النبوة: اصطفاء وقدوة

أحمد مختار البزرة

مدخل

مدخل مدخل ... النبوة: اصطفاء وقدوة للشيخ أحمد مختار البزرة المدرس بكلية الدعوة إن العالم يتطلع في هذا العصر إلى أمة تتحمل الواجب المقدس في الدفاع عن الإنسان، هذه الأمة يجب أن تصير قدوة، ولا تصير قدوة إلا إذا عرفت في تاريخها مثلاً يحتذى. المحاضرة الرابعة في الموسم الثقافي لعام 89-90 الذي تقيمه الجامعة الإسلامية بالمدينة. وقد ألقاها المحاضر على جمع غفير من رجال العلم والحجاج وطلاب الجامعة بمقر دار الحديث. يعيش إنسان العالم المعاصر أياماً شداداً؛ تظله غيوم التشاؤم، ويملأ نفسه اليأس، إنه في عالم العصر الحديث؛ عصر المدنية الغربية الذاهبة شرقاً وغرباً؛ مدنية المعجزات العلمية والمخترعات الباهرات، مدنية شقَّ صانعوها أجواء الفضاء وحزموا الحقائب للسفر إلى الكواكب؛ مدنية فتحت لأعينها آيات رائعات على عظمة قدرة الله الخالق ودلائل على البارئ المقدر الحكيم! ومع ذلك فإن إنسان هذه المدنية في قنوط وعجز وخوف؛ خوف من مدنيته التي شيدتها يداه، ينظر في كل مكان فيرى رؤوس القنابل النووية في البر والبحر والجو مشرعة تريد أن تنقضَّ، فيغمض عينيه ويهرب بنفسه إلى دنيا الوجوديين والعراة والخنافس والمخدرات؛ خوف على خوف إذا وضع يده على قلبه أنكره. إنسان هذه المدنية يلوك خيبة مريرة، لقد قضى قروناً بحثاً عن السعادة والمعرفة والحق والخير والجمال، وأقام دهراً طويلاً يتشدق بالحرية والعدالة والمساواة، لكنه

أخفق في تحصيلها، وأخذ بنفسه وبالآخرين لما فرض نفسه وحضارته عليهم دليلاً وقيما. فأشقى نفسه وألقى على أمم الأرض الشقاء. إنسان هذه المدنية - على عديد تجاربه في الحياة وضخامة وسائله وإمكاناته - ليس كالإنسان الذي كرمه الخالقة أول مرة وأمر الملائكة بالسجود له. إنه إنسان فقَدَ نقاء الفطرة، وانحط عن مرتبة الكمال الأمثل، إنسان رضي بالأرض قسما وباع السماء بيعة وكس، وقطع بينه وبينها الأسباب وعاش في الأرض للأرض لا لربه ولا لنفسه، ومنها اشتق معناه الوجودي معنى مادياً بحتاً، ووزن نفسه بترابها؛ بذهبها أو حديدها أو نحاسها أو زينتها أو حبها فلم يعرف لنفسه قدراً وقيمة إلا بمقدار ما جمع منها وما حاز. وكان الوزن عند الله الحق والعدل والخير والأمانة. كان هذا انحرافا كبيراً عن الصراط المستقيم الذي هدى الله إليه الإنسان؛ انحرافاً قذف به إلى الجانب المظلم الداكن من الحياة؛ إلى الخوف بعد الأمن.. إلى الظلم بعد العدل.. إلى العبودية بعد الحرية.. إلى الشقاء بعد السعادة.. إلى القلق بعد الطمأنينة.. إلى الكفر بعد الإيمان.. إلى الحرب بعد السلام. ويقف هذا الإنسان وقد أعد كل شيء للحرب والفتك ليخادع نفسه كما خدعها مراراً وليبحث ويتحدث في السلام. يالها من أغنية حلوة عذبه! كذلك يتغنى السجناء بأناشيد الحرية من وراء القضبان. قالت خديجة رضي الله عنها: "الله السلام ومنه السلام"1. وحق ما قالت، فمن أراد السلام فليلتمسه في حمى الله؛ في شريعته ومبادئه. وأية جدوى في البحث عنه في قلوب خاوية من تعاليم الرب لم تبق فيها شهوة المادة شعاعاً من نور، ولا نبضة من رحمه؟. إن السلام ينبثق من المحبة، والمحبة تتفجر من الإيمان. وأن الحرب تلدها البغضاء، والبغضاء سليلة الكفر والإلحاد. إذن لا أمل للإنسانية في سلام ونجاة وللكفر والإلحاد في الأرض دولة وسلطان. إن خلاص الإنسانية الحقيقي أن تجد سبيلاً إلى محبة؛ محبة خالصة منزهة وليست هي في المادة! فإن المادة تستولي على قلب الإنسان ولا تورثه إلا أثرة وشحناء. وليست المحبة في الإلحاد، فإن الإلحاد في حقيقته حقد جاحد؛ حقد مخلوق متكبر على الخالق المنعم. وكيف يعطى قلب خلا من الإيمان جاحد بموجده،

_ 1 ابن هشام م1 ص 241. تحقيق مصطفى السقا وزملائه.

حاقد على ربه محبة صادقة نقية معينة؟ وهل يجتمع نقي الحب وأسود الحقد في قلب واحد؟. إن مستنقع الحقد لا ينبت فيه إلا الخبيث، وإن الإلحاد فحمة الحقد على نور السماء. تعيش البشرية هذه الأيام الشداد، وعلى الذين يستطيعون أن يقدموا لها شيئاً في إنقاذها أن يسرعوا في أداء واجبهم قبل أن تحق من الله كلمة العذاب. إن الدول الكبرى قدَّمت ما عندها للآخرين؛ القوة المادية الجبارة التي لا ترحم وقالت هذه الدول كلمتها "البقاء والحق للأقوى" فقضت بذلك على آمال الإنسانية التاريخية بالعدالة والإخاء لقد قالت هذه الدول كلمتها الأخيرة، وما في كلمتها إلا الاستعباد والظلم والاضطهاد وخنق الروح والضمير. وإن الواجب يفرض على أولئك الذين عرفوا في تاريخهم وشريعتهم قانوناً غير مظلم والاستعباد أن يقولوا كلمتهم. إن الدول الكبرى قالت كلمتها، وحيل بيننا نحن المسلمين وبين كلمتنا أن نقولها في حاضرنا ومستقبلنا وفي حاضر الإنسانية ومستقبلها. وأني لأقول - وما قولي بادعاء - ما على ظهر الأرض أمة غيرنا عندها للحق بيان ومنهج، فإن كتابنا يحتفظ بكلمة السماء في صفائها الأزلي الأوَّلي، وإن تاريخنا يشهد بواقع تطبيقي حسن لهذه الكلمة. إن العالم يتطلع في هذا العصر المضني إلى أمة تتحمل الواجب المقدس في الدفاع عن الإنسان وإخراجه من الظلام إلى النور؛ أمة تستطيع بما فيها من ذخر روحي، وما عندها من قيم إلهية أن تكون أرقى بني الإنسان فكرا وشعورا وأنبله غاية وهدفا، وأقدره على تسلم القيادة في معمع الأخطار. هذه الأمة يجب أن تصير قدوة ولا تصير قدوة إلا إذا عرفت في تاريخها مثلا يقتدى، فريدا كاملا من البشر؛ كاملا في إنسانيته، في حبه الخير وبغضه الشر، لا عوج في طريقته ولا انحراف في شخصيته، تجده كتلة من المعاني الخالدة المتجسدة كلمات وعمل وتنظيم. إذا اتبعته أمته، وتبنت أهدافه ورفعت شعاره، وانطلقت في دروب سيرته صارت حياتها أشبه شيء بحياته. هذه الأمة التي تستطيع ذلك بإذن ربها هم المسلمون، وذلك المثال الرفيع هو محمد صلى الله عليه وسلم. إنه لم يبق لنا في هذه الأيام الشداد إلا أن نعود على نبع الفطرة الصافي نستقي منه؛ إنه لابد من العودة إلى الأنبياء. ولقد جاء كبار الرسل أممهم على حال لا تختلف بما فيها من قلق وظلم وفساد والإلحاد وانحدار في القيم

الإنسانية عن عصرنا. فلنقف إذن لحظات مع: 1- مع عصر النبوة. ولننظر 2- في اصطفاء الذات النبوية. ولنتأمل 3- في إعداد الله للرسول: أ- إعداداً نفسياً. ب- التمهيد لظهوره تاريخياً. ج- والتهيئة له اجتماعيا. فإذا أحطنا بذلك بدت لنا 4- ضرورة القدوة.

عصر البعثة النبوية

عصر البعثة النبوية عصر البعثة النبوية ... عصر البعثة النبوية: لا مراء في أن عصر البعثة النبوية عصر ممتاز بين الأعصر الزمنية له في علم الله ميعاد معلوم كسر من أسرار الغيب, حتى يأذن الله بإنزال رسالته على عبده المختار. (ولوددت لو يتسع للقول مجال للحديث عن خصائص عصر النبوة, لكن المحاضرة تضيق عن هذا القصد. حتى الحديث الفائض عن عصر البعثة المحمدية يزيد على حظنا من الوقت. ومن ثم أجتزئ بالكلام عن العام الذي ولد فيه رسول الله صلى الله علية وسلم, لعلنا نظفر بفائدة وحكمه) . فليس من شك إذن أن الله يختار للنبي عصره, ويؤقت له: ميلاده, ومبعثه, ووفاته. ولقد قال تعالى لموسى عليه السلام بعد أن ذكره بأطوار ماضيه وكلاءته له فيه {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} 1 وكذلك فإن ميلاد محمد صلى الله عليه وسلم على قدر وموعد إلهي مع الزمان, وكان عام الفيل الذي ولد فيه عاما حافلا في تاريخ الإنسانية, عاما مليئا بالأحداث الضخام. أقبل فيه أبرهة الأشرم يريد هدم الكعبة بعد أن نجح الأحباش في احتلال اليمن. وكان أبرهة قائداً جلدا طموحا بعيد الأهداف, قد أزمع أن يجعل من اليمن قاعدة ملك له تنطلق منها عساكره للسيطرة على جزيرة العرب سيطرة سياسية وعسكرية واقتصادية, وأن يشد إليه قبائل العرب المتنافرة المتدابرة بخيوط وأوتار يحركها ويضرب عليها كيفما شاء. وأعمل أبرهة الفكر وكان ذا نظرة استعمارية داهية, لا يعوزها شيء من حنكة المتخصصين باستعمار الشعوب في العصر الحديث, فصمم خطته لتحويل العرب تحويلا دينيا يجعل الطريق أمامه معبدا ذللا لتحقيق أغراضه الاستعمارية. وهو أمر لا يختلف في عن الغزو الفكري وأهدافه الذي يستهدف العرب والمسلمين اليوم. وكان أبرهة نصرانيا فأراد حمل العرب على اعتناق النصرانية بالمكر والسيف, فكان صاحب أول حمله صليبيه في التاريخ على بلاد العرب. وهذا ما أدركه العرب واضحا

_ 1 سورة طه، الآية: 40

من غرض تحركاته العسكرية, وأفصح عنه عبد المطلب وهو أخذ بحلقة باب الكعبة يستغيث الله: لاهم أن العبد يمنع ... رحله فامنع حلالك لا يغلبن صليبهم ... ومحالهم غدوا محالك2 وكانت الكعبة منذ أغوار الزمن مثابة العرب وأمنهم ومهوى أفئدتهم يلتفون حولها بمشاعرهم وشعائرهم في جو من الرضا العضوي والتقديس لمقام إبراهيم من منزلة في قلوبهم, وارتقت مطامع أبرهة إلى القضاء على أسباب وحدة العرب الروحية المجتمعة في الكعبة واستبد به التفكير في تهديمها فجاءت خطته تعد في الحقيقة تغيير جذري في مرافق العرب ومستقبلهم (خطة لا تختلف في كثير عن خطة اليهود في تحريق المسجد الأقصى وزعزعة قواعده لقطع صله المسلمين بمسجد يشدون إليه الرحال) . وقدَّم أبرهة لهذه الخطة النكراء ببناء القليس - كنيسة لم ير مثلها في زمانها بشيء من الأرض -3 وأوضح الغرض منها في تقرير أرسله إلى سيده ملك الحبشة يقول فيه: "لست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب"4 ولما عرضها للعرب لم تهو إليها أفئدتهم وأنكروا مضاهاتها لمقام إبراهيم عليه السلام, وأحدث بناؤها رد فعل عنيف في نفوسهم تجلى في إعراضهم عنها ونهوض بعضهم للتعبير عن سخطهم ونقمتهم وهوانها عليهم بأساليب خاصة فردية فأيقن أبرهة بإفلاس القليس ما دام للعرب حول الكعبة مقام فبيَّت غزو مكة وتهديم كعبتها المشرفة, وعبأ جيشه وأعلن بالزحف. ولم يكن طريقه إلى مكة لا أشواك فيه, إذ من العسير على العرب أن يتسامعوا بغزو بيت الله الحرام فلا يستثارون ولا يثورون. فهب فريق ممن أوتوا حمية وغيرة يعترضون جيش أبرهة اللجب. وكانت أولى المقاومة من قوة يمانية على رأسها الملك ذو نفر5 صمد لأبرهة بقبيلته وجماعات من العرب، ولم يكن ثمة تكافؤ بين الفريقين، فأحاط به أبرهة وأسره وكبَّله وسيره في الجيش تشهيراً وتخويفاً وردعاً للآخرين. على أن مصير ذي نفر لم يمنع قوة عربية أخرى للمقاومة من قبيلة خثعم بقيادة سيدها نفيل بن حبيب6 فلم يلبث إلا يسيرا حتى أسر وأدني للقتل ولكنه أعلن ولاءه وولاء قبيلته الكبيرة لأبرهة وتطوع أن يكون دليله

_ 2 ابن هشام: السيرة م1 ص51. 3 ابن هشام: السيرة م1 ص 43. 4 المصدر نفسه: م1 ص 43. 5 المصدر نفسه: م1ص46 6 المصدر نفسه: م1 ص46

في طريق مخوف، فرضي أبرهة من ذلك ليأمن ظهر الجيش وليستفيد من حصر القوى العربية معه. وكان من خطته أن يتحاشى سفك الدماء ما استطاع حتى يأمن الثارات والحزازات ويضمن للمستقبل صفاء القلوب، ولما حاصر ثقيفاً في الطائف خرجوا إليه وأعلنوا الطاعة والعبودية لأبرهة ورضوا بأن يهدم بيت الله على أن يسلم لهم بيت اللات1 وقد كشف إخفاق المقاومة العربية عن نواح خطيرة في واقع العرب: 1- عظم مكانة الكعبة في نفوسهم واستعداد العرب للقتال في سبيل بقائها. ولكن هذه النية الحسنة لم تظفر بالقدرة المنفذة. 2- عجز قوى المقاومة عن اجتماع بعضها البعض وتنسيق خططها. 3- انشغال غالبية العرب في الجزيرة وخارجها بخصومتهم المحلية، وعداوتهم القبلية وأحقادهم التاريخية عن الاحتشاد لقضية كبرى في حياتهم ومستقبل وجودهم، وجعلها فوق العداء القبلي والخصومات السياسية. وقد عانت جزيرة العرب قبل الإسلام عبر أمد مديد حروباً وغزوات فيما بين القبائل، فاستنزفت قواها في غير طائل، وغرقت في الحروب حتى كادت تتفانى، ولهذا، ولم تستطع أن تتناسى الخصام العنيد والعداء المميت وأن تنسلخ من أضعاف وأحقاد تتوارثها جيلاً بعد جيل. فبات تلاقيها أمراً مستحيلاً استحالة التقاء الماء والنار. ولعل هذه الحال تكشف عن معنى العظيم في معجزة الله في قوله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 2 هكذا كانوا يوم أصحاب الفيل في استعصاء على الالتقاء في سبيل أية قضية حتى ألفت بينهم كلمة التوحيد ورسالته الله. 4- ضعف القوة المعنوية وانخفاض المستوى النفسي لدى المقاومين منهم؛ إذ سرعان ما ألقوا بأيديهم إلى الاستسلام وحرصوا وكانوا أشد حرصاً على الحياة، ورضوا بأن يكونوا عبيداً وأعواناً وعملاء في صفوف الأعداء يكشفون لهم الطريق ويتحسسون لهم أحوال القبائل الأخرى مما يدل على أن الحياة لديهم كانت بشكلها الرفيع أو الوضيع، الذليل أو العزيز أحب إليهم وأغلى عندهم من أية قضية لهم، بل لا أجحد التاريخ إذا قلت أن العرب قبل محمد صلى الله علية وسلم لم يكن لهم قضية يضحون في سبيلها إلا قضايا خفيفة جزئية تأكل منهم ولا تعطيهم، قضايا العداء والثأر المحلي.

_ 1 المصدر نفسه: م1 ص47 2 الأنفال: الآية 63.

ويظهر جلاء الأمر إذا قابلنا بين موقفهم من أبرهة وموقف العرب المسلمين من أعدائهم الكفرة؛ قيل لزيد ابن الدثنة وهو يقدَّم للقتل: "أتحب أن محمداً عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه، وأنك في أهلك؟ قال: والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة. . تؤذيه، وأني جالس في أهلي"1. وكان قياصرة الروم أحياناً يروزون حرص المسلمين على دينهم فيغرونهم الإغراء المذهل ليفتنوهم، فما ينفصمون من دينهم شعرة فيلبس القياصرة من ثباتهم ويقينهم، ذلك أن صار للعرب قضية يعيشون لها، ولا يجدون شيئاً باهظاً أن يستشهدوا في سبيلها. ولا يفلح عرب ولا مسلمون لا قضية لهم، وخير القضايا طراً قضية السماء. الانقسام والسطحية في العقيدة: ولعل أفدح العوامل في مأساة العرب عام الفيل - وفي كل مأساة من مآسي تاريخهم كله - خمود نيران الحمية الدينية في القلوب, وفقدان الأشداء من المؤمنين: أعمدة الثبات والتثبيت في الملمات والحروب. فبينما كان أعداءهم الأحباش يتقدمون إلى بيت الله الحرام بحمية صليبيه طاغية, كانت أفئدة العرب خلواً من شعور ديني مقدس دفاق قادر على دحر الموجة الصليبية. ولو فتشنا قلوبهم يوم ذاك لما وجدنا فيها حقيقة من حقائق الدين, ولا معنى واضحا من معانية يعتصبون به وينطلقون منه. كل ما فيها يوم ذاك ظلال من دين إبراهيم غمرها من الوثنية غبار كثيف. . أفسدت عليهم الأصنام دين التوحيد وباعدت بين معتقداتهم وقلوبهم وألقت البغضاء بينهم إذ ذهبت كل قبيلة بصنم, تعبده دون القبائل الأخرى, فكان هذا الانقسام في الدين عاملا خطيرا في تفتيت وحدتهم كأمة لها دور في التاريخ. حتى صارت بعض القبائل لا تجد ضيرا في تهديم الكعبة إذا سلم لها إلهها كما رضيت ثقيف بذلك على أن تبقى لها اللات وجرى العرب في عبادة الأوثان على تقليد ذميم وليس لها في طباعهم وتفكيرهم أصالة واستقرار. ولم يكن في مقدور الأوثان أن تلهب القلوب بحمية ما. فاجتمع لهم إلى الانقسام السطحية في الدين, وهو داء عياء خذال قتال في المواقف الكبرى التي يتقرر فيها المصير, وكان العرب يوم ذاك بما هم عليه من هذا على شفا الضياع والهلاك؛ لئن لم يخلعوا الأصنام التي قسمتهم والوثنية التي أماتت شعورهم وحميتهم ذهبوا وضاعوا وهلكوا. ولهذا لما أراد الله بهم خيرا بدلهم

_ 1 السيرة لأبن هشام: م2 ص172 والقائل هو أبو سفيان بن حرب.

بعقائدهم المشتتة الباهتة المميتة عقيدة التوحيد المجمعة المتألقة بالنور الدفاقة بالحياة. قال تعالى يذكرنا بهذه النعمة الكبرى والمنة العظمى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} 1 , ولا غرو أن المعجزة الرائعة التي حققها المسلمون في مجال الفتوح والدعوة ما كانت لتنجز على أيديهم لولا العقيدة الجديدة؛ عقيدة التوحيد التي وحدت القلوب والصفوف والخطط والعمل. لما كر أبرهة الأشرم في الطائف إلى مكة يتقدمه أبو رغال الثقفي دليلا علم أن قد صفى المقاومة العربية بأدنى وأبخس ثمن. والحق أن أبرهة لم يعوق مسيره من اليمن إلى مكة حرب ضروس, وإنما مناوشات يتبعها استسلام وخضوع وتبعية. ورضي أبرهة عن هذه النتائج أيما رضا إذا وفرت عليه الوقت والجهد والدماء، ولم يخامره شك في أنه أوفى على بلوغ مأربه عندما أنزله أبو رغال بالقرب من مكة. وقد طمع أن يظفر من قريش بمثل ما ظفر من ثقيف وغيرها، بتسليم كلي ليبلغ ما أراد من تهديم الكعبة برضا من أهل الحرم على مشهد من العرب وعلى أسمع العالم وبصره ليدعي هوان أمره على أهله، إمعانا في الامتهان لسكانه والمهانة لحجاجه وقاصديه. وانطلاقا من هذا القصد أرسل دورية تأديبية هجمت على أموال لقريش فساقته إلى المعسكر، ثم بعث رسولاً إلى قريش يطلب إليهم أن يرسلوا إليه بسيدهم لمباحثته. فوجهت إليه بسيدها عبد المطلب بن عبد مناف بن هاشم، شيخ وقور مهيب جاوز المئة من عمره، جرب الأيام وجربته فطن يضع القول مواضعه مخلص للبيت ولرب البيت، فسلك أبرهة مسلكاً لإرهابه وإدخال الوهن على نفسه ليسهل فرض رغباته وطلباته عليه، فأعوز إلى رجاله أن يطوفوا بعبد المطلب على الأسرى من أسياد العرب وملوكهم، فأدخل على ذي نفر وكان في حديد، ورأى نفيلاً الحنفي وآخرين مقهورين على أمرهم يقومون بخدمة أبرهة ورجاله، فحزت المرارة في نفسه إذ رأى رجالات العرب قد هزموا نفسياً وعسكرياً. وعرف عبد المطلب أنه مقبل على معركتين مع أبرهة؛ نفسية وعسكرية. وأيقن أن الثانية لا نفع في خوضها فرغب عنها غير مستسلم وأما الأولى فصمم على الثبات فيها. ولما أذن له بالدخول على أبرهة دخل ميدان الحرب النفسية ونظر أبرهة في وجه عبد المطلب بحثاً عن معاني الخوف والفرق والتخاذل فلم يجد شيئاً ووجد مهابة وصرامة وحفاظاً.

_ 1 آل عمران: 103.

وفرضت شخصية الشيخ المهيب الثابت الوقور نفسها على الغازي فانحط عن عرشه وجلس على البساط وأجلس سفير قريش وسيدها إلى جانبه، لعل اللين والتواضع أجدى إذ لم ينفع التخويف والترهيب. كانت هذه مظاهر من الحفاوة والإكرام اصطنعها الداهية ليستميل إليه عبد المطلب وليبعث فيه ثقة واطمئناناً إذ بدا لأبرهة أن مقدرات مكة وكعبتها أمست بين أنامله وأن قريشاً في قبضته؛ رجالها ونساءها وأموالها، وإن جيشه قادر على الفتك وإنزال العار. وكان أبرهة يريد الكعبة لا قريشاً وأستقدم عبد المطلب ليهب أبرهة له قريشاً وليأخذ منه الكعبة فيظفر بما أراد وقد من على قريش وسيدها وأفضل. وأما عبد المطلب فقد جاء أبرهة وهو يحمل معه أمانتين؛ أمانة الله فهو حاجب الكعبة وساقي الحجيج, وأمانة قومه فهو نائب قريش وصاحب كلمتها في هذا الموقف الصعب. ولقد توقع أبرهة أن يتهالك عبد المطلب على كرسيه يطلب رحمته كما فعل من قبله, وأدرك عبد المطلب ما في نفس أبرهة فصمت, ولم يفتح الحديث تجاهلا منه للأمر العظيم الذي يريده أبرهة, وتحاشيا أن يطلب مطلبا يتخذ منه أبرهة ركيزة للمساومة على الكعبة. لقد كان عبد المطلب في موقف ضنك فإن أية كلمة تحمل معنى الاسترحام لقريش والإبقاء عليها تنطوي على تنازل خطير في حق بيت الله الحرام. ومن ثم آثر ألا يتكلم في منجاة قومه حتى ألا يضيَّع أمانة الله ولما ضاق أبرهة بصمته سأله عن حاجته فقال: "حاجتي أن يرد علي الملك مئتي بعير أصابها لي" أهذا المَطْلَب كان همَّ عبد المطلب ومصدر قلقه؟ ألهذا طيف به في الجيش وعلى الأسارى واستقدم إلى الملك؟ وماذا يفعل بالشاء والبعير ومكة كلها في خطر داهم, كلا لم يكن هذا المطلب من واقع الحساب في شيء, ولكن عبد المطلب عمد إلى تجاهل مراد أبرهة تجاهلا تاما ليعلمه أن لا تنازل عنده في حق بيت الله الحرام ولو قيد شعرة, وأن التسليم بتهديمه ليس موضوع بحث على الإطلاق ولا مساومة فيه. وفهم أبرهة ما في طلب القرشي من معنى فاستشاط غضباً وعمد إلى إثارة الموضوع من قبله قائلا - وهو مغيظ -: "قد كنت أعجبتني حين رأيتك, ثم زهدت فيك حين كلمتني, أتكلمني في مئتي بعير أصبتها لك, وتترك بيتاً هو دينك, ودين آبائك قد جئت لهدمه, لا تكلمني فيه1 وأجاب عبد المطلب بقول مرهف حاسم لا مجال بعده لجدال أو ادهان: "إني أنا رب الإبل, وإن للبيت ربا

_ 1 السيرة لابن هشام م1 ص500.

سيمنعه"1. وخرج من عند أبرهة إلى قومه خرج من المعركة النفسية منتصراً, ولم يظفر منه بطائل, ولقد كان في الكلمات الموجزة الحادة كل ما أراد عبد المطلب أن يفصح عنه وأن يفهم الغازي. قال له: "أنا رب الإبل؛ الإبل مال اكتسبتُه واكتسبتْه قريش فلي ولهم الحق أن يطلبوه. وإذا كان لي ولهم الحق في طلب أو مباحثة أو جدل فيما هو ملك لنا ومن حقنا. وأما البيت فهو بيت الله وليس لي ولا لأحد فيه من الحق كما في الإبل, ولا يحل لي بحال من الأحوال أن أتكلم فيه, أو أساوم عليه, أو أتذلل لك في أمره فإن ربه أولى به وبحمايته". إن عبد المطلب قد أوضح في هذا القول البليغ الحدود التي تقف عندها صلاحيات الزعامة, والموقف العدل الحق الذي إن التزمه الزعيم كان من الموفقين. فبيَّن فيه أن ثمة حقوقا كبرى في حياة الأمة وذمما تاريخية وإلهية لا يحق لأي ذي سلطان أو نفوذ أن يمسها وأن يجعل في مهب أهوائه ومصالحه إن شاء أخفرها أو ساوم عليها. وإن التاريخ يشهد بأن النصر يقف دائما حيث يقف أولئك الزعماء الذين يلتزمون الحق الأعلى لا يجاوزنه ولا يقبلون به عدلا أو حلا وسطا. وقد رضي الله لعبد المطلب صلابته في حرمة بيت الله وثباته فأرسل على الغزاة العتاة جنداً من السماء: {طَيْراً أَبَابِيلَ, تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ, فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} 2 وما كان هذا التوفيق الإلهي في تلك الساعة لعبد المطلب نفسه وإنما لجنين في رحم آمنة بنت وهب قد بلغ منه سبعة أشهر وكان أبوه في تلك الأثناء في يثرب يلفظ أنفاسه الأخيرة وأمه تجلس في بيتها تنتظر عودة زوجها الغائب وتترقب مع الناس قلقة أوبة حميها في معسكر أبرهة: هذا الجنين الذي أذن الله له أن يتنسم أنسام مكة بعد خمسين يوما من غزوة أصحاب الفيل هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب, به قد وفق الله جده وأكرمه وأكرم العرب والعالمين. كانت هزيمة أصحاب الفيل وما زالت آية من آيات الله ومعجزة من معجزاته جعلها بين يدي مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكانت المنة بها على أهل مكة عظيمة, ولكن القوم كانوا في جاهلية ظلماء فما أن ذهب عنهم الروع وفزع عنهم حتى عادوا يسدرون في غيهم ومظالمهم ومفاسدهم. ولم تكن الإشارة التي حملتها المعجزة لتنزعهم من الغي والضلال, فأتم 1المصدر نفسه. وكان التحدي أعظم إذ قال له أبرهة: "ما كان ليمتنع مني". فقال له عبد المطلب: "أنت وذاك".

_ 2سورة الفيل.

الله عليهم وعلى العالمين فضله بمعجزة أعلى وأسمى فأرسل إليهم محمداً صلى الله عليه وسلم ليبوئهم مكانا عزيزا كريما؛ في عام الإنقاذ هذا ولد المنقذ الأكبر محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء العرب وهم أعجز الناس عن حماية حوزتهم وحرمهم ورد الغزاة فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى صنع الله منهم فاتحي العالم ومنائر الحق والحكمة. هكذا كان ماضي أجدادنا عام الفيل ما أردنا من تفصيل الحديث فيه إلا الذكرى والاعتبار. وأيم الله {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} 1.

_ 1 سورة ق: 37.

اصطفاء الذات النبوية

اصطفاء الذات النبوية اصطفاء الذات النبوية ... 2- اصطفاء الذات النبوية. الاصطفاء انتخاب الله صفوة البشر ليكونوا المثال الواقعي الحي للمثل الإلهية والقيم الربانية التي ارتضاها للبشرية شرعة ومنهاجا, تخوض بها تجربة الحياة والابتلاء بغية النجاة والظفر بمرضاة الله تعالى. إن تجسيد القيم في أفعال وخطط يعطيها معناها الإمكاني الحق إذ يتعرف الناس على هذه المثل في واقع حياتي حي, فلتلتحم الفكرة العلوية بصورتها الأرضية, وتجري الأفكار والتعاليم الإلهية ملموسة دفاقة في الأرض جريان السيل لا ظن ولا توهم ولا مراء. ومن ثم ينتخب لها أولئك الذين تبدو العقيدة فيهم رائعة الجلاء والنقاء كما ينم البلور ذو الصفاء عما حوى, حتى إنك لا تميز بين الوعاء وما وعى. هؤلاء الصفوة يتولى الله سبحانه اختيارهم وهو العليم الخبير، ويجعل فيهم بقدرته ومشيئته الاستعداد للنبوة ليكونوا حقائق العقيدة المتحركة على الأرض. هذه النخبة يمكن أن يقال فيها: "أنها ليست وليدة بيئتها ولا من صنع مجتمعها, أنها جنس منفصل وجد كالغريب في بقعه نائية. وأنها لتحس بغربتها قبل أن يأتيها خبر السماء وتتجافى عن ضلال الناس كأن عالمها غير عالمهم وكأن قوة علوية تجتذبها إليها -تلمس آثارها وتشعر بتأثيرها فيما يجري لها ولكن تبقى محجوبة عن السر حتى يكشف الحجاب ويأتيها الوحي - فيتصل حبلها المقطوع بالعالم الذي كانت تستشعر وجوده ولا تدري كنهه, وتجد نفسها بعد ضلال {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى, وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} 2 وتعرف حقيقتها ومهمتها فيزول عنها الإحساس بالغربة, وتستشعر نفسها وكيانها بقوة وتمكن, وتأخذ في التلقي من الله تلقيا تلقائيا آنيا فلا تتردد ولا تتحرج ولا تجادل ولا تماري, وإنما تستجيب للأمر وتتمثل للأمر للكلمة الإلهية آنيا كما ينبثق النور آنيا لا يدري أول شعاعه من أخره لسرعته تلك الاستجابة التي تلمس حقيقتها في إبراهيم. . {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ

_ 2 الضحى: 6- 7.

قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 1 ولم لا يسلم للحظته وقد بحث طويلا عن ربه في ملكوت السموات والأرض فلما اجتباه ربه وكشف حيرته وهدى ضلاله لم يبق إلا الامتثال والتلبية. عندها يعلم المصطفى المختار أسباب عزوفه عن قومه ونفوره من تقاليدهم وعباداتهم, ويوقن أن عناية الله كانت تلاحظه قبل الوحي الصريح والخبر الوثيق فيلجأ إلى ربه ليستمد منه وليستضيء بنوره ويغرف من معين هديه. وتتمايز نفسه تمايزا كليا عما حولها وتصبح قوة فعاله تأتي بالمعجزات ولا تبالي بالمعوقات. فلا تهاب أن تدخل معبد الوثنين الفأس بيدها تهزأ بالأصنام وتجعلها جذاذ ثم تقف وحدها تتحدى صخب الجمهور الضال, وطغيان الحاكم الجبار والتحريق بالنار, وتقابل التحدي صخب العجاج بتحد صليب مرهف نافذ. ولا عجب أن تقف وحدها على الصفا لتقول كلمتها المأمورة بها وتبلغ رسالته المنوطة بها, وليس عجيبا أن تقول: "والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري, على أن أترك هذا الأمر, حتى يظهره الله, أو أهلك فيه, ما تركته "2 لأنها أيقنت أن معنى وجودها هو أداء رسالة الله, فإن لم تؤديها فلا معنى لبقائها. ولهذا تبلغ في الاستبسال مدى لا تحتمله النفوس الأخرى, وفي الصبر شأوا يعجز عنه أولو العزم في غير الأنبياء, وتصبح شجاعتها وصبرها موضع الدهشة من الخصوم. وهذا التحدي المنتصر؛ تحدى فرد وحده لأمة أو مم لا يصدر عن أفراد عاديين, إذ لا يملك فرد مستضعف أعزل أن يغير نظام العقيدة, والمجتمع والتاريخ لأُمة إلا إذا أيدته قوة قاهرة على القوى فاستمد من ذخرها للصمود والهجوم والانتصار إن هؤلاء الأفراد الذين اختارهم الله وخلق فيهم هذه القدرات والإمكانيات هم وحدهم أمم, فإن كلا منهم مبدأ أمة جديدة وتاريخ محدث, جمع الله له في نفسه القوى اللازمة للمستقبل الجديد, فسرت منه إلى قلوب الأجيال قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 3. وفي القران الكريم إشارات واضحة إلى تلك الصفوة المختارة في ملايين البشر المبعوثين في الأرض قال تعالى مخبرا عن طريقته في الإرسال: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} 4 وهو يعلم أولئك الذين يطيقون النهوض بتبعاتها إذ: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} 5 ومن ثم كان اصطفاؤه لأفراد مخصوصين متميزين

_ 1 البقرة: 121. 2 السيرة لابن هشام: م1 ص266. 3 النحل: 120. 4 الحج: 75. 5 الأنعام: 124.

ذهبوا بخلود الذكر في الدنيا والآخرة: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ, ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 1. وهؤلاء الأصفياء - على تباعد الزمان فيما بينهم - بعضهم من بعض, فإن بينهم نسبا هو دين الإسلام الذي ارتضاه الله للبشر منذ أبيهم آدم, ولما بعث خاتم الأنبياء وسيد المرسلين كان اختياره من صفوة الصفوة؛ إن محمدا صلى الله عليه وسلم خير نسمة برأها الله بين سابق البشر ولاحقهم. إن أكمل الرسالات وخاتمتها تستلزم رسولا هو أكمل ما خلق الله من بشر وأطهر. وهذا أمر هيأ الله له الأسباب منذ آدم عليه السلام, قال عليه الصلاة والسلام: "بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا حتى بعثت في القرن الذي أنا فيه" 2 وفي هذا الحديث الذي رواه البخاري دلالة كافية على انتخاب إلهي مستمر خلال أجيال البشرية حتى استخرج منهم محمدا صلى الله عليه وسلم وكان استخراجه من بيت أوله النبوة قال عليه الصلاة والسلام -في حديث رواه مسلم-: "إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل واصطفى من بني إسماعيل بني كنانة, واصطفى من بني كنانة قريشا, واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم"3 وكان علية الصلاة والسلام يقول: "أنا دعوة أبي إبراهيم" 4 فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ملء نفسه وجسده الطهر, إذ اختاره ربه من أطهر نطفة في الأصلاب. روي عن عائشة رضى الله عنها قوله صلى الله عليه وسلم: "ولدت من نكاح غير سفاح" 5 وثبت في الصحيح قوله: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر" 6 ولا عجب فهو مصطفى الأصفياء: طاهر مطهر, وسيد الأنبياء.

_ 1 آل عمران: 24. 2 ابن كثير في البداية والنهاية: ج2 ص256 عن صحيح البخاري. 3 البداية والنهاية ج2 ص256 لابن كثير: عن صحيح مسلم. 4 السيرة لابن هشام م1 ص166 رواه ابن إسحاق عن ثور بن يزيد. وقال فيه ابن كثير في المرجع السابق: هو إسناد جيد. 5 البداية والنهاية ج2 ص256 رواه الزهري عن عروة عن عائشة. رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى عن ابن عباس: "ولدت من لدن آدم من نكاح غير سفاح". 6 المصدر نفسه ص257.

إعداد الله لعبده للرسالة

إعداد الله لعبده للرسالة مدخل ... 2- إعداد الله لعبدة للرسالة: إذا كان لبعث النبي عند الله ميعاد معلوم فإن أحواله وأوضاعه في مختلف مراحل حياته جارية على

تقدير وتدبير من الله العزيز الحكيم؛ يختار له الوسط الذي يكتنفه, والمؤثرات التي تحيط به, ويفاعل بين نفسه وبين ما وضعه فيه, فيخلق فيها ردود الفعل المناسبة للمستقبل القريب. إن الله هو الذي يصنع الأنبياء, وينشئهم النشأة المواتية للرسالة, إنه رب العالمين الذي تقبل مريم: {بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} 1 وهو الذي صنع موسى على عينه, ووضعه في قصر فرعون آية كبرى من آيات التحدي لطغيان سادر, غير مرعو, لينشأ في حجور الجبابرة, ويخرج من عندهم أكبر ناقم, وأشد ساخط على الظلم وتعبيد الشعوب. ومن ثم لم يكن شئ في حياة محمد صلى الله عليه وسلم قبل المبعث إلا بتدبير الله الخالص وتهيئته وقد يبدو أن كلامنا هذا تحصيل حاصل فكل ما في الوجود إنما هو بتقديره عز وجل. ولكن قلنا ما قلناه لنوجه الأنظار إلى أهميه الظروف والحوادث التي عاشها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لنكتنه مغزاها العميق ,ولنطيل الفكرة في هذه التنشئة التي انتهت إلى تفجير الحكمة الخالدة في فوائده تلك الحكمة التي رفعها الله نبراسا هاديا مشعا للبشرية إلى يوم الدين. إن حياة تتفتح عن الحكمة الكلية الأخيرة للإنسانية لجديرة بالتفكر والتدبر والاعتبار وبأن تتأمل في شكلها ومضمونها والأحداث التي صنعت مادتها.

_ 1 آل عمران: 37.

الاعداد النفسي

أ- الإعداد النفسي: كان أول وحي نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار حراء شديد الوطأة. لقد عانى حادثة غير عادية ولا مألوفة , خفية العلة, ولا يفسر حدوثها بسب من الأسباب الظاهرة (كما ينشأ الغيث في السحاب , مثلا) فإن مصدرها ليس عالم الشهادة بل عالم الغيب. هنالك لا يسع الإنسان إلا أن يتلقى بالقبول المطلق والتصديق الكلى , لأن أحداثه فوق منطق الأرض المحدود بالسبب والنتيجة. لذلك لا يقدر على احتمال الوحي إلا الأنبياء الذين أعدهم الله للثبات عند رؤية الملاك, وتصديق ما جاءهم من خبر السماء. ولم يصادف الوحي من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسا لم تهيأ لاستقباله , بل جاءه بعد إعداد طويل من رب العالمين, عرف فيه حوادث غيبية المنشأ, لم يدر لها علة ظاهرة. فكانت مقدمة صالحة لاستقبال الوحي, رفقا من الله برسوله, ورحمة بنفسه البشرية. وكأن بعض هذه الحوادث كانت تقول له قبل مبعثه: لست وحدك,

ولا لنفسك وإنما أنت للذي يعدك ويرعاك لتكون امرأ غير الآخرين, وإن في غدك لأمرا فترقبه, فتبعث فيه تساؤلا وتطلعا وترقبا, وربما كان من شأنها أن حببت إليه العزلة والتحنث في حراء. واستقبل أولاها وهو طفل مسترضع في بني سعد يوم جاءه الملكان فشقا صدره واستخرجا قلبه وغسلاه بالثلج والبرد. حادثة فوق إمكان العقل الإنساني ولكنها على الله هينة لذلك لم يكد أبواه في الرضاع يستمعان خبرها من فم الطفل البريء الصادق حتى طارا به إلى أمه في مكة فزعا أن يكون بدأ به عرض مرضي إذ لم يستطيعا أن يصدقا طفلا في أمر لم يألفاه. ومن أدراهما أن من بين أيديهما نبي منتظر؟ ولكن الطفل لم ينس الحادثة, ومرت في شعوره خفيفة الوقع وهو صغير, فلما شب على الأيام تألقت في ذاكرته وإحساسه, ولا شك أنها شغلت تفكيره حتى مبعثه, فلما جاءه الملك ليلة الإسراء, وشق صدره للمرة الثانية وغسل قلبه بماء زمزم استعدادا للسفر به إلى الملأ الأعلى والمثول بين يدي الله تيقن أن حادثة الطفولة كانت إحدى براهين النبوة ليتعرفها في نفسه, وليثبت يوم يزعزع كيانا في غار حراء والملك يفته ويقول {اقْرَأْ} 1 ويوم يقول لخديجة رضي الله عنها: "مالي أي شيء عرض لي؟ لقد خشيت على نفسي"2 في هذه الساعات من الزعزعة الحيرة كان تذكر هذه الحادثة وما أشبهها أنفع شئ في الثبات واليقين, وتستبين حقائق الحاضر بدلائل من الماضي. وقد عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم مغزاها الكامل إذ سئل خبرنا عن نفسك يا رسول الله3 فجعلها عليه الصلاة والسلام إحدى أربع علامات للنبوة عرفها في نفسه. ومن يدري؟ ربما ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم طوال حياته يستشعر العذوبة والراحة النفسية التي أحس بها عندما استخرج الملكان من قلبه علقة سوداء وغسلاه بالثلج والبرد: إننا لنسمعه يقول في دعاء له "اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج, والماء, والبرد"4

_ 1 سورة العلق: 1. 2 البداية والنهاية لابن كثير: ج3 ص7. 3 ابن هشام: م1 ص166. 4 الأذكار للنووي: ص43. ومن هذا القبيل ما كان يومئ بالرسالة المقبلة بصريح اللفظ. قال عليه الصلاة ولسلام: "إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي بمكة قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن" رواه مسلم وصدق رسول الله فإن تسليم الحجر عليه قبل الوحي كان لتنبيه فكره وإثارة شعوره وتوجيهه إلى استشراف ما هو غيبي المصدر.

وثمة حوادث تقصد مع تنبيه النفس إلى حينانتها وحياطتها من الوسط الجاهلي. وللبيئة أثر في النفس لا يدفع, وقد تولى حفظ نفس نبيه صلى الله عليه وسلم من أقذارها وإخطارها, حتى يتم له الطهر ويسلم له النظر السليم, والإحساس اليقظ وليفرق بين القيم الحقيقة التي هي كمال الإنسان وبين القيم التي هي النقص والخسران ولقد شاء الله - ومشيئته حق ونور - أن تتمايز هذه النفس عن محيطها لتبصر مساوئه وتنقده نقدا دقيقا عادلا حرا تنقده وهي تنظر فيه بنور الله نقدا لا يعرف الادهان ولا أنصاف الحلول فإن الحق لا يتجزأ أو لا يجزئ بعضه عن بعض؛ إننا لنجد الله قد حمى نبيه أن ينكشف إزاره عن العورة إذا تعرى الصبيان أو الرجال وهم يحملون الأحجار للعب أو لبناء الكعبة1 وفي هذا صيانة لنفسه النبوية من أن تتأذى بما يبعث في النفس من أحاسيس غير كريمة. وحماه من حضور مجالس اللهو والغناء وكان حييا. وكانت الكعبة تزخر بالأصنام وقريش تذبح لها في الأعياد, فحال الله بين نبيه وبينها فلم يمس حياته صنما ولم يحظر عيدا لها. لقد فارق قومه في باطلهم مفارقة كبيرة عرفتها عشيرته فيه قبل النبوة, ومن أعجبها وقوفه بعرفة مع الناس, على حين كانت قريش مما يقفون في المزدلفة. ذلك أن الله أنعم عليه بالحس السليم الذي يميز بين الحق والباطل فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد في قومه فضلا نوَّه به ومِنْ هذا ثناؤه على حلف الفضول الذي تعاقدت قريش فيه على رد الحقوق للمضطهدين وعلى حماية الضعفاء منها ومن غيرها, فقال فيه: "لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم ولو أدعى به في الإسلام لأجبت" 2 ولعل هذه العدالة في الحكم ظاهرة الدلالة في قوله: "بعثت لأتمم حسن الأخلاق" 3. هذه الحوادث وإضرابها من إرهاصات النبوة لم يمنحها المحدثون من كتاب السيرة ما تستحق من عناية وبحث فتجاوزا عن كثير منها, ولم يتلبثوا عندها إلا يسيرا. ولو أمعنوا النظر وتتبعوا أحوال المصطفين والأنبياء لو جدوا فيها سنة من سنن الله في أعداد أنبيائه. فمن ذلك رؤيا آمنة بنت وهب حين حملت برسول الله صلى الله عليه وسلم إنه:

_ 1 تقرأ البداية والنهاية ج2 ص287. 2 السيرة لابن هشام: م1 ص134. 3 رواه مالك في الموطأ في ص 904 تحقيق فؤاد عبد الباقي وهو حديث مدني صحيح متصل في وجوه صحاح.

"خرج منها نور أضاء لها قصور الشام"1. وحدثت آمنة وحيدها وأثيرها محمدا صلى الله عليه وسلم برؤياها قريرة متفائلة بمستقبل ولدها. فلما أوحي إليه أدرك أنها إحدى أمارات النبوة فحدث بها2. فهل نجد ما يشبه هذه البشارة لدى أمهات الأنبياء والرسل؟ هل كانت تصدر إليهن الإشارات الإلهية بمستقبل الصغير المنتظر؟ نعم, كانت هذه الإشارات إلى بعضهن أبلغ في الدلالة وأجلى في الصراحة, بل كانت إعلاما وإخبار مكشوفا. فأخبر الله أم موسى عليه السلام وموسى في أيامه الأولى {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} 3 وأعلم الصديقة مريم بمستقبل عيسى قبل أن تلقى إليها الكلمة. . {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} 4 ولا شك أن وضع الصديقة الفريد كان أحوج إلى وضوح الإعلام من آمنة ومن أم موسى, إذ كانت تحتاج إلى أن تصدق نفسها في أمرها حتى تقوى على الصمود في وجه تكهنات الناس وتخرصاتهم. ومن ثم حمل عيسى عليه السلام معه آيه خلقه ونبوته عندما نادى أمه من تحتها حين وضعته5 وفي مخاطبته المجتمع المستنكر المتهم وهو في المهد6. كذلك بشرت الملائكة نبي الله زكريا بحيي عليه السلام7, ومن قبل جاءت إبراهيم البشرى بإسحاق ويعقوب8هذه الدلائل هنا صريحة ولإعلام أم موسى بها, ومريم وزكريا وإبراهيم وزوجه إعلاما مكشوفا, أسباب لا تخفى, ولم يكن سبب منها لآمنة. فكان رؤياها النور الذي أضاء لها القصور من بصرى الشام رمزا للمستقبل. ولو أن الأمر يتطلب ما فوق الرمز لجاءها من الله بيان. ولكنها أعطيت ما يكفيها لتتنبه لشأن وليدها. ولم يعترض حياتها وحياة وليدها من الظروف النادرة أو الخطرة أو المغايرة للمألوف - كظرف إبراهيم

_ 1 السيرة لابن هشام: م1 ص166. 2 المصدر نفسه. 3 القصص: 7. 4 آل عمران: 45. 5 مريم 23: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} . 6 مريم 31: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} . 7 آل عمران 39: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ} . 8 هود 71: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} .

وزكريا - ما يقتضي الوحي. فكان الرمز هو القدر المناسب الكافي ليبعث في نفس آمنة التوقع والتفاؤل.

التمهيد التاريخي للرسول

ب- التمهيد التاريخي للرسول: وتلك التوطئات غرضها إعداد الرسول لقبول الرسالة ليطمئن بها قلبه, وليعلم أنه قد جاءه الحق من ربه. وهي لا تعدو في أثرها نفس الرسول ولا تستهدف غيره ولكن محمدا صلى الله عليه وسلم قد سبق أمر الله أن تختم به الرسالات, وأن يقضي على آثار المرسلين أجمعين, وأن يجعل دعوته عامة لكل عاقل على ظهر الأرض. وهو أمر لم يكتمه الله عن البشر. وإنما هيأ له الأذهان, ووجه إليه الأنظار منذ زمن بعيد, إعلاء لشأنه وإظهارا لأهمية رسالته, وليكون الناس معها على وعد غير مكذوب ولتشرئب نفوسهم إلى الكمال المرتقب وليتشرفوا إلى الانتساب إلى الرسالة الخالدة, وليعلموا أن كمال النبوة وتمام الحق فوق ما حضرهم أو عرفوا من أمر الأنبياء والرسل وليحيي الأمل نفوسا كانت تألم وتتأذى من جهل منتشر وباطل مستمر. وإرسال الأنبياء عموما أمر لم يكتمه الله عن خلقه, فأعلنه لهم منذ أبيهم آدم وأخبرهم أنه قارب الإنقاذ والنجاة. قال تعالى لما اقترف آدم الخطيئة وهبط من الجنة: {قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} 1 ثم أصدر الله لرسله إعلاما غيبيا بمبعث نبي يتمم به الله الرسالات فكان هذا إرهاصا وتمهيدا تاريخيا لمحمد صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} 2 فصار الناس بذلك على موعد مع الزمان بمبعث نبي نوه الله بذكره, وأخذ العهد له عليهم منذ الزمن السحيق. وفي الآية دلالة بينة على علو مكانة النبي الموعود به, والحقبة الزمنية المبعوث فيها. ومن ثم ألح بدعوته منذ أجيال وأجيال. وبهذا يجعل الله ميعاد مبعثه منارة تاريخية, يجمل أن نتخذه حدا فاصلا في التاريخ البشري؛ ما كان منه قبل محمد وما يكون منه بعد محمد صلى الله عليه وسلم. وكان احتفاء الله به عظيما؛ لأنه في تقديره - عز وجل - وتوقيته له, حدث ثقيل في حياة البشر ومستقبلهم. وكيف لا يكون شيئا ثقيلا وحاضرهم في الدنيا, ومستقبلهم الأخير يوم القيامة مرهونان بما حققا من اقتراب منه, وتصديق

_ 1 البقرة: 28. 2 آل عمران 81.

به, أو ابتعاد عنه وتكذيب. وبهذا يتجلى المعنى التاريخي الإنساني العظيم في الآية التي تلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس, على جبل الرحمة, في حجة الوداع: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} 1 كان يوما مشهودا فاضلا تمت فيه الكلمة الإلهية والنعمة الرحمانية على بني آدم. وكان الله جعل من هذا اليوم قبلة زمانية اتجهت إليها أفئدة الأنبياء والمؤمنين بهم, إقرارا منهم على أنفسهم بأن كلا منهم مرحلة في تاريخ النبوات, وحلقة في سلسلة المرسلين. وشاء الله فأتم السلسلة بمحمد صلى الله عليه وسلم فجاءت رسالته لا يجهلها المؤمنون الصادقون من أهل الكتاب, يعرفونها {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} , وهي تحمل الإيمان بالرسل السابقين, والتقدير لجهودهم في تبليغ الكلمة الربانية إلى الناس, والثناء على صدقهم, وتضحياتهم في سبيل إنقاذ الإنسان من براثين الشيطان, وباركت جهادهم, وحيث إخلاصهم: {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ, وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 2. ويبدو أن الأنبياء الذين بعثوا في الزمن المبكر, لم يتجاوز علمهم بالنبي صلى الله عليه وسلم سوى الإخبار بمبعثه, وأخذ العهد عليهم, أو دعوة حارة تجري على لسان إبراهيم عليه السلام فتفتح لها أبواب السماء, وتلتقي بما قدر الله منذ الأزل: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 3 فلما تأخر الزمان وأنزلت التوراة والإنجيل, توضحت الإشارات وذكرت العلامات, وصار الذين عندهم علم الكتاب على بينة من مجيء رسول {اسْمُهُ أَحْمَدُ} 4 لا يخطئونه. إن رأوه أدركوا يومه. فقد وضح الله لهم كثيرا من علاماته؛ مكان بعثه, مهاجرة, وصفاته. ثم أتى على التوراة والإنجيل ما أتى من التبديل والتغير. وأفسدت الوثنية الدين الذي جاء به عيسى, ودخل أتباعه من بعده في الشرك إذ قالوا: إن الله ثالث ثلاثة. واختفى دين التوحيد فلم يستمسك به إلا رهبان أو أساقفة قلة, منقطعون في الصوامع, أو الكنائس يتجافون عن الناس في شركهم, وفساد عقيدتهم, ولا يجرؤون على النعي عليهم خوفا من بطشهم وتنكيل الحكام بهم. وأغلب الظن أن هؤلاء النفر القليل احتفظوا بصفاء دين عيسى عليه السلام, بما خبؤوا في صوامعهم من صحف الإنجيل الذي

_ 1 المائدة: 3. 2 الصافات: 181. 3 البقرة: 129. 4 الصف: 6.

كان أقرب شيء إلى الأصل الذي أنزل على نبي الله عيسى عليه السلام. قال ابن هشام لما ذكر الراهب بحيرى: "فلما نزل الركب المصري من أرض الشام, وبها راهب يقال له: بحيرى في صومعة له وكان إليه علم أهل النصرانية, ولم يزل في تلك الصومعة منذ قط راهب, إليه يصير علمهم عن كتاب فيها, فيما يزعمون يتوارثونه كابرا عن كابر"1. ويلتقي هذا الحديث بحديث سليمان الفارسي رضي الله عنه - الذي تقلب في كنائس عدد من الأساقفة الصالحين قبل أن يصير إلى أرض العرب قبيل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم - إذ قال له أسقف عمورية وهو على فراش الموت, وكان آخر أسقف رافقه: "والله ما أعمله أصبح اليوم أحد على مثل ما كان عليه الناس, آمرك به أن تأتيه, ولكنه قد أظل زمان نبي, وهو مبعوث بدين إبراهيم عليه السلام, يخرج بأرض العرب, مهاجره إلى أرض بين حرتين فيهما نخل به علامات لا تخفى؛ يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة وبين كتفيه خاتم النبوة فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل". فكان هؤلاء ينتظرون الوعد الحق؛ ظهور النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل2. وكانت القراءة المجردة عن الهوى في التوراة والإنجيل كافية لأن تحمل أهل الكتاب على إيمان: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} 3. لقد نزلت التوراة والإنجيل يحملان الشهادة التاريخية الواضحة الثابتة على سر من أسرار الغيب العظمى لم يكتمه الله, ولم يجمله, عن اليهود والنصارى أعذارا لهم, وليكونوا السابقين إليه. ومن أولى بنصر كلمه الله ممن يعرفها؟ ولكنهم كانوا قوما فرقوا دينهم شيعا وأحزابا وأتت عليهم عصور من الحسد والبغضاء والعصبية فلم يفلحوا في التجرد من ذلك, والإخلاص للحق المنزل, فمنَّ الله بالدين على قوم أميين سلمت فطرهم من رسوبات الخلاف الديني ومن العقد النفسية, والصيغ المنطقية الموات, فلم يلبثوا أن صاروا به خير الأمم- والحمد لله والمنة -.

_ 1 السيرة لابن هشام: ص181. 2 المصدر نفسه: ص218. 3 البقرة: 121.

التهيئة الاجتماعية

ج- التهيئة الاجتماعية: هذه توطئات بالنبوة, منها نفسية ذاتية, ومنها تاريخية لتعد النفس النبوة والفكر الإنساني الديني فلا يبدو الوحي غريبا للموحى إليه. ولا إلى الذين عرفوا الكتب المقدسة من

قبل, فهي بذلك تصل النبي صلى الله عليه وسلم بالأفق العلوي وتجعله على شفا الوحي والرسالة, وتضعه حيث وضعه الله في السلم الزماني من تاريخ النبوات. غير أن الرسالة لابد لها من ظرف اجتماعي تملؤه وتتحرك في أنحائه, وتنتشر فيه. ومن ثم كانت التوطئة الاجتماعية, وإعداد من حول النبي للتصديق بنبوته أمرا يتسق والتوطئة النفسية والتاريخية. ولو نظرنا باقي المجتمع القرشي, قبل المبعث لوجدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم, ملحوظ المكانة فيه, ظاهر الشخصية, مرضي السيرة, مرجوا للخير, يدل علي ذلك لقب (الأمين) الذي أضفوه عليه. وهو لقب - لو سبرنا بعيد مدلولاته - ضخم المحتوي, فالأمانة سجية تجمع لصاحبها سلامة السريرة والسلوك, وصدق الطوية والفعل, فلا تناقض بين مظهره ومخبره, بل يصدق فعله قوله, ويصدق قوله وجدانه وخبيئة نفسه. فالأمانة أول معني لها الاطمئنان والثقة؛ اطمئنان الآخرين إلى شخص الأمين, وثقتهم بما يصدر عنه. وهي سجية لا يشهد بها لامرئ إلا بعد التجربة والاختبار المتواتر1 المستمر. ويمكن أن يقال بحق: إن الأمين من أمن الناس لسانه ويده. وهكذا كانت قريش قبل المبعث لا تخشى من رسول الله صلى الله عليه وسلم معرة, ولا يتخوفون منه كذبا, ولا يتوقعون منه إلا استقامة, وخطة حميدة, ولا يعرفون فيه إلا نبلا وشرفا ووفاء. ولا نكاد نجد لقبا أجمع لخصال المروءة والرجولة والعدالة من لقب الأمين. وهي خلال ترشح صاحبها لسيادة الرئاسة والزعامة. وهو لقب ينطوي خصال نابعة من الذات, ومن جوهر النفس ولا ينم عن صفة جسدية - كلقب أبي لهب مثلا - أو على خصلة وحيدة غالبة, منفصلة عن مجموع الخصال التي تؤلف التكامل في الخلق والنفس, - كلقب الفيض والفياض مثلا للكريم المترف - ولا أظن أنه لقِّب في قريش غير محمد بهذا اللقب. ولم يكن محمد صلى الله عليه وسلم في قومه زعيما, ولا طالب زعامة, ولم تعرف له - قبل النبوة - فئة تدعمه ولا شاعر يمدحه. فيكون لقبه منهم وإنما هو لقب فاز به بإجماع قريش كلها رجل كان أبعد الناس عن حياة ذات قصد نفعي, أو إشادة

_ 1 لما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا وقال لقريش: "أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني؟ " قالوا: "نعم". من حديث رواه ابن كثير في البداية والنهاية ج3 ص38 عن الإمام أحمد.

بالذات, وأزهد الناس في تقدم الصفوف, بلد الرئاسة والشرف. وبهذا يكون مجتمع مكة قد شهد على نفسه, وشهد عليه التاريخ بأن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي كان وحيد قومه في خصال الخير, وأسباب الفضل والعدل, ومؤهلات الزعامة. ولو تحرينا الإنصاف قلنا: إن محمدا صلى الله عليه وسلم كان ولم يزل وحيد الناس, قاطبة, فيها. ونحن الذين نؤمن بالله ربا وبمحمد نبيا لا نطلب الدليل على صدق ذلك. ولكن الله أقام الأدلة - على ما ذكرناه - في أحداث اجتماعية هامة, لمن شاء أن يتفكر ويتدبر لتظهر هذه المزايا على حقيقتها في مجال التطبيق والعمل في أصدق مظهر في الواقع. وخير حادثة اجتماعية يحيط إطارها بهذه المزايا حادثة الاحتكام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في رفع الركن إلى مكانه من الكعبة, عند تجديد بناءها قبل المبعث بخمس سنوات. لما بنى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بيت الله الحرام، وأذن إبراهيم في الناس بالحج, وجاءه المؤمنون من كل فج عميق, وعبرت على ذلك قرون, احتلت الكعبة مكانها الأقدس في قلوب العرب, وعلت مكانة الذين حولها يتعهدون الحجابة, والسقاية, والرفادة, والعمارة والشعائر. وتمتعوا بنفوذ وسلطان وأمن, وأصابوا سؤددا وغنى. فتنافس المتنافسون من جرهم ثم خزا عة على مكة وبيتها الحرام, واستضعفوا أبناء إسماعيل, وغلبوهم على أمر البيت. فاعتزل أبناء إسماعيل السلطة والحكم, وصاروا قطعا حلولا وصرما في قومهم بني كنانة1 في السهول والبوادي والجبال, فيما حول مكة, يكاثرون, ويظهرون على مناوئيهم حتى رث أمر خزاعة, فجمع أحد رجالهم الأشداء, قصي بن كلاب, القبائل من فهر, وهي التي تؤلف بمجموعها قريشا, واستعان بقوة من اليمن2, وضرب خزاعة ضربة قاصمة خلصت مكة بعدها له، وانتهي إليه الحكم فيها بغير منازع. وكان قصي بن كلاب أول جد قرشي، لرسول الله صلى الله عليه وسلم حكم مكة فاجتمع له ما للملوك من أسباب الملك، ومن المهابة والسلطان، فدانت له قريش كلها بالسمع والطاعة وجمع في يده السلطة السياسية والدينية فأتاح ذلك لأبنائه3 فرصاً للنبوغ

_ 1 ابن هشام: م1 ص117. 2 قضاعة وكان عليها رزاح بن ربيعة أخو قصي لأمه. انظر ابن هشام م1 ص118. 3 انظر ابن هشام: م1 ص130- 137.

والظهور والشرف والثراء. ولم يكن له في قريش كلها منافس، وما كان أبناؤه يخشون من بعده مزاحماً، وبدأ البيت الحاكم في مكة في أحسن أحواله منعة جانب، واتحاد رأي ومذهب. ولكن قصياً قبل وفاته أحدث فيه أول زعزعة، إذ جعل الأمر من بعده لابنه عبد الدار، وهو أقل أولاده حظاً من شرف وسؤدد. وكانت الأنظار تتجه إلى عبد مناف لما أصاب من شرف في حياة أبيه، ولكن الأخوة أذعنوا لأمر الأب المهيب، والأمر الحازم، فقد كان قصي لا يخالف ولا يرد عليه بشيء صنعه. واستطاعت هيبة قصي، ومراعاة أبنائه لحقه، واحترامهم لكلمته فيهم ولذكراه أن تحفظ الأمر بينهم من بعده كما أراده أبوهم من غير شقاق أو خصام، وحكم عبد الدار واكتنفته أخوته يساعدونه يعملون لبيتهم ولأنفسهم، لا خلاف ولا نزاع، ولكن أبناءهم من بعدهم لم يكونوا مثلهم في ضبط النفس، والحفاظ على وحدة الحكم فحمي وطيس المنافسة بين أبناء العمومة: بين بني عبد مناف وبين بني عبد الدار. وكان لكل فريق أنصار، ومؤيدين متكافئون وأتى على قريش يوم إذا البيت الحاكم فيه بيتان، وإذا القبيلة قبيلتان، قد تعاقد كل فريق على الموت والفناء فلم يبق إلا السيف والدم، وكانت هذه اللحظة شديدة الحرج، بالغة الخطورة في حياة قريش، ومستقبلها كله، فكان الضياع والخسران والغدر الماحق في انتظارهم جميعاً. وإذا تكافأت القوى المتصارعة وخاف الخطر الناس جميعاً أتيح للعقل دور، وللحكمة مكان. وهكذا كان إذ تداعى الفريقان إلى الصلح، وانتهى الاتفاق إلى إشراك بني عبد مناف في حكم مكة (1) . ثم لم يلبث بنو عبد مناف أن عزوا بني عبد الدار بمكارمهم ومآثرهم، فأخملوا ذكرهم وانصرفت السيادة لبني عبد مناف، وارتفع المجد والشرف بهم. وتعلقت بهم قلوب قريش من غير إكراه وظفروا بتقدير واحترام غيرهم من الأمم (2) بما أوتوا من كياسة وخطة حكيمة نفعوا بها بلدهم وقومهم. والحق أن البيت المنافي ظهر فيه شخصيات لم يظهر لها نظائر في بيوتات قصي الأخرى. كان هاشم بن عبد مناف من أقواها، وعبد المطلب بن هاشم من أعلاها قبل الإسلام. وقد أقرت قريش كلها بالسيادة لهما. ولكن النزاع الأول خلف وراءه مضاعفات

_ 1- انظر ابن هشام م1 ص 132 2- عقدوا اتفاقيات اقتصادية مع الشام والروم والعراق واليمن. وماتوا - عبد شمس - بعيدين عن مكة في تجاراتهم ومهامهم

نشأت منها أعراض خطيرة في قريش: لا شك أن قريشاً عند النزاع لم تختلف فيما بينها على زعامة آل قصي إذ كانت تسلم بزعامة هذا البيت تسليما، وما كان فيها أحد على مستوى المنافسة، وإنما كان الخلاف على أبناء قصي يكون زعيماً. ولكن الخلاف بعث في قريش حركة سياسية: دبت خفية، ثم حبت خفيفة. ثم سمعت عاملة نشيطة: لما انقسمت قريش حول أبناء قصي فريقين يختصمان فيهم، كان هذا - ولأول مرة - إشراكاً فعلياً لها في السياسة الداخلية للحكم، وإسهاماً عمليا في اختيار الزعيم، أو الاتفاق عليه. وقد وقف كل بطن منها في السلاح في وجه الآخر يوم ذاك وحمل هذا معه روح الانشقاق والتنافس.. وإذا كان الصلح قد رد السيوف في أغمادها، فإنه لم يرد إلى القلوب صفاءها ورضاها، وأصبح من العسير أن يرضى بطن من البطون، بحظ من الشرف والمكانة أقل من حظ خصومه، فنشطت حركة من التنافس الداخلي بين بطون قريش، ظلت في غلوائها حتى فتح الله على محمد صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة، وقد دفع أحقاد قصي وهاشم وإخوته هذا التنافس الاجتماعي قدماً في طرق مأمونة، ففتحوا لقومهم مجالات السعي والكسب الوافر، وعقدوا لهم الاتفاقيات التجارية مع الأمم المجاورة ومهدوا لهم السبل، ونظموا لهم رحلة الشتاء والصيف، فانطلقت قريش من قبيلة تكتسب من التبادل المحلي، إلى بيوتات تجارية يضربون في الآفاق وتنصب في أوعيتهم الأموال. وتفتحت مواهبهم، واتسعت مداركهم وعرفوا الخطأ من المجتمعات. ورفع هذا من قدرهم عند العرب جميعاً، وصرفهم هذا السعي الخارجي عن التنازع والصداع في الداخل. فلم تلق قريش من تسويد أبناء قريش إلا خيراً ولم تنازعهم على ما في أيديهم من أمر البيت، بل أولتهم أمورها، ورضيت عن سياستها فيها، وأجلت قريش بعد قصي رجلين من أحفاده هاشماً، وابنه عبد المطلب، أقرت لهما بالسيادة وأعظمت مكانهما. وأتت على قريش في تطورها الاجتماعي عشرات السنين، تبدلت فيها المنازل الاجتماعية تبدلاً ملحوظاً - كما هو الشأن في التطور الاجتماعي لكل أمة - فاغتنى كثير كانوا فقراء، وافتقر قوم كان أهلوهم ذوي مال. ونبه من كان خاملاً، وتقدم إلى القمة كثيرون لم يكونوا شيئاً مذكوراً. وصارت أكثر بطون قريش أفراس رهان، وقد نزلوا كلهم إلى الحلبة بعد موت عبد المطلب - آخر سيد في قصي قبل الإسلام - ولم يستطع ولده أبو طالب من بعده أن يحتل مكان أبيه (فكانت أمور البيت بينه وبين أخيه العباس) وإن كانت قريش تجل مكانه، وترعى جانبه، وتعلي قدره. فكان أبو طالب سيد بني هاشم وبني عبد مناف. ولم

تكن سيادته في قريش كلها. بشهد بذلك أن أبا جهل استطاع أن يؤلب عليه قريشاً، ففرضت عليه الحصار الاقتصادي، والعزلة الاجتماعية في الشعب، حين استشرى العداء بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين. لقد ظهرت أزمة سياسية حادة بعد موت عبد المطلب نتيجة الحركة السياسية الاجتماعية السابقة، هي أزمة الزعامة: لمن السيادة في مكة بعد عبد المطلب؟ كان كثير من البطون على قدر متقارب من الوجاهة الاجتماعية، مما جعل الأزمة عسيراً حلها. وهذه الأزمة وإن لم تعلن عن نفسها في شعر أو ندوات أو تكتلات سياسية، فقد كانت كامنة في الأنفس على أهبة الظهور، عند أية بادرة، فيها للتنافس مجال. وهذا ما حدث حقاً عندما اختصمت قريش فيمن يرفع الركن إلى موضعه، وهم يبنون الكعبة؟ إن من يرفع الركن يوم ذاك هو السيد المطاع. ربما ما كانوا ليختلفوا على عبد المطلب لو كان حياً ولكن قريشاً فقدته ولم تتفق على غيره، وكانت أزمة حادة قسمت مرة أخرى قريشاً إلى فريقين، وكادوا يحتكمون إلى السيوف، لقد فقدوا السيد الزعيم، وودوا لو يظفرون به حتى لا تراق دماءهم على جدران الكعبة المقدسة المشرفة، وانتظروا، وقلبوا بينهم أمرهم، وقالوا: ليقض بيننا أول من يطلع علينا من باب الصفا. وطلع عليهم الزعيم؛ طلع محمد بن عبد الله. وكان صوت واحد مجلجل، كله فرح ورضا وقبول: "هذا الأمين رضينا، هذا محمد"1. لقد كان محمد بن عبد الله - إذ كان رجل مواقف - كان الزعيم المرتجى؟ فما سبب هذا الرضا الجماعي؟ لن تتعب أنفسنا بالتنويه بنسبة العريق. وهو وإن كان من أسباب الرضا. لكنه لم يكن السبب الأساسي فلو كان ذلك، فإن أبا طالب كان بين ظهرانيهم، وهو أسن منه، وسيد عشيرته يوم ذاك، ولكن السبب في شخصه لا في نسبه - مع إحترامنا البالغ لنسبه الزكي صلى الله عليه وسلم. لقد قالوا: "هذا الأمين" فأشاروا إليه باللقب، ولم يشيروا إليه بالنسب. كانت الأمانة سر الرضا، وهي صفة أوضحنا مدلولها ومضمونها، وتفرد رسول الله بها. وكانت قريش تبتغي حكماً، مجرداً من الهوى، قادراً على أن يلقي عواطفه العصبية جانباً، وأن يعلوا على خصومتهم، فيقضي بينهم ولا يدخل فيها. ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا

_ 1 ابن هشام م1 ص197.

قرشياً هاشمياً من البيت الذي يلي شؤون الكعبة، وما هو بالغريب عن قضايا قومه، وما يحزبهم، ومع ذلك رأت فيه مختلف البطون من قريش ضالتها المنشودة، ومفتاح الفرج في أزمتها العصبية، فهذا الأمين في اعتبارها إذن فوق العصبية المحلية؛ رجل يستطيع كل قرشي أن يجد عنده الإنصاف والعدل والنزاهة. لا يخشى منه تحيز، ولا ميل عن الحق إلى القريب، أو صديق، أو نصير. حقاً قد احتكمت قريش إلى رجل منها، ولكنه في هذا التقدير فوقها كلها؛ رجل لا يعبد ما تعبد، وليس من دينها في شيء هو عندها مثال العدالة والاستقامة والصدق. وعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في نفوس القوم، وما هم فيه من خلاف، وحضره الحل المرضي توفيقاً من الله وعوناً. أمر بثوب، فبسط ووضع الركن فيه، وجعل ممثلي البطون على أطرافه، وأمرهم أن يرفع كل من ناحية، حتى إذا حاذوا مكانه، رفعه بيديه الطاهرتين، ووضعه في مكانه وبنا فوقه. لقد كان رافع الركن إلى موضعه ابن إبراهيم عليه السلام، الذي دعا ربه مخلصاً {ربنا وأبعث فيهم رسولاً منهم} 1 فوضعه محمد صلى الله عليه وسلم في المكان الذي وضعه فيه أبوه من قبل أول مرة عندما رفع البيت. ورضيت قريش أن يفوز كل منها من الشرف بنصيب، وبردت بذلك أكبادها ولكنها رضيت بأمر أعلى وأبعد مغزى؛ رضيت أن يفوز بالشرف كله محمد بن عبد الله بن عبد المطلب إذ كان هو الرافع للركن حقيقة. لقد كان في هذه الحادثة معتبر، لو استطاع خصوم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يردعوا نفوسهم بعد المبعث، وأن يحكموا المنطق والعقل، كما فعلوا عند تحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنهم أطلقوا لغرورهم ولهواهم العنان، وركبوا الشر، فانتهى من لم يسلم منهم إلى سوء المصير. إن الدرس البليغ الذي كان بإمكان قريش أن تتعلمه من نجاح رسول الله، صلى الله عليه وسلم في حل أزماتها في الجاهلية هو أن هذه القبيلة ذات الحيوية والإمكانات لا يمكن أن يستقيم أمرها وتتحد كلمتها، وتبلغ الفلاح، حتى تتخلى عن العصبية الضيقة وتذعن للحق وتنقاد للناصح الأمين، ولقد دعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد سنوات ثمان من بناء الكعبة إلى الحق، فاستنفرت عنه، فذاقت ما ذاقت من الويل والخسارة، ولم

_ 1 البقرة: 129.

يصلح شأنها ولم تبلغ عزها الحق إلا عندما أسلمت له يوم الفتح وانقادت والتفت حوله كما التفت حوله يوم رفع الركن.

القدوة

القدوة مدخل ... 4- القدوة: ولكن لم خص الله أنبياءه بتلك العناية الكبرى والحفاوة العظمى، وصنعهم كما أراد، كما قال لموسى عليه السلام: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} 1. لأي دور عظيم أعدهم الله إذا صاغهم الصياغة النبوية الفريدة؟ لو علمنا جلال المهمة الملقاة إليهم لعرفنا بعض السر. لقد ألقى إليهم واجب ثقيل ليس مثله في المهمات العظام شيء أبداً، إنه الواجب الذي يملي عليهم أن يبدؤوا عصراً جديداً ملءه النور، ومدنية محدثة شعارها العلم والتقدم وأن يكونوا أمة هادفة إلى إنقاذ الإنسان وإسعاده بالبلوغ به مرضاة ربه. إن الله يختار للنهوض بهذه المهمة التي تنوء بأمم الأرض كلها رجلاً فرداً. فكيف أدى النبي ما عهد به إليه، وأنفذه على وجهه، فتوفاه الله وقد بلغ الرسالة وأدى الأمانة فجعله في الخالدين؟ إن الإلمام بذلك يعين سبلاً وحدها تسلك، وطرقاً وحدها تتبع في إحياء حضارة الإنسان بالعلم والإيمان، وما من مؤمن يطلع على مواقف الرسول الخالدة صلى الله عليه وسلم في القرآن والسيرة إلا يتقن أن استيعاب روح هذه المواقف وتمثلها هو الخطة الوحيدة في تكوين مجتمع إسلامي صحيح سليم. إنه وجب الاقتداء إذ ثبت الاصطفاء وإذا كان العسير علينا أن نحيط بتلك المواقف في هذه العجالة فلإشارة إلى بعضها كافية:

_ 1 طه: 39.

الاقتراب

أ - الاقتراب: وأول هذه المواقف وأعظمها خطراً هو انفصال الرسول صلى الله عليه وسلم نفسياً وروحياً عن عصر الجاهلية والاتجاه بالقلب والنفس إلى العالم الأعلى، إلى الله، وهذا المسلك مبدأ الانطلاق في تكوين الأمة وبزوغ حضارة الإسلام وقد سمى الله تعالى هذه الطريقة بالاقتراب. قال تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} 2 ويغدوا النبي بانفصاله عن الوقع الجاهلي مركز إشعاع متجدد ويجتذب إليه عناصر مجبولة على الخير نافرة من أذى الجاهلية فتسبح في فلك النبي وتخضع لجاذبيته وتستلم منه القيم، والمثل فتتفجر إمكانياتها بتأثيره في طريق الخير، وتنصرف قلوبها إلى الله تريد وجهه. إنهم الرجال المعرفون بالصحابة الذين

_ 2 العلق: 19.

صنعوا بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم تاريخ الدعوة الأول، وقد صدر الأمر الإلهي للنبي صلى الله عليه وسلم بالتزام هذه الفئة التي هي نواة المجتمع الإسلامي: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} 1. وأوصى الله نبيه والمؤمنين بالانقطاع إليه فقال: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} 2 فكان التبتل فعال الأثر في سيرة الرسول الكريم إذ جعله في منأى عن الزلل والخطأ. فجاءت سيرته عليه الصلاة والسلام وحياته في المقام الأسمىمن الكمال والتمام، والبعد عن النقصان والانحراف. ولم يفارق هذه التبتيل مرحلة من مراحل الدعوة وموقفاً من مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم العامة، والخاصة، ألم تكن قرة عينه في الصلاة ألم يكن يقوم الليل حتى تتورم قدماه؟ ولقد سرت هذه الروح إلى الصحابة، رضوان الله عليهم فحققوا خالد المآثر وكانت عندهم شيئاً قليلاً فيما عرفوا الله من حق عليهم. ومن ثم لا تبعث الروح الإسلامية وقادة كما كانت في الصدر الأول إلا بجلاء النفوس وتنقيتها وإعدادها لاستقبال الإشعاع الثاقب الحي، الذي نتلقاه من الرسول صلى الله عليه وسلم، إن أوغلنا في سيرته وعشنا في ظل مواقفه، وفي صميم مبادئه ومقاصده ولا ينشأ جيل كالجيل المحمدي الأول إلا إذا جليت القلوب من صدأ القرون، ومن أوزار المبادئ الدخيلة، والأفكار الغازية، والمفاهيم المخالفة للفطرة، فإذا نجحنا في التحرر والاقتراب من مركز الإشعاع الروحي أحيا الله فينا ما أحياه في الصحابة، وبعث منا جيلاً كجيلهم، ولهذا نرى في فترات متباعدة من تاريخنا رجالاً متميزين لا يشبهون غيرهم، يعيشون كالأغراب، في عصورهم روحهم وأسلوبهم روح الصحابة وأسلوبهم لا يخافون بأساً ولا يخشون رهقاً، يُرهبون ولا يرهبون ينتصرون ولا يُهزمون، وإن ضاقت بهم أنفس الطغيان فسجنتهم أو عذبتهم، أو قتلتهم فإن في موتهم النصر إذ يسجلون بذلك على الطاغية هزيمته النفسية أمام مبادئ الإسلام والحق والعدل. إن أبا جهل لما غيب حربته في حشا سمية أم عمار بن ياسر رضي الله عنهم كان قد تردى من الهزيمة النفسية في (غور) سحيق. إن استشهاد رجال الحق يزيد شعلة الإيمان توهجاً، وليل الطغيان وحشة وهولا.

_ 1 الكهف: 28. 2 المزمل: 8.

تتمة - النبوة: اصطفاء وقدوة لقد كان لكل من هؤلاء الأبطال عالم مستقل, منفصل عن حاضرهم متصل بعالم الرسول والصحابة. حققوه بإخلاصهم وانقطاعهم إلى الله.

الحب

ب - الحب: والاقتراب كما أوضحنا عملية نفسية خالصة لا بد في استمرارها من قوة في القلب ذات ديموية وتوهج وهذه القوة هي الحب؛ حب الله والرسول حبا يغمر سائر العواطف والنزاعات ويتألق صدقا ونقاء. وهو حجر الأساس في الإيمان, قال عليه الصلاة والسلام: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده, ووالده, والناس أجمعين"1. ذلك أن حب الرسول هو حب للعقيدة التي أمر بنشرها في الأرض وقد قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 2. إن حب العقيدة في الإسلام فوق حب النفس والحياة.

_ 1 رواه مسلم والبخاري والإمام أحمد في مسنده والنسائي وابن ماجة. 2 آل عمران: 31.

العقيدة فوق الثروة والمال

ج - العقيدة فوق الثروة والمال: فلا غرو من أن يجعل الله العقيدة فوق المادة والدعوة فوق المال. إن الثروة والموارد الاقتصادية لا بد منها في الإنشاء والتعمير اللذين هما ثمرة من ثمار العقيدة. ولكن الله يرد أن يهيمن الدين على القوى المادية وأن يسخرها فيما ينفع الناس ويأبى أن يعلو الشغف بالثروة على حب الله والرسول ويغضب أن يتخذ الدين مطية استغلال يصرفه أصحاب المصالح الخاصة فيما يعود عليهم بنفع شخصي. ولعل هذا يفسر لنا حكمة الله في اختيار الأنبياء والقادة من غير ذوي الثروات الذين يرفعون المصلحة الخاصة على العقيدة والمصلحة العامة وينفصلون عن الأمة في قضيتها الكبرى. ولهذا قال نبي بني إسرائيل لأغنيناهم: {هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا} 3 وكان منهم ما توقعه إذ اعترضوا على ملكية طالوت ولم يعرهم الله اهتمامه فنصر عبده طالوت من غير مدد فيهم ومن غير ثرواتهم. وإن بعضهم ليحارب النبي المختار حفاظاً على مصلحته أو مصلحة عشيرته وهل يسفر موقف أبي سفيان قبل الفتح، وموقف أبي جهل بغير هذا؟. والإسلام لا يحرم الغنى ولا يزهد فيه ولكن يجعله في خدمة العقيدة، وقد رضي الله الغني لبعض أنبيائه

_ 3 البقرة: 246.

والملوك الصالحين عندما جعل نفوسهم فوق المال، فخلت قلوبهم من محبة الثروة، وسمت على المادة فجعلوا العقيدة فوقها وكانت عندهم للدين خادماً وتبيعاً. هذا نبي الله سليمان سأل ربه ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، فأعطاه العجب العجاب، وفجر الكنوز بين يديه واستخرجت له الثروات من جوف الأرض، ومن قاع البحار فكانت عنده كلها خارج قلبه، ولم يشغله إلا بحب الله وكلمة التوحيد ولم تستطيع هذه الأموال الخلابة أن تظفر من قلبه بشيء وكان هذه ابتلاء لسليمان أيما ابتلاء. وظهر هذا جلياً في موقفين من مواقفه: أولاً إذ جاءه وفد بلقيس بهدية ثمينة ظناً منها أن سليمان ملك كسائر الملوك يرضي المال طموحه فكان جوابه.. {قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} 1 ولو كان سليمان جماعاً شَرِهاً لارتضى بها، فإن من تسلط عليه حب المال لا يشبعه إلا التراب. والموقف الثاني: إذ لام نفسه على انشغاله باستعراض خيل الجهاد حتى توارت الشمس بالحجاب أو فاتته الصلاة فأدب نفسه أيما تأديب؛ أكب بنفسه على سوق الخيل وأعناقها وكان قد أجهدها الجري والسباق ونضحت بالعرق فطفق يمسحه عنها، يفعل ذلك وهو الملك بين يديه الإنس والجن تخدمه، قهراً لنفسه التي استمتعت بالخير برهة فنسيت ذكر ربها وإذلالا لها وتأديبا. وتتجلى هذه الظاهرة أيضاً في موقف الفاتح الصالح ذي القرنين إذ عرض عليه أهل ما بين السدين مالاً عظيماً يؤدونه سنوياً له ليبني لهم سداً يحميهم من غارات يأجوج ومأجوج فرفض العرض ودعاهم إلى الاعتماد على أنفسهم ومساعدته بالرجال والمعادن لينفعهم بخبرته ويقيم لهم ردماً خير من السد: {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً} 2. لقد كان سليمان وذو القرنين عليهما السلام أغنى أهل الأرض في يومهم وكان المال لا يدخل في حسابهما في شيء إلا بما ينفع عباد الله وبما يرضي الله. واختاره الله محمداً صلى الله عليه وسلم نبياً لا نشب عنده ولا متاع وقال الأثرياء من العرب: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ

_ 1 النمل: 26. 2 الكهف: 95.

عَظِيمٍ} 1 ولما رأوا الدعوة تنتشر انتشار البرق علموا أن ليس معدن العظمة المال، وأن العظمة الحقيقية في القيم الربانية وفي الشرع الإلهي الذي يستقر في قلب ويجري عملا صالحاً وقد تدفقت الأموال على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يعلق بقلبه شيء منها ولا تزود بغير زاد سنة. نهض مرة بعد التسليم مسرعاً فتخطى رقاب الناس إلى بعض حجر نسائه، ففزع الناس من سرعته، فخرج عليهم، فرأى أنهم قد عجبوا من سرعته قال: "ذكرت شيئاً من تبر عندنا فكرهت أن يحبسني فأمرت بقسمته"2. ورأت أمهات المؤمنين الأموال تحمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتاقت نفوسهن إلى التوسعة ورغبن فيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى الرسول إلا أن يكون هو وبيته مثلاً على الرضا بالكفاية وجاءهن من الله التخيير؛ إما الصبر على رسول الله على ما أراد الله له من تقديم الآخرة على الدنيا وإما التسريح والتمتيع، فاخترن الله ورسوله. ومن ثم كانت دعوة الأنبياء خالصة لله لم يبتغوا بها منفعة لأنفسهم أو جزاء دنيويا. وما من رسول إلا قال لقومه: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إلآَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} 3.

_ 1 الزخرف: 31. 2 رواه البخاري. انظر رياض الصالحين ص57. 3 الشعراء: 109.

الصبر والثبات والبطونة

الصبر والثبات والبطونة ... د - الصبر والثبات والبطولة: وإن تأنس بالرسل فلتأنس بما كانوا عليه من صبر وثبات وإقدام. رجل أعزل نازل وحده أمه حتى انقادت له على الإسلام. فبأي سلاح فرق النبي صفوف الخصوم الألداء؟ إنه الصبر والثبات وإني لأحسبه أمضى سلاح في دك أسوار الجاهلية والوثنية. كانت معركة الرسول صلى الله عليه وسلم بين فئتين غير متكافئتين كما قضت حكمة الله أن ينازل الرسول وحده قوة مناوئة ذات عدد، فلابد من الصمود في وجهها صموداً باسلاً يكشف عن ثبات الحقيقة التي يدعو إليها. ويفضح زيف العقائد التي يتشبث بها الجاهليون وما من نبي إلا جعل الله في عزيمته من الثبات ما تزول منه الجبال وما يزول؛ موقف راسخ، ملءه الحزم والتصميم والإقدام يريد أن يفتح قلوباً مغلقة، وأن ينفذ إلى ضمائر مظلمة وفي نفسه قوة لا تقهر وإرادة لا تنثني، إذ آمن أن الله معه، هذا التحدي نجده في إنذار هود قومه: {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ, إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 4.

_ 4 هود: 56.

فالصبر إذا ميدان التجربة، وهو الكاشف الحقيقي للأفكار المتصارعة وفائدتها الكبرى هو هذا الالتحام والنزال بين العقيدتين وكان من الهين على رسول الله أن ينسحب بالفكرة، والرسالة إلى أرض، لا يلقي فيها مقاومة ولكنه عندئذ لا يربح المعركة، وما يكون كسب المعركة إلا باللقاء, ولهذا أمر محمد صلى الله عليه وسلم بنوع خاص من الصبر هو الصبر الجميل. وهذا الصبر جميل في أسلوبه وفي عواقبه اتصال بالمناوئين وهجوم على قلوبهم بالعقيدة ومجابهتهم بالحق، بما لدى الرسول من الحكمة والموعظة الحسنة حتى إذا طاشت أحلامهم وثاروا به ثبت لهم ولم يتراجع حتى يرهبهم صبره وتهزمهم عقيدته ولا أبلغ من تصوير هذا الواقع من انهزام الكفار انهزام عقيدة ونفس من قوله تعالى فيهم: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ, كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ, فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} 1. ومن ثم تبدو مواقف النبي صلى الله عليه وسلم خارجة عن طاقة أي إنسان، ولو كان شديدا ولعل هذه البطولة هي التي تكسبه الأنصار بل تنتزع الرجال من صفوف الخصوم إلى صفوف الأنصار تأخذهم روعة الموقف البطولي، فيعبرون البرزخ إلى معسكر النبي صلى الله عليه وسلم. ألم يعبر عمر وخالد وغيرهما البرزخ جهارا. إن هذه المواقف الخالدة في عالم البطولة فرضت احترام النبي على الأعداء، فقال فيه أحد معارضيه: "هو القرم الذي لا يقدع أنفه"2 وهي التي بعثت الإعجاب في عمه أبي طالب وعشيرته، فاحتملوا من أجله ما احتملوا. ولكني - معذرة - إذا أطلقت اسم البطولة على صبر النبي صلى الله عليه وسلم، فلم أظفر بكلمة أبلغ في الدلالة منها، فإن بطولة محمد والأنبياء عليهم السلام، ليست كبطولة الرجال الممتازين الأقوياء ليست كبطولة القياصرة والأباطرة، وقادة الجيوش من قيصر روما ونابليون إلى مونتغمري ورومل وغيرهم، فإن أمثال هؤلاء كانوا أبطالاً لأنفسهم. صفق لهم الناس لحظات، فما زالوا أو سقطوا لم يبق منهم إلا أشباح باهتة، ولم يبق من بطولاتهم إلا ذكرى كالصدى الضائع في مجاهيل الأرض، أما محمد صلى الله عليه

_ 1 المدثر: 50. 2 ينسب هذا القول لأبي سفيان قبل إسلامه وينسبه بعضهم لورقة بن نوفل وكان من المشجعين للرسول. انظر لسان العرب ق. ع.

وسلم فلم يكن بطلاً لنفسه، وإنما لخير الإنسانية وهداها، فما في بطولته صلف، ولا كبرياء، ولا طغيان ولا تمجيد لذاته بل كانت بطولته العدالة، والحق والإنصاف والتقوى. ولذلك ما زالت مواقف صبره وجهاده، تفيض من القيم الإنسانية البطولية، ولم تستطع العصور، ولن تستطيع أن تفقدها من جدارتها شيئاً. وخير من كلمة البطولة اسم النبوة؛ فالنبوة فوق البطولة، وما بينهما، كما بين الأرض والسماء، ولأمر ما لقبه أحد كتاب الغرب "بطل الأبطال"1.

_ 1 هو توماس كارليل مؤلف كتاب الأبطال.

المسؤولية والعهد

هـ - المسؤولية والعهد: كان استبسال الرسل في نشر الدعوة، والتمكين، وفاء منهم بعهد الله، ذلك لأنهم قد واثقوا الله على الإخلاص له ومنح حياتهم كلها للرسالة قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} . وعلى هذا لم يعرفوا لوجودهم معنى ولا غاية غير إنفاذ كلمة الله على أتم وجه وأصدق أداء وهذه المسؤولية في الحفاظ على الدين والاستمساك به ونشره في الأرض، تنتقل إلى المؤمنين من بعدهم قال تعالى بعد تلك الآية: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً} . والمؤمنون الصادقون لا يدخرون جهداً في اتباع الطريقة المثلى لإعلاء كلمة الله، والوفاء بعهده حتى يفدوا الدين المأثور الخالد والمطلب الأسنى لهم. به يحيون ومن أجله يحيون، فأي تضييع لجانب منه خسارة لا تعوض، فيكون الجهد الإيجابي البناء في حياة الأمة أن يحتفظوا بالدين صافياً خالصاً لا ينفصلون عنه في صغيرة أو كبيرة من شؤون دنياهم أو آخرتهم حتى لا يرتدوا إلى النقصان وفي النقصان الانحطاط والخسران. إن العقيدة الإسلامية تبعث في نفوس أتباعها تسامياً رائعاً يدركون به معنى إنسانيتهم وتكاملها الصاعد في سبيل الله، لذلك كان أشد ما يخشاه الأنبياء هو الابتعاد أو التراجع أو انتهاء الحياة على غير شريعة الله، فتكون في ذلك مأساة الإنسان الحقيقية، مأساة ضلاله وضياعه وخسرانه في دار الابتلاء فكانت وصية إبراهيم لأبنائه أن يستمسكوا بالدين حتى الرمق الأخير،

قال تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 1 لقد تمت نعمة الله على الإنسان بالإسلام، به يعرف غاية وجوده وسبيله إلى الفوز والكمال، فإن أنف منه واستعلى على نعمة الله أضاع حقيقته وخسر نفسه قال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} 2. وكان مما يقلق بال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحدر المسلمون في سلم القيم الربانية التي بلغوها بالإسلام فكان يقول: "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض" 3. وربما كان مصدر هذا القلق ما علمه الرسول من أن المؤمنين في موقف دقيق، يتطلب منهم أن يقيموا التوازن العادل بين تعاليم الله ورغبات النفوس، فإن أي ترجيح للأهواء ينتهي إلى تغلب قيم الأرض على قيم السماء فكان عليه الصلاة والسلام ينبه إلى الأعراض الخطيرة التي تنشأ من ذلك في حياة المسلمين فقال: "ما نقض قوم عهد الله ورسوله إلا تسلط عليهم عدو من غيرهم، يأخذ بعض ما كان في أيديهم وما لم يحكم أئمتهم بكتاب الله، وتجبروا فيما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم" 4. ولا يعوزنا الدليل في حياتنا الحاضرة على صدق الخبر. فلم كتب علينا أن نقاسي سريعاً مما صنعته أيدينا، وجلبناه على أنفسنا؟ ألسنا بمسلمين، ألسنا أحق الناس برحمة الله ورأفته؟ بلى، ولكن الله قال: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} 5 وإن الله قد وعد هؤلاء رفيع المنزلة، وسنى الجوائز وعالي المقامات وعظيم الثواب، ولكن ليس وعداً جزافاً، إن هو إلا جزاء الواجبات العظيمة والمهمات الشاقة التي كلف بها المؤمنين. إننا نجد في شرع الله كله أن

_ 1 البقرة: 132. 2 البقرة: 130. 3 رواه أحمد في مسنده ومسلم والبخاري والنسائي وابن ماجة. 4 في حديث رواه ابن هشام في السيرة م2 ص631 عن عبد الله بن عمر رواه الطبراني في الكبير عن ابن عباس بلفظ مختلف وقال حديث صحيح. وهو خمس بخمس؛ ما نقض قوم العهد إلا سلط عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنز ل الله إلا فشا فيهم الفقر، وظهرت فيعم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، طففوا المكيال إلا منعوا الثبات وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر. 5 الأعراف: 56.

هؤلاء الذين حباهم ربهم بالفضل العظيم والمسؤولية الكبرى في موقف بالغ الدقة والحساسية، وإن أساءوا عوقبوا ضعفين، قال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً, وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً} 1. ذلك أن الله يجعل الثواب والعقاب مكافئاً لأحوال المكلف ومقدار التكليف، والإحسان أو الإساءة فيه. ألا ترى أن فرعون {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 2 لأنه المسؤول عن استخفافه قومه، وإيرادهم النار! , وأن امرأة فرعون بنى الله لها قصراً في الجنة، إذ استطاعت أن تنجو بقلبها من الوسط الكافر، وهو أمر لا بد فيه من الجهد والعناء، ومكافحة الموانع والحوائل مكافحة مريرة، في سبيل استنقاذ النفس من براثن الكفر الحاكم؟ لقد استبان الأمر، إذ حصحص الحق، إننا عهد إلينا بالقوامة على الناس والشهادة عليهم في اتباع شرع الله، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} 3. لقد كرمنا الله بمسؤولية الشهادة على الناس ما حكمنا بشريعة الله والرسول. فبذلك نكون من المحسنين ومن رحمة الله قريبين، وأجرنا بإذن الله أجران: أجر الإسلام وأجر القيام على الناس بالإسلام. فإن أبينا الكرامة وتخلينا عن الواجب وقع علينا ما أنذرنا الله به ورسوله نالتنا عقوبة الله مضاعفة وخسرنا خسرانا كبيراً خسرنا أنفسنا وخسرنا حق الشهادة على الناس، فلم يعترف لنا به الأمم، بل صرنا موطئ أقدامهم وقصعة أكلهم، وموضع المهانة والإذلال إن اصطفاء الأمة الإسلامية لرسالة الله، تضعها في هذا الموقف الدقيق الحساس، وتجعل منها أمة نسيج وحدها: أمة من شجرة مباركة طيبة لا شرقية ولا غربية تولي وجهها شطر المسجد الحرام، فلا تدور في فلك أحد، بل تدور

_ 1 الأحزاب: 31. 2 هود: 98.. 3 البقرة 143.

في فلكها الأمم، لأنها منحت دور الشهيد في تنفيذ شرع الله، والقائم بهذه المهمة لا يستوحي من غيره، ولا يقبل خضوعا، ولا تبعية، ولا تتم له الرسالة إلا بالاستقلال عن المؤثرات الغريبة، وبامتلاك قوة التأثير والتوجيه.

خاتمة

خاتمة: وهكذا يتحقق الاقتداء بالأخذ من عالم الاصطفاء والتأثر بالمصطفين الأخيار تأثراً يتفاوت عمقاً بتفاوت استعداد المتأثرين وإخلاصهم، وحرصهم على التمثل والانفصال والضرب من المثل المصطفى، ثم تجري عملية التمثل الذاتي والتربية الوجدانية، يأخذ المؤمن بها نفسه. فإذا انتقلت إليه الصفات والأخلاق وصارت في سلوكه وأفعاله ظهر أثرها في المجتمع وانتفعوا بها، واصطبغت بها أعمال الأمة إذا كثر المعتقدون، وغلبوا على الخبث، وبهذا ترتقي الأمة، وتبدأ عصراً جديداً ومدنية جديدة، أركانها الأخلاق والمبادئ الإلهية التي لا تحد من نشاط الإنسان ولا تضيق عليه المجال بل تفتح ملكاته وإمكانياته، على ما في هذا الوجود من الأسرار والعجائب ليزداد يقينا على يقين، وتقدما على تقدم وكمالا على كمال. لا هزيمة في الاسلام عن علي رضي الله عنه قال: "لما انجلى الناس عن رسول الله صلى لله عليه وسلم يوم أحد نظرت في القتلى فلم أر رسول الله فقلت: والله ما كان ليفر وما أراه في القتلى ولكن أرى الله غصب علينا بما صنعنا فرفع نبيه فمالي خير من أن أقاتل حتى أقتل, فكسرت جفن سيفي ثم حملت على القوم بأفرجوا إلي فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم".

§1/1