة عن شجاعة اليابان وبسالتهم, ثم أردف كلامه بقوله: "وفي هذه البقعة ضرب اليابانيون الروس الضربة القاضية" وضرب بجمع يده أم رأس الزبون، فقام صارخا يولول ويهرول مكشوف الرأس يلعن السياسة والسياسيين، والروس واليابانيين، والناس أجمعين. لا أعلم إن كان المحدث هازلا أو مجدا، وإنما أعلم أنه قد أجاد التمثيل.

الأقسام: لا أعرف فرقا بين حنث الحانث في يمينه، وكذب الكاذب في حديثه، كلاهما ضعيف المُنة، وكلاهما ساقط الهمة، وكما لا يستطيع الكاذب أن يكون صادقا كذلك لا يستطيع الحانث أن يكون بارا، وناقض العهد أن يكون وفيا، فخداع من المتكلم أن يزعم أن لأحاديثه من الشأن في مواقف الأقسام ما ليس لها في غير تلك المواقف، وأنه يتحرج في الحنث ما لا يتحرج في الكذب، فإن من يستصغر جرم الكذب لا يستكبر من بعده جرما. الدين: أيها الناشئ: إن من الناس قوما قد ضعفت نفوسهم عن احتمال ثقل الدين وسلطان أمره ونهيه, فخرجوا عليه ونبذوا طاعته، ثم علموا أن الناس سيأخذون عليهم ضعفهم وعجزهم فلم يجدوا معذرة يعتذرون بها إليهم غير دعوى إنكار الدين وجحوده استثقالا وتبرما لا تقلدا وتمذهبا وما هم بمنكريه ولا جاحديه، فاعلم أن الله سيبتليك بهم وأنهم سيزينون لك إنكار ما يزعمون أنهم ينكرونه وسيخيلون إليك أنك لن تستطيع أن تبلغ ما تريد من هذه المدنية الحاضرة وأن تنال الخطوة الباسقة في نفوس أصحابها إلا إذا تنكرت لدينك وتسلبت منه وخفرت ذمته، فاحرص

الحرص كله على أن لا يعلق بنفسه عالق من هذه الخيالات الباطلة، واعلم أنك إلى نفسك أحوج منك إلى الناس, وأن الناس لا يغنون عنك من الله شيئا إن أنت آثرت مرضاتهم على مرضاته, وأن هذه الحياة الحافلة بصنوف الشقاء وأنواع الآلام والتي لا يفيق المرء فيها من غمرة إلا إلى غمرة، ولا يئل من عثرة إلا إلى عثرة، لا يعين عليها إلا عقيدة راسخة يلوذ بها الحائر كلما عثرت خطواته، وتداركت عثراته، ويستروح من أعطافها رائحة الجنة كلما ضاق ذرعه باحتمال جحيم العذاب. الحقيقة: قال لي بعض الناس: إن قوما يغرقون في مدحك فهلا زجرتهم، فقلت له: إن آخرين قد أغرقوا في ذمي فلم أصنع شيئا، فدع الأكاذيب يقرع بعضها بعضا, فربما استطارت من تلك المعركة شرارة تضيء للناس مكان جوهرة الحقيقة المذالة تحت الأقدام فيلتقطونها. الانتقاد: بين نقد المؤلفات هنا ونقدها هناك فرقان؛ أحدهما يتعلق بالناقد والآخر يتعلق بأثر النقد في الأذهان، أما الأول فهو أن الناقد هناك ينتقد الكتاب من حيث ذاته، فلو لم يكن للكتاب

صاحب لانتقده، وهنا ينتقده باعتبار شخص مؤلفه، أي: إنه لا ينتقد الكتاب، بل صاحب الكتاب في كتابه، وأما الثاني وهو أثر طبيعي للأول, فهو أن للانتقاد هناك أثرا ظاهرا في الكتاب من حيث رواجه وكساده، وشهرته وخموله، فكما يقول المنتقد يقول الناس بقوله، وهنا يمر الانتقاد بالأذهان مرا فلا يبقى من آثاره فيها إلا أثر واحد، وهو أن الكتاب جليل القدر سني القيمة ولولا ذلك ما احتفل بأمره محتفل؛ لذلك رأيت كثيرا من عقلاء الأدباء لا يرضون عن أنفسهم في هذا البلد إلا إذا انتقد الناقدون مؤلفاتهم، بل رأيت من يتوسل إلى أحد الناقدين أن ينتقد مؤلفه، بل رأيت من يبلغ به الأمر أن ينتقد كتابه بنفسه بتوقيع منحول، أولئك الذين يعرفون قيمة المنتقدين عندنا وأثر انتقاداتهم في نفوسنا، أما الذين يغضبهم الانتقاد ويحرج صدورهم فهم الذين لا يعرفون من هذا ولا ذاك شيئا. الحزم: إن الدرهم الذي تمنحه لمن لا يستحقه يخرج من يدك فلا تجده في اليوم الذي ترى فيه أمامك من يستحقه، وإن الدينار الذي تعطيه للشارب ليشتري به كأسا يقتل بها نفسه لا يتيسر لك أن تعطيه للفقير العائل ليشتري به رغيفا يسد به جوعة ولده.

الألم: إن في كثير من الآلام التي نعالجها لذائذ ومسرات يدركها من عرف أن الإنسان بطبيعته غافل عما يهدده من مصائب هذه الحياة وأرزائها, وأن الآلام الضعيفة التي تناله من العثرات الصغيرة نُذُر تأتيه من عالم الغيب؛ لتحذره من الآلام الشديدة التي تناله من السقطات الكبيرة. الغفران: ليس الحقد واحتمال الضغينة غريزة من الغرائز اللازمة للإنسان, فإن الرجل قد يصفح عن سيئات الأطفال؛ لأنهم لا يملكون الخيار لأنفسهم, ويذكر لأصحاب السيئات من الموتى حسناتهم؛ لأن الزمن الذي ذهب بهم ذهب بخيرهم وشرهم, فلم لا نغتفر ذنوب أولئك الذين ما أذنبوا إلا بعد حرب مستعرة قامت بين عقولهم وقلوبهم ثم سقطوا على أثرها صرعى لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا؟ الدعوى: إن أردت أن تكون في الأمة الجاهلة كل شيء فادّع لنفسك كل شيء، تنل بقولك في الزمن القصير ما لا ينال غيرك بفعله في

الزمن الطويل، فإن الكاذب لا يزال يكذب حتى يصدقه الناس ثم لا يزال يكذب حتى يصدق نفسه. الدين والوطن: من لا خير له في دينه لا خير له في وطنه؛ لأنه إن كان بنقضه عهد الوطنية غادرا فاجرا فهو بنقضه عهد الله وميثاقه أغدر وأفجر، وإن الفضيلة للإنسان أفضل الأوطان، فمن لم يحرص عليها فأحرى به ألا يحرص على وطن السقوف والجدران. الحلم: إذا توردك متورد بكلمة سوء فلا تبتئس بها، فإنك في موقفك هذا بين اثنتين، إما أن يكون الرجل صادقا فيما يقول أو كاذبا، فإن كانت الأولى فاحمد الله تعالى على أن قيض لك من أرشدك إلى عيبك وكشف لك عن خبيئة نفسك, وإن كانت الأخرى فاربأ بنفسك أن تكون من الجاهلين الذين يتوهمون أن في استطاعة الأكاذيب أن تبقى طويلا على ظهر الأرض. الأدب: لا تكافئ السفيه على سفهه بمثله؛ فإنك إن فعلت قضيت له على نفسك, وأصبحت شريكه في الخلة التي تزعم أنك تنقمها عليه،

فإن كنت لا بد منتقما فليكن مثلك مثل الأحنف بن قيس؛ إذ جاءه رجل قد جعل له بعض الناس جعلا على أن يغضبه, فما زال يسبه ويشتمه ويلح في ذلك إلحاحا محرجا والأحنف ساكت لا يقول شيئا, حتى ضاق بالرجل أمره فانقلب إلى قومه باكيا نادبا يأكل أصبعه أكلا ويقول: والله ما سكت عني إلا لهواني عليه. الأخلاق: مثل المتعلم غير المتأدب كمثل شجرة عارية لا تورق, ولا تثمر قد انتصبت للناس في ملتقى الطريق تعترض الرائح وتصد سبيل الغادي, فلا الناس بظلها يستظلون، ولا هم من شرها ناجون. الاعتدال: بين الجبن والتهور منزلة هي الشجاعة والإقدام، وبين البخل والإسراف منزلة هي الكرم، وبين العفو والانتقام منزلة هي العقوبة، وبين العجز والجهل منزلة هي الحكمة، فليكن من أفضل ما تأخذ به نفسك التريث والتثبت عند النظر في الفرق بين مشتبه الفضائل والرذائل، واعلم أنك لا تزال كريما حتى تنفق مالك في غير موضعه فإذا أنت مسرف، وأنك لا تزال حليما حتى تغضب للباطل فإذا أنت جهول، وأنك لا تزال جبانا حتى تقاتل عن عرضك

وشرفك فإذا أنت شجاع، وأن كل الناس يعرفون الفضائل والرذائل ويفهمون معانيها، أما إدراك الفروق بين مشتبهاتها ونظائرها فتلك رتبة العقلاء الأذكياء. البر: ربما كان لك من أبويك أو من ذوي رحمك ممن تولوا شأنك في مفتتح عمرك من لم تساعده شئون دهره أو عصور نشأته على أن ينال حظا من العلم والمعرفة مثل ما نلت، فإياك أن يدعوك ذلك إلى تسفيهه أو تجبيهه أو السخرية به أو الإدلال بنفسك عليه؛ فإنك إن فعلت خسرت من الأدب أضعاف ما كسبت من العلم، على أنه ربما كان لكبيرك هذا الذي عققته وظلمته وكفرت بفضل نعمته عليك من العلم بتجارب الحياة ومقاتلها وموارد الأمور ومصادرها ما يبهر علمك الذي تعتد به وتدل بمكانك منه عليه، وهنالك تكون قد خسرت فوق خسران أدبك ما كان خليقا بك أن تتلقاه بين يديه من علوم التجارب التي ليست علوم الدراسة بالإضافة إليها إلا كالنقطة من البحر، والمدرة من القفر. الرأي العام: ليس إجماع ألف أو عشرة آلاف أو مائة ألف متأثرين

بشعور واحد مستمدين من روح واحدة على رأي من الآراء, دليلا على صحة ذلك الرأي؛ لأنه قد يكون رأي فرد واحد تأثر به الباقون تقليدا وعدوى، ورأي الواحد مترجح بين الخطأ والصواب. الزعامة: لا يشترط في قيادة الجموع أن يكون القائد مفرطا في الذكاء أو العقل أو الدهاء، بل يكفيه من ذلك كله شيء من العلم بأذواق أتباعه وميولهم وسبل الوصول إلى قلوبهم, لا يزيد على علم التاجر بأذواق زبائنه ورغباتهم. الاستقلال: لا سبيل للإنسان إلى الخلاص من الاندفاع في تيار الجماعات وضلالها مهما كان ذكيا أو مفكرا إلا إذا حبس نفسه عن الانضمام إليها, أو كان له من عزيمة الرأي وقوة النفس ما يمكنه من تربية نفسه على التجرد حتى يصير طبيعة له, فيحضرها شاهدا كغائب ومجتمعا كمنفرد. روح الاجتماع: ليس حب الجماعة لبعض الناس وبغضهم لآخرين دليلا على رفعة من يحبون وضعة من يبغضون، وليست جرائمهم التي يقترفونها باسم الشعور الذي يشتركون فيه دليلا على أن من يقتلون

يستحق القتل أو من يشتمون يستحق الشتم أو من يحتقرون يستحق الاحتقار، بل كثيرا ما تكون الحقيقة على العكس من ذلك عندما يكون قائد تلك الجماعة من أشرار الناس, وأدنيائهم. الاندفاع: ليس انضمام فرد من أذكياء الناس وعقلائهم إلى جماعة من الجماعات دليلا على فضل تلك الجماعة أو شرف مقاصدها أو صحة مبادئها؛ لأنه لا يجتاز عتبة مجتمعها إلا بعد أن يخلع عقله ومواهبه مع ردائه وعصاه خارج بابه. الشقاء: السبب في شقاء الإنسان أنه دائما يزهد في سعادة يومه ويلهو عنها بما يتطلع إليه من سعادة غده، فإذا جاء غده اعتقد أن أمسه كان خيرا من يومه، فهو لا ينفك شقيا في حاضره وماضيه. اللفظ والمعنى: لم أر فيما رأيت من الآراء في قديم الأدب وحديثه أغرب من رأي الذين يفرقون في أحكامهم بين اللفظ والمعنى, ويصفون كلا منهما بصفة تختلف عن صفة الآخر فيقولون: ما أجمل أسلوب هذه القصيدة لولا أن معانيها رديئة, أو ما أبدع معاني هذه القطعة وإن كان أسلوبها قبيحا كأنما يخيل إليهم أن اللفظ

وعاء وأن المعنى سائل من السوائل يملأ ذلك الوعاء, فتارة يكون خمرا وتارة يكون خلا ويكون حينا صافيا وأخرى كدرا, وما علموا أنهما متحدان ممتزجان امتزاج الشمس بشعاعها والخمر بنشوتها, فكما لا يجوز أن نقول: ما أجمل الشمس وأقبح شعاعها, ولا ما أعذب الخمرة وأمر نشوتها كذلك لا يجوز أن نصف اللفظ بالجمال والمعنى بالقبح أو نعكس ذلك. وليعلم الناشئ المتأدب أنه ليس للفظ كيان مستقل بنفسه, فجماله جمال معناه وقبحه قبحه, وأن القطع الأدبية التي نصف أسلوبها بالجمال إنما نصف بذلك معانيها وأغراضها, وأن الذين يزعمون من الشعراء أو الكتاب أن أساليبهم الغامضة الركيكة المضطربة تشتمل على معانٍ شريفة عالية كاذبون في زعمهم أو واهمون. "تم الجزء الثاني من النظرات"

فهرست الجزء الثاني من النظرات

فهرست الجزء الثاني من النظرات: صفحة 3 الحياة الذاتية 10 العبرات 15 دمعة على الإسلام 22 السياسة 25 خداع العناوين 34 الإغراق 38 اللقيطة 47 الصندوق 51 الغناء العربي 61 التوبة 70 الحسد 73 الوفاء 78 خبايا الزوايا 83 الجامعة الإسلامية 93 القمار 97 الأوصياء 106 العام الجديد 111 سحر البيان 124 الكبرياء 129 الانتحار 133 الحياة الشعرية 137 رباعيات الخيام 142 إلى تولستوي 149 مقدمة مختارات المنفلوطي 157 وا رحمتاه 162 خطبة الحرب 167 الإنسانية العامة 172 أدوار الشعر العربي 175 حوانيت الأعراض 180 الرثاء 191 الشعر 202 الشهيدتان 207 الدعاء 212 ليلة في التمثيل 216 الكوخ والقصر 219 حول سرير الموت 229 غدر المرأة 235 الضاد

صفحة 238 سياحة في كتاب 246 دمعة على الأدب 249 الصحافة 255 التماثيل 265 مدرسة الغرام 270 أمس واليوم 283 المرقص 289 البعث 327 "الرسائل" 327 كتاب في التقاضي 327 كتاب مقاطعة 329 كتاب تهكم 331 كتاب يأس 336 "الكلمات" 336 الجرائد 336 عبد الحميد 337 الشهرة 338 فكاهة 340 الأقسام 340 الدين 341 الحقيقة 341 الانتقاد 342 الحزم 343 الألم 343 الغفران 343 الدعوى 344 الدين والوطن 344 الحلم 344 الأدب 345 الأخلاق 345 الاعتدال 346 البر 346 الرأي العام 347 الزعامة 347 الاستقلال الفكري 347 روح الاجتماع 348 الاندفاع 348 الشقاء 348 اللفظ والمعنى "تم الفهرست"

المجلد الثالث

المجلد الثالث البيان ... البيان: عرفت فيما مضى من الأيام أديبًا كان من أكبر أدباء هذا البلد المضطلعين باللغة وفنونها، الحافظين للكثير الممتع من منظومها ومنثورها، وكان لا يكتب كلمة في صحيفة ولا ينشر في الناس كتابًا إلا أعجم كتابته وأبهمها وتعمل فيها تعملا يأخذ على القارئ عقله وفهمه فلا يدري أي سبيل يأخذ بين مسالكها وشعابها، وكنت أحسبها غريزة من غرائزه الغالبة عليه الآخذة التخلص منها والنزوع عنها حتى اطلعت لهُ عند بعض أصدقائه على كتاب صغير كان قد أرسله إليه في بعض الشئون الخاصة به وكتبهُ بتلك اللغة السهلة البسيطة التي يسمونها اللغة العادية، فأُعجبت بأسلوبه في كتابه هذا إعجابًا كثيرًا ورأيت أنه أبلغ ما قرأت له في حياتى من كتب ورسائل، وعلمت أن الرجل فصيح بفطرته قادر على الإبانة عن أغراضه ومراميه كأفضل ما يَقتدر مقتدرٌ على ذلك إلا أنه يتكلف الركة والتعقيد في كتابته

تكلفًا ويأخذ نفسه بهما أخذًا، ولو أنه أرسل نفسه على سجيتها فكتب جميع رسائله ومؤلفاته بتلك اللغة الجميلة العذبة التي كتب بها كتابه هذا لكان من أعظم الكتاب شأنًا وأكثرهم نفعًا وأرفعهم صوتًا في عالم الكتابة والأدب، ولكن هكذا قُدر له أن يقضي بنفسه على نفسه حتى مات رحمة الله عليه فماتت بموته نفثاته وآثاره. وقرأت منذ أيام لأحد الشعراء المتكلفين ديوان شعر فلم أفهم منه غير خطبته النثرية ولم يُعجبني فيه سواها، وما أحسبها أفلتت من يده ولا جاءت على هذه الصورة من الجودة والحسن إلا لأنه أغفل العناية بها والتدقيق في وضعها فأرسلها عفو الخاطر إرسال من يعلم أنه إنما يسئل عن الإجادة في الشعر لا في النثر، وأن الناس سيتغفرون له ضعف الكاتب أمام قوة الشاعر، غير عالم أنه كاتب أفصح الكتاب وأبينهم، ولو شاء لكان شاعرًا من أقدر الشعراء وأفضلهم، وأنه ما أحسن إلا حيث ظن الإساءة ولا أساء إلا حيث ظن الإحسان. ووالله ما أدري ما الذي يستفيده هؤلاء الكتاب والشعراء من سلوكهم هذا المسلك الوعر الخشن في أساليبهم الكتابية والشعرية وتكلف الإغراب والتعقيد فيها وهم يعلمون أنهم إنما يكتبون لا لأنفسهم وإن الناس خصوصًا في مثل هذا العصر

عصر المدنية والعمل والحركة والنشاط أضنّ بأنفسهم وبأوقاتهم من أن يقفوا الوقفات الطوال أمام بيت من الشعر يعالجون فهمه أو شطر من النثر يعانون كسر صخور ألفاظه عن كوامن معانيه، ولم لا يؤثر أحدهم إن كان يكتب للمنفعة العامة أن يستكثر من سواد المنتفعين بعلمه وفضله أو للشهرة والذكر أن ينتشر له ما يريد من ذلك بين جميع طبقات الأمة عامتها وخاصتها جاهلها وعالمها، وهل الشعر والكتابة إلا أحاديث سائرة يحادث بها الشعراء والكتاب الناس ليفضوا إليهم بخواطر أفكارهم وسوانح آرائهم وخلجات نفوسهم؟ وهل يعني المُتحدث في حديثه شيء سوى أن يعي عنه الناسُ ما يقول وأن يجد بين يديه سامعًا مصغيًا ومقبلًا محتفلًا: وأي فرق بين أن يجلس الرجل إلى جمع من أصدقائه ليقص عليهم بعض القصص أو يفضي إليهم ببعض الآراء فيتلطف في تفهيمهم وإيصال معانيه إلى نفوسهم ويفتن في اجتذاب ميولهم وعواطفهم وبين أن يجلس إلى مكتبه ليبعث إليهم بهذه الأحاديث نفسها من طريق القلم، ولمَ لا يعنيه في الأخرى ما يعنيه في الأولى. ليس البيان ميدانًا يتبارى فيه اللغويون والحُفاظ أيهم أكثر مادة في اللغة وأوسع اطلاعًا على مفرداتها وتركيبها وأقدر على

استظهار نوادرها وشواذها ومترادفاتها ومتوارداتها، ولا متحفًا لصور الأساليب وأنواع التراكيب، ولا مخزنًا لحقائب المجازات والاستعارات، وغياب الشواهد والأمثال، فتلك أشياء خارجة عن موضوع البيان وجوهره إنما يُعنَى بها المؤلفون والمدونون وأصحاب القواميس والمعاجم وواضعو كتب المترادفات ومصنفو تواريخ اللغة وتواريخ آدابها، أما البيان فهو تصوير المعنى القائم في النفس تصويرًا صادقًا يمثلهُ في ذهن السامع كأنهُ يراهُ ويلمسهُ لا يزيد على ذلك شيئًا، فإن عجز الشاعر أو الكاتب مهما كبر عقله وغزر علمه واحتفل ذهنه عن أن يصل بسامعه إلى هذه الغاية، فهو إن شئت أعلم العلماء، أو أفضل الفُضلاء، أو أذكى الأذكياء، ولكنه ليس بالشاعر ولا بالكاتب. ما أشبه الجمود اللغوي في هذه البيئة العربية بالجمود الديني، وما أشبه نتيجة الأول بنتيجة الآخر، لم يزل علماء الدين يتشددون فيه ويتنطعون ويقتطعون من هضبته الشماء صخورًا صماء يضعونها عثرة في سبيل المدنية والحضارة حتى صيروه عبئًا ثقيلًا على كواهل الناس وأعناقهم فملّه الكثير منهم وبرموا به وأخذوا يطلبون لأنفسهم الحياة الطيبة من طريق غير طريقه، ولو أنهم لانوا به مع الزمان وصروفه وتمشوا بأوامره ونواهيه مع شئون

المجتمع وأحواله لاستطاع الناس أن يجمعوا بين الأخذ بأسباب دينهم والأخذ بأسباب دنياهم، ولم يزل جماعة اللغويين وعبدة الألفاظ والصور يتشددون في اللغة ويتحذلقون، ويتشبثون بالأساليب القديمة والتراكيب الوحشية ويغالون في محاكاتها واحتذائها، ويأبون على الناس إلا أن يجمدوا معهم حيث جمدوا، وينزلوا على حكمهم فيما أرادوا، ويحاسبون الكاتبين والناطقين حسابًا شديدًا على الكلمة الغريبة والمعنى المبتكر ويقيمون المناحات الشعواء على كل تشبيه لم تعرفه العرب وكل خيال لم يمر بأذهانهم حتى ملّهم الناس وملّوا اللغة معهم فتمردوا عليهم وخلعوا طاعتهم وطلبوا لأنفسهم الحرية اللغوية التامة في جميع مواقفهم وعلائقهم فسقطوا في اللغة العامية في أحاديثهم وشبه العامية في كتاباتهم، وكادت تنقطع الصلة بين الأمة ولغتها لولا أن تداركها الله برحمته فقيض لها هذا الفريق العامل المستنير من شعراء العصر وكتابه الذين عرفوا سر البيان وأدركوا أسلوبًا وسطًا معتدلًا جمعوا فيه بين المُحافظة على اللغة وأوضاعها وأساليبها وبين تمثيل روح العصر وتصوير أسرار الحياة، ولولاهم لبقيت اللغة في أيدي الجامدين فماتت، أو غلبت عليها العامية فاستحالت

قال لي أحد المتكلفين في معرض الاعتذار عن نفسه وقد عتبت عليه في هذا المنهج الخشن الوعر الذي ينهجه في أسلوبه: أنت تعلم أن الناس في هذا البلد قد ألفوا من طريق خطأ الحس أن ينظروا بعين الإجلال والإعظام إلى كل أسلوب شعري أو كتابي معقد غامض وأن تَفُهت معانيه وهانت أغراضه، وبعين الإزدراء والاحتقار إلى الأساليب السهلة البسيطة وأن اشتملت على أشرف الأغراض وأبرع المعاني، أي أنهم لا يرون السهولة والانسجام حتى يتوهموا التفاهة والسفولة ولا يرون الركاكة والمعاظلة حتى يظنوا الحذق والبراعة وسمو المعاني وشرفها، وهي حالة طبيعية في جميع النفوس البشرية أن تزدري المبذول لها وتستثنى قيمة الممنوع عنها، وليس هذا شأنهم مع أدباء العصر الحاضر فحسب بل مع أدباء كل عصر وجيل، فهم يسمون البُحتري وأبا نواس والشريف الرضي وأمثالهم شعراء الألفاظ، ويسمون المتنبي والمعري وابن الرومي وأشباهم شعراء المعاني، وليس بين الأولين والآخرين فرق في جودة المعاني وشرفها إلا أن الأولين أمطروها على الناس وبعثروها تحت أقدامهم فهانت عليهم، وضن لها الآخرون ووعروا سبيلها فعظمت في أعينهم وجلّت في صدورهم، قال ولقد عرضت السلعتين في سوق الأدب فكتبتُ أتفه المعاني

وأدونها في أخشن الأساليب وأوعرها فنفقت في تلك السوق نفاقًا عظيمًا، وكثر المعجبون بها والمكبرون لها، وكتبت أشرف المعاني وأبرعها في ألطف الأساليب وأعذبها فما أَبَهَ لها إلا القليل من الناس وربما لم يأبه لها أحد، فلم أربد من أن أنتهج لنفسي في الكتابة الخطة التي أعلم أنها أجدر بي وأجدى بي وأدرى عليَّ. فعجبت لرأيه هذا عجبًا شديدًا وقلت له أما هذا الذي تذكره فإني لا أعرفه إلا لفئة قليلة من المُشتغلين بالأدب فاسدة الذوق لا يعبأ بها عابي، وليس هذا رأي جمهور المُتأدبين بل ولا رأي العامة من أبناء هذه اللغة، وهب أن الأمر كما تقول فالأدب ليس سلعة من السلع التجارية لاهمَّ لصاحبها سوى أن يحتال لنفاقها في سوقها، إنما الأدب فن شريف يجب أن يخلص له المتأدبون بأداء حقه والقيام على خدمته إخلاص المشتغلين ببقية الفنون لفنونهم، والأدباء هم قادرة الجماهير وزعماؤهم فلا يحمل بهم أن ينقادوا للجماهير وينزلوا على حكمهم في جهالاتهم وفساد تصوراتهم، وما زلت به حتى أذعن للرأي الذي رأيته له فحمدت الله على ذلك

ليس من الرأي ولا من المعقول أن ينظم الشعراء الشعر ويكتب الكتاب الرسائل في هذا العصر عصر الحضارة والمدنية وبين هذا الجمهور الذي لا يعرف أكثر من العامية إلا قليلًا باللغة التي كان ينظم بها امرؤ القيس وطرفة والقطامي والخطفى ورؤبة والعجاج ويكتب بها الحجاج وزياد وعبد الملك بن مروان والجاحظ والمعري في عصور العربية الأولي، فليس عصرنا كعصرهم ولا جمهورنا كجمهورهم، وأحسب لو أنهم بعتوا اليوم من أجداثهم لما كان لهم بد من أن ينزلوا إلى عالمنا الذي نعيش فيه ليخاطبونا بما نفهم أو يعودوا إلى مراقدهم من حيث جاءوا. ليست الأساليب اللغوية دينًا يجب أن نتمسك به ونحرص عليه حرص النفس على الحياة، إنما هي أداة للفهم وطريق إليه لا تزيد على ذلك ولا تنقص شيئًا. يجب أن نحافظ على اللغة باتباع قوانينها والتمسك بأوضاعها ومميزاتها الخاصة بما ثم نكون أحررًا بعد ذلك في التصور والتخيل واختيار الأسلوب الذي نريد. يجب أن يشف اللفظ عن المعنى شفوف الكأس الصافية عن الشراب حتى لا يرى الرائي بين يديه سوى عقل الكاتب ونفس الشاعر وحتى لا يكون للمادة اللفظية شأن عنده أكثر

مما يكون للمرآة من الشأن في تمثيل الصور والمخائل. يجب أن يتمثل المعنى في ذهن المُتكلم قبل أن يتمثل اللفظ حتى إذا حسن الأول أفاض على الثاني جماله ورونقه، فاللفظ لا يجمل حتى يجعل المعنى، بل لا مفهوم للفظ الجميل إلا المعنى الجميل. لو لم يكن للفصاحة قانون يرجع إليه من يريد معرفتها ومقياس تقاس عليه لوجب أن يكون قانونها العقلي أن يترك القائل في نفس السامع الأثر الذي يريده، فإن عجز عن ذلك فلا أقل من أن يصور له المعنى القائم في نفسه، فإن لم يكن هذا ولا ذاك فاحتراف أي حرفة من الحرف مهما صغر قدرها واتّضح شأنها أعود بالنفع على الأمة وأجدى عليها من حرفة القلم. لا يبك شاعر بعد اليوم ولا كاتب سقوط حظه في الأمة ولا يقض حياته ناعيًا عليها جهلها وقصورها كلما رآها منقبضة عنه غير حافلة به ولا متطلعة لا يقنعها من قلم الشاعر أن يرن على صفحة القرطاس دون أن يطربها ويملك عواطفها، ولا من قلم الكاتب أن يسود وجه الصحف دون أن ينير لها أذهانها ويغذي عقولها ومداركها، فإن كان لا بد باكيًا فليبك على نفسه ولينع عجزه وقصوره، وليعلم أنه لو استطاع أن يكتب للأمة ما تفهم

لاستطاعت الأمة أن تفهم عنه ما يقول. إنني لا ألوم على الركاكة والفهامة الأغبياء الذين أظلمت أذهانهم فأظلمت أقلامهم وظلمة القلم أثر من آثار ظلمة العقل، ولا الجاهلين الذين لم يدرسوا قوانين اللغة ولم يمارسوا أدبها ولم يتشبعوا بروح منظومها ومنثورها، ولا العاجزين الذين غلبتهم إحدى اللغات الأجنبية على أمرهم قبل الإلمام بشيء من أدب لغتهم فأصبحوا إذا ترجموا ترجموا ترجمة حرفية ليس فيها مميز واحد من مميزات العربية ولا خاصة من خواصها وإذا كتبوا كتبوا بأسلوب عربيِّ الحروف أعجميِّ كلِّ شيء بعد ذلك، فهؤلاء جميعًا لا حول لنا فيهم ولا حيلة؛ لأنهم لا يستطيعون أن يكونوا غير ذلك، إنما ألوم المُتأدبين القادرين الذين عرفوا اللغة واطلعوا على أدبها وفهموا سر فصاحتها وأنقم منهم عدولهم عن المحجة البيضاء في البيان إلى الجمجمة والغمغمة فيه وأنعى عليهم نقص القادرين على التمام.

الناشئ الفقير

الناشئ الفقي ر 1: لي ولد وحيد في السابعة من عمره لا أستطيع على حبي إياه وافتتاني به أن أتركهُ من بعدى غنيًّا لأني فقير، وما أنا بآسف على ذلك ولا مُبتئس؛ لأني أرجو بفضل الله وعونه، ورحمته وإحسانه، أن أترك له ثروة من العقل والأدب، هي عندي خير ألف مرة من ثروة الفضة والذهب. أحب أن ينشأ معتمدًا على نفسه في تحصيل رزقه، وتكوين حياته، لا على أي شيء آخر حتى على الثروة التي يتركها له أبوه، ومن نشأ هذا المنشأ، وألف ألا يأكل إلاّ من الخبز الذي يصنعه بيده نشأ عزوفًا عيوفًا مترفّعًا لا يتطلع إلى ما في يد غيره، ولا يستعذب طعم الصدقة والإحسان. أحب أن ينشأ رجلًا، ولا سبيل إلى الرجولة إلاَّ من ناحية العمل، وقلّمَا يعمل العامل إلاَّ بسائق من الضرورة ودافع من

_ 1 كتب الكاتب هذه الرسالة جوابًا على سؤال هذا نصه: "أيهما أصلح للإنسان أن يولد فقيرًا أو غنيًا؟ ".

الحاجة، وفرقٌ بين الغني الذي يعمل لتنمية ثروته وتعظيم شأنها شرهًا وفضولًا، وبين الفقير الذي يعمل لتحصيل قوته، وتقويم أود حياته. أحب أن يعيش فردًا من أفراد هذا المُجتمع الهائل المُعترِك في ميدان الحياة، يصارع العيش ويغالبه، ويزاحم العاملين بمنكبيه، ويفكر ويتروى، ويجرب ويُختبر، ويقارن الأمور بأشباهها ونظائرها، ويستنتج نتائج الأشياء من مقدماتها، ويعثر مرة، وينهض أخرى، ويخطئ حينًا ويصيب أحيانًا، فمن لا يخطئ لا يصيب، ومن لا يعثر لا ينهض، حتى تستقيم لهُ شئون حياته. ذلك خير لهُ من أن يجلس في شرفة من شُرَفِ قصره مطلًّا على العاملين والمُجاهدين يمتع نظره بمرآهم كأنما يشاهد رواية تمثيلية في أحد ملاعب التمثيل. أحب أن يمر بجميع الطبقات ويخالط جميع الناس ويذوق مرارة العيش ويشاهد بعينيه بؤس البؤساء، وشقاء الأشقياء، ويسمع بأذنه أنات المتألمين، وزفرات المتوجعين، ليشكر الله على نعمته إن كان خيرًا منهم، ويشاركهم في همومهم وآلامهم إن كان حظهُ في الحياة مثل حظهم، ولتنمو في نفسه عاطفة الرفق والرحمة، فيعطف على الفقير عطف الأخ على الأخ، ويرحم المسكين رحمة الحميم للحميم.

أما الغني الذي لم يذق طعم الفقر في حياته فقلما يشعر بآلام الناس ومصائبهم، أو يعطف على بأسائهم وضرائهم، فإن حاول يومًا أن يمد يده بالمعونة إلى بائس أو منكوب، فعل ذلك متفضلًا ممتنًّا، لا راحمًا ولا متألمًا. والأمل هو الينبوع الذي تتفجر منه جميع عواطف الخير والإحسان في الأرض، وهو الصلة الكبرى بين أفراد المجتمع الإنساني، والجامعة الوحيدة التي تجمع بين طبقاته وأجناسه، بل هو معنى الإنسانية وروحها وجوهرها، فمن حُرمهُ حُرم كلَّ فضيلة من فضائل النفس، وكلَّ مكرمة من مكرماتها، وأصبح بالصخرة الصلدة الصماء أشبه منه بالإنسان الناطق. أحب أن يجوع ليجد لذة الشبع، ويظمأ ليستعذب طعم الري، ويتعب ليشعر ببرد الراحة، ويسهر لينام ملء جفونه، أي أنني أحب لهُ السعادة الحقيقية التي لا سعادة في الدنيا سواها. وما السعادة في الدنيا إلاَّ لمحات كلمحات البرق حينًا بعد حين في ظلمات الشقاء، فمن لا يرى تلك الظُلمات لا يراها، وأشقى الأشقياء أولئك المترفون الناعمون الذين يوافيهم الدهر بجميع لذائذهم ومشتهياتهم، فلا يزالون يُمعنون فيها ويتقلبون في جنباتها حتى يستنفدوها، فيستولى على عقولهم مرض السآمة

والضجر، فيتألمون من الراحة أكثر مما يتألم التَّعِب من التَّعَب، ويقاسون من عذاب الوجود أكثر مما يقاسى المحروم من عذاب الحرمان، وقد تدفعهم تلك الحالة إلى الإلمام بمشتهيات غريبة لا تتفق مع الطبيعة البشرية ولا تدخل تحت حكمها، تفريجًا لكربتهم، وتنفيسًا عن أنفسهم، وما هؤلاء المساكين الذين نراهم سهارى طوال لياليهم في ملاعب القمار ومجالس الشراب ومواقف الرهان إلاَّ جماعة الفارين من سجون السآمة والملل، يعالجون الداء بالداء، ويفرون من الموت إلى الموت. أحب أن يكون غنيًّا بالمعنى الحقيقي، لا بالمعنى الاصطلاحي، أي أن يكون مُستغنيًا بنفسه عن غيره، لا كثير المال والثراء، وما سُمي المال غني إلا باعتبار أنه وسيلة إلى الغني وطريق إليه، وهو اعتبار خطأ ما في ذلك ريب، فإن أكثر الناس فقرًا إلى المال وأشدهم طعمًا في إحرازه وأعظمهم مُخاطرة بكرامتهم وفضائل نفوسهم في سبيله هم الأغنياء أصحاب المال والثراء، وإن كان في الدنيا شيء يسمى قناعة واعتدالًا فهو من جانب الفقراء المقلين، أكثر منهُ في جانب الأغنياء المُكثرين، ولا يزال المرء يعتبر المال وسيلة إلى الحياة وذريعًة من ذرائعها حتى يكثر في يده فإذا هو في نظره الحياةُ نفسها، يجمعه ولا يدرى ماذا يريد منه، ويعبده

وهو لا يرجو ثوابه، ولا يخشى عقابه، ويستكثر منه وهو على ثقة من نفسه بأنه لا ينتفع بقليله، فضلًا عن كثيره، وإذا بلغ المرء في حالته العقلية إلى درجة أن تنقلب في نظره حقائق الكون وتتغير نواميسه فيرى الرءوس أذنابًا والأذناب رءوسًا، والوسائل غايات، والغايات وسائل، فقل على عقله السلام. لا أكره أن ينشأ ولدى غنيًّا ولا أحب أن أعرضه لمخاطر الفقر وآفاقه، ولكني أخاف عليه الغنى أكثر مما أخاف عليه الفقر. أخاف عليه أن يعتد بالمال اعتدادًا كثيرًا، وبقدره فوق قدره، ويعتبره الكمال الإنساني كله، فلا يهتم بإصلاح أخلاقه وتهذيب نفسه وألا يجد من حوله من أصدقائه ومعارفه مرآة يرى فيها هناته وعيوبه؛ لأن عشراء الأغنياء متملقون مداهنون يطوون سيئاتهم، ويزخرفون حسناتهم. أخاف عليه أن تستحيل نفسه إلى نفس مادية جامدة لا تفهم من شئون الحياة غير المادة ولا تُعنى بشيء سواها، فيصبح رجلًا قاسيًا صلبًا ميت النفس والعواطف لا يرحم بائسًا، ولا يعطف على منكوب، ولا يرثي لأمة، ولا يبكى على وطن، ولا يشترك في شأن من شئون العالم العامة خيرها وشرها، ولا يعنيه ما دام

راضيًا عن نفسه مغتبطًا بحظه أسقطت السماء على الأرض أم بقيت في مكانها. أخاف عليه أن يحتقر العلوم والفنون والآداب ويزدري المواهب والعقول والفضائل والمزايا، فيصبح عار أمته وشنارها، ووصمتها الخالدة التي لا تزول، ومن أشرب قلبُه حب المال ونزل من نفسه إلى قرارتها لا يحترم غيره ولا يقيم إلا لأربابه وزنًا، ويخيل إليه أن من عداهم من الناس لا قيمة لهم في الحياة بل لا حق لهم في الوجود. أخاف عليه إن تزوج أن يأبى الزواج إلا من غنية يرى أنها هي التي تليق بمقامه ومنزلته، ومن اشترط الغنى في زوجة قلما يستطيع أن يشترط شيئا سواه، فيسقط في زواجه سقطة يشقى بها طول حياته من حيث لا ينفعه ماله ولا جاهه. أخاف عليه إن وَلَد ألا يجد بين أوقاته ساعة فراغ يتولى فيها النظر في تهذيب ولده وتربيته، فيتركه صغيرًا في أيدي الخدم وكبيرًا في أيدي عشراء السوء، فيصبح نكبته الكبرى في حياته، وعاره الدائم بعد مماته. أخاف عليه أن يقضى أيامه ولياليه خائفًا مذعورًا مروَّع القلب مستطار الفؤاد تقتله الخسارة إن خسر، ويصعقه فوت الربح

إن فاته، ويطير بنومه وهدوئه ويذهب براحته وسكونه هبوط الأسعار، ونزول الأسهم، وتقلبات الأسواق، وخسران القضايا، ومنازعات الخصوم، والآفات السماوية، والجوائح الأرضية. وما حُزنُ الفقير الذي أنفق آخر درهم بيده من حيث لا يعرف له طريقًا إلى سواه على نفسه وعلى مستقبله بأشد من حزن الغني الشحيح على الدرهم الذي نقص من مليونه، أو الذي كان يؤمل أن يتمم به مليونه فلم يُتح له. وما ليلة البائس المسكين الذي يتصايح أولاده من حوله جوعًا ولا يجد ما يسد به رمقهم بأطول من ليلة الغني الذي يسقط إليه الخبر بأن سلعة قد نفقت، أو أن سهمًا من أسهمه قد نزل. ولقد رأيت بعيني من جُنّ وهو واقف ينظر إلى قصر من قصوره يحترق، وسمعت كثيرًا من حوادث المُنتحرين والمصعوقين على أثر النكبات المالية والخسائر التجارية التي لا تفقرهم ولا تصل بهم إلى درجة الإملاق، وكلُّ أثرها عندهم أنها تنقلهم إلى منزلة في الغنى أدنى من منزلتهم الأولى. أخاف عليه أن يصبح واحدًا من أولئك الوارثين المستهترين الذين لا عمل لهم في حياتهم سوى هدم حياتهم بأيديهم وهدم

ما ترك لهم آباؤهم وأجدادهم من مال وجاه، فأندب حظي في قبري وأقرع السنَّ على أن أكن فارقت هذه الحياة ولا مال لي فيها ولا ولد. وما أزال أذكر حتى الساعة أنني مررت بأحد شوارع القاهرة من بضع سنين فرأيت في مكان واحد منه منظرين مُختلفين متناقضين، رأيت غلامًا من الوارثين جالسًا بإحدى الحانات يمرح في نعمائه، وآخر من المُتشردين نائمًا تحت الرصيف على مقربة منه يضطرب في بأسائه، أما الأول فقد كان جالسًا بين مائدتي شارب وقمار، تسلب الأولى عقله والأخرى ماله، وقد أحاط به جماعة من الخلعاء الماكرين يلعبون بعقله لعب الغلمان بالكرة في ميادينها، يضحكون لنكاته، ويؤمنون على أقواله، ويصدقون أكاذيبه، ويتحركون بحركته، ويسكنون بسكونه، وهو يقهقه بينهم قهقهة المجانين ويصيح صياح الثعالب، أما الثاني فقد كان عاريًا إلا قليلًا، يفتح إحدى عينيه من حين إلى حين كما رنّت في أذنه ضحكات هؤلاء السكارى وضوضاؤهم، ويضم ركبتيه إلى صدره كلما أحس بصوت مركبة مارة بجانبه، وقد يبسط كفه أحيانًا وهو مغمض إن خُيل إليه أن يدًا تمتد إليه بالإحسان، ولا يد هناك ولا إحسان.

رأيت هذين المنظرين الغربيين المتباينين فثارت في نفسي في تلك الساعة عاطفتان مختلفتان، عاطفة البغض والاحتقار للأول، وعاطفة الرحمة والشفقة على الثاني، وقلت في نفسي: لو كان لي ولد وكان لا بد له من أن يكون أحد هذين الغلامين، إما الوارث الجالس فوق الرصيف ينثر الذهب نثرًا، أو المتشرد النائم من تحته يسأل الناس لقمة فلا يجدها، لفضلت أن أراه بين فئة المتشردين، على أن أراه بين جماعة الوارثين، لأني أرجو له في الأولى أن يجد بين الراحمين راحمًا يحسن إليه ويستنقذه من شقائه ويأخذ بيده في طريق الحياة الطيبة الصالحة، أما في الثانية فإني لا أرجو له شيئًا. إن للرحمة طيشًا كطيش القسوة والشدة، وأطيش الراحمين ذلك الذي يستنفد أيام حياته في جمع الثروة لأولاده دائبًا ليله ونهاره لا يهدأ ولا يفتر من حيث يغفل النظر في شأن تربيتهم وتعليمهم ضنًّا بهم أن يزعج نفوسهم بشيء من تكاليف الحياة وأثقالها، فإذا ذهب لسبيله وخلى بينهم وبين ذلك المال الذي جمعه لهم لا يكون لهم من الشأن فيه أكثر مما يكون لجماعة الحمالين في الأثقال التي يحملونها من مكان إلى آخر، فهم ينقلونه من خزائنه شيئًا فشيئًا إلى خزائن الخمارين والمرابين

والماهرين حتى ينتهى، فإذا فرغوا منه جلسوا في عَرصَاتهم المقفرة جلسة الباكي الحزين، صفُر الأكف، فارغي الجيوب، مطرقي الرءوس، لا حول لهم ولا حيلة، قد أضاعوا حياتهم وحياة آبائهم وأجدادهم، وهدموا في عام واحد أو عامين قرنًا كاملًا مجيدًا من أعلاه إلى أسفله، ولا يعلم إلا الله ماذا يكون شأنهم بعد ذلك. ولو أن أباهم كان يرحمهم رحمة حقيقية ويشفق عليهم إشفاقًا صحيحًا لرحمهم من هذا المصير المحزن وضن بهم على هذا الميراث المشئوم. يقولون: إن الفقر يدفع إلى الجرائم والقتل وارتكاب السرقات، وأنا أقول إننا إذا استطعنا أن نفهم الجريمة بمعناها الحقيقي وأن لا ننخدع بصور الألفاظ وألوانها فإن للأغنياء جرائم كجرائم الفقراء بل أشد منها خطرًا وأعظم هولًا، فإن كان بين الفقراء اللصوص والقتلة والعيارون وقاطعو الطريق، فبين الأغنياء المحتالون والمزورون والمغتصبون والخائنون والمداهنون والممالئون وأصحاب المعامل والشركات الذين يغذون أجسامهم بدماء عمالهم، والتجار الذين يسرقون من الأمة في شهر واحد باسم الحرية التجارية مالًا يسرقه منها جميع لصوص البلد وعياروه

في سنة كاملة، والقوام والأصياء الذين يرثون التركات من دون وارثيها، ويأكلون أموال اليتامى والمعتوهين باسم صيانتها والمحافظة عليها، والسماسرة الذين يغتالون الأسواق بأجمعها، والمرابون الذين يختلسون الثروات بأكملها، والسياسيون الذين يسرقون الممالك بحذافيرها. على أن الجرائم اللصوصية والسرقة والقتل ليست جرائم الفقر بل جرائم الغنى، فلولا شح الأغنياء بأموالهم وكلبهم عليها وحيازتها عن الفقراء لما وجد في الأرض قاتل ولا سارق ولا قاطع طريق، ولا يسرق السارق ولا ينهب الناهب ولا يلص اللص إلا جزءًا من حقه الذي كان يجب أن يكون له لو كان للمال زكاة وللرحمة سبيل إلى الأفئدة والقلوب. ليفتح الأغنياء المدارس وليبنوا الملاجئ ولينشئوا المصانع والمعامل للعاطلين والمتشردين وليتعهدوا المنكوبين والساقطين في ميدان الحياة بالمساعدة والمعونة، فإن وجدوا بعد ذلك لصوصًا أو قتلة أو مجرمين فليتهموا الفقر ولينعوا عليه جرائمه وآثامه. لا أريد أن أقول: إن الغنى علة فساد الأخلاق، وأن الفقر علة صلاحها، ولكن الذي أستطيع أن أقوله عن تجربة واستقراء:

إني رأيت كثيرًا من أبناء ناجحين، ولم أر إلاّ قليلًا من أبناء الأغنياء عاملين. إن العلوم والمعارف والمُخترعات والمُكتشفات، والمدنية الحديثة بأجمعها حسنة من حسنات الفقر، وثمرة من ثمراته، وما المداد الذي كتبت به المُصنفات ودونت به الآثاء إلا دموع البؤس والفاقة، وما الآراء السامية والأفكار الناضجة التي رفعت شأن المدنية الحديثة إلى مستواها الحاضر إلا أبخرة الأدمغة المُحترفة بنيران الهموم والأحزان، وما انفجرت ينابيع الخيالات الشعرية، والتصورات الفنية، إلا من صدوع القلوب الكبيرة، والأفئدة الحزينة، وما أشرقت شموس الذكاء والعقل في مشارق الأرض ومغاربها إلاّ من ظُلمات إلا كواخ الحقيرة والزوايا المهجورة، وما نبغ النابغون من فلاسفة وعلماء وحكماء وأدباء إلاَّ في مهود الفقر وحجور الإملاق، ولولا الفقر ما كان الغني، ولولا الشقاء ما وجدت السعادة. إن المُجتمع الإنساني اليوم ميدانُ حرب يعترك فيه الناس ويقتتلون، لا يَرحم أحد أحدًا، ولا يلوى مقبل على مُدبر، يَعْدون ويُسرعون، ويتصادمون ويتخبطون، ويأخذ بعضهم

بتلابيب بعض، كأنهم هاربون من معركة، أو مفلتون من مارستان، ودماء الشرف والفضيلة تسيل على أقدامهم، وتموج موج البحر الزاخر، يغرق فيه من يغرق، وينجو من ينجو. أتدرون لم سقطت الهيئة الاجتماعية هذا السقوط الهائل الذي لم تصل إلى مثله في دور من أدوار حياتها الماضية؟ ولم هذا الجنون الاجتماعي الثائر في أدمغة الناس خاصتهم وعامتهم، علمائهم وجهلائهم؟ ولم هذه الحروب القائمة، والثورات الدائمة، والنزاع المستمر بين البشر جماعات وأفرادًا، وقبائل وشعوبًا، وممالك ودولًا؟. لا سبب لذلك سوى شيء واحد، وهو أن الناس يعتقدون اعتقادًا خطأ أن المال أساس السعادة وميزانها الذي توزن به، فهم يسعون إليه لا من أجل القوت وكفاف العيش كما يجب أن يكون، بل من أجل الجمع والادخار، والمال في العالم كمية محدودة لا تكفى لملء جميع الخزائن وتهدئة كافة المطامع، فهم يتخاطفونه ويتناهبونهُ ويتصارعون من حولهِ كما تتصارع الكلاب حول الجيف المطّرحة، ويسمعون عملهم هذا تنازع الحياة أو تنازع البقاء، وما هو بالتنازع ولا التناظر، إنما هو العراك والتناحر، والدم السائل، والعدوان الدائم، والشقاء الخالد.

والعلاج الوحيد لهذه الحال المُخيفة المُزعجة أن يفهم الناس أن لا صلة بين المال وبين السعادة، وأن الإفراط في الطلب شقاء كالتقصير فيه، وأن سعادة العيش وهناء وراحة النفس وسكونها لا تأتي إلاّ من طريق واحد، وهو الاعتدال. الآن أستطيع غير خاشٍ لومًا ولا عتبًا أن أقضي للناشئ الفقير على الناشئ الغني قضاءً لا مُجاملة فيه ولا محاباة، ومن ذا الذي يُجامل الفقراء ويحابيهم؟ وأن أقول للناشئ الفقير: صبرًا يا بُني وعزاءً؛ فإنك لم تخلق إلاّ العمل، فاعمل واجتهد، ولا تعتمد في حياتك إلا على نفسك، ولا تحصد غير الذي زرعته يدك، فإن لم تجد معلمًا يعلمك فعلم نفسك، والزمن خير مؤدب ومهذب، وإن ضاقت بك المدارس فادرس في مدرسة الكون ففيها علوم الحياة بأجمعها، وإن كنت ممن لا يعدون وظائف الحكومة ومناصبها غنمًا عظيمًا كما يعدها القعدة العاجزون، فها هو ذا فضاء الأرض أمامك فامش فيه وفتش عن قوتك كما تفتش عنه الطيور والقواطع التي ليس لها مثل عقلك وفطنتك، وحيلتك وقوتك، فإن الله لم يخلقك في هذا العالم ولم يبرزك إلى هذا الوجود لتموت فيه جوعًا أو تهلك ظمأ، ولا تصدق ما يقولونه

لك من أن الناشئ الغني أسعد منك حالًا أو أوفر حظًّا وإن راقك منظره وأعجبك ظاهرة، فلكل نفس همومها وآلامها، وهموم الفقر على شدتها أقل هموم الحياة وأهونها. وحسبك من السعادة في الدنيا ضمير نقي ونفس هادئة وقلب شريف، وأن تعمل بيدك وتترعرع فتغتبط بمرآها اغتباط الزارع بمنظر الخضرة والنماء في الأرض التي فلحها بيده وتعهدها بنفسه وسقاها من عرق جبينه.

قتيلة الجوع

قتيلة الجوع: قرأت في بعض الصحف منذ أيام أن رجال الشرطة عثروا بجثة امرأة في جبل المقطم فظنوها قتيلة أو منتحرة حتى حضر الطبيب ففحص أمرها وقرر أنها ماتت جوعًا. تلك أول مرة سمعت فيها بمثل هذه الميتة الشنعاء في مصر وهذا أول يوم سَجلتْ فيه يد الدهر في جريدة مصائبنا ورزايانا هذا الشقاء الجديد. لم تمت هذه المرأة المسكينة في مفازة منقطعة أو بيداء مِجهْل فنفزع في أمرها إلى قضاء الله وقدره كما نفعل في جميع حوادث الكون التي لا حول لنا فيها ولا حيلة بل ماتت بين سمع الناس وبصرهم وفي ملتقى غاديهم برائحهم، ولا بد أنها مرتْ قبل موتها بكثير من المنازل تطرقها فلم تسمع مجيبًا ووقفتْ في طريق كثير من الناس تسألهم المعونة على أمرها فلم تجد من يمد إليها يده بلقمة واحدة تسد بها جوعتها، فما أقسى قلب إنسان، وما أبعد الرحمة من فؤاده، وما أقدره على الوقوف موقف الثبات والصبر أمام مشاهد البؤس ومواقف الشقاء.

لم ذهبت هذه البائسة المسكينة إلى جبل المُقطم في ساعتها الأخيرة؟ لعلها ظنت أن الصخر ألين قلبًا من الإنسان فذهبت إليه تبثه شكواها، أو أن الوحش أقرب منه رحمة فجاءته تستمنحه فضلة طعامه، وأحسبُ لو أن الصخر فهم شكواها لأشكاها1 ولو أن الوحش ألم بسريرة نفسها لرثى لها وحنا عليها؛ لأني لا أعرف مخلوقًا على وجه الأرض يستطيع أن يملك نفسه ودموعه أمام مشهد الجوع وعذابه غير الإنسان. ألم يلتق بها أحد في طريقها فيرى صفرة وجهها وترقرق مدامعها وذبول جسمها فيعلم أنها جائعة فيرحمها! ألم يكن لها جار يسمع أنينها في جوف الليل ويرى غدوها ورواحها حائرة ملتاعة في طلب القوت فيكفيها أمره! أأقفرت البلاد من الخبز والقوت فلا يوجد بين أفراد الأمة جميعها من أصحاب قصورها إلى سكان أكواخها رجل واحد يملك رغيفًا واحدًُا زائدًا عن حاجته فيتصدق به عليها! اللهم لا هذا ولا ذاك، فالمال والحمد لله كثير والخبز أكثر منه ومواضع الخَلات والحاجات بادية مكشوفة يراها الراءون ويسمع صداها السامعون ولكن الأمة التي ألفت ألا تبذل

_ 1 شكا إليه فأشكاه أي؛ أرضاه وقَبل شكواه.

معروفها إلا في مواقف المُفاخرة والمُكاثرة والتي لا تفهم معنى الإحسان إلا أنه الغل الثقيل الذي يوضع في رقاب الفقراء لاستبعادهم واسترقاقهم لا يمكن أن ينشأ فيها محسن مخلص يحمل بين جنبيه قلبًا رحيمًا. لقد كان الإحسان في مصر كثيرًا في عصر الاكتتابات والحفلات وفي العهد الذي كانت تسجل فيه حسنات المُحسنين على صفحات الصحف تسجيلًا يشهده ثلاثة عشر مليونًا من الشهود، أما اليوم وقد أصبح كل امرئ موكولًا إلى نفسه ومسئولًا أمام ربه وضميره أن يتفقد جيرته وأصدقاءه وذوي رحمه ويتلمس مواضع خلاتهم وحاجاتهم ليسدها، فهاهم الفقراء يموتون جوعًا بين تلال الرمال وفوق شعاف الجبال من حيث لا راحم ولا مُعين. لقد كان في استطاعة تلك المرأة المسكينة أن تسرق رغيفًا تتبلغ به أو درهمًا تبتاع به رغيفًا فلم تفعل، وكان في استطاعتها أن تعرض عرضها في تلك السوق التي يعرض فيها أعراضّهن الفتيات الساقطات فلم تفعل؛ لأنها امرأة شريفة تفضل أن تموت بحسرتها على أن تعيش بعارها، فما أعظم جريمة الأمة التي لا يموت فيها جوعًا غير شرفائها وأعفائها.

الأدب الكاذب

الأدب الكاذب: كنا وكان الأدب حالًا قائمة بالنفس صاحبها أن يقدم على شر أو يحدث نفسه به أو يكون عونًا لفاعليه عليه، فإن ساقته إليه شهوة من شهوات النفس أو نزوة من نزوات العقل وجد نفسه عند غشياته من المضض والامتعاض ما ينغصه عليه ويكدر صفوه وهناءه، ثم أصبحنا وإذا الأدب صور ورسوم وحركات وسكنات وإشارات والتفاتات لا دخل لها في جوهر النفس ولا علاقة لها بشعورها ووجدانها، فأحسن الناس عند الناس أدبًا وأكرمهم خلقًا وأشرفهم مذهبًا من يكذبُ على أن يكون كذبه سائغًا مهذبًا، ومن يخلف الوعد على أن يحسن الاعتذار عن إخلافه، ومن يبغض الناس جميعًا بقلبه على أن يحبهم جميعًا بلسانه، ومن يقترف ما شاء من الجرائم والذنوب على أن يتخلص من نتائجها وآثارها، وأفضل عندهم من هؤلاء جميعًا أولئك الذين برعوا في فن "الآداب العالية" أي فن الرياء والنفاق وتفوقوا في استظهار تلك الصور الجامدة التي تَواضع عليها جماعة

"الظرفاء" في التحية والسلام واللقاء والفراق والزيارة والاستزارة والمجالسة والمنادمة وأمثال ذلك مما يرجع العلم به غالبًا إلى صغر النفس وإسفافها أكثر مما يرجع إلى أدبها وكمالها، فكان الناس لا يستنكرون من السيئة إلا لونها فإذا جاءتهم في ثوب غير ثوبها أنسوا بها وسكنوا إليها ولا يعجبهم من الحسنة إلا صورتها فإذا لم تأتهم من الصورة التي تعجبهم وتروقهم عافوها وزهدوا فيها، أي أنهم يفضلون اليد الناعمة التي تحمل خنجرًا على اليد الخشنة التي تحمل بدرة، ويؤثرون كاس البللور المملوءة سُمًّا على كاس الخزف المملوءة ماء زلالا ولقد سمعت بأذني من أخذ يعد لرجل من أصدقائه من السيئات ما لو وزع على الخلق جميعًا للوث صحائفهم ثم ختم كلامه بقوله: وإني على ذلك أحبه وأجله؛ لأنه رجل "ظريف" وأغرب من ذلك كله أنهم وضعوا قوانين أدبية للمغازلة والمعاقرة والمقامرة كأن جميع هذه الأشياء فضائل لا شك فيها وكانت الرذيلة وحدها هي الخروج عن تلك القوانين التي وضعت لها، وما عهدنا ببعيد بذلك القاضي المصري الذي أجمع الناس في مصر على احتقاره وازدرائه حينما علموا أنه تلاعب بأوراق اللعب في أحد أندية القمار وسموه لصًّا دنيئًا والقمار لصوصية من أساسه إلى ذروته.

أعرف في هذا البلد رجلين يجمعهما عمل واحد ومركز واحد، أحدهما خير الناس والآخر شر الناس، وإن كان الناس لا يرون رأي فيهما. أما الأول فهو رجل قد أخذ نفسه منذ نشأته بمطالعة كتب الأخلاق والآداب ومزاولتها ليله ونهاره فقرأ فيها فصول الصدق والأمانة والعفة والزهد والسماحة والنجدة والمروءة والكرم وقصص السمحاء والأجواد والرحماء والمؤثرين وافتتن بتلك الفضائل افتتانًا شديدًا ثم دخل غمار المجتمع بعد ذلك وقد استقر في نفسه أن الناس قد عرفوا من الأدب مثل ما عرف وفهموا من معناه مثل ما فهم وأخذوا منه بمثل الذي أخذ فغضب في وجه الأشرار وابتسم في وجه الأخيار، والأولون أكثر عددًا وأعظم سلطة وجاهًا، فسمي عند الفريقين شرسًا متوحشًا، وامتدح إحسان المُحسن، وذم إساءة المُسيء، والمحسنون في الدنيا قليلون، فسُمي وقحًا بذيئًا حتى بين المُحسنين، وبذل معروفه للعاجز الخامل ومنعه القادرَ النابه فلم يشعر بمعروفه أحد، فسمي بخيلًا، واعتبر الناس بقيمهم الأدبية لا بمقاديرهم الدنيوية فلقي الأغنياء والأشراف بمثل ما يلقى به العامة والدهماء فسمي متكبرًا، وقال لمن جاءه

يساومه في ذمته إني أحبك ولكني أحب الحق أكثر منك فكثر أعداؤه وقل أصدقاؤه. أما الثاني فأقل سيئاته أنه لا يفي بوعده يعده ولكنه يحسن الاعتذار عن إخلاف الوعود، فلا يسميه أحد مخلافًا، وما رآه الناس في يوم من يوم من أيامه عاطفًا على بائس أو منكوب ولكنه يبكى لمصاب البائسين والمنكوبين ويستبكى الناس لهم، فعُدَّ من الأجواد السمحاء، وكثيرًا ما أكل أموال اليتامى وأساء الوصاية عليهم ولكنه لا يزال يسمح رءوسهم ويحتضنهم إلى صدره في المجامع والمشاهد كأرحم الرحماء وأشفق المُشفقين، فسُمي الوصي الرحيم، ولا يفتأ ليله ونهاره ينال من أعراض الناس ويستنزل من أقدارهم إلا أنه يخلط جده بالهزل ومرارته بالحلاوة فلم يعرف الناس عنه شيئًا سوى أنه الماجن الظريف. ذلك هو الأدب الذي أصبح في هذا العصور رأيًّا عامًّا يشترك فيه خاصة الناس وعامّتهم وعقلاؤهم وجهلاؤهم ويعلمه الوالدُ ولدَه والأستاذ تلميذه ويقتتل الناس اقتتالًا شديدًا على انتحاله والتجمل به كما يقتتلون على أعز الأشياء وأنفسها حتى تبدلت الصور وانعكست الحقائق وأصبح الرجل الصادق المُخلص أحرج الناس بصدقه وإخلاصه صدرًا وأضلهم بهما سبيلًا، لا يدرى أيكذب

فيسخط ربه ويرضي الكاذبين، أم يصدق فيرضي نفسه ويسخط الناس أجمعين، ولا يعلم أيهجر هذا العالم إلى عزلة منقطعة يقضي فيها بقية أيام حياته غريبًا شريدًا، أم يبرز للعيون فيموت هَمًّا وكمدًا. يجب أن يكون أدب النفس أساس أدب الجوارح، وأن يكون أدب الجوارح تابعًا له وأثرًا من آثاره، فإن أبى الناس إلا أن يجعلوا أدب الحركات والسكنات أساس أعمالهم وعلائقهم وميزان قيمهم وأقدارهم فليعلموا أن العالم كله قد استحال إلى مسرح تمثيل وأنهم لا يؤدون فيه غير وظيفة الممثلين الكاذبين.

إيفون الصغيرة

إيفون الصغيرة 1: "مترجمة" ماتت وكأنها لم تمت، ليس على وجهها أثر واحد من آثار الآلام التي قاستها في مرضها، يحسبها الرائي نائمة نومًا هادئًا لذيذًا ويخيل إليه أنه يسمع صوت أنفاسها المترددة، ويرى هبوط صدرها وارتفاعه. أين صفرة الموت ونحوله، أين آلام النزع وشدائده، أين الغضون التي خلفتها الأوجاع فوق جبينها، والخطوط الزرقاء التي رسمتها حول جفنيها.

_ 1 وهي فتاة صغيرة عثر بها في طفولتها على باب إحدى الكنائس في فرنسا ناظر مدرسة قروية وكان شيخًا كبيرًا مات جميع أولاده وأحفاده وبقى هو من بعدهم وحيدًا مستوحشًا فأنس بها حين وجدها أنسًا شديدًا وسماها "إيفون الصغيرة"؛ لأنه لم يكن يعلم من أمر نسبها شيئًا. فأصبحت سلوته الوحيدة في شيخوخته وعني بتربيتها وتهذيبها حتى بلغت السابعة من عمرها. فأصابها مرض لم يمهلها إلا بضع ليال حتى ذهب بها إلى ربها فرثاها أحد الشعراء الغربيين بهذه القطعة.

لقد مات كل ذلك بموتها فعاد لها رونقها وبهاؤها، وأصبحت كأنما قد خلقت الساعة ولما تنبعث الروح في جسدها. بهذا الوجه الجميل المشرق كانت جالسة منذ أيام قلائل أمام المدفأة باسمةً مطمئنة تلاعب هرتها، وبهذا الفم الأرجواني القاني كانت تغني أمام قفص عصفورها أنشودة السعادة والحياة وبهاتين اليدين البيضاوين اللينتين كانت تقطف أزهار الربيع وتقدمها هدية إلى أبيها الشيخ. أما اليوم فقد انقضى ذلك كله؛ لأن حياتها قد انقضت. آخر كلمة نطقت بها قبل موتها: "سأموت الساعة فأتوني بعصفوري أودعه" فأتوها بقفص عصفورها وعلقوه بقائم سريرها فظلت تنظر إليه باسمة متطلقة، وظل العصفور يلعب ويغرد تغريدًا شجيًّا، وهو لا يعلم أنه ينشد فوق رأسها أنشودة الموت. وهنا وقف الشيخ الذي تبناها بجانب فراشها واجمًا حزينًا مشرّد اللب ذاهل العقل ومد يده إلى يدها الضعيفة الواهية التي كانت بالأمس عكاز شيخوخته وسند حياته, فأخذها ووضعها على صدره كأنما يريد أن يمد حياتها بتلك البقية الباقية في قلبه من الحياة لتعيش من بعده ولو ساعة واحدة, حتى لا يراها تموت بين يديه، وظل على حالته تلك هنيهة ثم التفت فجأة إلى

أصدقائه وقال لهم: ها هي الحرارة قد بدأت تدب في جسمها شيئًا فشيئًا، فنظروا إليه آسفين محزونين، ثم نكسوا أبصارهم وأسلبوا مدامعهم، فظل يريد بينهم عيونًا حائرة وينتقل بنظراته ههنا وههنا كأنما يسألهم المعونة على أمره، ومن ذا يعين على القدر أو يعترض سهم المنية القاتل دون رميته: وما هي إلا لحظة قصيرة حتى شعر أن يدها تجذب يده فانتفض وحنا عليها فطوقته بذراعيها الضعيفتين وضمته ضمة كانت فيها نفسها. إنا لله وإنا إليه راجعون: ماتت إيفون الصغيرة، ماتت الطفلة الوديعة الجميلة، ماتت الفتاة الرزينة الصابرة، في سبيل الله نجم تلألأ في سماء الحياة لحظة ثم هوى، وغصن أزهر في روض المنى ساعة ثم ذوى، وقدح من البلور لم تكد تلمسه الشفاه حتى انكسر، وعقد من اللؤلؤ لم ينتظم في سمطه حتى انتثر. هذه الغرف التي طالما أنارتها بابتساماتها حتى في الساعة التي تختفي فيها جميع الابتسامات، والحديقة التي كانت تقضي فيها كل يوم بضع ساعات من ليلها أو نهارها تلاعب أطيارها وتقطف أزهارها وتتعهد أشجارها، والمماشي التي كانت تخطر على حصبائها فيصيرها شعاع خديها ياقوتًا ومرجانًا، قد خلت جميعها منها،

وهيهات أن يسعدها الحظ برؤيتها بعد اليوم. كانت إيفون جميلة الخلق طيبة النفس نقية الضمير تحب الأحياء جميعهم ناطقهم وصامتهم، فلا تبذل من ودها لهرتها المريضة أقل مما تبذل منه لأبيها الشيخ العجوز، ولا تتودد إلى الشيوخ الفانين أصدقاء أبيها وجلسائه أكثر مما تتودد إلى وافد غريب يهبط قريتها للمرة الأولى في حياته، وما علموها قط اختلفت مع فتى أو فتاة من تلاميذ مدرستها؛ لأنها كانت تستهوي الطيب منهم بلطفها وأدبها، والخبيث بعفوها وصفحها، وهي وإن لم تكن تعلم أنها لقيطة ولكن من كان ينظر في عينيها ويرى ذبولهما وانكسارهما ولمعانهما الذي يشبه لمعان الدمع الرقراق يخيل إليه أنها قد أُلهمت ما كتمه الناس عنها وإنها كانت تعلم أنها لا تعيش في بيت أبيها بوصاية جدها كما كانوا يقولون لها بل في بيت محسن كريم لا يعرف من تاريخها ولا من أمر ميلادها شيئًا، وكانت لا تزال تتراءى بين شفتيها ابتسامة حلوة هي الرقية التي كانت تفتح بها أقفال القلوب ثم تنزل فيما تشاء منها المنزلة التي تريدها، ولم تكن ابتسامتها ابتسامة التصنع والتكلف التي يرثها أكثر الفتيات عن أمهاتهن، بل ابتسامة الحب والاخلاص والحنو والعطف. لذلك عجل الموت إليها؛ لأن سكان السماء لا يستطيعون أن

يعيشوا على ظهر الأرض زمنًا طويلًا. دقت أجراس الكنيسة تنعاها فلم تسمعها، ولو سمعتْها لاهتزت لها في سريرها شوقًا ولهفة كما كان شأنها في حيلتها، ثم جاءت ساعة الدفن فحملوها على أيديهم ومشوا بها حتى وصلوا إلى الكنيسة فوضعوا نعشها في ركن من أركانها ثم اجتمعوا حولها يودعونها الوداع الأخير، فبكاها الشيوخ الذين كانوا يحبونها ويأنسون بها والفتيان والفتيات من تلاميذ مدرستها، والنساء اللواتي كن يحببنها من أجل حبها أبناءهن، وبكاها أكثر من هؤلاء جميعًا ذلك الشيخ العجوز المسكين؛ لأنها كانت كل دنياه فخسرها في ساعة واحدة. وظل كثير من الوقوف يرددن ذكراها فيقول أحدهم: طالما رأيتها في هذا الركن نفسه جالسة وحدها وبيدها الكتاب المقدس تتلو آياته، ويقول الآخر: لقد دخلت الكنيسة ليلة فرأيتها هائمة وحدها في الظلام الحالك تحت هذه الأقبية فعجبت لصلاحها وتقواها، وتقول امرأة: لقد عثرت ابنتي يومًا من الأيام في منصرفها من مدرستها ببعض الأحجار عثرة برحت بها فاحتملتها على ظهرها حتى جاءت بها إلى المنزل، وتقول أخرى لقد كنت أراها تمر كل يوم بجارتنا فلانة المسكينة فتعطيها رغيفًا

من طعامها ثم تستمر أدراجها إلى مدرستها. وهكذا ظل كل منهم يذكر ما يعرف عنها حتى حانت ساعة الدفن فعلت الأصوات بالبكاء ثم غيبوها في قبرها وحثوا عليها التراب، وكان الليل قد أظل المكان بجناحيه وساد فيه سكون موحش رهيب فانصرفوا مطرقين واجمين يقولون: "وارحمتاه لها لقد خرجت من الدنيا غريبة كما وفدت إليها".

الملاعب الهزلية

الملاعب الهزلية: كنت آليت على نفسي مذ أعلنت هذه الحرب قبحها الله وقبح كل ما تأتي به ألا أكتب كلمة في صحيفة سيارة في أي شأن من الشئون العامة خيرها وشرها حتى ينقضى أجلها وأن أترك هذا القلم في مرقده هادئًا مطمئنًا مدرجًا في ذلك الكفن الأبيض الرقيق المنسوج من خيط العنكبوت حتى يأتي ذلك اليوم الذي يستطيع فيه أن ينبعث كما يريد لا كما يُراد منه، ولكن نازلًا عظيمًا نزل بهذا المجتمع المصري منذ عامين أو ثلاثة لم أحفل به في مبدئه ولم ألق له بالًا وعددته في النوازل الصغيرة المترددة التي لا تلبث غيومها أن تنعقد في سماء البلد حتى تهب عليها نسمة من نسمات الروح الإلهي فتنقشع، ولكن ها قد مضى العام والعامان والثلاثة وهو باقٍ في مكانه لا يتحول ولا يتحلحل بل تزداد قدمه على الأيام ثباتًا ورسوخًا، وأحسبه سيبقى في مستقبل أيامه أضعاف ما بقى في ماضيها إن لم نُثرْ عليه معشر الكتاب حربًا شعواء تهز جدرانه هزًّا وتدكها دكًّا وتلحق أعاليها بأسافلها.

لذلك كتبت هذه الكلمة غير مبالٍ بتلك الألِيَّة التي كنت آليتها فلعل أصدقائي من أفاضل الكتاب يساعدونني في هذا الشأن الذي إن عجزنا عنه اليوم فما نحن بقادرين عليه غدًا. نزلت بالأمة المصرية نازلة تلك المقاذر العامة التي يسمونها الملاعب الهزلية وما هي في شيء من الهزل ولا الجد ولا علاقة لها بالتمثيل والتصوير ولا بأي فن من الفنون الأدبية فأقبل عليها الناس إقبالًا عظيمًا، وأغرموا بها غرامًا شديدًا، فليقبلوا عليها ما شاءوا، وليفتتنوا بها ما أرادوا، ولكن فريقًا واحدًا من الأمة هو الذي نضن به على تلك المواطن الساقطة أن تطأها قدمه، أو يظلل رأسه سماؤها؛ لأنا نضن به على كل منقصة في العالم تزري به أو تنال من كرامته. ذلك الفريق المضنون به وبكرامته هو أنتم معشر الطلبة المصريين أخوتنا وأبناءنا، وعنوان مجدنا وشرفنا وصورة وجودنا وحياتنا، ومناط آمالنا وأمانينا، فائذوا لكاتب من كتابكم وصديق من أصدقائكم أن يحادثكم قليلا في هذا الشأن كما يحادث الأب ولده أو الأخ لا قاسيًا ولا متجبرًا بل عاتبًا متلطفًا، وأمله عظيم أن ينتهي الحديث بينه وبينكم على ما يحب لكم وما يعتقد أنكم تحبون لأنفسكم.

الحق أقول, إن الحياء يكاد يعقد لساني بين أيديكم, فلا أدري كيف أحدثكم، ولا ماذا أقول لكم؟ أأعظكم في أمر أنتم تعلمون من نتائجه وآثاره وسوء عقباه مثل ما أعلم، أو أدعوكم إلى اجتناب سيئة لا أحسب أن بين كباركم وصغاركم من يجهل أنها السيئة العظمى التي لم ترزأ الأمة بمثلها في حاضر تاريخها أو ماضيه، أو أقول لكم: إن هذه الأماكن التي تطؤها أقدامكم إنما هي مقابر المجد والشرف, ومدافن الفضائل والأخلاق، ومصارع الأعراض والحرمات، وهل غاب علم ذلك عن أحد منكم فأعلمكم منه ما لا تعلمون؟ لا يجهل أحد منكم شيئا مما أقول، ولكنه الشباب ما زال يغري الضعيف الذي لا يقوى على احتمال سلطانه وسيطرته بالإقدام على تلك المخاطر المهلكة فيمضي إليها قدما لا يجهل مكان الخطر منها, ولكنه يعجز عن مغالبة نفسه ومثاورتها حتى يتردى فيها وربما كان هذا هو كل الفرق بيني وبينكم. إنني لا أرى في هذه المجامع التي تفتتنون بها, وتتهافتون عليها حسنة تغتفر سيئة أو جمالا يفي بقبح أو خيرا يعزي عن شر، فتمثيلها سخيف بارد لا يستطيع من أوتي حظا قليلا من الذوق الأدبي أن يصبر نفسه ساعة واحدة على النظر إليه، وملحها

ثقيلة مستبشعة لو نطق بها ناطق في مجتمع من المجتمعات الخاصة ثم قلب نظره في وجوه الجالسين من حوله لرأى في ابتسامات السخرية المترقرقة في شفاههم ما يذيبه حياء وخجلا، وأناشيدها سوقية مبتذلة في موضوعها وصورة أدائها لا يطرب لمثلها إلا أصحاب الأذواق العامية الخشنة الذين يطربون لنشيد الأذكار وطبول الزار وتعداد النائحات في المآتم والمناحات، فماذا بقي فيها من وجوه الحسن بعد ذلك؟ بقي فيها الهزء والسخرية بالطبقات الشريفة العاملة في الأمة كالفلاحين آبائنا وأولياء نعمتنا والشيوخ حفظة ديننا وأئمة لغتنا والمحامين والأطباء والمعلمين أفاضل الأمة وعيونها وغيرهم من طبقات الأمة كالصناع والعمال والأكارين والباعة والمسترزقين. بل بقي ما هو شر من هذا جميعه، وهو تمثيل الشهوات البدنية والنفسية بجميع ألوانها وضروبها على مشهد من رجالنا ونسائنا وأطفالنا, وتصويرها بتلك الصورة القبيحة التي ترخى على مثلها الستور وتقام من حولها الدعائم والجدران. فلو أن غريبا وفد إلى هذا البلد وهو لا يعلم من شأنه شيئا, فذهب إلى مكان من تلك الأمكنة ليرى في مرآته صورة الأمة ممثلة في مسارحها الوطنية لقضى عليها للنظرة الأولى بأنها أحط الأمم وأدناها.

ذلك إلى ما يسمعه السامع فيها من ألفاظ السب والشتم وجمل الفحش والهجر التي لا يطرق أذنه مثلها في أي موقف من مواقف حياته أو مشهد من مشاهدها إلا إذا قدر له أن يتغلغل بنفسه يوما من الأيام في تلك الأحياء العامية الساقطة حتى يصل إلى "عرب اليسار" أو "عشش الترجمان" فيسمعها هناك في مشاجرات القرادين, ومهاترات الشحاذين. ولقد قال لي أحد الأصدقاء الظرفاء مرة: إن شتائم "أم شولح" قد انتقلت إلى بيتي ولا أعرف كيف انتقلت إليه، فإني أسمع الكثير منها يتردد في أفواه الأطفال هازلين، وفي أفواه الخدم جادين. أتدرون أيها الأصدقاء من هم أولئك القوم الذين يسمون أنفسهم ممثلين، ويسمون ما يهذون به على مسارحهم روايات، والذين يدعونكم معشر المتعلمين الراقين إلى حضور مجامعهم باسم الآداب والفنون؟ لو أن جماعة من الزامرين وآخرين من الطبالين وآخرين من القرادين وجماعات غيرهم من الرمالين والمداحين والصفاعين والبهلوانية والحواة والرقاة وبقية السائلين المستجدين الذين يمرون بأبواب منازلنا كل يوم ضاجين صارخين فلا نلقي لهم بالا, ولا نعيرهم أذنا اتفقوا فيما بينهم على أن يكونوا جماعة واحدة تعمل

يدا واحدة في مكان واحد لكانوا هم بعينهم جوق كشكش والبربري وشرفنطح لا فرق بينهم وبينهم سوى أن أولئك يقفون بأبوابنا ضارعين مبتهلين يقنعون باللقمة ويجتزئون بالشربة, وهؤلاء يأبون إلا أن نقف على أبوابهم ونتعلق بأستارها فلا يفتح لنا حجابهم إلا إذا دفعنا الإتاوة المضروبة علينا. وألطف كلمة سمعتها في هذا الشأن قول بعض المفكرين: "كان الشر مفرقا في أنحاء البلد, فجمعه الريحاني في مكان واحد". فهل تسمح لكم نفوسكم أيها الأصدقاء, وأنتم عيون الأمة اليقظة وعقولها المفكرة أن تنخدعوا بألاعيب هؤلاء الخبثاء المحتالين فترفعوهم بأيديكم إلى هذه المرتبة العالية التي لم يخلقوا لها, ولم يمتوا إليها بسبب من أسباب العلم أو الذكاء أو الشرف أو الخلق، وها هم نوابغ الممثلين في أمتكم أشقياء بؤساء لا يكاد يجد أكثرهم بين ظهرانيكم ما يقيمون به أود عيشهم, أو يعينهم على ما هم بسبيله من خدمة الفن والقيام عليه؟ من ذا الذي يذهب لمشاهدة التمثيل الجدي في مسارح أبيض ورشدي وعكاشة وأمثالهم إن كنتم أنتم لا تذهبون إليها؟ ومن هو أولى بها من بعدكم إن قطعتم صلتكم بها؟ أيعجبكم ألا يرى الزائر لتلك المسارح الشريفة حين

يزورها غير العامة والسوقة والأميين والجاهلين, فإذا فتش عنكم في مكان آخر غيرها رآكم مزدحمين في مراقص كشكش والبربري وشرفنطح, راضين عن مقامكم فيها, مغتبطين بسفاسفها وهذياناتها؟ ألا تخشون أن يستنتج مستنتج منهم بعد ذلك وقد راعه هذان المشهدان الغريبان -مشهدكم في الأجواق الهزلية الساقطة ومشهد العامة والسوقة في الأجواق الجدية الشريفة- أن الأمة المصرية أمة غريبة الشأن يفسدها العلم ويصلحها الجهل، أو أن يتطرف متطرف منهم في رأيه فيقول: ليت الأمة عاشت جاهلة عمياء موفورا لها حظها من الأخلاق والآداب, فذلك خير لها من علم يهوي بها في مهواة الشقاء والعار. لقد رأيت في حياتي صنوف الحيل والكيد وضروب السماجة والوقاحة, فلم أر بين المحتالين والمتوقحين من هو أعظم كيدا, ولا أسمج وجها من هؤلاء القوم. إنهم يحاولون دائما أن يلبسوا مفاسدهم وشرورهم ثوب الفضيلة والجد, وهو وإن كان ثوبا شفافا ينم عما وراءه إلا أنه يكفيهم للذود عن أنفسهم في مواقف الجدل والمناظرة كما يكفي البرقع الشفاف المرأة المتهتكة للدخول في سلك المتحجبات.

يمثلون الفلاح أقبح تمثيل ولا يتركون مفسدة من المفاسد, ولا رذيلة من الرذائل إلا ويلصقونها به، وينشدون مختلف الأناشيد في السخرية به والهزء بصفاته وأعماله, ثم لا يخجلون أن يقولوا بعد ذلك في بعض تلك الأناشيد: "ما دام بلادنا زراعية، حبوا الفلاح إن كنتوا تحبو وطنكم". وينتقدون في رواياتهم فساد الرجال وخلاعة النساء, وينقمون على المصري تبديد أمواله في سبيل شهواته وليس للنساء في مسارحهم عمل سوى إغراء الشبان وإغوائهم وإفساد عقولهم وابتزاز أموالهم, خصوصا في الساعة التي تمثل فيها هذه الروايات. ويهدمون اللغة العربية هدما بهذه اللغة العامية الساقطة التي يكتبون بها رواياتهم وينظمون بها أناشيدهم وينشرونها في كل مكان ويفسدون بها الملكات اللغوية في أذهان المتعلمين, ثم يزعمون بعد ذلك أنهم أنصار اللغة العربية وحماتها, فيقولون بتلك اللهجة العامية الساقطة: "ما لها لغتنا العربيه، آل همجيه، يا دي المصيبه يا دي العار، فشر دي لغة المدنيه، اتمسكوا بها صغار وكبار". ولا يستحيون أن يجمعوا في نشيد واحد من رواية واحدة

بين قولهم: "دانا أبيع هدومي عشان بوسه، من خدك القشطه يا ملبن، يا حلوة زي البسبوسه، يا مهلبيه تمام واحسن" وبين قولهم: "مصر يحميك ربك، ما تشوفي إلا أيام سعدك" أي: إنهم يصفعون الأمة على وجهها هذه الصفعات المؤلمة, ثم يحاولون أن يترضوها بعد ذلك بترديد كلمات "الوطنية" و"حب وطنك" و"مت في سبيل الأوطان" وأمثالها من الكلمات العذبة الجميلة التي لا معنى لها في أفواههم, إلا أنهم يعتقدون أن المصريين قد بلغوا من الغفلة والبله مبلغا لا يبلغه أطفال المكاتب, ولا سكان المارستانات. لا أرى لكم معشر الطلبة المصريين أمام هذه النازلة العظمى التي نزلت بنا إلا أن ينتدب فريق من عقلائكم نفسه لنصيحة إخوانه بالامتناع عن الذهاب إلى تلك الملاعب وشرح مضارها وسيئاتها لهم، فإن امتناع فريق منكم يؤثر على فريق آخر, وهكذا حتى يصبح في عرفكم جميعا أن الدخول إلى تلك الأماكن عار يخجل مرتكبه من الظهور به بين أصدقائه, ومعارفه. نحن في حالة نحتاج فيها إلى أن يعلم الناس عنا في كل مكان أننا أمة أخلاق وآداب, وأن في نفوس أفرادنا من الصفات والمزايا ما يرفعنا إلى مصاف الأمم العظيمة، ومقياس عظمة الأمم في نظر العالم إنما هو بصفاتها ومزاياها قبل أن يكون بأي شيء غير

ذلك، فإن فات آباءنا أن يورثونا خلق العظمة والإباء في عهدهم, فلنتخلق به نحن لنورِّثه أبناءنا من بعدنا. إنكم لا تذهبون في الحقيقة إلى هذه الأماكن وحدكم, بل يذهب إليها معكم إخوتكم وأخواتكم وبقية أفراد أسركم؛ لأنكم تقصون عليهم عند عودتكم منها ما شاهدتم وتروون لهم ما سمعتم، فكأن سكان البلد جميعا رجالا ونساء, كبارا وصغارا يجتمعون في هذه البؤر الفاسدة في ساعة واحدة، فهل يستطيع أن يتصور متصور خطرا على الأمة وعلى أخلاقها وآدابها أعظم من هذا الخطر؟! إنني لا أدعوكم إلى الامتناع عن الإلمام بهذه المقاذر العامة من أجل أنفسكم فقط, بل من أجل إخوتكم وأخواتكم اليوم، ومن أجل أبنائكم وأحفادكم غدا، ومن أجل مستقبل الأمة المصرية كلها الذي أعتقد أنه أمانة في أيديكم, ووديعة موكولة إلى كرم نفوسكم, وشرف ضمائركم. اهدموا هذه الأماكن هدما بالإعراض عنها واحتقارها وازدرائها, ثم قفوا بعد ذلك على أطلالها البالية هاتفين, صائحين صياح الظافر المنتصر, قائلين: ها قد نجت الأمة من خطر عظيم, وها نحن قد قمنا جميعا بالواجب علينا.

الشيخ على يوسف

الشيخ علي يوسف: هكذا تقوم القيامة، وهكذا ينفخ الصور، وهكذا تطوى السماء طي السجل للكتاب. أفيما بين يوم وليلة يصبح هذا الرجل الذي كان ملء الأفئدة والصدور, وملء الأسماع والأبصار، وملء الأرجاء والأجواء، جثة نحيلة ضئيلة مدرجة في كفن, ملحدة في مهوى من باطن الأرض سحيق؟! ما أعظم الفرق بين الحياة والموت! تغرب الشمس فلا تلبث أن تطلع من مشرقها، وتتراكم السحب من دونها فلا تلبث أن تنفرج عنها حينما تهب عليها الرياح الباردة، وتعرَى الأشجار عن أوراقها ثم تعود إلى جمالها مخضرة نضرة حينما تهب عليها نسمات الربيع، وينام الأحياء في مضاجعهم حتى إذا طلع عليهم الكوكب النهاري وعبثت أشعته بأهداب جفونهم, قاموا من مراقدهم وذهبوا في سبلهم التي خلقوا لها، ويموت الميت فلا ينتظره منتظر، ولا يؤمل أوبته آمل، فكأن ما صار إليه العدم الذي لم يسبقه وجود.

اللهم إنا نعلم أن الموت غاية كل حي، وأن مقاديرك التي تجريها بين عبادك ليست سهاما طائشة ولا نياقا عشواء، وأن زهرة الحياة لا يمكن أن تنبت إلا في التربة التي نبتت فيها أشواك الموت، ولكننا لا نستطيع أن نملك عيوننا من البكاء ولا قلوبنا من الجزع إذا فارقنا عزيز علينا؛ لأن ساحة الصبر التي منحتنا أضيق من أن تسع نازلة البلاء الذي ابتليتنا، فاغفر اللهم لنا حنيننا وبكاءنا على الهلكى والذاهبين. اللهم إنك تعلم أنا نسير من حياتنا هذه في صحراء محرقة ملتهبة لا نجد فيها ظلا نستظل به ولا أكمة نأوي إليها, وأن الصديق الذي نعثر به في حياتنا هو بمنزلة الدوحة الخضراء التي ننتهي إليها في تلك الصحراء بعد الأين والكلال وطول السير والسرى, فنترامى في ظلالها الوارفة ناعمين هادئين، فإذا هبت ريح عاصفة على تلك الدوحة فاقتلعتها من جذورها وطارت بها في جو السماء, وأصبحنا من بعدها ضاحين بارزين, فإنا لا نجد بدا من البكاء والجزع؛ لأن من الشقاء ما لا يستطاع احتماله ولا يطاق تجرع كأسه. لقد كان هذا الرجل العزاء الباقي لنا عن كل ذاهب، والنجم المتلألئ الذي كنا نتنوره من حين إلى حين في هذه السماء

المظلمة المدلهمة المقفرة من الكواكب والنجوم، والدوحة الخضراء التي كنا نلوذ بظلالها من لفحات هذه الحياة وزفراتها، فنحن إن بكيناه فإنما نبكي الأمل الذاهب والسعادة الراحلة والحياة الطيبة، ومن هو أولى بالتفجع والبكاء من سعادتنا وآمالنا! ما كنا نرجو لهذه الأمة غير هذين الرجلين؛ ميت الأمس الشيخ محمد عبده، وميت اليوم الشيخ علي يوسف، فقد كانا لها طودين شامخين رابضين على أكنافها، يمسكها الأول أن تزل بها مزالق المدنية الخالبة فيذهب دينها، ويمسكها الثاني أن تطير بها أحلام السياسة الكاذبة فتذهب جامعتها، واليوم لا نرجو لها من بعدهما أحدا، فويل للأمة في دينها، وويل لها في جامعتها. العلماء والخطباء والكتاب في هذه الأمة كثير، ولكن الرجال قليل. إنما ينفع الأمة ويضطلع بخطوبها ويحمل أعباءها على عاتقه الرجل الذي يشعر من نفسه بأنه ينزل منها منزلة رئيس الأسرة من أسرته التي يعلم أنه مأخوذ بالقيام عليها والسعي لها, فيقوم لها بكل ما تريد ويسعى لها سعي الكادح المجد, ويرحم صغيرها ويحنو على كبيرها, ويحتمل مغارمها ويغتفر عبث أطفالها وجهل شيوخها, ويرى لها في كل شأن من شئونها خيرا مما ترى لنفسها، أرضاها

ذلك أم أغضبها، من حيث لا يمن عليها بذلك ولا يطلب عندها جزاء ولا أجرا، بل من حيث لا تعلم ما يلاقي بينه وبين نفسه من آلام الحياة, وما يعالج من شدائدها في سبيلها. وكذلك كان شأن الشيخ علي يوسف في أمته، فقد مات بموته آخر من بقي لها من الرجال. لقد كان الذين يعرفونه أقل من الذين يجهلونه؛ لأن الذين ينظرون ببصائرهم أقل من الذين ينظرون بأبصارهم، ولأن الحقيقة الكامنة في سويداء قلبه كانت أعمق مكانا وأدق مسلكا من أن تتناولها النظرة الأولى، ولأنه كان مخلصا متحنثا يعمل في سره أكثر مما يعمل في علانيته، ثم لا يدل بنفسه في كلتا الحالتين على نفسه. رأيته في حادثة الأزهر في تلك الأيام التي كان يظن فيها كثير من الناس أنه حرب على الأزهر والأزهريين, يقضي كثيرا من لياليه مترددا على أبواب القائمين بالأمر, ضارعا إليهم أن ينيلوا هؤلاء القوم مطالبهم أو بعض ما يريدون, قائلا عنهم ما كان يقوله النبي -صلى الله عليه وسلم- عن فئة حنين: $"اللهم إن تهلك هذه الفئة, فلن تعبد بعد اليوم على ظهر الأرض أبدا" فلا يقف في سبيله إلا حماقة أولئك الذين كان يظن هؤلاء المساكين أنهم أصدقاؤهم, وهم أعدى أعدائهم.

ورأيته يضم إلى كنفه كثيرا من أصدقائه الذين نبا بهم الدهر بعد سقوط دولة عبد الحميد, وتنكر لهم الناس جميعا خصوصا أولئك الذين كانوا يزدلفون إليهم أيام إقبالهم, ويمسحون وجوههم على أعتاب قصورهم، وكان يلاقي في سبيل ذلك من عتب العاتبين عليه ولوم اللائمين له ما لا يستطاع احتماله، فلم يبال بشيء من ذلك. ورأيت كثيرا من أعدائه الذين كانوا في بعض أيام حياتهم حربا عليه وشقاء له يعودون إلى حظيرته واحدا بعد واحد يستغفرونه فيجلس إليهم, ويتحدث معهم حديث المودة والإخاء كأنما كانوا معه على ميعاد. وما رأيته في يوم من أيام حياته حاقدا ولا واجدا، ولا منتقما ولا طالبا بثأر ولا ذائدا عن نفسه إلا في الساعة التي يعلم فيها أن قد جد الجد, وأن قد أصبح عرضه وشرفه على خطر، ولم أر سائلا دخل إليه يشكو حاجة من الحاج صادقا كان فيها أم كاذبا, ويسأله المعونة عليها من ماله أو جاهه إلا أعانه عليها ما وجد إلى ذلك سبيلا، رحمة وإشفاقا، لا رياء ونفاقا، وكان يرى الرأي ويرى الناس جميعا غيره فلا يثنيه عنه ثانٍ حتى ينحدر ستر الغيب عن وجه المستقبل, فإذا هو مصيب وإذا الناس جميعا مخطئون. ففي سبيل الله يا علي ما فقدنا بفقدك، وفي ذمة الله وجواره

تلك الروح الطيبة الطاهرة التي عاشت ما عاشت في هذه الدنيا سرا كامنا بين أحناء ضلوعك, لا يدركه ولا يكتنه باطنها إلا قليل من الناس، فما رآها الناس جميعا رأي العين إلا وهي طائرة في جو السماء إلى ربها، وكذلك شأن هذه الأمة البائسة المحدودة لا ترى رجالها ولا تعرف مكانهم ولا تشعر بعظمتهم إلا وهم ذاهبون إلى قبورهم حيث تنقطع الصلة بينها وبينهم، فمثلنا ومثلهم كمثل صاحب الدار الذي يجهل أن في أرضها كنزا مخبوءا حتى إذا باعها ممن يستخرج ذلك الكنز منها جلس إلى ظل حائطها, يبكي بكاء البائس المحزون. لقد كنت يا علي مِثل الحقيقة ينتفع الناس بوجودها ولا يفهمونها، بل كنت أفضل من الحقيقة؛ لأن الحقيقة يخدمها أعداؤها وأصدقاؤها، أما أنت فكنت تخدم أصدقاءك وأعداءك، أما الأولون فلأنك كنت تحسن إليهم بجاهك أو بمالك أو برأيك، وأما الآخرون فقد كانوا يقتاتون من تلك القطرات من الدماء التي كانوا يستقطرونها من عرضك وشرفك، فويل للفريقين معا من بعدك، وكنت القطب الذي تدور حوله رحى الأقلام في هذا البلد، فقد كانت وظيفة الكتاب أن يشرحوا آراءك أو يفسروا كلماتك أو يكتنهوا مقاصدك أو يوافقوك أو يخالفوك أو يمدحوك

أو يذموك، فإن كتبوا في شأن من الشئون غير هذا فتروا واستبردوا، فوا ضيعة الأقلام وما أضيق مذاهب الكتاب بعد رحيلك، وكنت العصمة التي تعتصم بها الأمة في مواقف بؤسها وشقائها، ومواطن خطوبها وكروبها، وما أحسب إلا أن الدهر يدخر لها من ذلك في مستقبل أيامها أكثر مما ادخر لها في ماضيها، فما أكثر شقاءها وبلاءها بعد اليوم. أيها الراحل الكريم, لقد كنت أرجو أن أجد بين جنبي بقية من الصبر أغالب بها هذا الحزن الذي أعالجه فيك حتى يبلى على مدى الأيام كما يبلى الكفن, لولا قدر أبعدني عن موطنك في آخر أيام حياتك فأحرمني جلسة أجلسها بجانب سريرك أسمع فيها آخر كلمة من كلماتك, وأرى آخر نظرة من نظراتك, وحال بيني وبين خطوة أخطوها تحت نعشك أجزيك فيها ببعض ما مشيت لي من الخطوات في حياتك، ووقفة أقفها عند قبرك ساعة دفنك أذرف فيها على تربتك أول دمعة يذرفها الباكون عليك، فلئن بكيت موتك يوما فسأبكي حرماني وداعك أياما طوالا حتى يجمع الله بيني وبينك.

العظمة

العظمة: إن رأيت شاعرا من الشعراء أو عالما من العلماء أو نبيلا في قومه أو داعيا في أمته قد انقسم الناس في النظر إليه وتقدير منزلته انقساما عظيما, وانفرجت مسافة الخلف بينهم في شأنه فافتتن بحبه قوم حتى رفعوه إلى رتبة الملك, ودان ببغضه آخرون حتى هبطوا به إلى منزلة الشيطان, فاعلم أنه رجل عظيم. العظمة أمر وراء العلم والشعر والإمارة والوزارة والثروة والجاه، فالعلماء والشعراء والنبلاء كثيرون والعظماء منهم قليلون، وإنما هي قوة روحية موهوبة غير مكتسبة تملأ نفس صاحبها شعورا بأنه رجل غريب في نفسه ومزاج عقله ونزعات أفكاره وأساليب تفكيره, غير مطبوع على غرار الرجال ولا مقدود على مثالهم ولا داخل في كلية من كلياتهم العامة، فإذا نزلت نفسه من نفسه هذه المنزلة أصبح لا ينظر إلى شيء من الأشياء بعين غير عينه, ولا يسمع بأذن غير أذنه, ولا يمشي في طريق غير الطريق التي مهدها بيده لنفسه, ولا يجعل لعقل من العقول مهما عظم شأنه

وشأن صاحبه سلطانا عليه في رأي أو فكر أو مشايعة لمذهب أو مناصبة لطريقة, بل يرى لشدة ثقته بنفسه وعلمه بضعف ثقة الناس بنفوسهم أن حقا على الناس جميعا أن يستقيدوا له وينزلوا على حكمه ويترسموا مواقع أقدامه في مذاهبه ومراميه, فترى جميع أعماله وآثاره غريبة نادرة بين آثار الناس وأعمالهم، تبهر العيون وتدهش الأنظار وتملأ القلوب هيبة وروعة، فإن كان شاعرا كان مبتكرا في معانيه أو طريقته، أو كاتبا أخذ على النفوس مشاعرها وأهواءها، أو فقيها هدم من المذاهب قديما وبنى جديدا، أو ملكا شغل من صفحات التاريخ ما لم يشغله ملك سواه، أو وزيرا ساس أمته بسياسة جديدة لا عهد لهم بمثلها، أو قائدا ضرب الضربة البكر التي تردد الآفاق صداها. تلك هي العظمة، وهذا هو الرجل، ومن كان هذا شأنه كان فتنة الناس في خلواتهم ومجتمعاتهم ومعترك أنظارهم وأفهامهم ومثار الخلف والشقاق فيما بينهم في استكناه أمره وتقدير منزلته؛ فيعجب به الذين فطروا على الإعجاب بكل غريب, والافتتان بكل جديد حتى ينتقل بهم الإعجاب به إلى الافتتان بأقواله وأفعاله وحركاته وسكناته, والإغراق في حبه والمشايعة له والسير بعجائبه وغرائبه في كل صقع ونادٍ، فيقع ذلك من نفوس مناظريه وحاسديه والمتمردين

على عبقريته ونبوغه موقعا غير جميل, فلا يجدون لهم بدا من مقابلة الإغراق في حبه بالإغراق في بغضه على قاعدة المشادة والمعاندة، وهنالك تحتدم المعركة الهائلة بين أنصاره وخصومه فيهاجمه هؤلاء يحاولون استلاب عظمته منه, ويناضل عنه أولئك يريدون استبقاءها في يده وهو واقف بينهم يدير أنظاره فيهم, هانئا مغتبطا لا يحزن ولا يبتئس؛ لأنه يعلم أن جميع هذه الأصوات الصارخة المختلطة حوله إنما هي أبواق شهرته وعظمته. لا أريد أن أقول: إن الرجل العظيم مصيب في كل ما يرى وما يفعل وما ينتهج لنفسه وللناس من سبل الحياة, فربما كان من هو أضعف منه قوة وأخمل ذكرا أسد منه رأيا وأصدق نظرا، وإنما أريد أن أقول: إن أحدا من الناس لا يستطيع أن يشغل أقلام الكتاب وعقول المفكرين وألسنة الناطقين وقلوب المحبين والمبغضين إلا الرجل العظيم. أحب عليا قوم حتى كفروا بحبه وأبغضه آخرون حتى كفروا ببغضه، وسمى بعض الناس أبا بكر وعمر شيخي المسلمين وأنكر بعضهم صحبتهما وإخلاصهما، وعاش محيي الدين بن العربي بين فئة تراه قطب الأولياء وأخرى تراه شيخ الملحدين، واغتبط فريق من المسلمين بابن رشد فسموه فيلسوف الإسلام ونقم

عليه فريق فملئوا وجهه بصاقا في المسجد الجامع، وسمى قوم صاحب كتاب الإحياء حجة الإسلام ومزق آخرون كتابه ونثروه في مهاب الريح، وعاش المعري بين رضا الراضين عنه ونقمة الناقمين عليه، يلثم الأولون مواطئ قدميه ويسحبه الآخرون على وجهه في الطرقات العامة، وشرب سقراط كأس السم بين أفواه باسمة شماتة به وعيون دامعة حزنا عليه، وجرت الأقلام بمدح المتنبي تارة فإذا هو سيد الشعراء وبذمه أخرى فإذا هو أكبر المتكلفين، ورفع قوم شكسبير إلى مرتبة الكمال الإنساني فقالوا: نابغة الدهر وهبط به آخرون إلى أدنى منازل الخسة والدناءة فقالوا: المنتحل الكذاب، وافتتن المفتتنون بنابليون الأول فعلوا به إلى رتبة الأنبياء، وتنكر له خصومه وأعداؤه فسلكوه في سلك الحمقى والممرورين، وذاق كل من لوثر وكالفين وجليلو وفولتير ونيتشه وتولستوي كأسي الحب والبغض في حياته وبعد مماته إلى القطرة الأخيرة منهما، وما انقسم الناس في هذا البلد في هذا العصر في شأن رجل من الرجال انقسامهم في شأن جمال الدين ومحمد عبده وسعد زغلول ومصطفى كامل وقاسم أمين. وما كان واحد من هؤلاء جميعا بالمنزلة التي يرفعه إليها المغرقون في حبه، أو ينزل به إليها الغالون في بغضه، ولكنهم كانوا

قوما عظماء, فانقسم الناس في شأنهم وذهبوا في أمرهم هذه المذاهب البعيدة المترامية، ولا ينقسم الناس هذا الانقسام العظيم إلا في شأن الرجل العظيم. ليس معنى الوجود في الحياة أن يتخذ المرء لنفسه فيها نفقا يتصل أوله بباب مهده, وآخر بباب لحده ثم ينزلق فيه انزلاقا من حيث لا تراه عين ولا تسمع دبيبه أذن حتى يبلغ نهايته كما تفعل الهوام والحشرات والزاحفات على بطونها من بنات الأرض، وإنما الوجود قرع الأسماع واجتذاب الأنظار وتحريك أوتار القلوب واستثارة الألسنة الصامتة وتحريك الأقلام الراكدة وتأريث نار الحب في نفوس الأخيار وجمرة البغض في قلوب الأشرار، فعظماء الرجال أطول الناس أعمارا وإن قصرت حياتهم، وأعظمهم حظا في الوجود وإن قلت على ظهر الأرض أيامهم. العظمة كالحقيقة يخدمها أعداؤها وأصدقاؤها، ويحمل أحجار هيكلها على رءوسهم هادموها وبُناتها، فحيث ترى سواد الأعداء فهناك سواد الأصدقاء، وحيث ترى الفريقين مجتمعين في صعيد واحد فاعلم أن العظمة ماثلة على عرشها العظيم فوق أعناقهم جميعا. العظمة قصر مشيد مرفوع على سارتين منحوتتين من حب

الناس وبغضائهم، فلا يزال ذلك القصر ثابتا في مكانه لا يتزعزع ولا يتحلحل ما بقيتا في مكانهما، فإذا سقطت إحداهما عجزت الأخرى عن الاستقلال به فسقطت بجانب أختها؛ فسقط هو بسقوطهما. لا يعجبنك أن يتفق الناس جميعا على حبك؛ لأنهم لا يتفقون إلا على حب الرجل الضعيف المهين الذي يتجرد لهم من نفسه وعقله ورأيه ومشاعره, ثم يقعي على ذنبه تحت أقدامهم إقعاء الكلب الذليل يضربونه فيصطبر لهم, ويعبثون به فيبصبص بذنبه طلبا لرضاهم، ويهتفون به فيقترب، ويزجرونه فيزدجر. ولا يعجبنك أن يتفقوا على بغضك؛ لأنهم لا يتفقون إلا على بغض الخبثاء الأشرار الذين لا يحبون أحدا من الناس, فلا يحبهم من الناس أحد. وليعجبنك أن يختلفوا في شأنك وينقسموا في أمرك ويذهبوا في النظر إليك وتقدير منزلتك كل مذهب، فتلك آية العظمة وذلك شأن الرجل العظيم. كن القائد الذي تعترك الجيوش حوله من بين ذائد عنه وعادٍ عليه، ولا تكن الجندي الذي يسفك دمه ليسقي به دوحة العظمة التي ينعم في ظلالها القائد العظيم. كن الناطق الذي تحمل الريح صوته إلى مشارق الأرض

ومغاربها، ولا تكن الريح التي تختلف إلى آذان الناس بأصوات الناطقين من حيث لا يأبهون لها, ولا يعرفون لها يدها عندهم. كن النبتة النضرة التي تعتلج ذرات الأرض في سبيل نضرتها ونمائها، ولا تكن الذرة التي تطؤها الأقدام، وتدوسها الحوافر والأخفاف. كن زعيم الناس إن استطعت، فإن عجزت فكن زعيم نفسك، ولا تطلب العظمة من طريق التشيع للعظماء والتلصق بهم أو مناصبتهم العداء والوقوف في وجههم، فإن فعلت كنت التابع الذليل، وكانوا الزعماء الأعزاء.

حرية الانتقاد

حرية الانتقاد: سألني بعض الأصدقاء عن رأيي في الانتقاد وشروطه وحدوده وآدابه وواجباته، ورأيي فيه ألا شروط له ولا حدود ولا آداب ولا واجبات، وأن لكل كاتب أو قائل الحق في نقد ما يشاء من الكلام، مصيبا كان أم مخطئا، محقا أم مبطلا، صادقا أم كاذبا، مخلصا أم غير مخلص؛ لأن النقد نوع من أنواع الاستحسان والاستهجان، وهما حالتان طبيعيتان للإنسان لا تنفكان عنه من صرخة الوضع إلى أنة النزع، وكل ما هو طبيعي فهو حق لا ريبة فيه ولا مراء، فإن أصاب الناقد في نقده فقد أحسن إلى نفسه وإلى الناس، وإن أخطأ فسيجد من الناس من يدله على موضع الخطأ فيه ويرشده إلى مكان الصواب منه، فلا يزال يتعثر بين الصواب والخطأ حتى يستقيم له الصواب كله. فإن أبينا عليه أن ينتقد إلا إذا كان كفؤا في علمه, ومخلصا في عمله كما يشترط عليه ذلك أكثر الناس فقد أبينا عليه أن يخط سطرا واحدا في الانتقاد، وقضينا على ذهنه بالجمود والموت،

لأنا لا نعرف لهاتين الصفتين حدودا معينة واضحة، فكل ناقد يزعمهما لنفسه، وكل منتقد عليه يجرد ناقده منهما، ومتى سمح الدهر لعامل من العاملين بالإخلاص المجرد في عمله فيسمح به لجماعة الناقدين! على أن الناقد الناقم لا تمنعه نقمته من أن يكون مصيبا في بعض ما يقول؛ لأنه لم يأخذ على نفسه عهدا أن يختلق جميع المآخذ التي يأخذها وألا يكتب إلا الباطل والمحال، وإنما هو رجل عياب بالحق وبالباطل فهو يفتش عن السيئات الموجودة حتى يفرغ منها فيلجأ إلى السيئات المختلفة، ولقد كُتب أول نقد في التاريخ بمداد الضغينة والحقد، فقد كانت توجد في عهد اليونان القديم طائفة من الشعراء يجوبون البلاد, ويتغنون بالقصائد الحماسية والأناشيد الوطنية في الأسواق والمجتمعات وبين أيدي الأمراء والعظماء, فيكرمهم الناس ويجلونهم إجلالا عظيما ويجزلون لهم العطايا والهبات فنفس عليهم مكانتهم هذه جماعة من معاصريهم من الذين لا يطوفون في البلاد طوافهم، ولا يحظون عند الملوك والعظماء حظوتهم، فأخذوا يعيبونهم ويكتبون الكتب في نقد حركاتهم وأصواتهم ومعاني أشعارهم وأساليبها، وكان هذا أول عهد العالم بالنقد، والفضل في ذلك للضغينة والحقد، فلرذيلة الحقد

الفضل الأول في وجود الانتقاد, وبزوغ شمسه المنيرة. كذلك لا يمنع الجاهل جهله من أن يكون رأيه في مثل هذا الموضع رأيا صائبا، لا بل ربما كان شعوره بحسن الكلام وقبحه -متى رزق حظا من سلامة الذوق واستقامة الفهم- أصح من رأي الأديب المتكلف الذي يتعمل النقد تعملا، ويتعمق التعمق كله في التفتيش عن حسنات الكلام وسيئاته حتى يضل عنها، ورب ابتسامة أو تقطيبة يمران بوجه السامع العامي عفوا أنفع للأديب حين يراهما وأعون له على معرفة مكان الحسنة والسيئة من كلامه من مجلد ضخم يكتبه عالم مضطلع بالأدب واللغة في نقد شعره أو نثره، وإذا كان من الواجب على كل شاعر أو كاتب أن ينظم أو يكتب للأمة جميعها خاصتها وعامتها, فلِمَ لا يكون من حق كل فرد من أفرادها متعلما كان أو جاهلا أن يدلي برأيه في استحسان ما يستحسن من كلامه, واستهجان ما يستهجن منه؟ وهل رفع العظماء من رجال الأدب إلى مواقف عظمتهم وسجل لهم أسماءهم في صحف المجد إلا منزلتهم التي نزلوها من نفوس السواد الأعظم من الأمة, والمكانة التي نالوها بين عامتها ودهمائها؟ وبعد, فلا يتبرم بالنقد ولا يضيق به ذرعا إلا الغبي الأبله الذي لا يبالي أن يفهم الناس سيئاته بينهم وبين أنفسهم، ويزعجه كل الإزعاج

أن يتحدثوا بها في مجامعهم، ولا فرق بين فهمهم إياها وحديثهم عنها، أو الجبان المستطار الذي يخاف من الوهم ويفرق من رؤية الأشباح، ولو رجع إلى أناته ورويته لعلم أن النقد إن كان صوابا فقد دله على عيوب نفسه فاتقاها، أو خطأ فلا خوف على سمعته ومكانته منه؛ لأن الناس ليسوا عبيد الناقدين ولا أسراهم، يأمرونهم بالباطل فيذعنون، ويدعونهم إلى المحال فيتبعون، ولئن استطاع أحد أن يخدع أحدا في كل شيء فإنه لا يستطيع أن يخدعه في شعور نفسه بجمال الكلام أو قبحه، ولو أن الأصمعي وأبا عبيدة وأبا زيد والمبرد والجاحظ والقالي وقدامة وابن قتيبة والآمدي وأبا هلال والجرجاني بعثوا في هذا العصر من مراقدهم, وتكلفوا أن يذموا قصيدة يحبها الناس من شعر شوقي مثلا لما كرهوها، أو يمدحوا مقالة يستثقلها الناس من نثر "فلان" لما أحبوها، فالحقيقة موجودة ثابتة لا سبيل للباطل إليها، فهي تختفي حينا أو تتنكر أو تتراءى في ثوب غير ثوبها, ولكنها لا تنمحي ولا تزول. فلتنطلق ألسنة الناقدين بما شاءت، ولتتسع لها صدور المنتقدين ما استطاعت، فقد حرمنا الحرية في كل شأن من شئون حياتنا فلا أقل من أن نتمتع بحرية النظر والتفكير.

يوم العيد

يوم العيد: أفضل ما سمعت في باب المروءة والإحسان أن امرأة بائسة في باريس وقفت ليلة عيد من الأعياد بحانوت تماثيل يطرقه الناس في تلك الليلة لابتياع اللعب لأطفالهم الصغار, فوقع نظرها على تمثال صغير من المرمر هو آية الآيات في حسنه وجماله, فابتهجت بمرآه ابتهاجا عظيما لا لأنها غريرة بلهاء يستفزها من تلك المناظر الصبيانية ما يستفز الأطفال الصغار, بل لأنها كانت تنظر إليه بعين ولدها الصغير الذي تركته في منزلها, ينتظر عودتها إليه بلعبة العيد كما وعدته، فأخذت تساوم صاحب الحانوت فيه ساعة والرجل يغالي به مغالاة شديدة حتى علمت أن يدها لا تستطيع الوصول إلى ثمنه وأنها لا تستطيع العودة بدونه, فساقتها الضرورة التي لا يقدرها قدرها إلا من حمل بين جنبيه قلبا كقلب الأم وفؤادا مستطارا كفؤادها, إلى أن تمد يدها خفية إلى التمثال فتسرقه من حيث تظن أن الرجل لا يراها ولا يشعر بمكانها، ثم رجعت أدراجها وقلبها يخفق في آن واحد خفقتين

مختلفتين، خفقة الخوف من عاقبة فعلتها، وخفقة السرور بالهدية الجميلة التي ستقدمها بعد لحظات قليلة إلى ولدها، وكان صاحب الحانوت من اليقظة وحدة النظر بحيث لا تفوته معرفة ما يدور حول حانوته, فما برحت مكانها حتى تبعها يترسم مواقع أقدامها حتى عرف منزلها، ثم تركها وشأنها وذهب إلى مخفر الشرطة فجاء منه بجنديين للقبض عليها, وصعدوا جميعا إلى الغرفة التي تسكنها ففاجئوها جالسة بين يدي ولدها تنظر إلى فرحه وابتهاجه بتمثاله نظرات الغبطة والسرور، فهجم الجنديان على الأم فاعتقلاها وهجم الرجل على الولد فانتزع التمثال من يده, فصرح الولد صرخة عظمى لا على التمثال الذي انتزع منه بل على أمه المرتعدة بين يديه، وكانت أول كلمة نطق بها وهو جاثٍ بين يدي الرجل: رحمتك بأمي يا مولاي، وظل يبكي بكاء شديدا، فجمد الرجل أمام هذا المنظر المؤثر وأطرق إطراقا طويلا, وإنه لكذلك إذ دقت أجراس الكنائس مؤذنة بإشراق فجر العيد, فانتفض انتفاضة شديدة وعظم عليه أن يترك هذه الأسرة الصغيرة حزينة منكوبة في اليوم الذي يفرح فيه الناس جميعا، فالتفت إلى الجنديين وقال لهما: إني أخطأت في اتهام هذه المرأة, فإني لا أبيع هذا النوع من التماثيل، فانصرفا لشأنهما، والتفت هو إلى الولد فاستغفره ذنبه إليه وإلى أمه، ثم مشى إلى الأم فاعتذر

إليها عن خشونته وشدته، فشكرت له فضله ومروءته وجبينها يرفضّ عرقا حياء من فعلتها، ولم يفارقهما حتى أسدى إليهما من النعم ما جعل عيدهما أسعد, وأهنأ مما كانا يظنان. لا تأتي ليلة العيد حتى يطلع في سمائها نجمان مختلفان؛ نجم سعود ونجم نحوس، أما الأول فللسعداء الذين أعدوا لأنفسهم صنوف الأردية والحلل ولأولادهم اللعب والتماثيل ولأضيافهم ألوان المطاعم والمشارب, ثم ناموا ليلتهم نوما هادئا مطمئنا تتطاير فيه الأحلام الجميلة حول أسرتهم تطاير الحمائم البيضاء حول المروج الخضراء، وأما الثاني فللأشقياء الذين يبيتون ليلتهم على مثل جمر الغضى يئنون في فراشهم أنينا يتصدع له القلب, ويذوب له الصخر حزنا على أولادهم الواقفين بين أيديهم يسألونهم بألسنتهم أو بأعينهم ماذا أعدوا لهم في هذا اليوم من ثياب يفاخرون به أندادهم، ولعب جميلة يزينون بها مناضدهم، فيعللونهم بوعود يعلمون أنهم لا يستطيعون الوفاء بها. فهل لأولئك السعداء أن يمدوا إلى هؤلاء الأشقياء يد البر والمعروف, ويفيضوا عليهم في ذلك اليوم السعيد النزر القليل مما أعطاهم الله ليسجلوا لأنفسهم في باب المروءة والإحسان ما سجل لصاحب حانوت التماثيل!

إن رجلا يؤمن بالله ورسله وآياته وكتبه ويحمل بين جنبيه قلبا يخفق بالرحمة والحنان لا يستطيع أن يملك عينه من البكاء, ولا قلبه من الخفقان عندما يرى في يوم العيد في طريقه إلى معبده أو منصرفه من زياراته طفلة مسكينة بالية الثوب كاسفة البال دامعة العين تحاول أن تتوارى وراء الأسوار والجدران خجلا من أترابها وأندادها أن تقع أنظارهن على بؤسها وفقرها ورثاثة ثوبها وفراغ يدها من مثل ما تمتلئ به أيديهن, فلا يجد بدا من أن يدفع عن نفسه ذلك الألم بالحنو عليها وعلى بؤسها ومتربتها؛ لأنه يعلم أن جميع ما اجتمع له من صنوف السعادة وألوانها لا يوازي ذرة واحدة من السعادة التي يشعر بها في أعماق قلبه عندما يمسح بيده تلك الدمعة المترقرقة في عينيها. حسب البؤساء من محن الدهر وصروفه أنهم يقضون جميع أيام حياتهم في سجن مظلم من بؤسهم وشقائهم, فلا أقل من أن يتمتعوا برؤية أشعة السعادة في كل عام مرة أو مرتين.

من الشيوخ إلى الشبان

من الشيوخ إلى الشبان: لا نستطيع أن ننكر عليكم معشر الأبناء أن شبابكم أعظم قوة ونشاطا وأبعد همة وأقوى عزيمة من شيخوختنا، وأن أيدينا الشاحبة المعروقة لا تستطيع أن تصل إلى ما تصل إليه أيديكم الفتية المقتدرة، وأن آراءكم وأفكاركم وجميع تصوراتكم وآمالكم التي تتلون بها شبوبيتكم أكثر حدة وحرارة وأبعد غورا وعمقا من آرائنا وتصوراتنا، ولكن الذي ننكره عليكم ونعتب عليكم فيه أشد العتب هو زرايتكم علينا واحتقاركم لنا ورميكم إيانا بالجمود مرة والخرف أخرى كلما اختلفنا معكم في شأن من الشئون، كما أننا ننعى عليكم كبرياءكم وخيلاءكم واعتدادكم بأنفسكم ذلك الاعتداد العظيم الذي يخيل إليكم معه أن هذه الألوان الجميلة التي تتلون بها حياتكم الحاضرة إنما هي خاصة بكم ووقف عليكم، لم تمر بعصر غير عصركم، ولم يزه بها شباب غير شبابكم، وأنكم أنتم أصحاب الفضل الأول في ابتكارها وافتراع عذرتها، ولو أنكم استطعتم أن تحملوا أنفسكم على الروية والأناة

وأن تنتقلوا بأنظاركم من الحاضر إلى الماضي وإن لم يكن ذلك من طبيعة الشباب ولا من طبيعته لعلمتم أن هذا العهد الذي يمر بكم اليوم والذي تفاخروننا به وتدلون علينا بأحلامه وأمانيه وتصوراته وخيالاته قد مر بنا مثله في زماننا، فقد كان لنا شباب مثل شبابكم نتصور فيه كما تتصورن، ونفكر كما تفكرون، ونردد في أنفسنا وأحاديثنا وكتاباتنا جميع هذه الآراء والأفكار التي ترددونها اليوم حتى انطوى ذلك العهد وزالت معالمه وهدأت على أثره تلك الثورة النفسية الهائلة التي كانت تعترك بين جوانحنا, ودخلنا غمار الحياة الحقيقية حياة الجد والعمل والنظر والتأمل والخبرة والتجربة, فاستطعنا أن نرجع إلى نفوسنا، ونثوب إلى شدنا, وأن نهبط بهدوء وسكون إلى أعماق قلوبنا ونستعرض تلك الآراء والأفكار والأحلام والآمال بإمعان وتدقيق, فاستطعنا أن نميز صالحها من فاسدها، وصادقها من كاذبها، ومعقولها من موهومها، وأن نقلب الأشياء على جميع وجوهها ونرى وجوه الحسن فيها ووجوه القبح ونوازن بين هذه وتلك، فأخذنا بما أربت حسناته على سيئاته، وأطرحنا ما زادت سيئاته على حسناته، فلا فضل لكم في الحقيقة في هذا الذي تزعمون أن لكم الفضل فيه وحدكم من دون الناس جميعا، إنما الفضل للشباب ومزاجه وطبيعته وحدته،

ولا علاقة للعلم والجهل والذكاء والغباوة والتقدم والتأخر بشيء من ذلك، وللشباب خصائص كثيرة وصفات متعددة، وأخص صفاته: قصر النظر وسرعة الحكم والعجز عن إحكام الصلة بين أدوار الزمن الثلاثة: ماضيه وحاضره ومستقبله، فهو لا يستطيع أن يتصور تصورا ثابتا متينا أن الماضي أساس الحاضر ومنبع وجوده، لا يشرق إلا من مطلعه، ولا ينبت إلا في تربته، وأن المستقبل بيد الطبيعة القاسية وقوانينها الصارمة؛ وليس أقرب إليه من أن يتصور أن في استطاعته أن يمحو بيده في لحظة واحدة وجه الكون بأرضه وسمائه ثم يخلقه خلقا جديدا على الصورة التي يريدها ويتصورها، وأن في إمكانه أن يحيل التراب أمواها والأمواه ترابا, وأن يحجب بيده وجه الشمس فلا ينبعث لها شعاع إلا بإرادته, وأن يرغمها متى أراد أن تمزق حجاب الليل وتبرز في سمائه، ولا يزال يتخبط في أمثال هذه التصورات والأحلام التي لا فائدة فيها ولا نتيجة لها حتى تطلع عليه أول طليعة من طلائع الشيخوخة فتهدأ ثورته، وتفتر حدته، ثم لا يلبث أن يسقط جاثيا بين يدي القوة الإلهية والقوى الطبيعية, معترفا بعجزه وقصوره وفراغ يده من كل حول وقوة, هاتفا: إن للكون إلها لا أستطيع محادّته, وللطبيعة سنة لا أستطيع تبديلها.

كنا نفكر كثيرا في شأن المرأة كما تفكرون اليوم، ولا نجد حديثا ألذ ولا أطرب من الحديث عنها، وكنا لشدة إعجابنا بها واهتمامنا العظيم بإرضائها وتدليلها والوقوع من نفسها موقعا جميلا ندافع عنها ضد أنفسنا, ونطلب لها من النفوذ والسيطرة علينا أكثر مما تطلبه لنفسها, ونتمنى بجدع الأنف لو أننا رأيناها متمتعة بالحرية إلى أقصى حدودها, فتتبرج كيف تشاء، وتسفر كما تريد، وتجلس إلى الرجل جنبا لجنب في المجتمعات العامة والخاصة دون أن يعارضها معارض، أو يكدر عليها صفوها مكدر، بل كنا نذهب في مجاملتها ومحاسنتها إلى أكثر من ذلك، فكنا نغتفر لها سيئاتها الأدبية ونسميها سقطات أي: هفوات فردية لا أهمية لها, ونغريها بمحاسبة زوجها حسابا شديدا على خيانته لها ومقابلة فعلاته بمثلها؛ لأننا كنا نقرر لها مبدأ المساواة بينها وبينه ونقول لها: ليس من العدل أن يغضب الزوج من خيانة زوجته إذا كان هو يخونها، وكنا نظن أن هذه الآراء آراء حقيقية راسخة في نفوسنا صادرة من أعماق قلوبنا, ثم علمنا بعد ذلك أننا كنا مخدوعين في أمرها وأنها آراء الشباب وخواطره وألاعيبه ودعاباته وأحلامه وتصوراته، ولا يثقل على الشاب في مفتتح حياته شيء مثل ذلك الحجاب المسبل على وجه المرأة

وذلك الجدار القائم بينها وبينه. وكنا نبتهج بكل جديد كما تبتهجون، وننفر من كل قديم كما تنفرون، ونعد الأول آية الآيات مهما سخف واستبرد، والثاني نكبة النكبات مهما غلت قيمته وعظم قدره، لا لأننا وازنا بينهما وفاضلنا بين مزاياهما فحكمنا عليهما، بل لأننا كنا قريبي عهد بزمن الطفولة, والطفل سريع الملل كثير السآمة لا يصبر على لعبته أكثر من يوم واحد حتى يملها فيكسرها, ويستبدل منها غيرها. وكنا مولعين بالتقليد ولعكم به لا نكاد نعرف لأنفسنا صورة خاصة ترتكز عليها أعمالنا في الحياة، بل كانت تمر بنا جميع الصور على اختلاف أنواعها وألوانها, فنلتقطها بأسرع مما يلتقط "القلم" صوره كأن فضاء حياتنا معمل لتجاريب الحياة واختباراتها. وكان العارف منا بلغة أجنبية لا يلبث أن يفتتن بها وبأصحابها افتتانا شديدا بما حمله على احتقار لغته وتاريخها، فيرتفع عن ذكر رجالها وعظمائها في أحاديثه واستشهاداته ويسخر منهم كلما جرى ذكرهم على لسان أحد غيره, لا لأنه يفهمهم أو يفهم غيرهم, بل لأنه كان بسيطا غريرا يحتقر كل ما في يده ويستعظم كل ما في يد غيره. ولم نعرف إلا بعد زوال ذلك العهد أننا كنا مخطئين في جميع هذه التصورات والأفكار, وأنها لم تكن عقائد راسخة في نفوسنا

بل أشباحا وصورا تتراءى في سماء حياتنا, فنعجب بها ونستطير فرحا وسرورا بجمال منظرها وبهجة ألوانها, فأصبحنا معتدلين في آرائنا متئدين في أحكامنا، نحب حرية المرأة ولكنا نكره فسقها وفجورها، ونأخذ مواد المدنية والرقي من الأمم المتمدينة ولكنا لا نقلدها، ونحب أدب الغربيين وعلمهم ونعجب بأدبائهم وعلمائهم, ولكنا لا نحتقر من أجل ذلك رجالنا وتاريخنا. نحن لا نطلب منكم معشر الأبناء وأنتم في ثورة الشباب ونشوته أن تكونوا معتدلين متئدين في أحكامكم وتصوراتكم, أو هادئين في مطامعكم وآمالكم فليس من الرأي أن نطلب عندكم ما لم نكن نطلبه عند أنفسنا، ولكن أمرا واحدا كنا نحرص عليه في عهدنا أشد الحرص هو الذي نطلب إليكم أن تحرصوا عليه مثلنا, وتضنوا به ضنَّنا: كنا نعتقد مثلكم أننا خير من آبائنا وأجدادنا وأوسع منهم علما وأقوى إدراكا, وربما اعتقدنا في الكثير منهم كما تعتقدون فينا اليوم أنهم جاهلون أو مخرفون أو متأخرون أو جامدون إلا أن ذلك لم يكن يمنعنا من أن نحفظ لهم منزلة الأبوة وكرامتها، فلا نلقبهم بلقب من هذه الألقاب التي تلقبوننا بها, ولا نذكرهم في حضورهم أو غيبتهم بكلمة سوء تنغص عليهم ما قدر لهم أن يقضوه بيننا من

أيام حياتهم، وكان شأننا معهم في برهم وإكرامهم واحترام عقائدهم ومذاهبهم مع اتساع مسافة الخلف بيننا وبينهم شأن خالد بن عبد الله القسري أمير العراق إذ كان مسيحيا فأسلم وحسن إسلامه، وكان أبوه لا يزال على دينه فطلب إليه أن يبني له بيعة في قصره يقوم فيها بأداء واجباته الدينية, فبناها له كما أراد ولم ينع عليه شأنا من شئونه طول أيام حياته حتى ذهب إلى ربه. ذلك ما نضرع إليكم فيه أن تحفظوه لنا كما حفظناه من قبلكم لآبائنا وأجدادنا، واذكروا أن سيأتي عليكم ذلك اليوم الذي أتى علينا وأنكم ستكرهون فيه أن يعاملكم أبناؤكم وأحفادكم بمثل ما تعاملوننا به اليوم، فاتقوا الله فينا أن يعاملكم أبناؤكم وأحفادكم بمثل ما تعاملوننا به اليوم، فاتقوا الله فينا وفي شيخوختنا, فنحن آباؤكم الذين ولدناكم، وأساتذتكم الذين ربيناكم، ومن أكبر العار عليكم وعلى تاريخكم أن تسبوا أساتذتكم وآباءكم, وأن ترموهم في وجوههم بالجهل والجمود وما هم بجاهلين ولا جامدين، ولكنهم شيوخ عاجزون.

الموتى

الموتى: "مترجمة" دقت أجراس المساء تنعى اليوم الراحل، وتندب جماله الزائل، وأخذت قطعان الماشية تعود من مراعيها إلى حظائرها، ومشى وراءها رعاتها يهشون عليها بعصيهم لا يريدون بها شرا ولا أذى لأنهم يحبونها وتحبهم, بل يخافون عليها الضلال, فهم يهدونها الطريق، ومد الظلام رواقه الأسود على جسم الطبيعة المنبسطة كأنما ظن أنها تنام كما ينام البشر, فهو يقيها برد الليل وغائلته، وساد سكون رهيب في تلك الأنحاء فلا يسمع إلا صوت البلبل يشكر للقمر ما أهدي إلى جناحيه من أشعة متلألئة, ونعيب اليوم يمد صوته بالشكوى إلى الله تعالى في سمائه، وما شكاته إلا أن بعض السائحين يطئون أرضه وينتهكون حرمة خرباته المقدسة، وهنالك تحت ظلال الأشجار الضخمة اليابسة رقد أسلاف سكان تلك المزرعة تحت أعماق الأرض رقدة طويلة, بل أكثر من

طويلة لأنها لا نهاية لها، فلا نسمات الصباح الباردة، ولا تغريد الطيور الصادحة، ولا صياح الديكة، ولا رنين الأجراس، ولا هتاف الرعاة، يوقظهم من رقدتهم هذه. أسفي عليهم, لقد أمسوا ولا نيران توقد في أكواخهم، ولا زوجات صالحات يذهبن يجئن في تهيئة طعام عشائهم، ولا صبية صغارا يستقبلونهم عند عودتهم ليقبلوهم ويستقبلوا قبلاتهم، أولئك الرقود الهامدون كانوا بالأمس أشداء أقوياء، تمد السنابل أعناقها خاضعة لمناجلهم، ويئن ظهر الأرض وبطنها تحت وطأة محاريثهم، وترتعد جذوع الأشجار الضخمة فرقا من ضربات فئوسهم. أولئك الوجوم الصامتون كانوا بالأمس فرحين مستبشرين يرقصون ويغنون ويجدون السعادة في كل شيء يحيط بهم، فيطربون لوقع حوافر ماشيتهم على الحصباء كأنما يسمعون قيثارة مطربة، ويجدون في ضجعتهم فوق الأعشاب اليابسة الراحة التي يجدها أصحاب الأسرة فوق مهادهم الوثير، ويشعرون في تناولهم اللقمة الجافة السوداء بعد الجوع باللذة التي يشعر بها الأغنياء عند تناولهم ألوان الطعام الشهي حول موائدهم، ويغترفون بأكفهم الماء من الأنهر والخلجان فيتلذذون بارتشافه كأنما يتناولون صافية

الصهباء في كئوس البلور والذهب. أولئك الخاملون المغمورون الذين لم تنصب لهم التماثيل، ولم ترفع فوق قبورهم القباب كانوا في حياتهم شرفاء عظماء؛ لأنهم كانوا متحابين متآخين، لا يحسد فقيرهم غنيهم ولا يبغي قويهم على ضعيفهم، ولا يحقدون ولا يغدرون، ولا يخافون شيئا حتى الموت ولا يعبدون إلها إلا الله. كذلك كانوا بالأمس، واليوم طواهم الرمس، فرحمة الله عليهم يوم كانوا على ظهر الأرض وبعدما أصبحوا في بطنها. فليجْثُ فوق رمال هذه القبور المبعثرة وبين صفائحها المتهدمة المتساقطة أرباب المطامع في الحياة وطلاب المجد والعظمة, خاشعين مستكينين خافضي رءوسهم إجلالا وإعظاما، وليمسكوا قليلا عن الإدلال بعزهم وجاههم والمكاثرة بفضتهم وذهبهم، وليخفوا في أعماق نفوسهم ابتسامات الهزء والسخرية المترقرقة على شفاههم، وليعلموا أن طريق المجد والعظمة التي يسيرون فيها وإن كانت مخضرة جميلة مفروشة بالأعشاب محفوفة بالأزهار الأريجة, فإنها تؤدي في نهايتها إلى هذا المصير الذي صار إليه هؤلاء المقبورون. أيها الناعمون في عيشهم، المدلون بعزهم وجاههم، المفتخرون بقوتهم وجمالهم، لا تحتقروا هؤلاء المقبورين المساكين إن رأيتم

أجداثهم مشعثة بالية وقبابهم متهدمة خاوية، ولم تروا أسماءهم منقوشة بأجمل الألوان وأزهاها على صفائح قبورهم، وأصغوا قليلا تسمعوا آيات مدحهم والثناء عليهم ترددها الجداول والغدران والحقول والمروج والطيور المغردة فوق أعالي الأشجار، والسوائم الهائمة على ضفاف الأنهار، فهم أصحاب اليد التي رصعت التاج للملك وصنعت السيف للقائد ونسجت المسوح للراهب وبنت القصور للأمراء وصاغت الحلى للأميرات وغرست العشب للسائمة ووضعت الحب للطائر وهيأت للأحياء جميعهم ناطقهم وصامتهم طعامهم وشرابهم, ودثارهم ومهادهم. أيها القوم العظماء: لا تخلد التماثيل المنصوبة غير ذكرى ناحتيها, ولا تطمس السطور الذهبية المنقوشة فوق صفائح القبور سطور السيئات التي يخطها التاريخ في صفحاته، ولا تسمع آذان الموت الصماء نغمات الملق المترددة في أناشيد الرثاء. رب يد تحت هذه الأرض لو أتيح لها الحظ في حياتها لكانت يد العازف الذي يشنف الآذان، أو يد البطل الذي يهز العروش ويزعزع التيجان، أو يد الشاعر الذي يثير الأشجان ويبعث إلى القلوب السرور والأحزان، ورب قلب في هذه الحفائر المظلمة لو عاش في جو غير هذا الجو, وعالم غير هذا العالم لكان قلب ملك

عظيم مملوءا بالآمال العظام، والأماني الجسام، أو قلب زعيم جريء يحاسب الظالمين على ظلمهم، ويذود النوم عن أجفانهم، أو قلب نائب كبير يستهوي ببلاغته القلوب ويسترعي الأسماع، فتدوي له بالتصفيق قاعة مجلس النواب أو قاعة مجلس الشيوخ. كم من لؤلؤة لم تعثر يد الغواص بها فظلت دفينة بين صدفتيها، وكم من زهرة أريجة لم تتفتح حتى هبت عليها رياح الصحراء المحرقة فأذبلتها، وكم من ماسة وضاءة عجز المعدنون عن استخلاصها من معدنها فانطفأ نورها في منجم الفجم المظلم، وكم من قريحة وقادة لم تصقلها العلوم والتجاريب فعاشت مغفلة مهملة حتى انطفأت، ولو أنها صقلتها لغيرت وجه الكون وبدلت الأرض غير الأرض. نعم, كان بين هؤلاء القرويين المقبورين من كان له قلب كقلب "همبدن" إلا أن التاريخ لا يعرفه، ومن كان له لسان كلسان "ملتن" إلا أنه لم ينصب له تمثال، ومن كانت له همة كهمة "كرومويل" إلا أنه لم يقد الجيوش، ولكنهم عاشوا في هذه الفلوات المنقطعة عن العلم والحضارة, فدفن الجهل مواهبهم، وأخمد الفقر نار ذكائهم وفهمهم، فمروا بهذه الدنيا لم يشعر بهم أحد، ثم ماتوا ولم يذكرهم أحد. هنيئا لهم جهلهم وخمولهم، فلو أنهم كانوا عظماء لقضوا أيام

حياتهم يسفكون الدماء ويمزقون الأشلاء ويغتالون حقوق الضعفاء؛ سعيا وراء أغراضهم ومطامعهم، لا بل إنهم كانوا عظماء ولكنهم بريئون من آثام العظمة وجرائمها. رحمة الله عليهم, لقد ذهبوا ولم يبق لهم من بعدهم مما يدل عليهم سوى حجر قديم ملقى في طريق مقبرتهم, قد كتب عليه بخط سقيم هذا البيت البسيط من الشعر: أيها المار في هذا المكان احترم تربته ... ولا تطأ بقدميك رفات الموتى هذا كل ما طمعوا فيه من شئون الحياة بعد موتهم، لم يطلبوا تمثالا يقام لهم، ولا قبة ترفع فوق أضرحتهم، ولا صفحة من صفحات التاريخ تخلد فيها أعمالهم، بل لم يطلبوا طاقة زهر تؤنس مضجعهم، ولا قطرة غيث تبل ثراهم، فما كان أقنعهم وأزهدهم.

الزهرة الذابلة

الزهرة الذابلة: ورد إلي من حضرة صاحب التوقيع الكتاب الآتي: أنا تلميد في السابعة عشرة من عمري تحصلت على شهادة الدراسة الابتدائية ثم تقدمت لامتحان الكفاءة فلم أفلح, غير أني عزمت على الكد للعام المقبل وما دريت ما يخفي الغيب في سره حتى فوجئت بمرض "الحمى" العضال الذي ضعضعني, وما كدت أشفى منه بعد مدة حتى أصابني "الصمم" الكامل فضاعت بذلك آمالي وأظلمت الأرض في وجهي, فرأيت أن أستغيث بك لعلك تسدي إلي جميلك بكلمة تعزية من عندك, وأنا أحق الناس بالعزاء والسلام. 6 يناير سنة 1914 ر. م لا أستطيع أن أعزيك عن مصابك يا بني, فهو فوق ما يحتمل المتحمل ويطيق الجلد الصبور، ولو أنني حاولت ذلك منك لكذبتك وغششتك، ولكان شأني معك شأن أولئك الهازلين العابثين من المعزين الذين يختلفون ليلهم ونهارهم إلى منازل المنكوبين والمرزوئين

ليقولوا للثاكل ولده: "لقد قدمت بين يديك شفيعا يشفع لك يوم حسابك بين يدي ربك" وللباكي أباه: "ما مات من خلف مثلك" وللباكي أخاه: "إن في الباقي عزاء عن الماضي" وللباكية زوجها: "الشباب غض والرجال كثير" وللفاقد بصره: "حسبك مما فقدت من نور بصرك ما أبقى الله لك من نور بصيرتك" وللمحتضر المشرف: "إن في لقاء الله عوضا عن لقاء الدنيا" ولمن حلت به نكبة مثل نكبتك: "لقد كفاك الله بما ابتلاك سماع أقوال الكذب, وكلمات السوء" كأنما هم يحسبون أن الفواجع والرزايا صفقات تجارية إذا قاس فيها المرء ربحه بخسرانه ووازن بين دخله وخرجه هان عليه هذا لذاك، واغتفر ما فات لما هو آتٍ، ولا يعلمون أن الحزن على الذاهب المفقود إنما هو زفرة من زفرات الحب أو نفثة من نفثات الوفاء, ولا دخل للحساب والمعاوضة في شيء من ذلك، وأن أقسى الآباء قلبا وأصلبهم فؤادا لو ساومه مساوم في فلذة كبده, ووضع تحت قدميه خزائن الأرض والسماء لكان رأيه في ذلك رأي ابن الرومي في قوله: وما سرني أن بعته بثوابه ... ولو أنه التخليد في جنة الخلد وأن الأم تبكي وحيدها كما تبكي عاشر عشرة من أولادها، والصديق يبكي فراق صديقه وإن كثر أصدقاؤه في كل محلة يحل

بها, والزوجة تبكي زوجها وإن كان تحت كل نافذة من نوافذ منزلها خطيب يترقبها، وأن البائس المسكين الذي يعيش من دنياه في مثل جحر الضب ضنكا وبؤسا يضن بحياته الضن كله إذا أحس بفراقها وإن علم أنه سينتقل منها إلى جنة عرضها السموات والأرض، فهم في الحقيقة يسخرون من مصائب الناس وأرزائهم ويؤلمون نفوسهم فوق ألمها باحتقار أحزانهم وازدرائها وتصغير شأنها في أعينهم, ويلقون في نفوسهم اليأس من أن يجدوا بجانب قلوبهم قلوبا تحس بإحساسها, وتشعر بشعورها من حيث يظنون أنهم يخففون آلامهم ويأخذونهم بنسيانها. وأعوذ بالله أن أكون يا بني من الكاذبين في تعزيتك أو الغاشين لك فيها، ولو أردت نفسي على ذلك لما استطعت، وكيف يستطيع أن يعزيك عن مصابك من لا يستطيع أن يعزي نفسه عن مصابه فيك، فلقد ترك كتابك هذا بين جنبي لوعة من الحزن, لا أحسب أنها دون لوعتك التي تعتلج بين جنبيك من الحزن على نفسك، حتى صرت كأني ابتليتُ بما ابتليتَ به وكأن الذي أصابك من البلاء قد أصابني من دونك، فلقد انقطع عنك بفقد سمعك أيها البائس المسكين كل ما كان بينك وبين

الناس جميعا من سبب وصلة، فأصبحت وأنت في دار الأنس والاجتماع وبين ضوضاء الحياة وضجيجها كأنك تعيش من وحشتك وكآبتك في مدينة متحجرة من مدن التاريخ القديم, لا تأنس فيها بأحد ولا يأنس بك فيها أحد، ولا ترى بين يديك إلا نصبا مائلة وتماثيل جامدة: تحسب العين أنهم جد أحياء ... لهم بينهم إشارة خرس ولا يرفه عن نفسك في ساعة من ساعات ضيقك وضجرك نغمة غناء، ولا رنة حداء، ولا خرير نهر، ولا تغريد طير، ولا حفيف شجر، ولا زفيف ريح، ولا ثغاء شاة، ولا نقيق ضفدع، ولا صرير جندب، سواء لديك ليلك ونهارك، وصبحك ومساؤك، ويقظتك ومنامك، فإن فررت من وحشتك هذه إلى مجتمع من مجتمعات العامة, فجلست إلى الناس ساعة تتفرج1 فيها مما بك لا تسمع شيئا مما يقولون ولا يعنيهم أن يسمعوا شيئا مما تقول، فإن قلبت نظرك في وجوههم لتتسقط حرفا أو كلمة من حركات شفاههم أو إشارات أيديهم أنكروا عليك نظراتك وسخروا منك في أنفسهم، لا بل ربما صارحوك بكلمتهم التي يضمرونها في أنفسهم من حيث لا تعلم، فإن رأوا منك ذلك ورأوا أنك تقتضب

_ 1 طلب الفرجة والراحة.

الأحاديث بينهم اقتضابا وتذهب منها في أودية غير أوديتهم, وأنك تحدثهم فلا تحسن تقدير صوتك على مقياس أسماعهم فتعلو به عليها أو تنزل به دونها, وأنك تبتسم في موضع التقطيب وتقطب في موضع الابتسام, أصبحوا ينظرون إليك بتلك العين التي ينظرون بها إلى الأطفال الصغار والبله الأغرار، فإن ألممت بسر نظرتهم هذه إليك ألم بك من الحزن والهم ما لا طاقة لمثلك في سنك وضعف منتك باحتمال مثله, وأصبحت ترتاب بكل نظرة تتجه إليك وكل ابتسامة تتراءى لك واعتادك سوء الظن بكل جالس يجلس إليك من أصدقائك وأقربائك وذوي رحمك، بل من أبويك وإخوتك، فلا يكاد يسلم لك صديق أو يصفو لك حميم. فإن فررت من الناس نجاة بنفسك من لؤمهم وقسوتهم فررت إلى خلوة موحشة قاتمة تتراءى لك فيها خيالات الذكرى المؤلمة كلما وازنت بين حاضرك وماضيك, وقارنت بين ما كنت ترجو لنفسك في أيامك الأولى وما انتهى إليك أمرك في أيامك الأخرى، فلا تنفعك خلوة، ولا يؤنسك اجتماع. وأخوف ما أخاف عليك إن استمر بك هذا الشأن -ولا أسأل الله لك دوامه- وظللت تنطق ولا تسمع، وتقول ولا تفهم ما يقال، أن تصبح في يوم من أيامك لا سامعا ولا ناطقا،

فالسماع مادة النطق التي يستمد منها قوته وحياته، ومن لا يسمع لا يحسن النطق، ومن لا ينطق لا يحسن التفكير. وكثير عليك يا بني وأنت زهرة يانعة في روض الشباب, وابتسامة لامعة في ثغر الآمال, وفجر مشرق في سماء الحياة أن تعلو هذه الربوة الزاهرة المخضلة من ربا الحياة, فلا تلبث فيها إلا قليلا حتى يمر بك فارس الدهر فيختطفك من مكانك, ثم يعدو بك عدو الظليم المذعور حتى يلقيك على هذه الصخرة الصماء. فوا رحمتاه لك يا بني مما بك اليوم ومما يستقبلك به الدهر غدا، فأسأل الله تعالى لك أن يرفع عنك محنتك، أو يمنحك عينا ثرة من الدمع لا ينضب معينها، تسكب منها صباح كل يوم ومساءه سجلا على فؤادك الملتاع فتبرد غلته، وتفثأ لوعته، فالدموع هي الرحمة العامة التي يلجأ إليها المنكوبون والمحزونون يوم لا يجدون لأنفسهم في مذهب من مذاهب الأرض, ولا في شعب من شعاب السماء ناصرا ولا معينا, والسلام عليك من الرائي لك الباكي عليك ورحمة الله.

الوجهاء

الوجهاء: جرى بيني وبين أحد الوجهاء المصريين الحديث الآتي: الكاتب: ما هذه الطبقة التي تكسو وجهك, فتحجب منه ما يحجب صفحة السماء من السحب السوداء؟ الوجيه: إن بين جنبي هما يعتلج، وكمدا يذهب باللب ويطير بشظايا القلب، ونارا من الحزن متأججة مضطرمة دخانها هذا الذي تراه. الكاتب: أحق ما تقول وأنت الرجل السعيد بحظه، المغتبط بعيشه؛ قصر غمدان، وخورنق النعمان، وحور وولدان، وظل ظليل، ونسيم عليل، وخزائن تموج بالذهب، موج التنور باللهب، ذلك إلى ما أسبغ الله عليك من صحة البدن، وسلامة الحواس، وأمدك به من الجاه العريض، والكلمة النافذة، والشفاعة المقبولة، فليت شعري ما شكاتك بعد ذلك؟ الوجيه: أشكو الفقر الباطن في الغنى الظاهر، والشقاء المقبل في السعد المدبر، وإني لأرى في السماء غمامة دكناء توشك

أن تنفجر بالصاعقة الكبرى، والكارثة العظمى. الكاتب: ما كنت أحسب أن الشقاء يمر لك ببال بعدما أعطاك الدهر عهدا مكتوبا بتلك الأحرف الذهبية ألا يسدد سهمه إليك، ولا يدور دورته عليك. الوجيه: متى كان للدهر عهد يوثق به أو ذمام يعتمد عليه، فالناس في يده كالكرة ذات الألوان في يد الصبي يديرها فترى الأسود في مكان الأبيض والأبيض في موضع الأسود, وكذلك بقية الألوان تعلو أسافلها وتسفل أعاليها، ودورة السعود والنحوس أسرع في عمر الدهر من لمح الطرف، ولفتة الجيد. الكاتب: هل لك أن تحدثني من أي منفذ نفذ الدهر إليك وما عهدتك شاربا ولا عاهرا، ولا مقامرا ولا مستهترا، وما للدهر مدخل يتسرب منه إلى خزائن الأغنياء غير هذا المدخل؟ الوجيه: أين يذهب بك أيها الصديق، وهل يؤتى الأغنياء في هذا البلد إلا من طريق المجد الباطل والسمعة الكاذبة، وهل يكب العظماء على وجوههم ويلصق بالرغام معاطسهم إلا الشغف بنظرة الأمير، ولفتة الوزير، وزورة المدير، وأنت تعلم أن رجلا مثلي لا يمكن أن يكون له مطمع في المجد الصحيح، فلست بصاحب علم فأفخر به، ولا صاحب قلم فأمت بما يمت به أصحاب

الأقلام من خدمة المجتمع الإنساني وتهذيبه، فلم يبق أمامي غير هذا المجد الكاذب، وهو مجد القربى من الحكام والعمال، ولا سبيل إليه إلا ببذل ثمن غالٍ تقصر عنه خزائن قارون وكنوز ركفلر، وقد أنفقت فوق الطاقة ووراء الفاقة في بناء القصور نزلا للحكام، وغرس البساتين منازه لهم، وإعداد الفرش والآنية الثمينة لمآدبهم وولائمهم، فلما نضب معين الذهب وعيت الأرض أن تثمر فوق ما تثمر لجأت إلى مصرف من المصارف فأثقلني بالديون وأرهقني بالطلب، ففزعت منه إلى آخر، ثم إلى آخر، فكنت كناقش الشوكة بالشوكة، أو غاسل الدم بالدم، ولو كشف لك من أمري ما كشف لي منه لعلمت أن جميع ما كنت أملك من أطيان وعقار، ودور وقصور، لم يبق لي منه إلا تلك الخطوط السوداء المسطورة في جرائد الصبارف، وها أنا ذا اليوم طريد المصارف والغرماء، وغريم القضاءين؛ قضاء الأرض وقضاء السماء. ذلك كل ما يستفيد الوجيه من وجاهته, قبحها الله وقبح كل ما تأتي به، فلا تحسد الوجيه على مظهره الكاذب وزخرفه الباطل، ولا تنفس عليه بؤسه الكامن وشقاءه الخفي، فهو أتعس خلق الله وأكثرهم هما وأثقلهم مئونة وأخسرهم حاضرا ومستقبلا، يكون عنده من الضياع أو الدور جملة لا تثمر له من المال أكثر مما يسع ترفيه

نفسه وتربية أولاده وصلة رحمه, فيسميه الناس وجيها، والوجاهة كلمة صغيرة معناها في نظر الناس كبير كأنما هي عندهم من جوامع الكلم، فالوجيه في اصطلاحهم هو الرجل الذي يمد لكل غريب نزل بلدته مائدة، ويرضخ بالعطاء لكل عابر سبيل مر بحيه، ويشرك في جميع الجرائد والمجلات وإن كان أميا لا يقرأ ولا يكتب، ويبتاع تذاكر حفلات جميع الجمعيات الخيرية على اختلاف مذاهبها وأنواعها وإن كان لا ينتفع بواحدة منها، ويشترك في جمعية الرفق بالحيوان، وجمعيات الرفق بالإنسان، ويبتاع المؤلفات الحديثة التي يكلفه المدير أو المأمور بابتياعها وإن كان عمدة أو شيخ البلد وكان الكتاب في علم الفلسفة، ولا تتم شروط الوجاهة عنده فيأخذ منها بالحظ الأوفر إلا إذا بذل للحكومة المعونة الكبرى في مشاريعها من بناء المستشفيات والمدارس والكتاتيب, وأمثال تلك الضرائب التي تضربها الحكومة علينا ضرب الجزية على أهل الذمة في سالف الأزمان، والتي لا فرق بينها وبين خراج الأطيان وعشور النخيل وعوائد الأملاك. الكاتب: إنها تبرعات ومبرات لا إجبار فيها ولا إلزام، فالحكومة لا تشهر عليكم سلاحا، ولا تعد لكم سجنا، وكل ما في الأمر أن رجالها يخطبون فيكم ويدعونكم إلى هذه الأعمال

الصالحة بالحكمة والموعظة الحسنة. الوجيه: لا أزال أكرر القول, أن رجال الحكومة يضربون علينا ضرائب ليست في شرع ولا قانون، والوجيه في الحقيقة كالعبد في اصطلاح علماء التوحيد مجبور باطنا مختار ظاهرا، أما الظاهر فهو ما ترونه من إقامة المحافل وخطابة الخطباء والتلطف في الطلب وشكر المحسن على إحسانه، وأما الباطن فهو أن الوجيه منا كما علمت مفلس من جميع أنواع المجد إلا مجد الزلفى عند الحكام، والحكام يعرفون ذلك منه فيدخلون عليه من بابه ولا يفتحون له باب القربى منهم إلا على مقدار ما يفتح من أبواب خزائنه بين أيديهم، فمنا من يزوره المدير أو المفتش لأنه وهاب الآلاف، أو المأمور لأنه من أصحاب المئات، ومن لا يزوره أحد منهم ولا ينهض له إذا أقبل ولا يشيعه إذا انصرف لأنه لا يلبي دعوة ولا يحضر مجمعا ولا يكتب رقما في قائمة اكتتاب، فلا يلبث أن يسلس قياده، ويصحب عناده، هذا هو الاستبداد الخفي الذي ترغم الحكومة به أنف الوجهاء من غير أن تشهر عليهم سلاحا أو تعد لهم سجنا، ولكنها تبلغ به في شهر ما كانت تعجز عنه حكومة السجن والكرباج و"الويركو" و"البطانطا"

والعوائد الشخصية في عام، ولقد راجعت صحيفة حسابي في هذا العام عام الأزمة والجدب, فوجدت أني دفعت خراج الأطيان مرة أخرى. الكاتب: هب أن الأمر صحيح كما تقول, فالحكومة لا تودع هذا المال خزائنها, ولا تقضي به أغراضها, وإنما تنفقه فيما ينفع الأمة في تربيتها وتهذيبها وتقدمها وارتقائها. الوجيه: ذلك ما يجب أن تنفق عليه الحكومة من خزائنها التي تملؤها من أموال الأمة لهذه الأغراض التي تذكرها، ولكنها تضن بمال هي في حاجة إليه لإصلاح السودان وبناء العمائر وتشييد القصور وترقية كبار الموظفين خصوصا الأجانب منهم وإقرار عيون السياح الأوروبيين بالمناظر البهجة والآثار الجميلة, فلا ترى لها بدا من حمل تلك الحمالات على أعناقنا بلا رحمة ولا شفقة, ولا نظر إلى ما نتكبده في هذا السبيل مما يذيب الشحم، ويعرق العظم، وليتها كانت تتدرج في الطلب وترتشف المال ارتشافا ولا تعبه عبا, فتدرك في ذلك سياسة الحكومات السالفة المعروفة باستبدادها وإرهاقها، فقد حكي عن أحد رؤسائها أنه علم أن أحد المديرين سلب أهالي مديريته المال دفعة واحدة وأنهم ضاقوا به ذرعا فأحضره في مجلسه, وأمر أن تنزع من لحيته

شعرات متفرقة فما أبه لذلك ولا احتفل به, ثم أمر أن تنتزع من رأسه خصلة من الشعر مرة واحدة فصرخ وتألم، فقال له: هكذا يجب أن يكون أخذ الأموال من الرعية متفرقا تحتمله، لا مجتمعا تتألم له. الكاتب: حسبك من ذلك ثواب الله وأجره على إحسانك, وبذلك المال في سبيله وللآخرة خير وأبقى. الوجيه: من أين يأتيني الثواب والأجر, وهل يثاب المرء إلا على نيته وإخلاصه في عمله، وإني أعترف لك عني وعن جميع الوجهاء أمثالي بما عرفت من أحوالهم، ومارست من طباعهم، أننا لا نريد من بذل ما نبذل إلا رضا الحاكم والتودد إليه وموافاة رغبته لاستكمال أسباب الوجاهة مرة وقضاء المآرب والحاجات أخرى، ووالله لقد أفسد علينا هؤلاء القوم بخطتهم هذه غرائزنا وسجايانا وعودونا من الرياء في الإحسان والنفاق في المعاملة خطة قست معها قلوبنا، واستحجرت أفئدتنا، حتى إن أحدنا لا يكاد يحسن بالدرهم الواحد إلى جاره الفقير البائس إلا أمام قاض فطن وشهود عدول، وحتى زهد فينا الفقراء ولوت المساكين وجوهها عن أبوابنا، وجفانا ذوو الرحم والأقرباء، وأصبحت قصورنا في نظرهم قبورا يستدرون لها الرحمات، لا يرجون منها

الصدقات، وأقفرت "مضايفنا" إلا من عربدة المطربشين ورطانة المبرنطين، فمن أين لثواب الله أن يعرف طريقنا عافاك الله؟ الكاتب: أتغضبك كلمة الحق إن قلتها لك أيها الصديق؟ الوجيه: قل ما تشاء, فقد ملأ الهم ما بين جوانحي فاستحجر قلبي حتى ما يغضبني حق ولا باطل. الكاتب: أعجب ما رأيت من أمرك في حديثك معي أنك تعرف الحق وتتنكر له كأنك لا تعرفه، وتمد يدك إلى الصواب ثم تعجز عنه، فقد زعمت أن مجد القربى من أولياء الأمر مجد باطل، ولقد أصبت فيما تقول, فما شأنك به وما نهوضك إليه ومالك واللصوق بأمر أنت تعلم قلة جدواه وسوء مغبته، ولقد كان لك طريق مختصر إلى المجد الصحيح لو كنت أكبر منك همة, وأصح رأيا, وأقوى عزيمة، فمجد الكرم ليس بأقل شأنا من مجد السيف والقلم، ولا أرى أنك كنت تنفق في سبيله إلا بعض ما أنفقت في هذا المجد الكاذب، وما كان يصيبك في الأول من الشقاء ما أصابك في الثاني، فالكريم معان على أمره, مبارك له في عيشه متى صح له معنى الكرم وكانت الرحمة غريزة من غرائزه تسوقه إلى تفقد الضعفاء، ومواساة الفقراء، من حيث لا يبتغي على ذلك أجرا سوى ما وعد الله به المحسنين من

حسن المثوبة والأجر ورفع الذكر في الآخرة والأولى، ولكنكم بخلتم بأموال الأمة عليها واحتجنتموها دونها, وأبت لكم همتكم الضعيفة أن يكون لكم كما لأمثالكم من أغنياء الأمم الأخرى آثار في بناء المدارس والملاجئ والمستشفيات تسمى بأسمائكم وتعد من أعمالكم، فتنالون بها ما تريدون من مجد الدنيا والآخرة، فعاقبكم الله على ذلك بأن سلط عليكم من يعبث بعقولكم، ويلعب بأهوائكم، ويرغمكم على الإحسان إرغاما من حيث يكون له الغنم وعليكم الغرم، فلا ذكرا حصلتم، ولا مالا حفظتم، {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} .

جرجى زيدان

جرجي زيدان: لا أعلم أين تذهب نفس الإنسان بعد موته، ولا أين مكانها الذي تستقر فيه بعد فراق جسدها، ولا ما هي الصلة التي تبقي بين المرء وبين الحياة الدنيا بعد رحيله عنها، فإن كان صحيحا ما يقولون من أن ساكن القبور يستطيع أن يجد بين صخورها وصفائحها منفذا يشرف منه على هذه الدار فيسره ما ترك وراءه فيها من ذكر جميل وثناء عاطر وسيرة صالحة ومجد باقٍ فإن نصيب جرجي زيدان اليوم من الهناء والغبطة بما ترك في حياته الأولى من جليل الآثار, وصالح الأعمال أوفر الأنصبة وأجزلها. ما أنعم الله على عبده نعمة أسنى قيمة ولا أغلى جوهرا ولا أحسن أثرا من نعمة الاعتقاد بالجزاء الصالح على العمل الطيب، فهو يعتقد أنه مجزى على عمله مكافأ به, مؤمنا كان أو ملحدا, معترفا بنعيم الآخرة أو منكرا له، فإن كان الأول ساقه إلى العمل الصالح شغفه بجنة الخلد وحورها وولدانها، ولؤلئها ومرجانها، وروحها وريحانها، وإن كان الثاني ساقه إليه شغفه بالذكر الجميل والسيرة

الصالحة والحياة الباقية في ألسنة الأجيال وبطون التواريخ، ولولا هاتان الجنتان جنة المؤمنين وجنة الملحدين ما جد في هذه الحياة جاد, ولا عمل فيها عامل. إن ميدان الحياة الدنيا أضيق من أن يسع بين غايتيه العمل الصالح والجزاء عليه معا، وكيف يسعهما والمرء لا يكاد يفرغ في حياته من عمله الذي يتوقع عليه الجزاء قبل أن تنطفئ ذبالة حياته وتحترق فحمة شبابه حيث تموت في قلبه لذة العظمة وتنضب في فؤاده شهوة المجد, فإن فرغ منه قبل ذلك لا يترك له حساده ومنافسوه ساعة من ساعات فراغه يستطيع أن يسكن فيها إلى نفسه ليستشعر برد الراحة ولذة الجزاء، فلا بد أن يكون للجزاء حياة أخرى غير هذه الحياة، إما حياة الأجر، أو حياة الذكر. مات جرجي زيدان فنحن نبكيه جميعا، أما هو فيبتسم لبكائنا ويرى في تفجعنا عليه والتياعنا لفراقه منظرا من أجمل المناظر وأبهاها؛ لأنه يعلم أن هذه الدموع التي ترسلها أجفاننا وراء نعشه أو فوق ضريحه إنما هي ألسنة ناطقة بحبه وإعظامه والاعتراف بفضله والثناء على عمله، وأنها المدد الإلهي النوراني الذي تُكتب به في صحيفة تاريخه البيضاء آيات مجده الخالد وعظمته الباقية، وذلك ما كان يريد أن يكون.

مات جرجي زيدان فبكاه صديقه؛ لأنه كان يحمد وده وإخاءه، وبكاه جاره لأنه كان يجد في جواره لذة الأنس وجمال العشرة, وبكاء معتفيه لأنه كان ينتفع بماله، وبكاه صنيعته لأنه كان ينتفع بجاهه، وبكاه قارئ كتبه لأنه كان يجد فيها من غزارة المادة وجمال الأسلوب وسهولة التناول ما لا يجد السبيل إليه في غيرها، وبكاه قارئ رواياته لأنه كان يجد في خيالها وبراعة تصوراتها عونا له على هموم الحياة وأزرائها، أما أنا فبكيته لأمر فوق ذلك كله. تطلع الشمس صباح كل يوم من مشرقها على هذه الكائنات؛ ناطقها وصامتها, ساكنها ومتحركها, جامدها وسائلها, فتستمد جميع ذراتها منها مادة حياتها التي تقومها أو صورتها التي تتشكل بها، وتأخذ منها النباتات نماءها والأزهار ألوانها والنار حرارتها والأجسام الحية قوتها والأجسام الجامدة صورتها والأجواء طهارتها ونقاءها، والآفاق جمالها وبهاءها، وكذلك كان جرجي زيدان في سماء هذا البلد. كان بطلا من أبطال الجد والعمل والهمة والنشاط، يكتب أحسن المجلات ويؤلف أفضل الكتب وينشئ أجمل الروايات, ويناقش ويناضل ويبحث وينقّب ويستنتج ويستنبط, ويجيب السائل ويفيد الطالب في آن واحد، لا يشغله أمر من تلك الأمور عن أمر غيره، ولا يشكو مللا ولا ضجرا ولا يحس بخور ولا فتور،

فكان القدوة الحسنة بين فريق المستنيرين من المصريين، يتعلمون منه أن قليلا من العلم يتعهده صاحبه بالتربية والتنمية ثم يقوم على نشره وإذاعته بين الناس, أنفع له ولأمته من العلم الكثير والعمل القليل. ولو شئت أن أقول لقلت: إن جرجي زيدان كان رئيس البعثة العلمية السورية التي وفدت إلى مصر في أواخر القرن الماضي, فغيرت وجه العالم المصري تغييرا كليا, وغرست في صحرائه القاحلة المجدبة أغراس الجد والعمل والشجاعة والإقدام والهمة والاستقلال، وعلمت أبناءه كيف يؤلفون ويترجمون وينشئون الجرائد والمجلات وكيف يتخذون من هذا العمل الشريف صناعة يقومون بها حياتهم المادية وحياة أمتهم الأدبية، ويتقون بها مذلة الوقوف على أبواب الدواوين صباح مساء يتكففون رؤساءها, ويسألونهم أن يتخذوهم عبيدا لهم يخدمونهم على موائد عزهم وسعادتهم التي يجلسون عليها، فإما عطفوا عليهم فألقوا إليهم بالنزر القليل الخسيس من فتات تلك الموائد, وإما طردوهم منها كما يطردون الكلاب الجرباء. وكان شريف النفس بعيد الهمة, متجملا بصفات المؤرخ الحقيقي الذي لا يتعصب ولا يتحيز ولا يداهن ولا يجامل ولا يترك

لعقيدته الدينية مجالا للعبث بجوهر التاريخ وحقائقه، فكتب وهو المسيحي الأرثوذكسي تاريخ الإسلام في كتبه ورواياته كتابة العالم المحقق الذي لا يكتم الحسنة إذا رآها، ولا يشمت بالسيئة إذا عثر بها، فاجتمع بين يديه في مجلس علمه من أبناء الأمة الإسلامية, خواصها وعوامها عربها وعجمها جمع لم يجلس مثله بين يدي عالم من عالم الإسلام, ولا مؤرخ من مؤرخيه في هذا العصر، فأقام بهذا العمل العظيم لهذا الدين القويم حجته أمام أولئك المتعصبين من الأوروبيين الذين لا يثقون في خبر من أخباره ولا في بحث من أبحاثه بحديث شيعته وأبنائه، وكان في تسامحه هذا القدوة الصالحة للمؤرخ يتعلم منه كيف يكتب التاريخ بلسان التاريخ لا بلسان الدين والمثل الأعلى للعالم, يتعلم منه كيف يستطيع أن يتجرد من عواطفه وميول نفسه وخواطر قلبه أمام الأمانة للعلم, والوفاء بحقه. وكان مستقيما في عمله أمينا في علائقه, لا يكذب ولا يتلون ولا يخيس بعهده ولا ينكث وعده, ولا يكسو بضاعته لونا غير لونها ليزخرفها على الناس ويجمّلها في عيونهم، فتعلم منه العاملون أن الكذب في المعاملة ليس شرطا من شروط الربح, ولا سببا من أسباب النجاح. وكان واسع الصدر فسيح رقعة الحلم, وقف له في طريق

حياته كما وقف لغيره من قبله ومن بعده فريق المقاطعين في هذا البلد الذين لا ينطقون, ولا يسكتون عن مقاطعة الناطقين, فلبسوا ثوب الانتقاد ليشتموه، وكمنوا وراء أكمة الدين ليرموه فيصموه، وقالوا: إنه شوه وجه التاريخ الإسلامي وعبث بحقائقه، ولم يسألوه من أين نقل ولا كيف استند، بل سألوه لِمَ لم يكتب كما كتبوا، ويستنتج مثلما استنتجوا، كأنما لم يكفهم منه أن يروه بينهم مسيحيا متسامحا حتى أرادوا منه أن يكون مسلما متعصبا يكتب التاريخ بلسان الدين كما يكتبون، وينهج فيه كما ينهجون، فلما لم يجدوه حيث أرادوا رموه بسوء القصد في عمله وخبث النية في مذهبه ولم يستطيعوا أن يروضوا أنفسهم الجامحة على أن يقولوا: إن الرجل باحث مستنتج يخطئ مرة ويصيب أخرى، أو يقولوا: إن له في تاريخ الإسلام حسنات تصغر بجانبها سيئاته فيه فلنغتفر هذه لتلك، وما أحسب أن واحدا منهم يعتقد شيئا مما يقول، ولكنهم كانوا يرون أن الدين سلعة تباع وتشترى وأن سلعته ملك لهم ووقف عليهم, لا يجب أن تعرض في حانوت غير حانوتهم، وكانوا يظنون أن الرجل تاجر مثلهم يريد أن يفتح بجانب حانوتهم الحانوت التي يخافونها فاستوحشوا منه وأنكروا مكانه واستثقلوا ظله، وقالوا مرة: إنه مسيحي لا يؤمَن على الإسلام, ولا على تاريخه كأنما ظنوا

أنه ينقل حوادث التاريخ ووقائعه من العهد القديم أو العهد الجديد، وقالوا أخرى: إنه سوري دخيل, وفد إلى هذا البلد مسترزقا أو متجرا فما هو بمخلص ولا بأمين، وفاتهم عفا الله عنهم أنه إن كان ضيفا فليس من أدب الضيافة ولا من خلال المروءة والكرم أن يمن المضيف على ضيفه بيده عنده وأن يعد عليه لقيماته التي يطعمها على مائدته، وإن كان تاجرا فقد باعهم بهذا النزر الخسيس من متاع الدنيا وزخرفها جوهر عقله وينبوع ذكائه ومادة حياته، فما كانوا من الخاسرين، ولا كان من الرابحين. ووالله ما أدري كيف تتسع صدورهم للخمار الرومي واللص الإيطالي والقواد الأرمني أن يفتح كل منهم في كل موطئ قدم من مدنهم وقراهم حانة يسلب فيها عقولهم, أو مقمرا يسرق فيه أموالهم, أو ماخورا يهتك فيه أعراضهم فلا يطاردونه ولا يحاربونه ولا يسمونه دخيلا ولا واغلا, ثم يضيقون ذرعا بالعالم الشرقي ينزل أرضهم نزول الديمة الوطفاء بالصحراء المحرقة فيعلمهم العلم ويهذب نفوس أبنائهم ويثقف عقول ناشئتهم ويبعث في نفوس ضعاف العزائم منهم روح الهمة والنشاط والشجاعة والإقدام. ذلك هو شقاء الأمم، وهذا جواب السائلين عن أسباب سقوطها وانحطاطها.

لم يضق الرجل ذرعا بهذا كله, بل كان شأنه معهم أن كان يعتب عليهم ولا يشتمهم، وينبههم إلى أدب المناظرة وواجباتها ولا يؤنبهم، ويدعوهم إلى اتخاذ كلمة الحق سواء بينه وبينهم ولا يمكر بهم، حتى انقلب عنهم يحمل لواء الفضيلة والحلم وإن كان مخطئا، وانقلبوا عنه يحملون فوق ظهورهم رذيلة التعصب والجهل وسوء الخلق وضيق العطن, وإن كانوا مصيبين. ولقد وضع بخطته هذه في مناظرة خصومه ومجادلتهم أول حجر في بناء الأخلاق الفاضلة في هذه الأمة, فتعلم منه كثير من أدباء هذا البلد وعلمائه كيف يستطيعون أن يتناظروا ولا يتشاتموا, وأن يتعاونوا على الحقيقة المبهمة فيكشفوا الغطاء عن وجهها دون أن يريقوا في معاركهم قطرة واحدة من دم الفضيلة والشرف، فإن تم لهذه الأمة في مستقبل حياتها حظها من شرف الأخلاق وعلو الهمة ونبالة المقصد في جميع شئونها وأغراضها فلتتذكر دائما أن جرجي زيدان كان أحد الذين أسسوا في أرضها هذه الدولة الفاضلة, دولة الآداب والأخلاق. نحن لا تعوزنا المؤلفات ولا المترجمات، فالمؤلفون والمترجمون والحمد لله كثيرون، وإنما الذي يعوزنا روح عالية تخفق في سماء هذه الأمة خفوق النجم الزاهر في سمائه, وتشرق في نفوس أبنائها

إشراق الشمس في دارتها, فتبعث العزيمة في قلب العاجر والشجاعة في فؤاد الجبان، وتقوم من الأخلاق معوجها، وتصلح من الآداب فاسدها، وتثبت من العقول مضطربها، وتعلم كل صغير وكبير وقوي وضعيف أن قيمة المرء في حياته أداء واجبه للإنسانية أولا ولأمته ثانيا ولنفسه أخيرا، وأن الحب سعادة الإنسان والبغض شقاؤه وبلاؤه، وأن الفرق بين الدين الخالص والدين المشوب أن الأول يتسع صدره لكل شيء حتى لمخالفيه ومحاربيه، وأن الثاني يضيق صدره بكل شيء حتى بنفسه، وأن الله تعالى أوسع رحمة وأعلى حكمة من أن يسد في وجوه عباده كل طريق للوصول إليه إلا طريق السيف والنار، وأن هذه الأحقاد الدنيئة التي تلتهب في صدور الناس التهابا لا تؤججها في صدورهم الأديان نفسها بل رؤساء الأديان الذين يستخدمونها, ويتجرون بها في أسواق الغباوة والجهل، وأن الذين يقدسون هذه الأحقاد ويباركونها ويعتبرونها جزءا من ماهية الدين ومقوما من مقوماته إنما يقولون من حيث لا يشعرون: إن الإلحاد في العالم والفوضى الدينية فيه وعبادة الشمس والقمر والتراب والحجر أنفع للمجتمع الإنساني, وأحسن عليه عائدة من عبادة الإله المعبود. ولقد كان جرجي زيدان روحا من تلك الأرواح العالية

تمنيناها برهة من الزمان حتى وجدناها فلم ننعم بها إلا قليلا, ثم فقدناها أحوج ما كنا إليها, فذلك ما يبكينا عليه ويحزننا على فراقه. الكاتب كالمصور كلاهما ناقل وكلاهما حاكٍ، إلا أن الأول ينقل مشاعر النفس إلى النفس، والثاني ينقل مشاهد الحس إلى الحس. وكما أن ميزان الفضل في التصوير أن تكون الصورة والأصل كالشيء الواحد، كذلك ميزان الفضل في الكتابة أن يكون المكتوب في الطرس، خيال المكنون في النفس. بهذه العين التي لا أزال أنظر بها دائما إلى الكتابة والكتاب, وأوازن بها بين أقدارهم ومنازلهم كنت أقرأ ذلك الأسلوب العذب البديع الذي كان يكتب به المرحوم جرجي زيدان كتبه ورواياته, فأتخيله مرآة نقية صافية قد ارتسمت فيها صورة نفس الكاتب جلية واضحة, لا غموض فيها ولا إبهام. وقليلا ما كنت أجد في نفسي هذا الشعور عند النظر في كتابة كاتب سواه؛ لأن الكاتب إن استطاع أن ينال ثناء الناس وإعجابهم ببلاغة لفظه أو براعة معناه أو سعة خيالة أو قوة حجته

فإنه لا يستطيع أن ينال الثقة من نفوسهم إلا إذا كان من الصادقين المخلصين. كنت أرى عذوبة نفسه في عذوبة لفظه، وطهارة قلبه في طهارة لسانه، وصفاء ذهنه في وضوح أغراضه ومراميه، وجمال ذوقه في جمال ملاحظاته واستنتاجاته، وكان خير ما يعجبني منه ترفعه عن مجاراة المتكبرين من الكتاب في كبريائهم, ونزوله في كثير من مواقفه إلى منازل العامة ليحدثهم بما يفهمون؛ لأنه كان من كتاب المعاني لا من كتاب الألفاظ، ولأنه كان يؤثر أن يتعلم عنه الجاهلون، على أن يرضى عنه المتحذلقون. وإن كان الرجل هو الأسلوب كما يقولون, فلا أعلم أحدا في هذا البلد كان أولى بوصف الكاتب من المرحوم جرجي زيدان, فوا رحمتاه له ووا أسفا عليه.

احترام المرأة

احترام المرأة: نعم, إن الرجال قوامون على النساء كما يقول الله تعالى في كتابه العزيز, ولكن المرأة عماد الرجل وملاك أمره وسر حياته من صرخة الوضع إلى أنة النزع. لا يستطيع الأب أن يحمل بين جانحتيه لطفله الصغير عواطف الأم، فهي التي تحوطه بعنايتها ورعايتها، وتظلله بجناح رحمتها وشفقتها، وتسكب قلبها في قلبه حتى يستحيلا إلى قلب واحد يخفق خفوقا واحدا ويشعر بشعور واحد، وهي التي تسهر عليه ليلها وتكلؤه نهارها وتحتمل جميع آلام الحياة وأرزائها في سبيله غير شاكية ولا متبرمة, بل تزداد شغفا به وإيثارا له وضنا بحياته بمقدار ما تبذل من الجهود في سبيل تربيته، ولو شئت أن أقول لقلت: إن سر الحياة الإنسانية وينبوع وجودها وكوكبها الأعلى الذي تنبعث منه جميع أشعتها ينحصر في كلمة واحدة "قلب الأم".

ولا يستطيع الرجل أن يكون رجلا تام الرجولة حتى يجد إلى جانبه زوجة تبعث في نفسه روح الشهامة والهمة وتغرس في قلبه كبرياء المسئولية وعظمتها، وحسب المرء أن يعلم أنه سيد وأن له رعية كبيرة أو صغيرة تضع ثقتها فيه وتستظل بظل حمايته ورعايته وتعتمد في شئون حياتها عليه حتى يشعر بحاجته إلى استكمال جميع صفات السيد ومزاياه في نفسه، فلا يزال يعالج ذلك ويأخذ نفسه به حتى يتم له، وما نصح الرجل بالجد في عمله والاستقامة في شئون حياته وسلوك الجادة في سيره ولا هداه إلى التدبير ومزاياه والاقتصاد وفوائده والسعي وثمراته، ولا دفع به في طريق المغامرة والمخاطرة والدأب والمثابرة مثل دموع الزوجة المنهلة, ويدها الضارعة المبسوطة. ولا يستطيع الشيخ الفاني في أخريات أيامه أن يجد في قلب ولده الفتى من الحنان والعطف والحب والإيثار ما يجد من ذلك في قلب ابنته الفتاة، فهي التي تمنحه يدها عكازا لشيخوخته وقلبها مستودعا لأسراره وهواجس نفسه، وهي التي تسهر بجانب سرير مرضه ليلها كله تتسمع أنفاسه وتصغي إلى أناته وتحرص الحرص كله على أن تفهم من رعشات يديه ونظرات عينيه حاجاته وأغراضه، فإذا نزل ستار الموت بينها وبينه كانت هي من دون أهله جميعا

الوارثة الوحيدة التي تعد موته نكبة عظمى لا يهونها عليها ولا يخفف من لوعتها في نفسها أنه قد ترك من بعده ميراثا عظيما، وكثيرا ما سمع السامعون في بيت الميت قبل أن يجف تراب قبره أصوات أولاده يتجادلون, ويشتجرون في الساعة التي يجتمع فيها بناته ونساؤه في حجراتهن نائحات باكيات. وجملة القول أن الحياة مسرات وأحزان، أما مسراتها فنحن مدينون بها للمرأة؛ لأنها مصدرها وينبوعها الذي تتدفق منه، وأما أحزانها فالمرأة هي التي تتولى تحويلها إلى مسرات أو ترويحها عن نفوس أصحابها على الأقل، فنحن مدينون للمرأة بحياتنا كلها. وأستطيع أن أقول وأنا على ثقة مما أقول: إن الأطفال الذين استطاعوا في هذا العالم أن يعيشوا سعداء معنيا بهم وبتربيتهم وتخريجهم على أيدي أمهاتهم الأرامل الضعيفات, أضعاف الأطفال الذين نالوا هذا الحظ على أيدي آبائهم الأقوياء الأثرياء بعد فقد أمهاتهم، وللرحمة الأمية الفضل العظيم في ذلك. فليت شعري هل شكرنا للمرأة تلك النعمة التي أسدتها إلينا, وجازيناها بها خيرا؟! لا؛ لأننا إن منحناها شيئا من عواطف قلوبنا ومشاعر

نفوسنا فإننا لا نمنحها أكثر من عواطف الحب والود، ونضن عليها كل الضن بعاطفة الاحترام والإجلال، وهي إلى نهلة واحدة من موارد الإجلال والإعظام أحوج منها إلى شؤبوب متدفق من سماء الحب والغرام. قد نحنو عليها ونرحمها، ولكنها رحمة السيد بالعبد لا رحمة الصديق بالصديق، وقد نصفها بالعفة والطهارة، ومعنى ذلك عندنا أنها عفة الخدر والخباء لا عفة النفس والضمير، وقد نهتم بتعليمها وتخريجها لا باعتبار أنها إنسان كامل لها الحق في الوصول إلى ذروة الإنسانية التي تريدها, وفي التمتع بجميع صفاتها وخصائصها، بل لنعهد إليها بوظيفة المربية أو الخادم أو الممرضة, أو لنتخذ منها ملهاة لأنفسنا ونديما لسمرنا ومؤنسا لوحشتنا، أي: إننا ننظر إليها بالعين التي ننظر بها إلى حيواناتنا المنزلية المستأنسة، لا نسدي إليها من النعم, ولا نخلع عليها من الحلل إلا ما ينعكس منظره على مرآة نفوسنا, فيملؤها غبطة وسرورا. إنها لا تريد شيئا من ذلك، إنها لا تريد أن تكون سريّة الرجل ولا حظيّته ولا أداة لهوه ولعبه, بل صديقته وشريكة حياته. إنها تفهم معنى الحرية كما يفهمها الرجل, فيجب أن يكون حظها منها مثل حظه.

إنها لم تخلق من أجل الرجل بل من أجل نفسها، فيجب أن يحترمها الرجل لذاتها لا لنفسه. يجب أن ننفس عنها قليلا من ضائقة سجنها؛ لتفهم أن لها كيانا مستقلا وحياة ذاتية, وأنها مسئولة عن ذنوبها وآثامها أمام نفسها وضميرها, لا أمام الرجل. يجب أن تعيش في جو الحرية وتستروح رائحته المنعشة الأريجة ليستيقظ ضميرها الذي أخمده السجن والاعتقال من رقدته, ويتولى بنفسه محاسبتها على جميع أعمالها ومراقبة حركاتها وسكناتها، فهو أعظم سلطانا وأقوى يدا من جميع الوازعين والمسيطرين. يجب أن نحترمها لتتعود احترام نفسها، ومن احترم نفسه فهو أبعد الناس عن الزلات والسقطات. لا يمكن أن تكون العبودية مصدرا للفضيلة ولا مدرسة لتربية النفوس على الأخلاق الفاضلة والصفات الكريمة إلا إذا صح أن يكون الظلام مصدرا للنور والموت علة في الحياة والعدم سلما إلى الوجود. كما لا أريد أن تتخلع المرأة وتستهتر وتهيم على رأسها في مجتمعات الرجال وأنديتهم, وتمزق حجاب الصيانة والعفة المسبل

عليها وهو المعنى الذي يفهمه البسطاء من العامة عادة من كلمة الحرية عند إضافتها إلى المرأة، كذلك لا أحب أن تكون مستعمرة ذليلة يسلبها مستعمرها كل مادة من مواد حياتها, ويأخذ عليها كل طريق حتى طريق النظر والتفكير. وبعد, فإما أن تكون المرأة مساوية للرجل في عقله وإدراكه أو أقل منه، فإن كانت الأولى فليعاشرها معاشرة الصديق للصديق والنظير للنظير، وإن كانت الأخرى فليكن شأنه معها شأن المعلم مع تلميذه والأب مع ابنه، أي: إنه يعلمها ويدربها ويأخذ بيدها حتى يرفعها إلى مستواه الذي هو فيه أو ما يقرب منه؛ ليستطيع أن يجد منها الصديق الوفي والعشير الكريم، والمعلم لا يستعبد تلميذه ولا يستذله، والأب لا يحتقر ابنه ولا يزدريه.

الانتقام

الانتقام: "مترجمة" 1- قضى المسيو "كابريني" برهة طويلة من أيام حياته سعيدا مغتبطا بزوجة جميلة وثروة صالحة وخلق طيب شريف يحببه إلى الناس جميعا، ثم نكبه الدهر نكبة عظمى ذهبت بماله وبزوجته، فبكاهما ما شاء الله أن يفعل، ثم بلي حزنه كما تبلى جميع الأحزان في قلوب الناس، ولم يجد بدا من أن يعيش لابنته "إيلين" ليتولى تربيتها وإسعادها، فالتحق بمصرف من المصارف المالية بمرتب قليل, ثم لم يزل يبذل جهده في خدمة العمل الذي وُكل إليه حتى أصبح بعد مدة قصيرة وكيلا لذلك المصرف، فكان يعمل فيه سحابة نهاره ثم يعود ليلا إلى منزله فيرى ابنته منهوكة متضعضعة لكثرة ما كانت تبذل من الجهد قي خدمة المنزل ومناظرة شئونه، فرأى أن يتزوج ليخفف عنها بعض متاعبها وآلامها ففعل وكان سيئ الحظ في اختياره, فتزوج من امرأة فاسدة خليعة لا همّ لها في حياتها

سوى ترفيه عيشها وتدليل نفسها والتقلب بين أعطاف شهواتها ولذائذها، فلم ينتفع منها بشيء بل زادت همومه وآلامه وأثقال عيشه، ولكن ماذا يعمل وقد وُضعت السلسلة في عنقه وانتهى الأمر، وأصبحت ابنته بعد أن كانت سيدة بيتها وأميرة نفسها أسيرة في يد امرأة قاسية داهية تسومها أنواع الخسف وصنوف العذاب، فكانت تحتمل ذلك كله بصبر وجلد، وكانت تكتمه أباها كتمانا شديدا ضنا براحته وسكونه، بل كانت تكتم عنه علائق زوجته وصلاتها بمعارفها وأصدقائها؛ رحمة به وإشفاقا عليه. وكثيرا ما كان يعود إلى منزله في بعض لياليه حاملا بعض دفاتر المصرف في يده ليتمم فيها العمل الذي أعجله الوقت عن إتمامه هناك, فيجلس إلى مكتبه ساهرا ليله مكبا على عمله ذائدا النوم عن عينيه حتى يغلبه على أمره, فينام في مكانه والقلم معلق بين أصابعه في الساعة التي تكون فيها زوجته بين جمع من أصدقائها وصديقاتها, في بعض الملاعب أو الحانات أو المجتمعات الخاصة راقصة لاهية عابثة بجميع الفضائل الإنسانية، فإذا استيقظت ابنته أثناء الليل ورأته على هذه الحالة مشت إليه برفق وهدوء, وجلست على كرسي أمامه واجتذبت إليها الدفتر الذي بين يديه وأتمت فيه العمل من حيث قطعه، ثم توقظه بعد ذلك لينام في فراشه, فيشكر

لها يدها ومعونتها، ثم يسألها سؤال المتمرمر الممتعض: ألم تعد فلانة حتى الآن؟! فتجيبه بالصمت أن لا، فيذهب إلى سريره حاملا بين جنبيه من الهم والألم ما الله به عليم. وجملة القول أن الرجل كان شقيا منحوسا، يسير من شئون حياته في ظلمة داجية لا ينتهي بصره فيها إلى مدى، ولا يرى في سمائها نجما واحدا يتنوره إلا ذلك النجم الضئيل الذي كان يلمع من حين إلى حين في جبين ابنته الراحمة الشفوقة، فيتنفس أمامه تنفس الراحة ويأذن لفمه أن يبتسم في ضوئه ابتسامة الغبطة والسرور. فإنه لجالس ذات يوم في غرفة مكتبه من المصرف, إذ دعاه إليه مديره وسلم له ورقة مالية قيمتها خمسة آلاف فرنك ليودعها الخزينة ويسجلها في دفاتر المصرف، فتناولها منه وعاد بها إلى غرفته ووضعها على مكتبه وتناول الدفتر ليقيدها، فما أمسك القلم بيده حتى دخل عليه بواب المصرف وقال له: إن فتاة من هيئتها كيت وكيت واقفة بالباب تسأل عنك, وهي تكتم اسمها وتأبى الدخول, فاضطرب اضطرابا شديدا ومر بخاطره أنها ابنته وأن حادثا عظيما حدث بالمنزل دعاها إلى الحضور إليه، ولم يكن من شأنها أن تحضر

إليه في المصرف قبل اليوم، فترك كل شيء في مكانه وخرج مسرعا ليراها فإذا هي بعينها واقفة تحت جدار المصرف وقفة الحياء والخجل, وإذا بيدها كتاب تحمله إليه من زوجته, فاختطفه منها وقرأه فإذا هي تقول له فيه: إنها تريد أن يرسل إليها في هذه الساعة خمسة آلاف فرنك لتبتاع بها حلة جميلة رأتها في حانوت بعض تجار الملابس, وأنها إن فاتها أن تبتاعها اليوم فربما لا تجدها غدا، فانفرجت شفتاه عن ابتسامة الغيظ والألم وأخذ ابنته ناحية وقال لها: بلغيها أنني لا أملك هذا المبلغ اليوم ولا غدا, وربما لا أستطيع ذلك العام كله، ثم ألقى عليها نظرة العاتب لحضورها إليه في المصرف وكان لا يحب ذلك منها، فأطرقت برأسها ولم تقل شيئا؛ لأنها لا تستطيع أن تقول له: إن زوجته هي التي أرغمتها على ذلك فتزيد همومه هما جديدا، ثم عادت أدراجها. وكان بين عمال المصرف عامل سيئ الأخلاق, فاسد النفس والضمير, ما زال مذ دخل هذا المكان يرصد الغفلة من مديره أو وكيله عله يتوصل إلى اختلاس شيء من المال لنفسه, فدخل غرفة الوكيل في اللحظة التي خرج فيها لمقابلة ابنته ليقدم إليه بعض الأوراق, فلم يجده ولمح الورقة المالية التي تركها على المكتب فحدثته نفسه باختلاسها, فدار بنظره ههنا وههنا ثم انقض عليها ووضعها

في جيبه ثم خرج متسللا لم يشعر أحد بدخوله ولا بخروجه، وما هي إلا لحظة حتى عاد المسيو "كابريني" وفي يده الكتاب الذي أرسلته إليه زوجته, فمزقه بعض مِزق وألقى به في سلته، ثم ألقى نظره على المكتب فلم ير الورقة المالية حيث تركها, فذُعر ذعرا شديدا وأخذ يفتش عنها في كل مكان فلم يجدها؛ فاشتد حزنه وهمه وأخذ يسأل العمال والخدم عمن دخل غرفته في غيابه فلم يعترف له بذلك أحد ولم يشهد به أحد على أحد، فظل يصرخ صرخات عظيمة تقيم المصرف وتقعده فسمع المدير الضوضاء فحضر ليرى ماذا حدث, فأفضى إليه الرجل بالقصة كما هي لم يكتمه منها شيئا إلا أنه لم يشأ أن يخبره بموضوع الرسالة التي جاءت فيها ابنته ضنا بأسراره البيتية أن يعلمها أحد غيره، فارتاب به الرجل بينه وبين نفسه ولم يكن يعتد عليه بسيئة قبل اليوم ولا يعرف له ماضيا مريبا, ولكنه كان يعلم أنه فقير مقلّ, فظن به الظنون، وقديما كان الفقر ينبوع التهم ومثار الشكوك والريب، ثم تركه في غرفته وخرج إلى العمال والخدم يحادثهم في هذا الشأن علَّه يصل إلى معرفة الحقيقة, فأخبره البواب أن الفتاة التي حضرت إليه كانت تحمل في يدها كتابا, وأنه أخذها جانبا وأسر إليها حديثا لم يسمع منه شيئا، فازداد شكه وارتيابه وعاد إليه فوجده واقفا في مكانه

مذهولا يقلب كفيه, فلم يقل له شيئا وأخذ يدور بعينيه في أنحاء الغرفة ويقلب بيده الأوراق عله يعثر بذلك الكتاب الذي أخبر به البواب فلم يجده، فألقى نظره على السلة فرأى تلك المزق فجمعها فإذا هي الكتاب الذي يريده, فقرأه ثم ألقى على الرجل نظرة شزراء وقال له: إني أتهمك يا مسيو "كابريني" بأنك اختلست تلك الورقة وأرسلتها إلى زوجتك مع ابنتك لتبتاع بها الحلة الجميلة التي أعجبتها، فدهش الرجل دهشة شديدة وورد عليه من الأمر ما طار بلبه وأخذ عليه أنفاسه، فصمت لحظة وبعد لأي استطاع أن يقول له: نعم, إنها أرسلت إلي هذا الكتاب ولكنني لم أحفل به ولم أرسل إليها شيئا, بل رددتها ردا قبيحا لأنني رجل فقير لا أملك هذا المقدار، ولأنني رجل شريف لا أختلسه، فلم يحفل المسيو "لورين" بدفاعه ولم يرث لضراعته واسترحامه، ولم يلبث أن رفع أمره إلى النيابة, فما أتى آخر النهار حتى كان الرجل في السجن وكانت ابنته المسكينة في حال من الهم والحزن تستثير الأشجان وتستذرف العبرات، أما زوجته فلم يكن يهمها في ذلك الموقف شيء سوى السعي للحصول على ثمن الحلة الجميلة من طريق غير هذا الطريق. لم ينفع الرجل دفاعه عن نفسه, ولا دفاع ابنته عنه, ولا شهادة الذين شهدوا بشرفه واستقامته من جيرانه وأصدقائه؛ لأن المحققين

لا يستطيعون أن يصدقوا أن رجلا عظيما سريا مثل المسيو "لورين" صاحب المصرف المشهور يكذب أو يلفق أو يخطئ في فراسته وتقديره، وأن رجلا فقيرا مقلا مثل المسيو "كابريني" يتعفف عن اختلاس المال الذي يقع تحت يده متى وجد السبيل إلى ذلك، وكثيرا ما ساقت أمثال هذه الأقيسة الفاسدة والنظرات الطائشة الحمقاء الأبرياء والأشراف إلى أعماق السجون, وقضت عليهم وعلى عائلاتهم القضاء الأخير كما قضت على هذا الرجل المسكين اليوم، فإن قاضي التحقيق لم يلبث أن سمع شهادة خصمه عليه وعرف قصة الكتاب الذي أرسلته إليه زوجته حتى اقتنع بإجرامه, وأحاله على محكمة الجنايات. فاستطير عقل "إيلين" وجن جنونها, فلم تجد بدا من أن تذهب إلى المسيو "لورين" لتستعطفه لأبيها وتضرع إليه أن يساعدها على تبرئته، فذهبت إليه في منزله فاستأذنت عليه ثم دخلت, فدهش دهشة عظمى حين رأى أمامه فتاة رشيقة جميلة, بل هي آية من آيات الحسن والجمال لا عيب فيها إلا أنها نحيلة صفراء متضعضعة وقد يكون الضعف عند بعض الناس حلية من حلى الجمال، فافتتن بها حين رآها إلا أنه أخطأ في الحكم عليها كما أخطأ من قبل في الحكم على أبيها، فظن أنه يستطيع أن يستثمر لنفسه

ضرورتها وحاجتها، فأخذ يحدثها في الشأن الذي جاءت من أجله, ثم ذهب معها في الحديث مذاهب أخرى لم تفهم غرضه منها إلا بعد حين؛ لأنها لم تألف سماع مثلها قبل اليوم، فأخذ وجهها يربدّ شيئا فشيئا ثم انتفضت انتفاضة الليث في غيله وألقت عليه نظرة هائلة لو ألقتها على رجل غيره لصعق في مكانه, ولكنه كان رجلا وقاحا متبلدا فلم يحفل بنظرتها وتقدم نحوها وحاول أن يغلبها على أمرها فدافعت عن نفسها دفاعا شديدا حتى عجزت, فأرادت الفرار من بين يديه فاعترض طريقها فدارت بنظرها في أنحاء الغرفة تتلمس سبيلا إلى الخلاص, فوقع نظرها على مسدس كان فوق مائدته فاختطفته لتهدده به, فانطلقت منه رصاصة خطأ فأصابته في ذراعه فصرخ صرخة عظمى، وما هي إلا لحظات قلائل حتى قبض عليها وسِيقت إلى السجن بتهمة أنها دخلت على المسيو "لورين" في منزله لتسأله أن يساعدها على تبرئة والدها فلم يحفل بها, فأخرجت مسدسا كانت تخفيه في طي ردائها وأطلقته عليه تريد قتله, فلم تصبه إلا في ذراعه. وقد كان في استطاعة المسيو "لورين" أن يعترف بالحقيقة التي يعرفها حق المعرفة فلم يفعل، ولو فعل لما ضره ذلك شيئا، وما هي إلا أيام قلائل حتى حكمت عليها محكمة الجنايات بالسجن خمس سنين، وكانت قد حكمت على أبيها قبل ذلك بالسجن عامين.

2- دخلت "إيلين" سجن النساء لتقضي فيه المدة المقررة لها, ووضعت في غرفة مع امرأة عجوز ساقطة قضت جزءا عظيما من حياتها في هذا المكان المظلم القاتم حتى ألفته, وجمدت نفسها عليه فلم تعد تحفل بشيء في هذا العالم ولا تفكر إلا في الساعة التي يقدم فيها إليها الطعام فتلتهمه التهاما بشره ولهفة وهي تضحك وتتغنى كأنما هي أبعد الناس عن الهموم والأحزان، فذعرت "إيلين" حين رأتها ذعرا شديدا وانسلت إلى زاوية من زوايا الغرفة فقبعت فيها واستسلمت لهمومها وأحزانها، ولم تدع قطرة من الدمع في عينيها إلا ذرفتها وأبت أن تتناول الطعام الذي قدمه إليها السجان فوضعه بين يديها وتركها وشأنها، فبكت ما شاء الله أن تفعل حتى هدأ بعض ما بها, فعمدت إلى كتاب صغير من كتب الأخلاق كانت لا تزال تحمله في جيبها ما تفارقه فأخرجته وأخذت تتلهى بتقليب صفحاته, فكان أول ما وقع نظرها عليه من كلماته هذه الكلمة: "العفو أشد أنواع الانتقام" فانتفضت عند قراءتها انتفاضا شديدا وعلق نظرها بها ما ينتقل عنها، وأخذت تراجع الحوادث التي مرت بها وتستعرضها واحدة بعد أخرى وتفكر في المظالم التي نالتها ونالت أباها, وما اقترفا ذنبا ولا

جنيا على أحد حتى أوردتْهما هذا المورد من الشقاء، فشعرت بدبيب الشر في نفسها للمرة الأولى في حياتها وظلت تقول في نفسها: إن الذين مرت على ألسنتهم أمثال هذه الكلمات إنما كانوا يعيشون في عصر غير هذا العصر وبين أناس غير هؤلاء الناس، ولو أنهم عاشوا بيننا لكان لهم في العالم وأهليه رأي غير هذا الرأي, ولما اجترءوا على المجازفة بتدوين هذه الأفكار في كتبهم؛ لأن العفو لا يكون انتقاما إلا من أصحاب الضمائر الطيبة الطاهرة التي يقلقها الذنب, ويخجلها العفو والتي تصدر عنها سيئاتها زلات وهفوات، أما الضمائر القاسية المتحجرة التي لا تعبأ بشيء ولا تخجل من شيء فلا يزيدها العفو والصفح إلا تمردا وطغيانا. وإنها لذاهبة هذه المذاهب المختلفة من خواطرها وأفكارها إذ دنت منها جارتها العجوز تختلس الخطا إليها اختلاسا حتى وقفت وراءها ونظرت في الصفحة التي تنظر فيها, فوقع نظرها على تلك الكلمة التي كانت تنعم النظر فيها, فقهقهت ضاحكة بصوت عالٍ غريب, فارتعدت "إيلين" والتفتت وراءها صارخة: ماذا تريدين يا سيدتي؟ قالت: لا تخافي يا بنيتي ولا تراعي, فما أنا بمجنونة كما ظننت وكما يظن سكان هذه الدار, ولكنني رأيتك مستغرقة في هذا الكتاب لا ترفعين نظرك عنه فجئت لأقول لك: دعي الكتب

وشأنها, لا تحفلي بها ولا تعوّلي على شيء مما فيها؛ فإن أصحابها الذين وضعوها غرباء عن هذا العالم لا يفهمون من شئونه شيئا إلا كما نفهم نحن من شئون عالم الجن أو سكان المريخ، بل هم قوم معتوهون ممرورون قضوا أيام حياتهم في معتزلاتهم الخاصة المملة, التي لا توجد فيها نافذة واحدة تشرف على العالم وما فيه, فملوا وسئموا وأرادوا أن يروحوا عن أنفسهم ويتلهوا بما يسري عنهم مللهم وسآمتهم، فأخذوا يدونون هذه المبادئ التي انتزعوها من جوانب أدمغتهم، لا من طبيعة المجتمع الذي يحيط بهم، ويقررون الآراء التي يستحسنونها ويعجبون بها لا التي تتفق مع طبيعة الكون ومزاجه، فهم ينصحون المجرم أن يقلع عن إجرامه, ثم يخيل إليهم أنه قد أقلع ونزع فيطلبون إلى من أجرم إليه أن يعفو عنه قائلين له: "إن العفو أشد أنواع الانتقام" كأن الفضيلة عندهم هي الحالة الأساسية للنفوس، وكأن الإجرام عرض من أعراضها الطارئة عليها, لا تلبث أن تهب عليه نسمة من نسمات العظة والاعتبار حتى تذهب به، فما أسخف عقولهم وما أقصر أنظارهم وما أبعدهم عن فهم حقائق الحياة وطبائع النفوس، دعي الكتب يا بنيتي لا تنظري فيها، وانزعي عنك همومك وأحزانك، وكلي الطعام الذي

يقدم إليك هانئة مغتبطة, لا تلوي على شيء مما وراءك، فسيأتي قريبا أو بعيدا ذلك اليوم الذي يفتح لك فيه هذا الباب الموصد دونك, فتخرجين إلى الانتقام من الرجل الذي أساء إليك وساقك إلى هذا المكان, وتنالين منه فوق ما نال منك كما سأفعل أنا يوم خروجي بالرجل الذي ساءني وأفسد علي حياتي، فليس العفو أشد أنواع الانتقام كما يقولون بل الانتقام أعظم ملذات الحياة. فهدأت نفس "إيلين" قليلا واستطاعت أن تتناول شيئا من الطعام الذي قدم إليها، إلا أنها كانت إذا جاء الليل رأت أباها في منامها يقاسي أنواع العذاب وصنوف الآلام في سجنه, فتصبح باكية نادبة لا يهون عليها آلامها بعض التهوين إلا ثرثرة تلك العجوز وهذيانها, حتى نامت ذات ليلة فرأته ميتا على سرير من أسرة مستشفى السجن تحيط بجثته شمعتان مشتعلتان, فاستيقظت فزعة مذعورة تبكي وتنتحب، وما هي إلا هنيهة حتى دخل عليها السجان يدعوها لمقابلة مدير السجن, فذهبت إليه فأبلغها أن أباها توفي الليلة في المستشفى؛ فصعقت صعقة كادت تذهب بنفسها، ثم استفاقت فإذا هي في غرفة سجنها وإذا هي أشد عباد الله بؤسا وأعظمهم شقاء.

3- قضت "إيلين" سنواتها الخمس في سجنها ثم خرجت ورفيقتها العجوز تشيعها إلى الباب وتقول لها: لا تنسي يا بنيتي أن تنتقمي من عدوك الذي أساء إليك وتنكلي به تنكيلا عظيما، وسأتبعك على الأثر عما قريب لأنتقم من عدوي مثلك، وهل لمثلي ومثلك في هذه الحياة الشقية البائسة لذة غير لذة الانتقام؟! فودعتها وانصرفت لا تعلم أين تذهب, ولا أي طريق تسلك، بل لا تعلم أين تجد قوت يومها أو المضجع الذي تأوي إليه سواد ليلتها, فقد انقطعت صلتها بالعالم كله بعد موت أبويها, ووُسم جبينها بلقب "المجرمة" الذي خرجت به من سجنها. ولم تزل سائرة ساعات طويلة حتى شعرت بالتعب وأحست بالجوع يعبث بأحشائها, فحدثتها نفسها بالانتحار فرارا من الألم وزهدا في الحياة, وظلت تترجح ساعة بين الأنس بهذا الخاطر والنفور منه حتى غلبها على أمرها, فأخذت طريقها إلى النهر وكانت الليلة داجية مكفهرة تلمع بروقها وتهطل غيومها وتدمدم رعودها وتعصف رياحها, فاستمرت أدراجها حتى إذا لم يبق بينها وبين النهر إلا بضع خطوات سمعت قعقعة مركبة مقبلة نحوها من

بعيد يمزق نور مصباحيها المشتعلين أحشاء الظلمات, فتريثت هنيهة في مكانها حتى مرت المركبة بها فإذا المسيو "لورين" جالسا بين بضع فتيات خليعات, يعابثهن ويداعبهن ويقهقه قهقهة عالية ترن في أجواء الفضاء, فاختبأت وراء شجرة حتى مر ثم برزت من مخبئها تحدث نفسها وتقول: ها هو المجرم سعيد في حياته, مغتبط بعيشة, يتقلب في أعطاف العيش الناعم لا ينغّص عليه عيشه منغص ولا يكدر حياته مكدر، وها أنا ذا البريئة الطاهرة التي لم ألوث يدي في حياتي بجريمة ولم أقترف بيني وبين ضميري إثما, أهيم في هذا الوادي الفسيح على وجهي لا أعرف لي ملجأ ولا مأوى، ولا أعرف سبيلا للعيش ولا مذهبا، ولو عرفت لما استطعت أن أنتفع بمعرفتي؛ لأنني مجرمة قاتلة، ومن ذا يأمن على نفسه أن يتصل بالقتلة المجرمين أو يعطف على بأسائهم وضرئهم؟! لا لا، لا بد أن أعيش ولا بد أن أنتقم، وما دامت الشرائع الإلهية والقوانين الوضعية قد عجزت عن أن تنتصف للناس من الناس, فلينتصف الناس بأنفسهم لأنفسهم. وانحدرت من طريق النهر إلى طريق المدينة, وقد ودعت في تلك اللحظة جميع خواطر الخير التي ملأت فضاء نفسها طول

بعيد يمزق نور مصباحيها المشتعلين أحشاء الظلمات, فتريثت هنيهة في مكانها حتى مرت المركبة بها فإذا المسيو "لورين" جالسا بين بضع فتيات خليعات, يعابثهن ويداعبهن ويقهقه قهقهة عالية ترن في أجواء الفضاء, فاختبأت وراء شجرة حتى مر ثم برزت من مخبئها تحدث نفسها وتقول: ها هو المجرم سعيد في حياته, مغتبط بعيشة, يتقلب في أعطاف العيش الناعم لا ينغّص عليه عيشه منغص ولا يكدر حياته مكدر، وها أنا ذا البريئة الطاهرة التي لم ألوث يدي في حياتي بجريمة ولم أقترف بيني وبين ضميري إثما, أهيم في هذا الوادي الفسيح على وجهي لا أعرف لي ملجأ ولا مأوى، ولا أعرف سبيلا للعيش ولا مذهبا، ولو عرفت لما استطعت أن أنتفع بمعرفتي؛ لأنني مجرمة قاتلة، ومن ذا يأمن على نفسه أن يتصل بالقتلة المجرمين أو يعطف على بأسائهم وضرئهم؟! لا لا، لا بد أن أعيش ولا بد أن أنتقم، وما دامت الشرائع الإلهية والقوانين الوضعية قد عجزت عن أن تنتصف للناس من الناس, فلينتصف الناس بأنفسهم لأنفسهم. وانحدرت من طريق النهر إلى طريق المدينة, وقد ودعت في تلك اللحظة جميع خواطر الخير التي ملأت فضاء نفسها طول

فإنها لجالسة ذات ليلة في مقصورة من مقاصير بعض الملاعب التمثيلية في جمع من أصدقائها المستهترين بها إذ وقع نظرها على خصمها المسيو "لورين" جالسا في المقصورة المقابلة لها مع إحدى خليلاته, فانتفضت حين رأته وثارت في نفسها ثائرة الغيظ والحنق, وظلت تردد النظر في وجهه طويلا فلمحها وهي تنظر إليه, فأعجبه منظرها البارع الجميل إلا أنه لم يعرفها؛ فقد تغير كل شيء فيها حتى ملامحها وشمائلها، فما انتهى الفصل الأول من الرواية حتى نهض من مكانه مسرعا وذهب يرود حول مقصورتها حتى التقى بأحد أصدقائه وأصدقائها في دهليز المقاصير فسأله عنها, فأخبره أنها السيدة "لوسي" المارسيلية, أجمل فتاة وفدت إلى باريس في هذا العام، فتوسل إليه أن يقدمه إليها ففعل فأحسنت ملتقاه, وقد أضمرت له في نفسها شر ما يضمر عدو لعدوه, وأقبلت عليه تحدثة وتلطف به وتمد له الحبالة التي اعتادت أن تمدها كل يوم لأمثاله، فما لبثت أن وقعت من نفسه وملكت عليه جميع مشاعره، ثم رُفع الستار فاستأذنها وعاد إلى مقصورته وقد حلت من قلبه محلا لم يحله أحد من قبلها. وفي صباح اليوم الثاني أرسل إليها مع بعض رسله طاقة جميلة من الزهر, قد دس بين أوراقها عقدا بديعا من اللؤلؤ الثمين

فابتهجت به حين رأته, لا لأنها في حاجة إلى العقود والدمالج, بل لأنها علمت أنها قد وضعت يدها على الزمام الذي تقوده به إلى الهلاك، ثم زارها على الأثر وخر جاثيا تحت قدميها مقدما لها قلبه وحياته وكل ما تملك يده، أي: إنه جثا تحت قدمي تلك الفتاة المسكينة التي جثت تحت قدميه منذ سنوات تسأله أن يساعدها على فكاك أبيها من سجنه وتضرع إليه أن يغفر له ذنبه إليه إن كان يعتقد أنه مذنب فلم يفعل، ولو أنه فعل لابتاع بثمن قليل لا يوازي ربع ثمن العقد الذي يقدمه الآن إليها قلبا طاهرا نقيا لم تلوثه الذنوب والآثام ولم تعبث به الأهواء والشهوات, وعاش عيشا طاهرا شريفا مع خير الزوجات وأفضلهن خَلقا وخُلقا، ولكن هكذا قدر لهؤلاء القوم الضعفاء أن يضنوا بالنزر اليسير من أموالهم على ابتياع القلوب الشريفة الطاهرة، فإذا لوثتها الذنوب والآثام وأصبحت نهبا مقسما في أيدي الشهوات بذلوا في سبيل الوصول إليها جميع ما تملك أيديهم حتى شرفهم وحياتهم، فقد ابتاع المسيو "لورين" لخليلته الجديدة قصرا جميلا أثثه أثاثا حسنا ونزل على حكمها في كل ما تريد وتشتهي حتى أنفق عليها في عام واحد كل ما تملك يمينه، ثم اضطر أن يعبث بودائع الناس

المودعة في مصرفه, فمشى في ذلك المزلق المنحدر مدى بعيدا أشرف منه على الخطر العظيم. وحدث أن فُتحت سوق للحسان في باريس وكانت "لوسي" إحدى النساء اللواتي وقع عليهن الاختيار لبيع الأزهار فيها، وكان تجار تلك السوق أجمل نساء باريس على الإطلاق، فجلست في حانوتها المعد لها وقد أمسكت بيدها زهرة جميلة تعرضها للبيع وتَعِد من يبتاعها منها أن يتناولها بفمه من فمها، فازدحم حولها كثير من الأغنياء يتزايدون في ثمن تلك الزهرة حتى برز رجل من بينهم اسمه "الكونت مارسيال" فعرض فيها خمسمائة فرانك، فقالت: لا أبيعها إلا بألف، فأمسك "الكونت" وأمسك الناس جميعا، وإنهم لكذلك إذ بالمسيو "لورين" يتقدم بهدوء وسكون وفي يده ورقة بألف فرنك فوضعها بين يدي "لوسي" وقال لها: لا يبتاع منك زهرتك يا سيدتي أحد سواي، فوضعتها بين ثناياها فتناولها منها بفمه بأسلوب رقيق حسده عليه مزاحموه جميعا وخاصة "الكونت مارسيال"، فقد انصرف من موقفه هذا وهو يقول: ما رأيت في حياتي صاحب مصرف يذهب في حياته هذا المذهب من البذخ والإسراف, ويبعثر المال بلا حيطة ولا حذر كهذا الرجل، وما أحسب أن ثروته الخاصة تتسع لكل هذا, فلا بد أن يكون لصا دنيئا يسرق ودائع الناس ويبددها، فويل

للمساهمين في مصرفه ورحمة الله على أموالهم جميعا، وكان يتكلم بصوت عالٍ يسمعه الناس جميعهم، وليس بين الأحاديث حديث أسير ولا أذيع من حدوث السوء، فمشت كلماته في المجتمعات العامة والخاصة فاضطرب لها المساهمون وأصحاب الودائع اضطرابا عظيما, ووصل الخبر إلى أعضاء مجلس إدارة المصرف فهالهم الأمر, وأشفقوا على سمعة مصرفهم أن تنال منها هذه الأراجيف فيسقط سقطة لا قيام له من بعدها, فقرروا الاجتماع في يوم معين لمراجعة حسابه وتفقد أمواله، فلما علم ذلك المسيو "لورين" أخذ يزوّر في السندات, ويعبث بدفاتر الحساب طلبا للخلاص من التبعة فلم يجده ذلك شيئا، فقد فهم مجلس الإدارة كل شيء فلم ير بدا من أن يرفع الأمر إلى القضاء ففعل والمسيو "لورين" مستغرق في شهواته ولذاته جاثٍ ليله ونهاره تحت قدمي خليلته لا يشعر بشيء مما يجري حوله, لولا أن أحد أصدقائه من المحامين وقف على الخبر فزاره في منزله ليخبره به فلم يجده, فذهب إلى منزل "لوسي" فوجده فأخبره أن الأمر قد صدر بالقبض عليه, وأنه إن لم يبادر بالسفر في الحال فقد هلك إلى الأبد، فأشار إلى "لوسي" أن تعد له حقيبة ملابسه وأن تهيئ نفسها للسفر معه وهو أعظم الناس ثقة بها وبحبها وإخلاصها، فتظاهرت بالإذعان لأمره والرثاء

لحاله ولكنها لم تلبث أن خرجت من الغرفة حتى هرعت إلى غرفة "التليفون" وبلّغت رئيس الشرطة خبر عزمه على الهرب وأشارت عليه بإرسال من يقبض عليه في الحال، ثم أمرت الخدم بغلق الأبواب والوقوف في وجهه إن أراد الفرار، ثم عادت إليه فسألها هل أعدت كل شيء؟ فنظرت إليه نظرة غريبة لم يفهم معناها, ثم انفجرت ضاحكة بصوت عالٍ فدهش وسألها ما بالها؟ فقالت: لا شيء سوى أنك ستبقى سجينا هنا حتى يأتي رئيس الشرطة للقبض عليك، ثم ألقت عليه نظرة مخيفة هائلة فعجب لأمرها ولم يعلم أمازحة هي أم نزل بها عارض من عوارض الجنون، ونهض من مكانه مسرعا ودنا منها وقال لها: ماذا عرض لك يا "لوسي" فقد طلبت إليك أن تهيئي نفسك للسفر معي, فهل فعلت؟ فقد أزف الوقت ولسنا الآن في موقف مزاح، وأخاف أن تفاجئنا الشرطة الساعة فتفوت الفرصة، فضحكت ضحكة أخرى وقالت: قد بلغتُ رئيس الشرطة أنك عازم على السفر وأشرت عليه أن يبادر بإرسال الجنود إليك، وقد أمرت الخدم بغلق الأبواب دونك حتى لا تتمكن من الهرب قبل حضورهم، فجُن جنونه وقد بدأ الريب يدب في نفسه وإن لم يفهم لما يرى سببا, فركض إلى الباب ليتحقق الأمر بنفسه فوجده مغلقا, فأمرها أن تفتحه

فأبت, فهجم عليها هجمة شديدة وهو يصيح: أين المفتاح أيتها العاهر؟ فقالت: أتريد أن تقتلني كما قتلت أبي بالأمس؟ فلم يفهم معنى كلمتها ووقف في مكانه ذاهلا يقول لها: لم أفهم من أمرك شيئا, ماذا تريدين؟ ومن هو أبوك؟ قالت: هو المسيو "كابريني" وكيل مصرفك بالأمس الذي اتهمته ظلما وعدوانا بالسرقة وأنت تعلم أنه رجل شريف مستقيم, لو علم أن شرب الماء يفسد مروءته ما شربه, فكانت نهاية أمره أن مات في سجنه ميتة الأشقياء البؤساء, لا يعوده من أهله عائد، ولا يحتضنه إلى صدره في ساعته الأخيرة محتضن، ولا يوجد بجانب مضجعه من يسمع منه آخر كلماته. فاصفر وجه "لورين" وظل جسمه يرتعد ارتعادا شديدا, وأخذ يحدق النظر في وجهها ويتراجع شيئا فشيئا ويقول بصوت مضطرب متقطع: إذن أنت لستِ ... فقاطعته وقالت: نعم لست حبيبتك "لوسي" كما تعتقد, بل عدوتك "إيلين" التي تريد أن تنتقم منك لفجيعتها في أبيها وفي نفسها، أنا "إيلين" التي جثت تحت قدميك منذ ستة أعوام تسألك أن ترحم أباها وترحمها فأبيت إلا أن تساومها في عرضها, فلما ضنت به عليك أردت النكاية بها فاتهمتها بتهمة القتل كذبا وافتراء كما صنعت بأبيها من

قبلها فصدق القضاة الأغبياء دعواك, فحكموا عليها بالسجن خمس سنوات كابدتْ فيها من صنوف العذاب وأنواع الآلام ما لا يستطيع أن يحتمله بشر، ثم خرجتْ من سجنها مصفِرة اليد من كل شيء في العالم، من بيتها وأهلها وكرامتها وشرفها وكل ما تملك يدها، حتى من القوت الذي تقيم به صلبها بياض يومها وسواد ليلها، وكان لا بد لها من المغامرة بنفسها في إحدى الهوتين، إما هوة الموت لترتاح من هموم الحياة وآلامها، أو هوة الفساد لتنتقم لنفسها من عدوها الذي نكبها وأفسد عليها حياتها، فآثرت الانتقام على الموت؛ لأن نفسها الطاهرة الطيبة قد استحالت إلى نفس شريرة حاقدة لا تريد أن تسمح لعدوها أن يبني سعادته على أنقاض شقائها, وأن يفلت من العقوبة التي هي النتيجة الطبيعية لجميع الذنوب والآثام، وها هي قد انتقمت لنفسها وروحت عنها همومها وآلامها. فنكس رأسه مليا ثم رفعه وقال: إذًا ما أحببتني قط يا "لوسي"؟ قالت: نعم، بل ما اتصلت بك إلا لأسوقك إلى هذا المصير الذي صرت إليه اليوم، أنت الآن متألم جدا، بل لا يوجد في العالم كله ألم مثل الألم الذي يعتلج في أعماق نفسك؛ لأنك فقدت في يوم واحد شرفك وكرامتك ومالك وحريتك وموضوع حبك ووجهة آمالك في حياتك، وهذا ما كنت أريده وأرجوه، وهذه

هي الساعة الوحيدة التي شعرت فيها بلذة العيش, وهنائه من بين جميع ساعات حياتي. فنظر إليها نظرة متضعضعة دامعة وقال: ما كنت لأحفل بخسران شيء في الحياة لو أنني ربحتك يا "لوسي" أما وقد أصبحت يدي صِفرا منك فلا خير في العيش من بعدك، ثم تهافت على مقعد بجانبه وانفجر باكيا ما تهدأ دموعه ولا يفتر نشيجه حتى حضر الجند فاعتقلوه وساقوه إلى سجنه, وهو صامت واجم لا يرفع طرفه ولا يلتفت وراءه, و"إيلين" تشيعه بنظرات السرور والاغتباط حتى انقطع أثره. 5- نعم, إن الانتقام لذيذ جدا كما يقولون، ولكنه اللذة التي يعقبها الندم والأسف وتأتي على أثرها الحسرات والآلام، وما استطاع منتقم قط أن يزن عمله بميزان العدل والحكمة فتهدأ نفسه ويستريح ضميره بعد فراغه من انتقامه كما تهدأ نفس القاضي العادل بعد صدور حكمه بالعقوبة التي يراها، والفرق بينهما أن القاضي يصدر في رأيه عن نفس هادئة مطمئنة مستمسكة قادرة على الروية والأناة والمقارنة والمقابلة والوزن والتقدير، والمنتقم

يصدر في عمله عن روح هائجة محتدمة لا هم لها إلا أن تلتهم وتستأصل وتأتي على كل ما تستطيع الإتيان عليه، فهو يقضي قضاءه لا ليعاقب المجرم على جريمته، ولا ليدفع عن المجتمع شروره وآثامه، بل ليجرح نفسه ويؤلمها وينال منها أقصى ما يرى أنه كافٍ لشفاء حقده وإطفاء غلته، فيجازي على الشتم بالضرب، وعلى الضرب بالقتل، وعلى القتل بالتشويه والتمثيل، ولا يأبى أن يأخذ البريء بذنب المجرم، والجار بذنب الجار، فالانتقام جريمة كيفما كان الباعث عليه والدافع له، وكل جريمة تترك في نفس صاحبها نصيبا من الألم والحسرة بمقدارها، ما من ذلك بد، ولقد صدق الذي يقول: إن العفو مرارة ساعة ثم السعادة إلى الأبد، وإن الانتقام لذة ساعة ثم الشقاء الدائم الذي لا يفنى. عادت "إيلين" إلى غرفتها بعد ذهاب "لورين" وكان الليل قد أظلها, فجلست تراجع فهرس حياتها الماضية وتقلب صفحاتها صفحة صفحة, فشعرت بدبيب السآمة والملل في نفسها, وخيل إليها أنها ستعيش بعد اليوم عيشة تافهة مملولة لا طعم لها ولا لذة فيها، ورأت كأن سحابة سوداء من شقاء الحياة وبؤسها تدنو منها شيئا فشيئا، وأخذت تسائل نفسها: هل أصابت فيما فعلت أم أخطأت؟ وهل سعدت بالانتقام أم شقيت؟ وهل كان خيرا لها أن تلقي

بنفسها في عباب الماء عندما فكرت في ذلك يوم خروجها من سجنها, أم تعيش لتضحي عرضها وشرفها وكرامتها في سبيل انتقامها؟ وهل خرجت من المعركة التي خاضتها ظافرة تمام الظفر, أم نالها من الخسران فيها ما يذهب ببهاء ذلك الانتصار الذي انتصرته؟ ولم تزل تسائل نفسها هذه الأسئلة فلا تسمع جوابا يرضيها حتى مضى الليل إلا أقله, فحاولت أن تأوي إلى مضجعها فلم تستطع وأن تسري عن نفسها بعض همومها فأعجزها ما أرادت، فلم تنقض دولة الظلام حتى كانت قد حكمت بنفسها على نفسها أنها مجرمة آثمة، وأنها لم تستفد شيئا من كل ما عملت سوى أنها باعت عرضها بأبخس الأثمان وأدناها، وأنها لم تسئ إلى الرجل الذي أرادت الانتقام منه بقدر ما أساءت إلى نفسها، فعزمت على الالتحاق بأحد المستشفيات الخيرية لتكفر عن ذنبها بخدمة المرضى, ومواساتهم طول حياتها حتى يوافيها أجلها. 6- دخلت المستشفى وأخلصت إلى الله في عملها, فسهرت على المرضى وأحسنت مواساتهم وبذلت في ذلك من الجهد ما يعجز

غيرها عنه, حتى أصبحت مضرب المثل في صلاحها وتقواها ورحمتها وإحسانها. وكانت المحكمة قد حكمت على المسيو "لورين" بالسجن عامين, فلقي في سجنه من المتاعب والآلام ما لا طاقة لمثله باحتماله, فسقط مريضا لا يحفل به أحد ولا يواسيه مواسٍ حتى اشتد به المرض وأشرف على الهلاك, فنقلوه إلى المستشفى التي كانت تمرض فيها "إيلين" فعرفته حين رأته رغم تغير صورته واستحالة حالته, فلم تستطع أن تملك عينيها من البكاء ثم حنت عليه وأخذت نفسها بتمريضه والعناية به, وهو ذاهل مستغرق لا يشعر بشيء مما حوله حتى استفاق في بعض الأيام, فرآها واقفة بجانب سريره تمد إليه يدها بالدواء, فظل يحدق النظر في وجهها طويلا حتى عرفها فتناهض من مكانه, وأكب على يدها يقبلها ويسألها العفو عن ذنبه إليها, فازداد نشيجها وبكاؤها وقالت له: إنني أنا التي أسأت إليك وأنا التي أطلب منك العفو والصفح، وكأن حياتها الجديدة التي انتقلت إليها حياة الصلاح والبر قد أنستها حياتها الأولى وأكاذيبها وأباطيلها, فلم يبق في قلبها أثر للبغض ولا للحقد، وأصبحت سريرتها سريرة بيضاء نقية لا تجول فيها غير خواطر الخير والإحسان, ولا تنطوي على غير حب الإنسانية وحب الله.

وكذلك ظلت تعالج هذا المسكين بإخلاص لا تضمر مثله الأم لواحدها وتقوم على خدمته ليلها ونهارها, ما تهدأ ولا تفتر, ولكن الداء كان قد تمكن منه فلم يغن عنه العلاج شيئا، وما هي إلا أيام قلائل حتى حضره الموت فجلست بجانبه تعزيه وتواسيه وتلقي في نفسه أن الله قد غفر له جميع سيئاته في حياته بما كابد فيها من العلل والأسقام والهموم والآلام، وأن جوار الله في دار جزائه خير له من جوار هذه الحياة الباطلة الفانية, حتى أسلم روحه بين ذراعيها. وفي صباح اليوم الثاني رآها الناس سائرة بهدوء وسكون في طريق الدير, وقد لبست مسوحها وسوادها وعلقت صليبها على صدرها حتى بلغته, ففُتح بين يديها بابه العظيم الذي لا يخرج منه داخله إلى الأبد فدخلته, وكان ذلك آخر عهدها بالعالم وما فيه.

الخطبة الصامتة

الخطبة الصامتة: لما بلغ أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير نعي أخيه مصعب بن الزبير أمير العراق, صعد المنبر فجلس عليه ثم سكت فجعل لونه يحمر مرة ويصفر أخرى, فقال رجل من قريش لآخر بجانبه: ما له لا يتكلم, فوالله إنه للخطيب اللبيب؟! فقال له الرجل: لعله يريد أن يذكر مقتل سيد العرب فيشتد ذلك عليه, وغير ملوم إن جزع. ووقف ليلة أمس سعد باشا زغلول في حفلة تأبين أخيه فتحي باشا زغلول وأراد أن يقول كلمة قصيرة يشكر فيها القائمين بتلك الحفلة, فاختنق بالبكاء وارتُج عليه وهو الرجل الجلد الشجاع الذي ما جزع في حياته قط, والخطيب المفوه الذي ما ارتُج عليه مرة في أصعب المواقف وأحرجها وأذهبها بالعقول والألباب، فما أشبه هذا البطل الباكي بذلك البطل الجازع. وكذلك عظماء الرجال يضنون بدموعهم على نكبات الدهر وأرزائه أنفة وإباء, حتى إذا نزلت بهم كارثة من الكوارث التي

لا أمر فيها إلا لله وحده, لا يستحيون أن يقفوا بين يديه باذلين من شئونهم ما كانوا يضنون به من قبل. على أن البكاء الذي حال بين سعد باشا وبين كلمته التي أرادها لم يحل بينه وبين أن يكون أفصح القائلين في ذلك الموقف وأنطقهم، فقد خطب الخطباء وأنشد الشعراء من قبله ساعتين كاملتين فكان كل ما كان لكلماتهم من الأثر في النفوس أن كان السامعون يتهامسون فيما بينهم بالإعجاب بفصاحة الفصيح أو نباهة المؤرخ أو بلاغة الشاعر أو إبداع المبدع في معانيه أو إحسان المحسن في إلقائه, حتى وقف هو وأرسل من جفنيه تلك الدمعة الحارة, فبكى الناس جميعا لبكائه؛ كبارا وصغارا, شيوخا وشبانا, وكان مشهدا مؤثرا لم نر مثله في حفلة تأبين قبل اليوم، فكان لتلك الخطبة القصيرة الصامتة المتفجرة من قلب مصدوع مكلوم من الأثر في النفوس ما لم يكن لتلك الخطب الناطقة الطوال. ليس الذي يبكي صديقا كان يأنس بحديثة, أو عالما كان ينتفع بعلمه, أو كريما كان يستظل بظلال مروءته وكرمه كمثل الذي يبكي شظية طارت من شظايا قلبه.

اللفظ والمعنى

اللفظ والمعنى: لم أر فيما رأيت من الآراء في قديم الأدب وحديثه أغرب من رأي أولئك القوم الذين يفرقون في أحكامهم بين اللفظ والمعنى، ويصفون كلا منهما بصفة تختلف عن صفة الآخر، فيقولون: ما أجمل أسلوب هذه القصيدة لولا أن معانيها ساقطة مرذولة، أو ما أبدع معاني هذه القطعة لولا أن أسلوبها قبيح مضطرب، كأنما يخيل إليهم أن اللفظ وعاء, وأن المعنى سائل من السوائل يملأ ذلك الوعاء، فتارة يكون خمرا، وتارة يكون خلا، ويكون حينا صافيا، وأخرى كدرا، والوعاء باقٍ على صورته لا يتغير، وما علموا أنهما متحدان ممتزجان امتزاج الشمس بشعاعها والخمر بنشوتها، فكما لا يجوز أن نقول: ما أجمل الشمس وأقبح شعاعها، ولا ما أعذب الخمرة وأمر نشوتها، كذلك لا يجوز أن نصف اللفظ بالجمال والمعنى بالقبح، أو نعكس ذلك، فليعلم الناشئ المتأدب أنه ليس للفظ كيان مستقل بنفسه، فجماله جمال معناه وقبحه قبحه، وأن القطع الأدبية التي نصف أسلوبها بالجمال إنما

نصف بذلك معانيها وأغراضها، وأن الذين يزعمون من الشعراء أو الكتاب أن أساليبهم الغامضة الركيكة المضطربة تشتمل على معانٍ شريفة عالية كاذبون في زعمهم, أو واهمون. لا يضطرب اللفظ إلا لأن معناه مضطرب في نفس صاحبه، ولا يغمض إلا لأن معناه غامض في نفسه، ومحال أن يعجز الفاهم عن الإفهام، ولا المتأثر عن التأثير، ولا المقتنع عن الإقناع، وما البيان إلا المرآة التي ترتسم فيها صورة النفس، فحيث تكون النفس جميلة فهو جميل، أو قبيحة فهو قبيح، أو مضيئة فهو مضيء، أو مظلمة فهو مظلم، فإذا استطعنا أن نتصور مرآة تكذب في تمثيل الصورة الماثلة أمامها، استطعنا أن نتصور بيانا يختلف في وصفه عن وصف نفس صاحبه. يقول القائلون بمذهب التفريق بين اللفظ والمعنى عن مثل هذه القطعة: ولما قضينا من منى كل حاجة ... ومسح بالأركان من هو ماسح وشدت على حدب المهارَى رحالنا ... ولم يعلم الغادي الذي هو رائح أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطي الأباطح

إنها جميلة الأسلوب ولكنها تافهة المعنى مرذولته, لا تشتمل على أكثر من الوصف والتصوير, كأنهم لا يعلمون أن التصوير نفسه من أجمل المعاني وأبدعها، بل هو رأس المعاني وسيدها والغاية الأخيرة منها، وقد رسم الشاعر في كلمته هذه صورة واضحة ناطقة للحجيج في حلهم, ومرتحلهم يسمعها السامع بأذنه وكأنه يراها بعينيه، فقد أتى بأجمل المعاني في أجمل الأساليب. وإن وصفا قصيرا لحركة صغيرة من حركات النفس كقول الشريف: وتلفتتْ عيني فمذ خفيت ... عني الطلول تلفت القلب لخير ألف مرة من قصيدة طويلة مملوءة بالمعاني الغريبة والخواطر المبتكرة التي لا تمثل الحقيقة, ولا تلتئم مع النفس ومزاجها كقصيدة المتنبي التي مطلعها: "أيطمع في الخيمة العذل". ويقولون أيضا عن هذا البيت: أنى يكون أبا البرية آدم ... وأبوك والثقلان أنت محمد إنه قبيح اللفظ ولكنه جميل المعنى، وهم واهمون فيما يقولون؛ فإن ذلك المعنى الجميل الذي يتوهمونه ليس معنى هذا البيت، بل المعنى الذي خطر على أذهانهم وانبعث في أفئدتهم عند سماعه، فألصقوه به إلصاقا وتوهموه له توهما، أما البيت نفسه فلا معنى له

مطلقا، وهذا شأن جميع المعاني التي يتوهمها متوهموها عند سماع بيت مستغلق أو كلمة غامضة، فهي بأن تكون معاني السامعين، أولى من أن تكون معاني القائلين. إذا سمعت بيتا من السعر فأطربك أو أحزنك أو أقنعك أو أرضاك أو هاجك وأنت ساكن، أو هدأ روعك وأنت ثائر، أو ترك أي أثر من الآثار في نفسك كما تترك النغمة الموسيقية أثرها في نفس سامعها، فاعلم أنه من بيوت المعاني، وأن هذا الذي تركه في نفسك من الأثر هو روحه ومعناه، وإن مررت ببيت آخر فاستغلق عليك فهمه وثقل عليك ظله وشعرت بجمود نفسك أمامه, وخيل إليك أنك بين يدي جثة هامدة لا روح فيها, فاعلم أنه لا معنى له ولا حياة فيه، فإن وجدت صاحبه واقفا بجانبه يحاول أن يوسوس لك أن وراء هذه الظلمة الحالكة المتكاثفة نورا متوهجا يكمن في طياتها فكذبه وفر بنفسك وأدبك وذوقك منه فرارا لا عودة لك من بعده. هذا هو الميزان الذي يجب أن تزن به الكلام، ونصيحتي إليك ألا تصدق تعريفا واحدا من تلك التعريفات المتعددة المتناقضة التي يضعها واضعوها من الأدباء لأشعارهم خاصة لا للشعر عامة، واجعل شعور نفسك هو الميزان الذي تزن به ما تسمع،

فكما أنك لا تعتمد على تعريف من تعريفات الجمال ولا تلجأ إلى قانون من قوانينه عند وقوع نظرك على وجه امرأة لمعرفة درجتها من الحسن، كذلك لا تعتمد في استحسان ما تستحسن من الكلام واستهجان ما تستهجن إلا على شعور نفسك, وإلهام حسك. الشعر نغمة موسيقية قبل كل شيء, ثم يأتي بعد ذلك جمال الوصف وحسن التصوير وتمثيل الحقيقة واستخراج أسرار الكون وتحليل مشاعر النفس وأمثال ذلك من الأغراض والمقاصد على أن تكون تلك النغمة الموسيقية أساسها والروح السارية فيها ليتحقق الفرق بين الشعر والفلسفة، فالفلسفة غذاء العقل برزانتها وهدوئها وحججها وبراهينها، والشعر غذاء النفس برناته ونغماته وأهازيجه ونبراته. نظم الشعراء الشعر من عهد الجاهلية إلى اليوم فمات جميع ما نظموا, ولم يبق منه إلا البيت الموسيقي الرنان الذي لو لم يغنه مغنيه لغنى وحده، وسيموت شعر جميع الشعراء في هذا العصر ولا يبقى منه في المستقبل إلا كما بقي من الماضي في الحاضر.

الآداب العامة

الآداب العامة: يتحدث كثير من الناس عن فئة من المصريين المتعلمين قد ظهروا في هذه الأيام واتخذوا لأنفسهم في حياتهم العامة طريقا غير الطريق اللائقة بهم وبكرامتهم وبمنزلة العلم وشرفه, فأصبحوا متبذلين في شهواتهم، مستهترين في ميولهم، ينتهكون حرمات الأعراض ما شاءوا وشاءت لهم نزعاتهم وأهواؤهم، ويعبثون بها في كل مكان عبث الفاتك الجريء الذي لا يخاف مغبة ولا يخشى عارا، وأهول ما يتحدثون به عنهم في هذا الشأن أنهم يغرون الفتيات الطالبات اللواتي لا يزلن يختلفن إلى مدارسهن أو اللواتي انقطعن عنها منذ عهد قريب إلى منازلهن, وينصبون لهن صنوف الحبائل وأنواع الأشراك لاصطيادهن وإسقاطهن في هوة الإثم والعار، وهذا ما أريد أن أتكلم عنه قليلا. أصحيح ما يقولون عنكم أيها الفتيان التعسون, أنكم تتخذون صلة العلم التي هي أشرف الصلات وأكرمها صلة فساد بينكم وبين أولئك الفتيات الضعيفات، وأن الحبالة التي تنصبونها لهن

لاصطيادهن إنما هي حبالة القلم الذي هو أفضل أداة للخير, وأعظم وسيلة للفضيلة, وخير واسطة للأدب والكمال؟ أصحيح ما يقولون عنكم, أنكم تكتبون إليهن ليكتبن إليكم, وتهدون إليهن صوركم ليهدين إليكم مثلها, فإذا امتلأت حقائبكم وجيوبكم بصورهن ورسائلهن أخذتم تنشرونها في كل مكان, وتعرضونها في كل معرض, وأخذ بعضكم يفاخر بعضا بكثرة ما يملك منها أو جماله أو رونقه كما يفخر المرء بأفضل المزايا وأشرف الخصال؟ أصحيح أنكم تقفون لهن بكل طريق وتأخذون عليهن كل سبيل وتضايقونهن في مغداهن ومراحهن وحيث ذهبن إلى عمل، أو خرجن لزيارة، أو برزن في مجتمع، فإذا عجزتم عنهن في الطريق أرسلتم وراءهن الرسل في منازلهن يخادعنهن ويخاتلنهن، وربما توسلتم إليهن بأخواتكم وبنات أعمامكم ليسفرن بينكم وبينهن ويداخلنهن مداخلة الأصدقاء حتى يجتذبنهن إلى منازلكم؟ أصحيح أنكم تقضون أكثر لياليكم مكبين على كتابة رسائل الغرام وتهذيبها وتنقيحها, وأكثر أيامكم حوما حول المنازل تنتظرون خدمها الذين اصطنعتموهم لأنفسكم ليحملوا رسائلكم إلى ساكنيها, أو جلوسا على أبوابها بجانب البوابين والحوذيين ترقبون

نوافذها وكواها علّها تنفرج لكم عمن تحبون؟ أصحيح أنكم أصبحتم لا تقنعون في أمر أولئك الفتيات البائسات اللواتي يقعن في مخالبكم بإفساد أخلاقهن حتى تسجلوا عليهن ذلك الفساد تسجيلا موقعا عليه بتوقيعاتهن, مستشهدا عليه بصورهن وخطوطهن لتملكوا عليهن أمرهن بعد ذلك, وتحولوا بينهن وبين التفلت من أيديكم والحياة بعيدا عنكم في جو غير جوكم, وجوار غير جواركم, عذارى أو متزوجات؟ أصحيح أنكم لا تكتفون بإفساد نفوسهن وضمائرهن حتى تفسدوا عليهن عقولهن وصحتهن, فتشركوهن معكم في شرب الخمر وتناول المخدرات سائلها وجامدها, فلا تلبث أن تنتهي حياتهن بما تنتهي به حياة جميع النساء الساقطات اللواتي يلفظن أنفاسهن الأخيرة في أقبية الحانات, أو بين جدران المواخير؟ أصحيح أنكم فقدتم في تلك السبيل التي تسلكونها خلق الرجولة والشهامة, فأصبحتم تتجملون للنساء بأخلاق النساء وتزدلفون إليهن بمثل صفاتهن وشمائلهن, وأصبح الرجل منكم لا هم له في حياته إلا أن يتجمل في ملبسه ويتكسر في مشيته ويرقق من صوته ويلون ابتساماته ونظراته بألوان التضعضع والفتور, ويقضي الساعات الطوال أمام مرآته متعهدا شعره

بالترجيل وبشرته بالتنضير وثناياه بالصقل والجلاء حتى صار ذلك عادة من عاداتكم التي لا تنفك عنكم, وحتى سرى التأنث من أجسامكم إلى نفوسكم فلم يبق فيكم من صفات الرجولة وأخلاقها غير الأسماء والألقاب؟ إن كان حقا ما يقولون كله أو بعضه, فرحمة الله عليكم أيها الفتيان المساكين وسلام على الفضيلة والشرف سلام من لا يرجو عودة, ولا ينتظر إيابا. إن هذه الفتاة التي تحتقرونها اليوم وتزدرونها, وتعبثون ما شئتم بنفسها وضميرها إنما هي في الغد أم أولادكم وعماد منازلكم ومستودع أعراضكم ومروءاتكم، فانظروا كيف يكون شأنكم معها غدا وكيف يكون مستقبل أولادكم على يدها. أين تجدون الزوجات الصالحات في مستقبل حياتكم إن أنتم أفسدتم الفتيات اليوم؟ وفي أي جو يعيش أولادكم ويستنشقون نسمات الحياة الطاهرة إن أنتم لوثتم الأجواء جميعها وملأتموها سموما وأكدارا؟ لا تتكون أخلاق الفتاة تكونا صحيحا في طفولتها أو كهولتها أو شيخوختها، بل في عهد شبابها، فإذا سلم لها ذلك العهد سلم لها كل عهد بعد ذلك، فدعوها تجتز هذه المرحلة الوعرة من مراحل

حياتها شريفة طاهرة, تجدوا فيها بعد قليل من الزمان خير زوجة للزوج, وخير أم للولد, وخير سيدة للمنزل. لا تعجلوا عليها, وانتظروا بها قليلا لتستطيعوا أن تجدوها غدا زوجة طاهرة شريفة في منازلكم بدلا من أن تجدوها فتاة ساقطة مزدراة مطرحة على أعتاب المواخير والحانات. لا تزعموا بعد اليوم أنكم عاجزون عن العثور بزوجات صالحات شريفات يحفظن لكم أعراضكم, ويحرسن سعادتكم وسعادة منازلكم, فتلك جناية أنفسكم عليكم، وثمرة ما غرست أيديكم، ولو أنكم حفظتم لهن ماضيهن لحفظن لكم حاضركم ومستقبلكم، ولكنكم أفسدتموهن وقتلتم نفوسهن، ففقدتموهن عند حاجتكم إليهن. إنني لا أفزع في أمركم إلى القانون؛ فالقانون في هذا البلد مدني لا أدبي، ولا إلى الحكومة؛ فالحكومة مشغولة بشأن نفسها عن شأن غيرها، ولا إلى الدين فقد ضعف شأنه في نفوسكم حتى هان أمره عليكم، ولا إلى آبائكم وأولياء أموركم؛ فقد عجزوا عنكم وأصبحوا يبكون مع الباكين عليكم، بل أفزع في أمركم إلى ضمائركم التي هي الأمل الباقي لنا بعد فقد جميع آمالنا فيكم، فأصغوا إلى صوتها ساعة تسمعوا منها هذا الرجاء الذي نرفعه إليكم،

وصوت الضمير أقوى من كل صوت في العالم. أصغوا إليه تسمعوه يقول لكم: "إن هؤلاء الفتيات اللواتي لا تستحيون أن تمدوا إليهن أعينكم وأيديكم إنما هن أخواتكم الحميمات يجمعكم وإياهن أب واحد وهو النيل, وأم واحدة وهي البلد، وشرف الإخوة هو الملجأ الأمين لأعراض الأخوات". يجب أن ينفتح قلب الفتاة لأحد من الناس قبل أن ينفتح لزوجها؛ لتستطيع أن تعيش معه سعيدة هانئة لا ينغصها ذكرى الماضي, ولا تختلط في مخيلتها الصور والألوان, ولا أعرف فتاة في هذا البلد بدأت حياتها بغرام قط, فاستطاعت أن تتمتع بعده بحب شريف. ولا أزال أذكر حتى اليوم حادثة ذلك الفتى الذي أهدت إليه حبيبته رسمها موقعا عليه بتوقيعها, فلما تزوجت وكان لا يحب منها ذلك أراد الانتقام منها فقطع رأس الصورة ووضعها على جسم عار بتلك الطريقة الفنية المعروفة ثم أرسلها مع كتاب وشاية إلى زوجها ليلة عرسها, فما لبثت أن خسرت في لحظة واحدة سمعتها وسعادتها. وحدثني من أثق به أن كثيرا من الفتيات الفاسدات لا يتزوجن إلا بعد أن يأخذن على أنفسهن عهدا أمام أصدقائهن على

أن يكن لهم بعد الزواج، أي: بعد أن يصبحن مطلقات من قيود العذرة وروابطها، وقلما تتزوج فتاة ذات صلات فاسدة من رجل إلا وردت عليه ليلة البناء بها أو صبيحتها كتب الوشاية بها والسعاية من الأشخاص الذين أحبتهم, وأخلصت إليهم, فانتهى أمرها في حياتها الجديدة بالشقاء والعار. نحن في حاجة إلى أن نعلم بناتنا؛ لأننا لا نريد أن يعشن جاهلات متأخرات، فتنحوا عن طريقهن أيها الغواة المفسدون ليستطعن أن يختلفن إلى مدارسهن آمنات مطمئنات على أنفسهن وأعراضهن، ولا تزعجوهن بفضولكم وإسفافكم؛ فإننا لم نبعث بهن في تلك السبيل ليفسدن شرفهن وعفتهن، بل ليضفن إلى فضيلة الأدب والكمال فضيلة العقل والعلم. أفسحوا الطريق لهن وللعاملة الخارجة في طلب رزقها، والأرملة المسترزقة لبنيها، والفقيرة العاجزة عن قضاء حاجتها إلا بنفسها، والذاهبة لصلة رحمها، والسائرة لزيارة قبر فقيدها، ولا تكونوا حجر عثرة في سبيل حرية المرأة وعملها واضطرابها في مذاهب الأرض سعيا وراء رزقها وقضاء حقوقها، فإن أبيتم عليها ذلك فاعترفوا أنكم أعداؤها الألداء المتوحشون؛ لأنكم تأبون

عليها إلا إحدى الخطتين القاتلتين؛ إما الجهل الدائم أو السقوط العظيم. الفضيلة الفضيلة أيها القوم! فهي العزاء الوحيد لهذه الأمة المسكينة عن جميع آلامها ومصائبها، والأمل الباقي لها إن ضاعت -لا قدر الله- جميع آمالها وأمانيها، والشرف الشرف! فربما جاء يوم لا يبقى لنا فيه شيء سواه.

المؤتمر الإسلامي

المؤتمر الإسلامي: سرني منظر ذلك الرجل1 العظيم والداعي الكريم وهو قادم إلى مصر يتخطى البلدان ويطوي الغبراء طي الكواكب الخضراء، يقوده الأمل ويسوقه الرجاء، وبين جنبيه همة عالية ونفس كبيرة وقلب مشيع وفؤاد في الأفئدة كالنسر في الطير، يحلق في جو الإسلام تحليق من يحاول أن يظلله بجناحيه. سرني منظره -وإن لم أره- وهو قائم بين جماعة المسلمين يحاول أن يرأب صدعهم، ويلم شعثهم، ويجمع كلمتهم، ويؤلف بين قلوبهم، ويدعو إلى الله تعالى دعوة النبوة الأولى، إلا أن تلك عربية تدعو الأعجمية، وهذه أعجمية تدعو العربية الفصحى. هنا ذكرت الإسلام ومجده، والإسلام وجنده، والإسلام ودولته، والإسلام وصولته، وذكرت أبا بكر وهو يقاتل أهل

_ 1 كتبت لمناسبة حضور المصلح الإسلامي الشهير إسماعيل بك غصبر نسكي الروسي إلى مصر في سنة 1908 للدعوة إلى مؤتمر إسلامي عام.

الردة ويقول: والله لو منعوني عقال بعير لقاتلتهم عليه، وذكرت عمر وهو واقف في مرابض المدينة في حمارة القيظ يستقبل شبحا أسود يرفعه الآل ويخفضه، ويبديه الأديم ويخفيه، حتى اقترب منه فتبينه, فإذا هو أعرابي قادم من سواد العراق, فجعل يسايره وهو راجل والأعرابي راكب لا يعرفه، وجعل يسأله ما فعل الله بسعد وجنده؟ فيحدثه القادم عن فتح القادسية والمدائن، وما أفاء الله به على المسلمين من عرش كسرى وذخائره وتراث مرازبته ودهاقينه، وعمره لاهٍ عن نفسه سرورا بما سمع, وفرحا بما تم. وذكرتُ صلاح الدين وهو يقود الجحفل اللجب، والجيش العرمرم، إلى حيث يستنقذ الثغور ويستخلص الأمصار، ويخوض جمرة الحرب المتأججة ليفتدي بنفسه أجساما إن لم تلتهمها النيران فكأن قد، وذكرت محمدا الفاتح وهو يلعب بكرة الأرض لعب الصبي بكرته، ويخترق بسفائن البحر رمال القفر، حتى نزل بالقسطنطينية نزول القضاء من السماء، وسجد في معبد آيا صوفيا سجدة الشكر لله على نعمته وحسن توفيقه، وذكرت صقر قريش وقد طار بمفرده من الشرق إلى الغرب، فأنشأ وحده دولة خضعت لها إفريقيا وبعض أوروبا، وذكرت مع أبطال

الحرب أبطال السلم، فذكرت عمر بن عبد العزيز وعدله، والمأمون وفضله، والغزالي وحكمته، وابن رشد وفلسفته، ومعاوية وسياسته، وعبد الملك وكياسته، وذكرت مدارس بغداد وبخارى والإسكندرية والقاهرة وغرناطة وإشبيلية وقرطبة، وذكرت مترجمي كتب أقليدس وبطليموس وأرسطو، وواضعي علوم الجبر والمقابلة والكيمياء، وذكرت مخترعي البندول والبوصلة "بيت الإبرة" والساعة الدقاقة التي أهداها الرشيد إلى شارلكان ملك فرنسا, ففزع منها سامعوها فزعا شديدا وسموها شيطانا رجيما أو آلة سحرية أو مكيدة عربية، إلى كثير من أمثال هذه الآثار العربية والمفاخر الإسلامية. ثم ذكرت الإسلام إذ ضربه الدهر بضرباته ورماه بنكباته فأصبح أثرا من الآثار، أو خبرا من الأخبار، وعليلا حار فيه أطباؤه، ومله عواده، وظل متراوحا بين داهيتين، ومترجحا بين غايتين، إما أن يموت موتة أبدية وبالله العياذ، أو يحيا حياة مادية لا حياة أدبية، وينهض جامعة تجارية لا جامعة إسلامية، ما دامت المادة قاعدة الحكومات، وما دامت الحكومات عدوة الأديان، وما دامت الأديان لا تبلغ غايتها إلا في فضاء من الحرية لا يبلغ البصر أطرافه؛ لذلك أحزنني عند سماع خطبة الخطيب

ما يحزن الأشيب من ذكرى الشباب إذا عثر بين أوراقه البالية على رسائل الحب وأناشيد الغرام، وأمضني ما يمض العاشق المفارق، إذا مر بالآثار، وأطلال الديار، فرأى النؤي والأحجار، وموقد النار، ومجال الخيول، ومجر الذيول، فذكر ما كان ناسيا، وهاج من وجده ما كان كامنا، فبكى واستعبر: وود بجدع الأنف لو عاد عهدها ... وعاد له فيها مصيف ومربع

الجاهليتان

الجاهليتان: ليست الجاهلية الأولى بأحوج إلى الإصلاح الديني من الجاهلية الأخرى، بل ربما كانت هذه أحوج من تلك إليه. كانت الجاهلية الأولى تعبد الأوثان لتقربها إلى الله زلفى، وجاهليتنا تعبد الأحجار والأشجار، والأحياء والأموات، والأبواب والكوى، والقواعد والأعمدة، تبركا أو تقربا، لفظان مترادفان، مختلفان لفظا، متفقان معنى، ومن ظن غير ذلك فقد خدع نفسه. كانت الجاهلية الأولى متفرقة قبائل وشعوبا، وجاهليتنا متفرقة منازل وبيوتا، بل آحادا وأفرادا، فلا تراحم ولا تواصل، ولا تعارف ولا تعاطف، حتى بين الأخ وأخيه، والأب وبنيه. كانت جاهليتهم تسفك الدماء في طلاب الأوتار، وجاهليتنا تسفكها في سبيل السرقات وقضاء الشهوات، وكان أفظع ما في جرائمهم وأد البنات، فصار أخف ما في جرائمنا الانتحار، وكان بعضهم يبغي على بعض بسرقة ماله، أو استياق ماشيته، ففعلنا مثل ما فعلوا وفوق ما فعلوا، ثم فضلناهم بعد ذلك بتزوير الأوراق

وتحريف الصكوك وتقليد الأختام والبراعة في النصب والاحتيال، يكاد يستوي في ذلك العالم والجاهل والشريف الهاشمي والفلاح القروي. وليتنا إذ أخذنا جاهليتهم أخذناها كما هي رذائل وفضائل فيهون على المصلحين أمرها, ولكنا أسأنا الاختيار، فلنا خرافاتهم الدينية وأدواؤهم الاجتماعية، وليس لنا كرمهم ووفاؤهم، وغيرتهم وحميتهم، وعزتهم ومنعتهم، فكيف لا يكون الأمر خطيرا، وكيف لا تكون الجاهلية الأخرى أحوج إلى دعوة كدعوة النبوة من الجاهلية الأولى. نبئني عن الإسلام أين مستقره ومكانه، وأين مسلكه ومضطربه، وفي أي موطن من المواطن حل ومعهد من المعاهد نزل، أفي الحانات والمواخير التي يغص بها الفضاء، وتئن منها الأرض والسماء، والتي ينتهك فيها المسلمون حرمات دينهم بلا خجل ولا حياء، كأنما هم يشربون الماء الزلال، ويغشون البضع الحلال، ولقد هان عليهم أمر أنفسهم حتى لو وجدوا بينهم من يرى البُقيا في عمله أو التجمل في أمره سموه جبانا جامدا، أو متكلفا باردا، كل ذلك على مرأى ومسمع من الحكومة الإسلامية والمعاهد الدينية والقضاءين الشرعي والنظامي؟

أم في حوانيت الباعة حيث الغش الفاضح والغبن الفاحش، مزخرفا بالأقوال الكاذبة، والأيمان الباطلة؟ أم في مجالس الأحكام حيث للدينار الأحمر السلطان الأكبر على سلطان العدل وسلطان الذمة وسلطان الشرائع، اللهم إلا ما كان من تلك الألواح المكتوب فيها: "العدل أساس الملك" أو {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} ؟ أم في المساجد حيث يعتقد المصلون أنه لو كانت الفترة بين الصلاتين مائة عام وكانت تلك الأعوام مملوءة بالآثام والجرائم، والمفاسد والمظالم، لكفت تلك الحركات التي يسمونها صلوات، ويحسبونها حسنات، لغفران تلك السيئات؟ أم في معاهد الدين حيث يتلقى المتعلمون الدين جسما بلا روح، وعلما بلا عمل، كأنما يتلهون بدراسة إحدى الشرائع الداثرة، أو أحد الأديان الغابرة، وحيث يتلقون كشكولا عجيبا وخلقا غريبا من الأكاذيب والترهات، فلا تكاد تسمع من أفواههم إلا حديثا موضوعا، أو قولا مصنوعا، أو خرافة تاريخية، أو بدعة دينية، وحيث يقضون حياتهم في المناظرات والمجادلات، والتحاسد والتباغض، والتقاطع والتدابر، وهي بعينها الأخلاق والرذائل التي ما جاءت الأديان إلا لمحاربتها والقضاء عليها، فهم يهدمون من حيث

يظنون أنهم يبنون، ويسيئون ويحسبون أنهم يحسنون صنعا؟ أم في مجالس المتصوفة حيث الألعاب الجمبازية، والحركات البهلوانية، والسرقات باسم العادات، وانتهاك الحرمات بعنوان البركات؟ إن أراد المصلحون لأنفسهم نجاحا, وللإسلام صلاحا فليبدءوا عملهم بتهذيب العقائد الدينية وتربية النشء الحديث تربية إسلامية لا تربية مادية، أي: إنهم يدخلون إلى الإصلاح من باب الدين لا من باب الفلسفة، حتى يجمعوا للمسلمين بين صلاح حالهم ومآلهم، ودنياهم وآخرتهم، وحتى يكون الدين هو الزاجر والمؤدب، والمعلم والمهذب، والإسلام وإن كان دين العقل والفطرة والتهذيب والإصلاح إلا أن الخطر كل الخطر على المسلمين أن يكون في نظرهم تابعا للعقل, وأن يكون العقل هو الحكم بينهم وبينه، والخير كل الخير في أن يكون الدين حاكما، والعقل مفسرا ومبينا، فإذا تم ذلك للمصلحين بالرفق والأناة، والحكمة والسياسة، فقد تم لهم كل شيء، وتم للمسلمين ما يريدونه من الجامعتين الدينية والسياسية، كما تم لهم ذلك في العهد الأول من هذا الباب نفسه وفي هذا الطريق المستقيم، فهل يستطيع

دعاة الإصلاح في الجاهلية الأخرى أن يكونوا كدعاته في الجاهلية الأولى؟ وهل يستطيعون أن يخلصوا لله في عملهم جادين مثابرين, لا تأخذهم فيه هوادة ولا عنه سِنة, وأن لا يرى أحدهم لنفسه على أخيه فضلا إلا بالإيمان والتقوى, وأن يرى كل منهم نفسه بمنزلة المجاهد في سبيل الله يتحمل الأذى ويستسهل الوعر ويحتمل الكريهة لا يجعل لليأس إلى قلبه سبيلا, ولا للهوان على نفسه سلطانا؟ هل يستطيع المصلحون أن يكونوا كذلك ليصلحوا في الآخرين ما أصلح المصلحون في الأولين؟ "لست أدري, ولا المنجم يدري". لعمرك ما تدري الطوارق بالحصى ... ولا زاجرات الطير ما الله فاعل

في أكواخ الفقراء

في أكواخ الفقراء: مترجمة مضى الليل إلا قليلا والظلام مخيم على الكون بأجمعه والكواكب ملتفعة بأردية السحب ما يستشف منها الناظر بصيصا ولا قبسا، والفضاء بحر خضم مترامي الأرجاء إلا أنه ساكن الصفحة، جامد الحركة، يقصر فيه قاب العين، وتضل في تيهه أشعة النظر حتى عن نفسها، والغيوث منهلة متواصلة تهمي بقوة واحدة وقوام واحد، لا تغزر ولا ترقّ، ولا تلتف خيوطها ولا تختلف نغمتها، كأنما هي شباك, ممتدة بين السماء والأرض، وكوخ السماك "فيليب" جاثم في مجثمه بين الأكواخ المحيطة به لا يرى فيه الداخل غير مصباح ضئيل تجاهد ذبالته جهادا شديدا في تمزيق قطع الظلام المتكاثفة حولها، ومجمرة هامدة قد خبت نارها إلا بقايا جمرات شاحبات قد التفت بأكفانها البيضاء، وأخذت طريقها في مدرجة الفناء، وقد يرى

الناظر على ضوء ذلك المصباح الضئيل بضع شباك ومذاود معلقة بالجدران كأنها الأشباح الماثلة، ومنضدة عارية قد نُشرت فوقها بضعة أوانٍ نحاسية تلمع لمعانا ضعيفا في ذلك الحندس كأنها عيون الجنادب، فإذا دار الواقف بنظره حوله رأى حشية مطرحة على الأرض قد اضطجع فوقها ثلاثة أطفال متلاصقين آخذ بعضهم بأعناق بعض كما تتآخذ الأفراخ في أعشاشها، وكما يضم الخوف الضلوع إلى الضلوع، وعلى مقربة من فراشهم امرأة صفراء شاحبة جاثية على ركبتيها تصلي وتبتهل وتدعو الله تعالى بصوت خافت متهافت أن يرد لها زوجها سالما وكان قد خرج كعادته لصيد السمك من البحر, فلم يعد حتى الساعة. وإنها لكذلك إذ هبت الزوبعة هبوبا عظيما, فاهتزت لها جوانب الكوخ اهتزازا شديدا وأنَّ لوقعها الأطفال في لفائف أغطيتهم فطار قلبها فزعا ورعبا، وخيل إليها أن هدير الأمواج ودمدمة الرعود وزفيف الرياح وقعقعة السقوف والجدران إنما هي نذر السوء تنذرها بمصير زوجها المسكين في أعماق ذلك الأوقياس العظيم، فظلت تردد بينها وبين نفسها: رب إني بائسة مسكينة لا سند لي ولا عضد، وإن هؤلاء الأطفال الصغار عاجزون لا يستطيعون أن يقوتوا أنفسهم, ولا أن يعتمدوا على

حولهم وحيلتهم في شئون حياتهم، فاحفظ لي ولهم حياة ذلك الرجل المسكين الذي أسلم أمره إليك، وأودع حياته بين يديك، وخرج في طلب الرزق من عندك ليعود به على هذه الأسرة الفقيرة المعدمة, فلم يعد حتى الساعة، ولا ندري ما فعلت به يد الأقدار. ما أعظم بؤسنا وشقاءنا نساء الصيادين وأولادهم! إنهم يتركوننا وحدنا في هذه الأكواخ الموحشة ويذهبون لطلب العيش في ذلك التيه العظيم الذي لا نهاية لعمقه ولا حد لاتساعه ولا عاصم من مخاطره، ويحاولون انتزاع رزقهم من بين ماضغي تلك الأمواج الموثبة الفاغرة أفواهها كالذئاب الجائعة تحاول التهام كل ما يدنو منها، ولعل القدر الذي نخشاه عليهم في هذه الساعة قد نزل بهم فلم تغن عنهم شيئا تلك الألواح الخشبية الرقيقة التي يسمونها زوارق، ولعلهم لبثوا ساعات طوالا يصارعون الأمواج وتصارعهم حتى غلبتهم على أمرهم فداروا بأعينهم من حولهم ليفتشوا عن زوارقهم المنقلبة فلم يروا منها إلا بقاياها المتطايرة في أيدي الرياح, فحاولوا أن يسبحوا إليها فأفلتت من أيديهم, فنال منهم العياء فهووا إلى ذلك القاع العميق ليصبحوا فيه طعاما للأسماك التي كانوا يظنون منذ ساعة أنها ستصبح طعاما لهم،

هنالك يأتينا نعيهم فنبكي ونندب ونهرع إلى الشاطئ والهين مدلهين, ونقف أمام ذلك العالم المجهول الغامض صائحين أن رد إلينا أيها الوحش المفترس بعولتنا وأولادنا وأفلاذ أكبادنا, أو تكشف عن نفسك قليلا علنا نرى جثثهم في قاعك، فلا نسمع ملبيا ولا مجيبا. وهنا هدأت الزوبعة قليلا وخفتت أصوات الرياح, فسكن بعض ما بها ونهضت من مكانها فتناولت المصباح, وفتحت باب الكوخ وقلبت وجهها في أفق السماء لترى كم بقي بينها وبين الصباح، وكان الظلام لم يزل حالكا والمطر لم يزل متدفعا, فمدت يدها بالمصباح أمامها لترى هل من مقبل يتقدم أو شبح يتحرك, فلم يقع نوره إلا على كوخ بعيد منفرد لا نور فيه ولا حركة, فتذكرت حينما وقع عليه نظرها أنه كوخ تلك الأرملة المسكينة "جانت" التي مات زوجها غريقا منذ بضعة شهور وخلف لها أطفالا صغارا تقاسي الآلام الشداد والأهوال العظام في تدبير عيشهم وتقويم أودهم، فمر بخاطرها أن تزورها وتتعرف حالها؛ لأنها كانت تعلم أنها مريضة مدنفة, وأنها كابدت ليلة أمس من دائها عناء عظيما، وأقرب ما تكون النفوس إلى النفوس إذا جمعتها في صعيد واحد هموم الحياة وآلامها، فأخذت طريقها

إلى ذلك الكوخ حتى بلغته, فوقفت على بابه وقرعته مرارا كثيرة فلم يرد عليها أحد, فدفعته ففتح فدخلت رافعة مصباحها بيدها فأنار لها ما حولها, فرأت بين يديها للنظرة الأولى ما أرعد فرائصها, واستوقف دقات قلبها, وأمسك الدم عن جريانه في عروقها. رأت الكوخ يهتز ويضطرب في أيدي الرياح المتناوحة, ورأت مياه الأمطار تسيل من سقفه الواهي الأخرق فتبلل كل شيء فيه، ورأت فراشا قذرا من القش قد رقدت فوقه الأرملة "جانت" رقدة ساكنة جامدة لا حس فيها ولا حركة، فدنت منها فإذا هي ميتة، وإذا قطرات من الماء تنحدر على جبينها ورأسها وغطائها البالي الممزق، فوقفت أمام هذا المنظر المخيف المرعب ذاهلة مشدوهة, ثم صاحت: هذه نهاية الفقراء على ظهر الأرض، وهذا مصيرهم الذي يصيرون إليه بعد جهادهم في سبيل الحياة زمنا طويلا. إنهم يعيشون في هذا العالم مجهولين مغمورين لا يعرفهم أحد, ثم يخرجون منه متسللين متلاوذين لا يشعر بخروجهم أحد حتى أهلوهم وذوو أرحامهم. ما يدريني أن لا يكون مصيري ومصير أولادي غدا هذا المصير الذي أراه الآن، وقد لا تدخل علينا في تلك الساعة

جارة مثلي ترانا, وترثي لحالنا كما أرثي الآن لحال هؤلاء المساكين. ثم خلعت رداءها فأسبلته على جثة الميتة ودارت بمصباحها في أنحاء الغرفة, فرأت طفليها الصغيرين نائمين على فراشهما وجها لوجه, وعلى ثغر كل منهما ابتسامة صغيرة كأن شبح الموت الهائم حول مضجعهما لا يخيفهما ولا يزعج سكونهما, ورأت رداء أمهما وكانت تعرفه قبل اليوم مسبلا على جسمهما, فخيل إليها أنها ترى منظر تلك المرأة المسكينة قبل ساعة أو ساعتين وهي تعالج في فراشها سكرات الموت ثم تلتفت من حين إلى حين إلى طفليها النائمين, والمطر يتساقط عليهما والبرد يعبث بأعضائهما فتشفق عليهما وترثي لهما حتى ضاقت بها ساحة الصبر, فخلعت عنها رداءها وهي أحوج ما تكون إليه وألقته عليهما, ثم ألقت بنفسها على فراشها وأسلمت روحها. وقفت ماري أمام هذه المناظر المؤلمة والريح تئن أنين الوالهين المتسلبين والموج يعج عجيج أجراس الموت وقطرات الماء تنحدر من جبين الميتة إلى خديها الشاحبين كأنما هي تذرف دموع الحزن على فراق ولديها، وكان الفجر قد أخذ يمسح عن وجهه صبغة الظلام ويرسل بعض أشعته في جوانب الكوخ, فأطفأت المصباح الذي بيدها ووضعته جانبا, ثم جثت بجانب الميتة وصلت

لها ما شاء الله أن تفعل, ثم نهضت ومشت إلى مكان الطفلين وانحنت عليهما وحملتهما برفق وسكون وسارت بهما حتى بلغت كوخها, فوضعتهما بجانب طفليها وأسبلت عليهم جميعا رداء واحدا. ثم جلست بجانبهم تقول بينها وبين نفسها: لا أدري أأصبت فيما فعلت أم أخطأت؟ وإنما أدري أن المرأة التي أودع الله قلبها شعور الأمومة ورحمتها لا تستطيع أن ترى طفلين طريحين على فراشهما في كوخ عارٍ من كل شيء إلا من جثة أمهما ثم تتركهما وشأنهما دون أن تعلم ما مصيرهما بعد ذلك. إن المنظر الذي رأيته ما كان لا يسمح لي بالتفكير في نتيجة العمل الذي أعمله، فإن تبين لي بعد ذلك أني مخطئة، فليس معنى هذا أني كنت أستطيع تجنب الوقوع في هذا الخطأ؛ لأن قلبي من لحم ودم لا من فولاذ وصوان. نعم, إن زوجي فقير وإن طفليّ معدمان لا يكادان يشبعان من الخبز, وإن عناءنا في تربية أربعة أطفال سيكون ضعف عنائنا في تربية طفلين، ولكن لا يجوز لنا ضنا براحة أنفسنا أن نترك طفلين صغيرين يموتان على مرأى منا, ومسمع بردا وجوعا. ذلك ما سأقوله لزوجي عند رجوعه، وما أحسبه قاسيا ولا متوحشا فينقم عليّ فعلتي هذه ويأمرني بإلقائهما خارج الباب.

ثم وقفت عن الكلام فجأة؛ لأنها سمعت صرير الباب وهو يدور على عقبه فارتعدت ثم علمت أنها الريح, فأطرقت برأسها ساعة ذهبت فيها بتصوراتها وأفكارها كل مذهب, فبكت وضحكت، وغضبت ورضيت، وأمّلت ويئست، ورحمت وقست، وحمدت فعلتها وندمت عليها, وأحسنت الظن بزوجها وأساءته به، وظل فؤادها نهبا مقسما في يد الهموم والأفكار حتى شعرت بسواد يتقدم نحوها فاستطير قلبها خوفا ورعبا وانتبهت, فإذا زوجها داخل يحمل شبكته وأعواده على ظهره والماء يقطر منها, فنهضت إليه وعانقته ثم ألقت نظرها على وجهه فأنكرت شحوبه وتضعضعه كما أنكر ذلك من وجهها حين رآها, وسألته: كيف كان حظه الليلة؟ وماذا كان شأنه مع العاصفة؟ فألقى بشباكه وقصبه على الأرض وظل يقول: أما الليلة فكانت مزعجة جدا لم أر في حياتي مثلها، وأما الصيد فها هي يدي صفر منه كما ترين، ولولا رحمة الله بي وبكم لهلكت، وما أنا بآسف على شيء ما دمت أراكم بخير، كيف حال الولدين؟ فارتعشت وقالت: هما بخير، قال: ما لي أراك شاحبة صفراء؟ وكيف قضيت ليلتك؟ فأطرقت برأسها وقالت: قضيتها في خياطة قميصين للولدين، وكنت كلما سمعت

صوت العاصفة وهدير الأمواج خفت عليك، أما الآن فقد زال كل شيء والحمد لله، ثم نظرت إليه وبين شفتيها كلمة تحاول أن تنطق بها فلا تستطيع، ثم استنصرت جلدها وقوتها وقالت: وشيء آخر أحزنني جدا، قال: وما هو؟ قالت: قد علمت الساعة قبل رجوعك بقليل أن جارتنا "جانت" توفيت, وأن ولديها الصغيرين قد أصبحا وحيدين في هذا العالم, لا عائل لهما. فاضطرب عند سماع هذه الكلمة ونهض من مكانه وتمشى قليلا, ثم ألقى بقبعته المبللة بالماء على سريره وظل يعبث بشعر رأسه فيشده أحيانا, ويمسحه أخرى وهي تتبعه بنظراتها لتقرأ صورة نفسه على وجهه، ثم جلس على المنضدة الممتدة في وسط الكوخ وظل يقول بينه وبين نفسه بصوت ضعيف متهدج: رب, إني وإن كنت رجلا جاهلا فدما وليس في استطاعتي أن أفهم حكمتك في حرمان هذين الولدين البائسين من أمهما, إلا أنني لا أستطيع أن أنكر وجودهما، ولعل الذين يعلمون أكثر مما أعلم يفهمون من شئونك وتصرفاتك أكثر مما أفهم. نعم, إنني فقير مسكين, أعيش تحت رحمة المصادفات والاتفاقات, وربما مر علي وعلى أولادي عدة أيام لا نجد

فيها ما نأتدم به, ولكن ماذا أصنع وقلبي يتألم لحال هذين اليتيمين الصغيرين أكثر مما يتألم من الجوع والسغب؟ ثم التفت إلى زوجته, وقال لها: إنني متألم جدا يا مدلين, ويخيل إلي أن روح تلك المرأة المسكينة واقفة الآن أمام هذا الباب تقرعه وتضرع إلينا أن نأخذ ولديها إلينا, ونكفلهما من بعدها، ولكن كيف العمل يا إلهي؟ فقالت: إني أكاد أسمع هذا الصوت الذي تسمعه يا فيليب, وإن ألمي عظيم كألمك. فصمت هنيهة ثم انتفض انتفاضة شديدة ودنا منها وقال لها: ألم يمت لنا طفلان في العامين الماضيين يا مدلين؟ قالت: بلى، قال: ماذا كنا نصنع لو أنهما بقيا حيين حتى اليوم؟ قالت: لا شيء سوى أننا نفزع إلى الله في أمرهما، قال: فلنفزع إلى الله في أمر هذين الطفلين اليتيمين وكأن ولدينا بقيا حيين حتى اليوم، أو كأنهما بعثا من قبرهما بعد موتهما. اذهبي إليهما يا مدلين وأحضريهما؛ فربما استيقظا بعد هنيهة من نومهما فرأيا منظر أمهما الميتة في فراشها, فماتا خوفا ورعبا. اذهبي إليهما واحمليهما برفق وهدوء دون أن توقظيهما

وأضجعيهما على فراش ولدينا, فسيكون منظرهم جميعا غريبا جدا حينما يستيقظون من نومهم وينظر بعضهم في وجوه بعض، وحرام علي النبيذ واللحم بعد اليوم حتى أستطيع أن أقوم بنفقة هذه الأسرة الكبيرة التي أصبحتُ سيدها وعائلها، اذهبي يا مادلين وثقي أن الله سيملأ علينا بيتنا خبزا وفحما ببركة هؤلاء الأطفال الطاهرين. فتهلّل وجهها بشرا وسرورا, ونهضت من مكانها ومشت إلى مضجع الأطفال فرفعت عنهم الغطاء, ونظرت إلى زوجها صامتة لا تقول شيئا, فما وقع نظر "فيليب" على هذا المنظر الغريب حتى استطير فرحا وسرورا, وهرع إلى زوجته واحتضنها إلى صدره وقال لها: ما أشرف قلبك يا مادلين! "يا سكان القصور" ليتكم من سكان الأكواخ؛ لتستطيعوا أن تكونوا من المحسنين.

الشيخ محمد عبده بين العلماء

الشيخ محمد عبده بين العلماء: ما قام عظيم من العظماء في أمة جاهلة متأخرة يحاول إصلاح ما فسد من أمرها وعلاج ما عضل من دائها والأخذ بضبعيها والإنافة بها على اليفاع والنهوض بها من أرض الجمود والموت إلى سماء الحركة والحياة إلا انقسم أفرادها في شأنه قسمين ضرورة انقسامهم إلى أغبياء وأذكياء؛ ففريق وهو الأكثر عددا وجهلا والأقل إدراكا وفهما أطفأ الله نور عقله وأقام بين بصيرته وبين الحق حجابا كثيفا من الجهل والجمود يعترض نفاذها ويسد سبيلها, فلا يزال نائما فوق قديمه نوم الشحيح على ماله كلما سمع نأمة غريبة وأحس نبأة لم يعرفها من قبل فزع قلبه وطار لبه وصاح صياح الممرور المختبل "قديمي قديمي" فلا يزال قديمه هذا قيدا في رجليه يمنعهما من الحركة والانطلاق, وسدا في أذنيه يحجب عنهما نداء الحق وغشاوة في عينيه لا يرى من دونها غير الظلام المتكاثف

وسلاحا في يديه يحارب به ذلك المصلح الذي يريد به خيرا مما يريد بنفسه, وأنى له بعد أن نال منه قديمه ما نال أن يرى ويسمع فيعلم ما هذا الذي يدعى إليه أخير هو أم شر، وفريق آخر وهو الأقل عددا والأوفر ذكاء وعقلا يدعى إلى الحق فيجيب ويقاد إلى الخير فيتبع, لم تفسده عصبية ولم تقعد به هجمية ولم تضق به بصيرته أن يتبين عند بزوغ فجر الدعوة بياض الحق من سواد الباطل، أولئك هم أعوان المصلح وأنصاره لا يزال الحرب سجالا بينهم وبين أعدائه, حتى يصنع الله لهم فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق. وعظيم الأمة الإسلامية ومصلحها اليوم هو سيد العلماء وواحد الأتقياء الأستاذ الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية، وما منّ الله على هذه الأمة في كثير من قرونها الماضية كما منّ عليها به اليوم ولا ابتلي عظيم من العظماء في أمته كما ابتلي في هذه الأمة هذا الرجل العظيم الذي نظر إليها نظر الطبيب الحاذق إلى عليله، فرأى بعد ما بين سابقها ولاحقها وانقطاع ما بين حاضرها وماضيها, فعلم أن داءها داء دوي وبلاءها بلاء عظيم, ورأى أجزاء جسمها تتحلل إلى ذرات ثم تتلاشى, ورأى صفرة الموت تجول في وجهها وأغربة الفناء تحلق فوق رأسها

وقد أوشكت أن تملأ الفضاء نعيبا، فلم يكد يملك نفسه من البكاء على أمة ضربها الدهر بضرباته, ورماها وهي محلقة في سماء عزها ومجدها بسهم نفذ ما بين جنبيها فهوت من مدار الأجرام إلى مقر الرغام، تشكو فلا تجد مشتكى، وتستغيث فلا ترى مغيثا ولا معينا، فراعه من أمرها ما راعه وكاد ينقطع خيط الرجاء في قلبه لولا أن وهبه الله نفسا قوية وعزيمة ثابتة وجنانا لا تحوم حوله الأوهام ولا تأخذ منه نكبات الأيام، وأودع ما بين جنبيه قلبا مصوغا من الشفقة والرحمة، فنظر في حال هذه الأمة البائسة نظر العاقل البصير وتلمس موضع دائها وسبب سقوطها, فوجد أن داء أدوائها وعلة عللها إغفالها أمر دينها الذي عرفه سابقوها وعلقوا بحبله فكان سر ارتقائهم وتقدمهم وعلوهم فوق علياء الأكاسرة والقياصرة وامتداد فتوحاتهم في قليل من السنين إلى ما لم تمتد إليه يد من قبل، وأهملته هي فودعها مجدها وفارقها عزها ووصلت إلى حيث تضرب بذلتها الأمثال وحيث أصبحت أكلة الآكلين، ونهبة الطامعين، وعلم -حفظه الله- أنه إن صلح لها دينها صلح لها كل شيء من آخرتها وأولاها, فأخذ نفسه بالدعوة إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة, مخلصا لله في عمله مستعينا بحوله وقوته مصدقا وعده في قوله سبحانه وتعالى:

{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} وقوله تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} . هذا هو الشيخ محمد عبده وهذه هي مقاصده ومذاهبه, فما الذي تنقمون منه أيها العلماء الأعلام كما يلقبكم غوغاؤكم أو كما تلقبون أنفسكم؟ وما هذه الضجة التي سددتم بها منافذ الفضاء؟ وما هذه الثائرة التي طمستم بها وجه السماء؟ وما هذه النار التي تتأجج في صدوركم من البغضاء؟ ومتى كان عهدكم بلعن فرعون وهامان فتلعنوا رجلا هو أصدقكم إيمانا وأثبتكم يقينا وأكرمكم خلقا وأعلاكم همة وأشرفكم نفسا وأعفكم لسانا ويدا وخيركم لنفسه وللناس؟ أنسيتم يوم "هانوتو" يوم وقف أمامه وقوف الشجاع المستبسل يذود عن دينه ودينكم ويناضل دونه حتى قهر قرينه وأطفأ فتنة كادت تحترق في نار شبهاتها ألوف من المسلمين وأنتم صامتون مستسلمون لا تحيرون جوابا؟ أنسيتم كتابه الإسلام والنصرانية الذي انتصف به للإسلام من أعدائه فرضي به الله والمسلمون، وخرست به ألسنة الجاحدين المتخرصين؟ أنسيتم رسالة التوحيد التي أظهر فيها الدين الحنيفي جوهرا خالصا ممحصا من شوائب البدع والخرافات التي شوهتم بها وجهه أنتم وأمثالكم فلما رآها مسيحي أوروبي قال: "إن كان الإسلام كما وصفه الشيخ

محمد عبده في رسالته, فأنا مسلم منذ اليوم لولا أني أخاف أن يكون الرجل قد خدعنا ببلاغته" فقد عرف المسيحي الأعجمي من شأن الرسالة ما لم تعرفوا، وأدرك من فضل صاحبها ما لم تدركوا، ومن قابل بين هذه القصة وقصة رسالة الرد على هانوتو يوم ذهب ناشرها بنسخ منها ليقدمها إلى مشيخة الأزهر, فأبت قبولها بحجة أن كاتبها قد أثم باهتمامه بشأن الرد على رجل من القوم الكافرين رأى منظرا عجيبا ونادرة من أغرب النوادر ما رأى قبلها الراءون ولا سجل مثلها في تواريخ الماضين، أنسيتم مقامه فيكم سنين عدة يعلمكم أخلاق العلماء وما يجب عليهم في عفة أيديهم وطهارة أنفسهم والعلو بأنفسهم عن مواطن الذل والضيم والنبو بها عن مظان الشبه والريب ويرشدكم كيف تؤدون وظيفتكم التي عهد الله بها إليكم والتي هي أوسع ميدانا وأفسح مجالا من جلستكم جلسة الذليل الضارع وراء أعمدتكم الحجرية, تختلفون إليها صباح مساء حتى تموتوا فتموت معكم آثاركم وأعمالكم, فلا أنتم في دنياكم تذكرون, ولا أنتم في أخراكم تؤجرون، ولو أراد الله بكم خيرا لوفقكم إلى اتباع سبيله والاهتداء بهديه والتأدب بآدابه والتخلق بأخلاقه, فهي ملاك السعادة ومناط العزة وملتقى

خيري الدنيا والدين، ولكنها الأقدار يسعد بها أقوام ويشقى بها آخرون, {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} . إنكم والله ما تنقمون منه زيغا في عقيدة ولا سعيا في فساد كما تزعمون, ولا يعنيكم حرم الربا أم حل, ثبتت الشفاعة أم لم تثبت, قام الدين أم قعد, فنحن أدرى منكم بكم وأعلم بمنزلة الدين والفضيلة من نفوسكم وإنما عز عليكم أن تروا بجانبكم رجلا نبت في تربتكم ودرج من عشكم واستقى من وردكم الذي منه استقيتم ثم ما لبثت الأيام أن دارت دورتها, فإذا هو شمس تتلألأ في سماء المجد والشرف بما وهبه الله من علم واسع وبصيرة نافذة تكاد تخترق حجب الغيب ونفس سماوية محصتها الفضيلة فلم تعلق بها الرذائل, ولا طارت حوله المفاسد والأطماع, وذكر بعيد تردده الأقطار وتتهاداه الأمصار، وجلال تطأطئ له الهامات وتغضي من مهابته الأبصار، وحب مبرح تنعقد عليه قلوب الملايين من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وإذا أنتم لا تزالون في أرض خمولكم لاصقين بها لصوق الجسد بصدوركم، فثقل جواره عليكم، وألهب منظره نار الغل والحقد في أفئدتكم، حتى لوددتم لو افتديتم أنفسكم من جواره بجوار مالك في الجحيم, وقد فعلتم.

عواطف البنين

عواطف البنين: أنا لا أعجب لشيء عجبي لهذا الإنسان الذي يغضب الغضب كله إذا أحس أن مخادعا يخدعه في شأن من شئونه, وهو يخدع نفسه بنفسه في جميع ساعاته ولحظاته. حضرت تمثيل رواية عواطف البنين في دار التمثيل العربي, وعرفت أن الشيخ سلامة ليس هو الكونت دي موراي وأن الممثلة "ميليا" ليست الكونتس زوجته, وأنها لم تطرد من منزلها ولم تتهم في عرضها ولم يمر بخاطرها الحزن على هجر زوجها أو فراق ابنتها، وعرفت أن الممثلة "متيل" ليست قتاتهما، وأن الهم لم يقسم فؤادها شطرين شطرا لأبيها وشطرا لأمها, ولكنني خدعت نفسي ورثيت لمصاب تلك الأسرة الكريمة وحزنت لحزنها حزنا لم أملك معه دموعي التي طالما غلبتها في أحرج المواقف على أمرها, حتى غلبتني في أهون المواقف على أمري. إن نفسي أعز عليّ من كل شيء في هذه الحياة، فهيهات أن أخدعها أو أصور لها من الوهم شبحا يحزنها أو خيالا يبكيها،

وإنما خدعني هؤلاء الممثلون البارعون, فقد طاروا بي في فضاء الخيال وما زالوا يأخذون على نظري حتى محوا صورهم الحقيقية من ذاكرتي, فلم أر أمامي غير زوج حزين وزوجة مظلومة وفتاة تبكي على أبويها بكاء الحزين إثر الحزين. الممثل البارع هو الذي يستطيع أن يتجرد من نفسه, وأن يتقمص شخصا غير شخصه حتى يكاد ينكره عارفوه، وكذلك كان شأن هؤلاء الممثلين في رواية عواطف البنين، فقد أجاد كل منهم تمثيل دوره المحزن المؤثر وبلغ من الإحسان الغاية التي لا غاية وراءها، حتى رأيت العيون شاخصة والأنفاس معلقة والدموع مرسلة, وحتى خيل إلي أني أسمع خفقان القلوب بين الجوانح. أما الرواية فإنها تشتمل على عبر كثيرة, أذكر منها ما يأتي: 1- لا يستطيع أن يبلغ الإنسان منزلة الوفاء إلا إذا لقي في هذا السبيل شقاء كثيرا, وعذابا أليما. 2- المرائي يبني بيته على شفير هار, فلا يكون بينه وبين الانهيار إلا أن تهب عليه بعض العواصف المجتاحة. 3- إن الذي يلد ولدا في غير مهده يجني عليه جناية كبرى؛ لأنه يرمي به في بحر زاخر لا يقوى على السباحة فيه, ولا يرى حوله من يمد له يدا لنجاته, أو يسوق إليه

زورقا لخلاصه؛ لأنه لا يعرف أحدا ولا يعرفه أحد، فهو إما أن يعيش طريد الهلاك، أو يموت فريسة الأسماك. 4- لو علمت المرأة أن ساعات السرور التي تقضيها مع عشيقها ستنقلب في مستقبل الأيام أعوام حزن عليها وعلى عشيرتها, لما سئمت الوحدة في مضجعها, ولا استوحشت لانفرادها في غرفتها, ولا لذ لها أن تطلب هذا الإنس الكاذب والسرور الموهوم. هذه عبرة الرواية, وهذا مبلغ تأثيرها في النفوس، فشكرا للكاتب ما كتب وللمعرب ما عرب وللممثل ما مثل.

الرشوة

الرشوة: كان المرحوم الشيخ محمد عبده يقرأ في مسجد الأزهر درسا عنوانه التفسير, وحقيقته البحث في كل ما يتعلق بالمرء في حياتيه الآخرة والأولى، فكان الرجل في ذلك الدرس مفسرا للقرآن وراويا للحديث ومعلما وواعظا, بل كان كل ما يستطيع امرؤ أن يكون. ولقد حدثنا فيما كان يرويه لنا في دروسه من وقائعه ومشاهده أنه ركب القطار في إحدى لياليه كعادته إلى بلدته "عين شمس" فلم يستقر به المقام في مجلسه من القطار حتى وقف أمامه شيخ معمم ملتحٍ فسأله ماذا يريد فقال له: أنا يا سيدي من طلاب الامتحان في الأزهر وقد جئتك أطلب إليك أن تساعدني عليه، قال: إن كنت تريد أن أساعدك بمنع الظلم عنك فاعلم أني لا أترك يدا تمتد إليك بظلم، قال: يا سيدي, أنا رجل فقير وإنك لن تجد أحدا هو أحق بالإحسان مني، قال: لو كنت طالب إحسان لما منعتك شيئا مما أقدر عليه, ولكنك على ما أظن

تريد مني أمرا جللا ليس في استطاعتي أن أمنحك إياه, ولو استطعت ما تركت أحدا يمكنك منه، إنك تريد أن أكون شاهد زور في قضيتك هذه وما كانت شهادة الزور في وجه من وجوهها حسنة من الحسنات، إن في الأزهر خمسمائة طالب مثلك يتقدمون للامتحان، فإن منحتك الشهادة من دونهم فأين العدل، وإن منحتكم جميعا فأين الامتحان. وما وصل الشيخ من حديثه إلى هذا الحد حتى وصل القطار إلى المحطة, فنزل وترك الرجل مكانه فما مشى إلا قليلا حتى شعر بمشيته وراءه, فالتفت إليه وقال له: إنك قد فهمت كل ما يمكنني أن أقوله لك وكفى، فاقترب منه وقال له: إن معي هدية يا سيدى أريد أن أقدمها إليك وأن تتفضل بقبولها، ففهم الشيخ غرضه وأراد العبث به فقال: كم تريد أن تعطيني؟ قال: ثلاثين جنيها، قال: ذلك قليل، قال: سأعطيك ثلاثين أخرى عن صاحب لي يريد منك ما أريده, ورجاؤنا إليك يا مولاي ألا تقسو علينا؛ فنحن قوم فقراء وأنت من القوم المحسنين، وهنا غضب الشيخ غضبته المعروفة ونظر إلى الرجل شزرا وقال: يا شيخ إنني إن احتملت منك كل شيء, فإنني لا أستطيع أن أحتمل من طالب من طلبة الشريعة الإسلامية أن يسمي الرشوة وفساد الذمة إحسانا وكرما، ثم حمل عليه بعصاه وضربه

ضربة ولى من بعدها على عقبه إلى حيث لا مطمع في أوبته. قص علينا الشيخ -رحمه الله- هذه القصة في درسه, ولم يذكر لنا من شأن الرجل ولا من صفاته ما يدل عليه، ثم أطرق برأسه واستمر على ذلك ساعة خيل لنا فيها أنه يكاتمنا دمعة تترقرق في عينيه, ثم رفع رأسه وأنشأ يتكلم بنغمة محزنة مؤثرة ما تركت في مكامن المحاجر دمعة إلا أسالتها وقال: لقد خضت غمرات هذه الحياة وما بلغت العشرين, وها أنا قد نيّفت اليوم على الخمسين ولا أعلم أني طمعت في يوم من أيام حياتي في شيء مما زواه الله عني, كما لا أعلم أني نظرت إلى زخرف هذه الحياة وزبرجها نظر المتشهي المتمني الذي يشتد في أثرها عدوا ويقتل نفسه وراءها صبرا، ولقد مرت بي في كثير من أيامي الماضية ساعات كان لي فيها من الدالة على أصحاب هذا المصر وأربابه وذوي الجاه والسلطان فيه ما يملأ بيتي فضة وذهبا, ورحابي عبيدا وخولا لو ابتغيت السبيل إلى ذلك، فعافت كل ذلك نفسي ولا أكتمكم أني كنت أعالج من مجاهدة هذه الشهوات ومدافعتها ما يجب أن يعالجه كل من نشأ منشئي بين قوم شرهين طامعين، وكنت أحسب أن قد انتشر لي بين الناس من الذكر بالعفة والشرف وإباء النفس ما يثلج به صدري

وتطمئن إليه نفسي، فلما رأيت من حال هذا الرجل أمس ما رأيت علمت أنه لا يزال يوجد في الناس من يظن بي ظن السوء, ويتوهم أني من سفلة الناس وجهلائهم الذين لا يطلبون الوظائف إلا ليرتشوا, ولا يرتشون إلا ليظلموا. لقد مرت على هذه القصة سنون عدة, والله يعلم أني أصبحت لا أسمع بواقعة من وقائع الرشا التي اسودت بها رقعة الارض, واحمر لها وجه السماء إلا ذكرتها فأجم وجوم الحزين المتألم, وأتماسك تماسك المتجلد المتثبت إبقاء على مدامعي أن يستثيرها الحزن فيرسلها, ولله الأمر من قبل ومن بعد.

القضية المصرية من مايو 1921 إلى مارس سنة 1922

القضية المصرية من مايو 1921 إلى مارس سنة 1922 العاصفة ... القضية المصرية: من مايو سنة 1921 إلى مارس سنة 1922 العاصفة: إن قلبي يرتعد خوفا وفرقا، أسمع قعقعة في جوف السماء فهل هي نذير العاصفة التي يريد الله أن يرسلها علينا؟ أرى الوجوه شاحبة والعيون حائرة والجباه عابسة, فهل شعر الناس بويل مقبل انقبضت له صدورهم, واقشعرت له جلودهم؟ ما هذا المنظر المرعب المخيف؟ ما هذه الضوضاء المرتفعة بالمجادلات والمناقشات في المجتمعات العامة والخاصة؟ ومن هم هؤلاء الذين يتصارعون ويتجاذبون ويبغي بعضهم على بعض؟ إن كانوا مصريين فويل لمصر وأهلها ومستقبل الحياة فيها بعد اليوم، كذلك كان شأن الأمم البائدة في أدوار سقوطها واضمحلالها, وفي ساعة وقوفها على حافة الهوة العميقة. لقد ظننت في ساعة من ساعات حياتي أنني قد أمنت على مصر أبد الدهر, وكان قلبي يستطير فرحا وسرورا كلما سمعت تلك "الجوقة" الموسيقية الجميلة تتغنى في أرجائها بنغمة واحدة وتوقيع واحد، وكنت أصغي إليها بسرور واغتباط إصغاء العاشق الولهان إلى تغريد الحمائم المترنمة فوق أفنانها، ثم ما لبثت أن شعرت

أن النغمة قد اختلفت، والتوقيع قد اضطرب، فذُعرت وارتعبت ورفعت رأسي فإذا أنا في "بيزنطية" وإذا الناس جميعا في كنيسة أيا صوفيا يتناقشون ويتجادلون جدالا شديدا في مسألة الطبيعة والطبيعتين, وأبواب المدينة تقعقع تحت ضربات معاول العدو, فلا يسمعون لها صوتا. كنا جميعا وكان الشمل منتظما، وكان كل ما يعزينا عن بؤسنا وشقائنا منظر تلك الوحدة الجميلة التي كنا نشرف على روضتها الزاهرة الغناء من نوافذ سجننا فتهون علينا همومنا وآلامنا، ولم يكن منظر في العالم أجمل ولا أبدع من منظر تلك الدموع الرقراقة التي كانت تتلألأ في عيوننا جميعا؛ لأنها كانت في الحقيقة دموع السرور والاغتباط باتحادنا واتفاقنا, ووحدة كلمتنا وقوة جامعتنا. لا تزال العاصفة تدوي وتعصف، ولا يزال البناء يضطرب ويهتز، فليت شعري هل يتماسك ويعود إلى سكونه واستقراره؟ أم قدر له السقوط كما قدر لأمثاله من البنى في عهود التاريخ الغابرة؟ ها هو ذا سعد يمسك البناء بيده أن يتداعى ويتهدم, ولكنه قد تعب جدا ونال منه الجهد والنصب لأن الحمل ثقيل, ولأن الهادمين من خصومه المصريين معتزون بالقوة الخارجية وقوتهم لا تفنى، فهل تستطيع الأمة أن تمد يدها إليه وتعينه على عمله الشاق؟

هنالك قوتان هائلتان جدا؛ قوة العدو الخارج مستترة، وقوة العدو الداخل ظاهرة، وهما تعملان معا بنظام واحد وفكرة واحدة لغرض واحد، هو أن تسلمنا أخراهما لأولاهما، فلنتقدم نحوهما بقوة أعظم من قوتهما شأنا وأكبر خطرا وهي قوة العقيدة الراسخة والإيمان الثابت والثقة بالنفس والأمل الواسع والثبات على المبدأ نظفر بهما ونقض عليهما, فلا يبقي لهما عين ولا أثر. إن الساسة الإنجليز يريدون أن يمزقوا شمل وحدتنا الوطنية التي بذلنا في سبيلها الشيء الكثير من ذات أنفسنا, وذات أيدينا ليستثمروا شقاءنا وآلامنا, فهل نسمح لهم بذلك؟! لا، فقد أصبحت الأمة غير الأمة والعقول غير العقول والأفهام غير الأفهام، وليست هذه النهضة التي نهضناها اليوم ترديدا لأصوات القائلين، أو تقليدا لحركات الناهضين، أو فصلا تمثيليا، أو لعبة بهلوانية، وإنما هي عقيدة راسخة في النفس رسوخ الإيمان في نفوس المؤمنين، فليطلبوا لهم مرتزقا غير هذا المرتزق، في سوق غير هذه السوق، فما نحن بسلع تباع وتُشرى، ولا بمأدبة عامة يهوي إليها الغادون والرائحون. إننا لم نجاهد يوم جاهدنا من أجلهم، بل من أجل وطننا، ولم نغنم في معاركنا التي أدرناها هذه الوحدة الشريفة لنضعها يوم

نظفر بها في أيديهم يمزقون شملها, ويشوهون صورتها, ويلعبون بها لعب الصوالج بالأكر. محال أن نسمح لهم بها طائعين مختارين، فهي حياتنا وروحنا وأثمن ما تملك أيدينا وخير ما استفدنا من جهادنا، بل كل ما استفدناه منه, وسنذود عنها ذود الأم الرءوم عن واحدها، والعذراء العفيفة عن عرضها، وسنبذل في سبيل استبقائها في أيدينا فوق ما بذلنا في سبيل الحصول عليها. ليس من السهل علينا ولا مما تحتمله أطواقنا أن يتحدث الناس عنا -وقد بدءوا يتحدثون- أن تلك النهضة التي نهضناها إنما كانت رواية تمثيلية، خلبنا بها عقول المتفرجين ساعة من الزمان، حتى إذا نزل الستار عليها إذا الوجوه الوجوه والصور الصور، وإذا الداء القديم والمرض العضال. إن الشرق لم يشق بالجهل ولا بالضعف كما يقولون، فلطالما عاش الضعفاء والجهلاء أحرارا مستقلين بفضل اتحادهم وقوة جامعتهم، بل لأنه يوجد في كل شعب من شعوبه أقوام أمثال هؤلاء الأقوام الذين ابتلينا بهم في مصر, خبثاء الأغراض والمقاصد موتى العواطف والمشاعر، لا يتألمون إلا لأنفسهم، ولا يبكون إلا على نقص في أموالهم وثمراتهم.

والشعب المصري أول شعب شرقي نهض نهضة سياسية في هذا العصر ثم مشت الشعوب الشرقية بعد ذلك على أثره، فيجب أن يكون أول شعب يعرف كيف يمحق الدسيسة الكامنة بين أحشائه لتتعلم منه الشعوب الأخرى كيف تمحق الدسائس الكامنة بين أحشائها فيعود بالفخرين، ويلبس التاجين. إنا لا نريد أن نحارب المنشقين والخارجين، فالقوة التي لا قبل لنا بها من ورائهم تحميهم، ولا أن نجادلهم، فإن لهم تحت جلدة وجوههم ذخيرة من السماجة والصفاقة كافية لإنكار أن الأرض أرض والسماء سماء, وأن هناك فرقا بين لون الليل ولون النهار، بل نريد أن نقي أنفسنا شر دسائسهم ومكائدهم ولا سبيل لنا إلى ذلك إلا إذا أعرضنا عنهم وصنا أنظارنا عن رؤية وجوههم، وأسماعنا عن سماع أصواتهم، كما يتعوذ المتعوذ من الشيطان الرجيم، فإن فعلنا فقد انتصرنا انتصارا عظيما لم نوفق إلى مثله في جميع أدوار تاريخنا من عهد "سيزستريس" حتى اليوم، وإلا فما خلق الله في العالم خلقا أهون على الله, وعلى الناس منا.

حكم القوة

حكم القوة: اكتبوا يا أنصار سعد عرائض الثقة به عشرات ومئات وألوفا وعشرات الألوف, فإن ذلك لا يجديكم نفعا ولا يغني عنكم شيئا؛ لأن القوة أصدرت حكمها بأنكم من أنصار الحكومة وأوليائها. ألفوا الوفود العظيمة من جميع مدنكم وقراكم وعزبكم وكفوركم حتى يبلغ مجموع عددها ثلاثة عشر مليونا وتسعمائة وتسعة وتسعين ألفا, فأنتم جميعا حمقى لا قيمة لكم، ولا عبرة برأيكم، ولا يوجد فيكم عاقل ولا رشيد غير تلك الألف الواحدة التي تخلفت عنكم، وانفصلت عن صفوفكم. املئوا الأرض صراخا وعويلا بالشكوى من الافتيات عليكم في أمركم الخاص بكم وبمستقبل حياتكم وحياة أولادكم وأحفادكم, فإن رجلا فضوليا من رجالكم لا شأن له ولا قيمة هو الذي عبث بعقولكم وأغراكم بهذا السخط والغضب والصراخ والعويل، ولو أنه ترككم وشأنكم لاستحال بكاؤكم ضحكا وابتهاجا، وخوفكم وقلقكم سكونا وارتياحا، ولأسلمتم بلدكم إلى أعدائكم راضين مغتبطين.

اجمعوا جموعكم الهائلة في أي مكان تريدون, واهتفوا بجميع ما يمر بخواطركم من أمانيكم الوطنية ورغباتكم القومية حتى تبح أصواتكم, وتنشق حلوقكم فأنتم في نظر الساسة الإنجليز لصوص مجرمون ما خرجتم مخرجكم هذا إلا لسرقة الحوانيت ونقب الجدران واختطاف الأمتعة من أيدي المارة وتكدير صفاء الناس والإخلال بالأمن العام. لا تتركوا وسيلة من الوسائل تعلمون أنها تعبر عن مشاعركم وخوالج نفوسكم إلا واتخذوها وتذرعوا بها, فهي جميعها مظاهر كاذبة ومناظر تمثيلية؛ لأن القوة قد حكمت بذلك، وحكم القوة هو الحكم العادل الشريف الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. هذا هو ما يجري الآن في جو مصر، وهذا ما سيجري في جوها غدا ما بقيت الوزارة في مركزها, أو خلفتها وزارة مثلها. اقتطعت السياسة الإنجليزية قطعة صغيرة من الضعفاء عن الوفد والأمة وسمتها "الأمة" بعد أن عجزت عن ذلك عامين كاملين، فهي تتعهدها بالعناية والرعاية وتحوطها بالصور والتهاويل تعظيما لشأنها وتفخيما لأمرها, وتصقل في كل يوم صفحتها وتجلوها ليكون لها بريق يخطف الأبصار ويختلب الأنظار, تفعل

ذلك كله لتتخذها تكأة تتكئ عليها في الثقة بالمفاوضين الرسميين اليوم والتصديق على المعاهدة المنتظرة غدا، وما هي إلا رواية واحدة تعرض فصولها على مسرح التمثيل فصلا فصلا, حتى ينزل الستار على الفصل الأخير منها. أما الأمة نفسها فهي في نظر الصحف الإنجليزية أقلية ضعيفة جدا أو مجموعة خاملة بلهاء لا عقل لها ولا فكر، فإن نطقت فنطقها مصطنع، وإن بكت فبكاؤها مكذوب، وإن احتجت فاحتجاجها عصيان، وإن صاحت فصياحها ثورة، وإن صمتت فصمتها تسليم وإذعان، وإن رفضت أن توقع على صك شقائها فلا قيمة لرفضها أو قبولها؛ لأن الأمة شيء سواها. آه ماذا نعمل، لقد بحت أصواتنا وحفيت أقدامنا ونضبت محابرنا وجفت أقلامنا في سبيل الشكوى من هذا الحال, فلم نجد راحما ولا معينا حتى من أبناء وطننا الذين يفهمون لغتنا ويدركون شعورنا ويحسنون قراءة البؤس والألم المسطور على جباهنا، كأن العالم كله ألب علينا وكأن قد سدت من دوننا أبواب السماء فلا تصعد شكوى, ولا ينفذ دعاء. ولقد كنا نستطيع أن نحمل أنفسنا على الرضا بما قدره الله لنا في مستقبل حياتنا لو أن ذلك الذي يراد بنا لا يجري

باسمنا ولا يطبع بطابعنا, فتستمر حجتنا قائمة ما دامت الأرض أرضنا والسماء سماء، ولكن من لنا بالراحة وهدوء النفس واستقرارها, وها هي وفود الثقة بالحكومة تفد إليها من جميع أنحاء البلاد، وها هي عرائض تأييدها ونصرها تملأ دفاترها وسجلاتها, ولا يعلم غيرنا طريقة التوقيع عليها. وعدتنا الوزارة بالنزول على رأينا في مبدأ تأليفها فلم تفعل، فاقترحنا عليها إشراك وفدنا معنا في العمل فاعتذرت، فطلبنا منها التخلي عن مركزها فأبت، فسألناها عقد الجمعية الوطنية لأخذ رأيها في اختيار المفاوضين الرسميين فامتنعت، فسألناها أن تذهب للمفاوضة باسمها لا باسمنا وألا تجعل ثقتنا بها أساس مفاوضتها فرفضت. لقد سدت السبل علينا جميعها، وانقطع الرجاء بنا، ولم يبق بين أيدينا إلا رجاء واحد هو أن نمد يد الضراعة إلى إخواننا الخارجين علينا من أعضاء الوفد وغيرهم, قائلين لهم: الرحمة الرحمة أيها الأصدقاء بأنفسكم وبأمتكم, فنحن جميعا أبناء وطن واحد, تقلنا أرض واحدة وتظلنا سماء واحدة, فعودوا إلى صفوفنا وضعوا أيديكم في أيدينا, فلا سبيل لعدونا أن ينال منا قلامة ظفر إن أنتم عدتم إلينا، ولا يوجد

شيء في العالم كله يحول بينه وبين إهلاكنا جميعا إن بقيتم خارجين علينا. تعالوا إلينا لنسعد معا إن قدرت لنا السعادة في مستقبل حياتنا أو نشقى معا إن كانت الأخرى، بل لنعيش سعداء في كلتا الحالتين، فلا سعادة في الدنيا غير سعادة الحب والسلام، ولا شقاء غير شقاء الانقسام والانشقاق. إننا لا نتهمكم بخيانة ولا ممالأة؛ لأن الدم المصري لا يحمل بين كراته كرة اللؤم والغدر, ولكنا نعتقد أنكم مخدوعون وأنكم ما أتيتم من ناحية الخيانة والممالأة بل من ناحية السذاجة والبساطة وضعف القلب وغرارة النفس والثقة العمياء بوعود أولئك القوم الذين ما صدقوا في وعد من وعودهم مرة واحدة، ولا عجزوا عن أن يجدوا من يصدقهم في كل مرة يكذبون فيها، فالوعود سلعتهم التي يتجرون فيها، والخلف ربحهم الذي يربحونه منها. ولو أنكم روأتم في الأمر قليلا ونظرتم إلى المسألة بعيونكم لا بعيونهم, لعلمتم أن لا استقلال هناك ولا شبه استقلال ولا شيء مما يعدوننا به ويمنوننا، وكل ما في الأمر أنهم يريدون وضع الحماية الرومانية موضع الحماية الإنجليزية، وهي التي كان يبسطها الرومان

في تاريخهم القديم على الأمم الضعيفة باسم المحالفة والمعاهدة، أي: إنهم يريدون أن نصدق لهم على الحماية التي بسطوها علينا في سنة 1914 بعد أن عجزوا عن ذلك سبعة أعوام، ونحن لا نريد أن يكون حظنا معهم حظ ذلك الرجل الذي انتزع منه بعض المغتصبين آنية فضية فذهب إليه ليستردها منه, وهدده برفع أمره إلى الشرطة إن لم يفعل، فقال له: لا أعطيك إياها حتى تكتب لي صكا بأن الآنية هدية منك إلي حتى آمن غدرك بي فيما بعد، فكتب له الصك الذي أراد وأعطاه إياه، فاحتفظ بالصك ولم يعطه الآنية. تعالوا أيها الأصدقاء إلى صفوفنا, ولا تصدقوا أن أعداءنا يعطوننا متفرقين ما يعطوننا مجتمعين، فإن كان لا بد لنا من أن نستمر في مفاوضتهم وكان قد بقي لنا شيء من الأمل فيهم فلنذهب إليهم جميعا صفا واحدا تحت قيادة قائد واحد نلقي إليه قيادنا، ونمنحه نصرنا وتأييدنا، فإن نجحنا فذاك، وإلا فحسبنا من الفخر والشرف أننا أول أمة شرقية قد نجت من حبائل المستعمرين, ومكائدهم. سيكتب التاريخ صفحاته غدا, والتاريخ لا يجامل ولا يحابي ولا يقبل هوادة ولا عذرا, ولا يصدق كلمة واحدة من هذه

الكلمات التي تعتذرون بها اليوم عن أنفسكم، ولا يستطيع أن يكتب إلا أن الأمة المصرية كانت يدا واحدة وقوة واحدة، ولم يكن بينها وبين نجاحها في قضيتها إلا أيام قلائل فخرجتم من صفوفها فانتقض عليها أمرها وأفلت النصر من يدها، فاحذروا أن يكتب التاريخ عنكم هذه الكلمة المخزية، واتقوا يوما يفتح فيه أولادكم وأحفادكم هذه الصحيفة السوداء من تاريخكم فيطرقون حياء وخجلا حينما يرون أن هذه الأسماء التي يقرءونها إنما هي أسماء آبائهم وأجدادهم.

إلى خصوم سعد باشا

إلى خصوم سعد باشا: 1- سعد باشا خصم السياسة الإنجليزية في مصر وعدوها الألد ما في ذلك شك ولا ريب، فجميع خصومه السياسيين من المصريين أصدقاء لتلك السياسة وأعوان لها على أمتهم. هذا الذي أستطيع أن أفهمه ويفهمه الناس جميعا، ولا فرق عندي بين أن توضع في عنقي جامعة أقاد بها إلى دار المارستان لأقضي فيها بقية أيام حياتي, وبين أن أفهم غير ذلك. فاشتموا يا خصوم سعد سعدا ما شئتم، وتفننوا في النيل من كرامته ما أردتم، فلا معنى لذلك عندنا إلا أنكم آلة صماء في يد السياسة الإنجليزية، تتولون بالنيابة عنها زحزحة العقبة الكبرى التي تعترض طريقها وتعرقل مساعيها، وتقف سدا حائلا دون تنفيذ تلك الفكرة الجهنمية الهائلة، فكرة تسجيل الحماية الإنجليزية على مصر، واحلفوا بالله جهد أيمانكم أنكم وطنيون مخلصون ما خلق الله بين أرضه وسمائه خلقا أطهر قلبا ولا أنقى سريرة ولا أنبل مقصدا منكم، وأنكم لا تريدون بما تفعلون إلا خير الوطن وأهله، وهناء الأمة وسعادتها، فليس

بمغنٍ عنكم عندنا شيئا؛ لأن الوطني لا يحارب الوطني ولا يبتغي له الغوائل، ولا ينصب الحبائل لهدمه وإسقاطه. دعوى الوطنية كلمة بسيطة تصدر من الفم بسهولة، كما يتنفس المتنفس ويتنهد المتنهد، وقد نطق بها جميع الناس في مصر حتى "سكينة" مجرمة الإسكندرية، فقد زعمت أنها إنما كانت تخدم الوطن بقتل النساء العاهرات ليعتبر بمصرعهنّ الحرائر الشريفات, فلا يسقطن في مثل ما سقطن فيه، فهي دعوى محتاجة دائما إلى برهان، وبرهانها الوحيد الذي نستطيع أن نتعقله بلا تكلف ولا تعمل ولا فلسفة ولا حذلقة هو مجافاة السياسة الإنجليزية والانحراف عنها والتجهم لها وسلوك كل طريق غير طريقها، وما دمتم متفقين معها في اعتبار سعد باشا خصما سياسيا خطرا يجب هدمه وإسقاطه, فأنتم أعوانها وأنصارها ومحال أن تكونوا أعواننا وأنصارنا. السياسة الإنجليزية تخنق الحرية السياسية في مصر, وتضرب على أيدي الكاتبين وألسنة الناطقين وعقول المفكرين، وتأبى إلا أن تسوق الناس جميعا في طريق السياسة التي ترضاها لنفسها، وسعد باشا يحتج كل يوم على ذلك ويصرخ الصرخات المزعجات التي ترتجف

لها جوانب الأرض وتهتز لها أركان السماء، وأنتم سكوت صامتون، لا تحتجون ولا تغضبون، فهو الوطني المخلص من دونكم. بيننا وبينكم أمر واحد إن أنتم فعلتموه نلتم ما شئتم من حبنا ورضانا وإكرامنا وإجلالنا، ونزلتم من نفوسنا المنزلة التي ينزلها الوطنيون المخلصون، هو أن تعقدوا اجتماعا عاما تكتبون فيه احتجاجا شديد اللهجة إلى الحكومة الإنجليزية على بقاء الأحكام العرفية في مصر حتى اليوم، وعلى القوانين الاستثنائية وقانون المطبوعات، وتقييد حرية الخطابة والكتابة، ومنع المظاهرات السلمية والاجتماعات السياسية، واعتبار الوطنية جريمة تعاقب عليها المحاكم العسكرية والنظامية، ثم تختمون احتجاجكم بهذه الكلمة: "إنا لا نقبل مفاوضة سياسية تجري بين فريقين؛ أحدهما سجين في سجن مظلم ضيق لا يستطيع التنفس فيه ولا الحركة، والآخر سجان قاسٍ مستبد يجرد على رأسه سيف القوة والقهر, ويملي عليه ما يريد ويشتهي". هذا هو البرهان الوحيد الذي تستطيعون أن تقنعونا من طريقه بوطنيتكم وإخلاصكم لأمتكم ووطنكم، وأنكم قوم أحرار أباة متشبعون بروح العدل والشرف. فإن لم تفعلوا فأذنوا لنا -ولنا العذر الواسع في ذلك-

أن نعتبركم أعداءنا وأعداء حريتنا واستقلالنا، وأن نتمسك بالإخلاص للرجل الذي يذود عنا, ويجاهد في سبيلنا, ويحارب ظالمينا. أتدرون متى نتخلى عن سعد باشا ونخذله ونرتاب في صدقه وإخلاصه؟ يوم ترضى عنه السياسة الإنجليزية، وتذود عنه الصحف الإنجليزية, وتثني عليه الدوائر الإنجليزية، وتدافع عنه القوة الإنجليزية، وتستحيل نفسه إلى نفس إنجليزية يحس بإحساسها ويشعر بشعورها، ويتحرك بحركتها، ويسكن بسكونها، ويوم تضمه الحكومة الإنجليزية إلى صدرها، وتحنو عليه حنو الوالدة المشفقة على طفلها الصغير، معتقدة أن حياتها في حياته، وموتها في موته، وما دام سعد باشا باقيا في صفوفنا لم يفارقنا ولم يتخل عنا، فمن الخبل والسفاهة وسقوط النفس أن نفارقه ونتخلى عنه، فإن عجز عن أن ينفعنا بشيء في قضيتنا فلا أقل من أن يشفي غليلنا بتنغيص ظالمينا، ولا شيء في العالم ألذ للنفوس ولا أشهى إليها من تنغيص الظالمين. ليست الفضيحة أيها القوم أن يعلم أعضاء مجلس النواب الإنجليزي أن رجال الإدارة المصرية لا إرادة لهم أمام السلطة الإنجليزية وسيطرتها كما تقولون، فليس في العالم كله لا في إنجلترا ولا في غيرها من بلاد العالم من يجهل ذلك أو يستنكره، إنما الفضيحة الكبرى

أن يعلم الناس عنا أن السياسة الإنجليزية قد استطاعت أن تضحك على ذقون فئة من عظماء المصريين ووجوههم، وتتخذ منهم عصا حديدية تضرب بها الوحدة المصرية وتمزقها، وأن جماعة من الذين كانوا يعبدون سعدا بالأمس ويقدسونه قد أصبحوا اليوم يشتمونه وينالون من كرامته لا لشيء سوى أنهم يدورون مع القوة حيث دارت، ويسيرون وراء المصلحة حيث سارت. أنتم تعلمون أن اليد الإنجليزية الخفية هي التي تدير شئون مصر السياسية والإدارية والقضائية منذ أربعين عاما، وتقهر رجال حكومتها من وزرائها إلى خفرائها على تنفيذ أوامرها والخضوع لسياستها، ولم يطرأ حتى اليوم طارئ جديد يغير هذا النظام ويبدله، ولولا ذلك ما شكونا ولا تألمنا ولا نهضنا لطلب الحرية والاستقلال، بل ولا سافرت البعثة الرسمية في المهمة التي سافرت فيها، وتعلمون أن تلك اليد القاهرة هي التي تولت أمر اغتصاب الثقة بالوزارة الحاضرة, وقهرت رجال الإدارة على الاشتراك معها فيها تمهيدا للاتفاق المنتظر الذي تريد أن تلبسه صورة الرضا والاختيار من أساسه إلى ذروته، كما هو شأنها في سياستها دائما، وكما هي قاعدتها التي تجري عليها في جميع أعمالها.

فدفاعكم عن رجال الإدارة في هذه المسألة إنما هو دفاع عن السياسة الإنجليزية نفسها وتبرئة لذمتها من سوء النية والقصد في إدارة الشئون المصرية ومساعدة لها على أن تجري في مسألة الانتخابات المقبلة للجمعية الوطنية على مثال الطريقة التي جرت عليها بالأمس في مسألة العمال المتطوعين، من حيث لا تعلق بها تهمة، ولا يتجه إليها لوم ولا عتاب، فأنتم لم تغضبوا لرجال الإدارة ولا لسمعة مصر والمصريين كما تزعمون، بل تخافون أن تفشل السياسة الإنجليزية في تنفيذ المعاهدة المنتظرة فتتخلى القوة عنكم فتصبحوا أمام الأمة وجها لوجه, وما أضمرتم بين جوانحكم من البغضاء لسعد باشا لأنه أهان رجال الإدارة أو جرح عواطفهم, بل لأنه الزعيم الوطني الوحيد الذي يستطيع أن يفسد كل سياسة خبيثة يراد بها اغتصاب رضا المصريين واستخذاؤهم لتلك الكارثة العظمى التي تسمونها استقلالا لا شك فيه، ونسميها حماية لا ريب فيها. ماذا تنقمون من سعد باشا أيها القوم، وأي جناية جناها عليكم في أنفسكم أو في أمتكم فتحملوا له بين جوانحكم هذه الموجدة وهذا البغضاء؟! ليس سعد باشا هو الذي اغتصب بلادكم واستأسر أوطانكم وأذل أعناقكم وأرغم أنوفكم وخنق الحرية السياسية

في مجامعكم العامة, ومجالسكم الخاصة فما يستطيع أن ينطق ناطق, ولا أن يكتب كاتب إلا إيماء وتعريضا. ليس سعد باشا هو الذي لعب بعقول فريق من أعضاء الوفد, وأغراهم بالانفصال عن الجامعة الوطنية والخروج عليها ليتوصل بذلك إلى تمزيق شمل الأمة وتفريق وحدتها، وليس هو الذي استثمر بدسائسه ومكائده طمع الطامعين وجبن الجبناء وغباوة الأغبياء ليستعين بهم على خراب وطنه, ودماره. ليس سعد باشا خصمكم، بل خصومكم أولئك الذين يغرونكم به ويسلطونكم عليه؛ لأنهم يعلمون أن الأمة لا تفلح بغير زعيم، وأن لا زعيم فيها يعنى عناءه ويسد مكانه، فإن ظفروا به فقد ظفروا بالأمة جميعها وحلوا العقدة التي عجزوا عن حلها أربعين عاما، فحولوا سهامكم إلى خصومكم، ووجهوا ضرباتكم إلى المرقب الذي تتساقط منه السهام عليكم. ارحموا أمتكم ولا تثيروا حفيظتها بإهانة زعيمها ونصيرها الباقي لها بعد تخلي جميع أنصارها وأعوانها عنها، ولا تنتهزوا فرصة ضعفها وعجزها فتدفعوها إلى إحدى السوءتين، إما الغضب الذي ليس من مصلحتها، وإما الذل الذي فوق طاقتها، واذكروا

كيف يكون شأنكم غدا أمام أنفسكم وأمام ضمائركم إن تمت لأعدائكم الغاية التي يرومونها من مصر على أيديكم، لا قدر الله ولا سمح، بل كيف يكون بكاؤكم وعويلكم على وطنكم وبلادكم حينما تستيقظون من رقدتكم, وتستفيقون من سكرتكم, فتعلمون أن العدو قد اقتحم البلد وأنكم أنتم الذين فتحتم له أبوابه بأيديكم.

إلى خصوم سعد باشا: 2- والله لا ندري ما هي دالتكم علينا وصنيعتكم عندنا ونعمتكم التي قلدتم بها أعناقنا فتطلبوا إلينا كل يوم في خطبكم وبياناتكم ورسائلكم وكل ما تهتف به ألسنتكم وأقلامكم أن ننفض من حول سعد باشا ونلتف من حولكم، ونخذله وننصركم، ونفارق طاعته إلى طاعتكم! لسعد باشا على الأمة ثلاث أيادٍ لا نستطيع أن ننساها مدى الدهر: أنه أسس الوحدة المصرية التي عجزت عنها القرون الثلاثة عشر الماضية، وأنه نقل الفكرة الوطنية من دور الأماني والأحلام إلى دور الجد والعمل، وأنه نشر الدعوة الوطنية في أنحاء العالم كله حتى وجدت فيه مسألة تسمى "المسألة المصرية" إن لم تتحقق فيها الآمال اليوم فغدا، فماذا قدمتم أنتم إلينا من الخدم وقلدتم به أعناقنا من المنن؟! هبونا كما تزعموننا قوما سذجا بسطاء طائشي العقول

والأحلام لا نستطيع أن نعيش بغير معبود نعبده ونخنع له، أليس من الطبيعي والمعقول أن نفضل عبادة الشمس التي نرى نورها ونشعر بحرارتها ونتمتع بضيائها على عبادة الحشرات التي لا نكاد نشعر بوجودها، ولا نرى لها فائدة في شئون حياتنا؟ من أنتم أيها القوم، وأي شأن لكم عندنا، وما هي الصلة النفسية التي تجمع بيننا وبينكم، وأين مواقفكم التي وقفتموها في خدمة قضيتنا، وأين صحائفكم التي شغلتموها من تاريخ بلادنا، وما الذي يغرنا بكم ويبهرنا من شئونكم لنعبدكم ونستسلم إليكم ونضع في أيديكم قيادنا وقياد حاضرنا ومستقبلنا؟ إنا نعرفكم جميعا بأشخاصكم وأعيانكم, ونعرف جميع ميولكم وأهوائكم والجهة التي تتجهون إليها دائما في شئون حياتكم، والسياسة التي تظاهرونها وتمالئونها مذ برزتم إلى الوجود حتى اليوم، ونعرف أنكم ذلك الفريق الذي يعثر به المستعمر دائما في كل أمة يريد القضاء عليها فيستعين به على أغراضه ومآربه لا أكثر من ذلك ولا أقل، فكيف تطمعون في أن نتخذكم زعماء لنا في سياستنا، بل كيف تطمعون في أن نعدكم مصريين تشتركون معنا في شعورنا وإحساسنا.

سعد باشا يبني الوحدة الوطنية وأنتم تهدمونها، سعد باشا يحارب خصومنا ويناوئهم وأنتم توالونهم وتظاهرونهم، سعد باشا يبكي دما يوم يستشهد شهيد منا في سبيل وطنه وأنتم تشمتون به وتفرحون وتقولون: هذا جزاء المخاطرة والمجازفة، سعد باشا يثير الثائرة كل يوم على الأحكام العرفية والقوانين الاستثنائية وأنتم ترضون عنها, بل تؤيدونها, بل تشتركون في وضع موادها، سعد باشا يريد أن تتطهر الإدارة المصرية من رذائل الكذب والنفاق والظلم والإرهاق وأنتم تغرونها بارتكاب هذه الرذائل جميعها وتمالئونها عليها وتغضبون وتصخبون كلما شعرتم أن يدا من الأيدي تحاول زحزحة الستار عنها، سعد باشا يصيح في جميع مواقفه ومشاهده يجب أن يكون الشعب حرا مطلقا يختار لنفسه السياسة التي يريدها وأنتم تصيحون يجب أن يساق الشعب إلى السياسة التي تراد منه؛ لأنه شعب جاهل منحط لا يفهم مصلحته ولا يستطيع تقديرها، سعد باشا يصادق الأحرار من أعضاء مجلس النواب الإنجليزي ليستعين بهم على حكومتهم الاستعمارية وأنتم تصادقون أعضاء تلك الحكومة أنفسهم لتستعينوا بهم على استعباد أمتكم وإرهاقها، سعد باشا يربي الأمة على الفضيلة وشرف الخلق ويبث فيها روح الهمة والعزيمة والأنفة والصدق

والصراحة والشرف والإباء, وأنتم تفسدون أخلاقهم وتمزقون أديم آدابها, وتطلبون من القاضي أن يحكم بغير ما يعتقد, ومن الشاهد أن يشهد بغير ما يعلم, ومن الفقيه أن يفتي بما يخالف أحكام دينه وقواعده, ومن الموظف أن يعتمد في رقيه وتقدمه على المداهنة والمداجاة لا على الكفاءة والعمل, ومن التلميذ أن يطرق إلى نجاحه في الامتحان باب "التأييد" والتوقيع لا باب الجد والاجتهاد، ومن الفلاح أن يبيع ذمته وضميره برتبة أو لقب أو قضاء مصلحة مالية, ومن الكاتب أن يحول قلمه الذي وضعته الأمة في يده ليدافع به عنها ويذود عن مصلحتها إلى سهم رائش مسموم يصيب به صميم قلبها، ومن الأمة كلها أن تتجرد من شخصيتها وهويتها وتتحول إلى قطيع من الأغنام يسير به كل راعٍ في الطريق التي يريدها. سعد باشا يقول فيصدق وما عرفنا له كذبة قط مذ عرفناه واتصلنا به حتى اليوم، وأنتم تطلعون علينا كل يوم بأكذوبة جديدة لا ينتهي العجب منها حتى تتبعها أختها, حتى سقطتم من أعيننا سقطة لم تسقطها طائفة من قبلكم، وحتى قال عنكم بعض أصحاب الرأي من الشيوخ المحنكين: إنكم قد أفسدتم

من أخلاق الأمة في بضعة شهور فوق ما أفسد الاحتلال الإنجليزي منها في أربعين عاما. فهل من أجل هذا ننفض من حول سعد باشا ونلتف من حولكم، ونخذله وننصركم، وننزع عن رأسه تاج الزعامة لنضعه فوق رءوسكم؟! إنكم إذن تريدون أن تقرروا أن أرض مصر قد استحالت إلى دار مارستان كبرى يعيش فيها أربعة عشر مليونا من المخبولين, وأن تشهدوا العالم كله على أننا أمة بلهاء ممرورة لا تستحق استقلالا كاملا ولا ناقصا, بل لا تستحق البقاء في هذا الوجود. ليس لنا أيها القوم زعيم نعبده ونخنع له غير المبدأ، وما ولينا سعدا باشا زعامتنا إلا لأنه ينزل على إرادتنا، وإرادتنا أن لا ينزل على إرادتكم، ولا يأخذ برأيكم، ولا يسير في أي طريق يعلم أنكم تسيرون فيها، وما دام هذا شأنه فمحال أن نغدر به ونخفر ذمته، ومحال أن نخلي بينكم وبينه ونسمح لكم بشفاء غليلكم منه ونحن شهود نسمع ونرى. عجبا لكم, فيكم العالم والمستنير والفيلسوف والكهل المجرب والشيخ المحنك, فكيف فاتكم جميعا أن تفهموا أن للطبيعة سنة

لا يمكن تحويلها ولا تبديلها، وأن تحويل أمة مستنيرة ذكية عددها أربعة عشر مليونا من الحياة إلى الموت في بضعة شهور ليس بالأمر السهل الهين، وأن نقل الزعامة من يد إلى يد ليس من الأشياء الخاضعة لقانون الحول والقوة, بل لقانون الانتخاب الطبيعي الذي تخضع له الجمعية البشرية منذ أشرقت عليها شمس الحياة حتى اليوم، وأن توجيه النفس الإنسانية من شعور إلى ضده لا يأتي من طريق القوة والقهر, بل من طريق الحجة والإقناع أو من طريق الاستدراج والاستهواء على الأقل. ما أشد غروركم بأنفسكم أيها القوم! وما أشد احتقاركم لأمتكم! أما غروركم بأنفسكم فلأنكم ظننتم أنكم بإلقاء بعض الخطب وكتابة بعض الرسائل وتدبير بعض المكائد وإنفاق بعض الأموال تستطيعون تحويل الأمة المصرية بأجمعها من حب سعد إلى بغضه، ومن الثقة به إلى الثقة بغيره، ومن التمسك والتشدد في المطالب الوطنية إلى القناعة والتهاون فيها، ومن سوء الظن بالسياسة الإنجليزية إلى حسن الظن بها، ومن السخط على مشروع ملنر إلى الرضا عنه والاغتباط به، بدون استناد إلى حجة ولا برهان، كأن ما تفضون به إلى الناس آيات منزلة لا يأتيها الباطل من بين

يديها ولا من خلفها، وما طمع صاحب الآيات المنزلة نفسه -جل جلاله- أن يؤمن الناس بآياته ويذعنوا لها دون أن يدعمها بالحجة والبرهان، وأما احتقاركم لأمتكم فهو اعتقادكم أنها أمة بسيطة ساذجة تأتي بها كلمة وتذهب بها كلمة وتعلو بها فكرة وتهبط بها أخرى، وكأنما أنتم تقولون في أنفسكم: إن الروح الوطنية التي تختلج في صدرها إنما هي روح صناعية غرستها الحوادث والظروف, فلم لا تنتزعها الحوادث والظروف، وإن الوحدة الوطنية التي تربط بين أجزائها إنما هي وحدة كاذبة موهومة فلم لا نبددها ونمزق شملها، وإن المنزلة التي نالها سعد باشا فيها إنما نالها بالسفسطة والثرثرة فلم لا نسلط عليها السفسطة والثرثرة لتذهبا بها، وما دام هذا مقدار عقلها وتصورها فمن السهل علينا أن نعدها بأننا نحن الذين سننيلها جميع آمالها ومطالبها لتطمئن إلينا حتى إذا حان وقت الوفاء بوعدنا قدمنا لها القيد الحديدي الذي أعددناه لها, وسميناه خلخالا ذهبيا فتصدق وتغتبط وتستطير فرحا وسرورا. إن كان هذا هو ما تضمرون في أنفسكم, وما أحسبكم تضمرون غيره, فوالله ما احتقر أحد في العالم هذه الأمة احتقاركم لها ولا رأى شعب من الشعوب فيها حتى الشعب الذي

يستعبدها ويستذلها هذا الرأي الذي ترونه، واسمحوا لي أن أقول لكم بعد ذلك: إنه ما دامت أفكاركم وآراؤكم في المجتمع وشئونه والأمم وطبائعها والنفوس ومشاعرها لا يمكن أن تتجاوز هذا القدر الذي وصلت إليه, فليس بينكم رجل واحد يستطيع أن يكون زعيما لأمة أو زعيما لقرية أو زعيما لنفسه.

إلى خصوم سعد باشا: 3- إن كنتم تريدون أن تجردوا سيف القوة والقهر على رءوسنا لتستلوا من بين أشداقنا كلمات الحمد لكم والثناء عليكم, والاعتراف بأنكم أصدق الناس وطنية وأشدهم إخلاصا وأعدلهم حكما وأسدهم رأيا وأبعدهم نظرا, وأنكم خير من يتولى قيادة المسألة المصرية حتى يبلغ بها الغاية المرجوة لها, فلكم ما شئتم وفوق ما شئتم، ولا عار علينا في ذلك؛ ففينا الضعيف والعاجز والمضطر وصاحب الحاجة، ومن قبلكم عالجت محكمة التفتيش في أسبانيا من أهليها مثل ما تعالجون منا اليوم فنطق الموحد بكلمة التثليث، ولبس صاحب العمامة القلنسوة، وعلق حامل المصحف الصليب، ومن قبل ذلك أرغم كثير من أمراء الإسلام العلماء والفقهاء على اتباع المذاهب والنحل التي ينتحلونها, فلم يجدوا بدا من الإذعان لهم والنزول على حكمهم، غير أن لنا عندكم رجاء واحدا لا نضرع إليكم في شيء سواه، وهو أن تعترفوا بالطريقة التي حملتمونا بها على الإذعان والتسليم وألا تكذبوا علينا فتنشروا

في الناس أنكم أقنعتمونا فاقتنعنا، وأقمتم لنا الحجة فسلمنا، وأننا آمنا بكم طائعين مختارين، فتلك النكبة العظمى والرزيئة الكبرى التي لا قبل لنا باحتمالها، وخير لنا أن يتحدث الناس عنا أننا ضعفنا وجبنا بين أيديكم فلم نستطع إلا النزول على حكمكم, والتسليم لكم بما تريدون من أن يقولوا عنا: إننا انخدعنا بكم, وصدقنا أكاذيبكم. لا نطيق أن يتحدث الناس عنا أننا صدقنا أن أصدقاء الحماية بالأمس أعداؤها اليوم، وأن الذين أغمدوا في صدورنا تلك الخناجر المسمومة قد تحولوا اليوم إلى أطباء راحمين يحاولون انتزاعها منا، وأن الفارين من صفوف الجيش الوطني إلى صفوف جيش العدو ليحاربونا معه ويعينوه علينا وطنيون مخلصون، وأن الذين يرمون الأمة بالجهل والغباوة والانقياد إلى زعمائها انقياد القطيع لراعيه بلا تصور ولا إدراك أصدقاء لها, يعطفون عليها ويتمنون لها الخير والسعادة، وأن اتفاق السياستين سياسة الحكومة المصرية وسياسة الحكومة الإنجليزية في الأقوال والأفعال والشعور والإحساس والميول والرغبات والأساليب والتصورات من باب توارد الخواطر

ووقوع الحافر على الحافر كما يقول البلاغيون، وأن الديموقراطية الصحيحة هي أن تخضع أكثرية الأمة العظمى لأقليتها الضئيلة المتهالكة, فإن لم تفعل فهي المنقسمة والمنشقة والمنحرفة عن سواء السبيل، وأن الزعيم الوطني يجب أن يكون رجلا مجردا من صفات البطولة والنبوغ والشخصية القوية والذكاء الخارق ليصلح لزعامة الأمة وقيادتها، وأنه كان من الواجب على سعد باشا كلما برز إليه رجل من الرجال وقال له: تنح لي عن زعامة الأمة وقيادتها لأتولاها من دونك وأمدني فوق ذلك بقوتك ونفوذك وثقتك لأستطيع أن أنزل من نفوس الأمة المنزلة التي تنزلها, وأتمتع بحبها واحترامها بدلا منك وجب عليه أن يفعل ذلك, فإن أبى فهو مستبدّ جبار لا تقع تبعة انقسام الأمة وتفرقها إلا على رأسه ولا يؤخذ بها أحد سواه، وأن المفاوض الذي لا يمثل إلا فئة قليلة من الشعب لا تجرؤ أن ترفع صوتها إلا بين جدران الحصون وتحت ظلال السيوف أعظم قوة وأكبر نفوذا وأثبت قدما وأقدر على استنزال مفاوضه على حكمه من الزعيم الذي يمثل أربعة عشر مليونا يغضبون لغضبه ويرضون لرضاه، وأن المستر سوان وزملاءه القائلين بنظرية استقلال الأمة وحريتها وحقها المطلق في تقرير مصيرها قوم استعماريون محافظون, تجب مقاطعتهم ومجافاتهم وطردهم

وإهانتهم، وأن اللورد ملنر منظم الحماية الإنجليزية في مصر ومسجلها عليها رجل حر شريف متسامح تجب مواصلته ومفاوضته والحفاوة به، وأن وفود جماعة من أعضاء مجلس النواب الإنجليزي إلى مصر كما يفد إليها السياح الأوروبيون في كل يوم للاطلاع على الحالة السياسية العامة فيها تداخل في شئوننا الداخلية يجب الغضب له والأنفة منه، أما صدور أمر من السلطة العسكرية الإنجليزية بمنع رجل مصري صميم من الانتقال من بلد إلى بلد فهو سائغ مقبول لا رائحة فيه للتداخل مطلقا, ولا خطر منه على استقلال الإدارة المصرية وحريتها، وأن الواجب علينا أن نصبر ونتريث وأن لا نسيء الظن بأعدائنا قبل أن نرى منهم عين الغدر، وأن نسمح لهم بالزحف علينا، ثم باجتياز العقبات التي تعترضهم في طريقهم إلينا, ثم باحتلال القلاع والحصون المشرفة علينا، ثم بتوجيه فوهات مدافعهم إلى منازلنا وبيوتنا، فإذا شرعوا في إلقاء القنابل وقذفها علمنا أنهم يريدون السوء بنا فحاربناهم وقاومناهم، وأن سعدا باشا زعيم الأمة ورئيسها المفدى وموضوع حبها واحترامها وإجلالها وإعظامها ظمآن إلى الرئاسة يتلهف شوقا إليها ويتهالك وجدا عليها، أما عدلي باشا فهو رجل زاهد فيها قالٍ لها ما يحتمل أن يشاك شوكة في سبيلها.

لا نطيق أن يتحدث الناس عنا أننا صدقناكم في شيء من هذا كله, ولو أننا فعلنا لوضعنا في أيديكم مستندا قويا هو أقوى في دلالته على غباوتنا وجهلنا من جميع المستندات التي جمعتموها حتى اليوم لتكون في يد السياسة الإنجليزية أسلحة تحتج بها علينا, وتدفع بها في صدور الذين يزعمون أننا أمة عاقلة رشيدة, نستطيع أن نحكم أنفسنا بأنفسنا. اصنعوا بنا ما شئتم، وافتنوا في ظلمنا وإرهاقنا ما أردتم، وخذوا من عرائض الثقة والتأييد ما تملئون به غرف وزارة الخارجية الإنجليزية من أرضها إلى سمائها، فتلك إرادة الله التي لا محيص عنها، ولكن إياكم أن تزعموا أننا أعطيناكم من قلوبنا ما أعطيناكم من ألسنتنا، فذلك ما نغضب له كل الغضب وما يملأ صدورنا غيظا وحنقا. نقسم لكم بالله أننا ما رأينا في حياتنا ولا في تاريخنا الحاضر أو الغابر أطمع ولا أشره منكم! ألم يكفكم مساعدة الدهر لكم ونزوله على حكمكم, وأن القوة الحربية من ورائكم تمدكم بكل ما تقترحون من سلاح وعدة، وأن في استطاعتكم متى شئتم أن تقهرونا على كل ما تريدون دون أن يحاسبكم عليه محاسب أو يراقبكم مراقب حتى أردتم أن تجمعوا إلى متعة الظلم الوحشي الذي تنعمون به متعة السمعة الحسنة, والذكرى الطيبة!

تريدون أن تظلموا فيسمي الناس ظلمكم عدلا، وأن تقتلوا فيقبّل المقتول أيديكم اعترافا بفضلكم، وأن تختلسوا الثقة من الناس اختلاسا فيشكر لكم هؤلاء الناس تفضلكم بقبول الهدية التي قدموها إليكم، وأن تضعوا الأغلال الثقيلة في عنق الأمة فترقص فرحا وسرورا بالعقود اللؤلؤية الجميلة التي قلدتم بها جيدها، وأن تملئوا الجو هواء ثقيلا خانقا فيستنشقه الناس هواء طلقا عليلا، وأن تضعوا على قرص الشمس حجابا كثيفا حتى ما ينبعث منها شعاع واحد, فيبتهج الناظرون بمنظر نورها المتلألئ الساطع. لقد رمتم مراما لم يرمه أحد من قبلكم، وبلغتم في الأنانية والذاتية الغاية التي لا غاية وراءها، فآه لو استطعتم أن تفهموا وتيسر لكم أن تعلموا أن المستحيل لا يمكن أن يكون ممكنا, والممكن لا يمكن أن يكون مستحيلا, وألا وجود لشيء في العالم غير الحقيقة المجردة! آه لو فهمتم أن هذه الأمة التي تحتقرونها وتزدرونها وتصفونها بالجهل والغباوة والغرارة والبساطة أمة عظيمة جدا لا مثيل لها بين الأمم في سلامة فطرتها وذكاء قلبها ودقة شعورها وإحساسها وسمو خصائصها ومزاياها, وأن عيبها الوحيد الذي لا عيب فيها سواه

أنكم من أبنائها وسلائلها وأنكم العقبة الكئود التي لا تزال تعثر بها كلما حاولت المضي في طريقها والسعي إلى الغاية التي هيأتها الأقدار لها، ولولاكم ولولا أنكم اليد التي يضربها العدو بها والقنطرة التي يجتازها إليها لما استطاع أن يلمس شعرة من رأسها, ولا أن يخطو خطوة في أرضها, فمتى نفرغ منكم! ومتى يحكم الله بيننا وبينكم! لا عذر لكم بعد اليوم، فقد قلتم كل شيء وفعلتم كل شيء، واستنفدتم جميع ما وهبكم الله من القوى العقلية والمادية ستة شهور كاملة في سبيل إسقاط سعد باشا فلم تسقطوه, وفي حمل الأمة على التهاون في حقها فلم تستطيعوا، فماذا تنتظرون؟ أمصممون أنتم على الاستمرار في خطتكم هذه إلى النهاية؟ أعازمون على أن تعتبروا الأمة كمية مهملة لا حساب لها، وأن تؤلفوا من هذه الفئة البسيطة المسكينة جمعية وطنية تزعمون أنها الأمة بأجمعها لتصدق لكم على المشروع الإنجليزي المنتظر؟ إن كان هذا هو ما تريدون وما أحسبكم تريدون غير هذا, فاعلموا أن للأمة شأنها المستقل عن شأنكم وشأن مشروعكم وجمعيتكم، وأن ما تعملونه لا ينفعكم ولا ينفع أصدقاءكم، ولا يغني عنكم ولا عنهم شيئا.

إلى خصوم سعد باشا: 4- أتدرون ماذا فعلتم بالأمس في أسيوط وماذا كنتم تريدون أن تفعلوا في كل بلد ينزله سعد باشا في رحلته لو وجدتم إلى ذلك سبيلا؟ إنكم قد وقعتم بأنفسكم على صك اعترافكم بعجزكم وقصوركم وفراغ أيديكم من كل حول وقوة، وإن هذا منتهى ما في وسعكم وكل ما تملك أيمانكم. أبعد ستة شهور كاملة تكتبون وتخطبون وتدسون وتكيدون وتلفقون وتكذبون وتصادرون حرية الألسنة والأقلام والنظر والتفكير، وتنثرون ذهب المعز، وتجردون سيفه في كل بقعة وأرض؛ لتكوين حزب سياسي عظيم يعضد الإنجليز في سياستهم، ويعين الوزارة على البقاء في مركزها، ويقارع حزب سعد باشا مقارعة البطل للبطل، ينكشف الستار عنكم،

فإذا أنتم رؤساء عصابات، وإذا الحزب الذي كونتموه فئة من اللصوص المجرمين حملة الهراوات والنبابيت، وسكان الأحراش والغابات، يستطيع كل إنسان يأمن جانب الحكومة ويملأ يده منها وإن كان أجبن الجبناء، وأضعف الضعفاء، أن يستعين بمثلهم على مثل ما استعنتم بهم عليه؟ أهذا هو الحزب السياسي العظيم الذي هيأتموه للفصل في القضية المصرية، ورشحتموه لعضوية الجمعية الوطنية التي تتولى البتّ في حاضر مصر ومستقبلها؟ أهذا هو الحزب المفكر العامل الذي يمشي إلى أغراضه السياسية بخطوات هادئة رزينة يعجز عن مثلها الجمهور الأهوج المستطار, الذي تنعون عليه كل يوم طيشه وخفته وجهله ورعونته؟ أما إني لو كنت مكان رئيس الوزارة الذي تزعمون أنكم حماته ودعاته، وأنصار سياسته، وعماد وزارته، لأحسنت تأديبكم على غشكم إياي وخديعتكم لي، حينما زعمتم أنكم رؤساء مطاعون في عشائركم وقبائلكم، وأن في استطاعتكم تكوين حزب سياسي قوي يغمر بقوته وعظمته ونبله وشرفه حزب "الرعاع" الذي كونه سعد باشا, فإذا أنتم لا شيء، وإذا الحزب

الشريف النبيل الذي كونتموه وسميتموه باسمي، ونسبتموه لي، جماعة من قطاع الطرق يترفع عن الاتصال بهم عمدة قرية صغيرة، فضلا عن رئيس حكومة عظيمة! ما هكذا تساق الأمم أيها البلهاء، ولا هكذا تقاد الشعوب، ولا بمثل هذه الأساليب توجه الأفكار إلى الخطط السياسية، وما سمعنا قط إلا في عرفكم واصطلاحكم أن النبابيت والعصي والخناجر والبنادق وسيلة من وسائل التأثير والإقناع! حاربوا الرجل بالألسنة والأقلام كما يحاربكم، وقارعوه بالحجة والبرهان كما يقارعكم، وحاجوه بالصراحة والصدق والنبل والشرف كما يحاجّكم، فإن أمكنكم ذلك فذاك، وإلا فلا تلجئوا إلى الضربة الخائنة الغادرة التي يلجأ إليها المبارز الجبان حينما يعجز عن الثبات أمام خصمه، ويشعر بتفوقه عليه. ما أقساكم وما أغلظ أكبادكم! أمن أجل تقديم مستند بسيط للسياسة الإنجليزية تعتمد عليه في إثبات أن الرجل الذي يفاوضونه اليوم يمثل الأمة المصرية أو أكثريتها، وأن الاتفاق

الذي يعقدونه معه كيفما كان شأنه اتفاق سائغ مشروع, ومن أجل أن يتيسر لوكيل وزارة الخارجية الإنجليزية أن يصرح في مجلس النواب بوجود فتنة في مصر بين حزب زغلول باشا وحزب الحكومة تسفكون دماء أبناء وطنكم, وتقترفون أكبر جريمة تعاقب عليها الشرائع السماوية والأرضية، وتلبسون أنفسكم وأبناءكم وذراريكم العار الذي لا يبلى أبد الدهر! أليس لكم أولاد تخافون أن ينتقم الله منكم فيهم, ونساء تخشون أن يذرفن الدموع غدا على فلذات أكبادهن بما أذرفتم من دموع أولئك الثكالى المساكين اللواتي فجعتموهن في أولادهن وفلذات أكبادهن؟! أين هم أولئك العدليون الذين تتحدثون عنهم وتحاولون إقناع السياسة الإنجليزية بوجودهم؟ وفي أي أرض يقطنون وتحت أي سماء يعيشون؟! أمن أجل بضع شراذم من الضعفاء المخدوعين، وآخرين من المتملقين المداهنين الذين يوجد مثلهم في كل أمة وشعب, والذين يطيرون مع القوة حيث طارت ويقعون معها حيث وقعت ويعضدون كل حكومة حتى حكومة نيرون, تزعمون أن الأمة منقسمة على نفسها, وأنها فريقان: سعديون وعدليون؟!

لم يتكون حزب سياسي في مصر لعدلي باشا والناس لا يعرفون من أمر الرجل شيئا سوى أن السياسة الإنجليزية اختارته لرئاسة الوزارة والمفاوضة في المسألة المصرية، فإن ذكر ذاكر منهم شيئا من ماضيه لا يذكر له سوى أنه كان عضوا مهما في وزارة الحماية التي ضربت على مصر في سنة 1914, وأنه أول رجل ثغر في جنح الظلام ذلك السد المتين الذي أقامته مصر لمقاطعة لجنة ملنر، وأنه أول رئيس وزارة اجترأت على مفاوضة الإنجليز في المسألة المصرية رغم إرادة الأمة, وإرادة وكلائها. لِمَ يتكون حزب سياسي لعدلي باشا يتشيع له ويحتد في مناصرته وتأييده ويحمل النبابيت والعصي لمحاربة خصومه قبل أن يحرك يدا أو لسانا في القضية المصرية, وقبل أن يعلم الناس ما هو صانع فيها غدا, أيفي بالوعد الذي وعدهم إياه أم تحول الحوائل بينه وبين الوفاء؟ وهل الثقة إلا نتيجة طبيعية للعمل والإحسان فيه؟ لِمَ يتنكر الناس لسعد باشا ويتحولون من مسالمين له إلى محاربين؟ هل خان الأمانة التي عهدوا بها إليه؟ أم قصر في المطالبة بحقهم، والتعبير عن آمالهم وأمانيهم، أم وعدهم بالنزول على

رغبتهم فقادهم بالسيف والنار إلى النزول على رغبته, أم حول الحرب التي كانت بينهم وبين أعدائهم إلى حرب بينهم وبين أنفسهم؟ أم وضع الكمائم في أفواههم فلا ينطقون، والأغلال في أيديهم فلا يتحركون، أم نغص عليهم حياتهم الاجتماعية، وحول ابتساماتهم إلى دموع، ومسراتهم إلى أحزان وآلام، وآمالهم في الحياة السعيدة إلى يأس وكمد؟ ألم يصدروا قرارهم الإجماعي في أمره يوم احتفلوا بقدومه من أوروبا احتفالا لم يظفر به ملك متوج ولا فاتح كبير، فأي الأحداث أحدث بعد ذلك فيتنكروا له، ويضمروا له البغضاء بين جوانحهم؟ ألم يزل يهتف بالاستقلال التام لبلاده كما كان يهتف به من قبل؟ ألم يزل يقارع الأعداء الغاصبين في حاضره, كما كان يقارعهم في ماضيه؟ ألم يحاولوا خداعه والعبث بضميره واستنزاله عن صلابته وعناده في التمسك بحقوق بلاده, فلم يغتر ولم ينخدع, وآثر أن يستهدف لهذه الحرب الهائلة التي يثيرها عليه أعداؤه وأنصار أعدائه من بني وطنه على أن يفرط في ذرة واحدة من حقوق الوطن المقدسة؟

ألم يكن في استطاعته أن يقبل رئاسة الوزارة حينما عرضوها عليه ليتمتع برؤية رجال الإدارة الذين يتنافسون اليوم في الإساءة إليه, والنيل من كرامته وهم وقوف على بابه يتلقون أوامره, ويطيرون بها في كل مشرق ومغرب, فلم يفعل وفضل أن يكون فردا من أفراد أمته واقفا بجانبها, يتلقى معها اضطهادات الحكومة ونكاياتها, ويشرب معها بالكأس التي تشرب منها على أن يكون آلة في يد السياسة الإنجليزية لقتلها وخنق حريتها؟ أمن أجل هذا يبغضه الناس ويتنكرون له, ولا يقنعون منه بذلك دون أن يحملوا له الهراوات والعصي ليمنعوه من النزول ببلادهم؟ هل تنازلوا عن مطالبهم الوطنية ونفضوا أيديهم منها, فهم ينكرون عليه تمسكه بها وتشدده فيها؟ هل صفت مياه الود بينهم وبين الإنجليز، وحل الحب والوئام بينهما محل البغضاء والشحناء، فهم لا يريدون منه أن يكدر عليهم هذا الصفاء؟ هل كانوا يجاملون فيه "عدلي باشا" يوم أجلوه وأعظموه, وأحلوه ذلك المحل الأعظم من نفوسهم، فلما تنكر له الرجل

وجافاه تنكروا له معه, وغضبوا لغضبته؟ هل كانت وطنيتهم نوبة من نوبات الجنون كما كان يشيع عنهم أعداؤهم, فلما استفاقوا رأوا أن ينتقموا من ذلك الإنسان الذي أثار في نفوسهم تلك العاطفة, وأجّج نارها في صدورهم؟ اللهم لا هذا ولا ذاك، وكل ما في المسألة أن الوزارة تريد البقاء في مركزها، ولا يمكنها البقاء فيه إلا إذا نفذت المشروع الإنجليزي المنتظر، ولا سبيل لها إلى ذلك إلا إذا فضت الأمة من حول سعد باشا وحملتها على الالتفاف حولها وتأييد سياستها، وقد عجزت عن أن تصل إلى ذلك فهي تزعمه وتدعيه, وتمثل هذه الرواية الغريبة التي هي أشبه الأشياء بقصة ذلك الرجل الذي أراد أن يتوسل إلى قلب حبيبته بعمل من أعمال البطولة التي يحبها النساء ويمنحن الرجال عطفهن من أجلها، كأن ينجيها من غرق أو ينقذها من هوة أو يخلصها من أيدي اللصوص, وهو أعجز الناس عن ذلك فاستأجر جماعة من الغوغاء واتفق معهم على تمثيل رواية خلاصتها أنهم يكمنون لها في طريق مرورها تحت جنح الظلام حتى إذا مرت بعربتها هجموا عليها, وتظاهروا بأنهم يريدون قتلها وسلبها, فيمر هو في تلك الساعة

كأنه سائر في طريقه مصادفة واتفاقا, فيهجم عليهم هجمة شديدة تلقي الرعب في قلوبهم, ويطلق عليهم مسدسه المحشو بالرصاص الكاذب, فيخافون منه ويفرون من بين يديه فرار الجؤذر من بين يدي الأسد الرئبال، وقد مثل الرواية كما وضعها وكاد ينجح في تمثيلها لولا أن الفتاة كانت ذكية الفؤاد, فقرأت على وجهه حين دنا منها آية التصنع والتكلف فلم تحفل به, ولم تقدم له كلمة شكر على بطولته وشجاعته, وسارت في طريقها وهي تغرب في الضحك عليه وعلى غرابة تصوراته. هذه هي المسألة لا أكثر من ذلك ولا أقل. ما أجرأكم أيها القوم على الله, وعلى الناس أجمعين! أتكذبون على أربعة عشر مليونا من النفوس أحياء يرزقون, يقولون لكم بألسنتهم وأقلامهم وبجميع ما يعرفون من الطرق والوسائل أنهم أنصار سعد باشا وأعداء السياسة الإنجليزية, فتقولون لهم لا بل أنتم أنصار عدلي باشا وأصدقاء السياسة الإنجليزية؟ أيسيل النيل وشاطئاه بالهاتفين للرجل والمرحبين به والخائضين عباب الماء إلى سفينته, مخاطرين بأنفسهم علهم يرون وجهه, أو يسمعون صوته حتى احتجتم في دفعهم وردهم إلى ضرب

الرصاص وإعمال السيوف ثم تقولون بعد ذلك: إن البلاد تكره سعدا باشا ولا تطيق رؤيته، أترون بأعينكم لمعان السيوف في أيدي رجال البوليس, وتسمعون بآذانكم طلقات بنادقهم, وتشاهدون مطاردتهم الناس وهدمهم الزينات ووضعهم العقبات ثم تقولون بعد ذلك: إن الإدارة كانت على الحياد, وإن حزب عدلي باشا القوي العظيم في أسيوط هو الذي أرغمها على منع سعد باشا من النزول إلى البر؟ دعونا من سياسة الدسائس والمكائد والمواربة والمداجاة والتلفيق والتأويل؛ فهي سياسة عقيمة لا تصلح تربة مصر الطيبة الطاهرة لإنباتها واستثمارها، ودعونا من أساليب المكر والدهاء والخبث والرياء ومن قتل القتيل والسير وراء نعشه، وخنق الحرية والبكاء عليها، والإخلال بالأمن العام باسم حفظه وصيانته، وانتهاك حرمات الناس باسم حمايتها والذود عنها، وأمثال ذلك من الأساليب العتيقة البالية التي ذهبت وانقضى عصرها بانقضاء عصور الجهالة والسذاجة، وخذوا بنا في الحقائق المجردة الواضحة التي لا لبس فيها, ولا إبهام. ارفعوا الأحكام العرفية والقوانين الاستثنائية, ودعوا الناس أحرارا يفكرون كيف يريدون ويقولون ما يشاءون مما لا يخرج

عن دائرة القانون والنظام، نصدق أنكم قوم أحرار تقدسون الحرية, وتجلّون شأنها. تزحزحوا قليلا عن تلك الحائط الأجنبية التي تسندون إليها ظهوركم وتستظلون بظلها وتضربون تحت حمايتها، وليكن النضال بيننا وبينكم وجها لوجه، نصدق أنكم أصحاب رأي وعقيدة، وأنكم إنما تعملون بما توحيه إليكم آراؤكم وأفكاركم. أشيروا على الوزارة بقطع المفاوضات, وقولوا لها: إن الأمة غير راضية عنها ولا عن نتيجتها، نصدق أنكم تنزلون على إرادة الأمة ورغبتها, وأنكم تحترمون إجماعها وتنزلون على حكمها. اعترفوا بالحقيقة الواقعة التي تعلمونها وتعلمون أن الناس جميعا يعلمونها، وهي أن حزب الحكومة في مصر حزب مصنوع موضوع لو نفس عنه الخناق قليلا, وتخلى عنه العاملان المهمان ذهب "المعز" وسيفه لحظة واحدة لطار في أجواز الفضاء, ولما بقي منه في مكانه إلا أفراد قلائل لا يتجاوز عددهم عدد أصابع اليد أو اليدين, وإن مصر لا يوجد فيها إلا حزب واحد تطارده الحكومة وعمالها وأنصارها, نصدق أنكم قوم صادقون مخلصون لا تقولون إلا ما تعتقدون.

هذه هي السبيل الوحيدة لما تطلبون إلينا من الثقة بكم والاعتماد عليكم, واحترام آرائكم وأفكاركم وإجلال مقاصدكم وغاياتكم, فإن فعلتم فأنتم إخواننا وأصدقاؤنا وأكرم الناس علينا, وإلا فقد علمتم رأينا فيكم وما نحن بظالمين ولا عادين, ونسأل الله لكم الهداية والتوفيق.

إلى خصوم سعد باشا: 5- لو أنكم أيها المنشقون بقيتم تحت لواء زعيمكم لم تفارقوه, ولم تنتقضوا عليه إن لم يكن ذلك من أجله فمن أجل كرامة الأمة وشرفها والإبقاء على وحدتها وجامعتها، ولو أنكم إذ أبيتم إلا أن تفارقوه فارقتموه بهدوء وسكون, لم تثيروا الثائرة عليه, ولم تطعنوا خلقه وشرفه وكرامته تلك الطعنات الداميات التي لا يحتمل وقعها في فؤاده أحقر الناس وأصغرهم في عين نفسه شأنا، ولو أنكم يا أعضاء الوزارة بدلا من أن ترسلوا "رشدي باشا" إليه يوم استعصى عليكم أمره ليؤذنه بالحرب وليقول له: إننا قد قررنا رفض شروطك وإغفال أمرك واطّراحك والاستقلال بالعمل من دونك رغم أنفك وأنف الأمة التي تعتز بها أرسلتموه إلى دار الوكالة البريطانية ليقول لصاحبها: إننا قد عجزنا عن إقناع سعد باشا بالتنازل عن شروطه التي اشترطها للمفاوضة وليس

في استطاعتنا وهو زعيم الأمة وقائدها وقلبها الخفاق أن نخاطر بمجافاته ومناوأته إلا إذا قررنا المخاطرة بوحدة الأمة وجامعتها, وذلك ما لا نرضاه لأنفسنا وما يأباه علينا شرفنا وإخلاصنا, فها هي وزارتكم فخذوها إليكم فهي ونحن وكل ما تملك أيدينا فداء لأمتنا ووطننا، ولو أنكم إذ أبيتم إلا البقاء في مراكزكم وإلا أن تذهبوا إلى المفاوضة رغم إرادة الأمة وإرادة زعيمها ذهبتم باسمكم وحدكم دون أن تفتحوا باب العرائض والوفود, وتداخلوا الأمة في شأن الثقة والتأييد, فإن عدتم لها بالنجاح شكرت لكم فضلكم وأولتكم ودها وثقتها, وإلا فلا يعنيها من فشلكم وإخفاقكم شيء. لو أن ذلك كله كان لبقيت الأمة طول حياتها في موقفها الجليل العظيم الذي وقفته في أعوامها الثلاثة الماضية موقف الاتحاد والتضامن والقوة والبأس والعزة والشرف, ولظلت سائرة في طريق جهادها الوطني تحت قيادة زعيمها حتى تصل إلى الغاية التي رسمتها لنفسها, أو تموت من دونها. فأنتم يا خصوم سعد باشا وخصوم الأمة جميعها المسئولون عن ذلك الشمل المبدد, والأديم الممزق, والجامعة التي تشوه وجهها وزال رونقها وبهاؤها, وعن حوادث الإسكندرية وطنطا وأسيوط وجرجا, وجميع المظالم التي نزلت بالوطنيين الأبرياء في الأشهر

السبعة الماضية من قتل وسجن وإعدام وتشريد وتعذيب واضطهاد, وعن تلك النهاية المحزنة الأليمة التي انتهت بها المفاوضة الأخيرة، فاعترفوا بذلك ولا تكتموه الناس عسى أن تجدوا لكم في زوايا بعض القلوب مكانا للرحمة بكم والإشفاق عليكم, ولا تحاولوا إلقاء التبعة على غيركم فتضموا إلى جرائمكم الماضية جريمة العناد والإصرار. من الذي عهد إليكم بالاشتغال بقضية مصر السياسية، وأين هو المؤتمر الوطني أو الهيئة النيابية أو الجمعية الوطنية التي عهدت إليكم بذلك واختارتكم له؟! ومتى كانت الشئون السياسية ميدانا للتجارب والاختبارات ينزل فيه كل من أراد أن يجرب حذقه ومهارته؟! إن الأمة لم توكل في قضيتها غير رجل واحد قد اختار بضعة أفراد منكم فيمن اختاره من أصدقائه ومعارفه للاستعانة بهم على عمله, ثم لم يحمد أمرهم حين أحس منهم الغدر به وبالقضية المصرية فعزلهم وعزلتهم الأمة معه, فما هذا التشبث البارد بعضوية الوفد والوكالة عن الأمة والنطق باسمها والمفاوضة عنها والأمة لا تعرفكم ولا تفهمكم, ولا صلة نفسية بينها وبينكم ولم تعتقد في وقت من أوقاتها أنكم وكلاؤها أو نوابها أو أمناؤها على سياستها

حتى أوردتموها بإلحاحكم وفضولكم وسوء سياستكم هذا المورد الوبيل. لا تلوموا سعدا باشا على فشلكم وإخفاقكم ولوموا أنفسكم، فقد أبلى الرجل البلاء العظيم في نصحكم وتحذيركم, وتنبأ لكم بكل ما وقع لكم اليوم كأنما كان يطالع صحيفة من صحائف الغيب فلم تكترثوا له, ولم تحفلوا بنصحه. قال لكم: إن المفاوض الإنجليزي لا يحفل ولا يعبأ إلا بمفاوض يعتقد أنه يمثل أمته, وينطق بلسانها نطقا حقيقيا لا تمثيليا, فاتهمتموه بحب الرئاسة والسعي وراء الشخصيات ورميتموه بسوء النية والقصد. وقال لكم: إن الإنجليز لا يريدون بفتح باب المفاوضة معكم إلا الاستعانة بكم على تمزيق شمل الأمة وتبديد وحدتها, وهي القوة الوحيدة التي تملكها ولا تملك غيرها, وألا خير يرجى من هؤلاء القوم لكم ولا لغيركم, فثرتم في وجهه وسمحتم لأنفسكم أن تسيئوا الظن به ولا تسيئوه بالإنجليز. وقال لكم: احذروا أن تخطوا خطوة واحدة في طريق المفاوضة قبل أن تستوثقوا لأنفسكم بمرسوم سلطاني يحدد موضوع المفاوضة, ويكون أساسا لها فأنكرتم ذلك عليه, وزعمتم أن

في أيديكم من الوعود المؤكدة, والأقسام المغلظة ما يغنيكم عن هذا الاحتياط والاستيثاق. وقال لكم: إن الإنجليز يخافون أكثر مما يستحيون, وإنهم لا يعرفون في السياسة مودة ولا إخاء, وإنهم لا يريدون من استبدال مفاوض بمفاوض إلا الهرب من شدة الأول والطمع في لين الثاني, فسفهتم رأيه وزعمتم أنهم قوم ذوو أخلاق كريمة وآداب عالية وعواطف شريفة وأمزجة رقيقة, وأنهم يمنحون الصديق الذي يحاسنهم أضعاف ما يمنحون العدو الذي يخاشنهم. وقال لكم في نهاية الأمر: لا إرادة لي ولا لكم فيما تقضي به الأمة وما تراه في شأني وشأنكم, فلنتحاكم إليها ولننزل جميعا على حكمها, فأكبرتم ذلك منه وسميتموه رجلا ثائرا متمردا لا يخضع لقانون, ولا نظام. قال لكم كل شيء، وحذركم من كل شيء، فلم تلومونه اليوم وتلقون تبعة إخفاقكم عليه ولم يملأ بغضه صدوركم حتى يصرفكم عن الالتفات إلى عدوكم الحقيقي الذي لعب بكم وعبث بعقولكم, وكون منكم جيشا جرارا لمحاربة أمتكم وتنغيص عيشها وتكدير صفائها حتى إذا قضى حاجته منكم وفرغ من تمزيق شمل الأمة وصدع وحدتها على أيديكم أدار وجهه عنكم, ونبذكم نبذ النواة

بلا رحمة ولا شفقة، وهذا هو المعنى الحقيقي للمفاوضة التي أجراها على أيديكم, وهذا هو كل الغرض المقصود منها. ليسأل عدلي باشا اللورد ملنر عن هذه النتيجة المحزنة التي انتهى إليها أمره، فهو الذي خدعه وغشه ومناه الأماني الكاذبة ووقف به على رأس ذلك الطريق الجميل الذي ظن أنه ينتهي به إلى زعامة الأمة وقيادتها، ثم لم يلبث أن خذله وتخلى عنه، بل استقال من وظيفته حتى لا يتقيد بالوعد الذي وعده إياه. ليسأل المنشقون "عدلي باشا" عن السقطة الأدبية العظمى التي هوت بهم من سماء العزة والشرف إلى حضيض المهانة والضعة, فهو الذي زين لهم الانشقاق على زعيمهم والخلاف عليه, وأغراهم باتخاذ خطة في السياسة غير خطته, ففعلوا فكان ذلك عاقبة أمرهم وخاتمة مطافهم. ليسأل الوزاريون جميعا المنشقين والوزراء عن خيبة الأمل التي لحقت بهم والصدمة الكبرى التي اصطدمتها آمالهم وأمانيهم, فهم الذين خلبوهم واستهووهم وأطمعوهم في الجوائز والمنح والوظائف والرتب يوم يتم لهم الانتصار على أيديهم, فلا هم أدركوا ما أملوا، ولا هم بقوا في صفوف أمتهم يعملون معها, ويجاهدون في سبيلها.

ليسأل كل منكم صاحبه عن نكبته التي نزلت به, ولا تسألوا سعدا باشا عن شيء ولا تلوموه في أمر, بل اشكروا له فضله عليكم ويده عندكم، فلولاه ولولا جهاده ومعارضته ووقوفه في وجهكم ووجه مشروعكم وقفة الأسد الهصور, لتمت على يدكم الجريمة الكبرى، جريمة تسليم البلد إلى أعدائه، ولسجل التاريخ عليكم في صحائفه أنكم أصحاب تلك الجريمة ومقترفوها. أفهمتم الآن أن سعدا باشا أصدق منكم نظرا وأعلى رأيا وأنفذ بصيرة في بواطن الأشياء، وأنه ما كان يعارضكم يوم عارضكم حبا في الرئاسة أو سعيا وراء الشخصيات كما كنتم تزعمون، بل حرصا على مصلحة البلد وضنا بخلاصه وإنقاذه. أفهمتم الآن أنه لو كان نزل على رأيكم وخضع لأوهامكم وأحلامكم, وهذا هو ذنبه الوحيد الذي تأخذونه به, لدفن معكم في الهوة التي دفنتم فيها اليوم, ولم يبق في الأمة من بعده صوت صارخ ينادي بحريتها واستقلالها. أفهمتم الآن أنه لا يوجد بينكم رجل سياسي واحد يكتنه بواطن السياسة ويستشف أعماقها، ويدير معركتها الإدارة الكافلة بفوز الأمة وانتصارها, أو بإنقاذها من خطر الوقوع

في ربقة الأسر على الأقل، وأنه لو تم على يدكم إسقاط سعد باشا كما كنتم تريدون لطال حزنكم وبكاؤكم يوم تطلبون غيره ليقوم مقامه, ويملأ فراغه فلا تجدون. ماذا كان يظن أعضاء بعثتكم بأنفسهم يوم ذهبوا للمفاوضة على الصورة التي ذهبوا عليها، وكيف كانوا يتصورون أن المفاوض الإنجليزي يعطيهم الاستقلال تاما أو ناقصا وقد تقدموا إليه بيد فارغة من كل قوة يستطيع المفاوض أن يعتمد عليها في مقارعة خصمه, واستنزاله على حكمه؟ لا يستطيعون أن يقولوا له: إن الأمة قوية مسلحة تستطيع أن تنتصف لنفسها بنفسها إن لم تنصفوها؛ لأنه يعلم كما يعلمون أنها ضعيفة عزلاء لا تحمل من الأسلحة أكثر من عصي "الساحل" ونبابيت "الحواتكة" ولا أن يقولوا: إنها متحدة يدا واحدة وقد يكون الاتحاد قوة تقوم مقام القوة المادية؛ لأنهم قدموا إليه قبل ذلك الوثائق والمستندات الدالة على أنها منقسمة على نفسها, وأنها فريقان: سعديون وعدليون, يقتتلون في كل مكان يلتقون فيه كما كان يفعل البروتستانت والكاثوليك في أيرلندا والمسلمون والوثنيون في الهند، ولا أن يقولوا له: إنها متشددة في مطالبها الوطنية لا تقبل فيها مساومة ولا مهاونة؛ لأنهم قالوا له وأقسموا على ما قالوا:

إن أكثريتها قد انفضت من حول سعد باشا والتفت من حولهم، أي: إنها قد تحولت من خطة التشدد والتطرف إلى خطة القناعة والاعتدال، ولا أن يقولوا له: إنها راقية متمدينة تستطيع أن تحكم نفسها بنفسها؛ لأنه يعلم كيف حصلوا على عرائض الثقة التي قدموها إليه وماذا صنعوا بأمتهم في سبيلها، فماذا يعنيه من أمرهم بعد ذلك؟ لا رعاكم الله أيها القوم، ولا رعى يوما اتصلنا بكم فيه، فقد أفسدتم علينا كل شأن من شئون حياتنا، وهدمتم بحمقكم وخرقكم وسوء رأيكم في لحظة واحدة ذلك البناء الفخم الجميل الذي قضينا في بنائه ثلاثة أعوام كاملة، ولم تقنعوا منا بذلك حتى جئتم اليوم تمنون علينا بأن بعثتكم قد قطعت المفاوضات, وأن لها ولكم الحق في الافتخار بذلك. مرحى مرحى! ألم تكن المفاوضات مقطوعة من قبل اليوم على يد سعد باشا! فهل كان غرض البعثة من ذهابها أن تقطعها مرة أخرى حتى إذا تم لها ذلك عادت تفخر بنفسها وتفخرون بها, وتدعون الناس إلى الاحتفال بها عند قدومها! تريدون أن نحتفل بها لنجدد بذلك عصر الجاهلية الأولى, أيام ضراعة الشعوب وذلها ومهانتها واستخذائها وتقبيلها يد ضاربها حين يضربها وشرب نخب انتصاره عليها؟

تريدون أن نحتفل بها ليتحدث الناس عنا أننا قد رضينا بجميع المظالم التي نزلت بنا وأغضينا جفوننا على قذاها، وغفرناها لها لأتفه الأسباب وأهونها, فيطمع فينا كل طامع ويعبث بحقوقنا كل عابث؟! أتريدون أن نحتفل بها لتبرز لنا كل يوم هيئة جديدة تفتح باب المفاوضة في القضية المصرية ثم تقفله لتتمتع بكلمات الثناء عليها، ومشهد الاحتفال بها، ونحن فيما بين هذا وذاك هلكى ضائعون؟! أتريدون أن نحتفل بها قبل أن نعلم هل نفضت يدها من المفاوضة إلى الأبد, أو أنها قطعتها اليوم لتصلها غدا، وهل صرفت النظر عن عرض مشروع كرزن على الأمة أم تريد عرضه من طريق غير طريقها، وهل الوزارة مصممة على الاستقالة أم تريد البقاء في مركزها أم تريد أن تنحل لتتألف مرة ثانية بصورة أخرى غير صورتها؛ ليبقى لنا شقاؤنا وبلاؤنا الذي نحن فيه مدى الدهر، وهل برئنا من دائها تمام البرء أم لا تزال بقية منه كامنة في أعماق صدورنا, لا نعلم ما الله صانع بها؟! وبعد, فأين هي المفاوضة التي تزعمون أنها قامت بها, أو أنها قطعتها أو وصلتها؟! إنها لم تفعل شيئا سوى أنها تقدمت لأداء الامتحان أمام اللورد

كرزن في القدرة على حمل مشروعه إلى الأمة, وتنفيذه فيها فأخفقت, فعادت أدراجها. فهل هذا هو الفخر الذي تزعمونه لها وتنحلونها إياه, وتريدون حملنا بالأساليب الإدارية المعهودة على الاحتفال بها من أجله؟! إن كان تمزيق شمل الأمة وتبديد وحدتها والاستعانة بالقوة الأجنبية على إخضاعها وإذلالها وسفك الدماء البريئة في الساحات والشوارع, وزج الوطنيين المخلصين أفواجا أفواجا في أعماق السجون, وابتياع الذمم والضمائر ومحاولة إفساد الأخلاق القومية في جميع الدوائر والهيئات حتى في المدارس والمعابد والمحاكم, والتفريق بين الوالد وولده والأخ وأخيه والصديق وصديقه والزوج وزوجه, وإفساد سياسة الأمة عليها وإطماع أعدائها فيها, والهبوط بالمفاوضات بعد ذلك كله, وبعد تضحية جميع هذه الضحايا من مشروع ملنر إلى مشروع كرزن مجدا وفخرا يستحق أصحابه الإجلال والإعظام والاحتفاء والاحتفال فرحمة الله على الفضيلة, وليبك الباكون عليها وعلى مصيرها المحزن الأليم. كونوا أيها القوم كيفما شئتم وأضمروا لنا من النيات ما أردتم, ورتبوا لنا في أذهانكم كل يوم مكيدة جديدة ودسيسة مبتكرة, فمحال أن تنالوا منا منالا أو تصلوا من طريقنا إلى غاية، فسنبني

بعون الله وإسعاده كل ما هدمتم ونصلح كل ما أفسدتم، وسنعيد إلى بين حظيرتنا جميع إخواننا الذين أفسدتموهم علينا, واختطفتموهم من صفوفنا, لا نضعف ولا نفتر ولا نهن ولا نيأس، فما خلقت الأمم إلا للجهاد، ولا لذة للحياة إلا بالعمل، حتى يأتي عليكم ذلك اليوم الذي تقتنعون فيه تمام الإقناع بأن في الأمة رأيا عاما جديا, لا يسمح لرأس معوج يريد أن يرتفع على حسابها وحساب ظلمها, وإساءتها بالبروز من مكمنه وأن لا قوة في مصر غير قوة الشعب, ولا حكم فيها إلا حكمه.

عبرة الدهر

عبرة الدهر: الآن أمنت على مصر أبد الدهر، وأيقنت أن الباطل ظل زائل لا ثبات له، وأن الحق صخرة عاتية لا تزعزعها العواصف ولا تعبث بها عاديات الأيام. فقد مرت في غضون الأشهر الفائتة ساعات أعترف أني خفت فيها على الحق أن يغتاله الباطل ويصرعه عندما أشرفتُ على ذاك الميدان الواسع الفسيح -ميدان المعركة السياسية المصرية- ورأيت ذلك الجيش اللجب العرمرم جيش الباطل زاحفا بخيله ورجله, وفي مقدمته القوة الإنجليزية بمدافعها وطياراتها وصواعقها ورجومها, وفي مؤخرته القوة المصرية ببنادقها وسيوفها وسياطها وعصيها, وفي جناحيه الوزارة يحيط بها أنصارها وصنائعها وذوو الحاجة إليها والمنشقون يحيط بهم خدمهم وفلاحوهم, وأجراؤهم وأهلوهم, وذوو أرحامهم, وفيما بين هذا وذلك الكتاب الكاذبون والخطباء الخادعون والدعاة الخبثاء والجواسيس الدهاة والأحكام العرفية والمجالس العسكرية والقوانين الاستثنائية والأكاذيب

والأراجيف والصور والتهاويل وكل ما يمكن أن يسمى قوة يهجم بها هاجم على خصمه ليسلبه في آن واحد قوة جسمه وقوة قلبه وقوة يقينه، وقد ذهبت لذلك الجيش في آفاق السماء جلجلة كجلجلة الرعد القاصف, وانتشر له في جميع الأنحاء بريق يخطف الأبصار ويعشى الأنظار، فالتفتُّ إلى الجانب الآخر من الميدان فرأيت سعدا باشا واقفا في مكانه أعزل لا سلاح معه ولا يحيط به إلا سواد الأمة الأعزل مثله, فانبعثت من صدري صرخة الرعب والخوف, وأيقنت أن الرجل هالك هو وأمته ما في ذلك ريب ولا شك، ثم هجم ذلك الجيش العظيم هجمته الكبرى التي لم يسمع بمثلها في تاريخ هجوم الأقوياء على الضعفاء والتي استمرت سبعة شهور كاملة لا تهدأ ولا تفتر, فثبت الزعيم في مكانه ثباتا غريبا مدهشا وكأنما استحال إلى كرة فولاذية ملساء تتساقط عليها السهام ثم تنزلق عنها, وربما أصابت جسمه بعض الجرحات, ولكن لم يستطع سهم واحد أن ينفذ إلى قلبه, وثبتت الأمة بثباته فلم تهن ولم تضعف، ولم تعبأ ولم تحتفل، ولم تأخذ بلبها الصور والتهاويل، ولم تنل من نفسها الأكاذيب والأراجيف، ولم تعبث بعقيدتها الألسنة الخالبة والأقلام الخادعة، وها هي الأيام قد أخذت تدور دورتها, فانقلب الجيش المهاجم مدافعا والجيش المدافع مهاجما, ولله في خلقه شئون

أنظر إليهم ها هم يتقهقرون، وإن كانوا لا يزالون يضربون، ها هي ألسنة خطبائهم تتلجلج في أفواههم، وأقلام كتابهم تضطرب في أيديهم، ها هي وجوههم قد علتها غبرة الموت وقلوبهم تتنزى بين جوانحهم تنزي الكرة في أيدي ضاربيها، ها هي أصواتهم قد مازجها أنين محزن كأنين المحتضر، وصرخاتهم قد استحالت إلى عواء كعواء الذئاب، ها هم يخلطون ويهذون ويسبون ويشتمون ويصخبون ويحتدمون، أي: إنهم يلجئون إلى السلاح الأخير الذي يلجأ إليه المقهور في ساعته الأخيرة، ها هم يخافون من كل شيء حتى من خطبة يخطبها أزهري في مسجد, أو كلمة يلقيها طالب في متنزه، أو صرخة صرخها صارخ في محفل، ومن همس الهامس في أذن أخيه، ونظرة الناظر في وجه صاحبه، ومن قدوم جماعة من أعضاء مجلس النواب الإنجليزي الأحرار إلى مصر لا يملكون إلا قليلا من الحول والقوة، ومن سفر الزعيم من بلد إلى بلد لا يحمل إلا قلبه, ولا يملك إلا لسانه. ما بالهم؟! وما الذي دهاهم؟! ومم يخافون والقوة في أيديهم, والأيام مواتية لهم، والدهر نازل على حكمهم؟! نعم، ولكنهم مبطلون، والباطل لا قوة له وإن اجتمعت في يده جميع القوى،

تلك عبرة الدهر التي يجب أن يعتبر بها أولادنا وأحفادنا من بعدنا. فلتقرءوا يا أبناء الأجيال المقبلة هذه الصفحة المجيدة من تاريخ حياتنا؛ لتعلموا أن رجلا واحدا من أبناء أمتكم تمسك بالحق فاستطاع أن يثبت أمام أقوى قوة في العالم، وأن ثباته أنقذ مصر من أعظم نكبة كان يدخرها لها الدهر في طيات تصاريفه، ولتحنوا رءوسكم أمام هذه الذكرى المجيدة إجلالا لها وإعظاما لشأنها، ولتجعلوها مثلكم الأعلى في مستقبل حياتكم، وعبرتكم البليغة التي تغنيكم عن جميع العظات والعبر. الآن أمنت على مصر أبد الدهر، فما في العالم قوة تستطيع أن تهاجمها أعظم من هذه القوة، وليس في الإمكان أن تحل بساحتها نكبة أهول من هذه النكبة، وما أحسب إلا أن الله تعالى قد أراد أن يبلوها ويختبرها فامتحنها بهذه المحنة الفادحة؛ ليرى كيف يكون صبرها واحتمالها، وقوة يقينها وإيمانها، فيمنحها من حسن الجزاء على قدر ما تبذل من حسن البلاء، وقد أبلت بلاء لم يبله أحد من قبلها، فلتنتظر الجزاء الأوفى، والمثوبة العظمى، ولتهنأ منذ اليوم بالمستقبل الباهر السعيد.

إلى أعدائنا

إلى أعدائنا: 1- نعم, إنكم أقوياء جدا، بل لا توجد قوة في العالم توازي قوتكم، ولكننا على ضعفنا وخلو أيدينا من السلاح والعدة أقوى منكم؛ لأنكم حاربتمونا بسلاح الخديعة والمكر الذي ألفتم أن تنتصروا به على الشعوب الشرقية قرونا عدة فانهزمتم أمامنا، واستطاع هذا الشعب الشرقي الصغير حديث العهد بالسياسة وأساليبها وألاعيبها ومناوراتها أن يدرك خبايا مقاصدكم ومراميكم، وأن يمزق عن وجوهكم ذلك الستر الكثيف الذي كان يجللها، وأن يقول لكم بصوته العالي المرتفع: لا أقبل الخدع والألاعيب، فإما الاستقلال تاما صريحا لا ريبة فيه، أو لا شيء. إننا أقوى منكم لأنكم لم تستطيعوا أن تخدعونا عن أنفسنا، ولا أن تستنزلونا عن عقيدتنا ويقيننا، أما تلك القوة الميكانيكية التي تهرعون بها في شوارع البلاد وأزقتها، وتملئون بها وجه الأرض وجو السماء، فهي مما لا يفخر به الفاخر ولا يدل به المدل؛ لأنها

شيء، والصفات النفسية والمزايا العقلية شيء آخر. هل استطعتم بعد مقامكم بيننا أربعين عاما أن تصطنعوا رجلا واحدا من بين هذه الملايين الكثيرة, يحبكم ويخلص لكم؟ هل استطعتم بعد أن سقط ذلك البرقع الكثيف عن وجوهكم, وبدت للناس صفحتكم أن تجدوا ثمانية أشخاص يؤلفون لكم الوزارة التي تريدونها لتستعينوا بها على تنفيذ مشروعكم؟ هل تستطيعون أن تزعموا أنكم على ثقة تامة بإخلاص شخص واحد من هؤلاء الموظفين الكثيرين الذين قضى عليهم سوء حظهم أن يعملوا معكم، ويخضعوا لسلطتكم، حتى الذين غمرتموهم منهم بالنعم، وملأتم عليهم ديارهم رغدا وهناء؟ هل تستطيعون أن تبتاعوا بأموالكم الكثيرة التي لا حد لها قلما مصريا صميما يتولى نشر دعوتكم، وتأييد سياستكم، كما تفعلون في كل مكان حتى في أوروبا وأمريكا؟ إذن أنتم ضعفاء ونحن أقوياء، ولنا أن نفخر بهذه القوة التي نعتمد فيها على شرف أخلاقنا، وعزة نفوسنا، ومتانة عقيدتنا، وشدة إخلاصنا لوطننا، وليس لكم أن تفخروا بتلك القوة التي تعتمدون فيها على السيف والنار كما كان يفعل الهون في أوروبا والمغول في آسيا؛ لأنها أقرب إلى صفات الوحشية وغرائزها، منها إلى روح المدنية ومزاجها.

نعم, إنكم اعتقلتم سعدا باشا، ولكن بعد أن صرع زعماءكم وقادتكم في ميدان السياسة، وأفسد عليكم تلك المؤامرة العظمى التي كانوا يريدون بها اعتقال مصر واستعبادها إلى الأبد، فقد صودر سعد باشا واعتقل، ولكن مصر قد نجت. في استطاعتكم أن تصبغوا وجه مصر بالدماء، وأن تملئوا بطنها بالأشلاء، ولكن ليس في استطاعتكم أن تتقوا نظرات الاحتقار والازدراء التي نلقيها عليكم حين نراكم، ولا أن تطفئوا نار الحقد والموجدة التي تنبعث من ألسنتنا وصدورنا إلى وجوهكم، ولا أن تنالوا منالا من تلك العقيدة الراسخة في قلوبنا، وهي أنكم أضعف الضعفاء وإن كنتم أقوى الأقوياء، وأن هذه القوة التي تعتمدون عليها وتدلون بها ليست قوة السياسة ولا قوة الفكرة ولا قوة التدبير، وإنما هي قوة الشر والغضب. اقتلونا ولكن بأيديكم لا بأيدينا، ألفوا الوزارة ولكن من رجالكم لا من رجالنا، املكوا علينا كل شيء إلا قلوبنا وأفئدتنا، احكمونا باسم الأحكام العرفية والأساليب العسكرية، لا باسم القوانين الشرعية والأحكام السماوية والأرضية، افتخروا بأنكم قمعتم الحركة المصرية وأنكم أخفتم الناس وأرهبتموهم، ولكن لا تفخروا بأنكم حللتم مشكلة مصر إلى الأبد.

إنكم لا تحاربوننا من أجل احتلال البلاد فأنتم محتلوها، ولا من أجل الاستيلاء على مواردها وأرزاقها فهي جميعها تحت سلطتكم وسيطرتكم، ولا من أجل إطفاء الثورة وقمعها، فالأمة التي لا سلاح لها لا ثورة فيها، ولكنكم تحاربوننا من أجل إرغامنا على الاعتراف بمركزكم الشرعي في مصر، وما دمتم لم تصلوا إلى هذه الغاية بعد بذلكم ما وهبكم الله من دهاء سياسي وحيلة عقلية في هذا السبيل، فنحن المنتصرون وأنتم المنخذلون.

إلى أعدائنا: 2- ماذا جنى الرجل عليكم فتنفوه إلى أقصى بقعة من بقاع الأرض, وما هو بثائر ولا محارب ولا عرف له الناس موقفا يدعو فيه بدعوة الجاهلية الأولى, أو ينطق فيه بكلمة الدم التي ينطق بها الثائرون في كل شعب وأمة ليستثيروا بها حفائظ النفوس, ويدفعوا بها الرجال إلى مواطن الموت؟! أين هو الجيش الذي قاده لمحاربتكم، وأين هي الجموع التي سلحها وزحف بها عليكم، وأين هي الثورة التي أشعل نارها، أو الفتنة التي أحيا مواتها، فتعاقبوه هذا العقاب الشديد الذي اعتدتم أن تعاقبوا به زعماء الثورات وقواد المؤامرات؟! لا بل إنكم ما عاقبتم زعماء أعدائكم الذين رووا الأرض بدمائكم، وغطوا وجهها بأشلائكم، ونالوا منكم أشد ما ينال محارب من محاربه بمثل هذا العقاب المؤلم الشديد، وقد كنتم تزعمون ويزعم كثير من الناس لكم أنكم أمة العدل والقانون، وأن الشمس لا تطلع في مدار

من مداراتها على محكمة مثل محكمتكم، وقضاة مثل قضاتكم، وميزان قسط وإنصاف مثل ميزان قسطكم وإنصافكم. إن الرجل لم يكن جبانا ولا رعديدا، ولا من المغرقين في حب حياتهم أو الضانين بها على مواقف المجد والشرف، ولو شاء أن يشعل نار الثورة في كل مكان وأن يقود الرجال إلى موطن الموت لفعل، ولكنه لم يفعل ولا فكر في شيء من ذلك، لأنه من فريق الدعاة لا من فريق الثوار، ولأنه رجل عاقل حكيم لا يخطو الخطوة الواحدة حتى يقدر لها موضعها، وكانت لهجته الدائمة التي لا تفارقه في جميع مواقفه ومشاهده الدعوة إلى السكون والهدوء والعمل في دائرة القانون والنظام والمطالبة بالحقوق الوطنية بالطرق المشروعة السائغة، أي: إنه كان رجل حجة وبرهان لا رجل نزال وطعان، فلماذا لم تعرفوا له هذا الشعور الطيب الشريف الذي كانت تشتمل عليه سريرة نفسه؟ ولِمَ لم تحترموا فيه تلك العاطفة الطاهرة الكريمة التي كانت تتدفق بين جنبيه شرفا ونبلا، وتسيل رحمة وإحسانا؟ إنكم أقوياء جدا، وما نازعكم في ذلك منازع، وها هي جيوشكم وأساطيلكم وأسلحتكم ودباباتكم وطياراتكم تملأ البحار والقفار، السهول والجبال، والتهائم والنجود، والشوارع والأزقة،

والأجواء والآفاق، فماذا عليكم لو أنكم تركتم الرجل في مكانه هادئا مطمئنا لا تهيجونه ولا تزعجونه، حتى إذا أثار عليكم الثائرة التي تخشونها لجأتم إلى قوتكم فقمعتموها كما تفعلون اليوم وقد قامت لكم الحجة عليه, واعتصمتم في أمره باليقين الذي تطمئن إليه نفوسكم، وتنقطع به حجج المؤاخذين لكم والناقمين عليكم، وإن كانت الأخرى كفيتم أنفسكم وكفيتمونا معكم هذا الشر المستطير بيننا وبينكم، وحقنتم تلك الدماء التي سالت في بطاح الأرض بلا جريرة, ولا سبب! نؤكد لكم يا قوم أن الأمة المصرية لم تكن آلة في يد سعد باشا يصرفها كيف يشاء كما وهمتم, أو كما أوهمكم ذلك الضعفاء منا، وأن روح الوطنية المنتشرة فيها ليست روحا صناعية كاذبة يحييها وجوده ويميتها نفيه، وأن نفيه إلى أقصى بقعة من بقاع الأرض بل الذهاب به إلى مصير أعظم ويلا وهولا من هذا المصير لا يحل عقدة واحدة من عقد المسألة المصرية، ولا يغير وجها واحدا من وجوهها، ولا ينتقل بها خطوة من مكانها، أي: إنه لا يسمح للمستوزرين بتأليف الوزارة التي يريدونها، ولا براحتهم وهدوئهم فيها إن هم ألفوها، ولا يفسح لأولئك القوم الذين تسمونهم المعتدلين ونسميهم المساكين، مجالا أوسع من المجال الذي يضطربون

فيه، ولا يفتح في جدار الوطنية ثغرة صغيرة تتمكن مكيدة المشروع الكرزوني أو الملنري من الانحدار منها، وأنكم لم تستفيدوا من كل ما عملتم شيئا سوى أنكم ظلمتم الرجل وبؤتم بإثمه، لا أكثر من ذلك ولا أقل. ماذا جنى سعد باشا عليكم سوى أنه كان يطالبكم بحقه وحق بلاده بالحجة والبرهان، ولا يوجد في تاريخ من تواريخ الأمم القديمة أو الحديثة قانون متمدين أو متوحش يعتبر هذا العمل جريمة يعاقب عليها صاحبها بإزعاجه من مأمنه, وإقصائه عن أرضه, ووضع ذلك السد المنيع بينه وبين جمال الحياة ورونقها. لِمَ تنتزعونه من سرير نومه قبل أن تنبعث الطير من وكناتها, وتطيرون به إلى ذلك المنفى القصي البعيد الذي لا يعلم إلا الله ما يكون مصيره فيه, وما هو بقاتل ولا سارق ولا مختلس ولا داعٍ إلى ضلالة ولا قائم بفتنة ولا طالب شيئا سوى أن يعيش هو وقومه أحرارا كما تعيش الطيور في أجوائها, والسوائم في مراتعها, والأسماك في دأمائها؟ لِمَ لَمْ ترحموا شيخوخته ومرضه وأنه رجل أعزل ضعيف, لا يملك من القوى غير لسانه الذي يذود به عن وطنه وقومه؟

ومتى كانت الألسنة والأقلام جيوشا وجحافل تنازلها الجيوش والجحافل؟! لم لم تحاجوه وتقنعوه بحقكم الذي تزعمونه لأنفسكم بدلا من أن تقولوا له: "إما السكوت وإما النفي"؟! ما أغرب شأنكم أيها القوم وما أعجب تصوراتكم! أفيما بين يوم وليلة تنقلبون معنا من أصدقاء أوفياء تجالسوننا على منضدة واحدة لتفاوضونا على قاعدة الحرية والمساواة والود والإخاء إلى أعداء حاقدين واجدين تسفكون دماءنا وتمزقون أشلاءنا, وتشردون زعماءنا تحت كل نجم وكوكب وموقفنا موقفنا لم يتغير ولم يتبدل سوى أننا وقفنا لحظة أمام المشروع الذي قدمتموه إلينا ننعم النظر فيه, هل هو استقلال حقيقي كما تقولون أم شيء غير ذلك تسمونه استقلالا؟ نقسم لكم بالله لقد جعلتمونا نرتاب فيكم، وفي كل ما تطلع عليه شمسكم، وتفيء عليه ظلالكم، وفي الريح التي تهب من أرضكم، والماء الذي ينحدر من بحركم، بل وفي العلم الذي تشتمل عليه كتبكم، والمحور الذي تدور عليه مدنيتكم، ولقد مرت بنا أيام كنا لا نتمنى على الله فيها شيئا سوى أن نصل في المدنية إلى الذروة التي وصلتم إليها، فقد أصبحنا ولا أبغض إلينا من التشبه بكم،

والتخلق بأخلاقكم، والسير على آثاركم، مخافة أن تصبح مدنيتنا في مستقبل أيامها مدنية وحشية, لا عهد فيها ولا ذمام. سنأكل الشيح والقيصوم إن عز الطعام إلا من أيديكم، ونلبس الجلود والفراء إن أقفرت الأرض إلا من مصانعكم، ونشرب الملح الأجاج إن أبى العذب الزلال أن ينبع إلا في أرضكم، ونعيش في الظلمة الداجية إن أبت الشمس أن تشرق إلا من آفاقكم، وسنخلع عن أرضنا ثوب الخصوبة والجمال ونلبسها ثوب القحط والجدب لنقطع سبيل مطامعكم فيها، ونكدر عليكم صفاء العيش بين ظلالها وأمواهها، غير شاكين ولا متبرمين، فلا خير في نعمة يكدرها الذل، وبعدا لماء لا يشربه شاربه إلا ممزوجا بدم. إن في السماء إلها، وإن في الأرض عدلا، وإن العناية الإلهية التي تضم إلى أجنحتها ضعف الضعيف وبؤس البائس ومظلمة المظلوم أرحم من أن لا تحفل بهذه الدموع التي تذرفها الأمة؛ حزنا على شيخها الشهيد المظلوم. رويدك حتى تنظري عم تنجلي ... غمامة هذا العارض المتألق

إلى سعد باشا في منفاه

إلى سعد باشا: في منفاه في الساعة التي نزلتَ فيها إلى قاع السفينة "نوراليا" لتفارق هذا العالم كله إلى جزائر "سيشيل" صعد خصومك إلى كراسي مناصبهم فرحين متهللين يهنئ بعضهم بعضا، ويبسم بعضهم إلى بعض، ولا أعلم هل تلك الحمرة الخفيفة التي جالت في وجوههم في تلك الساعة كانت خالصة كلها للسرور والغبطة، أم كان يمازجها شيء للخجل والحياء، ولعلها كانت الثانية، فإني من لا يعتقد أن الضمير الإنساني إذا جمد ينتهي به جموده إلى الموت. أنت سجين وهم مطلقون، أنت معذب وهم ناعمون، أنت مستوحش منفرد في قفرة جرداء لا أنيس لك فيها ولا سمير إلا بضعة أفراد مثلك مستوحشين منفردين, وهم مؤتنسون بالعيش في قصورهم وبساتينهم وملاعبهم ومسارحهم بين نسائهم وأولادهم وصحبهم وخلانهم، أنت مكتئب حزين يتقاسم قلبك همان؛ هم نفسك وهم قومك، وهم فرحون متهللون، يطفرون ويمرحون،

ويطيرون بأجنحة سرورهم وحبورهم في كل جو وافق، لا يخالط نفسهم هم واحد. ولكن هل أنت على ذلك شقي؟ وهل هم على ذلك سعداء؟ لا, لقد كان لهم أمنية؛ أن تغيب عنهم فيغيب عنهم اسمك وذكرك، وضوضاؤك وجلبتك، ولكن شيئا من ذلك لم يكن، فالنفوس ثائرة، والقلوب واجدة، والهتاف باسمك يملأ الآفاق والأجواء، والدعاء بثأرك يلاحقهم في كل مكان يسيرون فيه، وعيون الحقد والبغضاء تضرب حولهم نطاقا ناريا لا سبيل لهم إلى التفلت منه والخروج من دائرته، فأنت الحر الطليق، وهم الأسراء المسجونون، ولكنهم يتجلدون ويصابرون. أنت تعيش من فضيلتك وشرفك، ومن رضاك عن نفسك واغتباطك بأداء واجبك، ومن راحة ضميرك واستقراره، وهدوء نفسك وسكونها، في أرحب من رقعة الأرض وأفسح من ديباجة السماء، وهم يعيشون من وخزات ضمائرهم، وقلق نفوسهم، ووساوس صدورهم، وخوفهم على تلك اللقيمات الملفوظات التي هي كل ما ظفروا به من حياتهم أن تهب عليها عاصفة من العواصف, فتطير بها وتطير بهم معها، ومن شبحك الهائل المخيف الذي لا يفارق مضاجعهم، ولا يبرح يقظتهم ومنامهم،

ولا يزال يتمثل لهم في طعامهم الذي يطعمون، وشرابهم الذي يشربون، وفي جميع ما تمتد إليه عيونهم، وتتصل به أسماعهم، في أضيق من كفة الحابل, وأضنك من عيش السجين. لا سجن في الدنيا غير سجن النفس، ولا حرية فيها غير حريتها، وليست سعادة المرء بمقدار ما يحيط بجسمه من الفضاء، بل بمقدار ما يحيط بنفسه منه. فما سجنك الذي تعيش في جوه الموحش المكتئب, وبين جدرانه المتقاربة المتدانية بمانعك من أن تطير بنفسك العالية الخفاقة فيما تشاء من الآفاق والأجواء، وأن تتمتع برؤية هياكل مجدك وعظمتك المقامة لك على ضفاف النيل من طيبة إلى الإسكندرية، وأن تسمع دقات القلوب الخافقة بحبك، وأحاديث النفوس الهاتفة بذكرك. وما فضاؤهم الرحب الفسيح الذي يحيط بهم بمجدٍ عليهم شيئا إذا حاولوا الحركة والاضطراب فيه؛ لأنهم يعلمون أنهم يعيشون في أمة قد وتروها وآسفوها، وغرسوا الحقد والبغضاء في صدورها، فهم على قوتهم وبأسهم، وعلى ضعفها وتجردها من كل سلاح وعدة، يخشونها ويخافونها، ولا يطيقون أن يحتملوا نظراتها النارية التي تلفح وجوههم، ولا صرخاتها الدموية التي تدوي

في آذانهم، فهم دائما فارّون مطاردون كأنهم بعض المجرمين، لا عمل لهم في حياتهم سوى أن يسائلوا أنفسهم: أين يعيشون؟ وكيف يعيشون؟ إنهم لم يريدوا مطاردة جسمك بل نفسك، ونفسك باقية في مكانها لم تبرحه، ولم يعتقلوك من أجلك، بل من أجل القضاء على الروح الوطنية من بعدك، والروح الوطنية نامية زاهرة تضرب أعراقها في أعماق القلوب، وتهفو ذوائبها في آفاق السماء، ولم ينقموا عليك حياتك ولا وجودك، بل وقوفك في وجه متعتهم بمناصبهم التي هي كيان حياتهم وقوام أمرهم، والتي لا سبيل لهم إلى العيش إلا في ظلها، ولا الحياة إلا في دائرتها، ومناصبهم منغصة مهددة هي هامة اليوم أو غد. فهم لم يفقدوا إلا وجهك، ولم ينالوا إلا من جسمك، ولم يحصلوا في أيديهم من كل ما عملوا إلا على إثم الجريمة وعارها. آه يا سيدي لو تيسر لك أن تراهم لرأيت قوما معذبين متألمين, حائرين ذاهلين, لا يهنئون في نوم ولا يقظة، ولا يهدءون في سكون ولا حركة، قد ضاقت بهم الحيل، وتشعبت بهم السبل، وانتشرت عليهم الآراء والأفكار، لا يعلمون ماذا يأخذون وماذا يتركون، لا عمل لهم في حياتهم سوى

أن يسائلوا أنفسهم ليلهم ونهارهم: ألا يستطيع هؤلاء الناس أن يرضوا منهم بدون عودتك، وعودتك موتهم الأحمر وشقاؤهم الأكبر؟ ينثرون الذهب على الناس نثرا ليتألفوهم ويستدنوهم, فيلتقطونه وهم يلعنونهم؛ لأنه مالهم قد أخذوه منهم ثم نثروه عليهم. يوزعون الرتب والنياشين على الخاملين والمغمورين ليكونوا أعوانهم وأنصارهم بدل الأعوان والأنصار، فيمنحونهم من ألسنتهم ووجوههم ما لا يمنحونهم من قلوبهم وأفئدتهم؛ لأن الحب لا يشترى بالأسماء والألقاب. يخلعون الوظائف الكبرى والمناصب الخطيرة على صغار الموظفين وأحداثهم ليخلبوهم ويبهروا عقولهم, فلا يصنعون لهم شيئا سوى أن يجاملوهم في مجالسهم ببعض ما يحبون، فإذا خرجوا من عندهم خرجوا هازئين بهم ساخرين. يبتاعون أقلام فقراء الكتاب وضعفائهم ليكتبوا لهم ما يحط من شأنك ويرفع من شأنهم, فيفعلون كارهين متبرمين؛ لأن القلم لا يجد لذة المراح والجولان إلا في ميدان الصدق والاعتقاد.

يصيحون في الناس بلهجة الخبثاء الماكرين: أبشروا أيها الناس, فقد جئناكم بالاستقلال الذي هو خير لكم من سعد, فيجيبونهم بهدوء وسكون: لو كان صحيحا ما تقولون, لكان سعد أول من يتمتع به لأنه صاحبه. يحلفون لهم بالله جهد أيمانهم أنهم لا يريدون بهم إلا خيرا, ولا يضمرون لهم إلا ما يحبون فيقولون لهم: ولماذا إذن نفيتم سعدا؟ يحاولون بكل ما يعرفون من الوسائل أن يفصلوا بين قضيتك وقضية مصر, فكأنما يحاولون الفصل بين الشمس وشعاعها, والنار وحرارتها، والمقدمة ونتيجتها. يصخبون أخيرا ويحتدمون ويقولون: إن التشبث بعودة سعد مسألة شخصية، فتتجاوب الأصداء من كل ناحية: هبوا أن الأمر كما تقولون، وهل تشبثكم بمناصبكم وعضكم عليها بالنواجذ ومخاطرتكم بكل شيء في سبيلها مسألة غير شخصية؟! فأنت يا مولاي قذى عيونهم، وغصة حياتهم، وشغل قلوبهم وأفئدتهم، والحجة القائمة عليهم أحسنوا أم أساءوا، أعطوا أم منعوا، نفعوا أم أضروا. ولقد تحدثهم نفوسهم أحيانا بالتخلي عن تلك المناصب

الشقية وتوديعها إلى الأبد سآمة وضجرا، وضيقا وحصرا، ولكن يحول بينهم وبين ذلك علمهم أن الأوان قد فات، وأن الأمة لا تغفر لهم ذنوبهم، ولا تقيل لهم عثراتهم، وأنهم لا يستطيعون أن يجدوا في فضاء الأرض ذات الطول والعرض ظل حصاة يلجئون إليه من نقمة الأمة وغضبها، فلا يجدون لهم بدا من أن يستمروا قابعين وراء تلك الأكمة التي تحميهم وتذود عنهم، وربما كانوا يبكون وراءها دما. فمثلهم كمثل الفارة من بيت أبيها إلى بيت خليلها، يلحقها الندم، وتضيق بها ساحة العيش، فتود لو رجعت إلى بيتها الأول، ولكنها لا تستطيع. وكأنهم بحماتهم وقد ملوهم وسئموهم، وضجروا بمكانهم؛ لأنهم ما منحوهم هذه المناصب حبا وإيثارا، أو منة وفضلا، بل ليمهدوا لهم السبيل إلى ذلك الاتفاق الذي يريدونه، ويقوموا لهم بوظيفة تحويل شعور الأمة إلى سياستهم، واقتيادها إلى حظيرتهم، من طريق الكيد والدهاء، لا من طريق القوة والعنف، وقد عجزوا عن ذلك، فلم يبق لهم سبيل إلى البقاء. وكذلك ينتقم الله لك منهم يا مولاي انتقاما تهتز له أقطار

الأرض، وتضطرب له أكناف السماء، وكذلك يسجل لهم التاريخ في صفحاته من العار والشنار ما سجل لأمثالهم من الخارجين المارقين. مولاي! لا الشمس الطالعة من مشرقها صفراء كالذهب تنشر الأضواء في الآفاق, وتعابث بأشعتها اللامعة المتلألئة ذوائب الأشجار وقمم الجبال ورءوس الهضاب, وتبعث الأزهار من أكمامها والطيور من أوكارها. ولا البدر السائر في سمائه بعظمته وجلاله بين حاشية من كواكبه ونجومه، يمسح بليقته الفضية جبين السماء، ويمزق حجب الظلام عن وجه الغبراء. ولا الربيع المقبل في أثواب زهوره ورياحينه، ومطارف غدرانه وجداوله، يوشي بساط الأرض بأبدع الألوان وأبهاها، ويملأ الفضاء الرحب بأطيب الروائح وأعبقها. ولا الطيور الصادحة على أفنانها توقع نغماتها على خرير الماء, وتترجم في توقيعها عن شجو النفوس وحنينها، وخفقان القلوب وأنينها. ولا أحلام الحياة اللذيذة المنبعثة في النفوس انبعاث الراح في الأجسام، تحيي مواتها، وتثتثير نشوتها، وتهز أعطافها،

وتذيقها حلاوة المنى, ولذة الأمل. ولا الدنيا وجمالها، ولا الأرض وبهجتها، ولا السماء وزينتها، ولا البحار وروعتها، ولا المروج وخضرتها، ولا الأزهار ونضرتها، بقادرة على أن تنسينا أيامك الغر البواسم التي كانت غرر الدهر وحجوله، وزينة الدنيا وبهجتها، ولا بمستطيعة أن تنزع من بين قلوبنا مرارة الحسرة على فراقك، واللهف إلى لقائك، فمتى يجمع الله بيننا وبينك! لا أوحشت دارك من شمسها ... ولا خلا غابك من أسده

منتخبات من شعر المؤلف

منتخبات من شعر المؤلف ... وصف القلم: يا يراعي لولا يد لك عندي ... عفتُ نظمي في وصفك الأشعارا يا يراع الأديب لولاك ما أصـ ... ـبح حظ الأديب يشكو العثارا غير أني أحنو عليك وإن لم ... تك عونا في النائبات وجارا أنت نعم المعين في الدهر لولا ... أن للدهر همة لا تجارى يتجلى في النفس شمس نهار ... في دجى الليل تبعث الأنوارا جمع الله فيه بين نقيضيـ ... ـن فكان الظلام منه نهارا فهو حينا نار تلظى وحينا ... جنة الخلد تنثر الأزهارا

وتراه ورقاء1 تندب شجوا ... وتراه رقطاء2 تنفث نارا وتراه مغنيا إن شدا حر ... ك بين الجوانح الأوتارا وتراه مصورا يرسم الحسـ ... ـن ويغري برسمه الأبصارا فتخال القرطاس صفحة خد ... وتخال المداد فيه عِذارا هو جسر تمشي القلوب عليه ... لتلاقي بين القلوب قرارا صامت تسمع العوالم منه ... أي صوت يناهض الأقدارا فهو كالكهرباء غامضة الكنـ ... ـه وتبدو بين الورى آثارا كم أثار اليراع خطبا كمينا ... وأمات اليراع خطبا مثارا

_ 1 الورقاء: الحمامة. 2 الرقطاء: الحية الخبيثة.

قطرات من بين شقيه سالت ... فأسالت من الدما أنهارا كان غصنا فصار عودا ولكن ... لم يزل بعد يحمل الأثمارا كان يستمطر السماء فحال الـ ... ـأمر فاستمطر العقول الغزارا يسعد الناس باليراع ويلقى ... ربه ذلة به وصغارا وا شقاء الأديب هل وتر1 الدهـ ... ـر فلا زال طالبا منه ثارا أرفيق المحراث يحيا سعيدا ... ورفيق اليراع يقضي افتقارا ما جنى ذلك الشقاء ولكن ... قد أراد القضاء أمرا فصارا ليس للنسر من جناح إذا لم ... يجد النسر في الفضاء مطارا

_ 1 وتره: أصابه بثأر, يقول: كأن الدهر موتور لذلك الأديب, فهو يطالبه بالثأر.

حاسبوه على الذكاء وقالوا ... حسبه صيته البعيد فخارا أوهموه أن الذكاء ثراء ... فمضى يسحب الذيول اغترارا يحسب النقد للقصيدة نقدا ... ويرى البيت في القصيدة دارا ليس بدعا من هائم في خيال ... أن يرى كل أصفر دينارا إن بين المداد والحظ عهدا ... وذماما لا يلتوي وجوارا فاللبيب اللبيب من ودع الطر ... س وولى من اليراع فرارا على لسان عامل فقير: زاحفتُ أيامي وزاحفنني ... دهرا فلم تنكل ولم أنكل1

_ 1 نكل: نكص وجبن.

لا عزمها واه ولا عزمتي ... تصادم الجندل بالجندل رمت فلم تبق على مفصل ... لكنها طاشت عن المقتل وليتها أصمت1 فما أبتغي ... من عيشها إن أنا لم أقتل لا خير في الصبر على غمرة ... لا يأمل الصابر أن تنجلي صبرت في البأساء صبر الذي ... قيد إلى القتل فلم يحفل لا فضل في الصبر لمستسلم ... عي عن الفعل فلم يفعل عشرون عاما لم تحل حالتي ... ما أشبه الآخر بالأول أغدو إلى المعمل في شملة2 ... خرقاء لم تكس ولم تشمل

_ 1 أصمى الصيد: رماه فقتله. 2 الشملة: نوع من الأكسية.

كأنها برقع مصرية ... لا تحجب الوجه عن المجتلي تنم عن جسمي كما نم عن ... نفسي غزير المدمع المرسل يميل بي الهم مميل النقا ... بين جنوب الريح والشمأل فمن رآني ظن بي نشوة ... أجل بكأس الحزن لا السلسل أقضي نهاري مقبلا مدبرا ... كأنني الآلة في المعمل وصاحب المعمل لا يرتضي ... مني بغير الفادح المثقل فإن شكوت النزر1 من أجره ... برح بي شتما ولم يجمل حتى إذا عدت إلى منزلي ... وجدت سوء العيش في المنزل أرى أيامي يشتكين الطوى ... إلى يتامى جوَّع نحَّل

_ 1 النزر: القليل.

أبيت والأجفان في سهدها ... كأنما شُدَّت إلى يذبل1 بين صغار سهد في الدجى ... يذرون دمع الثاكل المرمل بين ضعيف الخطو لم يعتمد ... وشاخص في المهد لم يحول2 يدعون أما تتلظى أسى ... حذار يوم الحادث المثكل ووالدا عيَّ بإسعافهم ... في العيش عي الفارس الأعزل ما زال ريب الدهر ينتابني ... بالمعضل الفادح فالمعضل حتى رماني بالتي لم تدع ... إلا بقايا الروح في هيكل3 فها أنا اليوم طريح الضنى ... وليس غير الصبر من معقل

_ 1 جبل معروف. 2 لم يعتمد: أي لم يتكل في مشيه على نفسه, والمحول: الذي بلغ حولا. 3 يريد بها الحمى.

في لفحة الرمضاء لا أتقي ... وهبة النكباء لا أصطلي1 هذا هو البؤس فهل من فتى ... تم له في البؤس ما تم لي وقال ينعى على جماعة الفوضويين مذهبهم في قتل الملوك, ويشير إلى حادثة الفوضوي الذي وضع منذ سنوات قنبلة في طريق الفونس الثالث عشر ملك أسبانيا وهو عائد من الكنيسة مع عروسه في يوم حفلة قرانه, فأصابت القنبلة خيل المركبة وقتلت بعض الحاشية, ونجا الملك وعروسه وقبض على الفوضوي فقتل: أيها الفاتك الأثيم رويدا ... كل يوم تكيد للتاج كيدا لا أرى التاج في البرية إلا ... فلكا دائرا وأخذا وردا يتخطى الرءوس رأسا فرأسا ... ماشيا في العصور عهدا فعهدا

_ 1 الرمضاء: شدة الحر, والنكباء: الريح الباردة.

فمحال أن يهدم المرء صرحا ... أعجز الدهر بأسه أن يهدا عبثا تقتل الملوك وعذرا ... لك فيهم لو كنت تحمل حقدا آفة العقل أن يرى الحمد ذما ... ويرى الخطة الدنيئة حمدا لا يبالي بالموت من عرف المو ... ت ومن لا يرى من الموت بدا غير أن الآجال فينا حدود ... كل حي تراه يطلب حدا أي جفن أجريت منه دموعا ... كان لولاك في السماكين بعدا أي روع أسكنته في فؤاد ... كان في فادح الحوادث جلدا ما بكى الفونس خشية بل غراما ... ودموع الغرام أشرف قصدا إن قلب الجبان يخفق رعبا ... غير قلب المحب يخفق وجدا

كان بين الحياة والموت شبر ... بُدّل النحس في مجاريه سعدا فرأينا القتيل يعمر قصرا ... وغريم القتيل يعمر لحدا أنت تقضي والله يقضي بعدل ... في البرايا والله أكبر أيدا1 جمرة أطفأ القضاء لظاها ... فغدا جمرها سلاما وبردا إن للمالك الكريم قلوبا ... وقفت بينه وبينك سدا فافتدته فكن خير فداء ... لمليك وكان نعم المفدى في الوجديات: سقاها وحيا تربها وابل القطر ... وإن أصبحت قفراء في مهمه قفر طواها البلى طي الشباب رداءه ... وليس لما يطوي الجديدان2 من نشر

_ 1 الأيد: القوة. 2 الجديدان: الليل والنهار.

مرابض آساد ومأوى أراقم ... تجاور في قيعانها الغيل بالجحر1 يكاد يضل النجم في عرصاتها2 ... ويزورّ عن ظلمائها البدر من ذعر لقد فعلت أيدي السوافي بنؤيها3 ... وأحجارها ما يفعل الدهر بالحر وقفت بها في وحشة الليل وقفة ... أثار شجاها كامن الوجد في صدري ذكرت بها العهد القديم الذي مضى ... ولم يبق منه غير بالٍ من الذكر وعيشا حسبناه من الحسن روضة ... كساها الحيا منه أفانين من زهر فأنشأت أبكي والأسى يتبع الأسى ... إلى أن رأيت الصخر يبكي إلى الصخر وما حيلة المحزون إلا لواعج ... تفيض بها الأحشاء أو عبرة تجري

_ 1 الأراقم: الحميات, والغيل: موضع الأسد. 2 العرصات جمع عرصة, وهي ساحة الدار. 3 السوافي: الرياح, والنؤي: الحفير حول الخباء أو الخيمة يمنع السيل.

وما أنس م الأشياء لا أنس ليلة ... جلاها الدجى قمراء في ساحة القصر كأن النجوم في أديم سمائها ... سفائن فوضى سابحات على نهر كأن الثريا في الدجنة طرة1 ... مرصعة الأطراف باللؤلؤ النثر كأن سهيلا حاسد كلما رأى ... أخا نعمة يرميه بالنظر الشزر2 كأن السها3 حق تعرض باطل ... إليه فألقى دونه مسبل الستر كأن الدجى فحم سرى في سواده ... من الفجر نار فاستحال إلى جمر كأن نسيم الفجر في الجو خاطر ... من الشعر يجري في فضاء من الفكر وفي القصر بين الظل والماء غادة ... تميس بلا سكر وتنأى بلا كبر

_ 1 الطرة: الشعر المقدم في الجبهة. 2 سهيل: نجم معروف بشدة الاحمرار والخفقان. 3 السها: نجم ضعيف.

تريك عيونا ناطقات صوامتا ... فما شئت من خمر وما شئت من سحر لهوتُ بها حتى قضى الليل نحبه ... وأدرجه المقدار في كفن الفجر لعمرك ما راحت بلبي صبابة ... ولا نازعتني مهجتي سورة1 الخمر ولا هاجني وجد ولا رسم منزل ... عفاء ولكن هكذا سنة الشعر ومن كان ذا نفس كنفسي قريحة ... من الهم لا يُعنى بوصل ولا هجر كأني ولم أسلخ2 ثلاثين حجة ... ولم يجر يوما خاطر الشيب في شعري أخو مائة يمشي الهوينا كأنه ... إذا ما مشى في السهل في جبل وعر إذا شاب قلب المرء شاب رجاؤه ... وشاب هواه وهو في ضحوة العمر

_ 1 سورة الخمر: حدتها. 2 سلخ عامه: أمضاه.

حييت بآمالي قلما كذبنني ... قنعت فلم أحفل بقل ولا كثر وأصبحت لا أرجو سوى الجرعة التي ... أذوق إذا ما ذقتها راحة القبر وليست حياة المرء إلا أمانيا ... إذا هي ضاعت فالحياة على الأثر جزى الله عني اليأس خيرا فإنه ... كفاني ما ألقى من الأمل المر وراض جماحي للزمان وحكمه ... بما شاء من عدل وما شاء من جور فما أنا إن ساء الزمان بساخط ... ولا أنا إن سر الزمان بمغتر وقال في شأن غني من الأغنياء غلبته المدنية الحديثة على بساطته الطبيعية, فابتنى قصرا فخما كان سببا في فساد حاله, وسوء مصيره: يا صاحب القصر الذي شاده ... فاستنفد المذخور من وجده1 أقمته كالطود في هضبة ... ترد عادي الدهر عن قصده

_ 1 الوجد: الغنى والسعة.

أزرته الأبراج في جوها ... فانتظم الأنجم في عقده أطلعت فيه كوكبا دانيا ... أغنى عن الشاسع في بعده قلصت ظل الليل عنه وما ... رعيت حق الله في مده أنشأت روضا زاهرا حوله ... يعطر الكون شذا نده ورحت بالرتبة في صدره ... تدل دل الملك في جنده كأنما الرتبة كل الذي ... ينيله الكوكب من سعده هب أنه اللوفر1 في حسنه ... أو قصر بوكنهام2 في جده وهبك روكفيلر3 تحوي الذي ... يضلل الحاسب في عده فالمال إن أجهده ربه ... فالفقر والعدم مدى جهده

_ 1 اللوفر: قصر في باريس. 2 قصر في لندن. 3 أحد الأغنياء في أمريكا.

والمال كالطائر إن هوّمت ... حراسه طار إلى فنده1 والمجد للمال وكل الذي ... تراه من مجد فمن مجده هذا شهاب ساطع مشرق ... والليلة الليلاء من بعده بنيت للبنك فأغنيته ... بجدك المبذول عن جده بنيت ما لو قدَروا قدرَه ... لقيل هذا الميت في لحده وأدتَ فيه الأمل المرتجى ... حيا ولم تأس على وأده أغمدت فيه صارما طالما ... تثلم الدهر على حده واريتَ فيه ولدا ليته ... قضى قرير العين في مهده

_ 1 هوم: هز رأسه من النعاس, والفند: الجبل.

وليته ما شب في زخرف ... يبكي يد الدهر على رغده فليس من يأسى على مطلب ... ناء كمن يأسى على فقده غدرت بالبيت الذي بثك الـ ... ـود فلم تبق على وده هدمته والمجد ظل له ... فما بقاء الظل من بعده لكنت من كوخك في نعمة ... تذيب قلب الدهر من حقده وكان ينتابك مسترفدا ... من بت محتاجا إلى رفده فاليوم لا القصر كما ترتجي ... منه ولا الكوخ على عهده واليوم رب القصر يذري دما ... من جفنه آنا ومن كبده يدعو إليه الموت من بعد ما ... نالت يد الأيام من أيده

واسود ذاك الجون من جلده ... وابيض ذاك الجون من فوده1 هل يعلم الشرقي أن الردى ... سر بصدر الدهر لم يبده وأنه يفجؤنا بالأسى ... يوما خروج السيف من غمده وأن هذا الدهر في هزله ... يغر بالكاذب من وعده فهزله أنفذ من جده ... ورهوه أسرع من وخده2 ويح لمصر ولأبنائها ... مما يريغ3 الدهر من كده نعيش بالهم ونرضى به ... عيشا ونقضي العمر في نقده كشارب الكأس يرى عابسا ... منه ولا يقوى على رده

_ 1 الجون: وصف للأبيض والأسود, والفود: ناحية الرأس. 2 الرهو: السير السهل, والوخد: السير السريع. 3 يريغ: يريد.

فإن لمحنا بارقا خاطفا ... لا نسمع القاصف من رعده نسرع خوض البحر في جزره ... وجزره ينبئ عن مده والكل ظمآن يرى صادرا ... وما قضى الإربة من ورده وقال في الحكم: إذا ما سفيه نالني منه نائل ... من الذم لم يحرج بموقفه صدري أعود إلى نفسي فإن كان صادقا ... عتبت على نفسي وأصلحت من أمري وإلا فما ذنبي إلى الناس إن طغى ... هواها فما ترضى بخير ولا شر وقال يهنئ الشيخ محمد عبده بعودته من إحدى رحلاته في أوروبا: راح يباري النجم في جده ... وعاد كالسيف إلى غمده رأى السرى والسهد مهر العلا ... فجد وارتاح إلى سهده

لا يبصر الخطب جليلا ولا ... تلوي به الأهوال عن قصده مسدد العزم إذا ما مضى ... يحار صرف الدهر في رده كالسيف يجلوه القراع1 ولا ... يأخذ ضرب الهام من حده كان لمصر بعد توديعه ... صبابة الصادي إلى ورده واليوم قد عاد لها كل ما ... ترجو من النعمة في عوده وافترّ عنه ثغرها مثلما ... يفتر ثغر الروض عن ورده بدا وقد حفت به هيبة ... كأنما عثمان في برده ما فيه من عيب سوى أنه ... يحسده الناس على مجده ما حيلة الحساد في نعمة ... أسبغها الله على عبده

_ 1 القراع: الضراب.

وقال في حادثة عربية وقعت بين أسماء بنت أبي بكر الصديق وولدها أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير حينما حاصره الحجاج في مكة حتى أحرجه, ثم عرض عليه التسليم فاستشار أمه, فأشارت عليه بالاستقتال, فقاتل حتى قتل: إن أسماء في الورى خير أنثى ... صنعت في الوداع خير صنيع جاءها ابن الزبير يسحب درعا ... تحت درع منسوجة من نجيع1 قال يا أم قد عييتُ بأمري ... بين أسر مر وقتل فظيع خانني الصحب والزمان فما لي ... صاحب غير سيفي المطبوع وأرى نجمي الذي لاح قبلا ... غاب غني ولم يعد لطلوع بذل القوم لي الأمان فما لي ... غيره إن قبلتُه من شفيع فأجابت والجفن قفر كأن لم ... يك من قبل موطنا للدموع

_ 1 النجيع: الدم.

واستحالت تلك الدموع بخارا ... صاعدا من فؤادها المصدوع لا تسلم إلا الحياة وإلا ... هيكلا شأنه وشأن الجذوع إن موتا في ساحة الحرب خير ... لك من عيش ذلة وخضوع إن يكن قد أضاعك الناس فاصبر ... وتثبت فالله غير مضيع مت هماما كما حييت هماما ... واحي في ذكرك المجيد الرفيع ليس بين الحياة والموت إلا ... كرة في سواد تلك الجموع ثم قامت تضمه لوداع ... هائل ليس بعده من رجوع لمست درعه فقالت لعهدي ... بك يابن الزبير غير جزوع إن بأس القضاء في الناس بأس ... لا يبالي ببأس تلك الدروع

فنضاها عنه وفرّ إلى المو ... ت بدرع من الفخار منيع وأتى أمه النعي فجادت ... بعد لأي بدمعها الممنوع وقال في الشيب: ضحكات الشيب في الشعر ... لم تدع في العيش من وطر هن رسل الموت سانحة ... قبله والموت في الأثر يا بياض الشيب ما صنعت ... يدك العسراء بالطرر أنت ليل الحادثات وإن ... كنت نور الصبح في النظر ليت سوداء الشباب مضت ... بسواد القلب والبصر فالصبا كل الحياة فإن ... مر مرت غبطة العمر وقال على سبيل الفكاهة في شأن كلب اسمه "بيل" وفي لسيده, فطوقه طوقا من الذهب وأوصى له بخمسة آلاف دينار:

ليهنك يا "بيل" الجلال وعزة ... يكاد لها القلب الكسير يطير ملكت على الزهد الألوف وكلنا ... إلى قطرة مما ملكت فقير إذا كان هذا الطوق كالتاج قيمة ... فأنت بألقاب الملوك جدير وما المال إلا آية الجاه في الورى ... فحيث تراه فالمقام خطير ولو كان بين الجاه والفضل لحمة ... لزالت عروش جمة وقصور فيا بيل لا تجزع فرب متوج ... شبيهك إلا منبر وسرير وما أنت في جهل المقادير آية ... فمثلك بين الناطقين كثير لئن فاتك النطق الفصيح كما ترى ... فسهمك من نطق الفؤاد وفير وفيت بعهد للصديق وما وفى ... بعهد صديق جرول1 وجرير

_ 1 جرول: لقب الحطيئة الشاعر, وجرير شاعر معروف.

فعش صامتا واقنع بحظك واغتبط ... فما النطق إلا آفة وشرور ضلال يرى الإنسان فضلا لنفسه ... وساعده في المكرمات قصير وما المرء إلا صدقه ووفاؤه ... وكل كبير بعد ذاك صغير وماذا يفيد المرء حسن بيانه ... إذا عيّ بالنطق الفصيح ضمير مدحتك يا بيل لأني شاعر ... وأنت على حسن الجزاء قدير ولو كنت تدري ما أقول لقمت لي ... بما لم يقم للمادحين أمير

في الوجديات: جرى الدمع حتى ليس في الجفن مدمع ... وقاسيت حتى ليس في الصبر مطمع وما أنا من يبكي ولكنه الهوى ... يريد من الأسد الخضوع فتخضع فلله قلبي ما أجل اصطباره ... وأثبته والسيف بالسيف يقرع ولله قلبي ما أقل احتماله ... إذا ما نأى عنه الحبيب المودع إذا لاح لي سيف من الخطب رعتهُ ... وإن لاح لي سيف من اللحظ أجزع وأقتاد ليث الغاب والليث مخدر ... ويقتادني الظبي الغرير فأتبع وليل أضل الفجر فيه طريقه ... فلم يدر لما ضل من أين يطلع

سهرتُ به أرعى الكواكب والكرى ... عصي على الأجفان والدمع طيِّع أود لو ان الطيف مَنَّ بزورة ... وكيف يزور الطيف من ليس يهجع لقد عشت دهرا ناعم البال خاليا ... من الهم لا أشكو ولا أتوجع أروح ولي في معهد الغي مربع ... وأغدو ولي في مسرح اللهو مرتع فما زلت أبغي الحب حتى وجدته ... فلما أردت القرب كان التمنع فلم يبق لي عن ذلك الحب مهرب ... ولم يبق لي في ذلك القرب مطمع كأني في جو الصبابة ريشة ... بأيدي السوافي ما لها الدهر موقع كأني في بحر الهيام سفينة ... أحاط بها موج الردى المتدفع

كأني في بيداء دهماء مجهل ... تضل رخاء في دجاها وزعزع فلا أنا فيها واجد من يدلني ... ولا نجمها يبدو ولا البرق يلمع فمهلا رويدا أيها اللائم الذي ... يجرعني في لومه ما يجرع نصحت فلم أسمع وقلت فلم أطع ... فما نصح حب لا يطيع ويسمع فيا حب هذا القول لو كان مجديا ... ويا نعم ذاك النصح لو كان ينفع قضى الله ألا رأى في الحب لامرئ ... وذاك قضاء نافذ ليس يدفع مررت على الدار التي خف أهلها ... وطال بلاها فهي قفراء بلقع معاهد كانت آهلات وكان لي ... مصيف تقضَّى في رباها ومربع

فيا ليت شعري هل يعودنَّ عيشنا ... بمعهدها والشمل بالشمل يجمع فتُقضى لُبانات وتطفى لواعج ... وتبرد أكباد وتنضب أدمع فما أنس م الأشياء لا أنس ليلة ... تجشمت فيها الهول والهول مفزع ولا مؤنس إلا ظلام ووحدة ... ولا مسعد إلا فؤاد مروع ولا صاحب إلا المطية حولها ... ذئاب تعادي في الفلاة وأضبع ولا عين إلا النجم ينظر باهتا ... ويعجب لي ماذا بنفسي أصنع إذا ما تشكت من كلال مطيتي ... وقد كلمتها ألسن السوط تسرع أسير بها سير السحاب كأنني ... بأذرعها عرض الفدافد أذرع

إلى أن تنورت الخيام ولاح لي ... ضياء بدا من جانب الخدر يسطع فأقدمت نحو الحي والحي هاجع ... وخضت سواد القوم والقوم صرع ولا عهد لي من قبل أين خباؤها ... ولكن هداني نشرها المتضوع فبت وباتت يعلم الله لم يكن ... سوى أذن تصغي وعين تمتع نخال دوي الريح في الجو واشيا ... بنا وضياء البرق عينا فنفزع ولا عين إلا خوفنا وارتياعنا ... ولا ناظر يرنو ولا أذن تسمع وأعذب ورد راقٍ ما كان نيله ... عزيزا وأحلى القرب قرب ممنع فكانت برغم الدهر أحسن ليلة ... رأيت بعمري بل هي العمر أجمع

وما راعنا إلا هدير حمامة ... على فنن عند الصباح ترجِّع فقمت ولم تعلق بذيلي ريبة ... ولا كان إلا ما يشاء الترفع وودعتها والحزن يغلب صبرنا ... وأحشاؤنا من حسرة تتقطع فقالت أهذا آخر العهد بيننا ... وهل لتلاقينا معاد ومرجع فقلت ثقي يا فوز بالله إنها ... "سحابة صيف عن قليل تقشع" وسرتُ وقلبي في الخيام مخلَّفٌ ... ولي نحو قلبي والخيام تطلُّع حنانيك رفقا أيها الدهر واتئد ... فحسبي ما ألقى وما أتجرع ورحماك بي فالسيل قد بلغ الزبى ... ولم يبق في قوس التصبر منزع

على أنني أصبحت لا متخوفا ... بلاء ولا إن نالني الرزء أجزع فقد اعتصمت بالصبر نفسي وفوضت ... إلى الله ما يعطي الزمان ويمنع

بول وفرجيني: يا بني القفر سلاما عاطرا ... من بني الدنيا عليكم وثناء وسقى العارض من أكواخكم ... معهد الصدق ومهد الأتقياء كنتم خير بني الدنيا ومن ... سعدوا فيها وماتوا سعداء عشتم من فقركم في غبطة ... ومن القلة في عيش رخاء لا خصام لا مراء بينكم ... لا خداع لا نفاق لا رياء خلق بر وقلب طاهر ... مثل كأس الخمر معنى وصفاء

ووفاء ثبت الحب به ... وثبات الحب في الناس الوفاء أصبحت قصتكم معتبرا ... في البرايا وعزاء البؤساء يجتلي الناظر فيها حكمة ... لم يسطرها يراع الحكماء حكم لم تقرءوا في كتبها ... غير أن طالعتمو صحف الفضاء وكتاب الكون فيه صحف ... يقرأ الحكمة فيها العقلاء إن عيش المرء في وحدته ... خير عيش كافل خير هناء فالورى شر وهمّ دائم ... وشقاء لا يدانيه شقاء

وفقير لغني حاسد ... وغني يستذل الفقراء وقوي لضعيف ظالم ... وضعيف من قوي في عناء في فضاء الأرض منأى عنهم ... ونجاء منهم أي نجاء إن عيش المرء فيهم ذلة ... وحياة الذل والموت سواء ليت "فرجيني" أطاعت "بولسا" ... وأنالته مناه في البقاء ورثت للأدمع اللاتي جرت ... من عيون ما درت كيف البكاء لم يكن من رأيها فرقته ... ساعة لكنه رأى القضاء فارقته لم تكن عالمة ... أن يوم الملتقى يوم اللقاء

ما "لفرجيني" وباريس أما ... كان في القفر عن الدنيا غناء إن هذا المال كأس مزجت ... قطرة الخمرة فيه بدماء لا ينال المرء منه جرعة ... لم يكن في طيها داء عياء عرضوا المجد عليها باهرا ... يدهش الألباب حسنا ورُواء وأروها زخرف الدنيا وما ... راق فيها من نعيم وثراء فأبته وأبى الحب لها ... نقض ما أبرمه عهد الإخاء ودعاها الشوق للقفر وما ... ضم من خير إليه وهناء فغدت أهواؤها طائرة ... بجناح الشوق يزجيها الرجاء

يأمل الإنسان ما يأمله ... وقضاء الله في الكون وراء ما لهذا الجو أمسى قاتما ... ينذر الناس بويل وبلاء ما لهذا البحر أضحى مائجا ... كبناء شامخ فوق بناء وكأن الفلك في أمواجه ... ريشة تحملها كف الهواء ولفرجيني يد مبسوطة ... بدعاء حين لا يجدي دعاء لهفي والماء يطفو فوقه ... هيكل الحسن وتمثال الضياء زهرة في الروض كانت غضة ... تملأ الدنيا جمالا وبهاء

من يراها لا يراها خلقت ... مثل خلق الناس من طين وماء ظنت البحر سماء فهوت ... لتباري فيه أملاك السماء هكذا الدنيا وهذا منتهى ... كل حي ما لحي من بقاء

فهرست الجزء الثالث من النظرات

فهرست الجزء الثالث من النظرات: صفحة 3 البيان 13 الناشئ الفقير 28 قتيلة الجوع 31 الأدب الكاذب 36 إيفون الصغيرة 42 الملاعب الهزلية 52 الشيخ علي يوسف 59 العظمة 66 حرية الانتقاد 70 يوم العيد 74 من الشيوخ إلى الشبان 81 الموتى 87 الزهرة الذابلة 93 الوجهاء 102 جرجي زيدان 113 احترام المرأة 119 الانتقام 146 الخطبة الصامتة 148 اللفظ والمعنى 153 الآداب العامة 161 المؤتمر الإسلامي 165 الجاهليتان 170 في أكواخ الفقراء 181 الشيخ محمد عبده 187 عواطف البنين 190 الرشوة 195 "القضية المصرية" 195 من مايو سنة 1921 إلى مارس سنة 1922 196 العاصفة 201 حكم القوة 208، 216، 224، 231، 243 إلى خصوم سعد باشا 255 عبرة الدهر 259 إلى أعدائنا 263 إلى أعدائنا 269 إلى سعد باشا في منفاه 279 "منتخبات من شعر المؤلف" 280 وصف القلم 283 على لسان عامل فقير 287 الفوضويون 289 في الوجديات 293 القصر والكوخ 298 في الحكم 298 تهنئة 300 أسماء 302 الشيب 302 الكلب بيل 305 في الوجديات 312 بول وفرجين

§1/1