النسخ عند الفخر الرازي

محمود محمد الحنطور

[كلام من وحي]

[كلام من وحي] قال تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 106] يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ [الرعد: 39] وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [النحل: 101].

التقديم

التقديم

بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد الأمين، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، فمن نعم الله تعالى على عباده العلم الذى يثمر المعرفة التى أصبحت أساسا فى الوصول إلى الحق فى الخلق، وعنوانا على الطريق الصحيح فى الوصول إلى رب العالمين؛ الذى أسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة والتى لا ينكرها إلا جاحد، رفض رجوع الفضل إلى صاحبه، الذى نعبده ونستعينه ونستهديه فى كل أعمالنا، كى نحقق الغرض من خلقنا ألا وهو العبادة الصحيحة، والاعتراف بوحدانية الخالق- سبحانه وتعالى- من خلال الدين الخاتم والقرآن الخالد؛ الذى تظهر معجزاته كل يوم فى شتى المعارف، ومختلف العلوم التى جعلت أصحابها بدورا تنير للناس الطرق، وتهدى العالم إلى السبل بعد رسل الله- عليهم السلام-، فقد اختلفت الأمم، وأجدبت الحضارات وتشعبت الناس، ما بين غرب وشرق، وشمال وجنوب، نسوا أن الحق- سبحانه وتعالى- واحد، والرسول واحد والكتاب واحد، فأين يذهبون؟! فمهما بعدوا عنه، أو تركوه، أو تناسوه، فلن ينصلح آخرهم إلا بما صلح به أولهم، وصدق الله العظيم: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] ومعطيات الرحمة فى الاتحاد لا فى الافتراق والتشيع والتحزب، والرحمة فى العبادة لا فى الإلحاد والكفر والمروق عن الدين، والرحمة فى السمع والطاعة لأوامر الله تعالى ونواهيه وأن الله تعالى سينصر عباده، وحزبه، ما داموا

مخلصين فى العبادة، مسيطرين على الدنيا بتقواهم، وعلومهم لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة: 22]. وإنى على ثقة تامة أن الإسلام هو الحق، والقرآن هو الفيصل للعالم فى عصرنا الحاضر، وما يقدمه هذا الدين للعالم كله هو المفتاح السحرى لمشكلات العصر، وقضايا السيادة، ومشكلات الانفراد بالهيمنة والثقافة والفكر على العالم من دولة أو مجموعة دول لكى يصبح العالم كله قرية واحدة أو فكرة واحدة تدور فى فلك القوى مهما كانت نوازعه أو مطالبه، فى هدم القيم الثابتة لدى الأمم، وسلخ الإيمان الراسخ عند الشعوب المتدينة، وقلب الفطرة إلى الأنانية المطلقة، والخصوصية البغيضة التى دعا الإسلام إلى تجاوزها، والتعاون على البر والتقوى، والنفع العام للجميع دون تمييز أو مفاضلة وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ [المائدة: 4]. وخير دليل على شمولية الإسلام، وعمومية رسالته، ما وجدته عند الرازى الذى نشأ فى بيئة فارسية أو إيرانية، ومع ذلك جادل وناقش كل الفرق التى تدعى الإسلام، وتطبق غيره، ونجح فى صراعه، وبلغ الذروة فى دفاعه عن دينه، دون أن يعلو بجنس أو يفتخر بقوم، بل جعل الإسلام هو أصله الذى يدافع عنه وينتصر له، حتى تحقق له ما أراد، ولقد شجعتنى سيرة الفخر الرازى، وما

دار حولها وبسببها فى الدخول إلى عالمه الذى جمع العلوم فوعاها، وفتق أكمام الشريعة فأعلاها، فاستخرت الله تعالى، مستعينا به فى الولوج إلى هذا الخضم من التراث، كى أفتح لنفسى نافذة على فكر الرازى، لعلى أحظى بفكرة صائبة أو أرجع بيان واضح، ودليل راجح عن هذا الرجل فى موضوع كتب فيه الكثيرون حتى أشبعوه، ولم يتركوا شاردة ولا واردة قديما ولا حديثا، وهو النسخ فى القرآن، ولكنى أحببت أن أنفذ إلى الرازى من خلال هذا الموضوع، الذى كثر الجدل فيه عسى أن أخرج منه بما أشتهى، وإلا فقد حاولت، والله المستعان على المراد وهو نعم المولى ونعم النصير. د. محمود محمد الحنطور الأستاذ المساعد بكلية الدعوة بالمدينة المنورة فرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الثلاثاء فى 23 جمادى الآخرة 1422 هـ 11 سبتمبر 2001 م

الفصل الأول حياة الرازى

الفصل الأول حياة الرازى التمهيد اسمه ونسبه. مولده ووفاته نشأته وصفاته الرازى بين المدح والذم

التمهيد

التمهيد

لقد شغل الرازى الناس فى عصره، وملأ الدنيا علما وفكرا، وما زلنا نذكره بخير من خلال ما سطره بنانه من صفحات، وما بزّ فيه أقرانه من مناظرات ومحاورات، تثبت أن هذا الرجل مكتبة متحركة أينما حلت أفادت، وحيثما توجهت أنارت الطريق أمام السائلين، والمتعلمين، والعلماء، والباحثين، ولقد صدق وصف السبكى فيه «انتظمت بقدره العظيم عقود الملة الإسلامية، وابتسمت بدره النظيم ثغور الثغور المحمدية» (¬1). فآثاره العلمية والأدبية والفلسفية والشرعية تدل عليه دلالة واضحة، وما سجله العلماء والباحثون والمؤرخون فى حياته أو عن حياته، وبعد مماته خير دليل على هذه الآثار وتشهد على أننا أمام دائرة معارف متكاملة الفروع، ومتنوعة الأصناف ما بين طب ودين وأدب وفلسفة عربية وفارسية، فالناظر فى حياة الرجل يجده موسوعيا، لا يدرى الناظر فى علومه من أين يبدأ، ولا من أى الفنون يأخذ، فهو رأس فى الذكاء والعقليات، وبحر فى العقائد والحكمة والشرعيات تفسيرا وفقها وأصولا. وكتابه الكبير «مفاتيح الغيب» (¬2) أو «التفسير الكبير» بلغ اثنين وثلاثين جزءا من الحجم الكبير والورق الكبير، الذى يربو على تفسير الطبرى بعدة أجزاء، وليس له مثيل بين كتب التفسير. وكذلك كتابه الفذ فى أصول الفقه، الذى يعد علما على ¬

_ (¬1) السبكى: طبقات الشافعية 8/ 81 ط الحلبى. (¬2) طبع الكتاب باسم التفسير الكبير، فى عدة دول إسلامية، وأعتمد على طبعة دار الكتب العلمية بطهران، الطبعة الثانية بدون تاريخ.

صاحبه، بجانب من كتبوا فى هذا الفن من العلماء الأجلاء، والكتاب هو «المحصول فى علم أصول الفقه» (¬1) وهو أصل فى بابه وفنه. والكتب فى انتشارها، وقبولها بين الناس، كالمعادن النفيسة كلما خلصت نية صاحبها فى كتابتها، وكملت أدواته ومعلوماته زادت رواجا وانتشارا، ولمعانا على حق لا على زيف، لذلك قال الذهبى فى العبر عن الرازى «ورزق الحظوة فى تصانيفه، وانتشرت فى الأقاليم» (¬2) وهذه ميزة أخرى تضاف إلى ما سبق من ميزات انفرد بها الفخر الرازى بين العلماء، بالإضافة إلى سجل حافل بالدراسات والبحوث والرسائل العلمية حول هذه الشخصية الفريدة، وما قدمته فى مجالات شتى، وعلوم متنوعة، توشك هذه الدراسات والبحوث فى الجامعات ومعاهد العلم والمكتبات أن تقارب مقدار ما كتبه بل تزيد على ذلك كثيرا، وسيظل الرازى (¬3) نبعا يفيض بالعطاء كلما جال العلماء فى فكره وكتبه، ونقبوا عن كنوزه ودرره، وهكذا الكبار من العلماء تفنى أجسادهم وتبقى علومهم وفنونهم نبراسا لكل العصور، يتجدد عطاؤه مع تجدد الأيام والليالى خلودا وصعودا وفكرا وحكمة. ¬

_ (¬1) طبع الكتاب باسم المحصول فى علم أصول الفقه للرازى، طبعة لجنة البحوث بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية 1399 هـ- 1979 م، وحققه د. طه جابر فياض العلوانى فى عدة مجلدات. (¬2) الذهبى: العبر فى خبر من غبر 3/ 142. (¬3) انظر: المبحث الخاص بالرازى من كتاب «إلى طه حسين فى عيد ميلاده السبعين» بقلم چورچ قنواتى، إعداد عبد الرحمن بدوى، ط دار المعارف- مصر 1962 م.

اسمه ونسبه:

اسمه ونسبه: تتفق المصادر التى أرخت لحياة الرازى على أن اسمه: محمد بن عمر بن الحسين بن على، القرشى، البكرى، التيمى، الطبرستانى الأصل، الرازى المولد، الشافعى المذهب المدافع عن عقيدة أهل السنة والجماعة، ابن خطيب الرى من أهم مدن إيران آنذاك. وأما كناه فكثيرة، وألقابه فأكثر، ويبقى ما اشتهر به، ولقب به الفخر الرازى أو فخر الدين الرازى (¬1)، وكثرة الكنى والألقاب تدل على شرف صاحبها وعلو منزلته بين أقرانه، وعلماء عصره. ... ¬

_ (¬1) راجع: - ابن الأثير: الكامل فى التاريخ 9/ 302. - الذهبى: تاريخ الإسلام 43/ 211 فى الهامش سجل حافل عن سيرة الرازى قديما وحديثا. ط دار الكتاب اللبنانى 1997 م. - ابن كثير: البداية والنهاية 17/ 11. - السبكى: طبقات الشافعية 8/ 81. - ابن حجر العسقلانى: لسان الميزان 4/ 426. - ابن تغرى بردى: النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة 6/ 175. - ابن العماد الحنبلى: شذرات الذهب 7/ 40. - ياقوت الحموى: معجم البلدان 3/ 116.

مولده ووفاته

مولده ووفاته ولد الرازى بالرّى من أهم مدن إيران، وأكثرها رواجا فكريا وعلميا فى عهده وزمانه، فى سنة أربع وأربعين وخمسمائة من الهجرة النبوية، وهى أرجح الأقوال عند علماء التاريخ والتراجم، وهذا قريب مما ذكره عن نفسه (¬1)، حينما انتهى من تفسير سورة يوسف- عليه السلام- فى يوم الأربعاء، السابع من شعبان فى سنة إحدى وستمائة من الهجرة، وكذلك عند ما انتهى من تفسير سورة التوبة فى يوم الجمعة الرابع عشر من رمضان فى السنة نفسها، مما يؤكد وجوده بين سنة إحدى وستمائة، وست وستمائة من الهجرة، فقد توفى فى ذى الحجة يوم عيد الفطر من سنة ست وستمائة، فى مدينة هراة من المدن الأفغانية وقد أجمعوا على هذا التاريخ، وأرجعوا سبب وفاته إلى ما كان بينه وبين الكرّامية (¬2) من خلافات، فقد نال منهم كثيرا وصدهم بالحجة والمنطق والبرهان، ونالوا منه سبا ورميا بالكبائر والكفر، حتى قيل إنهم دسوا إليه من سقاه سما فمات (¬3). ... ¬

_ (¬1) د. محمد إبراهيم عبد الرحمن: منهج الفخر الرازى 25. (¬2) الكرامية: بفتح الكاف وتشديد الراء، ينتسبون إلى محمد بن كرام السجستانى من دعاة التجسيم والإرجاء، وجعل الله تعالى محلا للحوادث وجوهرا، وهم أهل ضلالة وكفر. البغدادى: الفرق بين الفرق 25، 5/ 2. (¬3) الذهبى: العبر 3/ 142.

نشأته وصفاته:

نشأته وصفاته: يعد الفخر الرازى نموذجا للعالم الذى لا يتوقف عند علم معين، بل أخذ من كل العلوم بحظ وافر، مما جرّ عليه الأحقاد، وزاد له فى الحسّاد، فى حياته وبعد مماته، فقد نشأ الرازى فى البيئة الإيرانية فى القرن السادس الهجرى، وبدايات الصراح بين المغول والمسلمين، وما سبق زحفهم على بلاد الإسلام والعراق بخاصة، وتدنّى الحضارة الإسلامية بسبب الصراعات والانقسامات بين دويلات العالم الإسلامى آنذاك، فالرى العاصمة الكبرى والمدينة العظمى لبلاد إيران وخراسان وخوارزم، وما كانت تموج به من فكر وثقافة وعلم، تحولت فى عهد الرازى إلى دمار وخراب، لولا فطنة بعض السلاطين مثل شهاب الدين الغورى سلطان غزنة، وعلاء الدين خوارزم شاه صاحب خراسان، فى الحفاظ على الدين واللغة والعلوم، لما وجدنا مثل الرازى، وغيره من العلماء الكبار الذين حملوا مشعل العلم والحضارة للعالم كله، يصححون المعوج من العقائد، ويقيمون الصحيح من الشريعة الإسلامية، ويدافعون عن الدين بكل ما رزقهم الله تعالى به من فهم ثاقب، وإخلاص نادر. عاش الرازى فى هذا العصر المضطرب، متعلما ودارسا على والده ضياء الدين خطيب الرى، وصاحب كتاب «غاية المرام فى علم الكلام»، وقد أخذ أبوه علم الأصول والكلام عن تلامذة الجوينى إمام الحرمين الذى أخذ عن أبى إسحاق الأسفراييني، والذين أخذوا الأصول عن أبى الحسن الأشعرى، وكذلك تفقه الفخر الرازى على والده الذى تفقه على الإمام البغوى الذى تفقه على مذهب الشافعى

ودافع عنه، وكذلك أخذ الفخر الرازى عن المجد الجيلى علوم الحكمة، وتفقه على الكمال السمنانى، ويقال إنه حفظ كتاب «الشامل» فى علم الكلام للإمام الجوينى (¬1). حرص الرازى على الصدارة فى العلوم الشرعية والحكمية والوعظ والتصوف الذى اتصل بقطب عصره فيه ابن عربى (¬2) صاحب الفتوحات المكية المشهورة وفصوص الحكم. بدأ الرازى حياته فقيرا ثم فتحت عليه الأرزاق وانتشر اسمه وبعد صيته، وقصد من أقطار الأرض لطلب العلم، وتغير حاله إما بسبب (¬3) زواج ابنيه من كريمتى أحد الأطباء المشهورين فى عصره وفى بلده، أو بسبب ما أغدقه عليه أو أعطاه سلطان غزنة شهاب الدين الغورى من أموال، وعطايا وكذلك السلطان علاء الدين خوارزم شاه، فقد حظى الرازى بالمنزلة الكبرى والدرجة العليا عنده، لوعظه المبكى، وعلمه النقى، فلما مات الرازى ترك ثروة هائلة من جملتها ثمانون ألف دينار، ما عدا العقارات والعبيد والدواب وغير ذلك، وجمع كل ما تقدم غير مستحيل، والدليل على ما أنعم الله به على الرازى من منزلة ومكانة بين الناس ما ذكره الذهبى «وكان ربع القامة، عبل الجسم، كبير اللحية، جهورى الصوت، صاحب وقار وحكمة، له ثروة ومماليك، وبزة حسنة، ¬

_ (¬1) السبكى: طبقات الشافعية 8/ 95 - 2/ 37. (¬2) ابن كثير: البداية والنهاية 13/ 149، والذهبى: تاريخ الإسلام 46/ 374 محمد بن على بن محمد بن عبد الله الطائى الأندلسى الصوفى هو ابن عربى، ومحيى الدين توفى 638 هـ، وهو قدرة أهل الوحدة القائلين بوحدة الوجود، وهو متهم فى آرائه وفكره. (¬3) الذهبى: العبر 3/ 143.

وهيئة جميلة، إذا ركب مشى معه نحو ثلاثمائة مشتغل على اختلاف مطالبهم فى التفسير والفقه والكلام والأصول والطب وغير ذلك، فكان فريد عصره، ومتكلم زمانه» (¬1) وكلام الذهبى يغنى وإن كان النص فيه مبالغة، لكنها مقبولة فى زمن كاد فيه العالم أن يكون رسولا، يأخذ الناس عنه، ويتعلم الجميع منه وبخاصة تلك البلاد المحبة للدين، المتعطشة للحكمة والفلسفة. والرازى من بيت علم، وصاحب علم، فلا مانع من ملاحقة طلبة العلم له، فى كل وقت كى ينالوا مما عنده، ويزدادوا مما حباه الله تعالى به من علوم وفنون مجتمعة فى شخص واحد، وهى ميزة ينفرد بها القلائل من العلماء، والأفذاذ من الرجال، ومن هنا فقد صدق من سماه (¬2) بإمام الدنيا فى عصره، وحق له ذلك وزيادة، فسبحان الله القائل: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [الشرح: 5، 6]، ولن يغلب عسر واحد يسيرين أبدا، والرازى أهل للخير والعلم، فجمع الله تعالى له بين الثراء المادى والعلمى كى يتفرغ للعلم والدفاع عن الدين بما أوتى من ذكاء وفطنة ورجحان عقل، وغلبة حجة على المارقين عن الإسلام والخارجين عن طاعة الله تعالى، وذلك من خلال الحكمة والموعظة الحسنة: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [النحل: 125]. ¬

_ (¬1) الذهبى: العبر 3/ 143. (¬2) ابن الأثير: الكامل 9/ 302.

الرازى بين المدح والذم:

الرازى بين المدح والذم: الفخر الرازى مدحه كثيرون، وذمه آخرون، وهذه طبيعة الكبار من الرجال يختلف الناس حولهم ما بين مادح وقادح، والعبرة بما بقى وأصبح تراثا خالدا من أقواله وأعماله وأفكاره التى يتجدد عطاؤها يوما بعد يوم، حتى عدّه العلماء على رأس المائة السادسة من المجددين لها، الذين أحيوا ما اندرس من الدين، واجتهد فيما جدّ على عصره من شئون وعلوم، ذكر الذهبى عن أبى شامة قوله «وقد رأيت جماعة من أصحابه قدموا علينا دمشق، وكلهم كان يعظمه تعظيما كبيرا، ولا ينبغي أن يسمع فيمن ثبتت فضيلته كلام يستبشع، لعله من صاحب غرض من حسد، أو مخالفة فى مذهب أو عقيدة» (¬1). وهذه شهادة جليلة القدر من عالم رفيع القدر فى النقد والرجال والجرح والتعديل، وهى خير دليل على أن الرجل أى الرازى ثارت حوله الأحقاد، وكثر فيه الحساد، وهذا ليس غريبا على مثل هذه الشخصية الفذة، التى نبغت فى كل العلوم، وناقشت، وناظرت، وتصوفت (¬2) حينا ثم رجعت إلى صوابها من الالتزام بطريقة السلف، قال الإمام أبو عمرو بن الصلاح حدثنى القطب الطوغانى مرتين أنه سمع الفخر الرازى يقول «يا ليتنى لم أشتغل بالكلام وبكى» (¬3)، وما ذلك إلا لعدم الفائدة من هذا العلم، وقلة جدواه، فهو مشغلة بدون فائدة. ¬

_ (¬1) الذهبى: تاريخ الإسلام 43/ 216. (¬2) ابن كثير: البداية والنهاية 17/ 11. (¬3) الذهبى: تاريخ الإسلام 43/ 218.

وأما ما قيل عن تفسيره، فيه كل شىء إلا التفسير، فقد قالوا أيضا فيه كل شىء مع التفسير، ردا على من زعم هذا، قال عبد العزيز المجدوب «وأما ابن تيمية فتحامله ناشئ عما بينه وبين الرازى من اختلاف مذهبى واضح، فمذهبه سلفى حنبلى أما الرازى فأشعرى شافعى» (¬1) ثم يذكر المؤلف أن ابن تيمية على الرغم من نقده للرازى تأثر به وأخذ بأسلوبه فى المناظرة والكتاب، ولقد مهد الرازى الطريق أمام ابن تيمية وغيره من العلماء فى طرق الدفاع عن الدين وتفنيد حجج المعارضين. ولقد مدح الرازى ودافع عنه السبكى (¬2) فى طبقاته، وابن حجر العسقلانى (¬3) فى لسانه كثيرا، ذاكرين له فضله، وسبقه وثقته وعلمه مهما قيل عنه أو رمى به. وعظ الرازى مرة عند السلطان شهاب الدين الغورى فقال: يا سلطان العالم، لا سلطانك يبقى، ولا تلبيس الرازى يبقى، وقرأ قوله تعالى: لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ [غافر: 43] فأبكى السلطان ومن حوله من وعظه. ولم يكن الرازى متعصبا لرأى بل دافع عن عقيدة أهل السنة والجماعة بالبراهين الواضحة، والأدلة القاطعة التى جعلت أصحاب الفرق المختلفة يندثرون شيئا فشيئا، ولما أعيتهم المناقشة وأعجزتهم الحجة سموه أو دسوا من يضع له سما حتى يتخلصوا منه كلية، بعد ¬

_ (¬1) عبد العزيز المجدوب: الرازى من خلال تفسيره 37. (¬2) السبكى: طبقات الشافعية 8/ 81 - 96. (¬3) ابن حجر العسقلانى: لسان الميزان 4/ 426 - 429. - محمد عبد الرحمن المغراوى: المفسرون 2/ 47.

أن جابه أقرانه وأعداءه، والفرق المختلفة، دون غلو أو شطط، وكان أبرزها الكرامية السابق ذكرهم. ومن كلام الفخر الرازى فى وصيته لتلميذه إبراهيم بن أبى بكر الأصفهانى «ولقد اختبرت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية فما رأيت فيها فائدة تساوى الفائدة التى وجدتها فى القرآن لأنه يسعى فى تسليم العظمة والجلالة لله تعالى، ويمنع عن التعمق فى إيراد المعارضات والمناقضات، وما ذاك إلا للعلم بأن العقول البشرية تتلاشى فى تلك المضايق العميقة، والمناهج الخفية، فلهذا أقول: كل ما ثبت بالدلائل الظاهرة من وجوب وجوده ووحدته، وبراءته من الشركاء فى القدم والأزلية والتدبير والفعالية، فذلك هو الذى أقول به وألقى الله به» (¬1). مما سبق من مدح وقدح، ومناظرات واعترافات آخرها ما ذكره لتلميذه، نستشف رجوع الرازى الصادق إلى طريق الله القويم وعقيدة المسلمين التى لا تقبل جدالا ولا مواربة، فشهد الرازى على نفسه بعد أن جرّب المناهج والطرق أن العقل قاصر مهما أوتى من فطنة وذكاء، والقاصر لا يستطيع أن يدرك كمال الله تعالى وعظمته إلا بالخضوع له والتسبيح بحمده وعبادته حق العبادة، وأن الله تعالى الخالق والمعبود بحق، فالرجوع إلى الحق أحق، والاعتراف بالتقصير بداية تصحيح الخطأ، والوقوف على الصراط المستقيم، وهذا سبيل الصادقين مع أنفسهم من العلماء الذين انتفعوا بما علموا، ووقفوا عند ما لم يعلموا، فقد جدد الرجل العهد مع الله تعالى على أن القرآن هو أساس كل حكمة، وعنوان كل فائدة، أما مناهج هؤلاء ¬

_ (¬1) الذهبى: تاريخ الإسلام 43/ 221.

الفلاسفة وطرائق تلك المتصوفة، فلا تسمن ولا تغنى من جوع، فالحق أبلج واضح، والباطل لجلج، مهما طال أمده أو كثر أتباعه فهو زائل مع ظهور الحق، وبيان الصواب، ولقد صدق الرازى فيما نبغ فيه، وأعطى دينه ما يستحقه من إخلاص، وعبد ربه- تعالى ذكره- عبادة المؤمنين، الراغبين فى العفو والمغفرة، الطامعين فى جنات الله تعالى يوم القيامة. ***

الفصل الثانى وقفات مع وصية الرازى

الفصل الثانى وقفات مع وصية الرازى الوقفة الأولى: منهجه فى العقيدة الوقفة الثانية: مع كتبه ومصنفاته، وما جلبته عليه من أعداء

الوقفة الأولى منهج الرازى فى العقيدة

الوقفة الأولى منهج الرازى فى العقيدة

لا شك أن الرازى عالم متعدد الجوانب، كثير المنافع لمن حوله ولمن أتى بعده، وهذا يتطلب من الرازى أن لا يقصر همه على علم بعينه أو فن بذاته، فأخذ من كل العلوم بأطراف متينة، وثقافة قويمة، ولكنه رجع عن علوم ظنها تفيده، وليست كذلك، مثلى ما فعله مع علم الكلام واشتغاله به، وما جرّ عليه الخوض فيه من آلام وأسقام جعلته يتمنى عدم شغله به، وصرف همه إلى غيره من المهم والمفيد، مما جعل ابن حجر العسقلانى يقول «وأوصى الرازى بوصية تدل على أنه حسن اعتقاده» (¬1) وهذا ما كشفت عنه الوقفة الأولى فى وصية الرازى التى كتبها قبل موته، معترفا بصواب منهج القرآن فى إثبات العقيدة الصحيحة، وخطأ ما عداه من المناهج والطرق التى سلكها هو، وتبين زيفها وقصرها قال (¬2) «ورأيت الأصلح والأصوب طريقة القرآن، وهو ترك الرب، ثم ترك التعمق ثم المبالغة فى التعظيم من غير خوض فى التفاصيل، فأقرأ فى التنزيه قوله تعالى: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ [محمد: 38]، وقوله تعالى: فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11]، وقوله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1] وأقرأ فى الإثبات قوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: 5] وقوله تعالى: ¬

_ (¬1) ابن حجر العسقلانى: لسان الميزان 4/ 429. (¬2) الذهبى: تاريخ الإسلام 43/ 218 - 222.

يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [النحل: 50] وقوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ [فاطر: 10] واقرأ فى أن الكل من الله تعالى فى قوله تعالى: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً [النساء: 78]. وأقرأ فى تنزيهه عما لا ينبغى قوله تعالى: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً [النساء: 79]، وعلى هذا القانون فقس، وأقول من صميم القلب من داخل الروح: إنى مقر بأن كل ما هو الأكمل والأفضل والأعظم والأجل فهو لك، وأقول إن عقلى وفهمى قاصر عن الوصول إلى كنه صفة ذرة من مخلوقاتك». هذا القرار والإقرار من الرازى دلالة دامغة على عقيدة صافية، وسنة مستقيمة هى عقيدة أهل السنة والجماعة التى يدين بها، ويحتكم إليها، وهذه هى صفات العلماء العاملين الذين يعرفون الحق، فيقفون عنده، ويشعرون بالباطل فيتخلون عنه، ويتبرءون منه، حتى تستقيم حالهم ويصدق وصفهم فى خشية الله تعالى وهذا ظاهر فى بداية الوصية حيث يقول: «يقول العبد الراجى رحمة ربه، الواثق بكرم مولاه، محمد بن عمر بن الحسين الرازى، وهو أول عهده بالآخرة، وآخر عهده بالدنيا، وهو الوقت الذى يلين فيه كل قاس، ويتوجه إلى مولاه كل آبق، أحمد الله تعالى بالمحامد التى

ذكرها أعظم ملائكته فى أشرف أوقات معارجهم، ونطق بها أعظم أنبيائه فى أكمل أوقات شهادتهم، وأحمده بالمحامد التى يستحقها، عرفتها أو لم أعرفها، لأنه لا مناسبة للتراب مع رب الأرباب، وصلاته على الملائكة المقربين، والأنبياء المرسلين وجميع عباد الله الصالحين» (¬1). فهذه حقا وصية عالم بما يقول، نادم على ما مضى، فالله- سبحانه وتعالى غفار الذنوب، ستار العيوب، وخاصة من كان حاله كحال الرازى فى قوله: «إن كنت ترحم فقيرا فأنا ذاك، وإن كنت ترى معيوبا، فأنا ذاك المعيوب وإن كنت تخلص غريقا فأنا الغريق فى بحر الذنوب»، فالله سبحانه وتعالى يغفر للعبد ما لم يغرغر، وهذا العبد الذى دوّن وصيته، ما زال حيا، فعسى أن ينفعه الله تعالى بما حمده به، ويغفر له ما وقع فيه من أخطاء وذنوب، وبخاصة ختام الوصية الذى جعله الرازى ردا على أسئلة الملائكة فى القبر، وساعة الدفن «وأقول: دينى متابعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وكتابى القرآن العظيم، وتعويلى فى طلب الدين عليهما، اللهم يا سمع الأصوات، ويا مجيب الدعوات، ويا مقيل العثرات، أنا كنت حسن الظن بك، عظيم الرجاء فى رحمتك، وأنت قلت «أنا عند ظن عبدى بى» وقلت أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ [النمل: 62]. فهب أنى ما جئت بشيء، فأنت الغنى الكريم، وأنا المحتاج اللئيم، فلا تخيب رجائى، ولا ترد دعائى، واجعلنى آمنا من عذابك قبل الموت وبعد الموت، وعند الموت، وسهّل علىّ سكرات الموت، فإنك أرحم الراحمين». ¬

_ (¬1) الذهبى: تاريخ الإسلام 43/ 218 - 222.

هذه إجابة موفقة عن أسئلة الملائكة للمسلم فى قبره، والاستعداد لها، فربه- سبحانه وتعالى- قد أثنى الرازى عليه بما هو أهله، ودينه قد وفاه حقه، ورسوله- صلّى الله عليه وسلّم- قد أنزله منزلته الرفيعة، ومقامه المحمود ولعل هذا يشفع له عند ربه- سبحانه وتعالى- ساعة أن تضييق اللحود، ويكثر الدود، ولا يبقى إلا وجه الله المعبود حقا وصدقا، تصديقا لقوله تعالى: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرحمن: 27]، فما أجملها من وصية، تقرب العبد إلى الرب- سبحانه وتعالى، وتجعل العبد دائما فى شغل بما مضى عسى أن يرحم فيما بقى، والله غفور رحيم. ***

الوقفة الثانية مع وصية الرازى من خلال كتبه ومصنفاته

الوقفة الثانية مع وصية الرازى من خلال كتبه ومصنفاته

وهذه الوقفة من خلال الوصية التى أوصى بها تلميذه، فهى مع الكتب والمصنفات التى جلبت عليه الحساد والنقاد، ولكن أمرهما هين إذا قورنت بهموم النفس، وتبعات المكتوب، هل هى فى ميزان حسناته أو سيئاته، وهل أخلص النية فيها أو لا؟! فلا بد من إبراء الذمة، والاعتراف بالنقص فهو سبيل الرشاد، وطريق الهدى إلى من لا تخفى عليه خافية فى الأرض ولا فى السماء فقال فى وصيته: «وأما الكتب التى صنعتها، واستكثرت فيها من إيراد السؤالات، فليذكرنى من نظر فيها بصالح دعائه، على سبيل التفضل والإنعام، وإلا فليحذف القول السيئ، فإنى ما أردت إلا تكثير البحث، وشحذ الخاطر، والاعتماد فى الكل على الله تعالى» (¬1). والرازى- فى نظرى- يعد ما تركه من نافع كتبه، وصالح فكره صدقه جارية، يعود خيرها عليه، وترجع دعوات الصالحين من تلاميذه ومحبيه إليه، فالعلم النافع محصود، والولد الصالح موجود والصدقة الجارية فيما تركه أيضا موجودة، ولعمرى هذا غاية الذكاء من الرازى أن يحقق مضمون حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- «إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: صدق جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» (¬2)، ومن جانب آخر، فالرازى يحب الإخلاص ¬

_ (¬1) الذهبى: تاريخ الإسلام 43/ 220. (¬2) صحيح مسلم بشرح النووى 3/ 1255 ك الوصية باب ما يلحق الأب من الثواب برقم 1631 ط دار التراث، وقال الترمذى فى صحيحه ك الأحكام باب الوقف برقم 1376 من الجزء 3/ 660 عن أبى هريرة: حديث حسن صحيح.

فى العمل وكذلك الدعاء وحسن الخاتمة للذين يحبون أن يزيد الخير، ويكثر المعروف بين الناس أحياء وأمواتا، وكأنه يعلم درسا سلوكيا لمن يأتون بعده يربيهم على التأسى بالقدوة، والأخذ بالسنة، فما صنعه من كتب، وما ألفه من أفكار فهى لوجه الله تعالى وهذا العمل خير ما يختم به المرء حياته، وأفضل ذخيرة يدافع بها الإنسان هذه الدنيا وزينتها وزخرفها كى ينجو فى الآخرة، ويسعد فى الجنة بما قدم من علم وولد ودعاء صالح من الذين سبق فضله عليهم. وبذلك تنتهى حياة هذا العالم فى دنيا العناء والتعب بعد أن قدم للناس فنونا متعددة من العلوم والكتب، والمناظرات والأفكار، والمواعظ، والخطب باللغة العربية وغيرها من اللغات الأخرى، مما كان له الأثر البالغ فى شهرته، فمن الناس من مدحه وزكّاه، ومنهم من ذمه وهجاه فيما قدم ولم يلتمس له عذرا فيما اجتهد فيه، وهذه هى سنة الحياة أن يموت الإنسان ويبقى ما قدم ظاهرا أمام الناس ليشهدوا عليه خيرا كان أو شرا، وسبحان الله القائل وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ، وهكذا ذهب الكوكب العربى فى الأفق الأعجمى (¬1)، تاركا وصيته تدفع عنه ما وقع فيه، وتدافع عنه فيما أحسن فيه. ... ¬

_ (¬1) محمد الفاضل بن عاشور: التفسير ورجاله 82.

الفصل الثالث النسخ بين المثبتين والنافين

الفصل الثالث النسخ بين المثبتين والنافين المثبتون وأدلتهم النافون وأدلتهم

المثبتون وأدلتهم فى وجود النسخ

المثبتون وأدلتهم فى وجود النسخ

شغلت قضية النسخ عقول العلماء قديما وحديثا، ما بين مثبت له فى القرآن الكريم، والشرائع السابقة عليه، وبين ناف له، ظنا أن النسخ قصور فى علم الله تعالى أو نقص عنده لا يجوز عليه، والأمر أبعد من ذلك بكثير، قال فى الإيضاح (¬1) «الله تعالى قد علم ما يأمر به خلقه ويتعبدهم به، وما ينهاهم عنه قبل كل شىء، وعلم ما يقرهم عليه من أوامره ونواهيه وما ينقلهم عنه إلى ما أراد من عبادته، وعلم وقت ما يأمرهم وينهاهم ووقت ينقلهم عن ذلك قبل أمره لهم ونهيه بلا أمد، وذلك منه تعالى لما فيه من الصلاح لعباده، فهو يأمرهم بأمر فى وقت لما فيه من صلاحهم فى ذلك الوقت، وقد علم أنه يزيلهم عن ذلك فى وقت آخر لما علم فيه من صلاحهم فى ذلك الوقت الثانى، فهو تعالى لم يزل مريدا للفعل الأول إلى الوقت الذى أراد فيه نسخه، ومريدا لإيجاب بدله أو إزالة حكمه لغير بدل فى الوقت الذى أراد رفع الحكم الأول، فينسخ بحكمه مأمورا به بمأمور به آخر، فأمره هو كلامه، صفة له، لا تغيير فيه ولا تبديل، وإنما التغيير والتبديل فى المأمور به، فافهم هذا، فإن أهل البدع ربما لبّسوا فى ذلك، وجعلوا التغيير والتبديل فى أمره، ليثبتوا خلق القرآن، تعالى الله عن ذلك، لا تبديل لكلماته، ونظير ذلك وتمثيله مما لا خفاء به على ذى لب. إن الله تعالى قدر فى غيبه الأول بلا أمد تغيير الشرائع وتبديل الملل على ألسنة الأنبياء المرسلين- عليهم السلام- واختلاف أحكامها كما أراد، فأتى كل رسول قومه بشرع شرعه الله له مخالف ¬

_ (¬1) مكى بن أبى طالب: الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه 48 - 50

لشرع من كان قبله من الرسول بدليل قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [المائدة: 48]. وقوله تعالى: ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الجاثية: 18]. فالملل والشرائع كلها متفقة فى أنها عبادة لله، وطاعة له وهى مختلفة فى الهيئة والعدد والرتبة، وكذلك الناسخ والمنسوخ كله عبادة لله وطاعة له، وفرض منه علينا وفعله كله طاعة لله على ما رتبه، وأمر به فى أزمانه وأوقاته وإن كان مختلفا فى الهيئة والصفة، ولأجل ما أراد الله تعالى من النسخ للرفق بعباده والصلاح لهم أنزل القرآن شيئا بعد شىء، ولم ينزله جملة واحدة، لأنه لو نزل جملة واحدة لم يجز أن يكون فيه ناسخ ولا منسوخ، إذ غير جائز أن يقول فى وقت واحد: افعلوا كذا، ولا تفعلوا كذا، لذلك الشيء بعينه». ومن هنا يتساءل الإنسان، فما الحكمة من الناسخ والمنسوخ فى قصة إبراهيم وولده إسماعيل- عليهما السلام-، حينما أمره الله تعالى بذبحه ثم فداه؟! يجيب صاحب الإيضاح على هذا السؤال بقوله: فمن كتاب الله تعالى أن الله أمر إبراهيم- عليه السلام- بذبح ابنه ليبتليه ويختبر طاعته، ويثيبه اختبارا موجودا لتقع عليه المجازاة، وقد علم الله

تعالى قبل أمره له أنه يطيعه فى ما أمره به، ولكن المجازاة إنما تقع على الأعمال الموجودة، لا على علم الله بذلك- جل ذكره- قبل وجود طاعة الطائع ومعصية العاصى، وعلم أيضا أنه يفدى الذبيح بكبش بعد اضجاعه للذبح، فاستخرج منهما التسليم لأمره، والطاعة له فى ما أمرهما به، لتصح المجازاة على فعل موجود، والذبح من إبراهيم لابنه مأمور به وذبحه للكبش بدلا منه مأمور به أيضا، وكلاهما مراد لله تعالى وأمر، وكلام الله واحد لا اختلاف فيه، وإنما الاختلاف فى المأمور به فى وقتين مختلفين متقدمين فى علم الله قبل كل مخلوق، لم يسبق أحدهما الآخر، تعالى الله عن أن يكون ما لا يعلمه، وأن يبدو له ما لم يتقدم فى علمه (¬1). فالقرآن الكريم يعلمنا أن كل رسول يرسل، وكل كتاب ينزل قد جاء مصدقا ومؤكدا لما قبله، فالإنجيل مصدق ومؤيد للتوراة، والقرآن مصدق ومؤيد لهما، ولكل ما بين يديه من الكتب، تصديقا لقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: 81]. والواقع (¬2) أن الإنجيل جاء بتعديل بعض أحكام التوراة، إذ أعلن عيسى- عليه السلام- أنه جاء ليحل لبنى إسرائيل بعض الذى حرم عليهم، وكذلك القرآن جاء بتعديل بعض أحكام الإنجيل والتوراة إذ أعلن أن محمدا- صلّى الله عليه وسلّم- جاء ليحل للناس كل الطيبات ويحرم عليهم كل الخبائث، ويضع عنهم ¬

_ (¬1) مكى بن أبى طالب: الإيضاح 51 (¬2) د. شعبان محمد إسماعيل: نظرية النسخ فى الشرائع السماوية 36

إصرهم ويزيدهم حلالا إلى ما عندهم تصديقا لقوله تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الاعراف: 157]. قال د. دراز (¬1).: الشرائع السماوية كلها عدل وصدق فى جملتها وتفصيلها، وكلها يصدق بعضها بعضا من ألفها إلى يائها، وهذا التصديق على ضربين: تصديق القديم مع الإذن ببقائه واستمراره وتصديق له مع إبقائه فى حدود ظروفه الماضية، وذلك لأن الشرائع السماوية تحتوى على نوعين من التشريعات: نوع خالد لا يتبدل ولا يتغير بتبدل الأصفاع والأوضاع كالوصايا التسع ونحوه فى القرآن الكريم قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 151 - 153].، فإذا فرض أن ¬

_ (¬1) د. محمد عبد الله دراز: موقف الإسلام من الأديان الأخرى بحث ألقى فى لاهور/ باكستان 1958 م، نقله د. شعبان محمد إسماعيل فى كتابه نظرية النسخ فى الشرائع السماوية.

أهل شريعة سابقة تناسوا هذا الضرب من التشريع، جاءت الشريعة اللاحقة بمثله أى أعادت مضمونه تذكيرا له وتأكيدا عليه. والنوع الثانى من التشريعات الموقوتة بآجال طويلة أو قصيرة، فهذه تنتهى بانتهاء وقتها، وتجئ الشريعة التالية بما هو أوفق بالأوضاع الناشئة الطارئة، وهذا والله أعلم هو تأويل قول الله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 106]. فكل شريعة جديدة تحافظ على الأسس الثابتة التى أرستها الشريعة السابقة فى التوحيد والعقيدة، ثم تزيد عليها ما يشاء الله زيادته من تشريعات أو حلال وحرام، فمثلا شريعة التوراة عنيت بوضع الأسس والمبادئ الأولية لقانون السلوك، لا تقتل، لا تسرق، فطابعها تحديد الحقوق، وطلب العدل والمساواة بين الناس، ثم نرى شريعة الإنجيل تقرر هذه المبادئ وتؤكدها، ثم تزيد عليها، وتترقى بآداب مكملة يبرز فيها التسامح والرحمة والإيثار والإحسان، وأخيرا تأتى الشريعة الإسلامية فتقرر المبدأين معا فى نسق واحد: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: 90]. فتقدر لكل مبدأ درجته فى ميزان القيم الإسلامية، ومميزة بين المفضول منها والفاضل، وهكذا فى سور القرآن مثل سورة النور والحجرات والمجادلة وغيرها من السور التى صاغت قانون اللياقة فى السلوك الكريم للمجتمعات الرفيعة من التحية، والاستئذان، والمجالسة، والمخاطبة، إلى غير ذلك من إضافة أحكام وتغيير أخرى، فالحاصل أن الشرائع السماوية يكمل بعضها بعضا،

فالإسلام غيّر كثيرا من أحكام التوراة والإنجيل وبدلها، بل أضاف ما لم يكن موجودا، وأنهى ما كان موقوتا، وكل هذا داخل تحت مسمى النسخ أى وارد فى القرآن الكريم بمعنى إبطال الحكم الشرعى المتقدم بحكم شرعى آخر متأخر عنه مع بقاء الحكمين معا فى النظم القرآنى حجة للبشر، وهذا يقتضى وجود الناسخ والمنسوخ من الآيات فى القرآن الكريم، وعليه فالناس (¬1) أمام هذا النسخ فريقان: غالبيتهم وهم الجمهور يرون أن الحكم الذى استقر عليه العمل هو المأخوذ من الآيات المتأخرة فى النزول، وهو الذى استقر عليه الشرع، بخاصة الآيات التى تغطى موضوعا واحدا، والحكم المستفاد من الآية أو الآيات اللاحقة أو المتأخرة يختلف عن المستفاد من الآية أو الآيات اللاحقة أو المتأخرة يختلف عن المستفاد من الآية أو الآيات السابقة أو المتقدمة، والحكم المتقدم أو المستفاد من الآيات السابقة فقد نسخ العمل به، ولم يعد له مجال للتطبيق، فقد كان حكما مرحليا زال بزوال ظرفه الذى أو جده، وهو النسخ إثباتا عند الجمهور، حيث بقيت الآيتان معا، مجتمعتين أو منفصلتين، فالآية الأولى منسوخة، والآية الثانية ناسخة. ... ¬

_ (¬1) د. محمد إبراهيم الجيوشى: دراسات قرآنية 61. - السيوطى: الإتقان 2/ 39.

النافون للنسخ وأدلتهم التى اعتمدوا عليها

النافون للنسخ وأدلتهم التى اعتمدوا عليها

والرأى الثانى أمام الناسخ والمنسوخ من الآيات القرآنية: يرى بعض العلماء أن ليس فى القرآن ناسخ ولا منسوخ، وأن مثل هذه الآيات السابقة ذات الموضوع الواحد، والأحكام المختلفة أو المتغايرة، إنما جاءت لتعالج ظروفا خاصة، بحيث لو وجدت هذه الظروف فى مجتمع من المجتمعات، لكان لأهله أن يأخذوا الحكم الذى يناسب ظروفهم سواء أكان هذا الحكم هو السابق أم اللاحق، فالمدار على وجود الظروف التى تحتاج إلى تطبيق الحكم، قال د. الجيوشى (¬1) ويؤيده من المعاصرين د. محمد البهى، وهو رأى له وجاهته، ولكن لم يحدد موقفه هو منه، وهو رأى مردود عليه من الجمهور. وخير مثال على ما سبق من النسخ على رأى الجمهور قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة: 240]، نسخها قوله تعالى فى نفس السورة وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [البقرة: 234]. فمن العلماء من جعل الثانية ناسخة للأولى، ومنهم من جعلها محكمة، لأنها فى مقام الوصية للزوجة إذا لم تخرج، ولم تتزوج وأما الآية الثانية فهى لبيان العدة، ولا تنافى بينهما، وهذا الناسخ ¬

_ (¬1) د. محمد إبراهيم الجيوشى: دراسات قرآنية 62.

مقدم فى النظم على المنسوخ (¬1) على رأى الجمهور. ومن هنا فالنسخ: إبطال الحكم الشرعى المتقدم بحكم شرعى آخر متأخر عنه، مع بقاء الآيتين فى النظم القرآنى حجة للبشر، وإثباتا لقدرة الله تعالى على المحو والإثبات ورفع الدرجات، وتذكيرا بنعمة الله على خلقه فى تيسيره عليهم. قال الرازى فى المحصول:- والأولى أن يقال: «النسخ طريق شرعى يدل على أن مثل الحكم الذى كان ثابتا بطريق شرعى لا يوجد بعد ذلك، مع تراخيه عنه على وجه لولاه كان ثابتا» (¬2). وزاد الأرموى فى الحاصل من المحصول:- «والأجود فى تعريف النسخ هو طريق شرعى يبين انتهاء حكم شرعى ثبت بطريق شرعى مع تراخيه عنه» (¬3). وهذا ما اتفق عليه الجمهور، ودافع عنه الرازى فى وقوع النسخ ووجوده، ولا مانع منه عقلا ولا شرعا بل هو الصواب وما عداه لا ينظر إليه، وهو مردود على أصحابه بأدلة ثابتة صريحة، ولكن خلاصة الرأى الثانى يمثله أبو مسلم الأصفهانى الذى رفض وجود النسخ فى الشريعة الإسلامية عموما، مستندا إلى قوله تعالى: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: 42]. ومدعيا أن هذه الآية الكريمة تقرر أن أحكام القرآن لا تبطل أبدا، والنسخ إبطال للحكم، فهو لا يرد على هذه الأحكام لأنه محال أن يقع مثل ذلك فى القرآن الكريم. ¬

_ (¬1) الزركشى: البرهان 2/ 83. (¬2) الرازى: المحصول 1/ 3/ 428، التفسير الكبير 3/ 227. (¬3) الأرموى: الحاصل 2/ 3/ 638.

وقد تابعه كثيرون- قديما وحديثا- إما رفضا لوجود النسخ أو تأويلا لحدوثه ووقوعه، فصاحب كتاب «الرأى الصواب فى منسوخ الكتاب (¬1) جعل أبا مسلم فذا فى آرائه، رائدا فى أحكامه، قال جواد موسى محمد عفانة «قال عدد قليل من المتأخرين، وعالم واحد فيما نعلم من السابقين بعدم وجود آيات منسوخة فى القرآن الكريم، إلا أننى أوافقهم فى النتيجة لا فى ادعائهم عدم حصول النسخ فى الشريعة الإسلامية أو الشريعة الواحدة (¬2) ثم ذكر من قال بهذا الرأى من السابقين، وهو أبو مسلم الأصفهانى (¬3) ومن المتأخرين الإمام محمد عبده، وعبد المتعال الجبرى صاحب كتاب «النسخ فى الشريعة الإسلامية كما أفهمه» (¬4) أو لا نسخ فى القرآن، والدكتور أحمد حجازى السقا فى كتابه «لا نسخ فى القرآن» (¬5)، ود. محمد البهى كما ذكر د. الجيوشى سابقا، والكلام يحتاج إلى تفصيل للرد عليهم فيما كتبوه أو تعرضوا له من النسخ. ... ¬

_ (¬1) جواد موسى محمد عفانة: الرأى الصواب فى منسوخ الكتاب 67 - 68. (¬2) جواد موسى محمد عفانة: الرأى الصواب فى منسوخ الكتاب 67 - 68. (¬3) تتبعه الرازى فى تفسيره ردا عليه أو موافقة له فى أقواله. (¬4) صدر فى القاهرة 1380 هـ طبعة مكتبة وهبة 1987 م. (¬5) صدر فى القاهرة 1398 هـ طبعة دار الفكر العربى.

الفصل الرابع أدلة الرازى على وقوع النسخ فى القرآن

الفصل الرابع أدلة الرازى على وقوع النسخ فى القرآن الآراء فى النسخ الأدلة على النسخ

الآراء الواردة فى النسخ عموما، وفى القرآن خصوصا

الآراء الواردة فى النسخ عموما، وفى القرآن خصوصا

يعد النسخ من القضايا المهمة فى الشريعة الإسلامية، وذلك لارتباطه بأوامر الدين ونواهيه من ناحية، وارتباطه بعقيدة المسلم من ناحية أخرى، فى أن الله تعالى هو الخالق والمغير والعالم والسميع والبصير، ولا تخفى عليه خافية أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: 14] فمن خلق هذا الخلق، وجعلهم خلفاء الأرض، وجعل لهم منهجا مستقيما، وكتابا مبينا قويما، فيه أحكام هو أعلم بما يصلح عباده منها، وما لا يصلح، والزمن الذى يصلح فيه هذا الحكم، وما لا يصلح فى زمن آخر، وهو أدرى بما ينفع وما يضر، وهو القادر على أن يبدل الخلق، وهو القادر على أن يعيدهم بعد موتهم، أليس بقادر على تغيير ما ينفعهم وما يضرهم فى حياتهم، هذا منطق الصواب، وصواب النطق أن الله- تعالى- هو أعلم بمن خلق من عباده، وهو أعلم بما يصلح لهم فى الدنيا والآخرة، فإذا غيّر الله سبحانه وتعالى شيئا أو بدل أمرا، أليس له الأمر والملك؟ فلم لا نؤمن بذلك، ونريح أنفسنا من العناد ونبعد أفكارنا عن الشقاء الذى وقع فيه الذين تأولوا النصوص الصحيحة الواردة فى القرآن فى النسخ بخاصة، أو ردوها منكرين وجود النسخ، وجعلوه فى غير شريعة الإسلام، مخالفين بذلك جمهور المسلمين سلفا وخلفا فى قبول النسخ دون تعليل أو تغيير، لأنه أمر وارد بصريح النص القرآنى، وصحيح السنة النبوية، وإجماع العقلاء من المسلمين قديما وحديثا، فلا عبرة للمخالفين، ولا دليل عندهم يعلو على ما سبق من أدلة نقلية وعقلية غير ما وقعوا فيه من التأويل والتخصيص، ونفى وقوع النسخ فى الشريعة الإسلامية، وهى آراء

تلزم أصحابها متابعة الجمهور فى أن النسخ جائز عقلا وشرعا ولا منافاة بينهما ولا تعارض، فلا يسع إنسان عاقل مهما كان، أن ينكر أن الشريعة الإسلامية ناسخة لجميع الشرائع السابقة، وأن الشرائع (¬1) السابقة قد وقع فيها النسخ أيضا، والأدلة قد تضافرت على النسخ فى التوراة والإنجيل والقرآن الذى أصبح مهيمنا على الكتب السابقة، فى قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (¬2) [المائدة: 3] أى جعلته كاملا غير محتاج إلى إكمال لظهوره على الأديان كلها، وغلبته لها، ولكمال أحكامه التى يحتاج إليها المسلمون فى الحلال والحرام والمشتبه، وفى ما تضمنه الكتاب والسنة من ذلك ما يغنى عن الرجوع إلى كتب السابقين أو أحكام شرائعهم فهى منسوخة بنزول القرآن الكريم، وأما قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (¬3) [البقرة: 106] فالآية صريحة فى ثبوت النسخ فى القرآن الكريم، ووقوعه، ولكنها عبرت عنه بلفظ- الآية- ولم تعبر عنه بلفظ- من القرآن- ¬

_ (¬1) د. شعبان محمد إسماعيل: نظرية النسخ فى الشرائع السماوية 44 وفيه تفصيل للأدلة الدامغة على وجود النسخ فى الشريعتين الموسوية والعيسوية. (¬2) الشوكانى: فتح القدير 3/ 13. (¬3) الزركشى: البرهان فى علوم القرآن 2/ 43.

لأن القرآن ناسخ مهيمن على كل الكتب، ولن يأتى بعده ناسخ له، وما فيه من ناسخ ومنسوخ فمعلوم وهو قليل. وهذه الآية وحدها دليل قاطع على من يدّعى أن النسخ لا يقع فى الشريعة الإسلامية أو هو بمعنى انتهاء الحكم كما ذهب أبو مسلم الأصفهانى (¬1) فى القول إنه لم يقع فى القرآن نسخ مؤولا إياه بالتخصيص أو هو نقل القرآن من اللوح المحفوظ، والفرق شاسع، بين ما ذكره الأصفهانى، ورأى الجمهور فى النسخ، قال الرازى (¬2) فى المحصول فى المسألة الرابعة «والنسخ عندنا واقع سمعا خلافا لليهود، فإن منهم من أنكره عقلا، ومنهم من جوزه عقلا، لكنه منع منه سمعا، ويروى عن بعض المسلمين إنكار النسخ». فالرازى دقيق الملاحظة، لطيف العبارة قال المحقق: «وروى بصيغة التضعيف هكذا، تحوط لطيف من الرازى فكأنه لا يرى مخالفا من المسلمين فى النسخ على الحقيقة بما فى ذلك الأصفهانى، وأن الخلاف فى الموضوع لفظى» (¬3)، وعلى هذا الرأى يكون أبو مسلم مع القائلين بالنسخ، ولكنه ينفصل فى عدم وقوعه فى الشريعة الإسلامية مع جوازه العقلى ووقوعه السمعى بين الشرائع المختلفة، ¬

_ (¬1) محمد بن بحر الأصفهانى ولد 254 هـ، وتوفى 322 هـ، وهو متكلم معتزلى له آراء غريبة، فى تفسيره «جامع التأويل لمحكم التنزيل» على مذهب المعتزلة، ورد عليه الرازى فى تفسيره الكبير ردا مقحما فى كل آية خالفه فيها، وللأصفهانى تفسير، ولم أر تفسيره هذا: ابن النديم: الفهرست 202، ياقوت الحموى: معجم الأدباء 18/ 35، ابن العماد: شذرات الذهب 2/ 44. (¬2) الرازى: المحصول 1/ 3/ 440. (¬3) د. طه جابر فياض العلوانى الأستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ومحقق الكتاب.

وهذا ما وضحه د. شعبان محمد إسماعيل وبينه فى كتابه (¬1) بقوله: «والصحيح فى النقل عن الأصفهانى أن النسخ واقع بين الشرائع بعضها مع بعض ولكنه غير واقع فى الشريعة الإسلامية أو الشريعة الواحدة، فيكون أبو مسلم بذلك مع الجمهور فى أن النسخ واقع، وإنما قلنا إن النقل الأخير هو الصحيح عنه، لأنه هو الذى يتفق مع ما أجمع عليه المسلمون أن الشريعة الإسلامية ناسخة لجميع الشرائع السابقة عليها، ولا يسع أبو مسلم ولا غيره أن يخالف هذا الإجماع». والنقل عن أبى مسلم فى آرائه مضطرب، وفيه خلاف (¬2) بين أقواله، وعلى أن الخلاف بينه وبين الجميع لفظى، فلماذا يسمى النسخ بغير اسمه أو حقيقته، فمرة يؤول وأخرى يخصص، والفرق بين التخصيص والنسخ (¬3) واضح لا لبس فيه، فلماذا يعدل عن حقيقة المصطلح إلى تأويلها، والرجوع إلى الحق أحق أن يتبع، فلا يأكل الذئب من الغنم إلا القاصية، فبهذا الرأى لأبى مسلم قد خرق إجماع المسلمين على تعريف النسخ ووجوده ووقوعه، وأصبح صاحب رأى منفصل فى النسخ الذى انقسمت فيه الآراء إلى ثلاثة: 1 - رأى الجمهور وهو إجماع المسلمين والنصارى، قبل ظهور أبى مسلم الأصفهانى على أن النسخ جائز عقلا وواقع سمعا بين ¬

_ (¬1) د. شعبان محمد إسماعيل: نظرية النسخ 23. (¬2) د. شعبان محمد إسماعيل: نظرية النسخ 39. (¬3) الرازى: المحصول 1/ 3/ 9 قال: النسخ رفع الحكم بعد ثبوته، والتخصيص خروج بعض الحكم، والناسخ لا بدّ أن يكون متراخيا بخلاف المخصص. - مكى بن أبى طالب: الإيضاح 74 فالنسخ إزالة حكم المنسوخ كله فى وقت معين، فهو بيان الأزمان التى انتهى إليها العمل بالفرض الأول، والتخصيص إزالة بعض الحكم، فهو بيان الأعيان.

الشرائع المختلفة وفى الشريعة الواحدة، وهو رأى العيسوية من اليهود، والأمثلة تدل على هذا الرأى. 2 - رأى اليهود الشمعونية، وكذلك نصارى العصر الحاضر جميعا فى أن النسخ ممتنع عقلا وسمعا، لأنه يوجب البداء (¬1) على الله تعالى وهو محال، واتفق اليهود على أن شريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم لا تنسخ شريعتهم. 3 - رأى أبى مسلم الأصفهانى والعنانية من اليهود فى أن النسخ جائز عقلا، ممتنع سمعا بين الشرائع المختلفة. وقد أحسن (¬2) د. شعبان محمد إسماعيل فى الرد علي شبه اليهود ومناقشة حججهم (¬3) التى انهارت أمام البحث العلمى الذى ناقشهم به، وذابت فى ثنايا الرد أحقادهم على الإسلام والمسلمين لإنكارهم أن تنسخ الشريعة الإسلامية شريعتهم. ... ¬

_ (¬1) البداء: ظهور رأى محدث لم يظهر من قبل، وهذا شىء يلحق البشر لجهلهم بعواقب الأمور، وعلم الغيوب، والله يتعالى عن ذلك، فمحال أن يبدو له رأى لم يكن يبدو له من قبل. الإيضاح 98. (¬2) د. شعبان محمد إسماعيل: نظرية النسخ 34. (¬3) ابن الجوزى: نواسخ القرآن 83. - د. مصطفى زيد: النسخ فى القرآن 1/ 44. - محمد عبد العظيم الزرقانى: مناهل العرفان 2/ 186.

أدلة جواز النسخ ووقوعه عند الرازى

أدلة جواز النسخ ووقوعه عند الرازى

اعتمد الرازى فى إثبات النسخ ووقوعه على عدة أدلة فصلها فى المحصول والتفسير وهى: الدليل الأول: دلت الدلائل القاطعة على نبوة محمد- صلّى الله عليه وسلّم- ونبوته لا تصح (¬1) إلا مع القول: بنسخ شرع من قبله، فوجب القول بالقطع على النسخ، وهذا يعنى أن ما جاء محمد- صلّى الله عليه وسلّم- إلا بالصدق، ومعجزاته دالة ومشيرة إلى ذلك، ولا يستطيع منكر أن ينكر نسخ الشريعة الإسلامية لما قبلها، وأن الدين عند الله الإسلام، ومن يبتغ غيره، ويطلب ما نسخه فلن يقبل منه، بل هو من الخاسرين، وأن ما جاء به الإسلام هو ما نطق به محمد قرآنا عربيا غير ذى عوج، وسنة صحيحة صادقة، ليس خاصا بالعرب وحدهم بل للجميع، وللبشر كافة، فكان نسخ شرع من قبلنا بشريعة محمد جائز عقلا وواقع عملا، ولا محال فيه، ما دام أن الكل من عند الله تعالى فهو أعلم حيث يضع رسالته، والله ألطف بنا من أنفسنا، فلا مجال للإنكار، ولا طريق للرجوع عن قبول النسخ، ولا بداء كما يقول اليهود وغيرهم، فعلم الله تعالى ثابت لا يتغير ولا يتبدل، وخلاصة هذا الدليل أن الله تعالى: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الأنبياء: 23]، وأن أحكام الله التى شرعها للعباد يراعى فيها مصالحهم، والمصلحة حيثما توجد فثم شرع الله تعالى يتحقق، فلا ريب أن ذلك يجعل النسخ أمرا لا بدّ منه لحاجة العباد إليه، ¬

_ (¬1) الرازى: المحصول: 1/ 3/ 441. - الرازى: التفسير الكبير 3/ 227.

ومصلحتهم فيه، فلا يكون ذلك محال أو يترتب عليه أو على فرضه محال أو ممنوع، فيثبت الله تعالى ما يشاء ويمحو وهو القدير، ولا رادّ الحكمة، ولا معقب لفضله، فى أن يغير حكما بعد ثبوته، أو يبطله فلا وجود له تصديقا لقوله تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ [الرعد: 39]. وأما الدليل الثانى: فى قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 106]. وقوله تعالى: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [النحل: 101]. فالآية الأولى من سورة البقرة تقرر أن النسخ إن وجد فى آية، فلا بد من خير منها أو مثلها فى الحكم أو زيادة فى الأجر، وهذا لا يكون إلا فيما هو جائز عقلا، لا فيما هو محال، وإلا كيف يتغير المحال إلى شىء موجود؟! والآية الثانية من سورة النحل تشمل الرفع والإثبات الموجودين فى التبديل، والمرفوع إما التلاوة، وإما الحكم، وكيفما كان فهو رفع وإبطال ونسخ (¬1)، فإن قلت؛ لم لا يجوز أن يكون المراد به أن الله تعالى أنزل إحدى الآيتين بدلا من الأخرى، فيكون النازل بدلا مما لم ينزل؟ قلت: جعل المعدوم مبدلا غير جائز، وهذه إحدى الحجج الملجمة لأبى مسلم الأصفهانى وغيره ممن ينكرون وقوع النسخ فى القرآن الكريم، ثم الناظر فى سبب نزول الآية يجد أنهم- اليهود- ¬

_ (¬1) الرازى: المحصول 1/ 3/ 464. - والرازى: التفسير الكبير 3/ 229.

عابوا على محمد- صلّى الله عليه وسلّم- شيئا قد وقع بالفعل، ونفذ عبادة وطاعة فى تغيير القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام، فالتوجه واستقبال القبلة كان واجبا ثم زال ذلك الواجب إلى البيت الحرام، ألا يدل ذلك على وقوع النسخ، وتغير الواجب إلى مثله أو أفضل منه، وقس على ذلك ما حدث من نسخ فى الآيات والأحكام التى نسخت إلى بدل أو إلى بدل أثقل أو أخف أو إلى غير بدل، وهو كثير فى القرآن. قال الرازى (¬1): والاستدلال بهذه الآية من سورة البقرة على النسخ ووجوده ضعيف، فالآية لا تدل على حصول النسخ بل على أنه متى حصل النسخ وجب أن يأتى بما هو خير منه، وذلك لأن- ما- شرطية تفيد الشرط والجزاء، وإن كان هذا الرأى للرازى، قد خالف فيه الجمهور فى حجية الآية فى إثبات النسخ ووقوعه إلا أنه يستند إلى آيات أخرى معها مثل الآية السابقة من سورة النحل وقوله تعالى من سورة الرعد: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ [الرعد: 39]، فهو لا ينكر النسخ ولا وقوعه، ولكنه يؤكد على أن الأقوى فى ثبوت النسخ ووقوعه دون معارضة أو ضعف فى الدليل، أن نعوّل على مجموع الآيات السابقة فى إثبات حجتنا، كى نضمن الرد المقنع على من يخالفنا دون أن ينفذوا إلى أدلتنا بثغرة ولو صغيرة، فهو مع رأى الجمهور، وزيادة عليها ما سبق، وأن النسخ حاصل فى القرآن، ولكن الأدلة لا بدّ أن تجتمع معا حتى لا يستطيع معترض أن يضعفها، فاقترح أدلة أخرى مع ¬

_ (¬1) الرازى: التفسير الكبير 3/ 229. - الرازى: المحصول 1/ 3/ 445 وانظر تعليق المحقق.

الآية من سورة البقرة كما ذكر المحقق (¬1) - وأنا اتفق معه فى هذا المخرج الذى يزيل ما يشبه التناقض عند قراءة حجج الرازى فى ثبوت النسخ فى المحصول وفى التفسير، كما يظنها من يطالعها لأول نظرة تناقضا وقع فيه الرازى، فالرجل مع الجمهور فى النسخ إثباتا ووجودا فى القرآن، ولكن بطريقته هو فى الاستدلال من النصوص التى اعتمد عليها الجمهور أيضا، ولكنه يريدها خالية من الثغرات والاعتراضات، فلا تعارض بين رأى الرازى والجمهور بعد هذا البيان، ولقد ظن بعض العلماء أن الرازى ناقض نفسه فى المحصول والتفسير ولكن التحقيق أنه لم يناقض نفسه، بل أكد ما أعتقده. ¬

_ (¬1) الرازى: المحصول 1/ 3/ 445 - 446 والمحقق د. طه العلوانى، وهذا ما ظنه القرافى تناقضا وقع فيه الرازى. بين ما ذكره فى التفسير، وما قاله فى المحصول. - الأرموى، الحاصل من المحصول 2/ 637.

الفصل الخامس أنوع النسخ عند الرازى

الفصل الخامس أنوع النسخ عند الرازى 1 - نسخ الحكم دون التلاوة. 2 - نسخ التلاوة دون الحكم. 3 - نسخ الحكم والتلاوة معا. 4 - النسخ إلى غير بدل. 5 - النسخ إلى بدل أثقل. 6 - النسخ إلى بدل أخف. 7 - النسخ إلى بدل مماثل. 8 - نسخ الفعل قبل التمكن منه. 9 - نسخ الخبر. 10 - ما اقترن بلفظ التأبيد.

أنواع النسخ فى القرآن عند الرازى سبق القول إن الرازى مع الجمهور فى ثبوت النسخ ووقوعه، ولكن بطريقته هو فى الاستدلال من النصوص القرآنية التى اعتمد عليها الجمهور، مجموعة بعضها إلى بعض حتى لا نترك منفذا لمعترض، أو ثغرة لمتشكك، لذلك قال فى المسألة الخامسة «اتفقت الأمة على جواز نسخ القرآن، وقال أبو مسلم: لا يجوز» (¬1). ورد عليه الرازى مفندا رأيه بعدة أمثلة تثبت عدم صحة رأى أبى مسلم ومن شايعه إلى يوم الدين، وعجبا لهذا الرجل الفذ، فى الفصل السابق حدد الأدلة على وجود النسخ والآن الأمثلة التطبيقية على أنواع النسخ واحدة تلو الأخرى كما أراد لمنهجه ألا ينفذ إليه معترض إلا وفى يده البرهان على ما يقول، والحجة على ما يدعى، والأمثلة التى حددها الرازى كثيرة منها:- المثال الأول:- أن الله تعالى أمر المتوفى عنها زوجها بالاعتداد حولا فى قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة: 240]. ثم نسخ ذلك بأربعة أشهر وعشر فى قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ ¬

_ (¬1) الرازى: المحصول 1/ 3/ 460. - الرازى: التفسير الكبير 3/ 229 وهى المسألة السادسة

أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [البقرة: 234]. قال أبو مسلم (¬1) عن الاعتداد بالحول إنه ما زال موجودا، ووجود الآية الأخرى فى الاعتداد بأربعة أشهر وعشر، هو تخصيص لا نسخ، ورد عليه الرازى بقوله إن عدة الحامل تنقضى بوضع الحمل سواء حصل وضع الحمل فى سنة أو أقل أو أكثر، فجعل السنة مدة العدة يكون زائلا بالكلية، هذا لو كانت المرأة حاملا ومدة حملها حول كامل وكانت عدتها حولا كاملا على رأى أبى مسلم، وهذا مأخوذ من قوله تعالى: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [الطلاق: 4]. فدليل أبى مسلم لا قيمة له، ومردود عليه، والنسخ ثابت فى الآية. المثال الثانى:- أمر الله تبارك وتعالى بتقديم الصدقة بين يدى نجوى الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- فى قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المجادلة: 12] (¬2). ثم نسخ ذلك فى قوله تعالى: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ [المجادلة: 13]. وهو نسخ إلى غير بدل عند الجمهور. ¬

_ (¬1) الرازى: المحصول 1/ 3/ 461 - 462. (¬2) الرازى: المحصول 1/ 3/ 462، التفسير الكبير 3/ 231.

المثال الثالث: فى قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 106]. قال أبو مسلم: النسخ هو الإزالة، والمراد من هذه الآية إزالة القرآن من اللوح المحفوظ، ورد عليه الرازى (¬1) بقوله إن إزالة أو نقل القرآن من اللوح المحفوظ لا تختص ببعض القرآن دون بعضه الآخر، وهذه الآية تختص بالنسخ الواقع فى القرآن الكريم على بعض آياته وليس بجملته. المثال الرابع: فى قوله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة: 142]. ثم أزالهم الله تعالى عنها بقوله «فول وجهك شطر المسجد الحرام ... ». قال أبو مسلم: حكم تلك القبلة ما زال بالكلية لجواز التوجه إليها عند الإشكال، ومع العلم إذا كان هناك عدو، ورد عليه الرازى قال: على (¬2) ما ذكر أبو مسلم فلا فرق بين بيت المقدس وسائر الجهات، فالخصوصية التى لها امتاز بيت المقدس عن سائر الجهات قد بطلت بالكلية، فيكون حكم الآية بالنسخ من بيت المقدس إلى البيت الحرام. المثال الخامس: فى قوله تعالى: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [النحل: 101]. والتبديل يشتمل على رفع وإثبات، والمرفوع إما التلاوة وإما ¬

_ (¬1) الرازى: المحصول 1/ 3/ 464. (¬2) الرازى: المحصول 1/ 3/ 465.

1 - النوع الأول: نسخ الحكم دون التلاوة

الحكم، وكيفما كان فهو رفع ونسخ (¬1) واقع فى القرآن. وعلى هذا فقس من الأمثلة التى تثبت رأى الرازى وتدعم حجة الجمهور فى نسخ القرآن، وما يذكره فى محصوله فى المسألة التاسعة (¬2) فى أنواع النسخ، وفى المسألة السابعة فى تفسيره ما يثلج الصدر، ويقوى الحجة فى أن الرازى مع الجمهور فى النسخ وأنواعه، وأن القرآن فيه من الناسخ والمنسوخ ما يرد ادعاءات أبى مسلم الأصفهانى وغيره ممن قالوا لا منسوخ فى القرآن ولا ناسخ، وأنكر وقوعه فى الشريعة الإسلامية وفى الإسلام عموما. قال الرازى فى المسألة التاسعة من المحصول «يجوز نسخ التلاوة دون الحكم، وبالعكس، لأن التلاوة والحكم عبادتان منفصلتان، وكل ما كان كذلك، فإنه غير مستبعد فى العقل أن يصيرا معا مفسدتين أو أن يصير أحدهما مفسدة دون الآخر، وتكون الفائدة فى بقاء التلاوة دون الحكم ما يحصل من العلم بأن الله تعالى أزال مثل هذا الحكم رحمة منه على عباده» (¬3). فالرازى عنده من النسخ عدة أنواع مثل الجمهور: 1 - النوع الأول: نسخ الحكم دون التلاوة ، والأمثلة عليه هى التى ذكرها سابقا مثل آية الاعتداد بالحول، والصدقة، والقبلة، وأما الفائدة من بقاء الناسخ والمنسوخ فى القرآن فهى الرحمة من الله تعالى بعباده التى تذكر فى كل تلاوة لهذه الآيات، وهذا النوع من النسخ فى القرآن- هو المراد بالنسخ إذا أطلق، وهو مدار كتابات الأصوليين والمفسرين والعلماء، رفضا أو إثباتا على ما سبق بيانه فى ¬

_ (¬1) الرازى: التفسير الكبير 20/ 115. (¬2) الرازى: المحصول فى علم أصول الفقه 1/ 3/ 482. (¬3) الأرموي: الحاصل من المحصول 2/ 642.

النوع الثانى من النسخ عند الرازى

فصل المثبتين والنافين، وكان الرازى من المثبتين للنسخ والمدافعين عنه بكل وسيلة. النوع الثانى من النسخ عند الرازى : (¬1) وهو ما كان المنسوخ هو التلاوة فقط دون الحكم، أى بقاء حكم الآية مع عدم وجود نصها وتلاوته، كما يروى عن عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- أنه قال: كنا نقرأ آية الرجم، «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة، نكالا من الله، والله عزيز حكيم» (¬2)، وزاد الرازى عن أبى بكر الصديق- رضى الله عنه- كنا نقرأ فى القرآن «لا ترغبوا عن آبائكم، فإنه كفر بكم». ومنه ما روى عن أنس- رضى الله عنه- أنه نزل فى قتلى بئر معونة «أن بلغوا عنا إخواننا أنا لقينا ربنا، فرضى عنا وأرضانا» (¬3). وهذا النوع من النسخ يعمل به إذا تلقته الأمة بالقبول (¬4). النوع الثالث من النسخ عند الرازى (¬5) وهو نسخ الحكم والتلاوة معا ، وهو ما يروى عن عائشة رضى الله عنها- أنها قالت: كان ¬

_ (¬1) الرازى: المحصول 1/ 3/ 483. (¬2) ابن حجر: فتح البارى 12/ 130 ك الحدود، باب رجم المحصن. - الصنعانى: سبل السلام 4/ 8. - الشوكانى: نيل الأوطار 7/ 90. (¬3) بئر معونة قريبة من نجد، بعث الرسول جماعة من أصحابه يدعونهم إلى الإسلام، فى جوار أبى براء عامر بن مالك، ملاعب الأسنة، فاستصرخ عليهم عامر بن الطفيل العامرى قبائل بنى سليم، وأحاطوا بهم وقتلوهم. راجع: - السهيلى: الروض الأنف 2/ 176. - محمد فؤاد عبد الباقى: اللؤلؤ والمرجان 1/ 148. (¬4) الزركشى: البرهان 2/ 39. - السيوطى: الإتقان 2/ 73. (¬5) الرازى: المحصول 1/ 3/ 485. - مكى بن أبى طالب: الايضاح 60.

النوع الرابع: النسخ إلى غير بدل:

فيما أنزل الله تعالى عشر رضعات محرمات، فنسخن بخمس». فالعشر مرفوع التلاوة والحكم معا، والخمس مرفوع التلاوة باقى الحكم. ويروى عن عائشة أيضا أن سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة ثم وقع النقصان فيها، وهذا النوع (¬1) لا تجوز قراءته ولا العمل به، وفيه خلاف بين العلماء لأن الأخبار فيه آحاد، ولا يجوز القطع على إنزال قرآن ونسخه بأخبار آحاد لا حجة فيها، لأن القوى لا ينسخ (¬2) بأضعف منه. النوع الرابع: النسخ إلى غير بدل: قال الرازى فى المسألة السابعة (¬3) من المحصول: يجوز نسخ الشيء لا إلى بدل، خلافا لقوم، قالوا لا يجوز نسخ الحكم إلا إلى بدل، واحتجوا بأن هذه الآية من سورة البقرة «ما ننسخ من آية أو ننسها نأتى بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شىء قدير» تدل على أن الله تعالى إذا نسخ، لا بدّ أن يأتى بعده بما هو خير منه، أو بما يكون مثله، وذلك صريح فى وجوب البدل من قوله تعالى- نأت بخير منها أو مثلها- ولكن الرازى (¬4) يرفض هذا التوجيه للآية ويقول: لم لا يجوز أن يقال المراد أن نفى ذلك الحكم وإسقاط ¬

_ (¬1) السيوطى: الإتقان 2/ 39. - النحاس: الناسخ والمنسوخ 102 - 103. - ابن البازرى: ناسخ القرآن ومنسوخه 19: 50. - مكى بن أبى طالب: الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه 59. (¬2) عبد الله بن صالح الفوزان: شرح الورقات فى أصول الفقه 182. (¬3) الرازى: المحصول 1/ 3/ 479، التفسير الكبير 3/ 231. (¬4) الرازى: المحصول 1/ 3/ 479، التفسير الكبير 3/ 231.

5 - النوع الخامس من النسخ عن الرازى: وهو النسخ إلى بدل أثقل

التعبد به خير من ثبوته فى ذلك الوقت، ثم الذى يدل على وقوع النسخ لا إلى بدل انه تعالى نسخ تقديم الصدقة بين يدى رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- ومناجاته، لا إلى بدل، وهذا رأى الجمهور (¬1) فى قوله تعالى: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ [المجادلة: 13]. 5 - النوع الخامس من النسخ عن الرازى: (¬2) وهو النسخ الى بدل أثقل ، قال فى المسألة الثامنة من المحصول «يجوز نسخ الشيء إلى ما هو أثقل منه، خلافا لبعض أهل الظاهر» الذين فهموا قوله تعالى: «نأت بخير منها أو مثلها» أنه ينافى كونه أثقل، لأن الأثقل فى عرف النافين لا يكون خيرا منه ولا مثله، ولكن الجواب عند الرازى (¬3) فى قوله: لم لا يجوز؟! أن يكون المراد بالخير ما هو أكثر ثوابا فى الآخرة، وأصلح فى المعاد وإن كان أثقل فى الحال، ثم إن الذى يدل على وقوعه فى القرآن الكريم، أن الله تعالى نسخ فى حق الزناة الحبس فى البيوت الوارد فى سورة النساء، إلى الجلد والرجم الواردين فى السنة وسورة النور، وكذلك نسخ صوم عاشوراء الثابت بالسنة، بصوم رمضان الثابت فى القرآن، وكانت الصلاة ركعتين عند قوم، فنسخت بأربع فى الحضر، ألا يدل ذلك على جواز نسخ الحكم إلى ما هو أثقل منه أجرا وعملا وعبادة وحكما، ويرد على ادعاءات الظاهرية وغيرهم. ¬

_ (¬1) الأرموى: الحاصل من المحصول 2/ 651. - عبد الله بن صالح الفوزان: شرح الورقات 173. (¬2) الرازى: المحصول 1/ 3/ 480. (¬3) الرازى: التفسير الكبير 3/ 231.

6 - النوع السادس من النسخ عند الرازى هو: النسخ إلى بدل أخف

6 - النوع السادس من النسخ عند الرازى هو: (¬1) النسخ إلى بدل أخف ، وقد وقع فى القرآن الكريم كنسخ العدة من حول إلى أربعة أشهر وعشر، وكنسخ صلاة الليل أو التهجد إلى التخيير فيها من سورة المزمل فى قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل: 1 - 4]. والأمر فيها للوجوب فى صلاة الليل، والناسخ قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المزمل: 20]. فنحن مخيرون فى فعل هذا المنسوخ وتركه، وفعله أفضل (¬2) ولو كان قدر حلب شاة، قال الشوكانى (¬3): والأولى فى الآية أن النسخ فيها لقيام الليل على العموم فى حق النبى صلّى الله عليه وسلّم- والمؤمنين، فلا فرض إلا الخمس صلوات عند الشافعى- رحمه الله- كما ثبت فى السنة المطهرة. ¬

_ (¬1) الرازى: التفسير الكبير 3/ 232. (¬2) مكى بن أبى طالب: الإيضاح 295. - الأرموى: الحاصل من المحصول 2/ 651.- (¬3) الشوكانى: فتح القدير 5/ 346.

7 - النوع السابع من النسخ عند الرازى: النسخ إلى بدل مماثل

7 - النوع السابع من النسخ عند الرازى (¬1): النسخ إلى بدل مماثل ، قال فى التفسير: وأما نسخ الشيء إلى المثل، فكالتحويل من بيت المقدس إلى الكعبة الوارد فى قوله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [البقرة: 144]، وهذا البدل المماثل أو المساوى للقبلة لا خلاف (¬2) على جوازه، حيث ثبت فى السنة صلاة الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا ثم حول الله تعالى القبلة إلى المسجد الحرام، مواجهة أو محاذاة للكعبة. وهذه الأنواع من النسخ استدل عليها الرازى من قوله تعالى فى سورة البقرة: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 106] (¬3)، قال الرازى فى التفسير: القول الثانى فى الآية «ما ننسخ من آية أى نبدلها، إما أن نبدل حكمها فقط، أو تلاوتها فقط أو هما معا، وأما قوله تعالى- أو ننسها- فالمراد نتركها كما كانت فلا نبدلها وقد بينا أن النسيان بمعنى الترك قد جاء معناه، فيصير حاصل الآية (¬4) إن الذى نبدله فإنا نأتى بخير منه أو مثله. وأنواع النسخ عند الرازى لا تختلف عما ذكره الجمهور، غير أنه ¬

_ (¬1) الرازى: التفسير الكبير 3/ 232. - الرازى: المحصول 1/ 3/ 464. (¬2) عبد لله بن صالح الفوزان: شرح الورقات 173. (¬3) الرازى: التفسير الكبير 3/ 231. (¬4) الرازى: التفسير الكبير 3/ 231.

استدل على كل نوع بدليل وأمثلة تثبت وجوده، مع الرد على المخالفين بحجج تبين قدرة هذا الرجل على الفهم ثم الصبر على المخالفين، وذكر ما خالفهم فيه حجة بحجة، ودليل بدليل، مما يجعله مثالا يحتذى فى الرد على المعارضين، وإثبات صحة ما يعتقده الإنسان والتمسك به، والدفاع عنه بكل ما أوتى من أدلة من غير غلو ولا شطط، ولا إساءة أدب إلى أحد، فمن علم حجة على من لم يعلم، وكذلك كانت حياته مجاهدة ونزال لكل من خالفه، أو شكك فى أمور الدين عامة.

8 - النوع الثامن من النسخ عند الرازى: نسخ الشيء قبل مضى وقت فعله، أو نسخ الفعل قبل التمكن منه أو نسخ الواجب قبل مجيء وقته

8 - النوع الثامن من النسخ عند الرازى (¬1): نسخ الشيء قبل مضى وقت فعله، أو نسخ الفعل قبل التمكن منه أو نسخ الواجب قبل مجيء وقته ، قال الرازى: اختلفوا فى نسخ الشيء قبل مضى وقت فعله، ومثاله كما قال الرازى: إذا قال الله تعالى لنا صبيحة يومنا: صلوا عند غروب الشمس ركعتين بطهارة ثم قال عند الظهر: لا تصلوا عند غروب الشمس ركعتين بطهارة فهذا عندنا جائز، خلافا للمعتزلة، وكثير من الفقهاء، وأما مثاله من القرآن عند القائلين به، فى قصة ذبح إسماعيل- عليهما السلام- لما أمره أبوه، فأطاعه ابنه، ثم نسخ ذلك قبل وقت الفعل فى قوله تعالى: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات: 102 - 107]، قال فى الحاصل (¬2) هى المسألة السادسة «يجوز نسخ الواجب قبل مجىء وقته خلافا للمعتزلة» ودليل ذلك أن إبراهيم- عليه السلام- كان مأمورا بذبح ولده ثم نسخ قبل ذبحه، ويدل على الأمر بالذبح وجوه: 1 - افعل ما تؤمر. 2 - إما أن يكون مأمورا بمقدمات الذبح أو بنفس الذبح، والأول باطل لأنها ليست بلاء مبينا، فالثانى متعين. 3 - لو كان مأمورا بالمقدمات، وقد أتى بها لما احتاج إلى الفداء، ¬

_ (¬1) الرازى: المحصول 1/ 3/ 467. (¬2) الأرموى: الحاصل 2/ 647.

9 - النوع التاسع نسخ الخبر

والاحتياج ظاهر، وهذا ما قرره صاحب نهاية السول (¬1)، وغيره من جواز نسخ الشيء قبل مضى وقت فعله مخالفين بذلك المعتزلة فى عدم قبولهم لهذا النوع من النسخ. 9 - النوع التاسع نسخ الخبر عند الرازى (¬2): قال فى المسألة العاشرة من المحصول: «الخبر إما أن يكون خبرا عما لا يجوز تغيره كقولنا- العالم محدث- وذلك لا يتطرف إليه النسخ». قال الشوكانى (¬3): إن كان مدلول الخبر مما لا يمكن تغيره بأن لا يقع إلا على وجه واحد، كصفات الله تعالى، وخبر ما كان من الأنبياء، والأمم السابقة وآياتها، وخبر المسيح الدجال، والجنة والنار وخلق السماوات والأرض والحساب والعقاب، فلا يجوز نسخه بالاتفاق، لأن نسخه يفضى إلى الكذب، وهذا محال. قال الرازى: إذا كان الخبر عما يجوز تغيره، وهو إما أن يكون ماضيا أو مستقبلا، والمستقبل إما أن يكون وعدا ووعيدا أو خبرا عن حكم، كالخبر عن وجوب الحج يجوز النسخ فى الكل، وقال أبو على وأبو هاشم: لا يجوز النسخ فى شىء منه وهو قول أكثر المتقدمين» فالجمهور يجيزون نسخ الأخبار التى يتغير حكمها، فهى قريبة من الأمر والنهى، وإن كانت المعتزلة (¬4) لا تجيزه، وكذلك المتقدمون فى عدم جواز نسخ الأخبار بنوعيها، والرازى مع الجمهور. ¬

_ (¬1) الإسنوى: نهاية السول 1/ 593. (¬2) الرازى: المحصول 1/ 3/ 486. (¬3) الشوكانى: إرشاد الفحول 2/ 801. - مكى بن أبى طالب: الإيضاح 57. - الإسنوى: نهاية السول 1/ 60. (¬4) أبو الحسين محمد بن على الطيب: المعتمد فى أصول الفقه 1/ 419. - الأرموى: الحاصل 2/ 653.

10 - النوع العاشر من النسخ عن الرازى: ما اقترن بلفظ التأبيد

10 - النوع العاشر من النسخ عن الرازى: (¬2) ما اقترن بلفظ التأبيد ، إذا قال الله تعالى «افعلوا هذا الفعل أبدا» يجوز نسخه، خلافا لقوم. وعلة الجواز عند الرازى أن لفظ التأبيد فى تناوله لجميع الأزمان المستقبلة كلفظ العموم فى تناوله لجميع الأعيان فإذا جاز أحد التخصيصين، فكذا الثانى، والجامع هو الحكمة الداعية إلى جواز التخصيص، وأما السبب الثانى أن شرط النسخ أن يرد على ما أمر به على سبيل الدوام، والتأبيد لا يدل إلا على الدوام، فكان التأبيد شرطا لإمكان النسخ، وشرط الشيء لا ينافيه، كما أن حمل اللفظ على ما يطابق الظاهر أولى من حمله إلى ما يوجب ترك الظاهر. ... ¬

_ (¬2) الرازى: المحصول: 1/ 3/ 491، 514. الأرموى: الحاصل 2/ 655.

الفصل السادس أقسام النسخ عند الرازى

الفصل السادس أقسام النسخ عند الرازى 1 - نسخ القرآن بالقرآن. 2 - نسخ السنة بالسنة. 3 - نسخ السنة بالقرآن. 4 - نسخ القرآن بالسنة المتواترة 5 - نسخ القرآن بالإجماع 6 - نسخ القرآن بالقياس 7 - نسخ الفحوى والأصل.

القسم الاول نسخ القرآن بالقرآن

اقسام النسخ عند الرازى الرازى بحكم بيئته التى تميل إلى فلسفة الأشياء، وإن شئت بحكم نشأته التى علمته تنظير القواعد، وتنظيم الموضوعات حتى يسهل حفظها، والرجوع إليها عند الحاجة، فقد تكلم عن أقسام النسخ فى التفسير مفرقة مع شرحه لآية النسخ فى سورة البقرة ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 106]، وسورة النحل وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [النحل: 101] وقسمها إلى مسائل وأقوال ثم الرد عليها والحجج التى تبين وجهة نظره أمام المخالفين، وبذلك الفعل لا يترك الرازى لمعترض اعتراضا، أو لمستفهم جوابا، وفعل الشيء نفسه فى المحصول فى أصول الفقه فى المسألة الثانية «قال الأكثرون: يجوز نسخ الكتاب- ودليله- ما ذكرناه فى الرد على أبى مسلم الأصفهانى» (¬1). [القسم الاول نسخ القرآن بالقرآن] أى نسخ القرآن بالقرآن وهو محل اتفاق بين العلماء وقوله- الأكثرون- يدل على احترازه من المخالفين، وأنه لا ينكر على المعترض اعتراضه إذا كان معه دليله الذى يستند إليه فى دعواه، وأما الأدلة على نسخ القرآن بالقرآن فقد سبق الحديث عنها، فى أدلة ثبوت النسخ وفى النوع الأول من أنواع نسخ القرآن الكريم، وقد فصل القول فيها، وهذا هو القسم الأول من أقسام النسخ عند ¬

_ (¬1) الرازى: المحصول 1/ 3/ 508. - ابن البازرى: ناسخ القرآن ومنسوخه 20.

الرازى، وهذا القسم على جوازه إجماع (¬1) من أهل السنة، ومن يجيز النسخ بالمتواتر والقطعى من الأحكام، فالقرآن لا ينسخه إلا قرآن مثله، وهذا بخلاف من نفى وجود النسخ أصلا فى القرآن الكريم، ونسخ القرآن بالقرآن يوافق رأى من قال فى آية سورة البقرة فى النسخ أن لا يتعدى إلى السنة أو العكس فى قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فالسنة عندهم ليست مثلا للقرآن ولا خيرا منه، فتنسخه. ... ¬

_ (¬1) مكى بن أبى طالب: الإيضاح 67. - الإسنوى: نهاية السول 1/ 603.

القسم الثانى نسخ السنة بالسنة

[القسم الثانى نسخ السنة بالسنة] القسم الثانى: من أقسام النسخ عند الرازى هو نسخ السنة بالسنة، وهو محل اتفاق بين العلماء أيضا، قال الرازى فى المحصول فى المسألة الأولى (¬1) من القسم الثانى من الناسخ والمنسوخ «نسخ السنة بالسنة يقع على أربعة أوجه: أ- الأول: نسخ السنة المقطوعة بالسنة المقطوعة ولا خلاف عليه. ب- الثانى: نسخ خبر الواحد بمثله كقوله- صلّى الله عليه وسلّم- «كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها، فإنها ترق القلب، وتدمع العين، وتذكر الآخرة، ولا تقولوا هجرا» (¬2). وقال فى شارب الخمر «فإن شربها الرابعة فاقتلوه» ثم حمل إليه من شربها الرابعة، فلم يقتله» (¬3). قال الشوكانى (¬4) عند هذا الحديث إنما كان هذا فى أول الأمر، ثم نسخ بعد ذلك، والقتل منسوخ بهذا الحديث وغيره كما ذهب الجمهور. ج- الثالث: نسخ خبر الواحد بالخبر المقطوع، ولا شك فى جوازه. د- الرابع: نسخ الخبر المتواتر بالآحاد، وهو جائز فى العقل، ¬

_ (¬1) الرازى: المحصول 1/ 3/ 495 - 498. - الحازمى: الاعتبار 201، 300. (¬2) الحاكم: المستدرك 1/ 526 ك الجنائز عن أنس بن مالك. (¬3) أحمد بن حنبل: المسند 2/ 191 عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال النبى: من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه فإن عاد فاقتلوه». (¬4) الشوكانى: نيل الأوطار 4/ 717 باب ما ورد فى قتل شارب الخمر فى الرابعة ونسخه.

غير واقع فى السمع عند الأكثرين، خلافا لبعض أهل الظاهر، الذين يقولون إنه يجوز تخصيص المتواتر بالآحاد، فجار نسخه به والجامع بينهما دفع الضرر المظنون، وقد وقع نسخ الكتاب بأخبار الآحاد من وجوه، فالآحاد دليل من أدلة الشرع عند الظاهرية: 1 - قوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام: 145]. قال الظاهرية: الآية منسوخة بما روى بالآحاد أن النبى صلّى الله عليه وسلّم: «نهى عن أكل كل ذى ناب من السباع» (¬1). 2 - قوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً [النساء: 24] فإنها منسوخة بما روى بالآحاد أن النبى- صلّى الله عليه وسلّم- قال: «لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها» (¬2) - ثم سرد الأدلة (¬3) التى يحتج بها الظاهرية فى نسخ الآحاد للمتواتر ورد عليها واحدة تلو الأخرى، مفندا رأى الظاهرية، فقال عن الآية الأولى إنها مخصصة بآية سورة البقرة إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَ ¬

_ (¬1) أخرجه الستة عن أبى ثعلبة، وعن ابن عباس. (¬2) الترمذى بشرح ابن العربى 3/ 423 ك النكاح باب ما جاء فى المرأة وعمتها، رواه أبو هريرة، وقال الترمذى حسن صحيح. (¬3) الرازى: المحصول 1/ 3/ 500، 505.

اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة: 173]، ولم يعتبر فى الآية نسخا، وفى الآية الثانية إنما الحديث جاء مخصصا للآية وليس ناسخا، لتلقى الأمة هذا الحديث بالقبول، فجعلوه مخصصا لا ناسخا (¬1)، وهكذا فى رد دعاوى الظاهرية فى قبول نسخ الآحاد للمتواتر، لأن الآحاد ضعيف ومظنون والمتواتر قوى ومقطوع، فلا ينسخ الضعيف القوى (¬2). فنسخ المتواتر بالآحاد غير جائز وغير واقع (¬3)، وإن كان الرازى قال إنه جائز عقلا فقط، ولم يتابع فيه الظاهرية بل رد على حججهم السابقة، وهو موافق لرأى الجمهور فى عدم جواز نسخ الظنى للقطعى من الأحكام، وإن قبله آخرون وعدوه دليلا يؤخذ به. ... ¬

_ (¬1) الرازى: المحصول 1/ 3/ 506. (¬2) عبد الله بن صالح الفوزان: شرح الورقات 182. (¬3) الأرموى: الحاصل من المحصول 2/ 655. - الإسنوى: نهاية السول 1/ 607.

القسم الثالث نسخ السنة بالقرآن

[القسم الثالث نسخ السنة بالقرآن] القسم الثالث: نسخ السنة بالقرآن عند الرازى (¬1) وقد جوزه الجمهور (¬2) لوقوعه، حيث إن القرآن والسنة من عند الله تعالى، غير أن القرآن متعبد بتلاوته، والسنة غير متعبد بتلاوتها، ونسخ حكم أحد الوحيين غير ممتنع. وقال الشافعى (¬3) - رضى الله عنه- لا يجوز، قال الرازى واحتج المثبتون لجواز نسخ السنة بالقرآن بأمور ذكر منها:- 1 - التوجه إلى بيت المقدس كان واجبا- فى الابتداء- بالسنة، لأنه ليس فى القرآن ما يتوهم كونه دليلا عليه إلا قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 115] وذلك لا يدل عليه، لأنها تقتضى التخيير بين الجهات، والناسخ قوله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [البقرة: 144] (¬4) فالناسخ قرآن كريم والمنسوخ سنة نبوية ثبتت فى صلاة الرسول صلّى الله عليه وسلّم- وقبلته بيت المقدس، وهو مشهور معروف. 2 - قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَ ¬

_ (¬1) الرازى: المحصول 1/ 3/ 508 - 509. (¬2) عبد الله بن صالح الفوزان: شرح الورقات 179. (¬3) الشافعى: الرسالة 108. (¬4) أبو بكر محمد الحازمى: الاعتبار فى الناسخ والمنسوخ 51. - مكى بن أبى طالب: الإيضاح 67.

لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [البقرة: 187]. وهو نسخ تحريم المباشرة، وليس التحريم فى القرآن، وإنما ثبت بالسنة النبوية المطهرة فى بداية الصيام. 3 - نسخ صوم يوم عاشوراء بصوم رمضان، وكان صوم عاشوراء ثابتا بالسنة النبوية. 4 - وردت صلاة الخوف فى القرآن الكريم ناسخة لما ثبت بالسنة من جواز تأخيرها إلى انجلاء القتال، حتى قال صلّى الله عليه وسلّم- يوم الخندق: «حشى الله قبورهم نارا» (¬1) لحبسهم عن الصلاة. قال الرازى (¬2): واحتج الشافعى- رضى الله عنه- لعدم الجواز بقوله تعالى: بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: 44] و «هذه الآية تدل على أن كلام الرسول بيان للقرآن، والناسخ بيان للمنسوخ، فلو كان القرآن ناسخا للسنة، لكان القرآن بيانا للسنة فيلزم كون كل واحد منهما بيانا للآخر» ورد الرازى على الشافعى بقوله: «سلمنا أن السنة بيان ¬

_ (¬1) صحيح البخارى بشرح ابن حجر 9/ 53 ك التفسير باب: حافظوا على الصلوات، رقم 4533. (¬2) الرازى: المحصول 1/ 3/ 512 - 514.

كلها، لكن البيان هو البلاغ، وحمله على هذا أولى، لأنه عام فى كل القرآن، أما حمله على بيان المراد فهو تخصيص ببعض ما أنزل، وهو ما كان مجملا أو عاما مخصوصا، وحمل اللفظ على ما يطابق الظاهر هو أولى من حمله على ما يوجب ترك الظاهر» (¬1). وهذه المسألة اختلف فيها كثيرون ردا على الإمام الشافعى أو قبولا لرأيه، ولكنى رأيت توضيح د. العلوانى (¬2) يفى بما أقوله، قال فى تعليقه على هذه المسألة فى التحقيق، إن الإمام فيما قاله، لم يكن يتحدث عن الناسخ والمنسوخ من حيث الواقع وإنما كان حديثه عن الحكم بالنسخ، وكذلك لم يكن كلامه عن جواز نسخ السنة بالقرآن أو العكس حديثا عن الجواز أو عدمه من حيث العقل أو السمع، فإن حديثه لا يمكن حمله إلا على أنه بيان لكيفية الحكم بنسخ السنة، واستدل على هذا التوضيح بما جاء عن الماوردى (¬3) فى أدب القاضى قائلا: إنه لا توجد سنة إلا ولها فى كتاب الله تعالى أصل كانت السنة فيه بيانا لمجمله، فإذا ورد الكتاب بنسخها، كان نسخا لما فى الكتاب من أصلها فصار ذلك نسخ الكتاب بالكتاب، فالله تعالى يوحى إلى رسوله بما يخفيه عن أمته، فإذا أراد نسخ ما سنه الرسول صلّى الله عليه وسلّم. أعلمه به حتى يظهر نسخه، ثم يرد الكتاب بنسخه تأكيدا لنسخ رسوله، فصار ذلك نسخ السنة بالسنة، والمسألة الثالثة التى تحدث عنها الماوردى توضيحا لرأى الشافعى هى إن نسخ السنة بالكتاب يكون أمرا من الله تعالى لرسوله بالنسخ، فيكون الله تعالى هو الآمر بالنسخ، والرسول هو الناسخ له، فصار ذلك نسخ ¬

_ (¬1) الرازى: المحصول 1/ 3/ 514 (¬2) الرازى: المحصول 1/ 3/ 516 فى الهامش. (¬3) الماوردى: أدب القاضى 1/ 348.

السنة بالكتاب والسنة (¬1). فالشافعى رضى الله عنه يرى أن نسخ القرآن بالسنة يكون معها عاضد لها من القرآن يبين توافق القرآن والسنة، وكذلك نسخ السنة بالقرآن فمعه سنة عاضدة له تبين توافق الكتاب والسنة، وهذا ما وضحه الزركشى فى البرهان (¬2) أيضا. ... ¬

_ (¬1) الرازى: المحصول 1/ 3/ 517 وانظر رأى السبكى فى المسألة كما نقله المحقق مفصلا. (¬2) الزركشى: البرهان 2/ 32.

القسم الرابع نسخ القرآن بالسنة

[القسم الرابع نسخ القرآن بالسنة] 4 - القسم الرابع: من النسخ عند الرازى هو نسخ الكتاب بالسنة المتواترة، وهو جائز (¬1) وواقع، وقال الشافعى- رضى الله عنه- لم يقع، فمذهب الجمهور جوازه (¬2)، محتجين بأن الكل من عند الله تعالى، وكعادة الفخر الرازى فى إيراد أدلة المثبتين والنافين ثم الفصل بينهما بما يراه مناسبا من القول والأدلة التى ترجح ما يقول وفق مذهبه، قال فى هذه المسألة إن نسخ الكتاب بالسنة المتواترة واقع واحتج مثبتوه بصور منها: 1 - إنه كان الواجب على الزانية الحبس فى البيوت لقوله تعالى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا [النساء: 15] (¬3) ثم إن الله تعالى نسخ ذلك بآية الجلد ثم إنه- صلّى الله عليه وسلّم- نسخ الجلد بالرجم، فإن قلت بل نسخ ذلك بما كان قرآنا ويدل عليه قول عمر بن الخطاب «لولا أن يقول الناس إن عمر زاد فى كتاب الله شيئا لألحقت ذلك بالمصحف»، والرازى يرى أن الآية نسختها السنة حتى تستقيم مع عنوانه فى المسألة، فآية سورة النساء عنده منسوخة بآية سورة النور فى قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ ¬

_ (¬1) الرازى: المحصول 1/ 3/ 520. (¬2) عبد الله بن صالح الفوزان: شرح الورقات 180. (¬3) سورة النساء: الآية 15 واختلف فى هذه الآية هل نسخها الكتاب أم السنة. - مكى بن أبى طالب: الإيضاح 68.

اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور: 2]. وهذا الحكم يعم البكر والثيب، ثم جاءت السنة ونسخت الجلد بالنسبة للثيب فى حديث عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم-: «خذوا عنى، قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم» (¬1)، ودلت السنة على أن جلد المائة ثابت على البكرين الحرين، ومنسوخ عن الثيبين، وأن الرجم ثابت على الثيبين الحرين (¬2)، كما رجم الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- ماعزا ورجم الصحابة بعده، فهذه دلالة صريحة عند الرازى أن السنة ناسخة للقرآن، وأن كليهما وحى، ولا يمتنع نسخ أحدهما بالآخر على ما احتج به المثبتون لنسخ السنة للقرآن الكريم. 2 - نسخ الوصية للأقربين فى قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة: 180]. بقوله- صلّى الله عليه وسلّم- «لا وصية لوارث» لأن آية المواريث فى سورة النساء يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ ¬

_ (¬1) صحيح البخارى بشرح ابن حجر 12/ 119 ك الحدود باب رجم المحصن. - البيهقى: السنن الكبرى 8/ 210 ك الحدود. قال البيهقى وثبت النسخ على الجلد مع بقاء الرجم. - ابن حزم الظاهرى: المحلى 11/ 229 والآية منسوخة بالحدود. (¬2) الحازمى: الاعتبار 304.

أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً [النساء: 11] لا تمنع الوصية: إذا لجمع ممكن، وقال الشافعى وهذا رأى ضعيف لأن كون الميراث حقا للوارث يمنعه من صرفه إلى الوصية، فثبت أن آية المواريث هى المانعة من الوصية فى الآية لا الحديث، فهو يرى الآية منسوخة بالآية الأخرى من سورة النساء لا الحديث (¬1). ويخالف الشافعى الجمهور فى نسخ الكتاب بالسنة المتواترة، وأما الآحاد، فلا خلاف فى عدم نسخها للقرآن إلا ما سبق من قول بعض الظاهرية، ولهم حججهم وأدلتهم على ذلك، والشافعى يحتج على عدم وقوع نسخ السنة للقرآن بأمور: 1 - ما جاء فى قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 106]. والخيرية عنده تكون فى جنس الآيات لا السنة، التى أتى بها الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- والمأتى به خير من الآية، والسنة لا تكون خيرا من الآية من القرآن، وكذلك فى قوله تعالى: بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: 44] (¬2) وقوله تعالى: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [النحل: 101]. أخبر الله تعالى بأن الرسول مبين للقرآن، ونسخ العبادة رفعها، ورفعها ضد ¬

_ (¬1) الرازى: التفسير الكبير 13، 232. (¬2) مكى بن أبى طالب: الإيضاح 118.

بيانها، والآية الثانية أخبر الله تعالى فيها بأنه هو الذى يبدل الآية بالآية، وهذا وغيره يدل على أن القرآن لا تنسخه السنة (¬1). ورد الرازى عليه (¬2) قائلا: إن ليس فى الآية أن ذلك الخير يجب أن يكون ناسخا، بل لا يمتنع أن يكون ذلك الخير شيئا مغايرا للناسخ، يحصل بعد حصول النسخ، وهذا الخير مرتب على نسخ الآية الأولى، وكذلك المراد بالإتيان- نأت بخير منها- شرع الحكم وإلزامه، والسنة فى ذلك كالقرآن فى أن المثبت لهما هو الله تعالى، وكذلك النسخ لا ينافى البيان، لأنه تخصيص للحكم بالأزمان، كما أن التخصيص للحكم بالأعيان، وأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لا ينسخ شيئا إلا بوحى ولا تدل الآيات على أن الوحى لا يكون إلا قرآنا إذا وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [النجم: 3 - 4] فالقرآن وحى والسنة وحى، فلا مانع من نسخ أحدهما بالآخر كما ذكر الرازى، وهذا يدل صراحة على أن الرازى يوافق الجمهور فى أقسام النسخ ويخالف الشافعى- رضى الله عنه- ومن وافقه فى رفض نسخ القرآن بالسنة أو العكس، وقد حدد الرازى فى بداية المسألة السنة التى تنسخ القرآن وهى المتواترة، وجعلها قيدا فى عنوان المسألة يخرج ما عداها من الآحاد، فقد أجمعوا على أنه لا ينسخ القرآن، فالسنة المتواترة وحى تنزل به جبريل- عليه السلام- على الرسول صلّى الله عليه وسلّم-، كما ينزل عليه بالآية من القرآن، وهذا يبرر نسخ أحدهما الآخر لكونهما وحيا من عند الله تعالى، فالدليل على المسألة يرد حجج المخالفين، والواقع من نسخ القرآن بالسنة يدل على رأى ¬

_ (¬1) الرازى: المحصول 1/ 3/ 225 - 530. (¬2) الرازى: التفسير الكبير 3/ 232.

الرازى الذى وافق فيه الجمهور. قال ابن عطية «حذاق الأمة على الجواز، وأبى الشافعى ذلك والحجة عليه» (¬1) تم وضح الزركشى وجهة نظر الإمام الشافعى فى المسألة قائلا: إن مراد الشافعى فى المسألة (¬2) أن الكتاب والسنة لا يوجدان مختلفين إلا مع أحدهما مثله ناسخ له، وهذا تعظيم لقدر الوجهين، وإبانة تعاضدهما وتوافقهما، وكل من تكلم فى هذه المسألة لم يفهم مراد الشافعى». وأرى أن هذا التوضيح من الزركشى له وجاهته ودلالته على ما ذهب إليه الشافعى، فالرجل كبير ومقداره يشفع له فى التماس العذر لما ذهب إليه، وتوجيهه كما قال الزركشى، يقطع الطريق على الذين يؤلون رأيه ويخرجون به عن حدود ما قصد بتأويلات لا حصر لها، ولا فائدة من وراءها، فهى تضر أكثر مما تنفع (¬3)، والشافعى- رضى الله عنه- لا يحتاج إلى من يؤول له شيئا، وهذه دلالة من وجه آخر على أن الرازى تلميذ نجيب، لم يرض من صاحب مذهبه إلا الدليل والحجة والبرهان على ما يقول مع الاحتفاظ للشافعى- رضى الله عنه- بالسبق والأستاذية فى تفريع المسائل على الأصول، وضبط شوارد علم أصول الفقه فى رسالته الخالدة فى الأصول. ¬

_ (¬1) الزركشى: البرهان 2/ 32. (¬2) الشافعى: الرسالة 106 - 109. (¬3) الحازمى: الاعتبار فى الناسخ والمنسوخ من الآثار 50. - الأرموى: الحاصل من المحصول 2/ 657. - عبد الله بن صالح الفوزان: شرح الورقات 178.

القسم الخامس: نسخ القرآن بالإجماع

القسم الخامس: نسخ القرآن بالإجماع (¬1) عند الرازى وهو غير جائز عنده، ولم يجزه إلا عيسى بن أبان المعتزلى والمنسوخ بالإجماع إما أن يكون نصا أو إجماعا أو قياسا، والأول يقتضى وقوع الإجماع على خلاف النص وخلاف النص خطأ، والإجماع لا يكون خطا، فهو باطل ولا يصح. والثانى باطل أيضا، لأن الإجماع المتأخر إما أنه يقتضى أن الإجماع الأول- حين وقع- وقع خطأ أو كان صوابا إلى هذه الغاية، وهو باطل، لأنه إن كان مطلقا استحال أن يفيد الحكم مؤقتا، وإن كان مؤقتا إلى غاية، فينتهى إلى الغاية بنفسه فلا يكون الإجماع المتأخر رافعا له. والثالث باطل، لأن شرط صحة القياس عدم الإجماع، فإذا وجد الإجماع فقد زال شرط صحة القياس، وزوال الحكم لزوال شرطة لا يكون نسخا. فالإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به عند الجمهور (¬2) وكذلك الرازى، وقال: والحق أنه لا يجوز أن ينسخ القرآن بالإجماع. ... ¬

_ (¬1) الرازى: المحصول 1/ 3/ 534 - 536. - مكى بن أبى طالب: الإيضاح 70. - الأرموى: الحاصل: 2/ 662. (¬2) الإسنوى: نهاية السول فى شرح منهاج الوصول 1/ 608. - الشوكانى: إرشاد الفحول. 2/ 818. - محمد بن على بن الطيب المعتزلى: المعتمد فى أصول الفقه 1/ 433.

القسم السادس: نسخ القرآن بالقياس عند الرازى

القسم السادس: نسخ القرآن بالقياس (¬1) عند الرازى نسخ القياس إما أن يكون فى زمان حياة الرسول صلّى الله عليه وسلّم أو بعد وفاته. ففي حياته- صلّى الله عليه وسلّم- لا يمتنع رفع القياس ونسخه بالنص أو بالإجماع أو بالقياس أى يمكن نسخ القياس بالقرآن وبالسنة وبالإجماع وبالقياس نفسه. وأما بعد وفاة النبى فلا يجوز. وأما كون القياس ناسخا للقرآن أو السنة أو الإجماع أو القياس، فالأقسام الأولى الثلاثة باطلة بالإجماع، والرابع وهو نسخ القياس بالقياس جائز عنده، وذلك بأن يكون قياسا (¬2) أجلى منه، على الرغم من ذكر آراء أخرى (¬3) فى هذا النسخ، وقال الخبازى (¬4) «لا خلاف أن القياس عند الجمهور لا يصلح ناسخا للقرآن، وكذلك الإجماع عند أكثرهم» قال فى الحاصل (¬5) «والقياس ينسخ وينسخ به» أى ينسخ فى عهد الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- بالنص والإجماع وبقياس آخر تكون أمارة العلة فيه أجلى. ¬

_ (¬1) الرازى: المحصول 1/ ق 3/ 536 - 538. - الشوكانى: إرشاد الفحول 1/ 822. (¬2) الإسنوى: نهاية السول 1/ 610. (¬3) محمد الخضرى: أصول الفقه 265. - مكى بن أبى طالب: الإيضاح 70. (¬4) الخبازى: المغنى فى أصول الفقه 254. (¬5) الأرموى: الحاصل 2/ 664.

القسم السابع: نسخ الفحوى والأصل عند الرازى

القسم السابع: نسخ الفحوى والأصل عند الرازى اتفقوا على جواز (¬1) نسخ الأصل أى النص وفحواه معا، وأما نسخ الأصل وحده، فإنه يقتضى نسخ الفحوى، لأن الفحوى تبع الأصل وإذا زال المتبوع زال التبع لا محالة وأما نسخ الفحوى مع بقاء الأصل فاختيار أبى الحسين (¬2) أنه لا يجوز، والسبب أن فحوى القول لا ترتفع مع بقاء الأصل إلا وينتقض الغرض، لأنها لازمة ونفى اللازم مع استيفاء الملزوم محال، فمثلا: إذا حرم علينا التأفيف على سبيل الإعظام للأبوين، كانت إباحة ضربهما نقضا للغرض، وأما كون الفحوى ناسخه فمتفق عليه لأن دلالتها إما أن تكون لفظية، أو عقلية فتقتضى النسخ لا محالة. قال الإسنوى (¬3): فدلالة الفحوى من باب القياس، والقياس يكون ناسخا لقياس آخر أخفى منه، فتكون الفحوى كذلك، قال الخضرى (¬4): يجوز أن ينسخ. منطوق نص دون فحواه، ولا يجوز العكس، فقد يكون لنص منطوق وفحوى، وهو ما يسميه الحنفية بدلالة النص ويسميه المتكلمون مفهوم الموافقة، والقياس الجلى نحو الآية السابقة وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ ¬

_ (¬1) الرازى: المحصول 1/ ق 3/ 537 - 538. (¬2) أبو الحسين محمد بن على الطيب المعتزلى: المعتمد فى أصول الفقه 1/ 435. (¬3) الإسنوى: نهاية السول 1/ 611. (¬4) محمد الخضرى: أصول الفقه 266.

لَهُما قَوْلًا كَرِيماً [الإسراء: 23] فمنطوقه طلب الكف عن التأفيف، فيفهم بمجرد اللغة أن العلة هى الأذى، فالضرب مطلوب الكف عنه، وهو فحوى الخطاب، فهل يجوز أن ينسخ أحدهما ويبقى الآخر، فقال فريق لا يجوز أن ينسخا إلا معا، فمتى نسخ أحدهما تبع الآخر، وقال فريق يجوز نسخ أحدهما وبقاء الآخر، والمختار الأول وهو رأى الرازى (¬1). ... ¬

_ (¬1) الشوكانى: إرشاد الفحول 2/ 822.

الفصل السابع طرق معرفة الناسخ والمنسوخ عند الرازى

الفصل السابع طرق معرفة الناسخ والمنسوخ عند الرازى الطرق اللفظية الطرق غير اللفظية

الطرق اللفظية

تعد معرفة الناسخ والمنسوخ من القواعد المهمة فى فهم الدين الإسلامى وأحكامه، وبخاصة فيما استقر من أحكام، وما ألغى منها، بعد أن كمل الدين، وتمت النعمة بنزول القرآن الكريم كاملا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم وفاته بعد ذلك، مما يجعل القول فى الناسخ والمنسوخ محكوما بشروط حددها العلماء، وكذلك الطريق إلى معرفته، فلا يصح القول فيه بالرأى أو الاجتهاد، أو قول المفسرين أو التعارض الظاهر بين الآيات الذى يمكن جعله من تفسير القرآن بالقرآن كالعام والخاص والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، وهذا كثير فى القرآن ولا علاقة له بالنسخ، الذى حدده الرازى (¬1) بقوله «هو طريق شرعى يدل على أن الحكم الذى كان ثابتا بطريق شرعى لا يوجد بعد ذلك مع تراخيه عنه، على وجه لو لاه لكان ثابتا» وطرق معرفة الناسخ والمنسوخ فى القرآن الكريم عند الرازى (¬2) فى قسمين أساسين:- [الطرق اللفظية] 1 - ما يعرف به النسخ من خلال اللفظ، بأن يوجد لفظ النسخ فى الآية أو الرواية، بأن يقول الراوى هذا منسوخ أو يقول ذاك ينسخ هذا. [الطرق غير اللفظية] 2 - ما يعرف به النسخ من غير اللفظ، وهو أن تأتى الآية بنقيض الحكم الأول أو بضده، مع العلم بالتاريخ، ومثال النقيض قوله تعالى الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ ¬

_ (¬1) الرازى: المحصول 1/ 3/ 561. (¬2) الرازى: التفسير الكبير 3/ 227 المسألة الرابعة.

الصَّابِرِينَ [الأنفال: 66]. فإن الآية نسخت حكم ثبات الواحد لعشرة، لأن التخفيف نفى للثقل المذكور فى قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ [الأنفال: 65] (¬1). وأما أن تأتى الآية بالضد للحكم الأول الذى استقر، كتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة فى قوله تعالى قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [البقرة: 144] فالتوجه إلى الكعبة ضد التوجه إلى بيت المقدس. وأما التاريخ الذى يعلم به النسخ، فقد يعلم باللفظ أو بغيره، أما اللفظ، فإذا قال الراوى أحد الخبرين قبل الآخر. وأما بغير اللفظ فعلى وجوه: (¬2). 1 - أن يقول الراوى هذا الخبر ورد سنة كذا وهذا فى سنة كذا. 2 - أن يعلق أحدهما على زمان معلوم التقدم، والآخر بالعكس، كما لو قال: كان هذا فى غزوة بدر، والآخر فى غزوة أحد، وهذه الآية نزلت قبل الهجرة، والأخرى بعدها. 3 - أن يروى أحدهما رجل (¬3) متقدم الصحبة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ¬

_ (¬1) د. مصطفى زيد: النسخ فى القرآن 1/ 207. (¬2) الرازى: المحصول 1/ 3/ 562. (¬3) الرازى: المحصول 1/ 3/ 563 - 566.

ويروى الآخر رجل متأخر الصحبة، وانقطعت صحبة الأول للرسول عند ابتداء الآخر بصحبته، فهذا يقتضى أن يكون خبر الأول متقدما عن الثانى. وأما لو دامت صبحة المتقدم مع الرسول لم يصح هذا الاستدلال. وأما إذا اجتهد الصحابى بأن قال: كان هذا الحكم، ثم نسخ كقولهم: إن خبر: «الماء من الماء» نسخ بخبر «التقاء الختانين» لم يكن ذلك حجة، لأنه يجوز أن يكون قاله اجتهادا، فلا يلزمنا. قال الرازى (¬1)، إن عيّن الراوى الناسخ فقال هذا نسخ هذا، جاز أن يكون قاله اجتهادا، فلا يجب الرجوع إليه، كما قاله الكرخى. وإن لم يعين الناسخ بل قال هذا منسوخ وجب قبوله، لأنه لولا ظهور النسخ فيه، ما أطلق النسخ إطلاقا، ثم رجع مرة ثانية وقال هذا ضعيف فلعله قاله لقوة ظنه، فلا يؤخذ به. ... ¬

_ (¬1) د. مصطفى زيد: النسخ فى القرآن 1/ 207.

الفصل الثامن وقائع النسخ عند الرازى فى تفسيره الكبير، مع التعليق عليها

الفصل الثامن وقائع النسخ عند الرازى فى تفسيره الكبير، مع التعليق عليها 1 - الصلاة: نسخ القبلة. 2 - قيام الليل ونسخه. 3 - صوم عاشوراء ونسخه. 4 - نسخ تحريم المباشرة. 5 - نسخ صدقة النجوى. 6 - نسخ العدد فى الجهاد. 7 - نسخ الحبس للزناة.

أولا: نسخ القبلة

أولا: نسخ القبلة

عالج الرازى قضية نسخ القبلة فى التفسير والمحصول، ففي المحصول، استدل الرازى على جواز نسخ القرآن للسنة بنسخ القبلة، ففي المسألة الثانية من المحصول قال (¬1) إن الأكثرين يجوزون نسخ السنة بالقرآن، خلافا للإمام الشافعى الذى رد عليه فى مكانه من الكتاب عند القسم الثالث من النسخ، قال الرازى فى المحصول: إن التوجه إلى بيت المقدس كان واجبا- فى الابتداء- بالسنة؛ لأنه ليس فى القرآن ما يتوهم كونه دليلا عليه إلا قوله تعالى وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 115]. وذلك لا يدل على النسخ لأن الآية تقتضى التخيير بين الجهات، ثم عاد وسأل: لماذا لا يكون التوجه إلى بيت المقدس وقع فى الأصل بالكتاب؟ ولكن أين الدليل؟ لا بدّ إذن من أن يكون التوجه إلى بيت المقدس نسخ تلاوة كما نسخ حكما، فلا مانع من جواز هذا الفرض عنده. ثم يرجع مرة ثانية إلى التسليم بوقوع التوجه إلى بيت المقدس بالسنة، وما المانع من وقوع نسخه بالسنة أيضا، فالثابت من التوجه إلى الكعبة بالكتاب لا يمنع من كون التحويل عن بيت المقدس بالكتاب، قال الرازى: فالظاهر أنه صلّى الله عليه وسلّم حوّل عن بيت المقدس، ثم أمر بالتوجه إلى الكعبة بعد ذلك. والثابت أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لما فرضت عليه (¬2) الصلاة صلى وقبلته تجاه بيت المقدس لمدة ستة عشر شهرا، والمدقق فى رأى الرازى الأول ¬

_ (¬1) الرازى: المحصول 1/ 3/ 509. (¬2) السيوطى: لباب النقول فى أسباب النزول 26.

الذى يقول بأن التوجه إلى بيت المقدس وقع فى الأصل بالكتاب ولكنه نسخ تلاوة وحكما، يجد أن الذين قالوا بمنع النسخ فى القرآن أخذوا هذه الفكرة، وقالوا إنما الناسخ والمنسوخ مما رفعه الله إليه ولا يوجد عليه دليل، فلا ناسخ ولا منسوخ فى كتاب الله تعالى، وهو مردود عليهم بأدلة ثابتة فى مكانه من الكتاب، فالقضية إذن فى قوله تعالى وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 115]. قال الرازى (¬1) فى تفسير الآية إن الأكثرين قالوا إنها نزلت فى أمر يخص الصلاة، وهو أقوى من قول غيرهم لوجهين ذكرهما: أنه المروى عن كافة الصحابة والتابعين وقولهم حجة، وثانيهما: أن ظاهر قوله- فأينما تولوا- يفيد التوجه إلى القبلة فى الصلاة، ولهذا لا يعقل من قوله تعالى فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ إلا هذا المعنى، فإذا ثبت هذا فنقول: اختلف القائلون به إلى وجوه: أحدها: أنه تعالى أراد به تحويل المؤمنين عن استقبال بيت المقدس إلى الكعبة، فبين تعالى أن المشرق والمغرب وجميع الجهات والأطراف كلها مملوكة لله سبحانه ومخلوقة له، فأينما أمركم الله باستقباله فهو القبلة لأن القبلة ليست قبلة لذاتها، بل لأن الله تعالى جعلها قبلة، فإن جعل الكعبة قبلة فلا تنكروا ذلك لأنه تعالى يدبر عباده كيف يريد وهو واسع عليم بمصالحهم، فكأنه تعالى ذكر ذلك بيانا لجواز نسخ القبلة من جانب إلى جانب آخر، فيصير ذلك مقدمة لما كان يريد الله تعالى من نسخ القبلة، ومع ذلك فالرازى يميل فى ¬

_ (¬1) الرازى: التفسير الكبير 4/ 18.

تفسير الآية على التخيير، قال (¬1): فأى هذه الأقاويل أقرب إلى الصواب؟ قلنا: إن قوله تعالى- فأينما تولوا فثم وجه الله- مشعر بالتخيير، والتخيير لا يثبت إلا فى صورتين، أحدهما فى التطوع على الراحلة، وثانيهما فى السفر عند تعذر الاجتهاد للظلمة أو لغيرها، لأن فى هذين الوجهين المصلى مخير، فأما على غير هذين الوجهين فلا تخيير، وقول من يقول إن الله تعالى خيّر المكلفين فى استقبال أى جهة أرادوا بهذه الآية وهم، وكانوا يختارون بيت المقدس لا لأنه لازم بل لأنه أفضل وأولى بعيد أيضا، لأنه لا خلاف أن لبيت المقدس قبل التحويل إلى الكعبة اختصاصا فى الشريعة، ولو كان الأمر كما قالوا لم يثبت ذلك الاختصاص، وأيضا فكان يجب أن يقال إن بيت المقدس صار منسوخا بالكعبة، فهذه الدلالة تقتضى أن يكون حمل الآية على الوجه الثالث والرابع السابقين أولى، ولكن حمل الآية على الوجه الأول أولى، والذين يقولون به لهم أن يقولوا إن القبلة لما حولت تكلم اليهود فى صلاة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وصلاة المؤمنين إلى بيت المقدس، فبين الله تعالى بهذه الآية أن تلك القبلة كان التوجه إليها صوابا فى ذلك الوقت، والتوجه إلى الكعبة صواب فى هذا الوقت، وبيّن أنهم أينما يولوا من هاتين القبلتين فى المأذون فيه، فثمّ وجه الله تعالى، وحمل الكلام على هذا الوجه أولى لأنه يعم كل مصل، فى الفرض والتطوع. فالآية عند الرازى منسوخة بقوله تعالى قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُ ¬

_ (¬1) الرازى: التفسير الكبير 4/ 20.

مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [البقرة: 144]. قال الرازى (¬1): القول المشهور الذى عليه أكثر المفسرين أن هذه الآية كانت لانتظار تحويل القبلة للرسول صلّى الله عليه وسلّم من بيت المقدس إلى الكعبة، وذكروا وجوها تدل على ذلك، منها أن الرسول كان يرجو عند التحويل رغبة العرب فى الإسلام والمباينة عن اليهود، وتمييز الموافق من المنافق، فلهذا كان يقلب وجهه فى السماء، وهذا التوجيه للآية أولى وإلا لما كانت القبلة الثانية، ناسخة للأولى، بل كانت مبتدأة، والمفسرون أجمعوا على أنها ناسخة للأولى، ولا يجوز أن يؤمر بالصلاة إلا مع بيان موضع التوجه، قال الرازى فى المسألة الرابعة (¬2) من التفسير: والمشهور أن التوجه إلى بيت المقدس إنما صار منسوخا، بالأمر بالتوجه إلى الكعبة، ومن الناس من قال: التوجه إلى بيت المقدس صار منسوخا بقوله وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ثم صار منسوخا بقوله تعالى فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ واحتجوا عليه بالقرآن والأثر، أى أن الأمر فى القبلة الثابتة فى السنة نسخها قوله تعالى وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ثم نسخ التخيير فيها بقوله تعالى فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فالآية على هذا ناسخة للسنة منسوخة بالقرآن. قال الرازى واحتجوا على هذا الرأي بقوله تعالى وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ثم ذكر بعده قوله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها ثم ذكر بعده قوله تعالى فَوَلِّ وَجْهَكَ وهذا الترتيب يقتضى صحة المذهب الذى قلناه بأن التوجه ¬

_ (¬1) الرازى: التفسير الكبير 4/ 110. (¬2) الرازى: التفسير الكبير 4/ 111.

إلى بيت المقدس صار منسوخا بقوله فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فلزم أن يكون قوله- سيقول السفهاء- متأخر النزول والدرجة عن قوله تعالى فَوَلِّ وَجْهَكَ فحينئذ يكون تقديمه عليه فى الترتيب على خلاف الأصل، فثبت ما قلناه من النسخ. وأما الأثر الذى يدل على أن الآية ناسخة، فما روى عن ابن عباس أن أمر القبلة أول ما نسخ من القرآن، والأمر بالتوجه إلى بيت المقدس غير مذكور فى القرآن، إنما المذكور قوله وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فوجب أن يكون قوله تعالى فَوَلِّ وَجْهَكَ ناسخا لذلك لا للأمر بالتوجه إلى بيت المقدس. فخلاصة رأى الرازى أن قوله تعالى وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ناسخ للتوجه إلى بيت المقدس الثابت بالسنة النبوية، وهو أى التوجه إلى بيت المقدس منسوخ بقوله تعالى فَوَلِّ وَجْهَكَ لأن الأمر بالتوجه إلى بيت المقدس منسوخ بقوله وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ لأنه غير مذكور فى القرآن فهو نسخ قرآن بقرآن على هذا الأساس، ولذلك قال فى الإيضاح «أمر الله نبيه- بغير قرآن- بالصلاة نحو بيت المقدس، فصلى نحوها بضعة عشر شهرا، وكان يحب التوجه إلى الكعبة، فنسخ الله تعالى الصلاة نحو بيت المقدس بالصلاة إلى الكعبة فصار المنسوخ ناسخا لما نسخه الله قبل، وهذا قليل النظير فى الناسخ والمنسوخ، وهذا كله يدل على أن الصلاة نحو بيت المقدس كان بأمر الله له، فهو نسخ قرآن بقرآن» (¬1). وأما قوله تعالى فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ قال فى ¬

_ (¬1) مكى بن أبى طالب: الإيضاح 111.

الإيضاح (¬1): ظاهرها يدل على جواز الصلاة إلى كل جهة من شرق وغرب وغيره وهو منسوخ عند مالك وأصحابه، بقوله فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فيكون هذا مما نسخ قبل العمل به، قال فى الإيضاح (¬2): وللعلماء فى هذه الآية خمسة أقوال: 1 - هى ناسخة للصلاة إلى بيت المقدس وهو قول مجاهد هو والضحاك. 2 - هى مخصوصة محكمة، نزلت فيمن جهل القبلة. 3 - محكمة مخصوصة فى صلاة النبى على النجاشى حين صلى عليه واستقبل جهة إلى غير قبلة، فهو خصوص للنبى صلّى الله عليه وسلّم. 4 - مخصوصة بالدعاء أى ادعوا كيف شئتم مستقبلين أو غير مستقبلين القبلة. 5 - مخصوصة بصلاة المسافر للنوافل على راحلته يصلى أينما توجهت به راحلته، وهو جار على مذهب مالك وأصحابه. وقد رجح الرازى أنها ناسخة منسوخة، وناسخها قوله تعالى فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وعدّها الرازى من قسم نسخ القرآن للسنة، وليس من نسخ القرآن للقرآن، وهو من نسخ القرآن إلى بدل مماثل حيث إن النسخ فى تحويل قبلة إلى قبله مثلها، فالقضية إذن نسخ قرآن للسنة ثم نسخ قرآن بقرآن وعلى هذا فلا خلاف بين من قال هو نسخ قرآن بقرآن أو قرآن للسنة كما سبق فى البيان والتوضيح. ¬

_ (¬1) مكى بن أبى طالب: الإيضاح: 112. (¬2) الصدر نفسه: 113.

ثانيا: قيام الليل

ثانيا: قيام الليل

قيام الليل الوارد فى قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا [المزمل 1 - 3]. قال الرازى (¬1) فى المسألة الأولى إن قيام الليل كان فريضة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لقوله «قم الليل» وظاهر الأمر للوجوب ثم نسخ، واختلفوا فى سبب النسخ على وجوه، أولها: أنه كان فرضا قبل أن تفرض الصلوات الخمس ثم نسخ بها، ثانيها: أنه تعالى لما قال قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا فكان الرجل لا يدري كم صلى، وكم بقى من الليل، فكان يقوم الليل كله مخافة أن لا يحفظ القدر الواجب، وشقّ عليهم ذلك حتى ورمت أقدامهم وسوقهم، فنسخ الله تعالى ذلك بقوله فى آخر السورة فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وذلك فى صدر الإسلام، قال ابن عباس: كان بين أول الإيجاب وبين نسخه سنة، وكذلك قالت عائشة رضى الله عنها (¬2)، قال فى الإيضاح (¬3): «وأكثر الناس على أن الناسخ لفرض قيام الليل فى سورة المزمل قوله تعالى فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل: 20] مع ما قبل ذلك وما بعده». وقال ابن عباس- رضى الله عنه- سقط عن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قيام الليل، وصارت تطوعا، وبقى ذلك فرضا على رسول الله، ثم ذكر الله تعالى الحكمة من هذا النسخ فقال تعالى عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ¬

_ (¬1) الرازى: التفسير الكبير 30/ 172. (¬2) السيوطى: لباب النقول 222 (¬3) مكى بن أبى طالب: الإيضاح 295.

وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ. ولقد عدّ الرازى هذا النوع من النسخ، نسخ قرآن بقرآن، وهو من القسم الأول عنده فى أقسام القرآن الذى نسخ قرآنا، وهو أن يكون الناسخ أمرا بترك العمل بالمنسوخ الذى كان فرضا من غير (¬1) بدل، ونحن مخيرون فى فضل المنسوخ وتركه، وفعله أفضل، وأما (¬2) ما قيل أنه بقى على الرسول فرض قيام الليل وحده، فقوله تعالى وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الإسراء: 79] يرده مع الإجماع على أن لا فرض إلا خمس صلوات، وقال ابن عباس: نافلة لك أى فرضا عليك أى فرض الله تعالى ذلك على النبى صلّى الله عليه وسلّم خاصة، وقيام الليل هذا أو التهجد فرض قد نسخته آيات سورة المزمل إلى ندب التهجد فى قوله تعالى إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فهو كما قال الشافعى (¬3) ندب نسخ فرضا على الرسول والمسلمين. ¬

_ (¬1) مكى أبى طالب: الإيضاح 65. (¬2) المصدر نفسه. (¬3) الشافعى: الرسالة 109.

وقد رفض هذا القول صاحب الرأى الصواب (¬1) قائلا إن الآية أو السورة أصلا ليس بها ناسخ ولا منسوخ، لأنه حكم مرتبط بغاية أو مغيا، وما كان كذلك، فلا نسخ فيه. وأما الرازى (¬2) كما سبق، فقد عدّها من نسخ البدل إلى بدل أخف، وليس كما قال مكى بن أبى طالب من غير بدل، فالتهجد أو صلاة الليل عند الرازى منسوخة بما فى نفس السورة من قرآن، فالنسخ حاصل فى صلاة الليل من تأدية المسلم للفرائض مثل الصلاة والزكاة وغيرها مما يثاب عليه المسلم من الفرائض، ولا قيمة لما ذكره صاحب الرأى الصواب بعد قول الأئمة الأعلام فى الآية من نسخ. ... ¬

_ (¬1) جواد موسى محمد عفانة: الرأى الصواب فى منسوخ الكتاب 92. (¬2) الرازى: المحصول 1/ 3/ 480. - الرازى: التفسير الكبير 3/ 232. - الشوكانى: فتح القدير 5/ 346.

ثالثا: فى الصوم: ونسخ صوم رمضان لما عداه

ثالثا: فى الصوم: ونسخ صوم رمضان لما عداه

ورد الصوم فى قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة: 183 - 185]. قال الرازى فى المسألة (¬1) الثانية: اختلفوا فى قوله تعالى- أياما معدودات- على قولين: الأول: أنها غير رمضان، وهو قول معاذ وقتادة وعطاء، ورواه عن ابن عباس، ثم اختلف هؤلاء فقيل: ثلاثة أيام من كل شهر عن عطاء، وقيل: صوم يوم عاشوراء، عن قتادة ثم اختلفوا أيضا، فقال بعضهم: إنه كان تطوعا ثم فرض، وقيل: بل كان واجبا، واتفقوا على أنه منسوخ بصوم رمضان، وهؤلاء الذين قالوا إن الأيام المعدودات غير رمضان احتجوا بوجوه منها: الوجه الأول: ما روى عن النبى صلّى الله عليه وسلّم أن صوم رمضان نسخ كل صوم، فدل هذا على أن صوما آخر كان واجبا قبل وجوب رمضان. الوجه الثانى: أن الله تعالى ذكر حكم المريض والمسافر فى هذه الآية، ثم ذكر حكمها أيضا فى الآية التى بعدها الدالة على صوم ¬

_ (¬1) الرازى: التفسير الكبير 5/ 71 - 73.

رمضان، فلو كان هذا الصوم هو صوم رمضان، لكان ذلك تكريرا محضا من غير فائدة وأنه لا يجوز. الوجه الثالث: أن قوله تعالى فى هذا الموضع- وعلى الذين يطيقونه فدية- يدل على أن الصوم واجب علي التخيير، يعنى إن شاء صام، وإن شاء أعطى الفدية، وأما صوم رمضان فإنه واجب على التعيين، فوجب أن يكون صوم هذه الأيام غير صوم رمضان. أما القول الثانى فى هذه الأيام المعدودات، وهو قول أكثر المحققين واختيارهم، كابن عباس والحسن وأبى مسلم، أن المراد بهذه الأيام المعدودات: شهر رمضان وقالوا فى تقريره أنه تعالى قال أولا كتب عليكم الصيام- وهذا محتمل ليوم ويومين وأيام ثم بينه بقوله- أياما معدودات- فزال بعض الاحتمال ثم بينه بقوله- شهر رمضان الذى أنزل فيه القرآن- فعلى هذا الترتيب يمكن جعل هذه الأيام بعينها شهر رمضان، وإذا أمكن ذلك فلا وجه لحمله على غيره، ولا وجه لإثبات النسخ فيه، لأن كل ذلك زيادة لا يدل اللفظ عليها، فلا يجوز القول به. وقال الرازى بعد أن فند حجج أصحاب الرأى الأول، واعلم أن على كلا القولين، لا بدّ من تطرق النسخ إلى هذه الآية، فعلى القول الأول فالنسخ فيها ظاهر، أى نسخت الآية صيام عاشوراء أو غيره، تطوعا كان أو فرضا أو واجبا، فتكون الآية قد نسخت سنة كانت ثابتة، والناسخ هو قوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ، وتكون من نسخ الكتاب للسنة (¬1) وهو نسخ إلى بدل أثقل. والقول الثانى: يقتضى (¬2) أن صوم رمضان كان واجبا مخيرا، ¬

_ (¬1) مكى بن أبى طالب: الإيضاح 122. (¬2) الرازى: التفسير الكبير 5/ 71. - المحصول 1/ 3/ 510.

والآية التى بعدها تدل على التعيين قوله تعالى فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وتكون هذه الآية ناسخة، لقوله وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ وهى منسوخة، وفيه إشكال وهو أنه كيف يصح أن يكون قوله- فمن شهد منكم الشهر فليصمه ناسخا، للتخيير مع اتصاله بالمنسوخ وذلك لا يصح، والجواب عن الإشكال عند الرازى إن الاتصال فى التلاوة لا يوجب الاتصال فى النزول وهذا كما قاله الفقهاء فى عدة المتوفى عنها زوجها (¬1)، أن المقدم فى التلاوة هو الناسخ والمنسوخ متأخر، وهذا ضد ما يجب أن يكون عليه حال الناسخ والمنسوخ، وهو موجود فى القرآن الكريم. قال فى الإيضاح (¬2) الأشهر والمعول عليه فى هذه الآية أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 184]، إنها منسوخة بقوله تعالى شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة: 185] فالناسخ والمنسوخ من القرآن، وهو كما قال الرازي صوم رمضان نسخ ما ثبت قبله من صيام عاشوراء أو غيره فهو نسخ للسنة بالقرآن، وشهود الشهر ناسخ للتخيير فى الصيام أو دفع الفدية، وهو نسخ قرآن بقرآن، فالرازى يعدها من نسخ القرآن للسنة الثابتة. ¬

_ (¬1) الرازى: التفسير الكبير 5/ 73. (¬2) مكى بن أبى طالب: الإيضاح 125.

رابعا: نسخ تحريم المباشرة للزوجة

رابعا: نسخ تحريم المباشرة للزوجة الوارد فى قوله تعالى أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [البقر: 187]. قال الرازى فى المسألة (¬1) الأولى: ذهب جمهور المفسرين إلى أن فى أول شريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم كان الصائم إذا أفطر حلّ له الأكل والشرب والوقاع بشرط أن لا ينام وأن لا يصلى العشاء الأخيرة، فإذا فعل أحدهما حرم عليه هذه الأشياء، ثم إن الله تعالى نسخ ذلك بهذه الآية، واحتج الجمهور بوجوه ذكرها الرازى، أن هذه الآية ناسخة لحرمة كانت ثابتة فى صومنا، وفى شرعنا، فلزم أن تكون الحرمة موجودة وثابتة، وإلا ما فائدة- أحل لكم- وغيرها من الحجج فى الآية، والذين قالوا إن الحرمة كانت ثابتة فى شرعنا ثم نسخت بهذه الآية استدلوا على ما قالوه بقصة أبى صرمة أو قيس ابن صرمة (¬2)، الصحابى، لما جاء إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم وقد أجهده الصوم، فسأله الرسول عن سبب ضعفه فقال يا رسول الله عملت فى النخل نهارى أجمع، حتى أمسيت، فأتيت أهلى لتطعمنى شيئا، ¬

_ (¬1) الرازى: التفسير الكبير 5/ 104. (¬2) السيوطى: لباب النقول فى أسباب النزول 34.

فأبطأت، فنمت، فأيقظونى، وقد حرم الأكل فقام عمر فقال: يا رسول الله: أعتذر إليك من مثله، رجعت إلى أهلى بعد ما صليت العشاء الآخرة، فأتيت امرأتى، فقال عليه السلام: لم تكن جديرا بذلك يا عمر، ثم قام رجال فاعترفوا بالذى صنعوا فنزلت الآية. فالآية عند الرازى (¬1) من نسخ القرآن للسنة وهو من نسخ البدل إلى أخف منه. والمباشرة (¬2) للنساء أو الجماع ليالى الصيام كله، قد أباحها الله تعالى إباحة عامة، والمباشرة هى الجماع لا اختلاف فى هذا لقوله تعالى وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ يعنى من الولد، على عكس ما توهم قوم أن هذا الحكم منسوخ بقوله- فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ- وليس الأمر كذلك كما مرّ من أدلة الجمهور على النسخ. ... ¬

_ (¬1) الرازى: التفسير الكبير 5/ 105. (¬2) مكى بن أبى طالب: الإيضاح 129.

خامسا: نسخ صدقة النجوى للرسول - صلى الله عليه وسلم:

خامسا: نسخ صدقة النجوى للرسول- صلّى الله عليه وسلّم: وقد وردت فى قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المجادلة: 12]. قال الرازى: ظاهر (¬1) الآية يدل على أن تقديم الصدقة قبل مناجاة الرسول كان واجبا، لأن الأمر للوجوب، ويتأكد ذلك فى آخر الآية- فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم- فإن ذلك لا يقال إلا فيما بفقده يزول وجوبه، على أنهم اختلفوا فى مقدار تأخر الناسخ عن المنسوخ، فقال الكلبى: ما بقى ذلك التكليف إلا ساعة من النهار ثم نسخ. وقال مقاتل وابن حبان: بقى ذلك التكليف عشرة أيام ثم نسخ، وذلك لقول على بن أبى طالب: إن فى كتاب الله تعالى لآية ما عمل بها أحد قبلى، ولا يعمل بها أحد بعدى، كان لى دينار، فاشتريت به عشرة دراهم، فكلما ناجيت الرسول قدمت درهما بين يدى نجواى، ثم نسخت فلم يعمل بها أحد. وكانوا قبل نزول الرخصة، قد أحجموا عن مناجاة الرسول، فلم يناجه أحد حتى نزلت الآية الناسخة (¬2) بالرخصة لهم، قال الرازى (¬3) فى قوله- فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم- فالمراد الفقراء، وهذا يدل على أن من لم يجد ما يتصدق به كان معفوا عنه، وأما الناسخ للآية فهو قوله ¬

_ (¬1) الرازى: التفسير الكبير 29/ 20. (¬2) السيوطى: لباب النقول 207. (¬3) الرازى: التفسير الكبير 29/ 272.

تعالى: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ [المجادلة: 13] قال الرازى (¬1) فى المسألة الخامسة: أنكر أبو مسلم الأصفهانى وقوع النسخ فى الآيتين، وقال إن تقديم الصدقة ليتميز المنافق من المؤمن، وهذا التكليف إلى أجل، وحاصل كلام أبى مسلم أن ذلك التكليف بالصدقة كان مقدرا بغاية مخصوصة، فوجب انتهاؤه إلى الغاية المخصوصة، فلا يكون نسخا، وقال الرازى: وهذا كلام حسن ما به بأس، غير أن المشهور عند الجمهور أنه منسوخ بقوله تعالى السابق، ومنهم من قال إنه منسوخ بوجوب الزكاة، وقد عدّ الرازى (¬2) هذه الآيات من النسخ إلى غير بدل، معلنا رأى الجمهور فى ثبوت نسخ صدقة النجوى، وإن كان رأى أبى مسلم الأصفهانى عنده مستحسن، فالجمهور أولى بالاتباع، فلا نقول كما قال أحدهم (¬3) فأين الفرض الثانى أو البدل من النسخ، فلا يشترط وجود البدل عند النسخ فهو أمر إلهى وتكليف شرعى، مداره على الاتباع وليس الابتداع، فأكثر (¬4) الناس على أن هذا الأمر بتقديم الصدقة عند مناجاة الرسول منسوخ بقوله تعالى: [أأشفقتم .. » قال فى الإيضاح (¬5) وهذا مما نسخ قبل العمل به، وهو نسخ قرآن بقرآن ولعل من اللطائف فى الآية الناسخة أنها أبقت الأصل هو إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وهو غير منسوخ، ولعل الرازى ¬

_ (¬1) الرازى: التفسير 29/ 272. (¬2) الرازى: المحصول 1/ 3/ 479. (¬3) جواد موسى محمد عفانة: الرأى الصواب 94. (¬4) مكى بن أبى طالب: الإيضاح 368. (¬5) المصدر نفسه. - د. مصطفى زيد: النسخ فى القرآن 2/ 819.

يريد بقول من قال إن الآية منسوخة بوجوب الزكاة، أى أن الزكاة نسخت كل صدقة زائدة عليها، ومن داخلها صدقة النجوى اعترافا بوجود النسخ فى حكم صدقة النجوى، لا كما يدّعى من يقول إن الآية محكمة أو لغاية محدودة، وينكر وقوع النسخ أصلا فى هذه السورة الكريمة أى سورة المجادلة. ***

سادسا: نسخ العدد فى الجهاد أو التخفيف

سادسا: نسخ العدد فى الجهاد أو التخفيف وقد ورد ذلك الأمر فى قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ [الأنفال: 65]. قال الرازى (¬1): اتفقت الأمة على جواز نسخ القرآن ودليله أن الله تعالى أمر بثبات الواحد للعشرة فى الآية السابقة ثم نسخ ذلك بقوله: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال: 66]. قال الرازى (¬2) قوله تعالى: «إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين». 1 - ليس المراد من الآية الخبر، بل المراد الأمر كأنه قال- إن يكن منكم عشرون- فليصبروا وليجتهدوا فى القتال حتى يغلبوا مائتين، والذى يدل على أنه ليس المراد من الكلام الخبر وجوه: أولها: لو كان المراد منه الخبر، لزم أن يقال إنه لم يغلب قط مائتان من الكفار عشرين من المؤمنين، ومعلوم أنه باطل، الوجه الثانى: أنه قال فى الآية الثانية- الآن خفف الله عنكم- والنسخ هنا أليق بالأمر منه بالخبر، الوجه الثالث: قوله من بعد- والله مع الصابرين- وذلك ترغيبا في الثبات على الجهاد، فثبت أن المراد من هذا الخبر هو الأمر، وإن كان وارد بلفظ الخبر كقوله تعالى: ¬

_ (¬1) الرازى: المحصول 1/ 3/ 463. (¬2) الرازى: التفسير الكبير 15/ 192.

«والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين» وكقوله تعالى: «والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء». 2 - قوله تعالى- إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا .. » حاصله وجوب ثبات الواحد فى مقابلة العشرة، فما الفائدة فى العدول عن هذه اللفظة الوجيزة إلى تلك الكلمات الطويلة؟ وجوابه أن هذا القرآن إنما ورد على وفق الواقعة، وكان الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- يبعث السرايا، والغالب أن تلك السرايا ما كان ينتقص عددها عن العشرين، وما كانت تزيد على المائة، ولهذا المعنى ذكر الله هذين العددين. 3 - قال ابن عباس- رضى الله عنه- (¬1) لما افترض الله عليهم أن يقاتل الواحد منهم عشرة، ثقل عليهم ذلك، وشقّ، فوضع الله تعالى عنهم إلى أن يقاتل الواحد الرجلين، وأنزل الله تعالى آية التخفيف فى قوله تعالى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال: 66] وهى الناسخة لما سبق من قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ [الأنفال: 65] قال الرازى (¬2): والحاصل أن الجمهور ادّعوا أن قوله تعالى- الآن خفف الله عنكم- ناسخ للآية المتقدمة عليها فى التلاوة- إن يكن منكم- وأنكر أبو مسلم الأصفهانى هذا النسخ، لأن الناسخ مقارن المنسوخ وهو لا ¬

_ (¬1) السيوطى: لباب النقول 113 - 114. (¬2) الرازى: التفسير الكبير 15/ 195.

يجوز عنده، ورد الرازى عليه بأن الجمهور يعتمد النسخ فى الآية وأجمعوا عليه، مع تحسينه لرأى أبى مسلم فى عدم النسخ، بقوله- ادّعوا- على الجمهور وهو مشعر بأنه غير موافق على النسخ، فى كون الآية محكمة وواردة فى الوعيد وهو خبر لا ينسخ، ولكنه لزم رأى الجمهور فى المحصول (¬1) وقال بالنسخ فى الآية مخالفا أبا مسلم الذى وافقه كثير (¬2) من العلماء على أن الآية محكمة باقية على ما وقع عليه التخفيف حسب الحالة، وهذه ليست أول مرة يوافق فيها الرازى رأى الجمهور، مع أنه يميل إلى رأى أبى مسلم الأصفهانى. ... ¬

_ (¬1) الرازى: المحصول 1/ 3/ 520. (¬2) مكى بن أبى طالب: الإيضاح 256.

سابعا: نسخ الحبس للزناة

سابعا: نسخ الحبس للزناة ورد فى سورة النساء قوله تعالى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً [النساء: 15، 16]. قال الرازى (¬1): احتج المثبتون لنسخ الكتاب بالسنة بهذه الآية السابقة، حيث إنه كان الواجب على الزانية الحبس فى البيوت- فأمسكوهن فى البيوت حتى يتوفاهن الموت- ثم إن الله تعالى نسخ ذلك بآية الجلد فى سورة النور: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور: 2] ثم إنه- صلّى الله عليه وسلّم- نسخ الجلد بالرجم فى حق المحصنين. والآيات عند (¬2) الرازى فى الزناة من الرجال والنساء قال فى المسألة الرابعة من التفسير: زعم جمهور المفسرين أن هذه الآية منسوخة، وقال أبو مسلم: إنها غير منسوخة، أما المفسرون فقد بنوا مذهبهم فى النسخ على أن الآية فى بيان حكم الزنا، ومعلوم أن هذا الحكم لم يبق، والآية منسوخة إما بحديث عبادة بن الصامت أن النبى- صلّى الله عليه وسلّم- قال: «خذوا عنى، خذوا عنى، قد جعل الله لهن ¬

_ (¬1) الرازى: المحصول 1/ 3/ 520. (¬2) الرازى: التفسير الكبير 9/ 232.

سبيلا، البكر بالبكر والثيب بالثيب، البكر تجلد وتنفى، والثيب تجلد وترجم». ثم إن الحديث صار منسوخا بقوله تعالى الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وهذا دليل على أن السنة تنسخ القرآن والعكس صحيح خلافا للإمام الشافعى. أو أن الآية منسوخة بآية الجلد فى سورة النور وقد رجح الرازى هذا الرأى. قال قتادة وغيره إن (¬1) هذه الآية نسخها الله تعالى بالحدود والميراث، وعلى هذا أكثر العلماء. فالرازى يرى أن آية سورة النساء وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا [النساء: 15] منسوخة بآية سورة النور الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور: 2] وهذا يعم البكر والثيب، ثم جاءت السنة فنسخت الجلد بالنسبة للثيب في حديث عبادة بن الصامت، ودلت السنة على أن جلد المائة ثابت على البكرين الحرين، ومنسوخ عن الثيبين، ويستدل الرازى على نسخ السنة للقرآن، والقرآن للسنة من هذا المنطلق، مع أنه فى التفسير يميل إلى رأى أبى مسلم إلى عدم نسخ الآية (¬2)، وفى المحصول (¬3) جعلها دليلا ¬

_ (¬1) مكى بن أبى طالب: الإيضاح 181. (¬2) الرازى: التفسير الكبير 9/ 233. (¬3) الرازى: المحصول 1/ 3/ 520.

على نسخ السنة للقرآن، وهذا ما رجحته: عنده فى قبوله للنسخ اصلا، وموافقته على نسخ القرآن للسنة والسنة المتواترة للقرآن الكريم مخالفا رأى الشافعى- رضى الله عنه- ومن تبعه فى هذه القضية التى أفاض فى ذكر الأدلة عليها، والبراهين التى تثبت ما ذهب إليه من نسخ القرآن للسنة، والسنة للقرآن فى وضوح تام، وفكر صادق. ***

الفصل التاسع تعقيب. وتوضيح. وبيان

الفصل التاسع تعقيب. وتوضيح. وبيان

اعتراف الرازي بالنسخ

[اعتراف الرازي بالنسخ] 1 - من خلال ما سبق عرضه من أنواع النسخ وأقسامه عند الفخر الرازى، وكذلك أدلة وقوع النسخ فى القرآن الكريم، واعترافه بذلك، ورده على كل من أنكر النسخ، خاصة أبو مسلم الأصفهانى الذى أنكر أن يكون فى القرآن الكريم ناسخ أو منسوخ، وتبعه كثير من القدماء والمحدثين، إلا أن الرازى برجاحة عقله، وثاقب فكره، رد على كل مدع دعوته بطريقة أثبتت أنه صاحب منهج علمى يورد آراء المخالفين، وحجج المعارضين ثم يكرّ عليها نقدا ونقضا، مما أعطاه المزية على غيره من العلماء، وإن كان قد توسع فى المسائل، والفروع التى نتجت عنها، حتى طال تفسيره، وكثرت قضاياه، مما يجعل القارئ لكتابه أو فكره يحتاج إلى جهد جهيد، وصبر طويل حتى يخرج بما أراد، والحقيقة أن الرازى له العذر فى ذلك، فقد ساد هذا المنهج فى عصره، وأخذه عنه تلاميذه بعد ذلك فى الشرح والتعليق والتحليل، والكتابة عموما. [بين المحصول والتفسير الكبير] 2 - ومما أخذته على الرازى فى النسخ أنه يخالف أحيانا ما قاله فى التفسير، عما ذكره فى المحصول، مثل نسخ الحبس للزناة، ونسخ العدد فى الجهاد أو التخفيف، وهذا يجعل المطالع لتفسيره فى حيرة، هل الآية منسوخة أو غير منسوخة عند الرازى، مما جعلنى أثبت ما قاله فى التفسير والمحصول معا، حتى تتضح الصورة ويظهر الرأى عنده من مجموع الكتابين معا. [التناقض فى قبول النسخ] 3 - وكذلك ما قاله الرازى عن النسخ فى التفسير (¬1) وفى المحصول (¬2)، حينما قال إن الأصل عدم النسخ فى الأحكام وإن ¬

_ (¬1) الرازى: التفسير الكبير 3/ 229 (¬2) الرازى: المحصول 1/ 3/ 445

وجد، فلا بد من تضافر الأدلة عليه، وأكد على أن النسخ واقع فى القرآن الكريم، وفى الشريعة الإسلامية بأدلة يجب التعويل عليها كلها، أفضل من التعويل على الدليل الواحد الموجود فى سورة البقرة فى قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 106]، والآية الثانية: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [النحل: 101]. وقوله تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ [الرعد: 39]، فمجموع الآيات الثلاث، يعطى الدليل الواضح على وجود النسخ ووقوعه بما لا يدع مجالا لنفوذ الشك أو دخول الريب إلى النفس، وهذا يدل دلالة واضحة على أن الرازى لم يقع فى تناقض بين ما قاله فى المحصول، وما جاء فى التفسير، وأنه ذكر أدلة الجمهور وزاد عليها مناقشة المنكرين للنسخ، وأنه لا يقول بالنسخ إلا مع وجود الدليل، قال فى تفسير قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها، وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (¬1)، قال فى تفسيره الكبير فى المسألة الرابعة: قال المفسرون: قوله: فمن أبصر فلنفسه ومن عمى فعليها، معناه لا آخذكم بالإيمان أخذ الحفيظ عليكم والوكيل، قالوا: إنما كان هذا قبل الأمر بالقتال فلما أمر بالقتال صار حفيظا عليهم، ومنهم من يقول آية القتال ناسخة لهذه الآية، وهو بعيد، فكأن هؤلاء المفسرين مشغوفون بتكثير النسخ من غير حاجة إليه، والحق ما تقرره أصحاب أصول الفقه إن الأصل عدم النسخ، فوجب السعى فى تقليله بقدر ¬

_ (¬1) الرازى: التفسير الكبير 13/ 134.

مخالفة الرازى للظاهرية

الإمكان»، وهذا التفسير للآية، وما قرره الأصوليون، لا يمنع من وجود النسخ، ووقوعه فى الشريعة الإسلامية، وهذا أيضا لا يعطى دليلا أن الرازى لا يقول بالنسخ، ولا يعترف به، وقد دللنا على رأيه بأدلة ثابتة من القرآن والسنة تثبت أنه من القائلين بالنسخ، والمدافعين عنه، ولكن بطريقته فى سرد الأدلة، ورد ما ليس فيه نسخ من الآيات كما فعل فى موافقته- أحيانا- لأبى مسلم الأصفهانى، فالرازى لا يحب الإكثار من النسخ بدون دليل عليه، أو حجة قوية تثبت النسخ كما وافق الجمهور فى كثير من قضايا النسخ مخالفا غيره من العلماء، وعلى رأسهم الإمام الشافعى الذى رد عليه الرازى كثيرا من آرائه فى النسخ بالدليل والبرهان، وبخاصة فى نسخ القرآن للسنة، ونسخ السنة للقرآن، وقدم من الأدلة ما يقوى ما ذهب إليه، فى نسخ الكتاب للسنة ونسخ السنة للكتاب، وهما وحيان، ولا مانع من نسخ أحدهما بالآخر خلافا لمن رفض ذلك، مع تغليب رأى الجمهور دائما فى قضايا النسخ عنده، وهذه ميزة ينفرد بها بين العلماء، فما وافق الجمهور عليه فهو معه. [مخالفة الرازى للظاهرية] 4 - مخالفة الرازى الواضحة لرأى الظاهرية فى قبول نسخ القرآن بالآحاد من السنة النبوية، ومثّل له بقوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام: 145]. قال أهل الظاهر إن الآية منسوخة بما ورد فى السنة من أحاديث آحاد مثل حديث «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أكل كل ذى ناب من السباع،

وعن أكل كل ذى مخلب من الطير» (¬1). ورد عليهم الرازى بقوله فى التفسير: إنه لما ثبت بمقتضى هاتين الآيتين: آية سورة الأنعام السابقة، وآية سورة البقرة: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة: 173] (¬2) حصر المحرمات فى هذه الأربعة، كان هذا اعترافا بحل ما سواها، فالقول بتحريم شىء خامس فى الحديث أو الآيات الأخرى يكون نسخا، ولا شك أن مدار الشريعة على أنه الأصل عدم النسخ، لأنه لو كان احتمال طريان الناسخ معادلا لاحتمال بقاء الحكم على ما كان، فحينئذ لا يمكن التمسك بشيء من النصوص فى إثبات شىء من الأحكام لاحتمال أن يقال: إنه وإن كان ثابتا إلا أنه زال، ولما اتفق الكل على أن الأصل عدم النسخ، وأن القائل به، والذاهب إليه هو المحتاج إلى الدليل، علمنا فساد هذا السؤال وأن الآية لا نسخ فيها، ثم علل ذلك بقوله إن الآيتين مبالغة فى أنه تعالى لا يحرم سوى هذه الأربعة، وكذلك- إنما- تصريح بحصر المحرمات فى هذه الأربعة، والقول غير ذلك يكون دفعا لهذا الذى ثبت بمقتضى هاتين الآيتين، أنه كان ثابتا فى أول الشريعة بمكة وفى آخرها بالمدينة، وأن تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد جائز لديكم وأما هنا فى الآية فنسخ القرآن وهو متواتر بخبر الآحاد لا يجوز، وعليه فلا نسخ فى الآية بالحديث النبوى الذى ادّعى الظاهرية النسخ به للآية، ثم قال فى المحصول (¬3) «وأما قوله تعالى:- قل لا أجد- من سورة الأنعام ¬

_ (¬1) أخرجه أصحاب الكتب الستة عن أبى ثعلبة وعن ابن عباس. (¬2) الرازى: التفسير الكبير 13/ 218. (¬3) الرازى: المحصول: 1/ 3/ 505.

اتصال التلاوة والنزول

- إنما يتناول الموحى إليه إلى تلك الغاية، ولا يتناول ما بعد ذلك، فلم يكن النهى الوارد بعده نسخا، وأن سورة البقرة خصصت وحصرت الأنواع المحرمة (¬1)، قال فى الإيضاح (¬2): والأولى إنها مخصصة لتحريم النبى أكل الحمر الأهلية وكل ذى ناب ومخلب لأن الآية خبر لا ينسخ. [اتصال التلاوة والنزول] 5 - الاتصال فى التلاوة للآية المنسوخة لا يوجب الاتصال فى النزول للآية الناسخة كما قال فى قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة: 240] ثم نسخ ذلك بأربعة أشهر وعشر، فى قوله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [البقرة: 234]، فإن المقدم فى التلاوة الناسخ والمنسوخ متأخر، وهذا على عكس ما يجب أن يكون عليه الناسخ والمنسوخ فى كون المنسوخ أولا، والناسخ تاليا له ولا حقا به، وهذا مما يعترف به الرازى (¬3) نسخا للآية، فى حكم العدة، حتى لو كانت الآية المنسوخة متأخرة، والناسخة متقدمة، فالعبرة بالنزول لا فى التلاوة. [نسخ التلاوة دون الحكم] 6 - يعترف الرازى بوجود ما نسخ تلاوة لا حكما، كما ذكر عن ¬

_ (¬1) راجع القسم الثانى من النسخ فى الكتاب وهو نسخ السنة بالسنة عند الرازى. (¬2) مكى بن أبى طالب: الإيضاح 249. (¬3) الرازى: التفسير 3/ 232. - الرازى: المحصول 1/ 3/ 460.

نسخ البدل وغير البدل

«الشيخة والشيخة إذا زانيا فارجموهما البتة»، وهذا النوع من النسخ يعمل به إذا تلقته الأمة بالقبول، وإن كان العلماء قد تكلموا فيه، فمنهم من رفضه (¬1)، ومنهم من جعله من المرفوع. [نسخ البدل وغير البدل] 7 - من حسنات منهج الرازى (¬2) فى النسخ أن يعترف بوجود نسخ البدل وغير البدل، والبدل المماثل والبدل الأخف، والبدل الأثقل، كما يعترف بنسخ الفعل قبل العمل به كما فى قصة إبراهيم الخليل وولده- عليهما السلام- خلافا للمعتزلة وبعض الفقهاء الذين لا يوجبون النسخ إلا بعد التمكن من الفعل، وكذلك يجوز نسخ ما اقترن بلفظ التأبيد (¬3)، لأنه يتناول جميع الأزمان. [نسخ الأخبار] 8 - الرازى من الذين يقولون: بنسخ الأخبار، وهى قسمان (¬4): الأول: إذا كان مدلول الخبر مما لا يمكن تغيره، بأن لا يقع إلا على وجه واحد كصفات الله تعالى وخبر ما كان من الأنبياء والأمم السابقة وآياتها، والدجال، والجنة والنار، وأصول الدين عموما، لا يجوز فيها النسخ، لأن الله تعالى لا يخبر بالأخبار إلا على حقيقتها، فإذا نسخت أفضى ذلك إلى الكذب وهو محال على الله تعالى، وهذا متفق عليه بين العلماء ومنهم الرازى. وأما القسم الثانى: فهو الخبر الذى يجوز تغيره، ونسخه جائز عند الرازى إذا كان مدلوله ماضيا أو مستقبلا، والمستقبل إما أن يكون وعدا أو وعيدا أو خبرا عن حكم كالخبر عن وجوب الحج، أو كان ¬

_ (¬1) الرازى: المحصول 1/ 3/ 484 وانظر تعليق المحقق فى الهامش. (¬2) الرازى: المحصول 1/ 3/ 479. (¬3) راجع النوع العاشر من النسخ. (¬4) الرازى: المحصول 1/ 3/ 486.

نسخ الآحاد

خبرا بمعنى الأمر مثل قوله تعالى: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة: 79]، أو قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة: 228] فالنسخ جائز فى كل ما سبق، لأن حقيقة النسخ (¬1) راجعة إلى بيان أمد الحكم على وجه التراخى، وهذا المعنى متحقق فى الخبر، والمتقدمون والمعتزلة منعوا النسخ عموما فى الأخبار بنوعيها، قال فى الإيضاح «فأما جواز أن ينسخ ذلك كله بإزالة حفظه من الصدور، ونعوذ بالله من ذلك، فذلك جائز فى قدرته تعالى يفعل ما يشاء» (¬2). فنسخ الأخبار قال عنه الإسنوى (¬3) فيه ثلاثة مذاهب الأول: يجوز مطلقا، الثانى: لا يجوز مطلقا، الثالث: التفصيل فيه كما سبق وارتضاه الرازى فى قبول نسخ الخبر الذى يتغير وعدم النسخ فى الأخبار التى لا يجوز تغيرها لأنها تفضى إلى الكذب وهو محال. [نسخ الآحاد] 9 - الرازى من الذين يجوزون نسخ القطعى بالقطعى من المتواتر قرآنا أو سنة، ولا يجوز أن ينسخ الظنى المتواتر، ومن هنا فهو لا يرى نسخ الآحاد للقرآن أو السنة المتواترة. ¬

_ (¬1) البغدادى: الوصول إلى الأصول 2/ 63. - الإسنوى: نهاية السول 2/ 577. - مكى بن أبى طالب: الإيضاح 57. (¬2) مكى بن أبى طالب: الإيضاح 57. (¬3) الإسنوى: نهاية السول 2/ 576 - 577. - الشوكانى: إرشاد الفحول 2/ 801.

المصادر والمراجع

المصادر والمراجع

1 - الإتقان فى علوم القرآن: جلال الدين السيوطى ت 911 هـ تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم. ط 2 القاهرة 1394 هـ. 2 - إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول: محمد بن على الشوكانى 1250 هـ. تحقيق سامى بن العربى الأثرى. ط 1 السعودية 2000 م. 3 - أصول الفقه: محمد الخضرى. ط القاهرة 1969 م. 4 - الاعتبار فى الناسخ والمنسوخ من الآثار: أبو بكر محمد بن موسى الحازمى 584 هـ. حققه د. عبد المعطى أمين قلعجي. ط 1 حلب 1985 م. 5 - الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ومعرفة أصوله واختلاف الناس فيه: مكى بن أبى طالب القيسى 437 هـ- تحقيق د. أحمد حسن فرحات. ط 2 جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. 1990 م. 6 - البداية والنهاية: ابن كثير القرشى 774 هـ: تحقيق د. عبد الله عبد المحسن التركى. ط القاهرة 1998 م. 7 - البرهان فى علوم القرآن: بدر الدين محمد بن بهادر الزركشى 794 هـ. تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم. ط دار الفكر. القاهرة 1980 م. 8 - تاريخ الإسلام ووفيات مشاهير الأعلام: الحافظ الذهبى 748 هـ- تحقيق د. عمر عبد السلام تدمرى. ط دار الكتاب العربى. بيروت. 1997 م.

9 - التفسير الكبير أو مفاتيح الغيب: للفخر الرازى 606 هـ. ط 2. طهران د. ت. 10 - التفسير ورجاله: محمد الفاضل بن عاشور. ط 2. دار سحنون. تونس 1999 م. 11 - الحاصل من المحصول فى أصول الفقه: تاج الدين أبى عبد الله محمد بن الحسين الأرموى 653 هـ- تحقيق: د. عبد السلام أبو ناجى. ط 1. بن غازى 1994 م. 12 - دراسات قرآنية: د. محمد إبراهيم الجيوشى. ط 1 القاهرة 1991 م. 13 - الرازى من خلال تفسيره: عبد العزيز المجدوب. ط 2. الدار العربية للكتاب. ليبيا. 1980 م. 14 - الرأى الصواب فى منسوخ الكتاب: جواد موسى محمد عفانة. ط دار البشير. عمان 1991 م. 15 - الرسالة: الإمام محمد بن إدريس الشافعى 204 هـ- تحقيق: أحمد محمد شاكر. ط 1 الحلبى. القاهرة 1940 م. 16 - شذرات الذهب فى أخبار من ذهب: ابن العماد الحنبلى 1032 هـ- 1089 هـ. ط بيروت 1991 م. تحقيق عبد القادر الأرناءوط ومحمود الأرناءوط. 17 - شرح الورقات فى أصول الفقه للجوينى: عبد الله بن صالح الفوزان. ط السعودية 1996 م. 18 - طبقات الشافعية الكبرى: تاج الدين أبى نصر عبد الوهاب بن على السبكى 771 هـ. تحقيق عبد الفتاح الحلو- محمود محمد الطناحى. ط الحلبى. القاهرة.

19 - العبر فى خبر من غبر: الحافظ الذهبى 748 هـ. ط دار الكتب العلمية. بيروت 1985 م. 20 - فتح القدير الجامع بين فنى الرواية والدراية من علم التفسير: محمد بن على بن محمد الشوكانى 1250 هـ. ط بيروت 1998 م. بتصحيح سمير خالد رجب. 21 - الفرق بين الفرق: عبد الظاهر بن طاهر البغدادى 429 هـ. تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد. ط المدنى. القاهرة. د. ت. 22 - الكامل فى التاريخ: ابن الأثير الجزرى ت 63 هـ. ط دار الكتاب العربى. بيروت د. ت. 23 - لباب النقول فى أسباب النزول: جلال الدين السيوطى 911 هـ ط 4. بيروت 1983 م. 24 - لسان الميزان: ابن حجر العسقلانى 852 هـ. ط بيروت 1971 م. 25 - المحصول فى علم أصول الفقه: فخر الدين الرازى 606 هـ. دراسة وتحقيق د. طه جابرى فياض العلوانى. ط لجنة البحوث بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض. السعودية 1979 م. 26 - المصفى بأكف أهل الرسوخ من علم الناسخ المنسوخ: جمال الدين بن عبد الرحمن الجوزى. 597 هـ. تحقيق د. حاتم الضامن. ط الرسالة. بيروت 1984.

27 - المعتمد فى أصول الفقه: أبو الحسين محمد بن على بن الطب الطيب المعتزلى 436 هـ. ط دمشق 1964 هـ. 28 - المغنى فى أصول الفقه: جلال الدين أبى محمد عمر بن محمد الخبازى 691 هـ. تحقيق د. محمد مظهر بقا. ط السعودية 1403 هـ. 29 - المفسرون وموقفهم من الصفات: محمد عبد الرحمن المغراوى. ط الرياض 1985 م. 30 - مناهل العرفان فى علوم القرآن- محمد عبد العظيم الزرقانى. أ- ط دار الفكر د. ت. ب- دراسة وتقويم بقلم خالد عثمان السبت- ط السعودية 1997. 31 - منهج الرازى فى التفسير بين مناهج معاصريه: د. محمد إبراهيم عبد الرحمن- ط 1 القاهرة 1989. 32 - منهج صديق خان فى تفسيره فتح البيان: د. محمود محمد الحنطور. القاهرة 1998. 33 - ناسخ القرآن العزيز ومنسوخه: ابن البازرى 738 هـ. تحقيق د. حاتم الضامن. ط 2 الرسالة 1983 م. 34 - النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة: جمال الدين أبى المحاسن يوسف بن تغرى بردى ت 874 هـ. ط بيروت 1992 م. 35 - النسخ فى القرآن: د. مصطفى زيد. ط دار الفكر. بيروت 1971 م.

36 - نظرية النسخ فى الشرائع السماوية: د. شعبان محمد إسماعيل. ط 1 القاهرة 1977 م. 37 - نهاية السول فى شرح منهاج الوصول: للقاضى البيضاوى 685 هـ. حققه د. شعبان محمد إسماعيل. ط 2 لبنان 1999 م. 38 - نواسخ القرآن: ابن الجوزى 597 هـ. تحقيق محمد أشرف على الملبارى. ط السعودية 1984 م. 39 - نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار: للشوكانى 1250 هـ. ط القاهرة 1297 هـ. 40 - الوصول إلى الأصول: أحمد بن على بن برهان البغدادى 518 هـ. تحقيق د. عبد الحميد على أبو زيد. ط 1 الرياض 1984 م. ***

§1/1