النبوات لابن تيمية

ابن تيمية

المجلد الأول

المجلد الأول مقدمة ... مقدّمة إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران، 102] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء، 1] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب،70-71] . أمّا بعد: فإنّ أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هديُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النار1.

_ 1 هذه الخطبة تسمى خطبة الحاجة، وهي مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهي تُشرع بين يدي كلّ حاجة. وقد أخرجها الإمام مسلم في صحيحه 1/336، 2/592-593، والإمام أحمد في مسنده 3/310، 371. والنسائي في سننه 3/118، كتاب صلاة العيدين، باب كيف الخطبة. وابن ماجه في سننه 1/609، كتاب النكاح، باب خطبة النكاح. وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني 1/3. وقد أفردها الشيخ محمد ناصر الدين الألباني برسالة جمع الأحاديث الواردة فيها، وسماها خطبة الحاجة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يُعلّمها أصحابه.

ثم أما بعد: فإن الله تعالى لم يخلق عباده عَبَثاً، ولم يتركهم سُدى، بل أرسل إليهم أنبياءه ورسله واسطةً بينه وبينهم يُبلّغونهم أوامره ونواهيه، ويُبيِّنون لهم طريق الهدى من الضلال. فتبارك القائل: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون، 115] ، {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} [القيامة، 36] . وبعثة الرسل فضلٌ منه - جلّ وعلا - ومنّة يمتنّ بها على عباده المؤمنين. قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران، 164] . وفي بعثة الرسل إنذارٌ منه - تبارك وتعالى - لبني آدم، كي لا تكون لهم حجّة على الله بعد الرسل، فيُقيم عليهم الحجة بإرسال المرسلين، ولا يقولوا بعدها: ما جاءنا مبشّرون ولا منذرون. قال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء، 165] . إذ من سُنّته تعالى أن لا يُعذّب أحداً حتى يُقيم عليه الحجة، وفي إرسال المرسلين - عليهم الصلاة والسلام - إقامة للحجة. قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء، 15] . وموضوع النبوات من أعظم أبواب العقيدة؛ إذ الإيمان برسل الله - تبارك وتعالى - أحدُ أركان الإيمان الستة، فلا يصحّ إيمان العبد حتى يؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشرّه.

والنبوة هي الطريق لمعرفة محابّ الله ومساخطه، وأوامره ونواهيه، وما يُقرّب إليه، وما يُبعد عن رحمته. لذلك اقتضت حكمته - جلّ وعلا - أن يُرسل أنبياءه ورسله لإرشاد الخلق، وتوضيح الحقّ، وبيان الشريعة والدين، وما يضمن السعادة في الدارَيْن. وقد منّ الله عليّ إذ وفقني في مرحلة الماجستير لاختيار رسالة نافعة - بإذن الله - درستُ فيها جهود عَلَمٍ من أعلام أهل السنة في عصرنا في تقرير عقيدة سلف هذه الأمة - رحمهم الله - ألا وهو الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي - رحمة الله عليه. وقد كانت هذه الرسالة ذات أثرٍ مبارك عليّ - بحمد الله؛ إذ وصلتني بكتب أعلام السلف، فعشت معها وقتاً طيباً مباركاً، ووجدت في قراءتها لذّة ما بعدها لذّة. ومن أشهر من ارتبطت صلتي بهم من كتب هؤلاء الأعلام: شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله، الذي جدّد الله - تبارك وتعالى - به الدين في أواخر القرن السابع، وأوائل القرن الثامن الهجري. وقد منّ الله به على المسلمين، وجعله عوناً لمن اتبع منهج سيّد المرسلين، وشوكة في حلوق المخالفين، ونُصرة لهذا الدين، ينفي عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين؛ كما قال سيّد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم: "يحمل هذا العلم من كلّ خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين"1.

_ 1 أورده التبريزي في "مشكاة المصابيح": (رقم 248) وفيه: عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين". رواه البيهقي. وقد علق الشيخ الألباني على هذا الحديث بأنه مرسل؛ لأن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري هذا تابعي مقلّ كما قال الذهبي، راويه عنه معاذ بن رفاعة ليس بعمدة. لكن الحديث قد روي موصولاً من طريق جماعة من الصحابة، وصحح بعض طرقه الحافظ العلائي في "بغية الملتمس" (3-4) . وروى الخطيب في "شرف أصحاب الحديث" (35/2) عن مهنا بن يحيى قال: سألت أحمد - يعني ابن حنبل- عن حديث معاذ بن رفاعة عن إبراهيم هذا، فقلت لأحمد: كأنه كلام موضوع؟ فقال: لا، هو صحيح. فقلتُ له: ممن سمعته أنت؟ قال: من غير واحد. قلت: من هم؟ قال: حدثني به مسكين، إلا أنه يقول: معاذ، عن القاسم بن عبد الرحمن. قال أحمد: معاذ بن رفاعة لا بأس به ... انظر مشكاة المصابيح 1/82-83. وقال الذهبي عن العذري في "الميزان": ما علمته واهياً، أرسل حديث: "يحمل هذا العلم من كلّ خلفٍ عدوله".. وسيأتي تخريجه ص (675-676) .

وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحقّ لا يضرّهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك"1. ولا شكّ أنّ علم الأعلام، وشيخ الإسلام - رحمه الله - من هذه الطائفة المنصورة؛ فقد حمل أمانة العلم، وبلّغها بكلّ صدقٍ وإخلاص، وجاهد بلسانه وقلمه ويده، وأُوذي بسبب صدعه بالحقّ وحرصه على هداية الخلق، وامتحن بسبب عقيدته، وضُيِّق عليه ونُفي من بلدته، وهو رغم ذلك كلّه غير مبالٍ، لا يخاف في الله لومة لائم، حتى توفّاه الله - تعالى - معتَقَلاً، لم يخش من سلطان الباطل أو يُظهر من جَلَده على باطله مَلَلاً. وقد ذهب عصره ومضى إلى الربّ خصومه، ومات من كانوا يكيدون به، لكن لم يمت علمه ولم ينطفئ نوره بل بقي شعلةً تُنير الطريق لسالكي الطريق المستقيم؛ طريق الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.

_ 1 أخرجه الإمام مسلم في "صحيحه" 3/1523، كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة..".

وقد طبّقت شهرة شيخ الإسلام الآفاق، ووضع الله لكتبه القبول، ونهل الناس من معينها الرقراق. ومن تلكم الكتب: كتاب ((النبوات)) الذي يعتبر من أفضل ما كُتب في موضوعه، فقد بيَّن فيه مؤلفه - رحمه الله - مفهوم النبوة، والمعجزة، والكرامة، وذكر الفرق بينها، وبين خوارق السحرة والكهان ومدّعي النبوة والولاية وأشباههم من أصحاب الأحوال الشيطانية. وقد عرض - رحمه الله - موضوع النبوة في شقّين: أورد في الأول منهما: منهج أهل السنة في النبوات، من خلال عرض أقوالهم. وردّ في الثاني منهما: على المخالفين في النبوة؛ من المنكرين، وأهل البدع، والفرق الضالّة، وذلك من خلال ذكر أصول دينهم العقلية التي أصلوها مخالفة لأصول الرسول صلى الله عليه وسلم.. وقد هدم تلك الأصول بمعوله، فانهارت بأصحابها بقوة الله وحوله. وكتاب ((النبوات)) نادرٌ في بابه، بل لست مبالغاً إن قلت: لا يوجد لأهل السنة والجماعة كتابٌ على شاكلته ومنواله. لذلك تظهر الحاجة إلى تحقيقه، والعناية به، وإبرازه في أحسن صورة. وقد طبع هذا الكتاب طبعات عدّة، إلا أنه لم يلق من العناية التامة ما يليق به وبمؤلفه الذي أعدّه؛ فلم تُصحّح ألفاظه، أو تُوثّق نصوصه، أو يُفسّر غامضه، أو يُشرح مشكله. لذلك شمّرت عن ساعد الجدّ، وبذلت في تحقيقه الجهد، وتوخّيتُ خدمة الكتاب مستعيناً بالرحمن، الذي هو ثقتي، وبه المستعان، وعليه التكلان.

وفي الختام: أحمد الله - تعالى - وأُثني عليه الخير كلّه، فله الفضل والنعمة والثناء الجميل الحسن، أحمده على توفيقه، وأشكره على تسهيله وتيسيره في إتمام تحقيق هذا الكتاب، فلولا إعانته لي لما استطعتُ إخراجه في هذه الصورة، ولولا تفضّله عليّ لما استطعت بذل ما بذلتُه من جهد، فله الحمد أولاً وآخراً، وله الشكر ظاهراً وباطناً، أعانني على خدمته وتحقيقه، وتصحيحه وتوثيقه، حتى خرج في صورته هذه. فهذا هو كتاب ((النبوات)) وهذا تحقيقي له، فإن وفقت وأصبتُ فمن الله وله الحمد والمنّة، وإن قصّرتُ أو أخطأتُ فذلك من نفسي، وعذري أني قد بذلت الوسع والطاقة. ولئن فارقني الصواب في موضع، فإني لأرجو أن لا يفوتني الأجر من الله المطّلع على الضمائر، العالم بالسرائر، وهو سبحانه يغفر الزلّة، ويتجاوز عن التقصير والهفوة، إنّه جواد كريم، وهو بعباده رؤوف رحيم. وإني لأستغفر الله وأتوب إليه من كلّ ذنبٍ وخطيئة. وصلّى الله وسلّم وبارك على نبيِّنا محمّد وعلى آله وصحبه.

أسباب اختياري لهذا الكتاب تقدمت في ثنايا الصفحات السابقة دوافع كثيرة حدت بي إلى التشبّث بكتاب شيخ الإسلام ((النبوات)) ، ولا شكّ أنّها حوافز على تحقيق هذا الكتاب الجليل. وها أنا ذا أُجمل هذه الحوافز والدوافع، مع دوافع أُخرى في النقاط التالية: 1- إنّ كتاب ((النبوات)) من الكتب التي تُقرّر حقيقة النبوة، وتُبيِّن مفهومها وفق منهج سلفنا الصالح - رحمهم الله - وتردّ على المخالفين - شأنه في ذلك شأن كتب شيخ الإسلام - رحمه الله - الأخرى التي تُقرّر عقيدة السلف الصالح، وتردّ على من خالفهم، فهو من الكتب السلفية المهمة التي لا يُستغنى عنها. 2- كون مؤلفه - رحمه الله - من كبار علماء السلف المشهود لهم بالسبق، والرسوخ في العلم في أصول الدين وفروعه، وله قدم صدق، وجهاد وصبر ومصابرة في نصرة الحقّ. 3- كثرة العبارات الغامضة، والألفاظ الصعبة، والموضوعات الشائكة التي يصعب فهمها في هذا الكتاب، فهو بحاجة إلى خدمة لتوضيح عباراته وشرح ألفاظه. وهذا قد لمستُه بنفسي من بعض طلبة العلم المهتمِّين بكتب هذا الإمام، إذ صرّحوا أنهم يجدون صعوبة في الاستفادة منه، بخلاف كتبه الأخرى.

4- ندرة الكتب المؤلفة في النبوات، وطرق إثباتها، والردّ على المخالفين، على منهج السلف الصالح - رحمهم الله تعالى. لذا فإنّ إخراج هذا الكتاب العظيم في صورة طيبة يسدّ ثغرة كبيرة، ويُثري المكتبة الإسلامية، لما فيه من بيان سبيل المؤمنين، وتحذيرٍ من طرق الضالّين. ولقد قرأت كتباً، ورسائل أُلّفت حول موضوع النبوات، والمعجزات، والكرامات، فوجدتُ أكثر ما فيها نقولات من كتب المخالفين، سلّم الناقل منها بها، وظنّها من أقوال أهل السنة والجماعة. وما ذلك إلاّ لانتشارها، وكثرتها، وشهرة مؤلفيها. مع ندرة الكتب المؤلفة على منهج أهل السنة والجماعة. وكتاب شيخ الإسلام - رحمه الله - هذا - يردّ على أمثال هذه الأقوال، ويُحذّر منها، ويُناقش أصحابها، ويُبيِّن أنّ هذه الأقوال بُنيت على أصول تُخالف دين الرسول صلى الله عليه وسلم. 5- إنّ أقوال من ردّ عليهم شيخ الإسلام - رحمه الله - تعالى لا زالت تعشعش بين أظهرنا، ولا زال محبّوها ومعتنقوها يعملون على إذكاء نارها، وإبقاء سعيرها. ولا ريب أنّ إخراج هذا الكتاب في صورة طيبة يُساعد على إطفاء هذه النّار وإخماد جذوتها، أو وقف انتشارها. واللهً أسأل أن يجعل خدمتي له ذُخراً يوم ألقاه، وأن يغفر لمؤلفه، ويُحسن عاقبته ومثواه.

الخطة التي سرت عليها شرعتُ بالعمل في هذا الكتاب مستعيناً بالله تعالى - وهو خير معين - وقد قسمتُ العمل إلى قسمين: القسم الأول: الدراسة. وفيه ثلاثة مباحث:? المبحث الأول: مدخل لدراسة موضوع الكتاب، وما أُلِّف فيه. وفيه ثمانية مطالب: المطلب الأول: حقيقة النبوّة. المطلب الثاني: الحكمة من بعث الرسل. المطلب الثالث: وظائف الرسل. المطلب الرابع: أقوال الناس في النبوّة. المطلب الخامس: الإيمان بالأنبياء ركن من أركان الإيمان. المطلب السادس: الإسلام دين جميع الأنبياء. المطلب السابع: المعجزات. المطلب الثامن: ما أُلِّف في النبوات. المبحث الثاني: التعريف بالمؤلّف. وفيه مطلبان: المطلب الأول: حياة المؤلف الشخصية.

وفيه أربع مسائل: المسألة الأولى: اسمه ونسبه. المسألة الثانية: ولادته، ونشأته، وأسرته. المسألة الثالثة: صفاته الخَلقيّة. المسألة الرابعة: صفاته الخُلُقيّة. المطلب الثاني: حياة المؤلف العلمية. وفيه سبع مسائل: المسألة الأولى: نشأته العلمية. المسألة الثانية: أبرز شيوخه. المسألة الثالثة: أشهر تلاميذه. المسألة الرابعة: أشهر مؤلفاته. المسألة الخامسة: اهتمام الشيخ بالتأليف في جانب العقيدة. المسألة السادسة: علماء توقعوا الذيوع والانتشار لكتب شيخ الإسلام رحمه الله بعد موته. المسألة السابعة: الأيام الأخيرة لشيخ الإسلام، ووفاته. المبحث الثالث: دراسة الكتاب. وفيه مطلبان: المطلب الأول: التعريف بالكتاب. وفيه أربع مسائل: المسألة الأولى: تحقيق اسم الكتاب، وتوثيق نسبته إلى مؤلفه، وتاريخ تأليفه.

المسألة الثانية: سبب تأليف الكتاب. وفيه ترجمة موجزة للباقلاني، وتعريف بكتابه "البيان". المسألة الثالثة: منهج شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه. المسألة الرابعة: مصادر المؤلف في كتابه. المطلب الثاني: التعريف بالمخطوط، ووصفه، وعملي في الكتاب. القسم الثاني: تحقيق نصّ الكتاب. ثمّ الفهارس.

كلمة شكر وتقدير أحمد الله سبحانه وتعالى على توفيقه، وأشكره على إعانته على إتمام هذا العمل، فله الحمد حمداً كثيراً طيّباً مباركاً فيه كما يُحبّ ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه. وانطلاقاً من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا يشكر الله من لا يشكر الناس"1، فإني أتقدم بالشكر الجزيل، والعرفان الجميل إلى الجامعة الإسلامية، ممثلة بمديرها معالي الدكتور صالح بن عبد الله العبود. كما أتقدم بالشكر والثناء إلى القائمين على كلية الدعوة وأصول الدين، وإلى رئيس قسم العقيدة فضيلة الشيخ الدكتور صالح بن سعد السحيمي، على ما أبدوه من عناية بالعلم وطلابه، سائلاً الله العليّ القدير أن يُثيبهم أحسن الإثابة، ويجزيهم خير الجزاء. كما أنه من الواجب عليّ أن أتقدّم بفائق التقدير والاحترام، ووافر الثناء والشكر، وعظيم المودّة والامتنان إلى فضيلة شيخي وأستاذي، فضيلة الأستاذ الدكتور أحمد بن عطية بن علي الغامدي الذي أحاطني برعايته، وأولاني اهتمامه طيلة عشر سنوات أشرف عليّ خلالها في رسالَتَي الماجستير والدكتوراه، كان فيها نعم المعلم والموجّه والمؤدّب؛ أحسن معاملتي، واهتمّ بي، وصبر عليّ، وأتحفني بتوجيهاته، وجاد عليّ بملاحظاته القيّمة التي كان لها أكبر الأثر في إظهار هذا الكتاب بمظهره الذي هو عليه. فأسأل الله الحيّ القيوم أن يجزيه أفضل ما جزى معلماً عن

_ 1 أخرجه الإمام أحمد في المسند 2/295، 302. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة 1/158.

تلاميذه، وأن يُثيبه عني حسن الثواب في الدارين، ويجعل ذلك في ميزان حسناته، إنه جواد كريم. كما أشكر جميع من أسدى إليّ نصحاً، أو مشورة، راجياً من الله أن يجزيهم الجزاء الحسن. وفي الختام: أرجو من الله العليّ القدير أن يعمّنا بدعوة شيخ الإسلام - رحمه الله - والتي كان يُكرّرها دائماً1، وهي قوله: "فنسأل الله العظيم أن يهدينا إلى صراط مستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من النبيّين والصديقين والشهداء والصالحين الذين عبدوه وحده لا شريك له، وآمنوا بما أرسل به رسله، وبما جاءوا به من الآيات، وفرق بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والغيّ والرشاد، وطريق أولياء الله المتقين وأعداء الله الضالّين والمغضوب عليهم، فكان ممّن صدّق الرسل فيما أخبروا به، وأطاعهم فيما أمروا به، ولا حول ولا قوة إلا بالله"2. وكان يقول - رحمه الله: "اللهم انصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر بنا، واهدنا ويسِّر الهدى لنا، اللهم اجعلنا لك شاكرين، لك ذاكرين، لك أوّاهين، لك مخبتين، إليك راغبين، إليك راهبين، لك مطاويع. ربنا تقبل توباتنا، واغسل حوباتنا، وثبت حججنا، واهد قلوبنا، واسلل سخيمة صدورنا"3. كما يقول - رحمه الله: "فنسأل الله العظيم أن يجعلنا من المتبعين له، المؤمنين به، وأن يحيينا على سنته، ويتوفانا عليها، لا يفرق بيننا وبينها،

_ 1 انظر: الجواب الصحيح 2/335. ومجموع الفتاوى 19/279. 2 النبوات ص 541. 3 الأعلام العلية للبزار ص 39-40. وقال البزار: "كان غالب دعائه".

إنه سميع الدعاء، وأهل الرجاء، وهو حسبنا ونعم الوكيل، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وأصحابه الطيبين الطاهرين"1.

_ 1 مجموع الفتاوى 19/105.

الباب الأول

الباب الأول المبحث الأول: مدخل لدراسة موضوع الكتاب وما ألف فيه المطلب الأول: حقيقة النبوة ... المطلب الأول: حقيقة النبوّة. النبوة واسطة بين الخالق والمخلوق في تبليغ شرعه وسفارة بين الملك وعبيده، ودعوة من الرحمن الرحيم - تبارك وتعالى - لخلقه ليُخرجهم من الظلمات إلى النور، وينقلهم من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة. فهي نعمة مهداة من الله - تبارك وتعالى - إلى عبيده، وفضل إلهيّ يتفضّل بها عليهم. هذا في حقّ المرسَل إليهم. أما في حقّ المرسَل نفسه، فهي امتنان من الله يمنّ بها عليه، واصطفاء من الربّ له من بين سائر النّاس، وهبة ربانيّة يختصّه الله بها من بين الخلق كُلّهم. والنبوة لا تنال بعلم ولا رياضة، ولا تدرك بكثرة طاعة أو عبادة، ولا تأتي بتجويع النفس أو إظمائها كما يظنّ من في عقله بلادة. وإنّما هي محض فضل إلهيّ، ومجرّد اصطفاء ربانيّ، وأمر اختياريّ؛ فهو جلّ وعلا كما أخبر عن نفسه: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة، 105] . فالنبوة إذاً لا تأتي باختيار النبيّ، ولا تنال بطلبه. ولذلك لما قال المشركون: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ

عَظِيمٍ} ، أجابهم الربّ تبارك وتعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف، 30-31] . فالله تعالى هو الذي يقسم ذلك، ويتفضّل به على من يشاء من النّاس، ويصطفي من يشاء من عباده، ويختار من يشاء من خلقه. ما كانت الخيرة لأحدٍ غيره، وما كان الاجتباء لأحدٍ سواه. والإيمان بالنبوة هو الطريق الموصل إلى معرفة الله ومحبّته، والمسلك المفضي إلى رضوان الله وجنّته، والسبيل المؤدي إلى النجاة من عذاب الله، والفوز بمغفرته. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى: "والإيمان بالنبوة أصل النجاة والسعادة، فمن لم يُحقّق هذا الباب اضطرب عليه باب الهدى والضلال، والإيمان والكفر، ولم يُميّز بين الخطأ والصواب"1. وحاجة العباد إلى الإقرار بالنبوّة أشدّ من حاجتهم إلى الهواء الذي يتنسمونه، وإلى الطعام الذي يأكلونه، وإلى الشراب الذي يشربونه؛ إذ من فقد أحد هؤلاء خسر الدنيا، أما من عدم الإقرار بالنبوة فخسارته أشدّ وأنكى، إذ خسر الدنيا والآخرة - عياذاً بالله تعالى. قال شيخ الإسلام - رحمه الله: ودلائل النبوّة من جنس دلائل الربوبية، فيها الظاهر والبيِّن لكلّ أحد؛ كالحوادث المشهودة؛ فإنّ الخلق كلّهم محتاجون إلى الإقرار بالخالق، والإقرار برسله" 2. ولا شك أنّ معرفة الله، والإيمان به، وعبادته، ومعرفة رسوله، وطاعته، يحتاجها كلّ مخلوق مكلّف.

_ 1 النبوات ص 611-612. 2 الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 5/435.

ومن حكمة الله تعالى أنّه كلّما كان الناس إلى معرفة شيء أحوج، فإنّه - جلّ وعلا - يجعله سهلاً ميسّراً غير ذي عِوَج1. ولحاجة الناس إلى معرفة النبوة، والإقرار بالرسول، فقد وضّحها المولى - جلّ وعلا - في كتابه توضيحاً أعظم من أن يُشرح في هذا المقام، إذ الشرح يطول. يقول شيخ الإسلام: "فتقرير النبوات من القرآن الكريم أعظم من أن يُشرح في هذا المقام، إذ ذلك هو عماد الدين، وأصل الدعوة النبوية، وينبوع كلّ خير، وجماع كلّ هدى"2. ولشيخ الإسلام - رحمه الله - كلام رائع نفيس يُجمل فيه ما قُدّم بيانه، يقول فيه: "فإنّ الله - سبحانه - جعل الرسل وسائط بينه وبين عباده في تعريفهم ما ينفعهم وما يضرّهم، وتكميل ما يُصلحهم في معاشهم ومعادهم، وبعثوا جميعاً بالدعوة إلى الله، وتعريف الطريق الموصل إليه، وبيان حالهم بعد الوصول إليه. فالأصل الأول يتضمن إثبات الصفات والتوحيد والقدر، وذكر أيام الله في أوليائه وأعدائه، وهي القصص التي قصّها على عباده، والأمثال التي ضربها لهم. والأصل الثاني يتضمن تفصيل الشرائع، والأمر والنهي والإباحة، وبيان ما يُحبّه الله وما يكرهه. والأصل الثالث يتضمن الإيمان باليوم الآخر، والجنة والنار، والثواب والعقاب. وعلى هذه الأصول الثلاثة مدار الخلق والأمر، والسعادة والفلاح موقوفة عليها، ولا سبيل إلى معرفتها إلا من جهة الرسل، فإنّ العقل لا يهتدي إلى

_ 1 انظر: درء تعارض العقل والنقل 9/66،، 10/129. 2 شرح الأصفهانية 2/606.

تفاصيلها ومعرفة حقائقها، وإن كان قد يُدرك وجه الضرورة إليها، من حيث الجملة، كالمريض الذي يُدرك وجه الحاجة إلى الطبّ ومن يُداويه، ولا يهتدي إلى تفاصيل المرض وتنزيل الدواء عليه. وحاجة العبد إلى الرسالة أعظم بكثير من حاجة المريض إلى الطبّ؛ فإنّ آخر ما يقدر بعدم الطبيب موت الأبدان، وأما إذا لم يحصل للعبد نور الرسالة وحياتها مات قلبه موتاً لا تُرجى الحياة معه أبداً، أو شقي شقاوة لا سعادة معها أبداً. فلا فلاح إلا باتباع الرسول"1. ويقول أيضاً - رحمه الله: "والنبوة مشتملة على علوم وأعمال لا بدّ أن يتصف الرسول بها، وهي أشرف العلوم، وأشرف الأعمال. فكيف يشتبه الصادق فيها بالكاذب"2.

_ 1 مجموع الفتاوى 19/96-97. 2 شرح الأصفهانية 2/477.

المطلب الثاني: الحكمة من بعث الرسل

المطلب الثاني: الحكمة من بعث الرسل. 1- الأنبياء والرسل هم صفوة الخلق، ومصطفوا الحقّ، وحاجة الخلق إليهم ماسّة ليبلّغوهم ما يُحبّه الله ويرضاه، وما يغضب منه ويأباه. وكثير من العصاة والمنحرفين ضلّوا في متاهات الشقاوة. هذا مع وجود الأنبياء - عليهم السلام - فكيف تكون الحال لو لم يُرسل الله تعالى رسلاً مبشرين ومنذرين. فالرسل بُعثوا يُهذّبون العباد، ويُخرجونهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ويُحرّرونهم من رقّ عبودية المخلوق، إلى حرية عبادة رب الأرباب الذي أوجدهم من العدم، وسيفنيهم بعد الوجود، ويبعثهم بعد

الفناء، ليكونوا إما أشقياء، وإما سعداء. فلو تُرك الناس هملاً دون إنذار وتخويف، لعاشوا عيشة ضنكاً، في جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، وعادات منحرفة، وأخلاق فاسدة، مجتمعُ غاب القويّ فيهم يأكل الضعيف، والشريف فيهم يذلّ الوضيع، وهكذا.. فاقتضت حكمته جلّ وعلا أن لا يخلق عباده سُدى، ولا يتركهم هملاً، قال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} [القيامة، 36] . ومن رحمته - جلّ وعلا - بهم أن منّ عليهم إذ بعث فيهم رسلاً مبشرين ومنذرين يتلون عليهم آيات ربهم، ويُعلّمونهم ما يصلحهم، ويُرشدونهم إلى مصدر سعادتهم في الدنيا والآخرة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين. 2- إن الغاية العظمى التي أوجد الله الخلق لأجلها هي عبادته، وتوحيده، وفعل محابّه، واجتناب مساخطه، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات، 56] . ولا يستطيع الإنسان أن يعرف حقيقة العبادة؛ من فعل ما يُحبّه الله ويرضاه، وترك ما يكرهه الله ويأباه، إلا عن طريق الرسل الذين اصطفاهم الله من خلقه، وفضّلهم على العالمين، وجعلهم مبرّئين من كلّ عيب مشين، وكلّ خلق معيب، وأيّدهم بالمعجزات والحجج والبراهين، وأنزل عليهم البيّنات والهدى، وعرّفهم به، وأمرهم أن يدعوا الناس إلى عبادته وحده حقّ العبادة. 3- إقامة الحجة على البشر بإرسال الرسل، كما قال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} [النساء، 165] ، وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء، 15] ، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه، 134] .

فالله - سبحانه - وتعالى أرسل الرسل؛ ليقطع دابر الكافرين، فلا يعتذروا عن كفرهم بعدم مجيء النذير، وليعلم علم ظهور، وإلا فهو تعالى يعلم - بالعلم الأزلي - من يطيعه ممن يعصيه، وليقيم على عباده الحجة الدامغة، فيحيى من حيَّ عن بيّنة، ويهلك من هلك عن بيان وبرهان. 4- إن الناس لا يدركون بعقولهم كثيراً من الغائبات؛ مثل معرفة أسماء الله وصفاته، ومعرفة الملائكة والجن والشياطين، ومعرفة ما أعدّ الله للطائعين في دار رضوانه وكرامته، وما أعدّ للعاصين في دار سخطه وإهانته. لذا فإنّ حاجتهم إلى من يعلّمهم هذه الحقائق، ويُطلعهم على هذه المغيّبات ضرورية. وقد امتدح الله تعالى عباده الذين يؤمنون بالغيب، فقال تعالى: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة، 13] . فلو لم يبعث الله الرسل، لما عرف الناس هذه الأمور الغيبية، ولما آمنوا إلا بما يُدركونه بحواسّهم. فسبحان الخلاق العليم الذي منّ على عباده ببعثة الأنبياء والمرسلين. 5- الخلق بحاجة إلى القدوة الحسنة، ممن كمّلهم الله بالأخلاق الفاضلة، وعصمهم من الشبهات والشهوات النازلة. والأنبياء هم نبراس الهدى، ومصابيح الدجى، يقتدي بهم الخلق، ويتخذون من سيرتهم وحياتهم قدوة يسيرون على منوالهم حتى يصلوا إلى دار السلام، ويحطّوا رحالهم في ساحة ربّ الأنام. فالرسل هم قدوة الأتباع، والأسوة الحسنة لمن أطاع، في العبادات، والأخلاق، والمعاملات، والاستقامة على دين الله.

قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً} [الأحزاب، 21] . 6- الرسل عليهم السلام جاءوا لإصلاح النفوس، وتزكيتها، وتطهيرها، وتحذيرها من كلّ ما يُرديها. فقد بُعثوا لدلالة الخلق على الطريق المستقيم، وإرشادهم إلى المنهجالقويم، وتوجيههم نحو الأخلاق الحميدة، وتنفيرهم من المساوئ الذميمة، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة، 2] . وقد أوضح شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - حاجة العباد إلى بعثة المرسلين في مواضع شتى من كتبه. فمن ذلك قوله: "والرسالة ضرورية للعباد، لا بدّ لهم منها، وحاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كلّ شيء. والرسالة روح العالم، ونوره، وحياته. فأي صلاح للعالم إذا عدم الروح والحياة والنور، والدنيا مظلمة ملعونة إلا ما طلعت عليه شمس الرسالة. وكذلك العبد ما لم تُشرق في قلبه شمس الرسالة، ويناله من حياتها وروحها، فهو في ظلمة، وهو من الأموات. قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام، 122] ، فهذا وصف المؤمن، كان ميتاً في ظلمة الجهل، فأحياه الله بروح الرسالة ونور الإيمان، وجعل له نوراً يمشي به في الناس. وأما الكافر فميّت القلب في الظلمات"1.

_ 1 مجموع الفتاوى 19/93-94.

وقال - رحمه الله - أيضاً: "والرسالة ضرورية في إصلاح العبد في معاشه ومعاده، فكما أنه لا صلاح له في آخرته إلا باتباع الرسالة، فكذلك لا صلاح له في معاشه ودنياه إلا باتباع الرسالة؛ فإنّ الإنسان مضطر إلى الشرع؛ فإنه بين حركتين؛ حركة يجلب بها ما ينفعه، وحركة يدفع بها ما يضرّه. والشرع هو النور الذي يُبيِّن ما ينفعه وما يضرّه. والشرع نور الله في أرضه، وعدله بين عباده، وحصنه الذي من دخله كان آمناً. وليس المراد بالشرع التمييز بين الضارّ والنافع بالحسّ، فإن ذلك يحصل للحيوانات العجم؛ فإن الحمار والجمل يميّز بين الشعير والتراب. بل التمييز بين الأفعال التي تضرّ فاعلها في معاشه ومعاده؛ كنفع الإيمان والتوحيد والعدل والبر والتصديق والإحسان والأمانة والعفة والشجاعة والحلم والصبر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصلة الأرحام، وبرّ الوالدين، والإحسان إلى المماليك والجار، وأداء الحقوق، وإخلاص العمل لله، والتوكل عليه، والاستعانة به، والرضا بمواقع القدر به، والتسليم لحكمه، والانقياد لأمره، وموالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه، وخشيته في الغيب والشهادة، والتقرب إليه بأداء فرائضه واجتناب محارمه واحتساب الثواب عنده، وتصديقه، وتصديق رسله في كل ما أخبروا به، وطاعته في كل ما أمروا به، مما هو نفع وصلاح للعبد في دنياه وآخرته، وفي ضد ذلك شقاوته ومضرته في دنياه وآخرته. ولولا الرسالة لم يهتد العقل إلى تفاصيل النافع والضار في المعاش والمعاد. فمن أعظم نعم الله على عباده وأشرف منة عليهم أن أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وبيَّن لهم الصراط المستقيم. ولولا ذلك لكانوا بمنزلة الأنعام والبهائم، بل أشرّ حالاً منها. فمن قبل رسالة الله واستقام عليها، فهو من خير البرية، ومن ردَّها وخرج

عنها فهو من شرّ البرية، وأسوأ حالاً من الكلب والخنزير والحيوان البهيم"1. وهذا ما وضّحه شيخ الإسلام - رحمه الله - بقوله: "وليست حاجة أهل الأرض إلى الرسول كحاجتهم إلى الشمس والقمر والرياح والمطر، ولا كحاجة الإنسان إلى حياته، ولا كحاجة العين إلى ضوئها، والجسم إلى الطعام والشراب، بل أعظم من ذلك، وأشدّ حاجة من كلّ ما يقدّر ويخطر بالبال. فالرسل وسائط بين الله وبين خلقه في أمره ونهيه، وهم السفراء بينه وبين عباده"2. فاضطرار العباد إلى المرسلين لا يُعادله اضطرار، وحاجتهم إلى المبشرين والمنذرينلا تماثلها حاجة.. وللعلامة ابن القيم - رحمه الله - كلام نفيس يُشبه كلام شيخه شيخ الإسلام - رحمه الله - ولا عجب! فكلاهما يصدر عن مشكاة واحدة. يقول - رحمه الله: "فإنه لا سبيل إلى السعادة والفلاح لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا على أيدي الرسل، ولا سبيل إلى معرفة الطيب والخبيث على التفصيل إلا من جهتهم، ولا يُنال رضي الله البتة إلا على أيديهم. فالطيب من الأعمال والأقوال والأخلاق ليس إلا هديهم وما جاؤوا به؛ فهم الميزان الراجح الذي على أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم توزن الأقوال والأخلاق والأعمال، وبمتابعتهم يتميّز أهل الهدى من أهل الضلال. فالضرورة إليهم أعظم من ضرورة البدن إلى روحه، والعين إلى نورها، والروح إلى حياتها. فأي ضرورة وحاجة فرضت فضرورة العبد وحاجته إلى الرسل فوقها بكثير.

_ 1 مجموع الفتاوى 19/99-100. 2 مجموع الفتاوى 19/101.

وما ظنّك بمن إذا غاب عنك هديه وما جاء به طرفة عين، فسد قلبك، وصار كالحوت إذا فارق الماء ووضع في المقلاة. فحال العبد عند مفارقة قلبه لما جاء به الرسل كهذه الحال، بل أعظم، ولكن لا يحسّ بهذا إلا قلب حيّ. وما لجرحٍ بميتٍ إيلام 1.

_ 1 زاد المعاد 1/69.

المطلب الثالث: وظائف الرسل

المطلب الثالث: وظائف الرسل. للرسل عليهم الصلاة والسلام وظائف كثيرة، أُجمل بعضها في النقاط التالية: 1- غايتهم العظمى، ووظيفتهم الكبرى، وهدفهم الأسمى: دعوة الناس إلى عبادة الله وحده، وخلع عبادة ما سواه. قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل، 36] . وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء 25] . 2- تبليغ الشريعة الربانيّة إلى الناس. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة، 67] . 3- تبيين ما أُنزل من الدين. قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل، 44] .

4- دلالة الأمة إلى الخير وتبشيرهم بالثواب المعدّ إن فعلوه، وتحذيرهم من الشرّ وإنذارهم بالعقاب المعدّ إن اقترفوه. قال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} [النساء، 165] . 5- إصلاح الناس بالقدوة الطيبة، والأسوة الحسنة في الأقوال والأعمال. قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام، 90] . وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب، 21] . 6- إقامة شرع الله بين العباد وتطبيقه. قال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة، 49] . 7- شهادة الرسل على أممهم يوم القيامة بأنّهم قد بلّغوهم البلاغ المبين. قال تعالى: {ويوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل، 89] . وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة، 143] . فهذه بعض وظائف المرسلين، التي تزيدهم شرفاً إلى شرفهم، وفضلاً إلى فضلهم، ويكفيهم فخراً أنّهم يُبلّغون عن ربّ العالمين. فسبحان من خصهم بهذه الرتبة العليَّة، ومنحهم هذه الوظيفة السنيَّة، واصطفاهم واختارهم من بين سائر عباده، ليقوموا بهذه الخدمة المرضيَّة.

المطلب الرابع: أقوال الناس في النبوة

المطلب الرابع: أقوال الناس في النبوة: تنوعت أقوال الناس في النبوة أولاً: قول أهل السنة والجماعة: وقالوا: إنّ النبيّ يختصّ بصفات ميّزه الله بها على غيره، وبصفات فضّله بها بعد البعثة لم تكن موجودة فيه من قبل. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله: "والله سبحانه قد أخبر أنه يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس. والاصطفاء: افتعال من التصفية، كما أن الاختيار: افتعال من الخيرة، فيختار من يكون مصطفى. وقد قال: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام، 124] ، فهو أعلم بمن يجعله رسولاً ممّن لم يجعله رسولاً. ولو كان كلّ الناس يصلح للرسالة لامتنع هذا. وهو عالم بتعيين الرسول، وأنه أحقّ من غيره بالرسالة، كما دلّ القرآن على ذلك ... - إلى أن قال: والله سبحانه اتخذ رسولاً فضّله بصفات أخرى لم تكن موجودة فيه من قبل إرساله، كما كان يظهر لكلّ من رأى موسى وعيسى ومحمداً من أحوالهم وصفاتهم بعد النبوة، وتلك الصفات غير الوحي الذي ينزل عليهم، فلا يقال إن النبوة مجرّد صفة إضافية كأحكام الأفعال كما تقوله الجهمية"1.

_ 1 منهاج السنة النبوية 5/437-439.

وقال - رحمه الله - في موضع آخر: "الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس، والله أعلم حيث يجعل رسالته، فالنبيّ يختص بصفات ميّزه الله بها على غيره، وفي عقله ودينه، واستعدّ بها لأنيخصه الله بفضله ورحمته، كما قال تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف، 31] "1. ثانياً: النبوة عند الجهمية والأشاعرة: جوّز الجهمية والأشاعرة بعثة كلّ مكلّف، بناءً على أصلهم: إنّ الله يجوز أن يفعل كلّ ممكن. ولكنّهم قيّدوا إطلاقهم هذا بقولهم: إنّ النبيّ لا يكون فاجراً. وهذا - أي: كون النبيّ غير فاجر - عندهم لم يُعلم بالعقل - على حدّ زعمهم -بل عُلم بالسمع2. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله: "فهؤلاء يُجوّزون بعثة كلّ مكلّف، والنبوّة عندهم مجرّد إعلامه بما أوحاه إليه. والرسالة مجرّد أمره بتبليغ ما أوحاه إليه. وليست النبوة عندهم صفة ثبوتية، ولا مستلزمة لصفة يختصّ بها، بل هي من الصفات الإضافية، كما يقولون مثل ذلك في الأحكام الشرعية"3. قال الشهرستاني - وهو من كبار علماء الأشاعرة: "النبوة ليست صفة راجعة إلى نفس النبيّ، ولا درجة يبلغ إليها أحدٌ بعلمه ... "4.

_ 1 منهاج السنة النبوية 2/416. 2 انظر: منهاج السنة النبوية 2/419. 3 منهاج السنة النبوية 2/414. 4 نهاية الإقدام في علم الكلام للشهرستاني ص 462. وانظر: قانون التأويل لابن العربي - قسم الدراسة -: ص 348.

وقال سيف الدين الآمدي - وهو من كبار علمائهم أيضاً: "وليست النبوة هي معنى يعود إلى ذات من ذاتيات النبيّ، ولا إلى عرض من أعراضه استحقها بكسبه وعلمه.."1. فليست النبوة إذاً عند الأشاعرة صفة ثبوتيّة، كما نصّ على ذلك شيخ الإسلام رحمه الله، وكما تقدّم من كلام بعض أئمتهم. وهم - أعني: الأشاعرة لم يُميّزوا بين معجزات الأنبياء وكرامات أتباعهم، وبين خوارق السحرة والكهان. قال شيخ الإسلام - رحمه الله - عنهم: "وقالوا: وخوارق الأنبياء يظهر مثلها على يد الساحر والكاهن والصالح، ولا يدلّ على النبوة، لأنه لم يدّعيها. قالوا: ولو ادّعى النبوة أحدٌ من أهل الخوارق مع كذبه، لم يكن بُدّ من أنّ الله يعجزه عنها، فلا يخلقها على يده، أو يقيّض له من يُعارضه فتبطل حجّته"2. وقال - رحمه الله: "ولهذا يقيم أكابر فضلائهم مدة يطلبون الفرق بين المعجزات والسحر، فلا يجدون فرقاً؛ إذ لا فرق عندهم في نفس الأمر. والتحقيق: أن آيات الأنبياء مستلزمة للنبوة، ولصدق الخبر بالنبوة، فلا يوجد إلا مع الشهادة للرسول بأنه رسول، لا يوجد مع التكذيب بذلك"3. مع أنّ التمييز بين ما للأنبياء وأتباعهم، وبين ما للسحرة والكهان ومن على شاكلتهم، من أشرف العلوم. إلا أنّهم لم يُوفّقوا في هذا الباب.

_ 1 غاية المرام في علم الكلام للآمدي ص 317. 2 النبوات ص 588. وانظر المصدر نفسه 731-735، 946-951، 1146-1152. 3 النبوات ص 956-959. وانظر: منهاج السنة النبوية 5/436-439. وشرح الأصفهانية 2/543. وكتاب الصفدية 1/225-229.

ثالثاً: النبوة عند المعتزلة والشيعة: يذهب المعتزلة إلى أنّ إرسال الرسل واجبٌ على الله - سبحانه وتعالى - بناءً على أصلهم في التحسين والتقبيح العقليين. ولذلك يقول القاضي عبد الجبار المعتزلي: "قال مشيختنا: إن البعثة متى حسنت وجبت" 1. وقد ردّ عليهم شيخ الإسلام - رحمه الله - وبيَّن أنّ إرسال الله تعالى لرسله هو بفضله سبحانه. وكما أن هدايته لهم بفضله، فكذلك الثواب والجزاء هو بمنته وفضله، وإن كان أوجب ذلك على نفسه، كما حرّم الظلم عليها. قال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام، 54] ، وقال تعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم، 47] . فهو واقع لا محالة، وواجب بحكم إيجابه ووعده؛ لأنّ الخلق لا يوجبون على الله شيئاً، أو يُحرّمون عليه شيئاً، بل هم أعجز من ذلك، وأقلّ من ذلك، وكلّ نعمة منه فضل، وكلّ نقمة منه عدل2. أمّا عن موقف المعتزلة من النبوّة: هل هي صفة ثابتة قائمة بنفس النبيّ، أو صفة إضافية؟ فيُؤكّد شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أنّهم يجعلونها صفة ثبوتية. يقول شيخ الإسلام - رحمه الله: "وكثير من القدرية المعتزلة والشيعة وغيرهم من يقول بأصله في التعديل والتجوير، وأنّ الله لا يُفضّل شخصاً على شخص إلا بعمله، يقول: إنّ النبوّة، أو الرسالة جزاء على عمل متقدّم؛ فالنبيّ فَعَلَ من الأعمال الصالحة ما استحقّ به أن يجزيه الله بالنبوة" 3.

_ 1 شرح الأصول الخمسة لعبد الجبار ص 564. 2 انظر مجموع الفتاوى 8/72-73. 3 منهاج السنة النبوية 2/415.

ويحكي - رحمه الله - قولهم عن النبوة: أن "صفاتها ثابتة بدون الخطاب، والخطاب مجرّد كاشف بمنزلة الذي يُخبر عن الشمس والقمر والكواكب بما هي متصفة به" 1. رابعاً: النبوة عند المتفلسفة وصوفيتهم: أبعد المتفلسفة وصوفيتهم النجعة في هذا الباب، وانزلقوا منزلقاً خطيراً حين زعموا أنّ النبوّة فيضٌ يفيض على الإنسان بحسب استعداده، ونفوا أن ينزل المَلَك بالوحي على النبيّ، وزعموا أنّه مجرّد خطاب يسمعه الشخص، كما يسمع النائم الخطاب. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله: "وأما المتفلسفة القائلون بقدم العالم وصدوره عن علة موجبة، مع إنكارهم أن الله - تعالى - يفعل بقدرته ومشيئته، وأنه يعلم الجزئيّات، فالنبوة عندهم: فيضٌ يفيض على الإنسان بحسب استعداده، وهي مكتسبة عندهم. ومن كان متميّزاً في قوته العلمية بحيث يستغني عن التعليم، وشُكِّل في نفسه خطاب يسمعه كما يسمع النائم، وشخص يُخاطبه كما يخاطب النائم - وفي العملية - بحيث يؤثر في العنصريات تأثيراً غريباً - كان نبيّاً عندهم. وهم لا يُثبتون ملكاً مفضلاً يأتي بالوحي من الله - تعالى - ولا ملائكة، بل ولا جناً يخرق الله بهم العادات للأنبياء إلا قوى النفس. وقول هؤلاء وإن كان شراً من أقوال كفار اليهود والنصارى، وهو أبعد الأقوال عما جاءت به الرسل، فقد وقع فيه كثير من المتأخرين الذين لم يُشرق عليهم نور النبوة من المدّعين للنظر العقليّ، والكشف الخيالي الصوفي، وإن كان غاية هؤلاء

_ 1 منهاج السنة النبوية 5/437. وانظر الصفدية 1/225.

الأقيسة الفاسدة، والشكّ، وغاية هؤلاء الخيالات الفاسدة والشطح"1. خامساً: النبوة عند الباطنية: اعتبر الباطنية النبوة نوعاً من أنواع السياسة العادلة التي وضعت لمصلحة العامة، مع عدم إيمانهم بأحوالها مطلقاً، بل آمنوا ببعض، وكذّبوا ببعض. يقول شيخ الإسلام - رحمه الله - عنهم: "يجعلون الملك بمنزلة المذاهب والسياسات التي يسوغ اتّباعها، وأن النبوة نوع من السياسة العادلة التي وضعت لمصلحة العامة في الدنيا. فإنّ هذا الصنف يكثرون ويظهرون إذا كثرت الجاهلية وأهلها، ولم يكن هناك من أهل العلم بالنبوة والمتابعة لها من يُظهر أنوارها الماحية لظلمة الضلال، ويكشف ما في خلافها من الإفك والشرك والمحال. وهؤلاء يُكذّبون بالنبوة تكذيباً مطلقاً، بل هم يؤمنون ببعض أحوالها، ويكفرون ببعض الأحوال. وهم متفاوتون فيما يؤمنون به، ويكفرون به من تلك الخلال، فلهذا يلتبس أمرهم بسبب تعظيمهم للنبوات على كثير من أهل الجهالات" 2. ولا ريب أنّ بُعد هذه الفرق عن الصواب، وكثرة اختلافها، يتناسب طرداً مع بعدها عن كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم. فكلّما كانت الفرقة إلى الكتاب والسنة أقرب، كان الصواب فيها أكثر. وكلّما كانت الفرقة عن الكتاب والسنة أبعد، كان الاختلاف فيها أكثر. فالكتاب والسنّة هما الضابط لذلك كلِّه.

_ 1 منهاج السنة النبوية 2/415-416. وانظر: المصدر نفسه 5/434- 435. ومجموع الفتاوى 11/607، 19/156. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 204. ودرء تعارض العقل والنقل 5/353، 10/204. 2 منهاج السنة النبوية 1/6.

وقد بيَّن شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - ذلك في كلمة رائعة قال فيها: "ولهذا كلّ طائفة كانت إلى النبوات أقرب، كانت أقلّ اختلافاً، وكلّما كثر بُعدها كثر اختلافها. فالمتفلسفة لما كانوا أبعد من أهل الكلام عن النبوات، كانوا أكثر اختلافاً؛ فإنّ لهم من الاختلاف في الطبيعيّات والرياضيّات ما لا يكاد يحصيه إلا الله. وأما اختلافهم في الإلهيات فأعظم. والشيعة لما كانوا من أجهل الطوائف المنسوبين إلى الملة، كانوا أكثر اختلافاً من جميع الطوائف. ثم المعتزلة أكثر اختلافاً من المثبتة للصفات والقدر. ثم المثبتة المتكلمون فيهم من الاختلاف ما لا يوجد في أهل العلم بالسنة المحضة والحديث وأقوال السلف؛ فإنّ هؤلاء أبعد الطوائف عن الاختلاف في أصولهم؛ لأنهم أكثر اعتصاماً بالكتاب والسنّة من غيرهم. وبطريقتهم تنحلّ الإشكالات الواردة على طريقة غيرهم" 1. وبيَّن - رحمه الله - هذه الحقيقة الثابتة في موضع آخر بقوله: "وإذا تدبّر العاقل، وجد الطوائف كلّها كلّما كانت الطائفة إلى الله ورسوله أقرب، كانت بالقرآن والحديث أعرف وأعظم عناية، وإذا كانت عن الله وعن رسوله أبعد، كانت عنهما أنأى، حتى تجد في أئمة علماء هؤلاء من لا يميز بين القرآن وغيره، بل ربما ذكرت عنده آية فقال: لا نسلّم صحة الحديث. وربما قال لقوله عليه السلام: كذا.. وتكون آية من كتاب الله. وقد بلغنا من ذلك عجائب، وما لم يبلغنا أكثر" 2.

_ 1 شرح الأصفهانية 2/379. 2 مجموع الفتاوى 4/96.

المطلب الخامس: الإيمان بالأنبياء من أركان الإيمان

المطلب الخامس: الإيمان بالأنبياء من أركان الإيمان: الإيمان بأنبياء الله ورسله ركنٌ من أركان الإيمان، فلا يتحقّق إيمان العبد حتى يؤمن بجميع الأنبياء، ويُصدّق بأنّ الله تعالى أرسلهم لهداية البشر، وإرشاد الخلق، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وأنّهم بلّغوا ما أُنزل إليهم من ربّهم البلاغ المبين، فبلّغوا الرسالة، وأدّوا الأمانة، ونصحوا الأمة، وجاهدوا في الله حقّ جهاده. قال الله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة، 285] . وقال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة، 177] . وفي الصحيح من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بارزاً للنّاس، إذ أتاه رجل وهو جبريل يمشي، فقال: يا رسول الله ما الإيمان؟ قال: " أن تؤمن بالله وملائكته ورسله ولقائه وتؤمن بالبعث الآخر" 1. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله: "ولا بُدّ في الإيمان أن يؤمن العبد بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ويؤمن بكلّ رسولٍ أرسله، وكلّ كتاب أنزله"2.

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} ومسلم في صحيحه 1/39، كتاب الإيمان، باب أركان الإيمان. 2 الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 77.

والإيمان بأنبياء الله تعالى لا يتمّ حتى يؤمن العبد بجميعهم من غير حصر، مَنْ قصّهم الله علينا، ومن لم يقصصهم؛ فقد أخبرنا جلّ وعلا أنّ هناك أنبياء لم يقصصهم علينا، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر، 78] . يقول شيخ الإسلام - رحمه الله: "فنؤمن بما سمّى الله في كتابه من رسله، ونؤمن بأن لله سواهم رسلاً وأنبياء لا يعلم أسماءهم إلا الذي أرسلهم، ونؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، وإيمانك به غير إيمانك بسائر الرسل؛ إيمانك بسائر الرسل: إقرارك بهم، وإيمانك بمحمد: إقرارك به وتصديقك إياه دائباً على ما جاء به، فإذا اتبعت ما جاء به أدّيت الفرائض، وأحللت الحلال، وحرّمت الحرام، ووقفت عند الشبهات، وسارعت في الخيرات"1. وقال - رحمه الله - أيضاً: "من أطاع رسولاً واحداً فقد أطاع جميع الرسل، ومن آمن بواحدٍ منهم فقد آمن بالجميع، ومن عصى واحداً منهم فقد عصى الجميع، ومن كذّب واحداً منهم فقد كذّب الجميع؛ لأنّ كلّ رسولٍ يُصدّق الآخر ويقول: إنه رسول صادق، ويأمر بطاعته. فمن كذّب رسولاً فقد كذّب الذي صدّقه، ومن عصاه فقد عصى من أمر بطاعته"2.

_ 1 مجموع الفتاوى 7/313. 2 مجموع الفتاوى 19/180. وانظر المصدر نفسه 19/185.

المطلب السادس: الإسلام دين جميع الأنبياء

المطلب السادس: الإسلام دين جميع الأنبياء: وكلّ واحد من الأنبياء والرسل عليهم السلام يقول لقومه: {اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [المؤمنون، 23] . فهم متفقون على الدعوة إلى التوحيد الخالص، والنهي عن الشرك. فالغاية التي بُعثوا من أجلها: إفراد الله تعالى بالعبادة، والنهي عن جميع الموبقات؛ من الكفر، والفسوق، والعصيان. والشرائع كلها تدعو إلى هذه الغاية العظيمة؛ إذ هي مهمة جميع الرسل، من لدن نوحٍ عليه السلام، إلى رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله: "فهذا دين الأولين والآخرين من الأنبياء وأتباعهم، هو دين الإسلام؛ وهو عبادة الله وحده لا شريك له. وعبادته تعالى في كلّ زمان ومكان بطاعة رسله - عليهم السلام - فلا يكون عابداً له من عبده بخلاف ما جاءت به رسله، كالذين قال فيهم: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى،21] . فلا يكون مؤمناً به إلا من عبده بطاعة رسله، ولا يكون مؤمناً به ولا عابداً له إلا من آمن بجميع رسله، وأطاع من أرسله إليه، فيطاع كل رسول إلى أن يأتي الذي بعده، فتكون الطاعة للرسول الثاني"1.

_ 1 الجواب الصحيح 1/83-84.

المطلب السابع: المعجزات

المطلب السابع: المعجزات: النبوة هي أصل المعجزة. والولاية هي أصل الكرامة. فلا تحصل المعجزة الخارقة للعادة - التي هي أصل الكرامة في الجنس - إلا مع النبوة الصادقة، كما أنّ الكرامة الخارقة للعادة لا تحصل للولي إلا بمتابعته لشرع نبيّه. فالمعجزة إذاً دليلٌ على النبوة الصادقة. والكرامة دليلٌ على صدق الشاهد بالنبوة الصادقة. وجامعهما: آية الله الخارقة الدالة على النبوة الصادقة. فهما من جنس واحدٍ. ولكن لا يلزم من هذا أن تكون المعجزة والكرامة متساويتين في الحدّ والحقيقة؛ فآيات الله لا يُحاط بها علماً، كما أنه - جلّ وعلا - لا يُحيطون به علماً إلا بما شاء سبحانه وتعالى. ومن آيات الله تعالى ما هي آيات كبرى، ومنها ما هي آيات صغرى. فالآيات الكبرى لا تكون إلا للأنبياء والمرسلين، وهي التي وجب على الناس الإيمان بمقتضاها، وهي التي يُطلق عليها اسم المعجزات. والآيات الصغرى لا تصل إلى درجة سابقتها، ولا تبلغ مبلغها في الحدّ ولا في الحقيقة، وهي التي يُطلق عليها اسم الكرامات. ولما كانت الآيات الكبرى والصغرى من جنس واحد، وكان من خواصهما خرق العادة، كان من الواجب أن يكون خرق العادة فيهما مخالفٌ لسنن الطبيعة، وخواص المادة، وقانون الأسباب والمسبّبات،

لا سيما في المعجزات التي هي الدلائل اليقينيّة على صدق الرسل؛ فإنّ رتبة الرسالة ذات شأن عظيم؛ إذ هي الواسطة بين الخالق والمخلوق، والعابد والمعبود، وعليها تترتب سعادة المصدّقين، وشقاوة المكذّبين في كلتا الدارين1. وفضل معرفة المعجزات، والتمييز بينها وبين ما للسحرة والكهان من الخوارق عظيم، وتعلّم ذلك من أشرف العلوم. يقول شيخ الإسلام - رحمه الله: "فإنّ الكلام في المعجزات وخصائصها، والفرق بينها وبين غيرها من أشرف العلوم، وأكثر أهل الكلام خلطوا فيه تخليطاً ليس هذا موضعه" 2. ويقول - رحمه الله: "الفرق بين النبيّ والساحر أعظم من الفرق بين الليل والنهار"3. ويقول - رحمه الله - أيضاً: "فهذا الموضوع من فهمه فهماً جيداً تبيَّن له الفرقان في هذا النوع؛ فإنّ كثيراً من الناس يصفها بأنها خوارق ومعجزات وعجائب، ونحو ذلك، ولا يُحقّق الفرق بين ما يجب أن يخرق عادته ومعجزه، ومن لا يجب أن يكون في حقه كذلك"4.

_ 1 انظر: خوارق العادات لعبد الرحمن إبراهيم الحميضي ص 5. وانظر: النبوات ص 636، 961-963، 1261، 1326. 2 قاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان ص 164. 3 النبوات ص 845. 4 النبوات ص 1020.

والمعجزات طريق من طرق إثبات الصانع، ومعرفة صدق الرسول، كما قال شيخ الإسلام - رحمه الله: "المعجزات قد يُعلم بها ثبوت الصانع وصدق الرسول معاً"1. ودلالتها على إثبات الصانع، وصدق الرسول تأتي بيِّنة واضحة في أحايين كثيرة. يقول شيخ الإسلام - رحمه الله: "إنّ دلائل النبوة من جنس دلائل الربوبية، فيها الظاهر والبيِّن لكلِّ أحد، كالحوادث المشهودة؛ فإنّ الخلق كلّهم محتاجون إلى الإقرار بالخالق والإقرار بالرسالة"2. ويقول - رحمه الله: "والكلام في النبوة فرعٌ على إثبات الحكمة التي يوجب فعل ما تقتضيه الحكمة، ويمتنع فعل ما تنفيه، فتقول: هو سبحانه وتعالى حكيمٌ يضع كلّ شيء في موضعه المناسب له، فلا يجوز عليه أن يُسوّي بين جنس الصادق والكاذب.."3. لذا وجبت العناية بمعرفة ذلك، والتفريق بين معجزات الأنبياء وكرامات الصالحين، وبين خوارق السحرة والكهان والمشعوذين.

_ 1 درء تعارض العقل والنقل 5/42. 2 الجواب الصحيح 5/435. 3 النبوات ص 1122.

المطلب الثامن: ما ألف في النبوات

المطلب الثامن: ما أُلِّف في النبوات: ألّف النّاس - في القديم والحديث - في النبوات، والكرامات، والرسل، والرسالات، ودلائل النبوات، وغير ذلك مما يتصل بموضوع النبوات الكتب الكثيرة. وها أنا ذا أذكر بعضاً منها. 1- ((البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات والحيل والكهانة والسحر والنارنجات)) : تأليف القاضي أبي بكر الباقلاني. 2- ((دلائل النبوة)) : تأليف إسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي الأصبهاني. 3- ((دلائل النبوة)) : تأليف أبي نعيم الأصبهاني. 4- ((دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة)) : تأليف أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي. 5- ((حياة الأنبياء صلوات الله عليهم بعد وفاتهم)) : تأليف البيهقي. تحقيق د/ أحمد بن عطية الغامدي. 6- ((دلائل النبوة)) : تأليف أبي بكر جعفر بن محمد الفريابي. 7- ((تثبيت دلائل النبوة)) : تأليف القاضي عبد الجبار الهمذاني. 8- ((إثبات النبوات)) : تأليف أبي يعقوب السجستاني. مخطوط، صورته في دار الكتب المصرية، برقم 26984 / ب علم الكلام. 9- ((الشفا بتعريف حقوق المصطفى)) : تأليف القاضي عياض اليحصبي. 10- ((عصمة الأنبياء)) : تأليف محمد بن عمر الفخر الرازي. 11- ((النبوات وما يتعلق بها)) : تأليف الفخر الرازي.

12- ((الصارم المسلول على شاتم الرسول)) : تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله. 13- ((المعجزة وكرامات الأولياء)) : تأليف شيخ الإسلام - رحمه الله. 14- ((أعلام النبوة)) : تأليف أبي الحسن علي بن محمد الماوردي. 15- ((تنزيه الأنبياء عن تسفيه الأغبياء)) : تأليف جلال الدين السيوطي. 16- ((تنزيه الأنبياء عما نسب إليهم حثالة الأغبياء)) : تأليف علي بن أحمد البستي الأموي، المعروف بابن حمير. 17- ((الدين والدولة في إثبات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم)) : تأليف علي بن زين الطبري. 18- ((الوحي المحمدي)) : تأليف محمد رشيد رضا. 19- ((الوحي المحمدي)) : تأليف محمود عبد الوهاب فايد. 20- ((ختم النبوة في ضوء القرآن والسنة)) : تأليف أبي الأعلى المودودي. 21- ((النبوة عند ابن تيمية ورده على المخالفين)) رسالة جامعية: تأليف سعيد إبراهيم مرعي خليفة. 22- ((النبوة والرسالة)) (رسالة جامعية) : إعداد مغفور عثمان. 23- ((خوارق العادات في القرآن الكريم)) رسالة جامعية: تأليف عبد الرحمن إبراهيم الحميضي. 24- ((حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته في ضوء الكتاب والسنة)) رسالة جامعية: تأليف محمد بن خليفة بن علي التميمي. 25- ((الأولياء والكرامات)) : تأليف أبي السمح محمد عبد الظاهر. 26- ((علامات النبوة)) : تأليف عبد الملك علي الكليب. 27- ((عقيدة ختم النبوة بالنبوة المحمدية)) : تأليف د/أحمد سعد حمدان الغامدي.

28- ((من معجزات الرسول)) : تأليف عبد العزيز المحمد السلمان. 29- ((النبوة والأنبياء في ضوء القرآن)) : تأليف أبي الحسن علي الحسني الندوي. 30- ((النبوة عند الفلاسفة الإسلاميين)) رسالة جامعية: تأليف أنور بن عيسى السليم. 31- ((دراسات في النبوة والرسالة)) : تأليف عبد العزيز بن إبراهيم العسكر. 32- ((الصحيح المسند من دلائل النبوة)) : تأليف مقبل بن هادي الوادعي. 33- ((دلائل النبوة المحمدية في ضوء المعارف الحديثة)) : تأليف محمود مهدي استانبولي. 34- ((مقارنة بين الغزالي وابن تيمية في النبوة)) : تأليف د/ محمد رشاد سالم. 35- ((نبوءات الرسول صلى الله عليه وسلم ما تحقق منها وما لم يتحقق)) : تأليف محمد ولي الله الندوي 36- ((نبوءات المصطفى)) : تأليف نشأت المصري. 37- ((النبأ العظيم)) : تأليف محمد عبد الله دراز. 38- ((نبوة محمد من الشك إلى اليقين)) : تأليف د/ فاضل السامرائي. 39- ((نبوة محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن)) : تأليف د/ حسن ضياء الدين عتر. 40- ((نظرات في النبوة)) : تأليف صلاح الدين محيميد. 41- ((آيات الإيمان بالرسل)) : تأليف عبد المنعم أحمد تعيلب. 42- ((بشارات الأنبياء بمحمد صلى الله عليه وسلم)) : تأليف عبد الوهاب عبد السلام طويلة. 43- ((البشارة بنبي الإسلام في التوراة والإنجيل)) : تأليف أحمد حجازي السقا. 44- ((بشائر النبوة الخاتمة)) : تأليف رؤوف شلبي. 45- ((بشرية المسيح ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم في نصوص كتب العهدين)) ردّ على شبه المنصرين والمستشرقين: تأليف أحمد محمد عبد القادر ملكاوي.

46- ((عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم)) : تأليف محمد أبو النور الحديدي. 47- ((النبوة والأنبياء)) : تأليف محمد علي الصابوني. 48- ((الرسل والرسالات)) : تأليف عمر سليمان الأشقر. 49- ((مع الأنبياء في القرآن الكريم)) : تأليف عفيف عبد الفتاح طبارة. 50- ((الإسلام ونبي الإسلام)) : تأليف محمد بن رزق الطرهوني. 51- ((الإيمان بالرسل عليهم الصلاة والسلام)) : تأليف أحمد عز الدين البيانوني. 52- ((أدعياء النبوة الكاذبة في الإسلام)) : تأليف يحيى محمد زاهر الحارثي. 53- ((أدعياء النبوة)) : تأليف سوسن الجبار. 54- ((خصائص المصطفى صلى الله عليه وسلم بين الغلو والجفاء)) : رسالة جامعية، تأليف الصادق محمد إبراهيم.

المبحث الثاني: التعريف بالمؤلف

المبحث الثاني: التعريف بالمؤلِّف. تاللهِ إنّ المرء ليستشعر نقصه، ويُدرك بُعد الغاية، وعلوّ النهاية، حين يُفكّر في الكتابة عن هذا العَلَم الشهير، والعالِم الكبير، والبطل النحرير. رجلٌ أشهر من نارٍ على علم، ومن المعلوم أنّ النار تخبو وتهمد، إلا أنّ نور هذا العلم يزداد ويتمدّد. رجلٌ جعل الله له ذكراً في العالمين، فأحبّه الأوّلون، واشتغل بعلمه الآخرون، وانشغل النّاس في الكتابة عنه، حتى لكأنّهم أدركوا أنّ ذكر النّاس لهم قرينٌ بذكره، فبلغ ما كُتب عنه أكثر من مائة كتاب، هذا ما عُلم1، أما ما لم يُعلم فعلمه عند ربّ العباد. والإنسان حين يُريد أن يكتب عن هذا الرجل يُقدّم رِجلاً، ويُؤخّر أخرى. فالرجل قمّة سامقة، وذروة شاهقة. فعن ماذا يكتب؟ أيكتب عن منهجه في تقرير عقيدة السلف والردّ على من خالفهم؟ أم يكتب عن جهاده وصبره ومصابرته؟

_ 1 ذكر الشيخ محمد إبراهيم الشيباني: ص (106) كتباً أُلِّفت في ترجمة شيخ الإسلام رحمه الله في القديم والحديث. انظر: ((أوراق مجموعة من حياة شيخ الإسلام)) ص 188-200.

أم يكتب عن جهوده في نشر الدعوة السلفية؟ أم..؟ أم..؟ ... ؟ موضوعات شتى يقف المرء أمامها متحيّراً. ولكن ما لا يُدرك كلّه، لا يُترك جُلُّه.. هذا على الرغم من كثرة من كتب عنه، وترجم له، ودرس جوانب حياته. وكما - أسلفتُ - لعلّ الحافز على الكتابة رغبتي في أن أُذكر معه، وأسأل ربي أن يحشرني معه.

المطلب الأول: حياة المؤلف الشخصية

المطلب الأول: حياة المؤلف الشخصية: وفيه مسائل: المسألة الأولى: اسمه ونسبه: هو شيخ الإسلام، وعلم الأعلام، تقي الدين، أبو العباس أحمد بن شهاب الدين أبي المحاسن عبد الحليم بن مجد الدين أبي البركات عبد السلام ابن أبي محمد عبد الله بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن الخضر بن علي ابن عبد الله بن تيمية الحراني النميري. فهو ينتسب إلى قبيلة عربية نِمْريّة؛ من بني نُمَيْر الذين يرجع نسبهم إلى قيس عيلان من مضر1. أما عن سبب تسمية عائلته بآل تيمية: فقد قيل إن جدّه محمد بن الخضر حجّ على درب تيماء، فرأى هناك طفلة، فلما رجع وجد امرأته قد ولدت له بنتاً، فقال يا تيمية، يا تيمية.

_ 1 انظر: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، للأتابكي: 1/271. وترجمة المؤلف لزهير شاويش، على هامش كتاب ((شرح حديث النزول)) ص 6، هامش 1.

وقيل إنّ أمّ جدّه محمدٍ كانت تُسمّى تيمية، وكانت واعظة، فنسب إليها، وعُرف بها1. المسألة الثانية: ولادته، ونشأته، وأسرته: وُلد شيخ الإسلام - رحمه الله - يوم الاثنين العاشر من ربيع الأول، وقيل: ثاني عشر من شهر ربيع الأول سنة 661? بحران2؛ وهي بلدة في الجزيرة بين العراق والشام3. وقد عاش شيخ الإسلام في مسقط رأسه مع والديه ست سنوات. وبعد اجتياح التتار للعالم الإسلامي، خربت حران، فهاجر أهلها، ومنهم آل تيمية إلى دمشق. ويُحدّثنا ابن عبد الهادي عن قصة سفر آل تيمية إلى دمشق، وحرصهم على العلم، ومحافظتهم على الكتب، فيقول: "فساروا بالليل ومعهم الكتب على عجلة لعدم الدواب، فكاد العدو يلحقهم، ووقفت العجلة، فابتهلوا إلى الله، واستغاثوا به، فنجوا وسلموا، وقدموا دمشق سنة 667?"4. وقد استوطنوا دمشق، واشتهرت عائلتهم بالعلم: فجدّه أبو البركات مجد الدين عبد السلام: كان فقيهاً محدثاً أصولياً نحوياً، من العلماء الأعلام5.

_ 1 انظر: العقود الدرية ص 2. 2 انظر: العقود الدرية ص 2. وكتاب الذيل لابن رجب 4/387. 3 انظر: معجم البلدان 2/235. 4 العقود الدرية ص 3. 5 ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 4/249.

ووالده شهاب الدين عبد الحليم: كان عالماً فاضلاً من علماء عصره1. قال عنه الحافظ الذهبي: "صار شيخ حران وحاكمها وخطيبها بعد موت والده"2. وذكر الحافظ ابن كثير: "أنّ له كرسياً للدراسة والتعليم والوعظ، وأنه تولى مشيخة دار الحديث السكرية، وبها كان سكنه، مات سنة 682"3. وأخوه شرف الدين عبد الله: كان من العلماء، وكان ممن دافع عن شيخ الإسلام، وامتحن بسببه4. وكذلك أخوه زين الدين عبد الرحمن: كان زاهداً عابداً، كما أنه كان تاجراً، وكان يخدم الشيخ - رحمه الله - وسجن معه في سجن القلعة5. وأخوه لأمه بدر الدين أبو القاسم محمد بن خالد الحراني: كان عالماً فقيهاً إماماً تولى التدريس عن أخيه تقي الدين6. وهناك العديد من مشاهير آل تيمية، من هذه الأسرة الكريمة التي عُرف عنها الاشتغال بالعلم رجالاً ونساءً7.

_ 1 المصدر نفسه 4/310. 2 العبر للذهبي 3/349-350. 3 البداية والنهاية لابن كثير 13/303. 4 انظر: العقود الدرية ص 361. وذيل الطبقات 2/382. 5 انظر: العقود الدرية ص 368. 6 انظر: ذيل طبقات الحنابلة 2/370. 7 انظر: أوراق مجموعة من حياة شيخ الإسلام، تأليف محمد بن إبراهيم الشيباني ص 14-22.

فشيخ الإسلام - رحمه الله - نشأ في وسط هذا الجوّ العلميّ؛ بين جدّ فقيه محدّث أصولي، ووالد صاحب علوم مختلفة ومعارف شتى، وإخوة اشتهروا بالفضل والعلم. فكان لهذا الجوّ العلميّ تأثيره على شخصيته العلمية، مع ما وهبه الله من حافظة قوية، وسرعة بديهة، وذكاء مفرط، ومحافظة على الوقت منذ نعومة أظفاره. المسألة الثالثة: صفاته الخَلقيّة: كان - رحمه الله تعالى - أبيض اللون، أسود الرأس واللحية، قليل الشيب، شعره إلى شحمة أذنيه، كأنّ عينيه لسانان ناطقان، ربعة من الرجال، بعيد ما بين المنكبين، جهوري الصوت، فصيحاً، سريع القراءة، تعتريه حدّة لكن يقهرها بالحلم1. المسألة الرابعة: صفاته الخُلُقيّة: اتصف شيخ الإسلام - رحمه الله - بصفات عظيمة؛ من الأخلاق، والمروءة، والكرم، والإيثار، والحلم، والتعبّد، والزهد، وصدق الصلة بالله، فلم يكن يخاف من غيره، أو يرهب من سواه. قال الحافظ الذهبي - رحمه الله - عنه: "كان إماماً متبحراً في علوم الديانة، صحيح الذهن، سريع الإدراك، سيّال الفهم، كثير المحاسن، موصوفاً بفرط الشجاعة والكرم، فارغاً عن شهوات المأكل والملبس والجماع، لا لذة له في غير نشر العلم وتدوينه والعمل بمقتضاه"2.

_ 1 كتاب الذيل 2/395. وأوراق مجموعة من حياة شيخ الإسلام ص 26. 2 كتاب ذيل طبقات الحنابلة 2/390 ط. ابن رجب.

وقال الحافظ الذهبي أيضاً: "كان محافظاً على الصلاة والصوم، معظماً للشرائع ظاهراً وباطناً، لا يؤتى من سوء فهم؛ فإنّ له الذكاء المفرط، ولا من قلة علم؛ فإنه بحر زخار، ولا كان متلاعباً بالدين، ولا ينفرد بمسائله بالتشهي، ولا يطلق لسانه بما اتفق، بل يحتج بالقرآن والحديث والقياس، ويبرهن، ويناظر أسوة بمن تقدمه من الأئمة، فله أجرٌ على أخطائه، وأجران على إصابته. لم أرَ مثله في ابتهاله واستغاثته، وكثرة توجهه ... وإنه بحر لا ساحل له، وكنز لا نظير له، ولكن ينقمون عليه أخلاقاً وأفعالاً، وكل أحدٍ يُؤخذ من قوله ويترك.."1. وقال أيضاً: "وهو ثابت لا يداهن ولا يحابي، بل يقول الحق المر الذي أدّاه إليه اجتهاده، وحدّة ذهنه، وسعة دائرته في السنن والأقوال. مع ما اشتهر عنه من الورع، وكمال الفكرة، وسرعة الإدراك، والخوف من الله، والتعظيم لحرمات الله ... فجرى بينه وبينهم حملات حربية، ووقائع شامية ومصرية، وكم من نوبة قد رموه عن قوس واحد، فيُنجّيه الله، فإنه دائم الابتهال لله، كثير الاستغاثة، قوي التوكّل، ثابت الجأش، له أوراد وأذكار يدعو منها بكيفية وجَعِيَّة"2. وقد كان - رحمه الله - صبوراً على مُرّ الكلام، عدلاً في المخاطبة.. يقول عن نفسه: "فإنّ الناس يعلمون أنّي من أطول الناس روحاً وصبراً على مرّ الكلام، وأعظم الناس عدلاً في المخاطبة لأقلّ الناس، دع لولاة الأمر"3.

_ 1 نقلاً عن أوراق مجموعة من حياة شيخ الإسلام ص 26-27. 2 العقود الدرية ص 118. 3 مجموع الفتاوى 3/251.

أما عن شدّة ذكائه، واتقاد حافظته، فقد قال جمال الدين السرمري في أماليه: "ومن عجائب زماننا في الحفظ: ابن تيمية، كان يمرّ بالكتاب مرة مطالعة، فينقش في ذهنه، وينقله من مصنفاته بلفظه ومعناه. وحكى بعضهم عنه أنه قال: من سألني مستفيداً حققت له، ومن سألني متعنتاً ناقضته، فلا يلبث أن ينقطع فأُكفى مؤنته"1. ومن أقواله - رحمه الله تعالى -: "لن يخاف الرجل غير الله إلا لمرض في قلبه؛ فإن رجلاً شكى إلى أحمد بن حنبل خوفه من بعض الولاة، فقال: لو صَحَحْتَ لم تخف أحداً؛ أي خوفك من أجل زوال الصحة من قلبك". ولما وُشي به إلى السلطان الناصر خاطبه قائلاً: إنني أُخبرتُ أنك قد أطاعك الناس، وأن في نفسك أخذ الملك، فلم يكترث به. بل قال له بنفس مطمئنة، وقلب ثابت، وصوت عال سمعه كثير ممن حضر: "أنا أفعل ذلك! والله إنّ ملكك وملك المغل2 لا يُساوي عندي فلسين". فتبسّم السلطان لذلك، وأجابه في مقابلته بما أوقع الله له في قلبه من الهيبة العظيمة: إنك والله لصادق، وإن الذي وشي بك إليّ كاذب3.

_ 1 البدر الطالع 1/70. 2 المغل: هم المغول: قوم من أطراف الصين يسكنون جبال طمغاج من الصين، ملكوا أكثر المعمور من الأرض وأطيبه وأحسنه عمارة وأكثره أهلاً وأعدلهم أخلاقاً وسيرة. في نحو سنة 616? خرجوا بقيادة ملكهم جنكيز خان فملكوا من أقصى بلاد الصين إلى أن وصلوا إلى بلاد العراق وما حولها، حتى انتهوا إلى إربل وأعمالها فملكوا في سنة واحدة سنة 617?. وهم يسجدون للشمس إذا طلعت ولا يحرّمون شيئاً ويأكلون ما يجدونه من الحيوانات والميتات. وضع لهم جنكيز خان السياسات التي يتحاكمون إليها ويحكمون بها، وأكثرها مخالف لشرائع الله تعالى وكتبه، وهو شيء اقترحه من عند نفسه، وتبعوه في ذلك. انظر: البداية والنهاية 13/90، 94-95، 127. 3 الأعلام العلية للبزار ص 74-75.

ولمّا خُوّف - رحمه الله - قال: "أنا من أي شيء أخاف؟ فإن قتلت كنت من أفضل الشهداء، وكان ذلك سعادة في حقي، يترضى بها عليّ إلى يوم القيامة، ويلعن الساعي في ذلك إلى يوم القيامة؛ فإنّ جميع أمّة محمد يعلمون أني أقتل على الحق الذي بعث الله به رسوله. وإن حبست فوالله إن حبسي لمن أعظم نعم الله عليّ. وليس لي ما أخاف الناس عليه؛ لا مدرسة، ولا إقطاع، ولا مال، ولا رئاسة، ولا شيء من الأشياء"1. وكان - رحمه الله - من أشجع الناس، وأقواهم قلباً، فما رُؤي أحد أثبت جأشاً منه، ولا أعظم عناء في جهاد العدو منه، كان يُجاهد في سبيل الله بقلبه ولسانه ويده، ولا يخاف لومة لائم2. قال الذهبي عن شجاعته: "وأما شجاعته فبها تضرب الأمثال، وببعضها يتشبه أكابر الأبطال، فلقد أقامه الله في نَوْبَةِ غَازان3، والتقى أعباء الأمر بنفسه، وقام وقعد، وطلع وخرج، واجتمع بالملك مرتين،

_ 1 مجموع الفتاوى 3/259. 2 انظر: الأعلام العلية ص 69. 3 هو ملك التتار، واسمه محمود بن أرغون بن أبغا بن هولاكو بن تولى بن جنكيز خان. تولى الملك على التتار سنة 694? فأسلم على يد الأمير توزون وأظهر الإسلام ودخلت التتار أو أكثرهم في الإسلام، وتسمى بمحمود وشهد الجمعة والخطبة وخرّب كنائس كثيرة وضرب عليهم الجزية ورد مظالم كثيرة ببغداد وغيرها من البلاد. ثم قتل قازان الأمير نوروز!!! الذي كان إسلامه على يديه وقتل جميع من ينتسب إليه وهو من خيار أمراء التتار. وقد كسر المسلمين عند وادي مسلمية وولى السلطان هارباً فولى المسلمون لا يلوون على أحد فاجتمع أعيان دمشق على أخذ الأمان منه لأهل دمشق فاجتمعوا به عند النبك وكلّمه الشيخ تقي الدين كلاماً قوياً شديداً فيه مصلحة عظيمة عاد نفعها على المسلمين ولله الحمد. وقد توفي قازان سنة 703? بالقرب من همدان، وقام بالملك من بعده أخوه خربندا. انظر: البداية والنهاية 13/360، 372،، 14/8، 30.

وبقَطْلوشاه1 وببُولاي2. وكان قَبْجَق3 يتعجب من إقدامه وجرأته على المغول. وله حدّة قوية تعتريه في البحث، حتى كأنه ليث حرب"4. وقال عنه ابن عبد الهادي: "ولقد أخبرني حاجب من الحجاب الشاميين؛ أمير من أمرائهم ذو دين متين، وصدق لهجة معروف في الدولة قال: قال لي الشيخ يوم اللقاء ونحن بمرج الصُّفَّر5 وقد تراءى الجمعان:

_ 1 هو نائب قازان. وهو من التتر. انظر: البداية والنهاية 14/10. 2 من أمراء التتر الذين عاثوا في الأرض فساداً بعد وقعة قازان. قال ابن كثير: (خرج الشيخ تقي الدين ابن تيمية إلى مخيم بولاي فاجتمع به في فكاك من كان معه من أسارى المسلمين فاستنقذ كثيراً منهم من أيديهم وأقام عنده ثلاثة أيام ثم عاد ثم راح إليه جماعة من أعيان دمشق ثم عادوا من عنده فشلحوا عند باب شرقي وأخذ ثيابهم وعمائمهم ورجعوا في شر حالة ثم بعث في طلبهم فاختفى أكثرهم وتغيبوا عنه) . البداية والنهاية 14/11-12. 3 هو الأمير سيف الدين قبجق المنصوري نائب السلطان على دمشق سنة 696?. وفي سنة 698? فرّ إلى المغول ولحق بهم في أيام لاجين خوفاً منه بعد وقعة قازان ودخول التتر دمشق. فجعله قازان نائباً له على الشام، ثمّ تركها لما رحل قازان عن دمشق، ثم استناب على حماة ثم حلب للملك الناصر نحمد بن المنصور قلاوون. وكان على يديه فرج المسلمين عام قازان. مات بحلب وهو وال عليها. ودفن بحماة سنة 710?. انظر: البداية والنهاية 13/369،، 14/3-4، 8-12، 30، 62. 4 العقود الدرية ص 118. وانظر: البداية والنهاية 14/92. 5 هو أرض واسعة في دمشق فيها نبت كثير تمرج فيها الدواب. له ذكر في فتوح خالد بن الوليد لدمشق، كان فيه موقعة عظيمة مع الروم، وصارت فيه وقعة شقجب بين المسلمين والتتر، وانتصر فيها المسلمون سنة 702?. وحضرها شيخ الإسلام رحمه الله وجاهد فيها مع أصحابه بسيفه، وكان رحمه الله يحلف للأمراء والناس أنهم في هذه الكرة منصورون، فيقول له الأمراء: قل إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً. انظر: البداية والنهاية 14/25-27. ومعجم البلدان 5/101. وحاشية كتاب العقود الدرية ص 176.

يا فلان أوقفني موقف الموت. قال: فسقته إلى مقابلة العدو وهم منحدرون كالسيل تلوح أسلحتهم من تحت الغبار المنعقد عليهم. ثم قلت: يا سيدي هذا موقف الموت، وهذا العدو قد أقبل تحت هذه الغبرة المنعقدة، فدونك وما تريد. قال: فرفع طرفه إلى السماء، وأشخص ببصره، وحرك شفتيه طويلاً، ثم انبعث وأقدم على القتال ... ثم حال القتال بيننا والالتحام، وما عدت رأيته حتى فتح الله ونصر"1. وأما عن إيثاره غيره على نفسه، مع فقره: فيقول تلميذه البزار - رحمه الله - عن ذلك: "كان - رضي الله عنه - مع شدة تركه للدنيا، ورفضه لها، وفقره فيها، وتقلله منها، مؤثراً بما عساه يجده منها، قليلاً كان أو كثيراً، جليلاً أو حقيراً، لا يحتقر القليل فيمنعه ذلك عن التصدق به، ولا الكثير فيصرفه النظر إليه عن الإسعاف به. فقد كان يتصدّق حتى إذا لم يجد شيئاً نزع بعض ثيابه المحتاج إليه فيصل به الفقير، وكان يستفضل من قوته القليل الرغيف والرغيفين فيؤثر بذلك على نفسه. وربّما خبّأها في كمّه. ويمضي ونحن معه لسماع الحديث، فيراه بعضنا وقد دفعه إلى فقير، مستخفينا، يحرص أن لا يراه أحد.. وكان إذا ورد عليه فقير وآثر المقام عنده يؤثره عند الأكل بأكثر قوته الذي جعل برسمه"2. وأما هيئته ولباسه: فقد كان - رضي الله عنه - متوسطاً في لباسه وهيئته، لا يلبس فاخر الثياب بحيث يرمق ويُمدّ النظر إليه، ولا أطماراً أو ثياب غليظة تُشهر حال لابسها، ولا يُميّز عن عامة الناس بصفة خاصة يراه الناس فيها من عالم وعابد.

_ 1 العقود الدرية ص 177-178. 2 الأعلام العلية ص 50.

بل كان لباسه وهيئته كغالب الناس ومتوسطهم. ولم يكن يلزم نوعاً واحداً من اللباس فلا يلبس غيره، بل كان يلبس ما اتفق وحصل، ويأكل ما حضر. وكانت بذاذة الإيمان عليه ظاهرة، لا يُرى متصفاً في عمامة، ولا لباس، ولا مشية، ولا قيام، ولا جلوس، ولا يتهيّأ لأحد يلقاه، ولا لمن يرد عليه من بلد1. وأما كرمه: فقد كان مجبولاً على الكرم، لا يتطبعه، ولا يتصنعه، بل هو له سجية. وما شدّ على دينار ولا درهم قطّ بل كان مهما قدر على شيء من ذلك يجود به كله. وكان لا يردّ من يسأله شيئاً يقدر عليه من دراهم، ولا دنانير، ولا ثياب، ولا كتب، ولا غير ذلك. وكان - رحمه الله - لا يردّ أحداً يسأله شيئاً من كتبه، بل يأمره أن يأخذ هو بنفسه ما يشاء منها. وكان يُنكر إنكاراً شديداً على من يسأل شيئاً من كتب العلم التي يملكها ويمنعها من السائل، ويقول: ما ينبغي أن يمنع العلم ممن يطلبه2. أما عفوه عمّن ظلمه، ومسامحته لمن عاداه، حتى بعد القدرة عليه: فقد قال تلميذه ابن عبد الهادي - رحمه الله: "سمعت الشيخ تقي الدين ابن تيمية - رحمه الله - يذكر أن السلطان لما جلس بالشباك، أخرج من جيبه فتاوى لبعض الحاضرين في قتله، واستفتاه في قتل بعضهم. قال: ففهمت مقصوده، وأن عنده حنقاً شديداً عليهم لما خلعوه وبايعوا الملك المظفر

_ 1 انظر في هيئته ولباسه: الأعلام العلية ص 55. 2 انظر: الأعلام العلية ص 65.

ركن الدين بيبرس الجاشنكير. فشرعتُ في مدحهم، والثناء عليهم، وشكرهم، وأنّ هؤلاء لو ذهبوا لم تجد مثلهم في دولتك. أما أنا فهم في حلّ من حقي، ومن جهتي، وسكّنتُ ما عنده عليهم. قال: فكان القاضي زين الدين ابن مخلوف قاضي المالكية يقول بعد ذلك: ما رأينا أتقى من ابن تيمية، لم نبق ممكناً في السعي فيه، ولما قدر علينا عفا عنّا"1. ولعلّ ابن مخلوف هذا هو الذي كنّى عنه ابن كثير ب"أحد خصوم شيخ الإسلام) ، ونقل قوله عن شيخ الإسلام - رحمه الله: "ما رأينا مثل ابن تيمية، حرّضنا عليه، فلم نقدر عليه، وقدر علينا، فصفح عنّا وحاجج عنّا"2. وقال الشيخ - رحمه الله - قبيل وفاته للوزير، لما اعتذر إليه عن نفسه، والتمس منه أن يعفو عما بدر منه في حقه من تقصير أو غيره: "إني قد أحللتك وجميع من عاداني وهو لا يعلم أني على الحقّ ... وقال ما معناه: إني قد أحللت السلطان الملك الناصر من حبسه إياي لكونه فعل ذلك مقلداً غيره معذوراً، ولم يفعله لحظ نفسه، بل لِمَا بلغه مما ظنه حقاً من مبلغه، والله يعلم أنه بخلافه. وقد أحللتُ كلّ واحدٍ مما كان بيني وبينه، إلا من كان عدواً لله ورسوله"3.

_ 1 العقود الدرية ص 282-283. 2 البداية والنهاية 14/54، وكذا (حاجج) في الأصل، والقياس: (حاج) . 3 الأعلام العلية ص 83-84.

المطلب الثاني: حياة المؤلف العلمية

المطلب الثاني: حياة المؤلف العلمية. وفيه مسائل: المسألة الأولى: نشأته العلمية: يُحدّثنا ثلاثة من تلاميذ الشيخ - رحمه الله - عن جدّه واجتهاده في طلب العلم، وحرصه عليه. فيقول تلميذه البزار - رحمه الله: "ولم يزل منذ إبان صغره مستغرق الأوقات في الجدّ والاجتهاد. وختم القرآن صغيراً، ثم انشغل بحفظ الحديث والفقه والعربية حتى برع في ذلك، مع ملازمة مجالس الذكر، وسماع الأحاديث والآثار. ولقد سمع غير كتاب عن غير شيخ من ذوي الروايات الصحيحة. أما دواوين الإسلام الكبار ك ((مسند أحمد)) و ((صحيح البخاري)) ، ومسلم، و ((جامع الترمذي)) ، و ((سنن أبي داود السجستاني)) ، والنسائي، وابن ماجه، والدارقطني؛ فإنه - رحمه الله ورضي عنهم وعنه - سمع كل واحد منها عدّة مرات. وأول كتاب حفظه في الحديث ((الجمع بين الصحيحين)) للإمام الحميدي. وقلّ كتاب من فنون العلم إلا وقف عليه، وكان الله قد خصّه بسرعة الحفظ، وإبطاء النسيان، لم يكن يقف على شيء، أو يستمع لشيء غالباً إلا ويبقى على خاطره؛ إما بلفظه أو معناه. وكان العلم كأنه قد اختلط بلحمه ودمه وسائره.."1 وقال تلميذه ابن عبد الهادي - رحمه الله: "..وشيوخه الذين سمع منهم أكثر من مائتي شيخ. وسمع ((مسند الإمام أحمد بن حنبل)) مرات، وسمع

_ 1 الأعلام العلية ص 19-20.

الكتب الستة الكبار، والأجزاء، ومن مسموعاته: ((معجم الطبراني الكبير)) . وعني بالحديث، وقرأ، ونسخ، وتعلم الخط والحساب في المكتب، وحفظ القرآن، وأقبل على الفقه، وقرأ العربية على ابن عبد القوي، ثم فهمها، وأخذ يتأمّل كتاب سيبويه حتى فهم في النحو، وأقبل على التفسير إقبالاً كليّاً حتى حاز فيه قصب السبق، وأحكم أصول الفقه وغير ذلك.. هذا كله وهو بعد ابن بضع عشرة سنة. فانبهر أهل دمشق من فرط ذكائه، وسيلان ذهنه، وقوة حافظته، وسرعة إدراكه"1. وقال تلميذه الحافظ الذهبي - رحمه الله: "نشأ - يعني الشيخ تقي الدين رحمه الله - في تصون تام، وعفاف، وتألّه وتعبّد، واقتصاد في الملبس والمأكل. وكان يحضر المدارس والمحافل في صغره، ويناظر ويفحم الكبار، ويأتي بما يتحيّر منه أعيان البلد في العلم. فأفتى وله تسع عشرة سنة، بل أقلّ. وشرع في الجمع والتأليف من ذلك الوقت، وأكبّ على الاشتغال، ومات والده، وكان من كبار الحنابلة وأئمتهم، فدرس بعده وظائفه وله إحدى وعشرون سنة. واشتهر أمره، وبعد صيته في العالم، وأخذ في تفسير الكتاب العزيز في الجامع على كرسيّ من حفظه، فكان يُورد المجلس ولا يتلعثم. وكذا كان الدرس بتؤدة وصوت جَهْوري فصيح"2. ونقل الذهبي عن بعض العلماء قوله في شيخ الإسلام: "ألفيته ممن أدرك من العلوم حظاً، وكاد يستوعب السنن والآثار حفظاً. إن تكلم في التفسير فهو حامل رايته، وإن أفتى في الفقه فهو مدرك غايته، أو ذاكر

_ 1 العقود الدرية ص 3. 2 العقود الدرية ص 5.

بالحديث فهو صاحب علمه وذو روايته، أو حاضر بالنحل والملل لم يُرَ أوسع من نحلته، ولا أرفع من درايته. برز في كلّ فن على أبناء جنسه، ولم تر عين من رآه مثله، ولا رأت عينه مثل نفسه"1. وقال الذهبي - رحمه الله - أيضاً: "ولقد نصر السنة المحضة، والطريقة السلفية، واحتج لها ببراهين ومقدمات وأمور لم يسبق إليها، وأطلق عبارات أحجم عنها الأولون والآخرون وهابوا، وجسر هو عليها"2. وبذلك نرى شيخ الإسلام رحمه الله قد استحق هذا اللقب بجدارة؛ فهو شيخ الإسلام حقاً، وعلم الأعلام صدقاً. المسألة الثانية: أبرز شيوخه: حرص الشيخ - رحمه الله - على تلقي العلم من الصغر، ولذلك أخذ عن كثير من الشيوخ، حتى قال ابن عبد الهادي: "إن شيوخه الذين سمع منهم أكثر من مائتي شيخ"3. ومن أبرزهم: 1- زين الدين أحمد بن عبد الدائم بن نعمة المقدسي. 2- ابن أبي اليسر. 3- الكمال بن عبد. 4- ابن عساكر الجدّ. 5- أصحاب الخشوي.

_ 1 كتاب الذيل 2/390-391. 2 المصدر نفسه 2/394. 3 العقود الدرية 3/32.

6- الجمال يحيى بن الصيرفي. 7- أحمد بن أبي الخير الحداد. 8- القاسم الأربلي. 9- فخر الدين بن البخاري. 10- الكمال عبد الرحيم. 11- أبو القاسم بن علان. 12- أحمد بن شيبان. 13- شمس الدين بن أبي عمر. 14- إبراهيم بن الدرجي. وخلقٌ كثير1. المسألة الثالثة: أشهر تلاميذه: 1- محمد بن أحمد بن عبد الهادي. 2- محمد بن أبي بكر، ابن قيم الجوزية. 3- محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي. 4- محمد بن مفلح بن محمد المقدسي. 5- إسماعيل بن عمر بن كثير. 6- عمر بن علي البزار.

_ 1 انظر: العقود الدرية ص 3. وكتاب الذيل لابن رجب 2/387. وقد جمع الدكتور عبد الرحمن الفريوائي بعض أسماء شيوخه، وترجم لهم، وذكر منهم (69) عالماً، منهم خمس من النساء. انظر: شيخ الإسلام ابن تيمية وجهوده في الحديث وعلومه 1/71-100.

7- أحمد بن حسن بن عبد الله بن قدامه. 8- محمد بن شاكر الكتبي. 9- سليمان بن عبد القوي الطوفي الصرصري البغدادي. 10- عمر بن مظفر الوردي المصري الحلبي. 11- عمر بن سعد الله الحراني. 12- محمد بن المنجا التنوخي الدمشقي. وغيرهم 1. المسألة الرابعة: أشهر مؤلفاته: لقد كان شيخ الإسلام - رحمه الله - حريصاً على نشر مذهب السلف الصالح وتدوينه؛ من الأصول والفروع، وتقرير معتقدهم الصحيح، والردّ على المخالفين؛ من المتكلمين، والفلاسفة، والرافضة، والمتصوفة، والباطنية. وأكثر مؤلفاته في الأصول والعقائد، والردّ على أهل البدع والأهواء. وقد ذكر كلاماً في أحد كتبه، كأنّه يردّ على من يسأل عن سبب كثرة تأليفه في الأصول والعقائد، وتقرير مذهب السلف بذكر القواعد، فقال - رحمه الله تعالى: "فإنّ هذه القواعد المتعلقة بتقرير التوحيد، وحسم مادة الشرك والغلو، كلما تنوّع بيانها، ووضحت عباراتها، كان ذلك نوراً على نور، والله المستعان"2.

_ 1 وقد جمع د/ عبد الرحمن الفريوائي أكثر تلاميذ شيخ الإسلام - رحمه الله ورحمهم - وترجم لهم، وعدّ منهم (161) تلميذاً. انظر: شيخ الإسلام ابن تيمية وجهوده في الحديث وعلومه 1/101-159. 2 مجموع الفتاوى 1/313.

فكثرة ترداد القواعد يزيدها وضوحاً، وتنوّع البيان يوضّح العبارات. وتصانيفه - رحمه الله - كثيرة في الأصول والقواعد، وغير ذلك، ولا يُقدر على إحصائها، حتى إن تلميذه - وهو من ألصق الناس به - يقول عنها: "وأما مؤلفاته ومصنفاته، فإنها أكثر من أن أقدر على إحصائها، أو يحضرني جملة أسمائها، بل هذا لا يقدر عليه غالباً أحدٌ؛ لأنها كثيرة جداً، وكباراً وصغاراً، وهي منشورة في البلدان، فقلّ بلد نزلتُه إلا ورأيت فيه من تصانيفه"1. وقال الحافظ ابن رجب - رحمه الله: "وأما تصانيفه - رحمه الله - فهي أشهر من أن تذكر، وأعرف من أن تُنكر، سارت مسير الشمس في الأقطار، وامتلأت بها البلاد والأمصار. وقد جاوزت حدّ الكثرة فلا يمكن لأحد حصرها، ولا يتسع هذا المكان لعدّ المعروف منها، ولا ذكرها) 2. ومن أهمّ ما كتب الشيخ - رحمه الله - في العقيدة - وهو المطبوع منها: 1- ((منهاج السنة النبوية)) . 2- ((شرح الأصفهانية)) . 3- ((الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح)) . 4- ((درء تعارض العقل والنقل)) . 5- ((الاستقامة)) . 6- ((بيان تلبيس الجهمية)) . 7- ((الرد على المنطقيين)) . 8- ((بغية المرتاد)) . 9- ((كتاب الصفدية)) .

_ 1 الأعلام العلية ص 25. 2 كتاب الذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب 2/403.

10- ((قاعدة في المعجزات والكرامات)) . 11- ((الرسالة القبرصية)) . 12- ((الرسالة البعلبكية)) . 13- ((الرسالة المراكشية)) . 14- ((الرسالة المدنية)) . 15- ("شرح حديث النزول)) . 16- ((شرح حديث ((فحج آدم موسى)) )) . 17- ((الإيمان الكبير)) . 18- ((الإيمان الأوسط)) . 19- ((اقتضاء الصراط المستقيم)) . 20- ((التدمرية)) . 21- ((الحموية)) . 22- ((تفسير آيات أَشكلت)) . 23- ((تفسير سورة الإخلاص)) . 24- ((العبودية)) . 25- ((قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة)) . وقد صنّف الإمام ابن القيم - رحمه الله - فهرساً بأسماء كتب ابن تيمية، أوصل عددها إلى (321) ما بين رسالة وكتاب كبير1.

_ 1 وقد طبعها د/ صلاح الدين المنجد، بيروت، 1976 م. وقد ذكر بعض العلماء عدداً من مصنّفات شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، منهم: ابن شاكر الكتبي في فوات الوفيات 1/75-80. وابن عبد الهادي في العقود الدرية ص 26-67. والبزار في الأعلام العلية ص 22-28. والصفدي في كتابه الوافي بالوفيات ص 7/30-33.

فشيخ الإسلام - رحمه الله - جمع بين غزارة العلم، وعمق الفهم، وشدة الذكاء، والإحاطة بعلوم الشريعة والمعارف الفكرية، والنظريات، والمسائل الكلامية. واستقرأ، واستوعب ما ألفه من كان قبله، فحوى تلك العلوم، ونقلها إلينا بفهم ثاقب، وعقيدة صائبة، فأكثر - رحمه الله - من الإنتاج والتأليف. ومؤلفات شيخ الإسلام - رحمه الله - من الصعب حصرها وجمعها. حتى قال الذهبي - رحمه الله: "جمعت مصنفات شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية - رضي الله عنه - فوجدته ألف مصنّف، ثم رأيت له أيضاً مصنفات أخر"1. وقال ابن عبد الهادي - رحمه الله - بعد أن ذكر أسماء كثير من كتب شيخ الإسلام - رحمه الله: "وله من الأجوبة والقواعد شيء كثير غير ما تقدم ذكره، يشق ضبطه وإحصاؤه، ويعسر حصره واستقصاؤه. وسأجتهد إن شاء الله تعالى في ضبط ما يمكنني ضبطه من مؤلفاته في موضع آخر غير هذا، وأُبيِّن ما صنّفه منها بمصر، وما ألفه منها بدمشق، وما جمعه وهو في السجن، وأرتبه ترتيباً حسناً غير هذا الترتيب بعون الله تعالى وقوته ومشيئته. قال الشيخ أبو عبد الله2: لو أراد الشيخ تقي الدين - رحمه الله - أو غيره حصرها - يعني مؤلفات الشيخ - لما قدروا لأنه ما زال يكتب. وقد منّ الله عليه بسرعة الكتابة، وكان يكتب من حفظه من غير نقل.

_ 1 الرد الوافر ص 72. 2 هو عبد الله بن رشيق المغربي، توفي سنة 749هـ يوم عرفة. قال عنه ابن كثير رحمه الله: (كاتب مصنفات شيخنا العلامة ابن تيمية كان أبصر بخط الشيخ منه إذ عزب شيء منه على الشيخ استخرجه أبو عبد الله هذا. وكان سريع الكتابة لا بأس به ديناً عابداً كثير التلاوة حسن الصلاة له عيال وعليه ديون رحمه الله وغفر له آمين) . البداية والنهاية 14/241.

وأخبرني غير واحد أنه كتب مجلداً لطيفاً في يوم، وكتب غير مرة أربعين ورقة في جلسة وأكثر. وأحصيت ما كتبه وبيضه في يوم فكان ثمان كراريس في مسألة من أشكل المسائل. وكان يكتب على سؤال الواحد مجلداً. وأما جواب يكتب فيه خمسين ورقة، وستين، وأربعين، وعشرين فكثير. وكان يكتب الجواب، فإن حضر من يبيضه، وإلا أخذ السائل خطه وذهب. ويكتب قواعد كثيرة في فنون من العلم في الأصول والفروع والتفسير وغير ذلك، فإن وجد من نقله من خطه، وإلا لم يشتهر، ولم يعرف، وربما أخذه بعض أصحابه، فلا يقدر على نقله، ولا يرده إليه، فيذهب. وكان كثيراً ما يقول: قد كتبت في كذا وكذا. ويُسئل عن الشيء، فيقول: قد كتبتُ في هذا، فلا يُدرى أين هو. فيلتفت إلى أصحابه ويقول: ردّوا خطي وأظهروه لينقل. فمن حرصهم عليه لا يردونه. ومن عجزهم لا ينقلونه، فيذهب ولا يعرف اسمه. فلهذه الأسباب وغيرها تعذّر إحصاء ما كتبه وما صنّفه. وما كفى هذا، إلا أنه لما حُبس تفرّق أتباعه، وتفرّقت كتبه، وخوّفوا أصحابه من أن يُظهروا كتبه، فذهب كل أحدٍ بما عنده وأخفاه، ولم يظهروا كتبه، فبقي هذا يهرب بما عنده، وهذا يبيعه أو يهبه، وهذا يخفيه ويودعه، حتى منهم من تسرق كتبه، أو تجحد، فلا يستطيع أن يطلبها، ولا يقدر على تخليصها. فبدون هذا تتمزق الكتب والتصانيف. ولولا أن الله تعالى لطف وأعان، ومنَّ وأنعم، وجرت العادة في حفظ أعيان كتبه وتصانيفه، لما أمكن لأحد أن يجمعها. ولقد رأيت من خرق العادة في حفظ كتبه، وجمعها، وإصلاح ما فسد منها، وردّ ما ذهب منها، ما لو ذكرته لكان عجباً يعلم به

كل منصف أن لله عناية به وبكلامه؛ لأنه يذب عن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين"1. وقال - رحمه الله - أيضاً: "وللشيخ - رحمه الله - من المصنفات والفتاوى والقواعد والأجوبة والرسائل وغير ذلك من الفوائد ما لا ينضبط، ولا أعلم أحداً من متقدمي الأمة ولا متأخريها جمع مثل ما جمع، ولا صنّف نحو ما صنّف، ولا قريباً من ذلك، مع أنّ أكثر تصانيفه إنما أملاها من حفظه، وكثير منها صنّفه في الحبس وليس عنده ما يحتاج إليه من الكتب"2. وبهذا نعرف غزارة علم الشيخ - رحمه الله - ووفرة ما ألّف، وكثرة ما صنّف، حتى إنّ أقرب الناس إليه، ومن صحبه وسبر حاله، لم يستطع حصرها واستيعابها، وكلّهم يُشير إلى كثرتها في الأقطار، وانتشارها في الأمصار. وما زال المسلمون - ولله الحمد - ينتفعون بها؛ فقد حفظ الله الكثير منها، ونفع بها، فله الحمد والمنّة وقد جمع الأخ الباحث علي بن عبد العزيز الشبل قوائم ببعض مخطوطات شيخ الإسلام - رحمه الله - من فهارس المكتبات والمجموعات الخطية العامة والخاصة، وأوصل عدد ما جمع إلى (412) مخطوطاً ما بين رسالة وكتاب كبير، وأسماها الثبت. وهو مطبوع. وقد أضاف إليه أيضاً قائمة ببعض مخطوطات العلامة ابن القيم رحمه الله. فجزاه الله خيراً. ولا شكّ أنه لم يستوف كلّ الموجود، بل ربما كان ما فُقد أكثر.

_ 1 العقود الدرية ص 26. 2 العقود الدرية ص 64-66.

المسألة الخامسة: اهتمام شيخ الإسلام - رحمه الله - بالتأليف في جانب العقيدة: كتب شيخ الإسلام - رحمه الله - في كثير من الفنون، كما يُدرك ذلك من اطّلع على كتبه، إلا أنّ العقيدة هي السمة الغالبة في شتى مؤلفاته. فقد تميزت أغلب كتبه بشرح معتقد السلف الصالح، وتقرير أصولهم، والردّ على من خالفهم؛ من متكلمين، وفلاسفة، وصوفية، ورافضة، وباطنية، وغيرهم من أهل الأهواء والبدع. وقد ناقش هذه الفرق في شبهاتهم، ومن خلال هذه المناقشات كان ينصر معتقد السلف الصالح، ويعرضه بدلائله العقليّة والنقلية، ويردّ على من خالفه بأقوى ردّ، وأفحم حجّة. قال تلميذه الحافظ الذهبي عنه: "عرف أقوال المتكلمين، وردّ عليهم، ونبّه على خطئهم، وحذّر منهم، ونصر السنة بأوضح حجج، وأبهر براهين"1. وقال تلميذه البزار عن مؤلفاته: "وقد أبان - بحمد الله تعالى - فيما ألّف فيها لكلّ بصير الحق من الباطل، وأعانه بتوفيقه، حتى ردّ عليهم بدعهم وآراءهم وخدعهم وأهواءهم مع الدلائل النقليّة بالطريقة العقلية، حتى يجيب عن كلّ شبهة من شبههم بعدة أجوبة جليلة واضحة، يعقلها كلّ ذي عقل صحيح، ويشهد لصحتها كلّ عاقل رجيح"2. ويُحدّثنا شيخ الإسلام عن نفسه، ويُخبرنا عن كثرة المخالفين لمذهب

_ 1 ذيل طبقات الحنابلة 2/389. 2 الأعلام العلية ص 37.

أهل السنة في طرق إثبات الصانع، وعن سعة اطلاعه - رحمه الله - على أقوالهم، وعن ردِّه لتلك الجموع العظيمة الكثيرة، وفضحه لهم، وكشفه لعوارهم، فيقول: "وذكرنا عامّة طرائق أهل الأرض في إثبات الصانع؛ من المتكلمين والفلاسفة، وطرق الأنبياء صلوات الله عليهم، وما سلكه عامة نظّار الإسلام؛ من معتزلي، وكرّامي، وكلامي، وأشعري فيلسوف وغيرهم"1. ويقول - رحمه الله - لخصومه أثناء مناظرتهم له: "أنا أعلم كلّ بدعة حدثت في الإسلام، وأوّل من ابتدعها، وما كان سبب ابتداعها"2. وقد تمنّى بعض من ترجم لشيخ الإسلام - رحمه الله - أن لو جعل جهده في تفسير القرآن العظيم، وشرح السنة المطهرة، بدلاً من الإكثار من الردّ على أهل البدع والأهواء. يقول الصفدي - رحمه الله: "وضيّع الزمان في ردّه على النصارى، والرافضة، ومَنْ عاند الدين أو ناقضه. ولو تصدّى لشرح البخاري، أو لتفسير القرآن العظيم لقلّد أعناق أهل العلم بدرّ كلامه النظيم"3. وقد تقدّم لشيخ الإسلام - رحمه الله - كلام، كأنّه ردّ فيه على أشباه هذه التساؤلات، يقول فيه - رحمه الله تعالى: "فإنّ هذه القواعد المتعلقة بتقرير التوحيد، وحسم مادة الشرك والغلو، كلما تنوّع بيانها، ووضحت عباراتها، كان ذلك نوراً على نور، والله المستعان"4.

_ 1 الرد على المنطقيين ص 253. 2 مجموع الفتاوى 3/184. 3 الوافي بالوفيات للصفدي7/32. 4 مجموع الفتاوى 1/313. وقد تقدمت هذه العبارة في ص 76.

وقد أجابَ الشيخُ - رحمه الله - تلميذَه البزار - رحمه الله - عن هذا الإشكال، حين سأل هذا الأخير شيخَه شيخ الإسلام - رحمه الله - عن سبب إكثاره من التأليف في الأصول، وقلّة تآليفه في العلوم الأخرى ومما قاله البزار: "ولقد أكثر - رضي الله عنه - التصنيف في الأصول، فضلاً عن غيره من بقية العلوم، فسألتُه عن سبب ذلك، والتمستُ منه تأليف نص في الفقه يجمع اختياراته وترجيحاته ليكون عمدة في الإفتاء، فقال لي ما معناه: الفروع أمرها قريب، ومتى قلّد المسلم فيها أحد العلماء المقلّدين، جاز له العمل بقوله ما لم يتيقّن خطأه. وأما الأصول: فإني رأيت أهل البدع والضلالات والأهواء؛ كالمتفلسفة، والباطنية، والملاحدة، والقائلين بوحدة الوجود، والدهرية، والقدرية، والنصيرية، والجهمية، والحلولية، والمعطلة، والمجسمة، والمشبهة، والراوندية، والكلابية، والسليمية1، وغيرهم من أهل البدع قد تجاذبوا فيها بأزمة الضلال، وبان لي أنّ كثيراً منهم إنما قصد إبطال الشريعة المقدسة المحمدية الظاهرة العلية على كلّ دين، وأن جمهورهم أوقع الناس في التشكيك في أصول دينهم. ولهذا قلّ أن سمعت أو رأيت معرضاً عن الكتاب والسنة، مقبلاً على مقالاتهم إلا وتزندق، أو صار على غير يقين في دينه واعتقاده. فلما رأيت الأمر على ذلك، بان لي أنه يجب على كلّ من يقدر على دفع شبهتهم وأباطيلهم، وقطع حجتهم وأضاليلهم أن يبذل جهده ليكشف رذائلهم، ويزيّف دلائلهم ذباً عن الملة الحنيفية، والسنة الصحيحة الجليّة. ولا واللهِ ما رأيت فيهم أحداً ممن صنّف في هذا الشأن وادّعى علوّ المقام، إلا وقد

_ 1 لعل المقصود بهم السالمية.

ساعد بمضمون كلامه في هدم قواعد دين الإسلام. وسبب ذلك: إعراضه عن الحقّ الواضح المبين، وعن ما جاءت به الرسل الكرام عن ربّ العالمين، واتباعه طرق الفلسفة في الاصطلاحات التي سموها بزعمهم حكميات وعقليات، وإنما هي جهالات وضلالات، وكونه التزمها معرضاً عن غيرها أصلاً ورأساً، فغلبت عليه حتى غطت على عقله السليم فتخبط حتى خبط فيها عشواء1، ولم يفرّق بين الحق والباطل. وإلا فالله أعظم لطفاً بعباده أن لا يجعل لهم عقلاً يقبل الحق ويثبته، ويبطل الباطل وينفيه. لكن عدم التوفيق، وغلبة الهوى أوقع من أوقع في الضلال. وقد جعل الله تعالى العقل السليم من الشوائب ميزاناً يزن به العبد الواردات فيفرّق به بين ما هو من قبيل الحقّ، وما هو من قبيل الباطل، ولم يبعث الله الرسل إلا إلى ذوي العقل، ولم يقع التكليف إلا مع وجوده. فكيف يقال إنه مخالف لبعض ما جاءت به الرسل الكرام عن الله تعالى. هذا باطلٌ قطعاً، يشهد له كلّ عقل سليم. لكن: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُور} ٍ [سورة النور، الآية 40] .قال الشيخ الإمام - قدس الله روحه -: فهذا ونحوه هو الذي أوجب أني صرفت جلّ همي إلى الأصول، وألزمني أن أوردت مقالاتهم، وأجبتُ عنها بما أنعم الله تعالى به من الأجوبة النقلية والعقلية"2. وهكذا نرى شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - قد أخذ على عاتقه، وأوجب على نفسه الكتابة في أصول الدين، والردّ على المخالفين.

_ 1 قال محقق ((الأعلام العلية)) في ح (1) : العشواء الناقة التي لا تبصر ليلاً، وهو مثل يضرب للذي لا يتبصر في أموره. 2 الأعلام العلية ص 35-37.

وكأنّه بذلك يُرشد من قدر على دفع شرّ المخالفين، وكشف خطرهم، ومحو شبهاتهم وباطلهم، أنّ هذا الصنيع واجب في حقه كذلك، للذب عن دين رب العالمين، ولنصرة سنة سيد المرسلين. ولم يقف الأمر عند الكتابة، بل طبّق الشيخ رحمه الله العقيدة عمليّاً، حين كسر عدداً من الأحجار التي كانت تُعبد من دون الله، وقطع أشجاراً كثيرة كان يُصرف لها شيء من العبادة. وقد تحققت فيه دعوة الإمام النووي لما دعا اللهَ قائلاً: "اللهم أقم لدينك رجلاً يكسر العمود المخلّق1، ويُخرّب القبر الذي في جيروت2"، فكان ذلك على يد شيخ الإسلام - رحمه الله3. المسألة السادسة: علماء توقعوا الذيوع والانتشار لكتب شيخ الإسلام - رحمه الله - بعد موته: مؤلفات شيخ الإسلام - رحمه الله - تعالى كتب الله لها الحفظ والانتشار. وها نحن الآن في القرن الخامس عشر الهجري، وقد مضى على وفاة شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - نحو سبعة قرون، ولا زالت - بفضل الله وتوفيقه -

_ 1 قال ابن كثير رحمه الله: (وفي هذا الشهر بعينه راح الشيخ تقي الدين ابن تيمية إلى المسجد النارنج وأمر أصحابه ومعهم حجارون يقطع صخرة كانت بنهر قلوط تزار وينذر لها فقطعها وأراح المسلمين منها ومن الشرك بها، فأزاح عن المسلمين شبهة كان شرها عظيماً. وبهذا وأمثاله حسدوه وأبرزوا له العداوة) . البداية والنهاية 14/36. 2 قال ابن كثير رحمه الله: (وهو باب شرقي جامع دمشق لم ير باب أوسع ولا أعلى منه.. من عجائب الدنيا، وقد ذكرته العرب في أشعارها، وهو منسوب إلى ملك يقال له جيروت بن سعد. كان بناؤه قبل الخليل عليه السلام) . البداية والنهاية 14/253. 3 انظر: أوراق مجموعة من حياة شيخ الإسلام رحمه الله ص 70-71.

مؤلفاته منتشرة، كثيرة مشتهرة، تنير الدرب للراغب في الهداية، وتوضّح السبيل للباحث عن الحقيقة. ولقد أوضح شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - في كتبه معتقدَ السلف، وطريقهم، ومنهجهم، بأقوى حجة، وأوضح برهان. فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء. ولقد كان تلاميذ الشيخ - رحمه الله - يتواصون فيما بينهم بالعناية بما كتب الشيخ، والنسخ عنه، والمحافظة عليه. فها هو ذا أحد تلاميذه، وهو الإمام أحمد بن مرّي الحنبلي يُرسل رسالة إلى تلاميذ شيخ الإسلام بعد موته، ويوصيهم بنسخ تآليفه من مسوداته، والاحتفاظ بها، ويبشرهم بالعاقبة الحسنة، ويُمّنيهم بأنّ هذه الكتب ستنتشر يوماً ما، ويذيع صيتها، فيقول - رحمه الله: "فإن يسر الله تعالى وأعان على هذه الأمور العظيمة صارت إن شاء الله مؤلفات شيخنا ذخيرة صالحة للإسلام وأهله، وخزانة عظيمة لمن يؤلف منها وينقل، وينصر الطريقة السلفية على قواعدها، ويستخرج ويختصر إلى آخر الدهر إن شاء الله تعالى. قال صلى الله عليه وسلم: "لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم فيه بطاعة الله)) 1، وقال: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة"2. والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل، 8] . وكما انتفع الشيخ بكلام الأئمة قبله، فكذلك ينتفع بكلامه من بعده - إن شاء الله تعالى. فاتبعوا

_ 1 رواه الإمام أحمد في المسند 4/200. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة 5/2442، وفي صحيح الجامع 6/231. 2 تقدم تخريجه ص 11.

أمر الله، واقصدوا رضى الله بجمع كل ما تقدرون عليه من أنواع المؤلفات الكبار، وأشتات المسائل الصغار، ومن نسخ الفتاوى المتفرقة، وسائر كلامه الذي قد مُلئ - ولله الحمد - من الفوائد، والفرائد، والشوارد. فأيقظوا الهمم، وبذلوا الأموال الكثيرة في تحصيل هذا المطلب العظيم الذي لا نظير له. فهذا هو الذي يلزمنا من حيث الأسباب والتمام على رب الأرباب، ومسبب الأسباب، وفاتح الأبواب، الذي يقيم دينه، وينصر كتابه، وسنة نبيه على الدوام، ويثبت من يؤهله لذلك من أنواع الخاص والعام. وكلٌّ مجزي في القيامة بعمله، وما ربّك بظلام للعبيد. وقد عُلم أن الإمام أحمد بن حنبل كان ينهى في حال حياته عن كتابة كلامه ليجمع القلوب على المادة الأصلية العظمى، ولما توفي استدرك أصحابه ذلك الأمر الكبير، فنقلوا علمه، وبيّنوا مقاصده، وشهروا فوائده، فانتصرت طريقته، واقتفيت آثاره، لأجل ذلك الوجود هو على هذه الصفة قديماً وحديثاً. فلا تيأسوا من قبول القلوب القريبة والبعيدة لكلام شيخنا، فإنه ولله الحمد مقبول طوعاً وكرهاً. وأين غايات قبول القلوب السليمة لكلماته، وتتبع الهمم النافذة لمباحثه وترجيحاته. ووالله إن شاء الله ليقيمنّ الله - سبحانه - لنصر هذا الكلام ونشره وتدوينه وتفهمه، واستخراج مقاصده، واستحسان عجائبه وغرائبه رجالاً هم إلى الآن في أصلاب آبائهم. وهذه سنة الحياة الجارية في عباده وبلاده. والذي وقع من هذه الأمور في الكون لا يحصى عدده غير الله - تعالى. ومن المعلوم أن البخاري مع جلالة قدره أُخرج طريداً ثم مات بعد ذلك غريباً، وعوضه الله - سبحانه - عن ذلك بما لا خطر في باله، ولا مرّ في خياله؛ من عكوف الهمم على كتابه، وشدة احتفالها به، وترجيحها له على جميع كتب السنن، وذلك لكمال صحته،

وعظمة قدره، وحسن ترتيبه وجمعه، وجميل نية مؤلفه، وغير ذلك من الأسباب. ونحن نرجو أن يكون لمؤلفات شيخنا أبي العباس من هذه الوراثة الصالحة نصيب كثير - إن شاء الله تعالى؛ لأنه كان بنى جملة أموره على الكتاب والسنة ونصوص أئمة سلف الأمة، وكان يقصد تحرير الصحة بكل جهده، ويدفع الباطل بكل ما يقدر عليه، لا يهاب مخالفة أحد من الناس في نصر هذه الطريقة، وتبيين هذه الحقيقة، وتسهيل العبارات، وجمع أشتات المتفرقات، والنطق في مضايق الأبواب، بحقائق فصل الخطاب، ما ليس لأكثر المصنفين في أبواب مسائل أصول الدين وغيرها من مسائل المحققين؛ لأنه كان يجعل النقل الصحيح أصله وعمدته في جميع ما يبني عليه، ثم يعتضد بالعقليات الصحيحة التي توافق ذلك وبغيرها ويجتهد على دفع كلّ ما يُعارض ذلك من شبهة المعقولات، ويلتزم حلّ كل شبهة كلامية وفلسفية"1. وهذا عالمٌ آخر يُنادي بنسخ تآليف شيخ الإسلام من المسودات، والمحافظة عليها، ويبشر بأنها طريقٌ لإعادة مجد الإسلام، فيقول: (شجّعوا ابن القيم ينقل لكم ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأنه لا يعرف أحد أن يقرأ خطه سواه، وهو أعلم تلاميذه بكتبه وآثاره. واعلموا أنه سيصير لهذه الآثار شأن عظيم، وسبب لإعادة مجد الإسلام، وستكون مرجعاً في المستقبل لمعرفة الإسلام الصحيح"2.

_ 1 قطعة من مكتوب الشيخ الإمام أحمد بن مري - تحقيق محمد إبراهيم الشيباني - ص 16-18. 2 المصدر نفسه.

وهذا الحافظ ابن حجر - رحمه الله - يُثني على شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ويُشير إلى بقاء تصانيفه، وانتقال تواليفه إلى الأجيال القادمة، فيقول: (وتلقيبه بشيخ الإسلام باق إلى الآن على الألسنة الزكية، وسيستمر غداً ما كان بالأمس، ولا ينكر ذلك إلا من جهل مقداره، وتجنب الإنصاف"1. وقال الواسطي في رسالة إلى تلاميذ شيخ الإسلام - رحمه الله - يوصيهم بالشيخ وبعلمه، فيقول: (فاشكروا الله الذي أقام لكم في رأس السبعمائة من الهجرة من بيَّن لكم أعلام دينكم، وهداكم الله به وإيانا إلى نهج شريعته، وبيَّن لكم بهذا النور المحمدي ضلالات العباد وانحرافاتهم، فصرتم تعرفون الزائغ من المستقيم، والصحيح من السقيم، وأرجو أن تكونوا أنتم الطائفة المنصورة الذين لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم"2. وقال أحمد بن طرخان الملكاوي (ت 803 ?) عن شيخ الإسلام - رحمه الله: (فوالله إنّ الشيخ تقي الدين شيخ الإسلام لو دَرَوْا ما يقول لرجعوا إلى محبته وولائه"، وقال: (كلّ صاحب بدعة ومن ينتصر له لو ظهروا لا بدّ من خمودهم وتلاشي أمرهم. وهذا الشيخ تقي الدين ابن تيمية كلّما تقدّمت أيامه تظهر كراماته، ويكثر محبّوه وأصحابه"3. فتأمّل - يا رعاك الله - كلام هؤلاء الأئمة، وانظر بإمعان وإنصاف فيه، فتجد أنّها كانت فراسة صادقة، وحدساً صادقاً، وظنّاً صائباً، وبُعدَ نظرٍ في العواقب.

_ 1 تقريظ الحافظ ابن حجر على الرد الوافر - تحقيق محمد إبراهيم الشيباني، ص 12. 2 التذكرة والاعتبار والانتصار للأبرار في الثناء على شيخ الإسلام والوصاية به ص 24. 3 الرد الوافر لابن ناصر الدين الدمشقي ص 141.

فقد توقعوا أن يكتب الله لمؤلفات إمام الأئمة القبول، وأن ينتشر علمه في العرض والطول، وأن تحتاجه الأمة في حاضرها جيلاً إثر جيل، وأن يكون سبباً في رجعة الأجيال إلى المعتقد الأصيل. وقد صدقت توقعاتهم، فها نحن - بحمد الله - نحياها؛ فما دعوة الشيخ الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب إلا ثمرة من غرس شيخ الإسلام، خرجت شجرة طيبة في جزيرة العرب، وطاب غراسها، فآتت أكلها بإذن ربها، وتأسست دولة الإسلام على أصلها الثابت، وانتشر خيرها في الأرجاء، وعمّ في الربوع الرخاء، وانتشر العلم القائم على النور السلفي، وأُنشئت المؤسسات الصادرة عن هذا الينبوع الصافي. وما دور جامعتنا المباركة - الجامعة الإسلامية - عنّا ببعيد، فقد قامت على ذلك المنهج السلفي، واحتضنت أبناء العالم الإسلامي، وغذتهم بلبان العقيدة الصحيحة، فجزى الله القائمين عليها خير الجزاء. المسألة السابعة: الأيام الأخيرة لشيخ الإسلام، ووفاته: كان شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - عالماً عاملاً، نشر الدعوة بكلّ جدّ ونشاط، حتى جاء عام 718 ?، فمنعه السلطان فيه من الفتوى في مسألة الحلف بالطلاق بالتكفير، ثم عقد لهذا الغرض مجالس في سنة 719?، وحبس في سجن القلعة فترة، وانتهى الأمر بمنعه - بسبب فتواه - من الفتيا مطلقاً. ثم دبّر له أعداؤه مكيدة أخرى؛ إذ وشوا به للسلطان، وقالوا له: إنه يفتي بمنع السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين، وأوهموا السلطان أنّ في ذلك تنقصاً للأنبياء والمرسلين، وتنقصهم كفر. وأفتى بذلك طائفة من أهل الأهواء؛ وهم ثمانية عشر نفساً، يرأسهم

القاضي الأخنائي المالكي، وأفتى قضاة مصر الأربعة بحبسه، فحبس بقلعة دمشق سنتين وأشهراً. وقد بقي - رحمه الله - في القلعة يكتب العلم، ويُصنّفه، ويُرسل إلى أصحابه الرسائل1. قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله: (وفي يوم الاثنين تاسع جمادى الآخرة من عام 728?، أُخّر ما كان عند الشيخ تقي الدين بن تيمية من الكتب والأوراق والدواة والقلم، ومنع من الكتابة والمطالعة، وحملت كتبه في مستهل رجب إلى خزانة الكتب بالعادلية الكبيرة ... وكان سبب ذلك أنه أجاب لما كان ردّ عليه التقي ابن الأخنائي المالكي في مسألة الزيارة، فردّ عليه الشيخ تقي الدين واستجهله، وأعلمه أنه قليل البضاعة في العلم، فطلع الأخنائي إلى السلطان وشكاه، فرسم السلطان عند ذلك بإخراج ما عنده من ذلك"2. وقد حدّث ابن عبد الهادي عن حال شيخ الإسلام بعد إخراج ما عنده من الكتب، ومنعه من المطالعة والكتابة، فقال: (وأقبل الشيخ بعد إخراجها على العبادة والتلاوة والتذكر والتهجد حتى أتاه اليقين، وختم القرآن مدّة إقامته بالقلعة ثمانين أو إحدى وثمانين ختمة، انتهى في آخر ختمة إلى آخر: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} .... وكانت مدة مرضه بضعة وعشرين يوماً. وأكثر الناس ما علموا بمرضه، فلم يفجأ الخلق إلا نعيه"3.

_ 1 انظر: شيخ الإسلام وجهوده في الحديث 1/38-39. 2 البداية والنهاية 4/140. وانظر: العقود الدرية ص 363. 3 العقود الدرية ص 368.

قال البزار - رحمه الله - عن آخر أيامه، ووفاته: (ثم إن الشيخ - رضي الله عنه - بقي إلى ليلة الاثنين والعشرين من ذي القعدة الحرام، وتوفي إلى رحمة الله تعالى ورضوانه في بكرة ذلك اليوم، وذلك في سنة ثمان وعشرين وسبع مائة، وهو على حاله مجاهداً في ذات الله، صابراً، محتسباً، لم يجبن، ولم يهلع، ولم يضعف، ولم يتتعتع، بل كان - رضي الله عنه - إلى حين وفاته مشتغلاً بالله عن جميع ما سواه. قالوا: فما هو إلا أن سمع الناس بموته، فلم يبق في دمشق من يستطيع المجيء للصلاة عليه وأراده إلا حضر لذلك، وتفرغ له، حتى غلقت الأسواق بدمشق، وعطلت معايشها حينئذ، وحصل للناس بمصابه أمر شغلهم عن غالب أمورهم وأسبابهم، وخرج الأمراء والرؤساء والعلماء والفقهاء والأتراك والأجناد والرجال والنساء والصبيان من الخواص والعوام. قالوا: ولم يتخلف أحد من غالب الناس فيما أعلم، إلا ثلاثة أنفس كانوا قد اشتهروا بمعاندته، فاختفوا من الناس خوفاً على أنفسهم، بحيث غلب على ظنهم أنهم متى خرجوا رجمهم الناس فأهلكوهم"1. وقد صُلي على شيخ الإسلام - رحمه الله - صلاة الغائب في غالب أمصار المسلمين، فما من مصر وصلهم خبر موته، إلا وصلوا عليه صلاة الغائب2. وقد ذكر الحافظ ابن كثير أنّه صُلّي عليه في المدينة النبوية في يوم الجمعة آخر شهر ربيع الآخر من سنة 729?؛ أي بعد قرابة خمسة أشهر من وفاته - رحمه الله3.

_ 1 الأعلام العلية ص 84-85. 2 انظر: الأعلام العلية للبزار ص 87. 3 انظر: البداية والنهاية 14/149.

وهكذا عاش شيخ الإسلام - رحمه الله - سبعةً وستين عاماً حافلة بالجهاد، والنصح للعباد. وقد ذهب من كاد له وحسده، ونسي الناس من مكر به ورصد له، وبقي علم الشيخ - رحمه الله - وبقيت آثاره، وستستمرّ - إن شاء الله - يُنهل من معينها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. رحم الله شيخ الإسلام رحمة واسعة، وجزاه أحسن الجزاء عمّا ترك للمسلمين من علوم نافعة، وأجزل له المثوبة يوم الدين، ونفعنا بعلمه، ووفقنا لسلوك منهج المتقين. ورحم الله القائل فيه: فالله يوسعه برّاً ويشكر ما ... أبدى لنا معشر القرآن والسنن1. والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيّنا محمد وآله وصحبه أجمعين.

_ 1 انظر: مقدمة منهاج السنة النبوية 1/58.

المبحث الثالث: دراسة الكتاب

المبحث الثالث: دراسة الكتاب المطلب الأول: التعريف بالكتاب ... المطلب الأول: التعريف بالكتاب. كتاب ("النبوات)) يبحث في طرق إثبات النبوة، والمعجزة، والكرامة، والفرق بينها وبين خوارق العادات، وفق معتقد أهل السنة والجماعة. وفيه ردّ على المخالفين في هذا الباب؛ من أشعرية، ومعتزلة، وفلاسفة، مع ذكر مذاهبهم، وبيان أدلتهم. وقد فصّل شيخ الإسلام - رحمه الله - فيه القول، وأطال النفس: فَعَرَضَ أقوال الأشاعرة بالتفصيل، وردّ عليها. واهتمّ حين عَرْضِه لأقوال الأشاعرة، بأقوال الشخصية الثانية في المذهب الأشعري، ألا وهو القاضي أبو بكر الباقلاني، حيث انتقده في كتابه ((البيان)) ، وردّ على أقواله، وناقشها، ومحّصها، وبيَّن مجانبتها للصواب، وكرَّ على ما بُنيت عليه هذه الأقوال من قواعد فنسفها نسفاً، ووضّح لازمها، والنتيجة التي تفضي إليها، محذّراً بذلك منها ومن اعتقادها. وكتاب ((النبوات)) لم يقتصر على مباحث النبوات، والفروق بين المعجزة والكرامة، وبين ما يظهر على أيدي السحرة والكهان وأمثالهم من خوارق. بل كما هي عادة شيخ الإسلام - رحمه الله، كان يردّ على الخصوم،

ويُبيِّن المضائق والمزالق التي أودت بهم إليها أقوالهم الباطلة، ويوضّح المآزق التي أوقعتهم بها أصولهم الهابطة النازلة. ومن طريقته - رحمه الله - ومنهجه: أنه إذا تعرض لنقد قول ما، أو ناقش مسألة ما، فإنه لا يردّ عليها مباشرة، وإنّما يُنقّب عن الأصول التي قامت عليها، والأسس التي صدرت عنها. وقد نبّه شيخ الإسلام - رحمه الله - إلى أنّ أقوال أهل البدع التي التزموها، وخالفوا فيها الرسول، سببها ما أصلوه من أصول عقلية قياسيّة مخالفة لأصول الرسول. فكان هدم هذه الأصول هو غايته، ودكّها وما بني عليها من أقوال ومسائل منتهى أُمنيّته. لذلك نراه يُجهز عليها، ويُدفّف عليها، ويُرسل عليها سهاماً صدرت عن بحر علمه الزاخر، فلا تقف في مواجهته، وينقلب أصحابها ما بين خائب وخاسر. ويورد عليها من الأدلة ما يكون سبباً في إبطالها، وبيان مجانبتها للصواب، ومخالفتها لأقوال السلف الصالح، ومجانبتها لفهوم ذوي الألباب. ومن المسائل التي تعرّض لها الشيخ - رحمه الله - في هذا الكتاب: مسألة أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قد بيَّن أصول الدين، وأنّ الأدلة العقلية الصريحة لا تُعارض الأدلة النقلية الصحيحة. وقد انتقد الشيخ - رحمه الله - أصول المبتدعة الشهيرة، التي اتفقوا عليها؛ مثل دليل الأعراض وحدوث الأجسام، وبيَّن أنّها لا وزن لها في ميزان الشرع، بل هي تافهة حقيرة. وتكلّم عن أقوالهم في بقاء المادة، وردّ على من يقول بعدم فنائها.

وتناول طرق الناس في التمييز بين خوارق العادات، وناقش موقف كلّ فرقة من هذه الخوارق من حيث النفي والإثبات. وتكلم عن محبة الله - تعالى، وموقف الناس منها من جافى في إثباتها أو غالى. وكذلك الاستدلال بحكمة الله وإرادته على النبوة، والاستدلال بسنته - تعالى - وعادته على ذلك، وردّ - رحمه الله - على من نفى ذلك فأقحم نفسه في المهالك. وتكلّم عن غنى الله، وردّ على المتكلمين والفلاسفة الذين خالفوا أهل السنة والجماعة في ذلك. وتكلّم عن العدالة الإلهية، وردّ على من يقول بتعذيب أهل الصلاح، وتنعيم أهل الظلم ردوداً واضحة جليّة. وغير ذلك من المباحث المهمة الطريفة الجامعة، التي تناولها الشيخ - رحمه الله - في ثنايا هذا الكتاب ذي البحوث والمسائل النافعة. المسألة الأولى: تحقيق اسم الكتاب، وتوثيق نسبته إلى مؤلفه، وتاريخ تأليفه: أولاً: تحقيق اسم الكتاب: الاسم الذي على النسخة المخطوطة هو: ("الكلام على النبوات والمعجزات)) . وقد ذكر الشيخ ابن عبد الهادي - رحمه الله - مؤلفات شيخه شيخ الإسلام - رحمه الله، وعدّ منها: "قاعدة في تقرير النبوات بالعقل والنقل)) 1.

_ 1 العقود الدرية ص 66.

وحين ذكر كلّ من الصفدي، وابن شاكر الكتبي، والآلوسي مؤلفات شيخ الإسلام - رحمه الله - عدّوا منها كتاب: "ثبوت النبوات عقلاً ونقلاً والمعجزات والكرامات") 1. وكتاب ((النبوات)) الذي بين أيدينا يتحدّث عن طرق ثبوت النبوة، والفرق بين خوارق العادات عقلاً ونقلاً، فهو المقصود - من غير شك - بهذا الاسم. ولكنّي أميل إلى إبقاء اسمه ((النبوات)) لعدة أمور، منها: (1) أنّ اسم ((النبوات)) ، تدخل فيه المعجزة والكرامة؛ إذ النبوة أصل، والمعجزة فرع عنها. (2) لا شك أنّ اسم ((النبوات)) جزء من العنوان، وأنّه اختصر من ذاك العنوان الطويل: ((الكلام على النبوات والمعجزات)) ، أو ((قاعدة في تقرير النبوات بالعقل والنقل)) ، أو ((ثبوت النبوات عقلاً ونقلاً والمعجزات والكرامات)) ؛ إذ جرت العادة في اختصار الأسماء الطويلة، لأجل الحفظ، وسهولة النطق. والأمثلة كثيرة عن اختصار أسماء الكتب الطويلة. (3) من عادة شيخ الإسلام المعروفة في بعض كتبه أنّه لا يُسمّيها، وإن سمّاها، فليس لها اسم ثابت؛ إذ قد تختلف هذه الأسماء حتى في كلام مؤلفها؛ كما حدث في الجواب الصحيح، ودرء التعارض، والتدمرية، ونقض المنطق، ونحوها ممّا ليس هذا محلّ بسطه.

_ 1 انظر: الوافي بالوفيات للصفدي 7/25. وفوات الوفيات للكتبي 1/76-77. وجلاء العينين للآلوسي ص 8.

(4) أنّ بعض رسائل شيخ الإسلام - رحمه الله - ليس لها اسم أُطلق عليها من قِبَله، ومن ذلك رسائله التي كانت إجابات على أسئلة ترد عليه من أمصار المسلمين؛ إذ كانت تُسمّى بحسب البلدة التي ينتمي إليها السائل، أو أنّ تلاميذ شيخ الإسلام كانوا يُسمّونها باسم معيّن. (5) قد توافق كلّ من طبع هذا الكتاب على تسميته باسم ((النبوات)) . وهو ما اشتهر بين الناس أيضاً. فالذي أُرجّحه - والله أعلم - إبقاء عنوان الكتاب على ما عُرف به: ((النبوات)) فقط؛ إذ هذا الاسم في صميم الموضوع، وقد تعارف طلبة العلم على إطلاقه، وانتشر بينهم بهذا الاسم. ولا محذور في إبقائه على هذا الاسم - إن شاء الله، ولو غُيِّر لالتبس على الناس، إذ قد يُظنّ أنه كتاب آخر غير كتاب ((النبوات)) المعروف. والله أعلم. ثانياً: توثيق نسبة الكتاب إلى مؤلفه: هذا الكتاب هو كتاب شيخ الإسلام - رحمه الله - من غير شكّ، ونسبته إليه قطعية بدلائل يقينيّة. منها: (1) الكتاب لم يُنسب إلى غير شيخ الإسلام. بل قد صُرّح في أول نسخه المخطوطة باسم مؤلفه، وهو شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ووضع اسمه على الغلاف كذلك. (2) إنّ شيخ الإسلام - رحمه الله - أشار في هذا الكتاب إلى كثير من كتبه المشهورة المعروفة. وهذا لا يترك محلاً للشكّ في أنّه هو المؤلف له - رحمه الله تعالى. (3) أنّ المستقرئ للكتاب يُدرك أنّ هذا الكتاب هو كتاب شيخ الإسلام - رحمه الله؛ فالأسلوب هو أسلوبه من حيث العرض، والردّ على المخالفين في أصولهم ومذاهبهم وأقوالهم، والاستطراد في بعض المسائل.

(4) أنّ من ترجم لشيخ الإسلام - رحمه الله - من تلاميذه ذكر هذا الكتاب: كتاب النبوات والمعجزات ضمن مؤلفاته. وهكذا فالكتاب هو كتاب شيخ الإسلام - رحمه الله - إذ عليه نور النبوة الذي هو سمة كتبه الأخرى. ثالثاً: تاريخ تأليف الكتاب: بعد استقراء هذا الكتاب، ومقارنته بكتب شيخ الإسلام الأخرى، اتضح لي أنّ كتاب النبوات من أواخر ما كتب شيخ الإسلام - رحمه الله. وربّما لو قلتُ بأنّه ألّفه في سجنه الأخير، لما كنت مجانباً للصواب، أو مصادماً للحقيقة. وعلى كلّ حال: هو أمرٌ تبيّن لي من خلال الاستقراء، ولا دليل ثابت عليه، فهو لا يعدو كونه مجرّد احتمال. وقد ذكر ابن عبد الهادي أنّ شيخ الإسلام لبث مقيماً بسجن القلعة سنتين وثلاثة أشهر وأياماً، ثم توفي إلى - رحمة الله ورضوانه - وما برح في هذه المدة مكباً على العبادة والتلاوة وتصنيف الكتب في الردّ على المخالفين، وأنّ أكثر كتبه كتبها وهو في السجن1. وذكر ابن عبد الهادي أيضاً أنّ مؤلفاته كانت على ثلاثة أنواع؛ نوع أكمله وبيَّضه، ثم كُتب عنه. ونوع أكمله ولم يُبيِّضه. وجملة كثيرة من كتبه لم يُكملها2. والناظر في كتاب النبوات يرى أنّ شيخ الإسلام - رحمه الله - ذكر فيه كثيراً من المباحث العقديّة، والجزئيات الأصولية؛ فهو كالفهرس لكتبه الأخرى، فيه خلاصة ما كتبه - رحمه الله - في كتبه السابقة.

_ 1 انظر: العقود الدرية ص 361. 2 انظر: المصدر نفسه ص 373.

وكذا يُلاحظ عدم ترتيب معلومات الكتاب، ممّا يُرشد إلى أنّه من النوع الثاني من كتب شيخ الإسلام؛ وهي الكتب التي أكملها، ولم يُبيّضها. والأمر المهمّ هو أنّ شيخ الإسلام - رحمه الله - ذَكَر في كتاب ((النبوات)) أهمّ وأشهر كتبه، ممّا يدلّ على أنّها متقدّمة على هذا الكتاب في التأليف. ومن الكتب التي ذكرها، والتي سأحاول - قدر المستطاع - أن أذكرها مرتبة وفق تسلسل تأليفها الزمني: 1- ((بغية المرتاد)) ، أو ("السبعينية") . ألّفها في الاسكندرية1. 2- ((شرح الأصفهانية)) . ألّفه في مصر2. 3- ((بيان تلبيس الجهمية)) . ألّفه في مصر3. 4- ((درء تعارض العقل والنقل)) . ألّفه بعد رجوعه إلى الشام. وقد رجح الدكتور محمد رشاد سالم أنّه ألّفه بين سنتي 713-717هـ لأسباب ذكرها4. 5- ((منهاج السنة النبوية)) . ألّفه في الشام؛ لأنه صرح فيه بذكر ((درء تعارض العقل والنقل)) أكثر من مرة5. 6- ((كتاب الصفدية)) . ألّفه بالشام؛ فقد صرّح فيه بذكر ((درء تعارض العقل والنقل)) 6.

_ 1 انظر: النبوات ص 467. والصفدية 1/302. والرد على المنطقيين ص 3. 2 انظر: النبوات ص 777. والرد على المنطقيين ص 254. وذيل طبقات الحنابلة 1/403. 3 انظر: النبوات ص 774. وذيل طبقات الحنابلة 1/403. 4 انظر: مقدمة تحقيق درء تعارض العقل والنقل 1/8-10. وانظر: النبوات ص 773. والرد على المنطقيين ص 253. 5 انظر: مقدمة تحقيق منهاج السنة النبوية 1/88. 6انظر: كتاب الصفدية 2/42، 326.

7- ((الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان)) . ألّفه في دمشق؛ لأنّه صرّح فيه بذكر كتابه ((منهاج السنة النبوية)) 1، وكتابه ((درء تعارض العقل والنقل)) 2. 8- ((الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح)) . وهو آخر هذه الكتب؛ فقد صرح فيه بذكر ((الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان)) 3. وقد ذكر شيخ الإسلام هذا الكتاب في ((النبوات)) 4؛ مما يُرشد إلى أنّ كتاب النبوات متأخّر عنه. 9- ((الردّ على المنطقيين)) . ألّفه بعد ((الجواب الصحيح)) ؛ فقد صرح فيه بذكر ("الجواب الصحيح)) 5، وذكر فيه ((الصفدية)) 6. وقد جزم د/ عبد الرحمن الفريوائي أنّ شيخ الإسلام - رحمه الله - ألّف هذا الكتاب - ((الردّ على المنطقيين)) - قبل تأليف كتابه ((درء تعارض العقل والنقل)) 7. وهذا غير صحيح، بل صرّح شيخ الإسلام - رحمه الله - في كتابه الردّ على المنطقيين بذكر كتابه درء تعارض العقل والنقل في مواضع8.

_ 1 انظر: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 189. 2 انظر: المصدر نفسه ص 199. 3 انظر: الجواب الصحيح 3/349. 4 انظر: النبوات ص 777-778. 5 انظر: الرد على المنطقيين ص 254. 6 انظر: المصدر نفسه ص 278، 301، 314، 460. 7 انظر: شيخ الإسلام وجهوده في الحديث وعلومه للفريوائي 1/37. 8 انظر: الرد على المنطقيين ص 53، 324، 373.

وهذا دليلٌ واضح على أنّ كتاب الردّ على المنطقيين متأخّرٌ عن درء تعارض العقل والنقل في التأليف وقد ذكر شيخ الإسلام - رحمه الله - أنّه ألّف ("الردّ على المنطقيين)) في الربوة بدمشق1. وقال فيه: (وكذلك بيَّنّا طرق الناس في إثبات العلم بالنبوات في شرح الأصفهانية، وكتاب الردّ على النصارى، وغيرها" 2. ولو كان شيخ الإسلام - رحمه الله - قد ألّف كتاب ((النبوات)) ، لنوّه بذكره؛ إذ هو في صميم الموضوع. ومن الكتب التي ذكرها شيخ الإسلام - رحمه الله - في ((النبوات)) : تفسير سورة الإخلاص3. مسألة القادر المختار4. مسألة العدل والظلم5. مسألة القدرة والإرادة6. وبعد هذا العرض الموجز لأشهر مؤلفات الشيخ، تبيَّن لنا بالدلائل القطعيّة أنّ كتاب ((النبوات)) ممّا أُلِّف في الشام، وأنّه من آخر ما ألّف. وقد ضمّنه - رحمه الله - خلاصة آرائه، وأفكاره، واجتهاداته.

_ 1 انظر: المصدر نفسه ص 184. 2 المصدر نفسه ص 184-185. 3 انظر: النبوات ص 215. 4 انظر: النبوات ص 1113. 5 انظر: النبوات ص 1113. 6 انظر: النبوات ص 750.

ومن هنا تأتي أهميته العلمية، ومكانته في التعرّف على أقوال شيخ الإسلام - رحمه الله - الأخيرة. لذلك: إن أتت أقوال للشيخ - رحمه الله - تتعارض مع ما في ((النبوات)) ، فالمعتبر ما في كتاب ((النبوات؛ إذ هو خلاصة أفكاره، وخاتمة أقواله، وناسخٌ لما تقدّم من آرائه. فعلى سبيل المثال: ما يتعلّق بحياة الخضر عليه السلام: نجد شيخ الإسلام في الفتاوى قد رجح حياة الخضر، ونافح عن ذلك بشدة، وانتقد من يقول بموته. وهذا في ((مجموع الفتاوى)) 1. أما في كتابه ((النبوات)) : فالأمر بخلاف ذلك؛ إذ مال إلى الرأي القائل بموته، وصرّح بأنّ الشيطان يتمثّل في صورة إنسيّ، ويقول إنه الخضر2. وكذلك مسألة: هل آدم أُهبط من جنة التكليف التي في السماء؟ أم من جنّةٍ في الأرض؟ . نجده في ((مجموع الفتاوى)) يذكر أنّ في المسألة قولاً واحداً لأهل السنّة، وهو أنّها جنّة الخلد. ويذكر أنّ من قال إنّها جنّة في الأرض، فهو من المتفلسفة الملحدين، أو من إخوانهم المتكلمين المبتدعين3. أما في ((النبوات)) : فقد جعل في المسألة قولين، أصحّهما أنّ جنّة آدم كانت جنّة التكليف، ولم تكن في السماء4. هذه الأمور، وأمثالها تجعلنا نجزم أنّ كتاب ((النبوات)) هو خلاصة

_ 1 انظر: مجموع الفتاوى 4/338. 2 انظر: النبوات ص 1290-1294. 3 انظر: مجموع الفتاوى 4/347-349. 4 انظر: النبوات ص 846.

أقوال شيخ الإسلام - رحمه الله، وأوثق آرائه، وزبدة أفكاره التي استقرّ عليها. هل الكتاب ناقص، أم لا؟ أشار بعض الباحثين إلى أنّ كتاب ((النبوات)) ناقص، ولم يذكروا دليلاً على ذلك. ومن هؤلاء: د/ محمد رشاد سالم رحمه الله في كتابه: ((مقارنة بين الغزالي وابن تيمية)) . قال - رحمه الله - وهو يتكلم عن شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله: (وقد خصّص كتابين من كتبه للنبوة؛ 1- أولهما وأهمهما: كتاب ((الصفدية)) . وقد كتبه للرد على من زعم أن معجزات الأنبياء قوى نفسانية. 2- والثاني: كتاب ((النبوات)) . ويهتم فيه ابن تيمية بالرد على آراء المتكلمين في مسألة النبوة. وأُرجّح أنّ قسماً لا يُستهان به من الكتاب مفقود"1. وممّن قال بنقصه، ولم يورد دليلاً على ذلك: د/ عبد الرحمن المحمود، الذي قال وهو يستعرض مؤلفات شيخ الإسلام - رحمه الله: (النبوات. وهو في الردّ على الأشاعرة، ومنهم الباقلاني في مسألة معجزات الأنبياء والفرق بينها وبين الكرامات والخوارق الشيطانية. وهو مطبوع، لكن فيه نقص. ولعلّ الله أن ييسر مخطوطات هذا الكتاب ليحقق ويُخرج بشكل جيد"2. وأقول: لا أدري ما هي الأدلة التي استندوا إليها، فخلصوا إلى هذا الرأي، ولا ما هي الأسس التي بنوا عليها، فرجحوا نقصان الكتاب؟

_ 1 مقارنة بين الغزالي وابن تيمية ص 76. 2 موقف ابن تيمية من الأشاعرة 1/201.

ولعلّ الذي دفعهم إلى هذا القول نظرهم إلى أول الكتاب، وملاحظتهم خلوّه من خطبة أو استفتاح، الأمر الذي يُخالف عادة المؤلفين. ويُردّ عليهم: 1- أنّ ذكر الخطبة، أو الاستفتاح ليس عادة مطردة لشيخ الإسلام رحمه الله؛ إذ يوجد من مؤلفات الشيخ ما هو خال من ذلك، ويبدأ به مباشرة بقوله: فصل؛ كصنيعه في كتاب ((النبوات)) . ومن ذلك - على سبيل المثال لا الحصر - كتاب الردّ على الأخنائي، وكتاب معارج الوصول - وهما مما ألّفه الشيخ وهو في السجن - وأكثر الرسائل التي احتواها كتاب جامع الرسائل - الذي حققه د/محمد رشاد سالم - وكذلك أغلب ما في مجموع الفتاوى، ومجموعة الرسائل الكبرى. 2- أضف إلى هذا أنّ كتاب النبوات لم يخل ممّا يُشبه الاستفتاح؛ إذ في أوله بسملة، وثناء على الله تعالى، ثم عقّب بقوله: فصل. 3- وممّا يُؤيّد ما ذهبت إليه - وهو قولي بأنّ كتاب ((النبوات)) ليس ناقصاً - أنّ الشيخ رحمه الله لم يشر إلى مسألة تقدّمت، إلا وهي في الكتاب. وهذا توصّلتُ إليه بعد استقراء تام لكتاب النبوات. ولو كان ثمّة نقص - كما ادّعى البعض - لفُقدت بعض المسائل التي أشار الشيخ إلى أنّه قد قدّم الكلام عنها. 4- وممّا يزيد الأمر يقيناً لديّ: وجود نسخة مخطوطة كتبت بعد وفاة المؤلف رحمه الله باثنتين وثمانين سنة؛ إذ كتبت في عام 830?، وهي قريبة العهد من عصر المؤلف. وقد ضمنها ابن زكنون رحمه الله مجموعه الكبير: ((الكواكب الدراري في

ترتيب مسند الإمام أحمد)) - وقد ضمّ هذا المجموع رسائل كثيرة لشيخ الإسلام رحمه الله. وذكر - أعني ابن زكنون - بداية كتاب النبوات في النصف الأسفل من إحدى الصفحات، حيث سبقه في النصف الأعلى خاتمة كتاب لأحد العلماء. وحين انتهت المخطوطة، أتبعها بذكر كتاب الصارم المنكي لابن عبد الهادي. فلم يتقدّم مخطوطة النبوات خرمٌ ولا اختزال، بل هي باقية على حالها، كما وضعها ابن زكنون - رحمه الله - بعد اثنتين وثمانين سنة من وفاة شيخ الإسلام. وهذه النسخة قد مضى على كتابتها سبع وستمائة سنة، وهي محفوظة في هذا المجموع الكبير الذي حفظ لنا ذخائر من تراث شيخ الإسلام رحمه الله، ومؤلفات تلاميذه رحمهم الله. 5- إنّ كتاب ((النبوات)) لم يُشر إليه أحدٌ من تلاميذ شيخ الإسلام، باستثناء ابن عبد الهادي، والصفدي. وأما ابن القيم - رحمه الله: فمع جلالة قدره، وشدة التصاقه بالشيخ، وحرصه على مؤلفاته، وجمعه لأسمائها في فهرس، فإنّه لم يذكر كتاب ((النبوات)) . وهذا يدلّ على ما ذكرناه سابقاً؛ من أنّ كتاب النبوات من آخر ما ألّف شيخ الإسلام - رحمه الله - وأنّه ممّا كُتب ولم يُبيّض. ولم يشتهر هذا الكتاب عند تلاميذ شيخ الإسلام، بل ولا الخاصة منهم، بل لم يأخذ حظه من الشهرة بين طلبة العلم - كما وقع لكتب

شيخ الإسلام الأخرى مبكراً - إلا بعد أن طُبع الكتاب طبعته الأولى عام 1346?. وقد بذلت قصارى جهدي؛ من البحث الطويل، وسؤال المختصين، والمكتبات الكبيرة، والمراكز المشهورة عن نسخ للكتاب، فلم أجد من يدلّني على نسخة أخرى لهذا الكتاب. وقد خاطبت الشيخ محمد إبراهيم الشيباني مدير مركز المخطوطات والتراث والوثائق في الكويت، فجاءني منه ردّ بتاريخ 13/7/1413? بأنّه لا يعلم أن للكتاب نسخة أخرى، ووعد بأنه إذا وجد شيئاً أثناء بحثه في مكتبات العالم أن يبلغني به، ولم أتلق منه بعد ذلك أي اتصال. وقد بحثتُ في مراكز المخطوطات في كل من الجامعة الإسلامية، وجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض، وجامعة أم القرى في مكة المكرمة، وجامعة الملك سعود في الرياض، وجامعة الملك عبد العزيز في جدة، ومركز الملك فيصل للمعلومات في الرياض، ومكتبة الملك فهد الوطنية في الرياض، والمكتبة السعودية في دار الإفتاء في الرياض، فلم أجد لكتاب النبوات أثراً في هذه الأماكن، باستثناء الجامعة الإسلامية؛ إذ يوجد في مكتبة المخطوطات فيها صورة للنسخة الوحيدة الموجودة في المكتبة الظاهرية. وقد سألت عدداً من المهتمين بمؤلفات شيخ الإسلام رحمه الله، فأفادوني بأنهم لا يعلمون بوجود نسخة أخرى للكتاب.

المسألة الثانية: سبب تأليف الكتاب. وفيها ترجمة موجزة للباقلاني، وتعريف بكتابه ((البيان)) . أولاً: سبب تأليف الكتاب: ألّف شيخ الإسلام رحمه الله كتاب النبوات لأمرين؛ عام، وخاص. أما الأمر العام: فهو: أ- إبراز معتقد أهل السنة والجماعة في الفرق بين النبي والمتنبي، ومعرفة طرق إثبات النبوة، والفروق بين خوارق العادات. قال - رحمه الله: (فينبغي أن يتدبر هذا الموضوع، وتفرق هذه الفروق الكثيرة بين آيات الأنبياء وبين ما يشتبه بها، كما يعرف الفرق بين النبي والمتنبي، وبين ما يجيء به النبي وما يجيء به المتنبي. فالفرق حاصل في نفس صفات هذا وصفات هذا، وأفعال هذا وأفعال هذا، وأمر هذا وأمر هذا، وخبر هذا وخبر هذا، وآيات هذا وآيات هذا؛ إذ الناس محتاجون إلى هذه الفروق أعظم من حاجتهم إلى غيره، والله تعالى يُبيِّنه ويُيسِّره) 1. وقال رحمه الله: (والفرق بين النبي والساحر أعظم من الفرق بين الليل والنهار"2. ب- الردّ على المخالفين في النبوات، من المتكلمين - أشاعرة ومعتزلة ومن وافقهم - والفلاسفة. قال شيخ الإسلام - رحمه الله: (إنّ المتكلمين المبتدعين تكلموا في النبوات بكلام كثير، لبسوا فيه الحق بالباطل؛ كما فعلوا مثل ذلك في غير

_ 1 النبوات ص 173. 2 المصدر نفسه ص 845.

النبوات؛ كالإلهيات، وكالمعاد. وعند التحقيق لم يعرفوا النبوة، ولم يثبتوا ما يدلّ عليها، فليس عندهم لا هدى ولا بيّنات"1. وأما الأمر الخاصّ الذي ألّف شيخ الإسلام - رحمه الله - لأجله كتاب ((النبوات)) : فقد ناقش شيخ الإسلام - رحمه الله - في هذا الكتاب الأشاعرةَ مناقشة تفصيليّة مستفيضة، وذلك من خلال مناقشته لشيخهم الباقلاني في كتابه ((البيان)) الذي هو العمدة عند الأشاعرة في مبحث النبوات2. ويوضح شيخ الإسلام - رحمه الله - أسباب ردّه على الأشاعرة، فيقول: (لا حول ولا قوة إلا بالله! ولو لم يتعلق هذا بالإيمان بالرسول، وبما أخبر به الرسول، واحتجنا إلى أن نُميّز بين الصحيح والفاسد في الأدلة والأصول، لما ورد على هؤلاء من هذه السؤالات، ولم تكن بنا حاجة إلى كشف الأسرار، لكن لما تكلموا في إثبات النبوات صاروا يوردون عليها أسئلة في غاية القوة والظهور، ولا يُجيبون عنها إلا بأجوبة ضعيفة، كما ذكرنا كلامهم، فصار طالب العلم والإيمان والهدى من عندهم لا سيما إذا اعتقد أنهم أنصار الإسلام ونظاره والقائمون ببراهينه وأدلته، إذا عرف حقيقة ما عندهم، لم يجد ما ذكروه يدلّ على ثبوت نبوة الأنبياء، بل وجده يقدح في الأنبياء، ويورث الشك فيهم أو الطعن ... فانسد طريق الإيمان والعلم، وانفتح طريق النفاق والجهل، لا سيما على من لم يعرف إلا ما قالوه. والذي يفهم ما قالوه لا يكون إلا فاضلاً قد قطع درجة الفقهاء،

_ 1 المصدر نفسه ص 771، وانظر: ما بعدها ص 773، و (لا) في (لا هدي) ينبغي أن تحمل على الزيادة. 2 طبع هذا الكتاب بتحقيق أحد النصارى/ يوسف مكارثي اليسوعي، ويقع في (108) صفحات.

ودرجة من قلّد المتكلمين، فيصير هؤلاء إما منافقين، وإما في قلوبهم مرض. ويظن الظان أنه ليس في الأمر على نبوة الأنبياء براهين قطعية، ولا يعلم أن هذا إنما هو لجهل هؤلاء وأصولهم الفاسدة التي بنوا عليها الاستدلال، وقدحهم في الإلهية، وأنهم لم ينزهوا الرب عن فعل شيء من الشرّ، ولا أثبتوا له حكمة ولا عدلاً ... وهم في الأصل إنما قصدوا الرد على القدرية الذين قالوا: إن الله لم يشأ كلّ شيء، ولم يخلق أفعال العباد، وهو مقصود صحيح، لكن ظنوا أن هذا لا يتمّ إلا بجحد حكمته وعدله ورحمته، فغلطوا في ذلك ... "1. إذاً: فالأمر الخاصّ الذي ألّف شيخ الإسلام - رحمه الله - لأجله كتاب النبوات كما مرّ - هو مناقشة الأشاعرة مناقشة تفصيليّة مستفيضة، وذلك من خلال مناقشة شيخهم الباقلاني في كتابه ((البيان)) الذي هو عمدة مذهب الأشاعرة في النبوات. يقول شيخ الإسلام - رحمه الله - عن القاضي أبي بكر: (وفي كلامه في هذا الباب2 من الاضطراب ما يطول وصفه، وهو رأس هؤلاء الذين اتبعوه؛ كالقاضي أبي يعلى، وأبي المعالي، والرازي، والآمدي، وغيرهم) 3. وقال أيضاً - عن الأشاعرة -: (وجوّزوا من جهة العقل ما ذكره القاضي أبو بكر: أن يكون الرسول فاعلاً الكبائر، إلا أنه لا بد أن يكون عالماً بمرسله ... فلم يعتمد القاضي أبو بكر وأمثاله في تنزيه الأنبياء لا على دليل عقلي، ولا سمعي في الكتاب والسنة؛ فإن العقل عنده لا يمنع أن

_ 1 النبوات ص 1145-1150. 2 يعني في الفرق بين المعجزات والسحر. 3 النبوات ص 960.

يرسل الله من يشاء إذ كان يجوز عنده على الله فعل كلّ ما يقدر عليه، وإنما اعتمد على الإجماع"1. وذكر هذا الأمر الخاص الذي ألّف لأجله شيخ الإسلام كتاب ((النبوات)) ، يستلزم من الباحث أن يُعرّف بالباقلاني، ويُعرّف بكتابه. ثانياً: ترجمة الباقلاني، والتعريف بكتابه ((البيان)) . الباقلاني هو2: القاضي الأصولي أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد ابن جعفر بن قاسم البصري ثم البغدادي، ابن الباقلاني. يُعدّ من أكابر أئمة الأشاعرة بعد مؤسسها أبي الحسن الأشعري، عالم بعلوم أهل الكلام، ولم يعرف تاريخ ولادته. ذكره القاضي عياض في طبقات المالكية، وقال عنه: إليه انتهت رئاسة المالكية في وقته. وقال عنه الذهبي: وكان يضرب المثل بفهمه وذكائه ... وكان ثقة إماماً بارعاً، صنّف في الردّ على الرافضة والمعتزلة والخوارج والجهمية والكرامية، وانتصر لطريقة أبي الحسن الأشعري، وقد يُخالفه في مسائل، فإنه من نظرائه وقد أخذ علم النظر عن أصحابه. مات الباقلاني في ذي القعدة سنة ثلاث وأربع مائة، وصلى عليه ابنه حسن، وكانت جنازته مشهودة.

_ 1 النبوات ص 476-477. 2 انظر: ترجمة الباقلاني في: تاريخ بغداد للخطيب 5/379-383. ووفيات الأعيان لابن خلكان 4/400-401. والبداية والنهاية لابن كثير 11/373. وسير أعلام النبلاء للذهبي 17/190-193.

ومن أهم مؤلفاته المطبوعة: 1- ((التمهيد)) ، وسُمّي ((تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل)) . وقد طبع الكتاب أكثر من طبعة. 2- ((الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به)) . 3- كتاب ((البيان)) عن الفرق بين المعجزات والكرامات والحيل والكهانة والسحر والنارنجات. فالباقلاني إذاً يُعتبر المؤسس الثاني للمذهب الأشعري؛ فهو تلميذ لتلاميذ أبي الحسن الأشعري، فهو قريب العهد به. وعلى الرغم من أن تلامذة الأشعري كانوا أقوياء وذوي تأثير واسع، إلا أن أحداً منهم لم يبلغ ما وصل إليه الباقلاني. ولعلّ الفترة التي عاشها الأشعري وتلامذته كان السائد فيها المذهب الكلابي، فكان المذهبان متداخلين. فلما جاء الباقلاني جرّد نفسه لنصرة أبي الحسن الأشعري ومذهبه، والعمل على دعمه بأوجه جديدة من الحجج والمناظرات1. هذا عن الباقلاني. أما كتابه ((البيان)) : فهو العمدة - كما أسلفنا - عند الأشاعرة في النبوات. وقد أصّل فيه مؤلفه أصولاً، وقعّد قواعد تُخالف أصول أهل السنة والجماعة، ولذلك التزم فيه لوازم باطلة. وقد ناقش شيخ الإسلام - رحمه الله - هذه الأصول، وردّ على هذه اللوازم في كتاب النبوات. ولا بأس من إيراد بعض آراء الباقلاني في كتابه ((البيان)) ، لتتضح الأفكار

_ 1 انظر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة للمحمود 2/549.

التي ناقشها شيخ الإسلام - رحمه الله - في كتابه النبوات. 1- يقول الباقلاني: (المعجزة قد تكون بمعنى منع العادة المألوفة؛ مثل أن يقول: آيتي وحجتي أنني أقوم من مكاني، وأُحرّك يدي، وأنّكم لا تستطيعون مثل ذلك"1. 2- ويقول أيضاً: (وقد اتفق على أنه لا دليل يفصل بين الصادق والكاذب في ادعاء الرسالة، إلا آيات المعجزة.." 2. 3- قوله: (إن فرض التوحيد والمعرفة واجب من جهة السمع المحض) 3. 4- يرى الباقلاني أنّ خوارق الأنبياء قد تقع من غير الأنبياء، ولكن لا تعتبر معجزة؛ لأنه لا يُتحدّى بها. فليس جنس المعجزة عنده الآية، وإنما هي التحدي وادعاء النبوة. أما الآية فلا تعتبر معجزة لأن غير النبي يأتي بها، ولكن لا يدّعي النبوة4. 5- الفرق بين المعجزة والكرامة هو التحدي، وإلا فالجنس واحد؛ فقد يكون للولي مثل معجزات الأنبياء، إلا أنه لا يتحدى بها5. 6- يرى أنه لا يُستثنى من السحر إلا ما ورد الإجماع والتوقيف على أنه لا يكون بسحر الساحر. ومن الأشياء التي لا يستطيعها الساحر، ويستثنى من فعلها: آيات الأنبياء الكبرى6.

_ 1 البيان ص 16. 2 البيان ص 38. 3 البيان ص 42. 4 انظر: البيان ص 47. 5 انظر: البيان ص 48. 6 انظر: البيان ص 91.

وبعد: فهذه أهم الأقوال التي وقفت عليها في كتاب البيان تُخالف مذهب أهل السنة والجماعة، وقد تصدّى لها شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - بالردّ والتفنيد. وثمّة أقوال وآراء عن السحرة وغيرهم، وعن الكرامة، وغير ذلك. ومن الأمور التي ناقش فيها شيخ الإسلام - رحمه الله - الأشاعرةَ في كتاب ((النبوات)) : تجويزهم على الله تعالى فعل كلّ شيء، وعدم تنزيهه عن شيء. وهذه من اللوازم التي التزموها، وانبثقت عن أقوالهم المتقدّمة. فيجوز عندهم أن يجعل الله الساحر والكافر والفاسق نبيّاً، وأن يرسله، ويؤيده بالمعجزات والآيات. ويجوز عندهم أن لا يميز الله بين الصادق والكاذب، إلا بأن يُظهر على يد الأول المعجزات، ويمنع الآخر منها. ومع تجويزاتهم هذه، نجدهم قد أنكروا حكمة الله، وعدله، ورحمته، فانسدّ عليهم طريق النبوة. المسألة الثالثة: منهج شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه ((النبوات)) : الكتابة عن منهج أيّ مؤلّفٍ في أيّ كتابٍ من كتبه فيه نوعٌ من المشقة؛ إذ الأمر يستلزم القراءة المتأنيّة، والفحص الدقيق، والاستقراء التامّ. فما ظنّك إن كانت الكتابة عن منهج شيخ الإسلام الفريد في كتاباته، والمتعمّق في تأليفاته، صاحب الكتب التي لا زالت كلماتها نابضة، تُجدّد - بإذن الله - من الدين ما اندثر، وتُظهر - بعون الله - منه ما انطمر، وتُحيي من السنن ما أماته أهله وانقبر. يُروى عن الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - أنه قال عن منهج شيخ الإسلام: (شيخ الإسلام يأتي إلى جدار الباطل فيلطمه حتى يعتدل. أما ابن

القيم فيأخذ هذا الجدار حجراً حجراً، فيكسرها إلى أشلاء"1. فشيخ الإسلام - رحمه الله - رجلٌ فريدٌ في نوعه، فريدٌ في تأليفاته، فريدٌ في منهجه، جاء في وقت اندثرت فيه السنة، واشرأبّت أعناق أهل البدعة، وباض فيه أهل الأهواء وفرّخوا، فقام بنصر دين الله، وجاهد لإعلاء كلمة الله، وكافح من أجل توحيد الله، وإفراده بالعبادة وحده دون سواه. كتب عنه بعض العلماء حين رآه: (فألفيتُه ممن أدرك من العلوم حظّاً، وكاد يستوعب السنن والآثار حفظاً. إن تكلّم في التفسير فهو حامل رايته، أو أفتى في الفقه فهو مدرك غايته، أو ذاكر بالحديث فهو صاحب علمه وذو روايته، أو حاضر بالنِّحَل والملل لم يُرَ أوسع من نحلته في ذلك ولا أرفع من درايته. برز في كلّ فنّ على أبناء جنسه، ولم ترَ عين من رآه مثله، ولا رأت عينه مثل نفسه"2. هذا عن الرجل.. فماذا عن الكتاب؟! . سبق الحديث عن كتاب النبوات من حيث أهميته، وذُكر حينها أنّ الكتاب من أجمع الكتب، وأشملها، وأنّ فيه خلاصة آراء صاحبه، وزبدة أفكاره. وهذا ممّا يُصعِّب الحديث عن منهج مؤلفه. ولكن ما لا يُدرك جلّه، لا يُترك كلّه. وهذا جهد المقلّ، أتحدّث فيه عن منهج شيخ الإسلام - رحمه الله - في كتابه ("النبوات") ، مجملاً ذلك في النقاط التالية:

_ 1 نقلاً عن شريط عن شيخ الإسلام ابن تيمية للشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ. 2 العقود الدرية ص 10.

1- يذكر شيخ الإسلام - رحمه الله - في كتابه أقوال ومذاهب المخالفين من فلاسفة ومتكلمين، ويردّها إلى أصولها. فيُوضّح الأصول البدعية التي قامت عليها، ويُبيِّن مخالفتها لأصول الرسول صلى الله عليه وسلم، ويذكر اللوازم التي التزمها أصحابها لأجلها، ثمّ ينقضها، ويردّ عليها، ويُنبّه إلى أقوال من طعن فيها أو ردّ عليها. ويجتثّ هذه الأصول من جذورها، فتنهار الأقوال بأصحابها مع الأسس التي بنوا عليها، وتُسوّى بهم الأرض، فلا ترى لهم بناءً مشيّداً. 2- يُكثر - رحمه الله - من الاستطرادات، وبسط الكلام في سرد أدلة الخصم، وذكر حججه. ولكن ليس ذلك حشواً، بل هو شديد العلاقة بأصل الكلام، حتى إنّ المنصف يُدرك أنّ ما بُسط من الكلام هذا موضعه، ولو تُرك ذلك لقلّت فائدة من يُراجعه. 3- أما عن طريقته - رحمه الله - في الردّ على الخصوم، أو عرض مذهب أهل السنة في المسألة: فإنّه قد يوجز تارةً، ويُحيل على مؤلفاته الأخرى، بقوله: كما قد بُسط في غير هذا الموضع، أو: قد بسطناه في موضع آخر، أو: وبسطُ هذا له موضع آخر، ... وهكذا. أو يُطيل النفس في الردّ. وينصر في ردّه المذهب الحقّ والقول الصحيح الذي يعتمد على الكتاب والسنة، مدلّلاً له بكلام الله، أو سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أقوال الصحابة والتابعين؛ من أئمة سلف هذه الأمة المهديين. 4- يُكثر - رحمه الله - من تعضيد كلامه بأقوال العلماء، أو كلام المفسرين، أو أقوال النحويين ليُدلّل على صحة ما ذهب إليه.

فإذا ذكر مسألة ما، استشهد لها بأقوال العلماء، والمختصين من أهل الفنون؛ فإن كانت في التفسير، ذكر بعض أقوال المفسرين، وإن كانت لغوية أورد كلام علماء اللغة والنحويين ... وهكذا. ومن منهجه - رحمه الله - في تفسير الآيات: أن يُفسّر القرآن الكريم بالقرآن، والأحاديث النبوية الصحيحة، وأقوال الصحابة والتابعين - فهو تفسير بالمأثور - أو أقوال المفسرين المعروفين. وهو - رحمه الله - يهتمّ باللغة العربية، فيجمع شواردها، ويسوق شواهدها، ويعتبرها مصدراً من مصادر تفسير القرآن الكريم. فتراه يُناقش علماء التفسير، وأصحاب المعاجم اللغوية في جوانب كثيرة من تفسيراتهم لبعض الآيات، فيُوجّه أقوالهم إن أمكن الجمع بينها، ويذكر جوانب الاتفاق، وأطراف الاختلاف. 5- يُورد أدلة الخصوم، ويُناقشها بما يُجانسها. 6- يذكر أقوال الناس في المسألة، ويختم بما يراه راجحاً، كقوله: والتحقيق:...... ويُعضّد ذلك بالأدلة العقلية، والسمعية، وأقوال العلماء، والتعليل. 7- يسلك في الكلام مسلكاً منهجيّاً يُقرّب فيه المعلومات إلى الفهوم؛ كتقسيم الكلام إلى فصول، أو أنواع، أو أقسام، أو مراتب؛ كي يُقرّب المعلومة إلى ذهن القارئ فيفهمها. 8- إذا ذكر أقوال الخصوم، نسب كلّ قول إلى قائله؛ سواء كان فرقة، أو طائفة، أو شخصاً. 9- يُكثر الاستشهاد على المسألة اللغوية من القرآن الكريم. 10- في حال نقده لقولٍ ما: يسوقه بنصّه، أو يذكره مختصراً.

11- يذكر شبه المخالفين، وأدلتهم، وحججهم، والدوافع التي أفضت بهم إلى مقولتهم، ثمّ يكرّ عليهم بالردّ بكلام داحض لحججهم، كاشف عن عوارهم. 12- أثناء مناقشة الخصوم: كثيراً ما يُشير إلى القواعد الكلية العقليّة؛ إذ هي بديهية مسلّم بها، وتُلزم الخصم، وتفحمه. 13- في معرض مناقشته رحمه الله للشيخ الباقلاني ذكر أقواله، وذكر قول من يُوافقه من أهل المذاهب، أو يُخالفه. 14- قد ينقل - رحمه الله - كلام الباقلاني بنصه من كتابه (البيان) ، أو يعرضه باختصار، أو يذكر خلاصة القول الذي يُريد أن يردّ عليه. 15- قد يردّ - رحمه الله - على الخصوم، ويستدرك عليهم من عدّة وجوه. 16- إذا انتقد شخصية ما، فإنه يورد خلاصة ما قيل في معتقده، ويُعرّج على ذكر بعض مخالفاته التي وقع فيها، ويذكر مقدار قربه أو بعده من مذهب أهل السنة والجماعة. 17- يُشير أحياناً إلى بعض ما ورد في الكتب المتقدمة - كالتوراة والإنجيل ممّا لم يدخله التحريف - ليُعضّد ما ذهب إليه. 18- يتحرّى الدقة، والأمانة العلمية في النقل؛ فيُورد أقوال المخالفين من كتبهم، ويستحضرها عن ظهر قلب؛ فيذكر ما يُريد نقله، ويذر ما لا يُريد، فيأخذ حاجته من الكلام لا يزيد فيه ولا ينقص، معزوّاً إلى المخالفين، أو بعض كتبهم. والإنصاف شعاره - رحمه الله - مع المخالفين. وهذا قد شهد به أعداؤه. 19- التأصيل ووحدة المنهج في مصنفات شيخ الإسلام - رحمه الله - فيفسر بعضها بعضاً، فلا يختلف كلامه، مع كثرة مؤلفاته وتنوع مباحثها، مع تباعد أزمنة تأليفها

المسألة الرابعة: مصادر المؤلف في كتابه، والكتب التي أوردها، أو أشار إليها فيه: لا شكّ أنّ شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - قد أورد الآيات الكثيرة من القرآن الكريم، مستشهداً بها على مسألة، أو رادّاً بها على قول، أو موضّحاً بها قضيّة. وثمّة كتب كثيرة أخذ منها شيخ الإسلام - رحمه الله - ونقل عنها، أو أشار إليها، ودلّ عليها في كتابه. وها أنا ذا أذكرها مستعيناً بالرحمن؛ إذ هو ربي وعليه التكلان: 1- ((صحيح البخاري)) . 2- ((صحيح مسلم)) . 3- ((سنن أبي داود)) . 4- ((سنن النسائي)) . 5- ((سنن الترمذي)) . 6- ((سنن ابن ماجه)) . 7- ((مسند الإمام أحمد)) . 8- ((مصنف عبد الرزاق)) . 9- ((تفسير ابن أبي حاتم)) . 10- ((تفسير الطبري)) . 11- ((تفسير ابن عطية)) . 12- ((تفسير أبي روق)) . 13- ((تفسير البغوي)) . 14- ((تفسير الوالبي)) .

15- ((زاد المسير لابن الجوزي)) . 16- ((رسالة إلى أهل الثغر)) : للأشعري. 17- ((مقالات الإسلاميين)) : للأشعري. 18- ((اللمع في الرد على أهل الأهواء والبدع)) : للأشعري. 19- ((نقض اللمع في الردّ على أهل البدع)) : للقاضي عبد الجبار. 20- ((نقض نقض اللمع)) : للباقلاني. 21- ((شرح اللمع في الرد على أهل البدع)) : للباقلاني. 22- ((الفرق بين المعجزات والكرامات والحيل والكهانات والسحر والنارنجات)) : للباقلاني. 23- ((رسالة الإمام أحمد إلى الخليفة المتوكل)) . 24- ((كتاب خلق أفعال العباد)) : للبخاري. 25- ((كتاب الملل والنحل)) : للشهرستاني. 26- ((معراج السالكين)) : للغزالي. 27- ((إحياء علوم الدين)) : للغزالي. 28- ((المضنون به على غير أهله)) : للغزالي. 29- ((تهافت الفلاسفة)) : للغزالي. 30- ((تهذيب اللغة)) : للأزهري. 31- ((كتاب الدعاء، أو: شأن الدعاء)) : للخطابي. 32- ((رسائل إخوان الصفا)) . 33- ((المطالب العالية)) : للرازي. 34- ((أقسام اللذات)) : للرازي. 35- ((كتاب الإحاطة)) : لابن سبعين.

36- ((لوح الأصالة)) : لابن سبعين. 37- ((كتاب البد)) : لابن سبعين. 38- ((الردّ على ابن سبعين وأهل الوحدة)) : لابن تيمية. وهو المسمّى: ((بغية المرتاد، أو السبعينيّة)) . 39- ((شرح الأصفهانية)) : لابن تيمية. 40- ((الجواب الصحيح)) : لابن تيمية. 41- ((منع تعارض العقل والنقل)) : لابن تيمية. 42- ((مسألة القادر المختار)) : لابن تيمية. 43- ((مسألة العدل والظلم)) : لابن تيمية. 44- ((مسألة القدرة والإرادة)) : لابن تيمية. 45- ((رسالة في الإجماع)) : لابن تيمية. 46- ((العدة)) : لأبي يعلى.

المطلب الثاني: التعريف بالأصل المخطوط

المطلب الثاني: التعريف بالأصل المخطوط أصل الكتاب نسخة مخطوطة، موجودة ضمن ((الكواكب الدراري)) في المكتبة الظاهرية بدمشق، تحمل رقم 581. ومنه صورة في مكتبة المخطوطات في الجامعة الإسلامية تحمل الرقم 4472 فيلم. و ((الكواكب الدراري)) جمعه: علاء الدين أبو الحسن علي بن حسين بن عروة المشرقي الدمشقي الحنبلي، المعروف بابن زكنون. قال عنه الحافظ ابن حجر: "كان زاهداً، عابداً، قانتاً، خيِّراً، لا يقبل من أحد شيئاً، ولا يأكل إلا من كسب يده. مات سنة 837 ?"1. وقد رتّب ابن زكنون في كتابه ((الكواكب)) : أحاديث مسند الإمام أحمد بن حنبل على الأبواب التي وضعها البخاري في صحيحه. وكتاب ((الكواكب الدراري)) كبير جداً، ضمّنه ابن زكنون كثيراً من كتب شيخ الإسلام - رحمه الله؛ مثل: ((اقتضاء الصراط المستقيم)) ، و ((التوسل والوسيلة)) ، و ((السياسة الشرعية)) ، و ((نقض التأسيس)) ، و ((شرح حديث النزول)) . أما كتاب ((النبوات)) : فقد ذكر بعضه في المجلد الحادي والعشرين بعد المائة؛ في آخره، من صفحة (221) ، إلى نهاية المجلد صفحة (251) . واشتمل هذا المجلد على الثلث الأول من كتاب النبوات؛ أي حوالي (30) ورقة.

_ 1 انظر: شذرات الذهب 7/222-223.

ثم أكمله في المجلد الثاني والعشرين بعد المائة؛ من أول صفحة في المجلد، إلى صفحة (76) منه، حيث آخر كتاب النبوات. وكاتب هذه النسخة الفريدة هو: إبراهيم بن محمد بن محمود بن بدر الحنبلي، كتبها عام 830 ?. والنسخة واضحة الخط، قليلة الأخطاء، بل نادرة الأخطاء، بسبب استدراكات الناسخ؛ فكأنه بعد ما فرغ من كتابتها، أعاد مقابلتها، فكتب ما فاته بين السطرين، أو على حاشية النسخة. وهذه الاستدراكات كثيرة؛ مما يُرشد إلى أنّ هذه النسخة مراجعة، ومقروءة، ومقابلة على الأصل. وعلى النسخة بلاغات؛ يقول فيها: بلغ مقابلة بأصله، أو نحو هذه العبارة. وقد اهتمّ الناسخ بوضع النقاط في مواضعها. وعدد أسطر هذه النسخة في كلّ صفحة ما بين 28 - 30 سطراً. وعلى المخطوطة ختم: مجاميع المدرسة العمرية1.

_ 1 المدرسة العمرية الشيخية تنسب إلى واقفها وبانيها الشيخ أبي عمر محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي الحنبلي أخو العلامة الموفق. ولد بجماعيل سنة ثمان وعشرين وخمسمائة، وهاجر إلى دمشق، وتوفي سنة سبع وستمائة. وتقع في الصالحية في وسطها نهر يزيد قبلي الجامع المظفري. قال ابن بدران: (هي موجودة بالصالحية مشهورة معمورة الجدران، لا ظل للعلم فيها ولا أثر. وقد كان بها خزانة كتب لا نظير لها، فلعبت بها أيدي المختلسين، ثم نقل ما بقي وهو شيء لا يُذكر بالنسبة لما كان بها إلى خزانة الكتب في قبة الملك الظاهر في مدرسته) . منادمة الأطلال للعلامة عبد القادر بدران ص 244-246، ط الثانية، 1405هـ، المكتب الإسلامي. وانظر: القلائد الجوهرية في تاريخ الصالحية لابن طولون 1/248-274، ط الثانية، 1401?.

وثمّة ملاحظة على النسخة، وقع فيها الناسخ، ولم يشذّ عنها، هي اثبات ألف (ابن) في شتى المواضع، حتى ولو كانت بين علمين. وهذا لم أُشر إليه في ثنايا التحقيق لكثرته المفرطة، لذا لزم التنويه عنه هاهنا، وبالله التوفيق.

طبعات الكتاب 1- طبع الكتاب لأول مرة في مصر، في المطبعة المنيرية عام 1346?، عن نسخة أصلية، اعتنى بها صاحب المطبعة: محمد منير آغا الدمشقي، الذي كان له قصب السبق في إخراج كتاب ((النبوات)) من عالم المخطوطات. وعلى طبعته هذه تعليقات قليلة. وقد وقعت هذه الطبعة في (300) صفحة. وقد صورت هذه الطبعة (المنيرية) من قبل دار الفكر ببيروت، ومكتبة الرياض الحديثة، دون أن يُشار إليها. ول (محمد منير آغا الدمشقي) المجموعة المنيرية، وهي مجموعة نفيسة ضمّت كثيراً من مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله. فرحم الله صاحب المطبعة المنيرية، وجزاه خير الجزاء على اعتنائه واهتمامه بكتب شيخ الإسلام. 2- طبع كتاب ((النبوات)) كذلك طبعة أخرى باعتناء الشيخ/ محمد حامد الفقي، في مطبعة دار الفكر ببيروت، دون ذكر لتاريخ الطبع. والذي يظهر أنه صورة من المنيرية. وطبعته كذلك باعتناء الفقي دار الكتب العلمية ببيروت عام 1402?. ويقع في (454) صفحة.

3- وأخيراً طبع كتاب ((النبوات)) باعتناء محمد عبد الرحمن عوض، طبعته دار الكتاب العربي ببيروت، عام 1405?. وهذه الطبعة من أقلّ الطبعات اعتناء، على الرغم من أنه كتب عليها: دراسة وتحقيق. وقد لاحظت على هذه الطبعة مجموعة من الملاحظات، أذكر بعضها: 1- أنه أخذ تعليقات محمد منير آغا الدمشقي على الكتاب، وأضافها إلى نفسه. 2- من ذلك: أنه يعزو الآيات القرآنية إلى غير مواضعها في القرآن الكريم، فأحياناً يعزو إلى سورة أخرى، وكثيراً ما يعزو إلى آية أخرى، أو يكتفي بذكر رقم آية واحدة، مع أنّ المذكور في المتن أكثر من ذلك1. 3- أنه انتقد شيخ الإسلام رحمه الله في كثير من الأمور العقدية، وعارضه بإيراد أقوال الفلاسفة، كأنه يؤيدها2. 4- ترتيب الفقرات عنده مشوش، مما يُغيّر المعنى ويُشوهه3. 5- يخلط أحياناً بين كلام شيخ الإسلام رحمه الله وكلام غيره4.

_ 1 انظر: ص 24، 27، 29، 69، 71، 96، 109، 113، 120، 126، 164، 233، 260، 289، 293، 296، 297، 310، 323، 325، 327، 333، 365، 373، 384، 386، 400، 407، 408، 425، 435، 440، 444 من كتاب النبوات، تحقيق / محمد عبد الرحمن عوض. 2 انظر: ص 16، 48، 56، 58، 84، 96، 101، 105، 110، 122، 139، 209 من كتاب النبوات، تحقيق / محمد عبد الرحمن عوض. 3 انظر: على سبيل المثال ص 63، 190-194 من الطبعة المذكورة. 4 انظر: مثلاً خلطه بين الشروط التي يقررها شيخ الإسلام ويراها في المعجزة، وبين التي يردّ عليها، ولا يرضاها، في ص 234-235 من الطبعة المذكورة. وكذا انظر: ص 55.

عملي في الكتاب لقد اجتهدتُ - حسب الوسع والطاقة - في خدمة هذا الكتاب، وإخراجه بهذه الصورة. ويتلخّص عملي بالكتاب في الخطوات التالية: أوّلا- تحقيقُ النص وضبطه، وذلك بالمقابلة بين المخطوطة التي رمزتُ لها بالرمز ((خ)) ، مع أول طبعة؛ أعني طبعة منير آغا الدمشقي المطبوعة عام 1346 هـ والتي رمزت لها بالرمز ((م)) ، وآخر طبعة؛ وهي التي اعتنى بها محمد عبد الرحمن عوض، وطبعت عام 1405? ورمزت لها بالرمز ((ط)) . فأُثبتُ من النّصّ ما تتّفق عليه النسخ، إلاّ أن يكون خطأ ظاهراً. وإذا وجدتُ اختلافات بينها، فإني أُثبتُ منها ما أراه صحيحاً، حتى وإن خالف الأصل المخطوط، وأُشير إلى الفروق الأخرى في الهامش. ثانياً- عزوت الآيات القرآنية إلى مواضعها من القرآن الكريم، بذكر اسم السورة، ورقم الآية. ثالثاً- خرّجت الأحاديث النبوية من الصحيحين، إن كانت فيهما، أو في أحدهما، وإلا فمن كتب الحديث الأخرى، واجتهدت في نقل حكمٍ لأحد العلماء عليها إن لم تكن في الصحيحين أو في أحدهما. وكذا خرّجت الآثار الواردة. رابعاً- عرّفت بالأعلام غير البارزين.

خامساً - اجتهدت في تخريج النصوص، وأقوال الفرق، والناس، التي أوردها المؤلف. فنسبت كلّ قول إلى قائله، وكلّ مذهب إلى فرقته، حسب الطاقة والوسع. ووثقتُ أقوال الباقلاني من كتابه ((البيان)) . سادساً- كلّ ما قال فيه شيخ الإسلام - رحمه الله - إنه بسطه في مواضع أخرى، أشرت إلى هذه المواضع التي ذكره فيها في كتبه الأخرى. سابعاً- علّقتُ على ما يحتاج إلى توضيح وزيادة بيان. وطريقتي في ذلك هي: إن كان للشيخ - رحمه الله - في هذه المسألة كلام في كتاب من كتبه، فإني أنقل عنه ما يُوضّح العبارة، أو يشرح المعنى، أو يزيل اللبس والإشكال إن وقع شيء من ذلك. وإن لم أجد وضّحت المراد بنقل قول أحد العلماء المعتبرين، أو أجتهد في بيان ذلك. ثامناً- شَرَحْتُ الألفاظ والمصطلحات الغريبة. تاسعاً- عرَّفت بالأماكن والبلدان التي وردت. عاشراً- نَسَبْتُ أبيات الشعر الواردة في النص إلى قائليها أحد عشر - عرَّفت بالطوائف والفرق الواردة في الكتاب. ثاني عشر - وَضَعْتُ عناوين جانبية تبرز مباحث الكتاب وجزئياته. ثالث عشر - وَضَعْتُ فهارس عامة للكتاب، وهي: 1- فهرس الآيات القرآنية. 2- فهرس الأحاديث النبوية. 3- فهرس الآثار. 4- فهرس الأعلام المترجم لهم. 5- فهرس الأماكن والبلدان.

6 - فهرس الفرق والطوائف. 7 - فهرس المواد والمصطلحات اللغوية والكلامية. 8 - فهرس الأبيات الشعرية. 9- فهرس المصادر. 10- فهرس الموضوعات.

الباب الثاني: قسم التحقيق

الباب الثاني: قسم التحقيق فصل في معجزات الأنبياء التي هي آياتهم وبراهينهم ... بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربّ العالمين. قال شيخ الإسلام تقي الدّين بن تيميّة - رحمه الله: فصل ((في معجزات الأنبياء التي هي آياتهم وبراهينهم)) ((كما سماها الله آيات وبراهين)) ... [فإنّ لهم1 طرقاً] 2 في التمييز بينها وبين غيرها، وفي وجه دلالتها. طرق النظار في التمييز بين المعجزة وغيرها أمّا الأول: فإنّ [منهم] 3 من رأى [أنّ] 4 [كلّ ما] 5 يخرج عن الأمر المعتاد، فإنه معجزة؛ وهو الخارق للعادة إذا اقترن بدعوى النبوة. وقد علموا أنّ الدليل مستلزمٌ للمدلول، فيلزم أن يكون كلّ من خُرِقت له العادة نبيّاً.

_ قول المعتزلة وغيرهم: إن العادة لا تنخرق إلا لنبي [فقالت] 6 طائفة7: لا تخرق العادة إلا لنبي. وكذبوا بما يذكر من 1 أي للنظّار؛ كما هو مثبتٌ في ((م)) ، و ((ط)) . 2 في ((م)) : وللنظّار طرقٌ. وفي ((ط)) : للنظّار طرق - بإسقاط الواو. 3 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 4 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 5 في ((خ)) : كلما - موصولة. 6 في ((ط)) فقط: قالت. 7 وهم أكثر المعتزلة؛ كما سيأتي قول شيخ الإسلام رحمه الله في ذلك. وهم يقولون إنّ الخوارق لا تظهر على يد غير الأنبياء. يقول القاضي عبد الجبار:"إنّ العادة لا تُخرق إلا عند إرسال الرسل. ولا تنخرق لغير هذا الوجه؛ لأنّ خرقها لغير هذا الوجه يكون بمنزلة العبث". انظر: المغني في أبواب العدل والتوحيد، لعبد الجبار 15/189.

خوارق السحرة والكهان، وبكرامات الصالحين. وهذه طريقة أكثر المعتزلة1، وغيرهم؛ كأبي محمد بن حزم2، وغيره3.

_ 1 المعتزلة: سموا بذلك لاعتزال رئيسهم واصل بن عطاء مجلس الحسن البصري. وقيل لاعتزالهم قول الأمة في دعواهم أنّ الفاسق من أمة الإسلام لا مؤمن ولا كافر. والأول أرجح. ولهم أصول خمسة اشتهروا بها، هي: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. انظر: الفرق بين الفرق للبغدادي ص20، 114. والملل والنحل للشهرستاني1/43. وخطط المقريزي 2/345. والبرهان في معرفة عقائد أهل الأديان ص 49. 2 هو علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الفارسيّ الأصل، الأموي مولاهم، القرطبي الظاهري. قال عنه الذهبي: "الإمام الأوحد، البحر ذو الفنون والمعارف، أبو محمد". ولد بقرطبة في سنة 384 هـ، وتوفي سنة 456 ?. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 18/184. وشذرات الذهب لابن العماد 3/299. ولأبي محمد بن حزم قول في أنّ الخوارق لا تظهر على يد غير الأنبياء. يقول: " ... وأنّ المعجزات لا يأتي بها أحدٌ إلا الأنبياء عليهم السلام. قال عزّ وجلّ: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [غافر، 78] ... " المحلّى لابن حزم 1/36. وانظر: الفصل له 5/2-4، 8. والدر فيما يحب اعتقاده، له ص 192. 3 مثل أبي عبد الله الحليمي. انظر: المواقف في علم الكلام للإيجي ص 370. ولوامع الأنوار للسفاريني 2/394. وقال الإيجي في ((المواقف)) عن الكرامات: "وهي جائزة عندنا خلافاً للأستاذ أبي إسحاق، والحليمي منّا، وغير أبي الحسين من المعتزلة". وأبو إسحاق الاستراباذي من أصحاب الشافعي. انظر: تفسير القرطبي 7/32.

من اشتهر عنهم إنكار المعجزات بل يُحكى هذا القول عن أبي إسحاق الاسفراييني1، وأبي محمد بن أبي زيد2. ولكن كأنّ في الحكاية عنهما غلطاً3

_ 1 هو إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران الاسفراييني. الأصوليّ، الشافعيّ، الملقب: ركن الدين. من مصنفاته: جامع الخلي في أصول الدين، والرد على الملحدين في خمس مجلدات. توفي سنة 418 ? بنيسابور. انظر: سير أعلام النبلاء 17/353. وشذرات الذهب 3/209. وطبقات الشافعيّة 4/256. أمّا عن إنكاره لكرامات الأولياء؛ فقد ذكر الجويني في الإرشاد ص 319 أنه أنكر الكرامات. وذكر ذلك الذهبي عنه في السير، فقال: (وحكى أبو القاسم القشيري عنه أنّه كان يُنكر كرامات الأولياء، ولا يُجوّزها. وهذه زلة كبيرة) . سير أعلام النبلاء 17/353. وقال السبكي عنه: "ويزداد تعجبي عند نسبة إنكارها إلى الأستاذ أبي إسحاق الاسفراييني، وهو من أساطين أهل السنة والجماعة، على أن نسبة إنكارها إليه على الإطلاق كذب عليه. والذي ذكره الرجل في مصنفاته أن الكرامات لا تبلغ مبلغ خرق العادة". طبقات الشافعية للسبكي 2/315. وكذلك ابن خلدون في مقدمته اعتذر لأبي إسحاق الاسفراييني بأن النقل عن الأستاذ في ذلك ليس صريحاً. مقدمة ابن خلدون 1/402. 2 هو أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني المالكي. ويُقال له: مالك الصغير. قال عنه الذهبي: "الإمام، العلامة، القدوة، الفقيه، عالم أهل المغرب ... وكان رحمه الله على طريقة السلف في الأصول، لا يدري الكلام، ولا يتأوّل". توفي سنة 386 هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 17/10. وشذرات الذهب 3/131. 3 وقد اعتذر الباقلاني قبل شيخ الإسلام لابن أبي زيد القيرواني، وكأنّه استبعد صدور ذلك عنه. انظر: البيان للباقلاني ص 5. وممّن أنكرها: أبو منصور الماتريدي. انظر كتاب السحر بين الحقيقة والخيال لناصر بن محمد الحمد ص 38. وقد أوضح د/ محمد باكريم با عبد الله موقف ابن أبي زيد القيرواني من الكرامات، ولخّص المسألة، فقال: "ونخلص من ذلك إلى احتمالين: الأول: أنّ ابن أبي زيد لم ينكر الكرامات الثابتة للصالحين، وإنّما أنكر ما يدّعيه أهل البدع من وقوع خوارق العادات، واعتبارها كرامات لهم؛ فلم يفهم كثيرٌ مقصودَه، ونسب إليه القول بإنكار الكرامات. وهذا الرأي يميل إليه الباقلاني، والقاضي عياض، وابن تيمية. الثاني: أنه وقع منه ذلك لأسباب، منها: داعي المناظرة والجدل والإلزام، لكنه رجع عن ذلك. وهذا ما ذهب إليه الطلمنكي. وعلى كلا الاحتمالين، فلا يعتبر منكراً لكرامات الأولياء؛ لأنّه إما لم يكن وقع منه أصلاً، أو يكون قد وقع منه، ورجع عنه. والله أعلم) . انظر تعليق الدكتور محمد باكريم با عبد الله على رسالة السجزي إلى أهل زبيد في الرد على من أنكر الحرف والصوت ص 228. وانظر مزيداً حول هذه المسألة: ترتيب المدارك وتقريب المسالك للقاضي عياض: 6/218، وكتاب الاستغاثة هامش: 1/46، تحقيق: عبد الله بن دجين السهلي، وقسم الدراسة من الجامع لابن أبي زيد القيراوني: ص 49-50.

وإنما أرادوا الفرق بين الجنسين1. وهؤلاء يقولون [إن] 2 ما جرى لمريم3، وعند مولد الرسول4 [صلى الله عليه وسلم] ؛

_ 1 جنس المعجزات وجنس خوارق الكهان والسحرة. 2 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 3 لقد أكرم الله تعالى مريم بكرامات كثيرة، منها: 1- إكرامها بالرزق؛ قال تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً} [آل عمران 37] 2- حملها بعيسى عليه السلام بواسطة نفخ الملك، بدون أن يمسها بشر؛ قال تعالى: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء 91] . 3- تبرئة ابنها لها، وكلامه في المهد؛ قال تعالى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} [مريم 29-30 وما بعدها] . 4 فمما جرى عند مولده صلى الله عليه وسلم، ما أخرجه قوام السنة في دلائل النبوة، عن أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه، قال: قيل: يا رسول الله! ما كان بُدؤ أمرك؟ قال: "دعوة إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي خرج منها نورٌ أضاءت له قصور الشام". دلائل النبوة 1/239، وقد حسّنه محقق الكتاب مساعد الراشد. وقد أخرجه الإمام أحمد في مسنده 5/262، وصححه الألباني. انظر الصحيحة رقم 1546.

فهو إرهاصٌ1؛ أي توطئةٌ، وإعلامٌ بمجيء الرسول، فما خُرقت في الحقيقة إلاّ لنبيّ. الرد على من أنكر الكرامات فيُقال لهم: وهكذا الأولياء، إنّما خُرقت لهم لمتابعتهم الرسول؛ فكما أنّ ما تقدّمه فهو من معجزاته، فكذلك ما تأخّر عنه. وهؤلاء2 يستثنون ما يكون أمام الساعة. لكن هؤلاء كذّبوا بما تواتر من الخوارق لغير الأنبياء. الرد على من أنكر الكرامات والمنازع لهم يقول: هي موجودةٌ مشهودةٌ لمن شهدها، متواترةٌ عند كثير من الناس، أعظم ممّا تواترت عندهم بعض معجزات الأنبياء. وقد شهدها خلق كثير لم يشهدوا معجزات الأنبياء، فكيف يكذّبون بما شهدوه، ويصدّقون بما غاب عنهم، ويكذّبون بما تواتر عندهم أعظم مما تواتر غيره؟! قول الأشاعرة في الفرق بين المعجزة وغيرها وقالت طائفة3: بل كل هذا حقٌ، وخرق العادة جائزٌ مطلقاً، وكلّ ما

_ 1 الإرهاص لغة مشتقة من الرِّهص - بالكسر؛ وهو العرق الأسفل من الحائط. والإرهاص هو المقدّمة للشيء، والإيذان به. والإرهاص اصطلاحاً: ما يصدر من النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل النبوة من أمرٍ خارق للعادة تمهيداً لها. انظر: القاموس المحيط للفيروزأبادي ص 801. وكتاب التعريفات للجرجاني ص 31. ولسان العرب لابن منظور 7/44. 2 أي المعتزلة، ومن وافقهم. 3 وهم الأشاعرة. انظر مقولتهم في: البيان للباقلاني ص 47-48، 90، 94-95، 105-106. والإرشاد للجويني ص 317، 319، 322، 326، 328. وأصول الدين للبغدادي ص 175، 185. والمواقف للإيجي ص 346. وشرح المقاصد للتفتازاني 5/73، 75. وانظر: الجواب الصحيح 6/400.

خُرق لنبيّ من العادات يجوز أن يُخرق لغيره من الصالحين، بل ومن السحرة والكهان. لكن الفرق أنّ هذه تقترن بها [دعوى] 1 النبوّة؛ وهو التحدّي2. من أصول الأشاعرة وقد يقولون: إنّه لا يمكن أحداً أن يعارضها، بخلاف تلك. وهذا قول من اتّبع جهماً3 على أصله في أفعال الرب من الجهمية4، وغيرهم؛ حيث جوّزوا أن يفعل كلّ ممكن5؛ فلزمهم جواز خرق العادات مطلقاً على

_ 1 في ((خ)) : دعوة. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 انظر: البيان للباقلاني ص 48. 3 هو الجهم بن صفوان الراسبي مولاهم، أبو محرز السمرقندي. رأس الفرقة الجهمية. قتله سلم بن أحوز نائب أصبهان سنة ثمان وعشرين ومائة. كان يقول: إنّ العباد مجبورون على أفعالهم، وإنّ الإيمان هو المعرفة بالله فقط، وإنّ الجنّة والنار تفنيان وتبيدان، وإنّ القرآن مخلوق. وكان يُنكر صفات الله عزّ وجلّ وأسماءه، ويقول: إنّ الله في الأمكنة كلها. تعالى الله عما يقول الجاهلون علواً كبيراً. انظر: الفرق بين الفرق ص 211. والبرهان في معرفة عقائد أهل الأديان ص 34. وسير أعلام النبلاء 6/26. والبداية والنهاية 9/364. والخطط للمقريزي 2/349. 4 هي فرقة تنتسب للجهم بن صفوان الراسبي. وقد تبعته في معتقداته كلها. لاحظ التعليقة السابقة. 5 وهذا قول من يُنكر حكمة الله، والأسباب التي جعلها الله سبباً لحصول بعض الأشياء. ولا فعلَ للعبد عندهم، والله هو الفاعل. وهذا هو قول الأشاعرة. انظر: الإرشاد للجويني ص 319، 322، 326. وأصول الدين للبغدادي ص 138، 172، 176. والملل والنحل للشهرستاني 1/97. ومنهاج السنة النبوية لابن تيمية 3/13، 112. وسيأتي توضيح لهذا الأصل عند الأشعري. وانظر شرح الأصفهانية 2/617.

يد كلّ أحد. واحتاجوا مع ذلك إلى الفرق بين النبي وغيره، فلم يأتوا بفرق معقول، بل قالوا: هذا يقترن به التحدي، فمن ادّعى النبوة وهو كاذب، لم يجز أن يخرق الله له العادة أو يخرقها له، ولا [تكون] 1 دليلاً على صدقه لما يقترن بها [من ما] 2 يناقض ذلك؛ فان هذين قولان لهم3. الرد على الأشاعرة فقيل لهم: لِمَ أوجبتم هذا في هذا الموضع، دون غيره، وأنتم لا توجبون على الله شيئاً؟ فقالوا: لأنّ المعجزةَ علمُ الصدق؛ فيمتنع أن يكون لغير صادق4. [فقلنا: المجموع] 5 هو الممتنع؛ وهو خارق العادة، ودعوى النبوة. أو هذان مع السلامة عن المعارض. فقيل لهم: ولم قلتم أنه علم الصدق على قولكم؟ فقالوا: إمّا لأنّه يُفضي منع ذلك إلى عجزه؛ وإمّا لأنّه علم دلالته على الصدق بالضرورة. فقيل لهم: إنّما يلزم العجز، [أن] 6 لو كان التصديق على قولكم ممكناً. وكون دلالتها معلومةٌ بالضرورة؛ هو مُسَلّم، لكنّه يُناقض أصولكم، ويُوجب أن يكون أحد الشيئين معلوماً بالضرورة، دون نظيره. وهذا

_ 1 في ((م)) ، و ((ط)) : يكون. 2 في ((م)) ، و ((ط)) : مما. 3 انظر: البيان للباقلاني ص 94-95. 4 انظر: البيان للباقلاني ص 37-38. والجواب الصحيح 6/399. 5 في ((م)) و ((ط)) : فالمجموع - بإسقاط: فقلنا. وزيادة الفاء. 6 ما بين المعقوفتين ليس في ((م)) ، و ((ط)) .

ممتنع؛ فإنّكم تقولون: يجوز أن يخلق على يد مدّعي النبوة، والساحر، والصالح. لكن إن ادّعى النبوّة، دلّت على صدقه، وإن لم يدّع النبوّة، لم يدل على شيء1، مع أنّه لا فرق عند الله بين أن يخلقها على يد مدّعي النبوّة، وغير مدّعي النبوة، بل كلاهما جائز فيه. فإذا كان هذا مثل هذا: [لِمَ] 2 كان أحدهما دليلاً دون الآخر؟ ولِمَ اقترن العلم بأحد المتماثلين دون الآخر؟ ومن أين علمتم أنّ الرب لا يخرقها مع دعوى النبوة إلاّ على يد صادق، وأنتم تجوّزون على أصلكم كلّ فعل مقدور3، وخلقها على يد الكذاب مقدور؟!. الأشاعرة لم يجعلوا بين المعجزات والكرامات فرقاً ثمّ هؤلاء4 جوّزوا كرامات الصالحين، ولم يذكروا بين جنسها5 وجنس كرامات الأنبياء فرقٌ، بل صرّح أئمتهم6 [أنّ كلّ ما] 7 خُرق لنبيّ،

_ 1 انظر: البيان للباقلاني ص 90. 2 في ((م)) ، و ((ط)) : فلِمَ. 3 من أصول الأشاعرة: لا فاعل إلا الله، وليس للإنسان إلا الكسب الذي هو - عندهم - مقارنة القدرة والإرادة للفعل، من غير أن يكون هناك من العبد تأثير، أو مدخل في وجوده، سوى كونه محلاً له. وقد تقدّم نقل هذا عنهم فيما مضى. وانظر: الإرشاد للجويني ص 319، 322، 328. وشرح المواقف للجرجاني ص 237. وانظر: الجواب الصحيح 6/394-400. 4 أي الأشاعرة. 5 أي معجزات الرسل. 6 انظر: أصول الدين للبغدادي ص 174، 175. والإرشاد للجويني ص 317. والمواقف في علم الكلام للإيجي ص 370. وشرح المقاصد للتفتازاني 5/73، 74. وشرح الفقه الأكبر للقاري ص 79. 7 في ((خ)) : كما. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

يجوز أن يخرق للأولياء؛ حتى معراج محمد1، وفرق البحر لموسى2، وناقة صالح3، وغير ذلك. ولم يذكروا بين المعجزة والسحر فرقاً معقولاً، بل قد يجوّزون أن يأتي الساحر بمثل ذلك4. لكن بينهما فرق دعوى النبوة، وبين الصالح والساحر، والبر والفجور. طريقة الفلاسفة في المعجزات وحذّاق5 الفلاسفة الذين تكلموا في هذا الباب6؛ مثل ابن سينا7،

_ 1 المعراج: الطريق الذي تصعد فيه الملائكة. انظر: تهذيب اللغة 1/355. وهو بمنزلة السلم، لكن لا نعلم كيف هو. وحكمه كحكم غيره من المغيّبات؛ نؤمن به، ولا نشتغل بكيفيّته. انظر شرح الطحاوية ص 270. وحديث الإسراء والمعراج مخرّج في الصحيحين. أخرجه البخاري في صحيحه 3/63-65، كتاب مناقب الأنصار، باب المعراج. ومسلم في صحيحه 1/145-147، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماوات. 2 قال تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء 63] . 3 قال تعالى: {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء 155] . 4 انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم 5/2. ونسب هذا القول للباقلاني. وانظر: البيان للباقلاني ص 94-95. والإرشاد للجويني ص 327-328. 5 الحذق، والحذاقة: المهارة في كلّ العمل. انظر تهذيب اللغة 4/35. 6 في النبوات. 7 هو الحسين بن عبد الله بن سيناء، أبو علي. الملقّب بالرئيس، الحكيم. قال عنه ابن حجر: "ما أعلمه روى شيئاً من العلم، ولو روى لما حلّت الرواية عنه؛ لأنّه فلسفيّ النحلة، ضالّ. لا رضي الله عنه. كان يقول بقدم العالم، ونفي المعاد الجسماني. ونُقل عنه أنّه قال: إنّ الله لا يعلم الجزئيات بعلم جزئي، بل بعلم كليّ. من مصنفاته: الشفا، والنجاة، والإشارات والتنبيهات. مات سنة 428 ?. انظر: لسان الميزان لابن حجر 2/291. والأعلام للزركلي 2/241. ومعجم المؤلفين لعمر رضا كحالة 4/20. وقد قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأهل بيت ابن سينا كانوا من أتباع هؤلاء - يعني القرامطة والباطنية والإسماعيلية - وأبوه وجده من أهل دعوتهم، وبسبب ذلك دخل في مذاهب الفلاسفة؛ فإن هؤلاء يتظاهرون باتباع الملل، ويدعون أن للملة باطناً يُناقض ظاهرها". كتاب ((الصفدية)) 1/3-4. وانظر: شرح الأصفهانية 2/634. والرد على المنطقيين ص 141-144، 279، 281، 396. ومجموع الفتاوى 35/186.

[و] 1 هو أفضل طائفتهم، [وهو] 2 أجهل من تكلم في هذا الباب فإنهم جعلوا ذلك كلّه من قوى النفس، لكنّ الفرق أنّ النبيّ والصالح نفسُه طاهرةٌ يقصد الخير، والساحر نفسُه خبيثةٌ. وأما الفرق بين النبي والصالح فمتعذّرٌ على قول هؤلاء. الرد على من فرق بين المعجزة والكرامة بفروق ضعيفة ومن الناس3 من فرّق بين معجزات الأنبياء، وكرامات الأولياء بفروق ضعيفة؛ مثل قولهم: الكرامة يُخفيها صاحبها، أو الكرامة لا يُتحدّى بها. ومن الكرامات ما أظهرها أصحابها؛ كإظهار العلاء بن الحضرمي4 المشي

_ 1 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 2 في ((م)) ، و ((ط)) : ولكنه. 3 وهم الأشاعرة. انظر: أصول الدين للبغدادي ص 174. والمواقف في علم الكلام للإيجي ص370. وشرح المقاصد للتفتازاني 5/74. وطبقات الشافعية للسبكي2/317. واليواقيت والجواهر لعبد الوهاب الشعراني 1/161. 4 هو العلاء بن عبد الله بن عماد الحضرمي. من سادة المهاجرين. ولاّه رسول الله صلى الله عليه وسلم البحرين. ثمّ وليها لأبي بكر، وعمر رضي الله عنهما. وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: رأيت من العلاء ثلاثة أشياء، لا أزال أحبه أبداً: قطع البحر على فرسه يوم دارين. وقدم يريد البحرين، فدعا الله بالدهناء، فنبع لهم ماء، فارتووا. ونسي رجل منهم بعض متاعه فرد، فلقيه ولم يجد الماء، ومات ونحن على غير ماء، فأبدى الله لنا سحابة، فمطرنا، فغسلناه، وحفرنا له بسيوفنا، ولم نلحد له. انظر: سير أعلام النبلاء 1/262. والبداية والنهاية 6/162-163. وقال شيخ الإسلام رحمه الله في العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه: "والعلاء بن الحضرمي - رضي الله عنه - كان عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم على البحرين، وكان يقول في دعائه: يا عليم يا حليم يا علي يا عظيم، فيستجاب له. ودعا الله بأن يسقوا ويتوضؤوا لما عدموا الماء، ولا يبقى الماء بعدهم، فأجيب. ودعا الله لما اعترضهم البحر ولم يقدروا على المرور بخيولهم، فمروا كلهم على الماء، فابتلت سرج خيولهم. ودعا الله أن لا يروا جسده إذا مات، فلم يجدوه في اللحد". الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 311. وانظر: حلية الأولياء لأبي نعيم 1/7. وصفوة الصفوة لابن الجوزي 1/694. وذكر ابن كثير أنه توفي سنة أربع عشرة. البداية والنهاية 7/123.

على الماء، وإظهار عمر مخاطبة سارية1 على المنبر2، وإظهار أبي

_ 1 هو سارية بن زنيم بن عمرو الكناني. قال ابن عساكر: له صحبة. كان في الجاهلية كثير الغارات، يسبق الفرس عدواً على رجليه، ولما ظهر الإسلام أسلم. قال الواقدي: أمّره عمر على جيش، وسيّره إلى فارس سنة ثلاث وعشرين، وفتح بلاداً منها أصبهان. توفي سنة 30 ?. انظر: الإصابة لابن حجر 4/96. والأعلام للرزكلي 3/69. 2 وذلك لما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخطب على المنبر في المدينة، وسارية ابن زنيم يُجاهد في العراق، فتذكّر عمر سارية، فنادى: يا سارية الجبل. يقول سارية: سمعت صوت عمر، فصعدتُ الجبل. أورده ابن كثير في البداية والنهاية 7/135، وقال: إسناده جيد حسن. وكذلك حسّن أسانيده الحافظ ابن حجر في الإصابة 4/98.

مسلم1 لما أُلقي في النار أنّها صارت عليه برداً وسلاماً. وهذا بخلاف من يدخلها بالشياطين، فإنّه قد يُطفئها، إلاّ أنّها لا تصير عليه برداً وسلاماً. وإطفاء النار مقدورٌ للإنس والجنّ. ومنها: ما يتحدّى بها صاحبها أنّ دين الإسلام حقّ؛ كما فعل خالد ابن الوليد لما شرب السُّمَّ2؛ وكالغلام الذي أتى الراهب، وترك الساحر،

_ 1 هو عبد الله بن ثوب الخولاني، من خولان ببلاد اليمن. دعاه الأسود العنسي إلى أن يشهد أنّه رسول الله، فقال له: أتشهد أني رسول الله؟ فقال: لا أسمع، أشهد أنّ محمداً رسول الله. فأجّج له ناراً، وألقاه فيها، فلم تضرّه وأنجاه الله منها. فكان يُشبّه بإبراهيم الخليل. ثمّ هاجر، فوجد رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قد مات، فقدم على الصديق أبي بكر رضي الله عنه، فأجلسه بينه وبين عمر، وقال له عمر: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أرى في أمة محمد من فُعل له كما فعل بإبراهيم الخليل عليه السلام. توفي أبو مسلم الخولاني سنة 60 ?. وقد ذكر له شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عدداً من الكرامات؛ منها: أنه مشى هو ومن معه في المعسكر على دجلة وهي ترمي بالخشب في مدّها. ووضعت له جارية السمّ في طعامه، فلم يضرّه. وخبّبت امرأةٌ عليه زوجتَه، فدعا عليها، فعميت، فجاءت وتابت، فدعا لها، فردّ الله عليها بصرها. انظر: مجموع الفتاوى 11/279. وانظر: حلية الأولياء 2/122، 131. وجامع العلوم والحكم لابن رجب ص 322. وسير أعلام النبلاء 4/7. والبداية والنهاية لابن كثير 8/149. والتقريب لابن حجر 2/473، وفيه ذكر أن اسمه عبد الله بن ثوب. 2 وذلك لمّا نزل الحيرة - بالعراق، وأراد الأعاجم أن يُسقوه السمّ، فأخذه بيده، ثمّ اقتحمه، وقال: بسم الله، وشرب، فلم يضرّه شيئاً. الخبر أخرجه الطبراني في المعجم الكبير 4/123-124. وذكر الهيثمي في مجمع الزوائد 9/350 أنّ أبا يعلى أخرجه، والطبراني في المعجم الكبير بإسنادين؛ رجال أحدهما رجال الصحيح، ورجال الآخر ثقات. وذكر كذلك أنّ رجال إسناد أبي يعلى ثقات. وانظر: مجموع الفتاوى 11/277-278. وقد ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله عند محاصرة خالد بن الوليد للحيرة، أن خالداً أخذ السم من ابن بقيلة - من نصارى العرب، ثم قال: لن تموت نفس حتى تأتي على أجلها، ثم قال: بسم الله خير الأسماء، رب الأرض والسماء، الذي ليس يضرّ مع اسمه داء، الرحمن الرحيم. قال: وأهوى إليه الأمراء ليمنعوه منه، فبادرهم فابتلعه. فلما رأى ذلك ابن بقيلة، قال: والله يا معشر العرب لتملكن ما أردتم ما دام منكم أحد. ثم التفت إلى أهل الحيرة فقال: لم أر كاليوم أوضح إقبالاً من هذا. ثم دعاهم، وسألوا خالداً الصلح فصالحهم. البداية والنهاية 6/351. وانظر: طبقات الشافعية للسبكي 2/333. وقد خالفه الصحابة في ذلك. ويكفي خالداً كرامة أن جعله الله عزاً للإسلام وأهله، وذلاً للكفر، وشتاتاً لشمله.. وقد سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيف الله، وقال الصديق - رضي الله عنه - في حقه: (يا معشر قريش إن أسدكم قد عدا على الأسد فغلبه على خراديله، عجزت النساء أن يلدن مثل خالد بن الوليد) . البداية والنهاية 6/351.

وأمر بقتل نفسه بسهمه باسم ربّه، وكان قبل ذلك قد خُرِقت له العادة فلم يتمكّنوا من قتله1. ومثل هذا كثير. مراتب الخوارق فيقال المراتب ثلاثة: آيات الأنبياء، ثمّ كرامات الصالحين، ثمّ خوارق الكفار والفجار؛ كالسحرة والكهان، وما يحصل لبعض المشركين، وأهل الكتاب، والضلاّل من المسلمين. الكرامات سببها اتباع الأنبياء أمّا الصالحون الذين يدعون إلى طريق الأنبياء لا يخرجون عنها، فتلك خوارقهم من معجزات الأنبياء؛ فإنّهم يقولون: نحن إنّما حصل لنا هذا باتّباع الأنبياء، ولو لم نتّبعهم لم يحصل لنا هذا. فهؤلاء إذا قُدّر أنه جرى على يد أحدهم ما هو من جنس ما جرى للأنبياء؛ كما صارت النار برداً وسلاماً على أبي مسلم2، كما صارت على

_ 1 وخبر الغلام طويلٌ أخرجه الإمام مسلم في صحيحه 4/2299-2301، كتاب الزهد والرقائق، باب قصة أصحاب الأخدود والساحر والراهب والغلام. 2 الخولاني. تقدّمت قصته قريباً ص 159.

إبراهيم1؛ وكما يكثّر الله الطعام والشراب لكثيرٍ من الصّالحين2؛ كما جرى في بعض المواطن للنبيّ 3، أو إحياء الله ميتاً لبعض الصالحين4 كما أحياه للأنبياء5. كرامات الأولياء معجزات للأنبياء فهذه الأمور6 هي مؤكدة لآيات الأنبياء، وهي أيضاً من معجزاتهم بمنزلة ما تقدّمهم من الإرهاص. ومع هذا فالأولياء دون الأنبياء والمرسلين، فلا تبلغ كرامات أحدٍ قطّ إلى مثل معجزات المرسلين، كما أنهم لا يبلغون في الفضيلة والثواب إلى

_ 1 قال تعالى: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} . [الأنبياء 69] . 2 مثل قصة أبي بكر مع أضيافه، في تكثير الطعام. انظر صحيح البخاري 6/436. 3 انظر على سبيل المثال: صحيح البخاري 4/234. وقد عقد القاضي عياض في كتابه الشفا 1/410 فصلاً: من معجزاته صلى الله عليه وسلم تكثير الطعام ببركته ودعائه. 4 من ذلك إحياء الله تعالى لصلة بن أشيم العدوي فرسَه بعد أن ماتت وهو في الغزو، فأحياها الله له، ووصل إلى أهله، وقال لابنه: ألق السرج عن الفرس فإنّها عارية، فلمّا ألقى السرج عنها، سقطت ميتة. انظر: حلية الأولياء لأبي نعيم 2/239. وطبقات الشافعية للسبكي 2/320. وسير أعلام النبلاء للذهبي 3/499، وقال الذهبي عن هذه القصة: وهذه كرامة ثابتة. وانظر: مجموع الفتاوى 11/280. 5 مثل عيسى عليه السلام. قال الله تعالى عنه: {وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران 49] . وكذلك عزير عليه السلام الذي أماته الله وحماره مائة عام، ثمّ بعثهما. قال الله تعالى: {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} [البقرة 259] . وانظر كتاب الشفا للقاضي عياض1/444، حيث عقد فصلاً في: إحياء الموتى، وكلامهم. 6 يقصد كرامات الأولياء.

درجاتهم، ولكن قد يُشاركونهم في بعضها، كما قد يُشاركونهم في بعض أعمالهم. كرامات الأولياء لا تجعلهم معصومين وكرامات الصالحين [تدلّ] 1 على صحة الدّين الذي جاء به الرسول، لا تدلّ على أنّ الولي معصومٌ، ولا على أنّه يجب طاعته في كلّ ما يقوله2. ومن هنا ضلّ كثيرٌ من النّاس من النّصارى وغيرهم3؛ فإنّ الحواريّين4، وغيرهم كانت لهم كرامات، كما تكون الكرامات لصالحي هذه الأمة، فظنّوا أنّ ذلك يستلزم عصمتهم كما يستلزم عصمة الأنبياء، فصاروا يُوجبون موافقتهم في كلّ ما يقولون. النبي صارت طاعته واجبة بأمور وهذا غلطٌ؛ فإنّ النبيّ وجب قبول كلّ ما يقول لكونه نبيّاً [ادّعى] 5 النّبوّة، ودلّت المعجزة على صدقه، والنبيّ معصومٌ. وهنا المعجزة6 ما دلّت على النبوة بل على متابعة النبيّ وصحّة دين النبيّ، فلا يلزم أن يكون هذا التابع معصوماً. من أسباب تأليف الكتاب ولكن الذي يحتاج إلى الفرقان الفرق بين الأنبياء وأتباعهم، وبين من خالفهم من الكفار والفجار؛ كالسحرة، والكهان، وغيرهم؛ حتى يظهر

_ 1 في ((خ)) : يدلّ. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 انظر: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 144. والجواب الصحيح 2/338؛ فقد فصّل شيخ الإسلام رحمه الله في هذين الموضعين تفصيلاً طيّباً. 3 وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أصناف الناس بالنسبة لمواقفهم ممن يجري على أيديهم بعض الأمور الخارقة في ((الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان)) ص 147. 4 الحواريّون هم أصحاب عيسى عليه السلام وخاصّته الذين اختارهم ليكونوا تلامذته؛ حيث بادروا إلى الإيمان به، وتعلّموا منه، وكانوا اثني عشر رجلاً. انظر: الجواب الصحيح 2/398-400،، 4/17. 5 في ((خ)) رسمت ادعاء. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 6 يقصد الكرامة.

الفرق بين الحقّ والباطل، وبين ما يكون دليلاً على صدق صاحبه؛ كمدّعي النبوّة، و [بين] 1 ما لا يكون دليلاً على صدق صاحبه؛ فإنّ الدليلَ لا يكون دليلاً حتى يكون مستلزماً للمدلول؛ متى وُجِدَ وُجِدَ المدلول، وإلاّ فإذا وُجِدَ تارةً مع وجود المدلول، وتارةً مع عدمه [فليس بدليل] 2. فآيات الأنبياء وبراهينهم لا [توجد] 3 إلاّ مع النبوّة، ولا توجد مع ما يناقض النبوة. ومدّعي النبوّة إمّا صادق، وإمّا كاذب. والكذب يُناقض النبوة، فلا يجوز أن يُوجد مع المناقض لها، مثل ما يوجد معها. وليس هنا شيءٌ مخالفٌ لها؛ [لا موافقٌ] 4، ولا مناقضٌ؛ فإنّ الكفر، والسحر، والكهانة، كلّ هذا يناقض النبوّة، لا يجتمع هو [و] 5 النبوة. والنّاس رجلان: رجلٌ موافقٌ لهم، ورجلٌ مخالفٌ لهم. فالمخالف مناقض. الفرق بين جنس آيات الأنبياء وخوارق من خالفهم وإذا كان كذلك، فيُقال: جنس آيات الأنبياء خارجة عن مقدور البشر، بل وعن مقدور جنس الحيوان. وأمّا خوارق مخالفيهم؛ كالسحرة، والكُهّان؛ فإنّها من جنس أفعال الحيوان؛ من الإنس، وغيره من الحيوان، والجنّ؛ مثل قتل الساحر، وتمريضه لغيره؛ فهذا أمرٌ مقدورٌ، معروفٌ للنّاس بالسّحر، وغير السّحر؛

_ 1 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 2 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 3 في ((خ)) يوجد. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 ما بين المعقوفتين ليس في ((م)) ، و ((ط)) . 5 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.

وكذلك ركوب المكنسة1، أو الخابية2، أو غير ذلك؛ حتّى تطير به، وطيرانه في الهواء من بلد إلى بلد؛ هذا فعلٌ مقدورٌ للحيوان؛ فإنّ الطير [يفعل] 3 ذلك، والجنّ تفعل ذلك. وقد أخبر الله أنّ العفريت قال لسليمان: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} 4؛ وهذا تصرّف في أعراض5 الحيّ؛ فإنّ الموت، والمرض، والحركة أعراضٌ، والحيوان يقبل في العادة مثل هذه الأعراض، ليس في هذا قلب جنس إلى جنس، ولا في هذا ما يختصّ الربّ بالقدرة عليه، ولا ما يختصّ به الملائكة. وكذلك إحضار ما يُحضر من طعامٍ، أو نفقة، أو ثياب، أو غير ذلك من الغيب. [و] 6 هذا [إنّما هو] 7 نقل مالٍ من مكانٍ إلى مكانٍ. وهذا تفعله الإنس والجنّ، لكن الجنّ تفعله، والنّاس لا يُبصرون ذلك. وهذا بخلاف كون الماء القليل نفسه يفيض حتى يصير كثيراً، بأن ينبع من بين الأصابع من غير زيادة يُزادها8. فهذا لا يقدر عليه إنسيّ ولا جنّي.

_ 1 المكنسة - بكسر الميم - ما يُكنس به. والكُناسة - بالضمّ - ما يُكنس؛ وهي الزبالة. انظر: المصباح المنير ص 542. 2 الخابية: وعاء الماء الذي يحفظ فيه. وجمعه خوابي. المعجم الوسيط 1/13. 3 في ((م)) ، و ((ط)) تفعل. 4 سورة النمل، الآية 39. 5 العَرَض في اللغة: ما يعرض للإنسان من مرض، وموت، ونحو ذلك. انظر: الصحاح للجوهري 3/1038. والمعجم الوسيط ص 594. 6 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 7 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 8 مثل ما حدث في غزوة الحديبية؛ حيث وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده في الإناء، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون. قال جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما - وهو راوي الحديث: "فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده في الركوة فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون. قال فشربنا. قال الراوي: فقلت لجابر: كم كنتم يومئذ، قال: لو كنّا مائة ألف لكفانا، كنّا خمس عشرة مائة". أخرجه البخاري في صحيحه 4/1526، كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية. وقد ذكر أنس بن مالك - رضي الله عنه - قصة أخرى في نبع الماء من بين أصابع نبيّنا صلى الله عليه وسلم. فعنه - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بماء، فأُتي بقدح رحراح، فجعل القوم يتوضؤون، فحزرت ما بين الستين إلى الثمانين، قال: فجعلت أنظر إلى الماء ينبع من بين أصابعه. صحيح مسلم 4/1783، كتاب الفضائل، باب في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم.

أخبار الأنبياء لا كذب فيها، بخلاف من خالفهم وكذلك الإخبار ببعض الأمور الغائبة، مع الكذب في بعض الأخبار. فهذا تفعله الجن / كثيراً مع الكُهّان1، وهو معتادٌ لهم، مقدورٌ، بخلاف إخبارهم بما يأكلون، وما يدّخرون، مع تسمية الله على ذلك؛ فهذا لا تظهر عليه الشياطين2.

_ 1 مثل حال ابن صياد، لمّا قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنّي خبّأتُ لك خبيئاً" فقال: هو الدّخّ. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "اخسأ، فلن تعدو قدرك". الحديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه4/2240، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر ابن صيّاد. 2 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل الرجل بيته فذكر الله تعالى عند دخوله، وعند طعامه، قال الشيطان لأصحابه: لا مبيت لكم ولا عشاء..". الحديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه 3/1598، كتاب الأشربة، باب آداب الطعام والشراب وأحكامهما. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "غطوا الإناء، وأوكئوا السقاء، وأغلقوا الأبواب، وأطفئوا السراج، فإنّ الشيطان لا يحلّ سقاءً، ولا يفتح باباً، ولا يكشف إناءً ... ". الحديث أخرجه الإمام البخاري في صحيحه 10/77، والإمام مسلم في صحيحه 3/1594، كتاب الأشربة، باب الأمر بتغطية الإناء، وإيكاء السقاء، وإغلاق الأبواب، وذكر اسم الله عليها..

وبنو إسرائيل كانوا مسلمين يسمّون الله1. وأيضاً: فخبر المسيح2، وغيره من الأنبياء ليس فيه كذب قط. والكهان لا بُدّ لهم من الكذب. والربُّ قد أخبر في القرآن أنّ الشياطين [تنزل] 3 على بعض الناس، فتخبره ببعض الأمور الغائبة، لكن ذكر الفَرْقَ، فقال: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} 4. الحكمة من مسرى النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك مسرى الرسول صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى؛ ليريه الربّ من آياته5. فخاصّة الرسول ليست مجرّد قطع هذه المسافة، بل قطعها ليريه الربّ من الآيات الغائبة ما يُخبر به. فهذا لا يقدر عليه الجنّ، وهو نفسه لم يحتجّ بالمسرى على نبوته، بل جعله مما يؤمن به؛ فأخبرهم به ليؤمنوا به.

_ 1 قال الله تعالى في شأنهم: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة، 133] . وأما عن تسميتهم الله، فقد قال الله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ.} [المائدة، 5] . ومعلوم أنّهم لو لم يكونوا يُسمّون الله تعالى عند الذبح، لم يكن طعامهم حلاً لنا؛ لأنّ الله تعالى يقول: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام، 121] . 2 وهو إخباره عليه السلام عمّا يأكل بنو إسرائيل وما يدّخرون في بيوتهم. قال تعالى عن معجزات عيسى عليه السلام: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} [آل عمران الآية، 49] . 3 في ((خ)) : ينزل. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 سورة الشعراء، الآيات 221-223. 5 قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} . [الإسراء، 1] .

والمقصود إيمانهم بما أخبرهم من الغيب الذي رآه تلك الليلة، وإلاّ فهم كانوا يعرفون المسجد الأقصى، ولهذا قال: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَة المَلْعُونَةَ فِيْ القُرْآن} 1. قال ابن عباس [رضي الله عنه] 2: هي رؤيا عين أُريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أُسري به3. وهذا كما قال في الآية: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ المَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى} 4. وكذلك ما يُخبر به الرسول من أنباء الغيب؛ قال تعالى: {عَالِمُ الغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدَاً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدَاً} 5. فهذا غيب الربّ الذي اختص به؛ مثل علمه بما سيكون من تفصيل الأمور الكبار على وجه الصدق، فإنّ هذا لا يقدر عليه إلا الله. الفرق بين خبر الرسول وخبر الجنّ والجنّ غايتها أن تخبر ببعض الأمور المستقبلة؛ كالذي يسترقه الجن من السماء6، مع ما في الجنّ من الكذب، فلا بُدّ لهم من الكذب، والذي يخبرون به هو ممّا يُعلم بالمنامات وغير المنامات، فهو من جنس المعتاد للناس.

_ 1 سورة الإسراء، الآية 60. 2 ما بين المعقوفتين من ((ط)) ، وليس في ((خ)) ، و ((م)) . 3 انظر: صحيح البخاري 4/1748. 4 سورة النجم، الآيات 13-18. 5 سورة الجن، الآيتان 26-27. 6 قال تعالى يحكي عن الجنّ: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً} [الجن، 9] .

وأما ما يخبر الرسل من الأمور البعيدة الكبيرة مفصلاً؛ مثل إخباره: "إنكم تقاتلون الترك، صغار الأعين، ذُلْفُ الآنُفِ1، ينتعلون الشعر، كأنّ وجوههم المَجَانُّ المُطْرَقَة2"3، وقوله: "لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تُضيء لها أعناق الإبل ببُصرى4"5، ونحو ذلك. فهذا لا يقدر عليه جني، ولا إنسيّ.

_ 1 الذَّلَف بالتحريك: قصر الأنف وانبطاحه. وقيل: ارتفاع طرفه مع صغر أرنبته. والذُّلْف بسكون اللام: جمع أذلف؛ كأحمُر، وحمر. والآنُف: جمع قلة للأنف، وضع موضع جمع الكثرة، ويحتمل أنّه قللها لصغرها. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 2/165. 2 وهي التروس التي يُطرق بعضها على بعض. انظر الصحاح للجوهري 4/1516) . والمراد: تشبيه وجوه الترك في عرضها، وتلوّن وجناتها بالترسة المطرقة. 3 الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 3/1070. ومسلم في صحيحه 4/2233، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكانه من البلاء. والإمام أحمد في المسند ح 7262 - تحقيق أحمد شاكر. 4 بُصرى - بضمّ الباء - آخرها مقصور: مدينة بالشام، ويُقال لها حوران. انظر معجم البلدان لياقوت الحموي 1/441. وهي اليوم مدينة من مدن الجمهورية السورية، في شرقها. 5 الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 6/2605. ومسلم في صحيحه 4/2227-2228، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز. وهذا الغيب الذي أخبر عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم قد وقع - كما ذكر المؤرخون - سنة أربع وخمسين وستمائة. وقد أخبر غير واحد أنّه لمّا ظهرت النار في بعض أودية المدينة النبوية، واستمرت شهراً، وكان الناس يسيرون على ضوئها بالليل إلى تيماء - قرب تبوك - شاهد من كان بحاضرة بلد بُصرى أعناق الإبل في ضوء هذه النار التي ظهرت من أرض الحجاز. انظر: الفتن والملاحم - النهاية - لابن كثير 1/18-19.

والمقصود أنّ ما يُخبر به غير النبي من الغيب معتادٌ، معروفٌ نظيره من الجن والإنس، فهو من غيب الله الذي قال فيه: {فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدَاً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} 1. والآيات الخارقة جنسان: جنسٌ في نوع العلم، وجنسٌ في نوع القدرة2. أقسام الخوارق فما اختصّ به النبيّ من العلم خارجٌ عن قدرة الإنس والجنّ، وما اختصّ به من المقدورات خارجٌ عن قدرة الإنس والجنّ. خوارق الجنّ وقدرة الجنّ في هذا الباب3 كقدرة الإنس؛ لأنّ الجن هم من جملة من دعاه الأنبياء إلى الإيمان، وأرسلت الرسل إليهم؛ قال تعالى: {يَا مَعْشَرَ الجِنّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّوْنَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} 4.

_ 1 سورة الجن، الآيتان 26-27. 2 ولشيخ الإسلام رحمه الله زيادة إيضاح لهذا الموضوع، حيث قال: (الخوارق منها ما هو من جنس العلم؛ كالمكاشفات. ومنها ما هو من جنس القدرة والملك؛ كالتصرفات الخارقة للعادات. ومنها ما هو من جنس الغنى عن جنس ما يُعطاه الناس في الظاهر من العلم والسلطان والمال والغنى) . ((مجموع الفتاوى)) 11/298-299. وقال أيضاً: "فالأقسام ثلاثة: إما أن يتعلق بالعلم والقدرة، أو بالدين فقط، أو بالكون فقط. ثمّ فصّل، واستدلّ لكلّ نوع". انظر: مجموع الفتاوى 11/323-324. وانظر قاعدة في المعجزات ص 9. وانظر كتاب الصفدية 1/183، فإنه جعل الخوارق ثلاثة أقسام. وقد أفاض المؤلف رحمه الله في ذكر أقسام المعجزات بالتفصيل. انظر: الجواب الصحيح 6/80-296. 3 باب الخوارق. 4 سورة الأنعام، الآية 130.

ومعلومٌ أنّ النبيّ إذا دعا الجن إلى الإيمان به، فلا بُدّ أن يأتي بآية خارجة عن مقدور الجنّ؛ فلا بُدّ أن تكون آيات الأنبياء خارجة عن مقدور الإنس والجنّ. وما يأتي به الكاهن من خبر [الجنّ] 1 غايته أنّه سمعه الجني لمّا استرق السمع؛ مثل الذي يستمع إلى حديث قومٍ وهم له كارهون. وما أعطاه اللهُ سليمانَ مجموعه يخرج عن قدرة الإنس والجنّ؛ كتسخير الرياح، والطير. خوارق الملائكة تختص بالأنبياء وأتباعهم وأما الملائكة: فالأنبياء لا تدعوا الملائكةَ إلى الإيمان بهم، بل الملائكة [تنزل] 2 بالوحي على الأنبياء، وتعينهم، وتؤيدهم. فالخوارق التي [تكون] 3 بأفعال الملائكة تختص بالأنبياء وأتباعهم، لا تكون للكفّار، والسحرة، والكُهّان. ولهذا أخبر الله تعالى أنّ الذي جاءه بالقرآن مَلَكٌ لا شيطان؛ فقال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِيْ العَرْشِ مَكِين * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِين * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُون * وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ المُبِين * وَمَا هُوَ عَلَى الغَيْبِ بِضَنِين * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} 4، وقال: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِين ? عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِين} 5، وقال: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدُسِ منْ رَبِّكَ بِالحَقِّ} 6، وقال: {قل مَنْ كَانَ

_ 1 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 2 في ((خ)) : ينزل. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 في ((خ)) : يكون. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 سورة التكوير، الآيات 19-25. 5 سورة الشعراء، الآيتان 193-194. 6 سورة النحل، الآية 102.

عَدُوَّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ} 1، وقال: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيم * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} 2. الواجب معرفة الفروق بين آيات الأنبياء وبين من خالفهم فينبغي أن يُتدبّر هذا الموضع، وتُعرف الفروق الكثيرة بين آيات الأنبياء، وبين ما يشتبه بها؛ كما يُعرف الفرق بين النبي، وبين المتنبي؛ وبين ما يجيء به النبي، وما يجيء به المتنبي. فالفرق حاصلٌ في نفس صفات هذا، وصفات هذا، وأفعال هذا، وأفعال هذا، وأمر هذا، وأمر هذا، وخبر هذا، وخبر هذا، وآيات هذا، وآيات هذا؛ إذ الناس محتاجون إلى هذا الفرقان أعظم من حاجتهم إلى غيره، والله تعالى يبيّنه، ويُيسّره. ولهذا أخبر أنه أرسل رسله بالآيات البيّنات. وكيف [يشبّه] 3 خير الناس بشر الناس. ولهذا لما مثّلوا الرسول بالساحر، وغيره، قال تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} 4. وقد تنازع النّاس في الخوارق: هل تدلّ على صلاح صاحبها، وعلى ولايته لله5؟. هل الخوارق تدل على صلاح صاحبها أم لا؟ والتحقيق: أنّ من كان مؤمناً بالأنبياء،لم يستدلّ على الصلاح بمجرّد

_ 1 سورة البقرة، الآية 97. 2 سورة الشعراء، الآيات 221-223. 3 في ((خ)) : شبه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 سورة الفرقان، الآية 9. 5 للاطلاع على خلافهم في ذلك، راجع: مجموع الفتاوى 11/214، 287. والجواب الصحيح 2/338. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 147-148. وقطر الولي على حديث الولي للشوكاني ص 272.

الخوارق التي قد تكون للكفار والفسّاق، وإنّما يُستدلّ بمتابعة الرجل للنبيّ؛ فيُميّز بين أولياء الله وأعدائه بالفروق التي بيَّنَها اللهُ ورسوله؛ كقوله: { [أَلاَ] 1 إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} 2. وقد علق السعادة بالإيمان والتقوى في عدّة مواضع؛ كقوله لمّا ذكر السّحرة: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} 3، وقوله عن يوسف: {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ ? وَلأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ للَّذِيْنَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} 4، وقوله في قصة صالح: {وَنَجَّيْنَا الَّذِيْنَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} 5 وهذه طريقة الصحابة والسلف. تنازع الناس في ولاية المعين على قولين وأمّا دلالتها على ولاية المعيّن: فالناس متنازعون؛ هل الوليّ والمؤمن من مات على ذلك؛ بحيث إذا كان مؤمناً تقيّاً، وقد عُلم أنّه يموت كافراً، يكون في تلك الحال عدوّاً لله؟ أو ينتقل من إيمان وولاية إلى كفر وعداوة؟. وهما قولان معروفان6. فمن قال بالأول؛ فالوليّ عنده كالمؤمن [عند] 7 من علم أنه يموت

_ 1 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 2 سورة يونس، الآيتان 62-63. 3 سورة البقرة، الآية 103. 4 سورة يوسف، الآيتان 56-57. 5 سورة فصلت، الآية 18. 6 انظر: مجموع الفتاوى 11/62، 65. 7 في ((خ)) : عنده. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

على تلك الحال، والخوارق لا تدلّ على ذلك. ولهذا قال هؤلاء؛ كالقاضي أبي بكر1، وأبي يعلى2، وغيرهما: أنّها لا تدلّ3. وأمّا من قال: الولاية تتبدّل؛ فالولاية هنا كالإيمان. وقد يُعلم أنّ الرجل مؤمنٌ في الباطن، تقيّ بدلائل كثيرة، وقد يُطلع الله بعضَ الناس على خاتمة غيره. فهذا لا يمتنع. أقوال الناس في الشهادة لمعين بالجنة لكن هذا مثل الشهادة لمعين بالجنة، وفيها ثلاثة أقوال4: قيل: لا يشهد بذلك لغير النبي. وهو قول أبي حنيفة، والأوزاعي، وعلي ابن المديني، وغيرهم.

_ 1 الباقلاني. هو أبو بكر محمد بن طيب بن محمد بن جعفر البصريّ. سبقت ترجمته. 2 هو القاضي أبو يعلى؛ محمد بن الحسين بن محمد بن خلف البغدادي الفراء، شيخ الحنابلة، وعالم العراق في زمانه. توفي سنة 458 ?. انظر: سير أعلام النبلاء 18/89. وطبقات الحنابلة 2/193. والبداية والنهاية 12/101. 3 انظر: البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات للباقلاني ص 51. والتمهيد له ص 47-48. والإنصاف ص 69. ومقالات الإسلاميين للأشعري 1/350. وشرح المقاصد للتفتازاني ص 73، 75، 76. 4 انظر هذه الأقوال الثلاثة في: مجموع الفتاوى 11/518. ومنهاج السنة النبوية 3/496-497. وشرح الطحاوية ص 538. وغاية الأماني في الرد على النبهاني للآلوسي 1/187. وكذلك في المقدمة السالمة في خوف الخاتمة لملا علي القاري - مخطوط - رقم اللوحة 35، ضمن مجموع ابن سلطان رقم 1589.

وقيل: يشهد به لمن جاء به نص، إن1 كان [خبراً] 2 صحيحاً؛ كمن شهد له النبيّ بالجنة فقط. وهذا قول كثيرٍ من أصحابنا، وغيرهم. وقيل: يشهد به لمن استفاض عند الأمة أنه رجل صالح3؛ كعمر بن عبد العزيز، والحسن البصري، وغيرهما. وكان أبو ثور4 يشهد لأحمد بن حنبل بالجنّة. وقد جاء في الحديث الذي في المسند: "يُوشك أن تعلموا أهل الجنة من أهل النار". قالوا: بماذا يا رسول الله؟ قال: "بالثناء الحسن والثناء السيئ"5. وفي الصحيحين: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم مُرّ عليه بجنازة، فأثنوا عليها خيراً، فقال: "وَجَبَت وَجَبَت". ومُرّ عليه بجنازة، فأثنوا عليها شراً، فقال: "وَجَبَت وَجَبَت". فقيل: يا رسول الله! ما قولك: وجبت وجبت؟ قال:

_ 1 في ((خ)) : وإن. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 في ((خ)) : خيراً. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (والأشبه أن يُشهد له بذلك. هذا في الأمر العام) . انظر مجموع الفتاوى 11/65. 4 هو إبراهيم بن خالد. الإمام الحافظ الحجة المجتهد، مفتي العراق، أبو ثور. ولد في حدود سنة 170 ?. قال الإمام أحمد لمّا سُئل عنه: أعرفه بالسنّة منذ خمسين سنة، وهو عندي في مسلاخ سفيان الثوري. وقال النسائي: ثقة مأمون، أحد الفقهاء. توفي في صفر 240 ?. انظر: سير أعلام النبلاء 12/72. والبداية والنهاية 10/322. 5 الحديث رواه الإمام أحمد في المسند 3/416، 6/466، من حديث أبي بكر بن أبي زهير الثقفي، عن أبيه. وسنده حسن كما ذكر محققا شرح الطحاوية ص 531.

"هذه الجنازة أثنيتم عليها الخير، فقلت: وجبت لها الجنة. وهذه الجنازة أثنيتم عليها شراً، فقلت: وجبت لها النار. أنتم شهداء الله في الأرض"1. وفي حديث آخر: "إذا سمعت جيرانك يقولون: قد أحسنتَ، فقد أحسنت. وإذا سمعتهم يقولون: قد أسأتَ، فقد أسأت"2. وسئل عن الرجل: يعمل العمل لنفسه، فيحمده الناس عليه، فقال: "تلك عاجل بشرى المؤمن" 3. الثناء على رجل يعرف بأسباب والتحقيق: أنّ هذا قد [يُعلم] 4 بأسباب، وقد يغلب على الظن. ولا يجوز للرجل أن يقول بما لا يعلم؛ ولهذا لما قالت أم العلاء الأنصارية5: لمّا قدم المهاجرون المدينة اقترعت الأنصار على سكناهم، فصار لنا عثمان بن مظعون6 في السكنى، / فمرض، فمرضناه، ثم توفي، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل، فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه 1/460. ومسلم في صحيحه حديث 949. 2 أخرجه الإمام أحمد في مسنده 1/4021. وقال الساعاتي: (وقال البوصيري في زوائد ابن ماجه: حديث عبد الله بن مسعود هذا صحيح، رجاله ثقات، وأورده الهيثمي، وقال: رواه (طب) ورجاله رجال الصحيح. وغفل عن عزوه للإمام أحمد) . الفتح الرباني 19/219-220. 3 أخرجه مسلم في صحيحه، حديث 2642. 4 في ((خ)) : يعمل. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 هي أم العلاء بنت الحارث بن ثابت الخزرجية. يُقال إنها والدة خارجة بن زيد بن ثابت. إحدى الصحابيات رضي الله عنها. انظر الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 4/478. 6 هو عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب الجمحي، أبو السائب. من سادة المهاجرين، وممن فازوا بوفاتهم في حياة نبيّهم صلى الله عليه وسلم، فصلى عليهم. وكان أول من دفن بالبقيع. انظر: حلية الأولياء 1/102. وسير أعلام النبلاء 1/153.

أن قد أكرمك الله. قال النبي صلى الله عليه وسلم: " [وما يدريك] 1 أنّ الله قد أكرمه؟ ". قالت: لا والله، لا أدري. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما هو فقد أتاه اليقين من ربه وإني لأرجو له الخير. والله ما أدري وأنا رسول الله ما يُفعل بي ولا بكم". قالت: فوالله لا أزكي بعده أحداً أبداً. قالت: ثم رأيت لعثمان [رضي الله عنه] 2 بعد في النوم عيناً تجري، فقصصتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "ذاك عمله"3. وأما من لم يكن مقراً بالأنبياء، فهذا لا يعرف الولي من غيره؛ إذ الولي لا يكون ولياً إلا إذا آمن بالرسل. لكن قد [تدل] 4 الخوارق على أنّ هؤلاء على الحقّ، دون هؤلاء؛ لكونهم من أتباع الأنبياء؛ كما قد [يتنازع] 5 المسلمون والكفار في الدين؛ فيؤيّد الله المؤمنين بخوارق تدل على صحة دينهم؛ كما صارت النار على أبي مسلم6 برداً وسلاماً؛ وكما شرب خالد السمّ7، وأمثال ذلك. فهذه الخوارق هي من جنس آيات الأنبياء. كل ما كان الإنسان أقرب إلى الإسلام فهو أقوى خوارق وقد يجتمع كفار، ومسلمون، ومبتدعة، وفجّار؛ فيؤيّد هؤلاء بخوارق تعينهم عليها الجنّ و [الشياطين] 8، ولكن جنهم وشياطينهم أقرب إلى

_ 1 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 2 ما بين المعقوفتين يُوجد في ((ط)) فقط. 3 الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 2/954، 955. 4 في ((خ)) : يدلّ. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 في ((خ)) : تتنازع. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 6 الخولاني. تقدمت قصته قريباً، ص 159. 7 تقدمت قصة شرب خالد بن الوليد رضي الله عنه للسمّ قريباً، ص 159. 8 في ((خ)) : الشيطاطين. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

الإسلام؛ فيترجّحون بها على أولئك الكفار عند من لا يعرف النبوّات؛ كما يجري لكثيرٍ من المبتدعة، والفجّار، مع الكفّار؛ مثل ما يجري للأحمدية1، وغيرهم، مع عبّاد المشركين البخشيّة2 قدّام التتار3، كانت خوارق هؤلاء أقوى لكونهم كانوا أقرب إلى الإسلام4.

_ 1 الأحمدية، والرفاعية من طرق الصوفية. وتنسب إلى أحمد الرفاعي بن سلطان علي. ويُوصل أتباعه نسبه إلى موسى الكاظم بن جعفر الصادق، إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ولد أحمد الرفاعي في قرية حسن بالقرب من أم عبيدة بالعراق سنة 512 ?، وتوفي سنة 578، ودفن في قرية أم عبيدة. انظر: البداية والنهاية لابن كثير 12/312. وسير أعلام النبلاء للذهبي 21/76. وطبقات الشافعية للسبكي 4/19. وشذرات الذهب لابن العماد 4/259. والفكر الصوفي لعبد الرحمن عبد الخالق ص 366. وقد ناقش شيخ الإسلام - رحمه الله - هؤلاء الرفاعية وكشف حقيقة ما يظهرونه من المخاريق مثل ملابسة النار والحيات وإظهار الدم، وذلك في مناقشة علنية بحضور نائب السلطان وأهل دمشق. انظر مجموع الفتاوى 11/445، 476، 494. (بخش) كلمة سنسكريتية، أصل الكلمة (بهشكو) ، وهي تدلّ على كهنة بوذا. وهذا أحد معانيها. والكلمة بهذا المعنى ترادف الكلمة الصينيّة: (هو شانغ) ، والتيبتية: (لاما) ، والأويغورية: (تواين) . انظر: دائرة المعارف الإسلامية لمجموعة من المستشرقين 6/386. وقد تكلم شيخ الإسلام رحمه الله عن هؤلاء البخشية في كتاب الصفدية 1/191. ومنهاج السنة 3/446-447. 3 لعل المراد أنّ أحوال هؤلاء لا تظهر إلا عند التتار. 4 ذكر شيخ الإسلام رحمه الله قصة لشيخ من الأحمدية: أنه كان مرة عند بعض أمراء التتار، وكان لهذا الأمير صنم يعبده، فقال الأمير لذاك الشيخ: هذا الصنم يأكل من هذا الطعام كلّ يوم، ويبقى أثر الأكل في الطعام. فأنكر الشيخ ذلك، فقال له الأمير: إن كان يأكل، فأنت تموت - يعني سيقتله لإنكاره ذلك. فقال له الشيخ: نعم. يقول ذاك الشيخ: فأقمت عنده إلى نصف النهار، ولم يظهر في الطعام أثر، فاستعظم ذلك التتري. قال شيخ الإسلام رحمه الله: فقلت لهذا الشيخ: أنا أُبيّن لك سبب ذلك؛ التتريّ كافر مشرك، ولصنمه شيطان يُغويه بما يُظهره من الأثر في الطعام. وأنتَ كان معك من نور الإسلام ما أوجب انصراف الشيطان ... فالتتري وأمثاله سود، وأهل الإسلام المحض بيض، وأنتم بُلق؛ فيكم سواد وبياض) . ((مجموع الفتاوى)) 11/447-448. ونقل شيخ الإسلام رحمه الله عن شيخٍ من مشايخ الأحمدية قوله: أحوالنا تظهر عند التتار، لا تظهر عند شرع محمد بن عبد الله. انظر مجموع الفتاوى 11/455.

كلام الغزالي ينفع الفلسفي ويضر المسلم وعند من هو أحق بالإسلام منهم لا تظهر خوارقهم، بل تظهر خوارق من هو أتمّ إيماناً منهم. وهذا يُشبه ردّ أهل البدع على الكفّار بما فيه بدعة؛ فإنّهم وإن ضلّوا من هذا الوجه، فهم خير من أولئك الكفار، لكن من أراد أن يسلك إلى الله على ما جاء به الرسول يضرّه هؤلاء، ومن كان [حائراً] 1 نفعه هؤلاء. بل كلام أبي حامد2 ينفع المتفلسف ويصير أحسن؛ فإنّ المتفلسف يُسلم به إسلام الفلاسفة، والمؤمن يصير به إيمانه مثل إيمان الفلاسفة. وهذا [أردأ] 3 من هذا، بخلاف ذاك.

_ 1 في ((م)) ، و ((ط)) : جائراً. 2 هو محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسيّ الشافعيّ الغزالي. توفي سنة 505 هـ. قال عنه أبو بكر بن العربي: شيخنا أبو حامد بلع الفلاسفة، وأراد أن يتقيّأهم، فما استطاع. وقال عنه ابن الجوزي: صنّف أبو حامد الإحياء، وملأه بالأحاديث الباطلة، ولم يعلم بُطلانها، وتكلّم على الكشف، وخرج عن قانون الفقه. انظر: سير أعلام النبلاء 19/322. 3 في ((خ)) : ردّه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

أنواع الخوارق والخوارق ثلاثة أنواع1: إمّا أن [تُعين] 2 صاحبها على البر والتقوى؛ فهذه أحوال نبيّنا ومن اتبعه؛ خوارقهم لحجّة في الدين، أو حاجةً للمسلمين. والثاني: أن تعينهم على مباحات؛ كمن [يُعينه] 3 الجنّ على قضاء حوائجه المباحة؛ فهذا متوسط، وخوارقه لا ترفعه ولا تخفضه. وهذا يُشبه تسخير الجنّ لسليمان [عليه السلام] 4. والأول مثل إرسال نبيّنا إلى الجنّ يدعوهم إلى الإيمان؛ فهذا أكمل من استخدام الجنّ في بعض الأمور المباحة؛ كاستخدام سليمان [عليه السلام] 5 لهم في محاريبَ، وتماثيلَ، وجِفانٍ [كالجوابِ] 6 وقدورٍ راسيات، [اعملوا آل داود شُكراً] 7؛ قال تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ [كَالجَوَابِ] 8 وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْملُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرَاً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُور} 9، وقال تعالى: {وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِير} 10. ونبيّنا أُرسل إليهم يدعوهم إلى الإيمان بالله وعبادته؛ كما أُرسل إلى الإنس. فإذا اتّبعوه، صاروا سعداء. فهذا أكمل له ولهم من ذاك.

_ 1 انظر أيضاً: مجموع الفتاوى 11/319-320، 323-329. 2 في ((خ)) : يعين. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 في ((م)) ، و ((ط)) : تعينه. 4 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) . 5 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) . 6 في ((م)) ، و ((ط)) : كالجوابي. 7 ما بين المعقوفتين ليس في ((م)) ، و ((ط)) . 8 في ((م)) ، و ((ط)) : كالجوابي. 9 سورة سبأ، الآية 13. 10 سورة سبأ، الآية 12.

العبد الرسول أكمل من الملك الرسول كما أنّ العبدَ الرّسول أكمل من النبيّ الملِك1. ويوسف، وداود، وسليمان [عليهم السلام] 2 أنبياء ملوك. وأمّا محمّد [صلى الله عليه وسلم] 3 فهو عبدٌ رسولٌ؛ كإبراهيم، وموسى، والمسيح [عليهم السلام] 4. وهذا الصنف أفضل، وأتباعهم أفضل.

_ 1 وقال شيخ الإسلام رحمه الله أيضاً: "وانقسم الأنبياء عليهم السلام إلى عبدٍ رسول، ونبيّ ملك. وقد خيَّر الله سبحانه محمّداً صلى الله عليه وسلم بين أن يكون عبداً رسولاً، وبين أن يكون نبيّاً ملكاً، فاختار أن يكون عبداً رسولاً ... فالنبيّ الملك يفعل ما فرض الله عليه، ويترك ما حرّم الله عليه، ويتصرّف في الولاية والمال بما يُحبّه، ويختار من غير إثم عليه. وأما العبد الرسول فلا يُعطي أحداً إلا بأمر ربه، ولا يُعطي من يشاء ويحرم من يشاء؛ بل رُوي عنه أنّه قال: "إني والله لا أعطي أحداً، ولا أمنع أحداً، إنّما أنا قاسم حيث أمرت". مجموع الفتاوى 11/180-181. وانظر: المصدر نفسه 13/88. ومنهاج السنة النبوية 7/468. والبداية والنهاية لابن كثير 6/50، 294. وحديث "إني والله لا أُعطي أحداً". رواه البخاري في كتاب فرض الخمس. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر فقال: "إنّ عبداً خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده، فاختارما عنده.. فبكى أبو بكر.." انظر: صحيح البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة رقم 45 - الفتح 7/227 -. وصحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من مناقب أبي بكر الصديق رضي الله عنه، رقم 2. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "جلس جبريل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فنظر إلى السماء، فإذا ملك ينزل، فقال جبريل: إنّ هذا الملك ما نزل منذ يوم خلق قبل الساعة. فلما نزل قال: يا محمد أرسلني إليك ربك فقال: أفملكاً نبياً يجعلك، أو عبداً رسولاً. قال جبريل: تواضع لربك يا محمد. قال: "بل عبداً رسولاً". انظر: مسند الإمام أحمد 2/231. وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح (المسند 12/142-143) ، والإحسان في تقريب صحيح ابن حبان14/280. وقال محققه: صحيح على شرط الشيخين. 2 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) . 3 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) . 4 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) .

أهل البدع أحوالهم من إعانة الشياطين والثالث: أن تعينه على محرمات؛ مثل الفواحش، والظلم، والشرك، والقول الباطل؛ فهذا من جنس خوارق السحرة، والكهّان، والكفّار، والفجّار؛ مثل أهل البدع من الرفاعية1، وغيرهم؛ فإنهم يستعينون بها على الشرك، وقتل النفوس بغير حق، والفواحش. وهذه الثلاثة هي التي حرّمها الله في قوله: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهَاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامَاً} 2. ولهذا كانت طريقهم من جنس طريق الكهّان، والشعراء، والمجانين - وقد نزّه الله نبيّه عن أن يكون مجنوناً، وشاعراً، وكاهناً3 - فإنّ إخبارهم4 بالمغيّبات عن شياطين تنزل عليهم كالكهّان، وأقوى أحوالهم لمؤلهيهم. وهم من جنس المجانين، وقد قال شيخهم: إن أصحاب الأحوال منهم يموتون على غير الإسلام. وأما سماعهم، ووجدهم فهو شعر الشعراء، ولهذا شبّههم من رآهم بعبّاد المشركين؛ من الهند الذين يعبدون الأنداد.

_ 1 تقدم التعريف بهم ص 180. 2 سورة الفرقان، الآية 68. 3 قال تعالى: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} . [سورة الطور، الآيات 29-31] . 4 يعني الكهان، والشعراء، والمجانين.

فصل كل ما يدل على النبوة آية وبرهان عليها

فصل كل ما يدل علىالنبوة آية وبرهان عليها وحقيقة الأمر أنّ ما يدل على النبوة هو آيةٌ على النبوة، وبرهانٌ عليها. فلا بُدّ أن يكون مختصاً بها، لا يكون [مشتركاً] 1 بين الأنبياء وغيرهم؛ فإنّ الدليل هو مستلزمٌ لمدلوله، لا يجب أن يكون أعمّ وجوداً منه، بل إما أن يكون مساوياً له في العموم والخصوص، أو يكون أخصّ منه. وحينئذٍ فآية النبيّ لا تكون لغير الأنبياء. لكن إذا كانت معتادة لكلّ نبيّ، أو لكثيرٍ من الأنبياء، لم يقدح هذا فيها، فلا يضرّها أن تكون معتادة للأنبياء. وصف الآية بأنها خارقة أو غير خارقة وصف لا ينضبط وكون الآية خارقة للعادة، أو غير خارقة: هو وصفٌ لم يصفه القرآن، والحديث، ولا السلف. وقد بيّنا في غير هذا الموضع أنّ هذا وصفٌ لا ينضبط2، وهو عديم التأثير؛ فإنّ نفس النبوة معتادة للأنبياء، خارقة للعادة بالنسبة إلى غيرهم. إنّ كون الشخص يخبره الله بالغيب خبراًً معصوماًً هذا مختصّ بهم، وليس هو موجوداً لغيرهم، فضلاً عن كونه معتاداً.

_ 1 في ((خ)) : مشركاً. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 انظر من كتب شيخ الإسلام: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 5/412-421، 6/380-404، 496-505. ومنهاج السنة النبوية 3/228. وقد بسط المؤلف رحمه الله الكلام على هذا في مواضع من كتابنا هذا. راجع ص 990، 1017، وغيرها.

معنى الخارق للعادة فآية النبيّ لا بُدّ أن تكون خارقةً للعادة؛ بمعنى أنّها ليست معتادة للآدميين؛ وذلك لأنها حينئذ لا تكون مختصة بالنبي بل مشتركة. وبهذا احتجوا على أنّه لا بدّ أن تكون خارقة للعادة. لكن ليس في هذا ما يدلّ على أنّ كل خارق آية؛ فالكهانة1، والسحر2 هو معتاد للسحرة والكهان، وهو خارق بالنسبة إلى غيرهم؛ كما أنّ ما يعرفه أهل الطب، والنجوم3،

_ 1 الكاهن: هو الذي يدّعي مطالعة عالم الغيب، ويُخبر الناس عن الكوائن. وكان في العرب كهنة يدّعون أنهم يعرفون كثيراً من الأمور؛ كشقّ، وسطيح، وغيرهما. انظر: معالم السنن 4/228. ولسان العرب 13/363. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "أما الكاهن، والمنجم، ونحو هؤلاء، فيكذبون كثيراً، كما يصدقون أحياناً، ويُخبرون بجمل غير مفصّلة". الجواب الصحيح 6/69. 2 قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله عن السحر: "اعلم أنّ السحر في الاصطلاح لا يمكن حدّه بحدّ جامع مانع؛ لكثرة الأنواع المختلفة الداخلة تحته. ولا يتحقق قدر مشترك يكون جامعاً لها ما نعاً لغيرها. ومن هنا اختلفت عبارات العلماء في حده اختلافاً متبايناً". أضواء البيان 4/444. وعرفه ابن قدامه بقوله: "عزائم، ورقى، وعقد تُؤثّر في الأبدان والقلوب، فيمرض، ويقتل، ويفرق بين المرء وزوجه، ويأخذ أحد الزوجين عن صاحبه". الكافي 4/164. والمغني 12/299. وانظر: زاد المعاد 4/125-126. وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في مواضع أخرى من كتابه هذا: النبوات ص 172: "أنّ الكاهن إنّما عنده أخبار، والساحر عنده تصرف بقتل، وإمراض، وغير ذلك. وهذا تطلبه النفوس أكثر". 3 التنجيم نوعان: أولا: علم التأثير عرّفه شيخ الإسلام رحمه الله بأنّه: "الاستدلال على الحوادث الأرضية بالأحوال الفلكية، والتمزيج بين القوى الفلكية، والقوابل الأرضية) . وقال رحمه الله عن حكمه: "صناعة محرمة بالكتاب، والسنة، وإجماع الأمة، بل هي محرمة على لسان جميع المرسلين في جميع الملل". مجموع الفتاوى 35/192. وعرفه ابن خلدون رحمه الله بأنّه "ما يزعمه أصحاب هذه الصناعة من أنهم يعرفون بها الكائنات في عالم العناصر قبل حدوثها، من قبل معرفة قوى الكواكب، وتأثيرها في المولدات العنصرية مفردة ومجتمعة؛ فتكون لذلك أوضاع الأفلاك والكواكب دالّة على ما سيحدث من نوع من أنواع الكائنات الكلية والشخصية". مقدمة ابن خلدون ص 519-520. وهذا ينافي التوحيد. والنوع الثاني: علم التيسير؛ وهو الاستدلال بالشمس والقمر والكواكب على القبلة والأوقات والجهات، فهذا لا بأس به، بل كثير منه نافع قد حث عليه الشارع إذا كان وسيلة إلى معرفة أوقات العبادات، أو الاهتداء به في الجهات. انظر: القول السديد في مقاصد التوحيد للشيخ عبد الرحمن السعدي: ص 91-92. وهناك تعاريف أخرى. انظر: معالم السنن 5/371-372. وشرح السنة للبغوي 12/183.

والفقه، والنحو هو معتادٌ لنظرائهم، وهو خارقٌ بالنسبة إلى غيرهم. الكسوف يُعرف بالحساب ولهذا إذا أخبر الحاسب1 بوقت الكسوف والخسوف2، تعجب الناس؛ [إذ] 3 كانوا لا يعرفون طريقه؛ فليس في هذا ما يختص بالنبيّ. وكذلك [قراءة] 4 القرآن بعد أن بعث محمد صلى الله عليه وسلم صارت مشتركة بين النبيّ وغيره. وأما نفس الابتداء به فهو المختص بالنبيّ.

_ 1 الحَسْبُ يأتي بمعان كثيرة، منها: العدّ والإحصاء وتقدير الشيء. قال الفراء: حَسِبتُ الشيء: ظننتُه أحسِبُه وأحسَبُه، والكسر أجود اللغتين. انظر: تهذيب اللغة 4/329-331، مادة حسب. وجاء في حديث الهجرة: "فيلقى الرجل أبا بكر، فيقول: يا أبا بكر من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فيقول: هذا الرجل يهديني السبيل. قال: فيحسب الحاسب أنه إنما يعني الطريق، وإنما يعني سبيل الخير ... ". الحديث رواه البخاري في صحيحه5/79. 2 الكسوف: مأخوذ من كسفت الشمس والقمر - بفتح الكاف. وقيل: كسف الشمس - بالكاف -، وخسف القمر - بالخاء -. انظر: شرح النووي على مسلم 6/198. وجمهور أهل العلم على أنّ الكسوف والخسوف يكون لذهاب ضوء الشمس والقمر كلّه، ويكون لذهاب بعضه. فالكسوف لا يكون إلا في آخر الشهر ليالي الإسرار. والخسوف لا يكون إلا في وسط الشهر ليالي الإبدار. انظر: مجموعة الفتاوى المصرية 1/320. ومجموع الفتاوى 35/175. 3 في ((ط)) فقط: إذا. 4 في ((خ)) : قرأت. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

المعجزة تكون من الابتداء مختصة بالنبي وكذلك ما يرويه من أنباء الغيب عن الأنبياء لما صار مشتركاً بين النبيّ وغيره، لم يبق [آية] 1، بخلاف الابتداء به. معنى الكهانة فالكهانة مثلاً: وهو الإخبار ببعض الغائبات عن الجن: أمرٌ معروفٌ عند الناس. وأرض العرب كانت مملوءة من الكهان، وإنّما ذهب ذلك بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم 2. وهم يكثرون في كل موضع نقص فيه أمر النبوة؛ فهم كثيرون في أرض عبّاد الأصنام، ويوجدون كثيراً عند النصارى، ويوجدون كثيراً في بلاد المسلمين؛ حيث نقص العلم والإيمان بما جاء به الرسول3؛

_ 1 في ((خ)) : أنه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت الجنّ - فيما ذكره الله تعالى عنهم -: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} [الجنّ 8-10] . قال ابن عبّاس: "انطلق النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليه الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: مالكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأُرسلت علينا الشهب. قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث.." أخرجه البخاري في صحيحه 2/253. ومسلم في صحيحه 1/331. قال شيخ الإسلام: "وقد تواترت الأخبار بأنه حين المبعث كثر الرمي بالشهب، وهذا أمر خارق للعادة، حتى خاف بعض الناس أن يكون ذلك لخراب العالم، حتى نظروا هل الرمي بالكواكب التي في الفلك، أم الرمي بالشهب؟ فلما رأوا أنه بالشهب، علموا أنه لأمر حدث. وأرسلت الجن تطلب ذلك، حتى سمعت القرآن، فعلمت أنه كان لأجل ذلك". الجواب الصحيح 5/353-354. 3 وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله ذلك مراراً، وبيَّن أن أحوال المشعوذين تُقبل في مجتمعات الجاهلين، وتكثر حيث يقلّ العلم والعلماء العاملين. انظر: كتاب الصفدية 1/233، 236. والرد على المنطقيين ص 187. وهذا مشاهد الآن في بعض الأقطار التي يقلّ فيها نور الإسلام؛ فقد شاع بين بعض الناس علوم السحرة، والعرّافين، وأهل الزّار، ومن يُخبر عن الحظ، والطالع. ونفقت بضاعة المشعوذين والدجالين التي هي من علوم الجاهلية؛ كما قال شيخ البطائحية لشيخ الإسلام رحمه الله لما ناظرهم: "أحوالنا تظهر عند التتار، لا تظهر عند شرع محمد بن عبد الله". انظر: مجموع الفتاوى 11/455.

لأنّ هؤلاء أعداء الأنبياء، والله تعالى قد ذكر الفرق بينهم وبين الأنبياء؛ فقال: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ [الشَّيَاطِين] 1 [تَنَزَّلُ] 2 عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيْم يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} 3. فهؤلاء لا بُدّ أن يكون في أحدهم كذب وفجور، وذلك يُناقِض النبوّة. فمن ادّعى النبوّة، وأخبر بغيوبٍ من جنس أخبار الكهّان، كان ما أخبر به خرقاً للعادة عند أولئك القوم، لكن ليس خرقاً لعادة جنسه من الكهّان. خوارق بعض المتنبئين وهم إذا جعلوا ذلك آية لنبوته، كان ذلك لجهلهم [بوجود] 4 هذا الجنس لغير الأنبياء؛ كالذين صدّقوا مسيلمة الكذّاب5، والأسود

_ 1 في ((خ)) : الشيطان. 2 في ((خ)) : تنزلوا. 3 سورة الشعراء، الآيات 221-223. 4 في ((ط)) فقط: لوجود. 5 هو: مسيلمة بن ثمامة بن كبير بن حبيب الحنفيّ الوائلي. متنبئ. ولد ونشأ باليمامة في بلدة الجبيلة بوادي حنيفة. وكان قد تنبّأ في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر سنة عشر. وزعم أنه اشترك مع محمد صلى الله عليه وسلم في النبوة، وكان معه من الشياطين من يُخبر بالمغيبات. بعث أبو بكر خالد بن الوليد إلى مسيلمة الكذاب في جيش كثير، حتى أهلكه الله على يد وحشي غلام مطعم بن عدي؛ الذي قتل حمزة بن عبد المطلب. وكان وحشي يقول: قتلت خير الناس في الجاهلية، وشرّ الناس في الإسلام. انظر: مجموع الفتاوى 11/285. وشذرات الذهب 1/231. والأعلام 7/226.

العنسي1، والحارث الدمشقي2، وبابا الرومي3، وغير هؤلاء من

_ 1 هو عبهلة بن كعب بن غوث العنسي المذحجي، ذو الخمار، ويلقب بالأسود. كان كاهناً مشعبذاً، فتنبأ باليمن، واستولى على بلاده، وكان له من الشياطين من يخبره ببعض الأمور الغيبية. فلما قاتله المسلمون كانوا يخافون من الشياطين أن يُخبروه بما يقولون فيه، حتى أعانتهم عليه امرأته لمّا تبيّن لها كفره، فقتلوه؛ قتله فيروز الديلمي على فراشه. فبشّر النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه بهلاك الأسود، وقُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد. وأتى خبر مقتل العنسي المدينةَ في آخر شهر ربيع الأول، بعد ما خرج أسامة. وكان ذلك أول فتح جاء أبا بكر رضي الله عنه. انظر: مجموع الفتاوى 10/666، 11/284. والبداية والنهاية 6/311. والأعلام 5/299. 2 هو الحارث بن سعيد - أو ابن عبد الرحمن - بن سعد. متنبئ من أهل دمشق. يُعرف أتباعه بالحارثية. كان مولى لأحد القرشيين، ونشأ متعبداً زاهداً، ثم ادعى النبوة. وكان يأتي إلى رخامة فينقرها بيده، فتسبح. ويطعمهم فاكهة الصيف في الشتاء، ويظهر لهم خيالات يقول إنها الملائكة. وتبعه خلق كثير. قبض عليه عبد الملك ابن مروان، فصلبه، وقتله. انظر: مجموع الفتاوى 11/285. والبداية والنهاية 9/27-28. والأعلام 2/154. 3 ذكر شيخ الإسلام رحمه الله هذا المتنبئ الكذّاب في كثير من كتبه؛ مثل: الجواب الصحيح 2/34. وشرح الأصفهانية 1/287. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 179-180؛ حيث ذكره فيه باسم باباه الرومي. والبابا: اسم عام، يُطلق على الرئيس الأعلى للكنيسة الكاثوليكية انظر: المعجم الوسيط 1/35. ولعلّ المؤلف - رحمه الله - يقصد شخصاً معيّناً؛ فلعله أن يكون البابا نبيّ الصابئة الحرّانيّين؛ إذ ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في موضع آخر أنّ الصابئة الحرانيين "لهم نبيّ على أصلهم، يُقال له البابا، وله مصحف يذكر فيه كثيراً من الأخبار المستقبلة، ويذكر أن سيّدته؛ يعني روحانية الزهرة، أخبرته بذلك. وكثير منها صحيح؛ كإخباره بدخول المسلمين بلاد حرّان وغيرها، وفتحهم البلاد، وإهانتهم لطائفته". الرد على المنطقيين ص 480-481. وليس الأمر علماً بالغيب، بل لعله حدسٌ صدق.

المتنبئين الكذّابين1. وكان هؤلاء [يأتون] 2 بأمور عجيبة خارقة لعادة أولئك القوم، لكن ليست خارقة لعادة جنسهم ممن ليس [بنبي] 3. فمن صدقهم ظنّ أنّ هذا مختصٌ بالأنبياء , وكان من جهله بوجود هذا لغير الأنبياء، كما أنهم كانوا يأتون بأمور [تناقض] 4 النبوة5. آيات الأنبياء لا يعارضها من ليس بنبي ولهذا يجب في آيات الأنبياء أن لا يُعارضها من ليس بنبي، فكل ما عارضها [صادراً م] 6 مّن ليس من جنس الأنبياء، فليس من آياتهم. ولهذا طلب فرعون أن يُعارَض ما جاء به موسى لمّا ادعى أنّه ساحر7؛ فجمع السحرة ليفعلوا مثل ما يفعل موسى، فلا [تبقى] 8 حجته مختصة

_ 1 قال شيخ الإسلام رحمه الله: "مسيلمة الكذاب والأسود العنسي اللذين ادعيا النبوة في آخر أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وكان لكل منهما شياطين تُخبره وتعينه". مجموع الفتاوى 11/666. 2 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 في ((خ)) : نبي. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 في ((خ)) : يناقض. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 ذكر علماء التاريخ أنّ مسيلمة كان يتشبّه بالنبي صلى الله عليه وسلم. وبلغه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بصق في بئر، فغزر ماؤها. فبصق مسيلمة في بئر، فغاض ماؤها بالكلية. وبصق في آخر، فصار ماؤه أجاجاً، وتوضأ، وسقى بوضوئه نخلاً، فيبست، وهلكت. وأتى بولدان يُبرّك عليهم، فجعل يمسح رؤوسهم، فمنهم من قرع رأسه، ومنهم من لثغ لسانه. ويُقال إنه دعا لرجل أصابه وجع في عينيه، ومسحهما، فعمي. انظر: البداية والنهاية 6/331. وأما الأسود العنسي: فلا أدلّ على كذبه من قصة أبي مسلم الخولاني، حين ألقاه العنسي في النار، فصارت عليه برداً وسلاماً؛ كما صارت النار برداً وسلاماً على إبراهيم عليه السلام. وقد تقدمت هذه القصة قريباً ص 192. 6 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 7 المدّعي هو فرعون؛ زعم أنّ ما جاء به موسى عليه السلام سحر، وأنّه - عليه السلام - ساحر. 8 في ((خ)) : يبقى. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

بالنبوة. وأمر? [م موسى] 1 أن يأتوا أولاً بخوارقهم، فلمّا أتت، وابتلعتها العصا التي صارت حية، علم السحرة أنّ هذا ليس من جنس مقدورهم، فآمنوا إيماناً جازماً. ولما قال لهم فرعون: {ولأُصَلِّبَنَّكُمْ في جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابَاً وَأَبْقَى ? قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا} 2. وقالوا: {آمَناَّ بِرَبِّ العَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُون} 3. فكان من تمام علمهم بالسحر: أنّ السحر معتادٌ لأمثالهم، وأنّ هذا ليس من هذا الجنس، بل هذا مختص بمثل هذا؛ فدلّ على صدق دعواه. وفرعون وقومه [بين] 4 معاندٍ وجاهلٍ استخفه فرعون؛ كما قال تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَومَهُ فَأَطَاعُوهُ} 5. نقد شيخ الإسلام لبعض من عرف المعجزة فإذا قيل لهم: المعجزة هي الفعل الخارق للعادة، أو قيل: هي الفعل الخارق للعادة المقرون بالتحدي، أو قيل مع ذلك الخارق للعادة: السليم عن المعارضة؛ فكونه خارقا للعادة ليس أمرا مضبوطا. فإنّه إن أريد به أنّه لم يوجد له نظير في العالم، فهذا باطلٌ؛ فإن آيات الأنبياء بعضها نظير بعض، بل النوع الواحد منه؛ كإحياء الموتى: هو آية لغير واحد من الأنبياء. وإن [قيل] 6: إنّ بعض الأنبياء كانت آيته لا نظير لها؛ كالقرآن،

_ 1 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 2 سورة طه، الآيتان 71-72. 3 سورة الأعراف، الآيتان 121-122. 4 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 5 سورة الزخرف، الآية 54. 6 في ((خ)) : قد. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

والعصا، والناقة، لم يلزم ذلك في سائر الآيات1. ثمّ هب أنّه لا نظير لها في نوعها، لكن وجد خوارق العادات للأنبياء غير هذا، فنفس خوارق العادات معتادٌ [جنسه] 2 للأنبياء، بل هو من لوازم نبوتهم، مع كون الأنبياء كثيرين؛ وقد روي أنهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألف نبيّ3 وما يأتي به كلّ واحد من هؤلاء، لا يكون معدوم النظير في العالم، [بل ربما كثر نظيره] 4.

_ 1 والسبب والله أعلم: أنّ هذه المعجزات لم تتكرر لأنبياء آخرين، إنّما جاءت لما هو شائعٌ بين القوم المرسل إليهم، ليكون ذلك أبلغ في إقامة الحجة. فالقرآن الكريم تحدّى به رسول الله صلى الله عليه وسلم العربَ أن يأتوا بسورةٍ من مثله، فعجزوا، وهم الذين عُرفوا بالبراعة في فنون القول والفصاحة. والعصا معجزة موسى عليه السلام لما عُرف عن قوم فرعون من البراعة في السحر. والناقة معجزة صالح عليه السلام، وكان قومه يتقلبون في نعم الله، وينحتون من الجبال بيوتاً؛ فأخرج الله لهم ناقة عشراء من صخرة ملساء، لها شرب، ولثمود شرب يوم آخر. انظر: رسالة إلى أهل الثغر لأبي الحسن الأشعري ص166. وأعلام النبوة للماوردي ص 97. والإنصاف للباقلاني ص 93. وأصول الدين للبغدادي ص 108. وشرح الأصول الخمسة لعبد الجبار ص 572. والشفاء للقاضي عياض 1/200. وشرح المقاصد للتفتازاني 5/14. وتفسير ابن كثير 1/364-365، 2/418، 5/169-200. والبداية والنهاية له 2/84. وتفسير السعدي 3/28. ومع الأنبياء في القرآن الكريم ص 22. 2 في ((م)) ، و ((ط)) : جميعه. 3 رواه الإمام أحمد في المسند 5/266. وابن حبان في صحيحه 8/54، وقال: على شرط مسلم، ولم يُخرّجه. وقال عنه القرطبي: هذا أصحّ ما رُوي في ذلك. انظر: الجامع لأحكام القرآن 6/14. وصحّحه الألباني. انظر: مشكاة المصابيح 3/1599. 4 في ((خ)) : وإن كثر. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

الكلام عن معنى خرق العادة [وإن عني بكون] 1 المعجزة هي الخارق للعادة: أنّها خارقة لعادة أولئك المخاطبين بالنبوة؛ بحيث ليس فيهم من يقدر على ذلك، فهذا ليس بحجة؛ فإنّ أكثر الناس لا يقدرون على الكهانة، والسحر، ونحو ذلك. وقد يكون المخاطبون بالنبوة ليس فيهم هؤلاء؛ كما كان أتباع مسيلمة2، والعنسي3، وأمثالهما؛ لا يقدرون على ما يقدر عليه هؤلاء. والمبّرز في فنٍ من الفنون يقدر على ما لا يقدر عليه أحد في زمنه، وليس هذا دليلاً على النبوة؛ فكتاب سيبويه4 مثلاً ممّا لا يقدر على مثله عامّة الخلق، وليس بمعجز؛ إذ كان ليس مختصاً بالأنبياء، بل هو موجود لغيرهم. وكذلك طب أبقراط5. بل وعلم العالم الكبير من علماء المسلمين خارج عن عادة الناس، وليس هو دليلاً على نبوّته.

_ 1 في ((خ)) : قد يكون. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 سبق التعريف به قريباً ص 192. 3 سبق التعريف به قريباً ص 192. 4 هو عمرو بن عثمان بن قنبر، مولى بني الحارث. أبو البشر. من تلاميذ الخليل. توفي سنة 177?، وعمره نيف وأربعين سنة. وقد صنّف في النحو كتاباً لا يلحق شأوه، وشرحه أئمة النحاة بعده، فانغمروا في لجج بحره. وكان المبرد إذا أراد إنسان أن يقرأ كتاب سيبويه يقول له: ركبتَ البحر؛ تعظيماً له، واستعظاماً لما فيه. وقال المازني: من أراد أن يعمل كتاباً كبيراً في النحو بعد كتاب سيبويه، فليستحيي. انظر: البداية والنهاية لابن كثير 10/182. والفهرست لابن النديم ص 76. 5 هو بقراط بن إيراقليس. طبيب ماهر من تلاميذ أسقلبيوس الثاني. كان في أيام بهمن ابن أردشير. قال يحيى النحوي: بقراط وحيد دهره الذي يضرب به المثل، الطبيب الفيلسوف. وبلغ به الأمر إلى أن عبده الناس. توفي سنة 357 ق. م، وعمره 95سنة. انظر: طبقات الأطباء ص 24. والفهرست ص 400. وتاريخ الحكماء ص 90.

وأيضاً: فكون الشيء معتاداً هو مأخوذ من العود. وهذا يختلف بحسب الأمور؛ فالحائض المعتادة: من الفقهاء من يقول: [تثبت] 1 عادتها بمرة، ومنهم من يقول: بمرتين، ومنهم من يقول: لا [تثبت] 2 إلا بثلاث3. وأهل كلّ بلدٍ لهم عادات في طعامهم، ولباسهم، وأبنيتهم، لم يعتدها غيرهم. فما خرج عن ذلك فهو خارق لعادتهم، لا لعادة من اعتاده [غيرهم] 4. فلهذا لم يكن في كلام الله، ورسوله، وسلف الأمة، وأئمتها وصف آيات الأنبياء بمجرد كونها خارقة للعادة، [ولا يجوز أن يجعل مجرد خرق العادة هو الدليل؛ فإنّ هذا لا ضابط له، وهو مشتركٌ بين الأنبياء وغيرهم. ولكن إذا قيل: من شرطها أن تكون خارقة للعادة] 5؛ بمعنى أنها لا تكون معتادة للناس فهذا ظاهر يعرفه كل أحد. القول بأن المعجزة هي الخارقة للعادة ليس كافياً لوجهين ويعرفون أنّ الأمر المعتاد؛ مثل الأكل، والشرب، والركوب، والسفر، وطلوع الشمس، وغروبها، ونزول المطر في وقته، وظهور الثمرة في وقتها، ليس دليلاً، ولا يدّعي أحدٌ أنّ مثل هذا دليلٌ له؛ فإن فساد هذا ظاهر لكلّ أحد. ولكن ليس مجرد كونه خارقاً للعادة كافياً لوجهين: أحدهما: أنّ كون الشيء معتاداً وغير معتاد أمرٌ نسبيّ إضافيّ، ليس بوصف مضبوط تتميّز به الآية، بل يعتاد هؤلاء ما لم يعتد هؤلاء؛ مثل كونه مألوفاً، ومجرّباً، ومعروفاً، ونحو ذلك من الصفات الإضافية.

_ 1 في ((خ)) : يثبت. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 في ((خ)) : يثبت. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 انظر: هذه الأقوال الثلاثة مع أدلتها في كتاب المغني 1/397-398. 4 في ((م)) ، و ((ط)) : من غيرهم. 5 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .

الثاني: أنّ مجرّد ذلك مشترك بين الأنبياء وغيرهم. وإذا خصّ ذلك بعدم المعارضة، فقد يأتي الرجل بما لا يقدر الحاضرون على معارضته، ويكون معتاداً لغيرهم كالكهانة، والسحر. وقد يأتي بما لا يمكن معارضته، وليس بآية لشيء؛ لكونه لم يختص بالأنبياء. وقد يُقال في طبّ [بقراط] 1 ونحو سيبويه2 أنّه لا نظير له، بل لا بد أن يقال: إنّه مختصّ بالأنبياء، والطب، والنحو، والفقه. وإن أتى الواحد بما لا يقدر غيره على نظيره، فليس مختصاً بالأنبياء، بل معروف أنّ هذا تعلّم بعضه من غيره، واستخرج سائره بنظره. وإذا خصّ الله طبيباً، أو نحوياً، أو فقيهاً بما ميّزه به على نظرائه، لم يكن ذلك دليلاً على نبوّته، وإن كان خارقاً للعادة؛ فإنّ ما يقوله الواحد من هؤلاء قد علمه بسماعٍ، أو تجربةٍ، أو قياسٍ. وهي طرقٌ [معروفة] 3 لغير الأنبياء. والنبيّ قد علّمه الله من الغيب الذي عصمه فيه عن الخطأ ما لم يعلَمْهُ إلا نبيّ مثلُهُ. الآية لا تعرف أنها مختصة بالنبي حتى يعرف جنس النبوة فإن قيل: فحينئذٍ لا يُعرف أنّ الآية مختصةٌ بالنبيّ، حتى [تُعرف] 4 النبوة. [قيل] 5: أما بعد وجود الأنبياء في العالم، فهكذا هو. ولهذا يُبيّن الله عزّ وجلّ نبوّة محمّد في غير موضع باعتبارها بنبوّة من

_ 1 في ((م)) ، و ((ط)) : أبقراط. وبقراط: تقدم التعريف به. 2 تقدم التعريف به. 3 في ((خ)) : معرفة. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 في ((خ)) : يعرف. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 في ((م)) ، و ((ط)) : قبل.

قبله. [و] 1 تارةً يُبيّن أنّه لم يُرسل ملائكةً، بل رجالاً من أهل القرى، ليُبيّن أنّ هذا معتادٌ معروفٌ، ليس هو أمراً لم تَجْرِ به عادة الربّ؛ كقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً يُوحَى إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 2؛ كما ذكره في سورة النحل3 والأنبياء4. وقال في يوسف: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ القُرَى أَفَلَمْ يَسِيْرُوا في الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ للذِينَ اتَّقَوا أَفَلا تَعْقِلُونَ} 5. فإنّ الكفّار كانوا يقولون: إنّما يُرسل الله مَلَكاً، أو يُرسل مع البشر مَلَكَاً؛ كما قال فرعون {أَمْ أَنَا [خَيْرٌ] 6 مِنْ هَذَا الذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِين فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ [أَسْوِرَة] 7 مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ [مُقْتَرنِين] 8} 9. وقال قوم نوح: {مَا هذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا في آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} 10. وقال مشركو العرب لمحمد: {مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي

_ 1 حرف الواو ساقطٌ في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 2 سورة الأنبياء، الآية 7. 3 قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} . [النحل 43] . 4 وهي الآية التي تقدمت آنفاً. 5 سورة يوسف، الآية 109. 6 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) . 7 في ((خ)) : أساورة. 8 رسمت في ((خ)) : مقترين. 9 سورة الزخرف، الآيتان 52-53. 10 سورة المؤمنون، الآية 24.

في الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ [إِلَيْهِ] 1 مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} 2. وقال تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الهُدَى إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَرَاً رَسُولاً قُلْ لَوْ كَانَ في الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكَاً رَسُولاً} 3. الآيات الدالة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم تقدم له نظراء وقد بشروا به وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَك وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكَاً لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكَاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} 4؛ بيَّن أنّهم لا يُطيقون الأخذ عن الملائكة إن لم يأتوا في صورة البشر، ولو جاءوا في صورة البشر لحصل اللبس. وقال تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبَاً أَنْ أَوْحَينَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} 5، وكانت العرب لا عهد لها بالنبوة من زمن إسماعيل، فقال الله لهم: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْر ِ} 6؛ يعني أهل الكتاب، {إِنْ كُنْتُم لا تَعْلَمُونَ} 7: هل أرسل إليهم رجالا أو ملائكة، ولهذا قال له: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعَاً مِنَ الرُّسُلِ} 8، وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُل} 9؛ بيَّن أنّ هذا الجنس من الناس معروفٌ، قد تقدم له نظراء وأمثال.

_ 1 في ((ط)) : عليه. 2 سورة الفرقان، الآيتان 7-8. 3 سورة الإسراء، الآيتان 94-95. 4 سورة الأنعام، الآيتان 8-9. 5 سورة يونس، الآية 2. 6 سورة النحل، الآية 43. 7 سورة النحل، الآية 43. 8 سورة الأحقاف، الآية 9. 9 سورة آل عمران، الآية 144.

وهو سبحانه أمر أن يُسأل أهل الكتاب، وأهل الذكر عما عندهم من العلم [بأمور] 1 الأنبياء؛ هل هو من جنس ما جاء به محمّد، أو هو مخالفٌ له؛ ليتبيّن بأخبار أهل الكتاب المتواترة جنس ما جاءت به الأنبياء، وحينئذٍ فيعرف قطعاً أنّ محمّداً نبيّ، بل هو أحقّ بالنبوّة من غيره. والثاني: أن يسألوهم عن خصوص محمّد، وذكره عندهم. وهذا يعرفه الخاصّة منهم، ليس هو معروفاً كالأوّل يعرفه كل كتابي؛ قال تعالى: {قلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ [وَشَهِدَ] 2 شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} 3. تفسير قوله تعالى: {وشهد شاهد من بني إسرائيل} وقوله: {شَهِدَ شَاهِدٌ} : ليس المقصود شاهداً واحداً معيّناً، بل ولا [يُحتَمل] 4 كونه واحداً. وقول من قال: [إنه] 5 عبد الله بن سلام6 ليس بشيء7؛ فإنّ هذه نزلت بمكة قبل أن يعرف ابن سلام8، ولكنّ المقصود

_ 1 في ((م)) ، و ((ط)) : من أمور. 2 في ((خ)) : شاهد. 3 سورة الأحقاف، الآية 10. 4 في ((خ)) : يحمل. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) . 6 هو عبد الله بن سلام بن الحارث؛ الإمام الحبر، المشهود له بالجنّة. أبو الحارث الإسرائيليّ، حليف الأنصار. من خواصّ أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم. أسلم وقت هجرة النبيّ صلى الله عليه وسلم وقدومه المدينة. توفي بالمدينة سنة ثلاث وأربعين. انظر: سير أعلام النبلاء 2/413. 7 القول بأنّ المقصود بهذه الآية عبد الله بن سلام: رواه البخاري في صحيحه 3/1387، كتاب مناقب الأنصار، باب مناقب عبد الله بن سلام رضي الله عنه، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. وعزاه القرطبيّ إلى ابن عباس، والحسن، وعكرمة، وقتادة، ومجاهد. انظر: الجامع لأحكام القرآن 16/124. 8 قال مسروق رحمه الله: واللهِ ما نزلت في عبد الله بن سلام. ما نزلت إلا بمكة، وما أسلم عبد الله إلا بالمدينة، ولكنّها خصومة خاصم محمد صلى الله عليه وسلم بها قومه.... فالتوراة مثل القرآن، وموسى مثل محمد صلى الله عليه وسلم. انظر: تفسير الطبري 27/9.

جنس الشاهد1؛ كما [تقول] 2 قام الدليل. وهو الشاهد الذي يجب تصديقه سواء كان واحداً قد يقترن بخبره ما يدلّ على صدقه، أو كان عدداً يحصل بخبرهم العلم [بما] 3 تقول؛ فإن [خبرك] 4 بهذا صادقٌ. وقوله: {عَلَى مِثْلِهِ} : فإنّ الشاهد من بني إسرائيل على [مثل] 5 القرآن؛ وهو أنّ الله بعث بشراً، وأنزل عليه كتاباً أمر فيه بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهى فيه عن عبادة ما سواه، وأخبر فيه أنّه خلق هذا العالم وحده، وأمثال ذلك. المشركون ليس معهم دليل سمعي ولا عقلي وقد ذَكَرَ في أول هذه السورة6 التوحيد، وبيّن أنّ المشركين ليس معهم على الشرك لا دليل عقليّ، ولا سمعيّ؛ فقال تعالى: { [مَا خَلَقْنَا] 7 السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمَّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ في السَّمَوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَمَنْ أَضَلّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُوْنِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ

_ 1 قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "وهذا الشاهد اسم جنس يعمّ عبد الله بن سلام رضي الله عنه وغيره". انظر: تفسير القرآن العظيم 4/156. 2 في ((خ)) : يقول. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 في ((خ)) : كما. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 في ((خ)) : أخبرك. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 6 سورة الأحقاف. 7 في ((خ)) ، و ((م)) ، و ((ط)) : ما خلق الله. وهو خطأ، والصواب ما أثبت.

اللهِ شَيْئَاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيْضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدَاً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعَاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوْحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} إلى آخره1. ومثل ذلك قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدَاً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتَابِ} 2؛ فمن عنده علم الكتاب3 شهد بما في الكتاب الأول4، وهو يوجب تصديق الرسول لأنه يشهد بالمثل5، ويشهد أيضاً بالعين6. و [كلّ] 7 من الشهادتين كافية، فمتى ثبت الجنس8، عُلم قطعاً أنّ المعيّن منه.

_ 1 سورة الأحقاف، الآيات 3-10. 2 سورة الرعد، الآية 43. 3 قال ابن كثير رحمه الله: (والصحيح في هذا: أنّ {وَمَنْ عِنْدَهُ} : اسم جنس يشمل علماء أهل الكتاب الذين يجدون صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته في كتبهم المتقدمة؛ من بشارات الأنبياء به؛ كما قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ} الآية. وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ} ، وأمثال ذلك مما فيه الإخبار عن علماء بني إسرائيل أنهم يعلمون ذلك من كتبهم المنزلة) . تفسير القرآن العظيم 2/521. 4 وهي الكتب السابقة المتقدمة على القرآن، والتي فيها ذكر رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ كالتوراة والإنجيل. 5 أمثال الأنبياء، وحاجة الأمم إليهم، ولأنّ الله سبحانه وتعالى لا بُدّ أن يُقيم الحجة على عباده، فيُرسل إليهم الرسل يدلّونهم على عبادته وحده. 6 أنّه يخصّ ويُعيّن رسولنا صلى الله عليه وسلم؛ اسمه، وصفاته؛ كما قال عيسى بن مريم عليه السلام: {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ..} . [الصف، الآية 6] . 7 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 8 جنس الأنبياء.

وقال تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ في شَكّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الحَقُّ مِنْ رَبِّك فلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الّذِينَ كذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الخَاسِرِينَ} 1. وهذا سواءٌ كان خطاباً [للرسول] 2 والمراد به غيره، أو خطاباً له وهو لغيره بطريق الأولى. [والتقدير] 3 قد يكون معدوماً أو ممتنعاً4، وهو بحرف (إن) ؛ كقوله: {قُلْ إِنْ كَانَ للرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ العَابِدِيْنَ} 5، و {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} 6؛ والمقصود بيان الحكم على هذا التقدير: إن كنتُ قلتُهُ فأنت عالمٌ به وبما في نفسي، وإن كان له ولدٌ فأنا عابده، وإن كنت شاكّاً فاسأل إن قُدّر إمكان ذلك؛ فسؤال الذين يقرءون الكتاب قبله إذا أخبروا، فما عندهم شاهدٌ له، ودليلٌ، وحجّةٌ. ولهذا نهى بعد ذلك عن الامتراء7 والتكذيب.

_ 1 سورة يونس، الآيتان 94-95. 2 في ((ط)) فقط: للرسل. 3 في ((م)) ، و ((ط)) : المقدر. 4 يرى الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله أنّ المحال لا يعلّق عليه إلا المحال؛ فيقول رحمه الله: "إنّ الشرط إن عُلّق به مستحيل، فلا يُمكن أن يصحّ الربط بينه وبين الجزاء، إلا إذا كان الجزاء مستحيلاً أيضاً؛ لأنّ الشرط المستحيل لا يمكن أن يوجد به إلا الجزاء المستحيل. أما كون الشرط مستحيلاً، والجزاء هو أساس الدين وعماد الأمر، فهذا مما لا يصحّ بحال. ومن ذهب إليه من أهل العلم والدين لا شك في غلطه ... ". أضواء البيان 7/294. 5 سورة الزخرف، الآية 81. 6 سورة المائدة، الآية 116. 7 الامتراء: الشكّ. انظر: لسان العرب 15/278. والقاموس المحيط 766. والمصباح المنير 750.

الآيات التي بتقدير الممتنع بحرف إن كثيرة وأما تقدير الممتنع بحرف (إن) فكثيرٌ، ومن ذلك قوله: {فَإِن اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقَاً في الأَرْضِ أَوْ سُلَّمَاً في السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ} 1، {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} 2، {أَمْ مَنْ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 3، {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُودَاً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 4، {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 5، وقد قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةٌ أَنْ يَعْلَمُهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} 6، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالحَقِّ} 7، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوْتُوا العِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدَاً وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً} 8، وقال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} 9. وهذا كُلّه في السور المكية، والمقصود الجنس. فإذا شهد جنس هؤلاء مع العلم بصدقهم حصل المطلوب.

_ 1 سورة الأنعام، الآية 35. 2 سورة المرسلات، الآية 39. 3 سورة النمل، الآية 64. 4 سورة البقرة، الآية 111. 5 سورة يونس، الآية 38. 6 سورة الشعراء، الآية 197. 7 سورة الأنعام، الآية 114. 8 سورة الإسراء، الآية 107-108. 9 سورة القصص، الآيات 52-54.

شهادة الرسل بنبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم لا يقف العلم على شهادة كل واحد واحد؛ فإنّ هذا متعذّر. ومن أنكر، أو قال: لا أعلم، لم يضر إنكاره. وإن قال: بل أعلم عَدَمَ مَا شهدوا به، عُلم افتراؤه في الجنس، وعُلم في الشخص [إذ] 1 كان لم يحط علماً بجميع نسخ الكتب المتقدمة، وما في النبوّات كلّها، فلا سبيل لأحدٍ من أهل الكتاب أن يعلم انتفاء ذكر محمد في كل نسخة، بكلّ كتابٍ من كتب الأنبياء؛ إذ العلم بذلك متعذّر. ثمّ هذه النسخ الموجودة فيها ذكره في مواضع كثيرة، قد ذكر قطعة منها في غير هذا الموضع2. أعظم شرك المشركين دعوى الشريك لله والولد وما ينبغي أن يعلم أن أعظم ما كان عليه المشركون قبل محمد، وفي مبعثه: هو دعوى الشريك لله، والولد. والقرآن مملوءٌ من تنزيه الله عن هذين، وتنزيهه عن المثل والولد يجمع كلّ التنزيه. فهذا في سورة الإخلاص، وفي سورة الأنعام في مثل قوله: {وَجَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ الجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} 3، وفي سورة [سبحان] 4: {وَقُلِ الحَمْدُ للهِ الّذِي لَمْ يَتّخِذ وَلَدَاً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ في المُلْكِ} 5، وفي سورة الكهف في أولها: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدَاً} 6، وفي آخرها: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتّخِذُوا عِبَادِي

_ 1 في ((خ)) رسمت: "إن". وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 انظر: الجواب الصحيح 5/197-318؛ فقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله كثيراً من الشهادات الدالّة على نبوّة نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل. 3 سورة الأنعام، الآية 100. 4 في ((ط)) فقط: الإسراء. 5 سورة الإسراء، الآية 111. 6 سورة الكهف، الآية 4.

مِنْ دُونِي أَوْلِيَاء ... [وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً] 1} 2، وفي مريم تنزيهه عن الولد في أول السورة3، وآخرها4 ظاهرٌ. وعن الشريك: في مثل قصة إبراهيم5، وفي تنزيل6، وغير ذلك. وفي الأنبياء تنزيهه عن الشريك والولد، وكذلك في المؤمنين: {مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} 7، وأوّل الفرقان: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدَاً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ في المُلْكِ} 8. وأما طه، والشعراء مما بسط فيه قصة موسى. فالمقصود الأعظم بقصة موسى إثبات الصانع9، ورسالته؛ إذ كان فرعون منكراً. ولهذا عظم ذكرها في القرآن، بخلاف قصة غيره؛ فإن فيها الردّ على المشركين المقرّين بالصانع، ومن جعل له ولداً من المشركين، وأهل الكتاب10.

_ 1 ما بين المعقوفتين لا يوجد في ((ط)) فقط، ويُوجد بدلاً منه: {إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً} . 2 سورة الكهف، الآيات 102-110. 3 في قوله جل وعلا: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ} . [مريم، 35] . 4 في نحو قوله جل وعلا: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} . [مريم، 92] . 5 انظر: سورة مريم، الآيات 42-48. 6 قال تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} . [الزمر، 1-2] . 7 سورة المؤمنون، الآية 91. 8 سورة الفرقان، الآية 2. 9 الصانع: ليس من أسماء الله تعالى، وإنّما ذلك من باب الإخبار. وما يدخل في باب الإخبار عنه تعالى أوسع مما يدخل في باب أسمائه وصفاته؛ كالشيء، والموجود، والصانع، والقائم بنفسه، والقديم؛ فإنّه يُخبر به عنه إن احتيج إليه، وإن كان لا يُدعى بمثل هذه الأسماء التي ليس فيها ما يدلّ على المدح. انظر: مجموع الفتاوى 9/300-301. وبدائع الفوائد 1/161. 10 انظر: الجواب الصحيح 6/445.

مذهب الفلاسفة الملحدين ومذهب الفلاسفة الملحدة1 دائرٌ بين التعطيل، وبين الشرك والولادة؛ كما يقولونه في الإيجاب الذاتي2؛ فإنه أحد أنواع الولادة. وهم ينكرون معاد الأبدان. وقد قُرن بين هذا وهذا3 في الكتاب والسنة في مثل قوله: {وَيَقُولُ الإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيَّاً أَوَلا يَذْكُرُ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئَاً} 4، إلى قوله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدَاً} 5. وهذه في سورة مريم

_ 1 قال شيخ الإسلام رحمه الله عن الفلاسفة: "وأما الفلاسفة فإمّا أن يكونوا من المشركين، وإما أن يكونوا من المجوس، وإما أن يكون من الصابئين، وإما أن يكونوا منتسبين إلى أهل الملل الثلاث. فمن كان من المشركين كما يُذكر عن الفلاسفة اليونان ونحوهم، أو من المجوس كفلاسفة الفرس ونحوهم: فاليهود والنصارى خيرٌ منه. ولذلك هم خيرٌ من فلاسفة الصابئين". درء تعارض العقل والنقل 9/207-208. وقال في موضع آخر: "الفلاسفة الملاحدة؛ كابن عربي، وابن سبعين، وابن الفارض، وأمثالهم..". درء تعارض العقل والنقل 3/165. 2 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "لفظ الموجب بالذات لفظ فيه إجمال. فإن عني به ما يعنيه الفلاسفة من أنه علة تامة مستلزمة للعالم، فهذا باطل؛ لأنّ العلة التامة تستلزم معلولها. ولو كان العالم معلولاً لازماً لعلة أزلية، لم يكن فيه حوادث؛ فإنّ الحوادث لا تحدث عن علة تامة أزلية. وهذا خلاف المحسوس. وسواء قيل: إن تلك العلة التامة ذات مجردة عن الصفات؛ كما يقوله نفاة الصفات من المتفلسفة؛ كابن سينا وأمثاله. أو قيل: إنه ذات موصوفة بالصفات، لكنها مستلزمة لمعلولها. فإنه باطلٌ أيضاً. وإن فسّر الموجب بالذات بأنه يوجب بمشيئته وقدرته كلّ واحد واحد من المخلوقات في الوقت الذي أحدثه فيه. فهذا دين المسلمين وغيرهم من أهل الملل، ومذهب أهل السنة. فإذا قالوا: إنه بمشيئته وقدرته يوجب أفعال العباد وغيرها من الحوادث، فهو موافق لهذا المعنى لا المعنى الذي قالته الدهرية". منهاج السنة النبوية 3/274-275. 3 بين إنكار البعث، ووصف الله بأنّ له ولداً - تعالى عن ذلك علواً كبيراً -. 4 سورة مريم، الآيتان 66-67. 5 سورة مريم، الآية 88.

المتضمنة خطاب النصارى، ومشركي العرب؛ لأن الفلاسفة داخلون فيهم؛ فإنّ اليونان اختلطوا بالروم، فكان فيها خطاب هؤلاء وهؤلاء. وفي الصحيحين: عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تعالى: "شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، وكذّبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك. فأمّا شتمه إياي: فقوله: إني اتّخذت ولداً. وأنا الأحد، الصمد، لم ألد، ولم أولد، ولم يكن لي كفواً أحد. وأما تكذيبه إياي: فقوله: لن يعيدني كما بدأني. وليس أول الخلق بأهون عليّ من إعادته" رواه البخاري عن ابن عباس1. ولمّا كان الشركُ أكثرُ في بني آدم من القول بأنّ له ولداً، كان تنزيهه عنه أكثر. وكلاهما يقتضي إثبات: (مِثْلٍ) ، و (نِدّ) من بعض الوجوه؛ فإنّ الولد من جنس الوالد، ونظير له، وكلاهما يستلزم الحاجة والفقر، فيمتنع وجود قادر بنفسه. فالذي جعل شريكاً، لو فُرض مكافئاً، لزم افتقار كلّ منهما. وهو ممتنع. وإن كان غير مكافئ، فهو مقهورٌ. الولد يتخذه المتخذ للحاجة والولد يتخذه المتّخذ لحاجته إلى معاونته له؛ كما يُتَّخَذ المال؛ فإنّ الولد إذا اشتدّ أعان والده. قال تعالى: {قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدَاً سُبْحَانَهُ هُوَ الغَنِيّ لَهُ مَا في السَّمَوَاتِ وَمَا في الأَرْضِ} 2، وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدَاً لَقَدْ

_ 1 أخرجه البخاري 4/1903، كتاب التفسير، باب تفسير {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} سورة الإخلاص. وأخرجه الإمام أحمد في المسند 2/350-351، 394-397، عن أبي هريرة. 2 سورة يونس، الآية 68.

جِئْتُمْ شَيْئَاً إِدَّاً} 1، إلى قوله: {إِنْ كُلُّ مَنْ في السَّمَوَاتِ والأَرْضِ إِلاَّ آتِ الرَّحْمَنِ عَبْدَاً} 2، وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدَاً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا في السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلّ لَهُ قَانِتُونَ} 3. فإنّ كون المخلوق مملوكاً لخالقه، وهو مفتقر إليه من كل وجه، والخالق غنيّ عنه يُناقض اتّخاذ الولد؛ [لأنه] 4 إنما يكون لحاجته إليه في حياته، أو ليخلفه بعد موته. والربّ غنيّ عن كلّ ما سواه، وكلّ ما سواه فقيرٌ إليه، وهو الحي الذي لا يموت. والوالد في نفسه [مفتقر] 5 إلى ولد مخلوق، لا حيلة له فيه، بخلاف من يشتري المملوك فإنه باختياره مَلَكَهُ، ويمكنه إزالة ملكه؛ فتعلقه به من جنس تعلقه بالأجانب. والولادة بغير اختيار الوالد. والربّ يمتنع أن يحدث شيء بغير اختياره. واتّخاذ الولد هو عِوَض عن الولادة لمن لم يحصل له، فهو أنقص في الولادة. ولهذا من قال بالإيجاب الذاتي بغير مشيئته وقدرته، فقوله من جنس قول القائلين بالولادة الحاصلة بغير الاختيار، بل قولهم شرّ من قول النصارى ومشركي العرب من بعض الوجوه؛ كما قد بسط الكلام على هذا

_ 1 سورة مريم، الآيتان 88-89. 2 سورة مريم، الآية 93. 3 سورة البقرة، الآية 116. 4 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 5 في ((خ)) : افتقار. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

في تفسير {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 1، وغيره2. جنس النبوة معروف عند الناس والمقصود: أنّ الله قال لمحمّد: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعَاً مِنَ الرُّسُل} 3، وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُل} 4؛ فبيَّن أنّ هذا الجنس من الناس معروفٌ، قد تقدم له نظراء، وأمثال؛ فهو معتادٌ في الآدميين، وإن كان قليلاً [في الآدميّين] 5. آيات الأنبياء مختصة بهم وكرامات أتباعهم آيات لهم وأمّا من جاءهم رسولٌ [لا] 6 يعرفون قبله رسولاً؛ كقوم نوح، فهذا بمنزلة ما يبتديه الله من الأمور، وحينئذٍ فهو يأتي بما يختص به، ممّا يعرفون أن الله صدّقه في إرساله. فهذا يدلّ على النوع والشخص، وإن كانت آيات غيره تدلّ على الشخص؛ إذ النوع قد عرف قبل هذا. [والمقصود] 7 أن آيته وبرهانه لا بُدّ أن يكون مختصاً بهذا النوع، لا يجب أن يختصّ بواحدٍ من النوع، ولا يجوز أن يوجد لغير النوع.

_ 1 وهو كتاب تفسير سورة الإخلاص لشيخ الإسلام. ولشيخ الإسلام رحمه الله تعالى كتاب آخر في تفسير السورة، اسمه: جواب أهل العلم والإيمان بتحقيق ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من أن {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تعدل ثلث القرآن. حققه الشيخ سليمان الغفيص، في مرحلة الماجستير في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض. 2 انظر: مجموع الفتاوى 17/291. 3 سورة الأحقاف، الآية 9. 4 سورة آل عمران، الآية 144. 5 في ((م)) ، و ((ط)) : فيهم. 6 في ((م)) ، و ((ط)) : ما. 7 في ((م)) ، و ((ط)) : والمقصود.

وقد قلنا1 أنّ ما يأتي به أتباع الأنبياء من ذلك هو مختص بالنوع، [فإنا نقول] 2 هذا لا يكون إلا لمن اتبع الأنبياء فصار مختصاً بهم. وأما ما يوجد لغير الأنبياء وأتباعهم، فهذا هو الذي لا يدلّ على النبوة؛ [كخوارق] 3 السحرة، والكهان. من طعن بالأنبياء وصفهم بالسحر والجنون والشعر وقد عرف الناس أنّ السحرة لهم خوارق، ولهذا كانوا إذا طعنوا في نبوّة النبيّ واعتقدوا علمه، قالوا هو ساحر؛ كما قال فرعون لموسى: {إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} 4، وقال للسحرة لما آمنوا: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِيعَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} 5، و {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ في المَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا} 6؛ [و] 7 كلّ هذا من كذب فرعون، وكانوا يقولون: {يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} 8. وكذلك المسيح؛ قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقَاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرَاً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ [بَعْدِي] 9 اسْمُهُ أَحْمَد فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} 10.

_ 1 انظر: ص 161، 162، 179، 187. 2 في ((خ)) : فإنّه يقول. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 في ((خ)) : لخوارق. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 سورة الشعراء، الآيتان 34-35. 5 سورة طه، الآية 71. 6 سورة الأعراف، الآية 123. 7 ما بين المعقوفتين ليس في ((م)) ، و ((ط)) . 8 سورة الزخرف، الآية 49. 9 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) . 10 سورة الصف، الآية 6.

وقال تعالى عن كُفّار العرب: {وَ [إِنْ] 1 يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرّ} 2. وإن نسبوه إلى عدم العلم، قالوا: مجنونٌ؛ كما قالوا عن نوح: {مَجْنُونٌ وَازْدُجِر} 3، وقالوا عن موسى: {قال إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إلَيْكُمْ لَمَجْنُون} 4، وقال عن مشركي العرب: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِيْنَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُون} 5. وقد قال تعالى: { [كَذَلِكَ] 6 مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُون أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُون} 7. فالسحر أمرٌ معتادٌ في بني آدم، كما أنّ النبوّة معتادةٌ فيهم. كما أنّ العقلاء معتادون في بني آدم، والمجانين معتادون فيهم. فإذا قالوا عن الشخص: إنّه مجنون؛ فإنّه يُعلم هل هو من العقلاء أو من المجانين بنفس ما يقوله ويفعله. وكذلك يُعرف هل هو من جنس الأنبياء، أو من جنس السحرة. وكذلك لما قالوا عن محمّد: إنّه شاعرٌ8؛ فإنّ الشعراء جنسٌ

_ 1 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 2 سورة القمر، الآية 2. 3 سورة القمر، الآية 9. 4 سورة الشعراء، الآية 27. 5 سورة القلم، الآية 51. 6 ما بين المعقوفتين ليس في ((م)) ، و ((ط)) . 7 سورة الذاريات، الآيتان 52-53. 8 ذكر الله سبحانه وتعالى أنّ كفّار مكة قالوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} . [الأنبياء 51] . وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} . [يس 69] . قال ابن كثير رحمه الله عند تفسير هذه الآية: "أي ما هو في طبعه؛ فلا يُحسنه، ولا يُحبّه، ولا تقتضيه جبلته. ولهذا ورد أنّه صلى الله عليه وسلم كان لا يحفظ بيتاً على وزن منتظم، بل إن أنشده زحفه، أو لم يتمّه"، ثمّ ذكر رحمه الله أمثلة على ذلك. انظر: تفسير ابن كثير 3/578.

معروفون في الناس، وقالوا: إنه كاهن1. شبهة من قال: القرآن شعر وشبهة الشعر أنّ القرآن كلام موزون2، والشعر موزون. وشبهة الكهانة أنّ الكاهن يُخبر ببعض الأمور الغائبة؛ فَذَكَرَ الله تعالى الفرق بين هذين، وبين النبيّ، فقال: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِين تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُون} 3، ثمّ قال: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ في كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا

_ 1 قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: خرجتُ أتعرّض لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن أُسلم، فوجدتُه قد سبقني إلى المسجد، فقمتُ خلفه، فاستفتح سورة الحاقة، فجعلتُ أعجب من تأليف القرآن. قال: فقلت: هذا والله شاعر كما قالت قريش. قال: فقرأ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ} . قال: فقلت: كاهن. قال: فقرأ: {وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ ... } . [الحاقة 40-42] أخرجه الإمام أحمد في مسنده. انظر: الفتح الرباني 20/232. 2 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وما يُوجد في القرآن من مثل قوله: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف 104] ، و {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ} [العاديات 11] ، ونحو ذلك، فلم يتكلّف لأجل التجانس، بل هذا غير مقصود بالقصد الأول؛ كما يوجد في القرآن من أوزان الشعر، ولم يقصد به الشعر؛ كقوله تعالى: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ 13] ، وقوله: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحجر 49] ، {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ. الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} [الشرح 2-3] ، ونحو ذلك) . منهاج السنة النبوية 3/53-54. وانظر: الجواب الصحيح 5/433. 3 سورة الشعراء، الآيات 221-223.

يَفْعَلُونَ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيرَاً} 1، {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} 2، وقال تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ لا بِقَولِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ العَالَمِينَ} 3. ولهذا لما عرض الكُفّار على كبيرهم [الوحيد] 4 أن يقولوا للناس: هو شاعرٌ، ومجنونٌ، وساحرٌ، وكاهنٌ، صار يُبيّن لهم أنّ هذه أقوال فاسدة، وأنّ الفرق معروفٌ بينه، وبين هذه الأجناس. فالمقصود أن هذه الأجناس كلّها موجودة في الناس، معتادة، معروفة. وكلّ واحد منها يُعرف بخواصه المستلزمة له، وتلك الخواص آيات له، مستلزمة له. فكذلك النبوّة لها خواصّ مستلزمة لها، تُعرف بها،

_ 1 سورة الشعراء، الآيات 224-227. 2 سورة يس، الآية 69. 3 سورة الحاقة، الآيات 41-43. 4 في ((خ)) : التوحيد. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . والمقصود به كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الوليد بن المغيرة، الذي كان من أعظم الناس كفراً، وهو الوحيد المذكور في قوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} [المدثر، 11] . انظر: منهاج السنة النبوية 1/41. ودرء تعارض العقل والنقل 5/162. ومن خبره: "أنه سمع الرسول صلى الله عليه وسلم يُصلّي ويقترئ، فأعجبه القرآن، ووصفه بأنه ليس بشعر، ولا بسحر، ولا بهذي من الجنون، وأنّ له لحلاوة، وأنّ عليه لطلاوة، وأنه ليعلو وما يعلى عليه. وقال لهم أيضاً: سمعت قولاً حلواً أخضر مثمراً يأخذ بالقلوب، فقالوا: هو شعر؟ فقال: لا والله ما هو بالشعر، ليس أحد أعلم بالشعر مني، أليس قد عرضَتْ عليّ الشعراء شعرهم؛ نابغة، وفلان، وفلان؟. قالوا: فهو كاهن؟ فقال: لا والله ما هو بكاهن، قد عُرِضت عليّ الكهانة. قالوا: فهذا سحر الأولين اكتتبه؟ قال: لا أدري إن كان شيئاً فعسى هو إذاً سحر يؤثر". انظر: الخبر برواياته في تفسير الطبري 29/156-157، وفي تفسير ابن كثير 4/443.

وتلك الخواص خارقة لعادة غير الأنبياء، وإن كانت معتادة للأنبياء، فهي لا توجد لغيرهم. فهذا هذا1. والله أعلم. مدعي النبوة يستعين بالشياطين فإذا أتى مدّعي النبوّة بالأمر الخارق للعادة الذي لا يكون إلا لنبيّ، لا يحصل مثله لساحرٍ، ولا كاهنٍ، ولا غيرهما، كان دليلاً على نبوّته. وكلّ من الساحر، والكاهن يستعين بالشياطين؛ فإنّ الكهّان [تنزل] 2 عليهم الشياطين تخبرهم؛ والسحرة تعلّمهم الشياطين؛ قال تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى [يَقُولا] 3 إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} 4. والساحر لا يتجاوز سحره الأمور المقدورة للشياطين؛ كما تقدّم بيانه5. الساحر ومقدرته ومقصده والساحر كما قال تعالى: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} 6،وقال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ في الآخِرَةِ مِنْ خَلاق} 7؛ فهم يعلمون أنّ السحر لا ينفع في الآخرة، ولا يُقرّب إلى الله، وأنّ من اشتراه ما له في الآخرة من خلاق؛ فإنّ مبناه على الشرك، والكذب، والظلم، مقصود صاحبه الظلم، والفواحش.

_ 1 كما أنّ جنس الشعر، والسحر، والكهانة لها خواصّ معتادة، مستلزمة لها، تُعرف بها. فكذلك النبوّة من هذا الباب. 2 في ((خ)) : ينزل. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 في ((خ)) : يقول. 4 سورة البقرة، الآية 102. 5 تقدّم بيان ذلك ص 192. 6 سورة طه، الآية 69. 7 سورة البقرة، الآية 102.

الفرق بين النبي والساحر وهذا مما يُعلم بصريح العقل أنّه من السيئات؛ فالنبيّ لا يأمر به، [ولا يعمله] 1، [وإنّما] 2 يستعين على ذلك [صاحبه] 3 بالشرك والكذب. وقد عُلِم بصريح العقل، مع ما تواتر عن الأنبياء أنّهم حرّموا الشِّرك. فمتى كان الرجل يأمر بالشرك، وعبادة غير الله، أو يستعين على مطالبه بهذا، وبالكذب، والفواحش، والظلم، عُلِم قطعاً أنّه من جنس السحرة، لا من جنس الأنبياء. وخوارق هذا يمكن معارضتها وإبطالها من بني جنسه، وغير بني جنسه. وخوارق الأنبياء لا يمكن غيرهم أن يعارضها، ولا يمكن أحداً إبطالها، لا من جنسهم، ولا من غير جنسهم؛ فإنّ الأنبياء [يصدق] 4 بعضهم بعضاً، فلا يُتصوّر أنّ نبياً يُبطل معجزة آخر. وإن أتى بنظيرها، فهو يصدقه. ومعجزة كلّ منهما آية له، وللآخر5 أيضا؛ كما أن معجزات أتباعهم6 آيات لهم، بخلاف خوارق السحرة؛ فإنّها إنّما تدلّ على أنّ صاحبَها ساحرٌ يؤثّر آثاراً غريبةً ممّا هو فسادٌ في العالم، ويُسَرّ بما يفعله من الشرك، والكذب، والظلم، ويستعين على ذلك بالشياطين، فمقصوده الظلم، والفساد، والنبيّ مقصوده العدل، والصلاح. وهذا يستعين بالشياطين، وهذا بالملائكة. وهذا يأمر بالتوحيد لله، وعبادته وحده لا شريك له، وهذا

_ 1 ما بين المعقوفتين من ((م)) ، و ((ط)) . 2 ما بين المعقوفتين لا يوجد في ((م)) ، و ((ط)) . 3 ما بين المعقوفتين من ((م)) ، و ((ط)) . 4 في ((خ)) : تصدق. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 للنبيّ الذي يأتي بعده. 6 المقصود كرامات أتباعهم.

إنّما يستعين بالشرك، وعبادة غير الله. وهذا يُعظِّم إبليسَ وجنودَه، وهذا يذمّ إبليسَ وجنودَه. الإقرار بوجود الملائكة والجن عام وقد أنكرهما الفلاسفة والإقرار بالملائكة، والجنّ عامّ في بني آدم، لم ينكر ذلك إلا شواذّ من بعض الأمم1، ولهذا قالت الأمم المكذّبة: {ولَوْ شَاءَ اللهُ لأَنْزَلَ مَلائِكَةً} 2؛ حتى قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم فرعون. قال قوم نوح: {مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لأَنْزَلَ مَلائِكَةً} 3، وقال: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} 4. وفرعون وإن كان مظهراً لجحد الصانع؛ [فإنه ما] 5 قال: {فلوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ [أَسْوِرَة] 6 مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ المَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} 7 إلاَّ وقد سمع بذكر الملائكة؛ إمّا معترفاً بهم، وإمّا مُنكراً لهم.

_ 1 أنكرت الفلاسفة وجودَ الملائكة والجنّ، وعبّروا عنهما بالقوّة التخييليّة. انظر: الرد على المنطقيين ص 106. ودرء تعارض العقل والنقل 10/205. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ملاحدة الفلاسفة يجعلون الملائكة قوى النفس الصالحة، والشياطين قوى النفس الخبيثة، ونحو ذلك من المقالات الخبيثة التي يقولها القرامطة الباطنية، ومن سلك سبيلهم من ضلاّل المتكلمين والمتعبّدة". مجموع الفتاوى 4/346. وانظر: المرجع نفس 4/259. وشرح الطحاوية ص 402-403. 2 سورة المؤمنون، الآية 24. 3 سورة المؤمنون، الآية 24. 4 سورة فصلت، الآيتان 13-14. 5 في ((خ)) كُتبت: فإنّما. ثمّ صُحّحت في الهامش بقوله: صوابه: فإنّه ما. 6 في ((خ)) ، و ((م)) ، و ((ط)) : أساور. 7 سورة الزخرف، الآية 53.

فذكر الملائكة، والجنّ عامّ في الأمم. وليس في الأمم أمّة تُنكر ذلك إنكاراً عاماً، وإنّما يُوجد إنكار ذلك في بعضهم؛ مثل من قد [يتفلسف] 1، فينكرهم لعدم العلم لا للعلم بالعدم. فلا بُدّ في آيات الأنبياء من أن تكون مع كونها خارقةً للعادة أمراً غيرَ معتاد لغير الأنبياء، بحيث لا يقدر عليه إلا الله الذي أرسل الأنبياء، ليس مما يقدر عليه غير الأنبياء، لا بحيلة، ولا عزيمة، ولا استعانة بشياطين، ولا غير ذلك. من خصائص معجزات الأنبياء ومن خصائص معجزات الأنبياء: أنّه لا يُمكن معارضتها. فإذا عجز النوع البشري غير الأنبياء عن معارضتها، كان ذلك أعظم دليل على اختصاصها بالأنبياء، بخلاف ما كان موجوداً لغيرها. فهذا لا يكون آيةً البتة. الفلاسفة لا يعرفون النبوة فأصل هذا أن يعرف وجود الأنبياء في العالم، وخصائصهم؛ كما يعلم وجود السحرة، وخصائصهم. ولهذا من لم يكن عارفاً بالأنبياء من فلاسفة اليونان، والهند، وغيرهم، لم يكن له فيهم كلام يُعرف، كما لم يُعرف لأرسطو2، وأتباعه فيهم كلام يُعرف، بل غاية من أراد أن يتكلم في ذلك؛

_ 1 في ((خ)) : يفلسف. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 هو أرسطوطاليس بن نيقو ماخس الفيثاغوري. تتلمذ على أفلاطون، ثم صار بعده أستاذاً. انتهت إليه فلسفة اليونان، فكان هو خاتمهم. وكان مشركاً يعبد الأصنام. وهو الذي جعل المنطق آلة العلوم النظرية. وكان معلماً للإسكندر. وقد عني فلاسفة المسلمين بفلسفة أرسطو، وسمّوه معلمهم الأول. وله كتاب الحيوان. ولد في اليونان سنة384 ق. م راجع: تاريخ الحكماء ص 27-53. وفهرست ابن النديم ص 359. وإغاثة اللهفان من مصايد الشيطان لابن القيم 2/259. والفرق بين الفرق ص 307-308.

كالفارابي1، وغيره أن يجعلوا ذلك من جنس المنامات المعتادة. ولمّا أراد طائفة؛ كأبي حامد2، وغيره أن يقرّروا إمكان النبوة على أصلهم، احتجوا بأنّ مبدأ الطبّ، ومبدأ النجوم، ونحو ذلك، كان من الأنبياء؛ لكون المعارف المعتادة لا تنهض بذلك. وهذا إنّما يدلّ على اختصاص من أتى بذلك بنوعٍ من العلم. وهذا لا يُنكره عاقل. وعلى هذا بنى ابن سينا أمر النبوة؛ أنها من قوى النفس، وقوى النفوس متفاوتة3.

_ 1 هو أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان التركي الحكيم. صاحب التصانيف في المنطق والموسيقى وغيرهما. وهو أكبر فلاسفة المسلمين. وقد أتقن اللغة العربية. وكان مولده سنة 259?، ووفاته سنة 299?. انظر: وفيات الأعيان 5/153. وفهرست ابن النديم ص 368. والبداية والنهاية 11/324. وقال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والفلسفة التي ذهب إليها الفارابي، وابن سينا إنما هي فلسفة المشائين أتباع أرسطو صاحب التعاليم". درء تعارض العقل والنقل1/157. 2 هو الغزالي. وقد مرّ التعريف به. 3 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وهذا القدر، فعله ابن سينا وأمثاله ممن رام الجمع بين ما جاءت به الأنبياء وبين فلسفة المشائين؛ أرسطو وأمثاله. ولهذا تكلموا في الآيات، وخوارق العادات، وجعلوا لها ثلاثة أسباب: القوى الفلكية، والقوى النفسانية، والطبيعية؛ إذ كانت هذه هي المؤثرات في العالم عندهم. وجعلوا ما للأنبياء وغير الأنبياء من المعجزات والكرامات، وما للسحرة من العجائب هو من قوى النفس. ولكن الفرق بينهما أن ذلك قصده الخير، وهذا قصده الشرّ. وهذا المذهب من أفسد مذاهب العقلاء ... فإنه مبنيّ على إنكار الملائكة وإنكار الجنّ، وعلى أنّ الله لا يعلم الجزئيات، ولا يخلق بمشيئته وقدرته، ولا يقدر على تغيير العالم". الجواب الصحيح6/24. وانظر: درء تعارض العقل والنقل 5/70.

وكلّ هذا كلام من لا يعرف النبوة، بل هو أجنبيّ عنها، وهو أنقص ممن أراد أن يُقرّر أنّ في الدنيا فقهاء، وأطباء، وهو لم يعرف غير الشعراء؛ فاستدلّ بوجود الشعراء، على وجود الفقهاء، والأطباء. بل هذا المثال أقرب؛ فإنّ بُعد النبوّة عن غير الأنبياء أعظم من بُعد الفقيه، والطبيب عن الشاعر، ولكنّ هؤلاء من أجهل الناس بالنبوّة، ورأوا ذكر الأنبياء قد شاع، فأرادوا تخريج ذلك على أصول قومٍ لم يعرفوا الأنبياء. فإن قيل: موسى، وغيره كانوا موجودين قبل أرسطو؛ فإنّ أرسطو كان قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة1. وأيضاً فقد قال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا في كُلّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوت فَمِنْهُم مَنْ هَدَى الله وَمِنْهُم مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَة فَسِيرُوا في الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ} 2، وقال: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالحَقِّ بَشِيرَاً وَنَذِيرَاً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِير} 3؛ فهذا يُبيِّن أنّ كُلّ أمّة قد جاءها رسولٌ، فكيف لم يعرف هؤلاء الرسل؟. جوابان عن عدم معرفة الفلاسفة الأنبياء قلت: عن هذا جوابان: أحدهما: أنّ كثيراً من هؤلاء لم يعرفوا الرسل؛ كما قال: {وَمِنْهُم

_ 1 قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وكان أرسطو قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة، وهو وزير الاسكندر بن فيلبس المقدوني التي تؤرخ له التاريخ الرومي من اليهود والنصارى. وهذا كان مشركاً يعبد هو وقومه الأصنام، ولم يكن يسمى ذا القرنين". الجواب الصحيح1/345. وانظر: درء تعارض العقل والنقل 5/68. ومنهاج السنة النبوية 1/409. 2 سورة النحل، الآية 36. 3 سورة فاطر، الآية 24.

مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَة فَسِيرُوا في الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ} 1، فلم تبق أخبار الرسول وأقواله معروفة عندهم. الثاني: أنّه قال تعالى: {تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُم فَهُوَ وَلِيّهُمُ اليَوْمَ} 2، فإذا كان الشيطان قد زيّن لهم أعمالهم، كان في هؤلاء من درست أخبار الأنبياء عندهم، فلم يعرفوها. وأرسطو لم يأت إلى أرض الشام، ويُقال: إنّ الذين كانوا قبله كانوا يعرفون الأنبياء، لكن المعرفة المجملة لا تنفع؛ كمعرفة قريش؛ كانوا قد سمعوا بموسى، وعيسى، وإبراهيم سماعاً من غير معرفة بأحوالهم. وأيضا: فهم وأمثالهم المشاؤون3 أدركوا الإسلام وهم من أكفر الناس بما جاءت [به] 4 الرسل. أما أنهم لا يطلبون معرفة أخبارهم، وما سمعوه: حرّفوه، أو حملوه على أصولهم. وكثيرٌ من المتفلسفة هم من هؤلاء. فإذا كان هذا حال هؤلاء في ديار الإسلام، فما الظن بمن كان ببلادٍ5 لا [يُعرف] 6 فيها شريعة نبي، بل طريق معرفة الأنبياء كطريق معرفة نوعٍ من الآدميين خصّهم [الله] 7 بخصائص، يعرف ذلك من أخبارهم، واستقراء أحوالهم؛ كما يعرف الأطباء، والفقهاء.

_ 1 سورة النحل، الآية 36. 2 سورة النحل، الآية 63. 3 المشاؤون هم أتباع أرسطو. وسمّوا مشائين لأنهم كانوا يمشون ويلقون دروسهم وهم سائرون في الطريق. انظر: إخبار العلماء بأخبار الحكماء للقفطي ص 14. 4 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 5 في ((ط)) فقط: في بلاد. 6 في ((م)) ، و ((ط)) : تعرف. 7 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهي في ((م)) ، و ((ط)) .

جنس النبوة يثبت بأحوال الأنبياء السابقين ولهذا إنّما يقرّر الربّ تعالى في القرآن أمر النبوّة وإثبات جنسها بما وقع في العالم؛ من قصة نوح وقومه، وهود وقومه، وصالح وقومه، وشعيب، ولوط، وإبراهيم، وموسى، وغيرهم؛ [فيذكر] 1 وجود هؤلاء، وأنّ قوماً صدّقوهم، وقوماً كذّبوهم. ويُبيِّن حال من صدّقهم، وحال من كذّبهم؛ فيُعلم بالاضطرار حينئذٍ ثبوت هؤلاء2، [ويتبيّن] 3 وجود آثارهم في الأرض. فمن لم يكن رأى في بلده آثارهم، فليسر في الأرض، ولينظر آثارهم، وليسمع أخبارهم المتواترة. يقول الله تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَومُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِير فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيد أَفَلَمْ يَسِيرُوا في الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي في الصُّدُورِ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمَاً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ المَصِير} 4. ولهذا قال مؤمن آل فرعون5 لمّا أراد إنذار قومه: {يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ

_ 1 في ((خ)) : فتذكر. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 انظر: الجواب الصحيح 5/141-142، 6/345-350. وشرح الطحاوية ص151. 3 في ((خ)) : وتبيين. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 سورة الحج، الآيات 42-48. 5 ذكر الطبري رحمه الله اختلاف أهل العلم في هذا الرجل المؤمن؛ فقال بعضهم: كان الرجل إسرائيلياً، ولكنه كان يكتم إيمانه من آل فرعون. وقال آخرون - وهو الصواب: إنه من آل فرعون، قد أصغى لكلامه، واستمع منه ما قاله، وتوقف عن قتل موسى عند نهيه عن قتله. انظر: جامع البيان 24/59-60.

عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمَاً لِلْعِبَاد} 1. ولهذا لما سمع ورقة بن نوفل2، والنجاشيّ3، وغيرهما القرآنَ، قال ورقة بن نوفل: هذا هو النَّاموس4 الذي كان يأتي موسى5. وقال

_ 1 سورة غافر، الآيتان 30-31. 2 هو ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي الأسديّ، ابن عم خديجة بنت خويلد زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم. كان قد كره عبادة الأوثان، وطلب الدين في الآفاق، وقرأ الكتب، وكانت خديجة رضي الله عنها تسأله عن أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيقول: ما أراه إلا نبيّ هذه الأمة الذي بشّر به موسى وعيسى. انظر: الإصابة لابن حجر 3/633-635. 3 النجاشيّ لقبٌ لكلّ من ملك الحبشة؛ مثل لقب قيصر لمن ملك الروم، وكسرى لمن ملك فارس. والمراد بالنجاشيّ هنا: أصحمة. أسلم في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأحسن إلى المسلمين الذين هاجروا إلى أرضه. وأخباره معهم ومع كفار قريش الذين طلبوا منه أن يُسلّم إليهم المسلمين مشهورة. توفي في بلده قبل فتح مكة، وصلى عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم صلاة الغائب بالمدينة، وكبّر عليه أربعاً. انظر: الإصابة لابن حجر 1/17. 4 الناموس: صاحب السرّ؛ كما جزم به البخاري في أحاديث الأنبياء. وزعم ابن ظفر أنّ الناموس: صاحب سرّ الخير، والجاسوس: صاحب سر الشرّ. والأول الصحيح الذي عليه الجمهور. وقد سوّى بينهما رؤبة بن العجاج أحد فصحاء العرب. والمراد بالناموس هنا: جبريل عليه السلام. وقوله: "على موسى"، ولم يقل على عيسى، مع كونه نصرانياً؛ لأنّ كتاب موسى عليه السلام مشتمل على أكثر الأحكام، بخلاف عيسى عليه السلام. وكذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم. على أنّه قد ورد بإسنادين؛ أحدهما حسن، والآخر ضعيف: ناموس عيسى. فعلى هذا: كان ورقة يقول تارةً: ناموس عيسى، وتارةً: ناموس موسى. انظر: فتح الباري 1/35. 5 رواه الإمام البخاري في صحيحه 1/5، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. والإمام مسلم في صحيحه 1/139، 145، 160-161. وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "والقرآن أصلٌ كالتوراة، وإن كان أعظم منها. ولهذا علماء النصارى يقرنون بين موسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، كما قال النجاشي ملك النصارى لما سمع القرآن: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة. وكذلك ورقة بن نوفل، وهو من أحبار نصارى العرب لما سمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم قال له: إنه يأتيك الناموس الذي يأتي موسى ... ولهذا يقرن سبحانه بين التوراة والقرآن ... ". الجواب الصحيح 1/116-118.

النجاشي: إنّ هذا والذي جاء به موسى [ليخرج] 1 من مشكاة واحدة2. فكان عندهم علمٌ بما جاء به موسى؛ اعتبروا به، ولولا ذلك لم يعلموا هذا. وكذلك الجنّ لمّا سمعت القرآن، ولّوا إلى قومهم منذرين، {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابَاً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقَاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيم} 3. ولما أراد سبحانه تقرير جنس ما جاء به محمد، قال: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدَاً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاًفَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذَاً وَبِيلاً} 4، وقال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدَى لِلنَّاسِ [تَجْعَلُونَهُ] 5 قَرَاطِيسَ [تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ] 6 كَثِيرَاً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ في

_ 1 في ((خ)) : لتخرج. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 رواه الإمام أحمد في المسند 1/201-203،، 5/290-292. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/24-27) : ورجال أحمد رجال الصحيح، غير ابن إسحاق، وقد صرّح بالسماع. 3 هذا نصّ الآية الثلاثين من سورة الأحقاف. 4 سورة المزمل، الآيتان 15-16. 5 في ((خ)) : يجعلونه. 6 في ((خ)) : يُبدونها ويُخفون.

خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ القُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} 1. فهو سبحانه يُثبت وجود جنس الأنبياء ابتداءً؛ كما في السور المكية2 حتى يثبت وجود هذا الجنس، وسعادة من اتبعه، وشقاء من خالفه. من أقر بجنس الأنبياء يلزمه الإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ثم [نبوة] 3 عين هذا النبيّ4 تكون ظاهرة؛ لأنّ الذي جاء به أكمل مما جاء به جميع الأنبياء. فمن أقرّ بجنس الأنبياء، كان إقراره بنبوة محمّد في غاية الظهور، أبين مما أقرّ أنّ في الدنيا نحاة، وأطباء، وفقهاء. فإذا رأى نحو سيبويه، وطب [أبقراط] 5، وفقه الأئمة الأربعة، ونحوهم، كان إقراره بذلك من أبين الأمور. ولهذا كان من نازع من أهل الكتاب في نبوة محمد إما أن يكون لجهله بما جاء به، وهو الغالب على عامتهم، أو لعناده وهو حال طلاب الرياسة بالدين منهم. والعرب عرفوا ما جاء به محمد. فلمّا أقرّوا بجنس الأنبياء، لم يبق عندهم في محمّد شكّ.

_ 1 سورة الأنعام، الآيتان 91-92. 2 قيل في تعريف المكي والمدني عدة تعريفات، أشهرها: أنّ المكي: ما نزل قبل الهجرة، والمدني: ما نزل بعد الهجرة، وإن كان بمكة. وقد رجح الزركشي أنّ المكي خطاب، المقصود به - أو جلّ المقصود به - أهل مكة.... كذلك بالنسبة إلى أهل المدينة. والتعريف الأول أظهر. انظر: البرهان في علوم القرآن 1/187-191. 3 كتب في ((خ)) : ثبوت. وفي الحاشية: لعله نبوة. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 المقصود به الإقرار بنبوة نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم. 5 في ((خ)) : بقراط. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

وجميع ما يذكره الله تعالى في القرآن من قصص الأنبياء، يدلّ على نبوّة محمّد بطريق الأولى؛ إذ كانوا من جنس واحد، ونبوّته أكمل. فينبغي معرفة هذا، فإنّه أصل عظيم1. ولهذا جميع مشركي العرب آمنوا به، فلم يحتج أحد منهم أن تؤخذ منه جزية. فإنّهم لما عرفوا نبوته، وأنّه لا بُدّ من متابعته، أو متابعة اليهود والنصارى، عرفوا أنّ متابعته أولى. ومن كان من أهل الكتاب: بعضهم آمن به، وبعضهم لم يؤمن جهلاً، وعناداً. وهؤلاء كان عندهم كتاب ظنوا استغناءهم به، فلم يستقرئوا أخبار محمد، وما جاء به خالين من [الهوى] 2، بخلاف من لم يكن له كتاب3؛ فإنّه نظر في الأمرين نَظَرَ خالٍ من الهوى، فعرف فضل ما جاء به محمد على ما جاء به غيره. ولهذا لا تكاد [توجد] 4 أمة لا كتاب لها يُعرض عليها دين المسلمين، واليهود، والنصارى، إلاَّ رجّحت دين الإسلام؛ كما يجري لأنواع الأمم التي لا كتاب لها.

_ 1 فمن أقرّ بجنس الأنبياء يلزمه أن يُقرّ بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنها في غاية الظهور والبيان. وهذا الأصل من الطرق التي بها تعرف نبوته صلى الله عليه وسلم. وانظر: الجواب الصحيح 5/141-142، 6/345-350. وشرح الطحاوية ص151. 2 في ((خ)) : هوى. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 مثل المجوس، والصابئة. انظر: الملل والنحل 1/230، 2/5. 4 في ((خ)) : يوجد. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

فأهل الكتاب مقرون بالجنس، منازعون في العين1. والمتفلسفة من اليونان والهند منازعون في وجود كمال الجنس، وإن أقرّوا ببعض صفات الأنبياء، فإنّما أقرّوا منها بما لا يختص بالأنبياء، بل هو مشترك بينهم وبين غيرهم. فلم يؤمن هؤلاء 2 بالأنبياء البتة. هذا هو الذي يجب القطع به3. ولهذا يُذكرون معهم ذكر الجنس الخارج عن أتباعهم؛ فيقال: قالت الأنبياء، والفلاسفة، واتفقت الأنبياء، والفلاسفة؛ كما يُقال: المسلمون، واليهود، والنصارى4.

_ 1 مقرون بالأنبياء السابقين، منكرون لنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. 2 الفلاسفة. 3 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن معتقد الفلاسفة: "ليس للفلاسفة مذهب معيّن ينصرونه، ولا قول يتفقون عليه في الإلهيات، والمعاد، والنبوات، والشرائع، بل وفي الطبيعيات، والرياضيات، بل ولا في كثير من المنطق، ولا يتفقون إلا على ما يتفق عليه جميع بني آدم من الحسيّات المشاهدة، والعقليات التي لا ينازع فيها أحد". منهاج السنة النبوية 1/357. وقال أيضاً: "لكن الذي لا ريب فيه أنّ هؤلاء أصحاب التعاليم؛ كأرسطو وأتباعه، كانوا مشركين يعبدون المخلوقات، ولا يعرفون النبوات، ولا المعاد البدني، وأن اليهود والنصارى خيرٌ منهم في الإلهيات، والنبوات، والمعاد". منهاج السنة النبوية 1/364. 4 يُوجد في ((خ)) بياض.

فصل من آيات الأنبياء: نصرهم على قومهم

[وقال أيضاً رضي الله عنه: فصل] 1 من آيات الأنبياء: نصرهم على قومهم. وهذا من وجهين: ومن آياته: نصر الرسل على قومهم. وهذا على وجهين: الوجه الأول بإهلاك الأمم وإنجاء الرسل وأتباعهم تارةً: يكون بإهلاك الأمم، وإنجاء الرسل وأتباعهم؛كقوم نوح، وهود، وصالح، وشعيب، ولوط، وموسى. ولهذا يقرن الله بين هذه القصص في سورة الأعراف، وهود، والشعراء، ولا يذكر معها قصة إبراهيم2. وإنّما ذكر قصة إبراهيم في سورة الأنبياء3، ومريم4، والعنكبوت5، والصافات6؛ فإنّ هذه السور لم يقتصر فيها على ذكر من أهلك من الأمم.

_ 1 في ((ط)) فقط: فصل ... قال رضي الله عنه. 2 ذكر الله سبحانه وتعالى قصة إبراهيم عليه السلام في سورة الشعراء بعد قصة موسى وإهلاك فرعون وقومه؛ قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ} . الآيتان 69-70. 3 قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ... إلخ} . سورة الأنبياء، آية 51، إلى آية 73. 4 قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً إِذْ قَالَ لأبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} .. سورة مريم، الآيتان 41-42، إلى آية 50. 5 قال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . سورة العنكبوت، الآية 16، إلى الآية 27. 6 قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ ... } . سورة الصافات، الآيات 83-85، إلى آية 113.

بل في سورة الأنبياء كان المقصود ذكر الأنبياء، ولهذا سميت سورة الأنبياء؛ فذكر فيها إكرامه للأنبياء، وإن لم يذكر قومهم؛ كما ذكر قصة داود، وسليمان1، وأيوب2، وذكر آخر الكلّ: {إِنَّ هَذِهِ أُمّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَة} 3، وبدأ فيها بقصة إبراهيم4؛ إذ كان المقصود ذكر إكرامه للأنبياء قبل محمّد وإبراهيم؛ أكرمهم على الله تعالى، وهو خير البرية، وهو [أبو] 5 أكثرهم، إذ ليس هو [أبا] 6 نوحٍ ولوط، لكن لوط من أتباعه7، وأيوب من ذريته؛ بدليل قوله في سورة الأنعام: {وَمِنْ ذُرِّيَتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ} 8. وأمّا سورة مريم: فذكر الله تعالى فيها إنعامه على الأنبياء المذكورين فيها؛ فذكر فيها رحمته زكريا، وهبته يحيى9، وأنه ورث نبوته، وغيرها

_ 1 قال تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} إلى قوله: {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} . سورة الأنبياء، الآيات 78-82. 2 قال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ ... } .. سورة الأنبياء، الآيتان 83-84. 3 سورة الأنبياء، الآية 92. 4 وهي تبدأ من قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ..} . من آية 51، إلى آية 73. 5 في ((خ)) ، و ((م)) ، و ((ط)) : أب. والصحيح: أبو. 6 في ((خ)) ، و ((م)) ، و ((ط)) : أب. والصحيح: أبا. 7 قال تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} . سورة العنكبوت، الآيتان 26-27. 8 سورة الأنعام، الآية 84. 9 في ((ط)) فقط: عليهما السلام.

من علم آل يعقوب، وأنه آتاه الحكم صبيّاً1؛ وذكر بدء خلق عيسى، وما أعطاه الله تعالى من تعليم الكتاب؛ وهو التوراة، والنبوّة، وأنّ الله تعالى جعله مباركاً أينما كان، وغير ذلك2؛ وذكر قصة إبراهيم، وحسن خطابه لأبيه، وأنّ الله تعالى وهبه إسحاق ويعقوب نبيّين، ووهبه من رحمته، وجعل له لسان صدق علياً3؛ ثم ذكر موسى، وأنّه خصّصه الله تعالى بالتقريب والتكليم، [ووهبه] 4 أخاه، وغير ذلك5؛ وذكر إسماعيل، وأنّه كان صادق الوعد6 وكأنّه والله أعلم من ذلك أو أعظمه صَدَقَهُ فيما وَعَدَ به أباه من صبره عند الذبح، فوفى بذلك7؛ وذكر إدريس، وأنّ الله تعالى رفعه مكانا عليّاً8. ثمّ قال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم} 9.

_ 1 قال تعالى: {كهيعص ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} إلى قوله عن يحيى عليه السلام: {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً} . سورة مريم، من أولها، إلى آية 15. 2 قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً} إلى قوله: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} . سورة مريم، الآيات 16، إلى 34. 3 قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً} ... إلى قوله: {وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} . سورة مريم، الآيات 41-50. 4 في ((خ)) : وهبه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً} سورة مريم، الآيات 51-53. 6 قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً} . سورة مريم، الآية 547 انظر تفسير ابن كثير 3/125. 8 قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} . سورة مريم، الآيتان 56-57. وانظر أقوال العلماء في معنى رفعه عليه السلام في أعلام النبوة للماوردي ص 82. والبداية والنهاية لابن كثير 1/93. 9 سورة مريم، الآية 58.

وأما سورة العنكبوت: فإنّه ذكر فيها امتحانه للمؤمنين، ونصره لهم، وحاجتهم إلى الصبر والجهاد، وذكر فيها حسن العاقبة لمن صبر، وعاقبة من كذب الرسل؛ فذكر قصة إبراهيم لأنّها من النمط الأول، ونصرة الله له على قومه1. وكذلك سورة الصافات قال فيها: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُنْذَرِينَ} 2. وهذا يقتضي أنّها عاقبة رديئة؛ إمّا بكونهم غُلبوا وذلّوا، وإما بكونهم أُهلكوا. ولهذا ذكر فيها قصة إلياس، ولم يذكرها في غيرها، ولم يذكر هلاك قومه، بل قال: {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلاَّ عِبَادَ اللهِ المُخْلَصِينَ} 3. وإلياس قد رُوِيَ أنّ الله تعالى رفعه4، وهذا يقتضي عذابهم في الآخرة؛ فإنّ إلياس لم

_ 1 قال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . سورة العنكبوت، الآية 16. 2 سورة الصافات، الآيات 71-73. 3 سورة الصافات، الآيتان 127-128. 4 اختلف في إلياس، فذُكر عن ابن مسعود، وقتادة، ومحمد بن إسحاق، والضحاك: أنّ إلياس هو إدريس. وقيل: إلياس نبيّ بُعث إلى بني إسرائيل بعد مهلك حزقيل، فعبدوا الأصنام، ثم دعا الله عليهم، فحبس عنهم القطر ثلاث سنين، ثم سألوه أن يكشف ذلك عنهم، ووعدوه الإيمان به إن هم أصابهم المطر، فدعا الله تعالى لهم فجاءهم الغيث، فاستمروا على أخبث ما كانوا عليه من الكفر، فسأل الله أن يقبضه إليه فيُريحه منهم، فأمر إلياس أن يذهب إلى مكان كذا وكذا، فمهما جاءه فليركبه، ولا يهابه. فجاءته فرس من نار، فركب، وألبسه الله تعالى النور، وكساء الريش، وقطع عنه لذة المطعم والمشرب، وطار في الملائكة، فكان إنسياً ملكياً، أرضياً سماوياً. انظر: جامع البيان 23/91-94. والجامع لأحكام القرآن 15/76-77. وتفسير القرآن العظيم 3/19-20. وقال ابن كثير رحمه الله في آخر القصة: هكذا حكاه وهب بن منبه عن أهل الكتاب، والله أعلم بصحته. وانظر في رفعه عليه السلام: أعلام النبوة للماوردي ص 89. وكذا البداية والنهاية 1/314-316،، 2/5.

يقم فيهم، وإلياس المعروف بعد موسى1 من بني إسرائيل، وبعد موسى لم يهلك المكذبين بعذاب الاستئصال. وبعد نوح2 لم يهلك جميع النوع. وقد بعث في كلّ أمة نذيراً، والله تعالى لم يذكر قطّ عن قوم إبراهيم3 أنهم أهلكوا، كما ذكر ذلك عن غيرهم، بل ذكر أنّهم ألقوه في النار، فجعلها الله عليه برداً وسلاماً، وأرادوا به كيداً، فجعلهم الله الأسفلين الأخسرين. وفي هذا: الوجه الثاني إظهار برهان النبي بالحجة والعلم والقدرة ظهور برهانه، وآيته، وأنه أظهره عليهم بالحجة والعلم، وأظهره أيضاً [بالقدرة] 4؛ حيث أذلهم ونصره. [وهذا من جنس المجاهد الذي هزم عدوه، وتلك من جنس المجاهد الذي قتل عدوه] 5. وإبراهيم بعد هذا لم يقم بينهم، بل هاجر وتركهم. وأولئك الرسل لم يزالوا مقيمين بين ظهراني قومهم حتى هلكوا، فلم يوجد في حق قوم إبراهيم سبب الهلاك؛ وهو إقامته فيهم، وانتظار العذاب النازل. وهكذا محمد مع قومه لم يقم فيهم، بل خرج عنهم، حتى أظهره الله تعالى عليهم بعد ذلك. الخليلان هما أفضل الرسل ومحمد وإبراهيم أفضل الرسل فإنّهم إذا علموا [الدعوة] 6 حصل المقصود.

_ 1 في ((ط)) فقط: عليه السلام. 2 في ((ط)) فقط: عليه السلام. 3 في ((ط)) فقط: عليه السلام. 4 في ((ط)) فقط: بالقدوة. 5 ما بين المعقوفتين مكرّر في ((خ)) . 6 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهي في ((م)) ، و ((ط)) .

وقد يتوب منهم1 من يتوب بعد ذلك؛ كما تاب من قريش من تاب. وأما حال إبراهيم2: فكانت إلى الرحمة أميل، فلم يَسْعَ في هلاك قومه، لا بالدعاء، ولا بالمقام، ودوام إقامة الحجة عليهم. وقد قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ في مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ} 3. وكان كل قوم يطلبون هلاك نبيهم [فعوقبوا] 4. وقوم إبراهيم أوصلوه إلى العذاب، لكن جعله الله [تعالى] 5 عليه برداً وسلاماً، ولم يفعلوا بعد ذلك ما يستحقون به العذاب؛ إذ الدنيا ليست دار الجزاء التام، وإنّما فيها من الجزاء ما [تحصل] 6 به الحكمة والمصلحة؛ كما في العقوبات الشرعية. فمن أراد أعداؤه من أتباع الأنبياء أن يهلكوه فعصمه الله7، وجعل صورة الهلاك نعمة في حقه، ولم يهلك أعداءه، بل أخزاهم، ونصره؛ فهو أشبه بإبراهيم8.

_ 1 من أقوام الأنبياء عليهم السلام. 2 في ((ط)) فقط: عليه السلام. 3 سورة إبراهيم، الآيتان 13-14. 4 في ((م)) ، و ((ط)) : إلا عوقبوا. 5 ما بين المعقوفتين ليس في ((م)) ، و ((ط)) . 6 في ((خ)) : يحصل. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 7 العبارة فيها لبس، ومعناها: أنّ من أتباع الأنبياء من يُريد أعداؤه أن يُهلكوه، ويعصمه الله منهم. 8 جملة: (فهو أشبه إبراهيم) : جواب الشرط. ومعناه: من أراد أعداؤه إهلاكه، وعصمه الله، وجعل صورة الهلاك نعمة في حقه، وأخزى أعداءه، فهو أشبه بإبراهيم عليه السلام.

وإذا عصمه من كيدهم، وأظهره حتى صارت الحرب بينه وبينهم سجالاً، ثم كانت العاقبة له، فهو أشبه بحال محمّد [صلى الله عليه وسلم] 1؛ فإنّ محمداً سيّد الجميع2، وهو خليل الله3؛ كما أن إبراهيم خليله. والخليلان4: هما أفضل الجميع، وفي طريقتهما من الرأفة والرحمة، ما ليس في طريقة غيرهما. حكمة الرب تعالى في عقوبته لكل قوم بما يناسبهم ولم يذكر الله عن قوم إبراهيم ديناً غير الشرك، وكذلك عن قوم نوح. وأمّا عاد: فذكر عنهم التجبّر، وعمارة الدنيا.

_ 1 ما بين المعقوفتين لا يوجد في ((ط)) . 2 قال صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفّع". أخرجه الإمام مسلم في صحيحه 4/1782، كتاب الفضائل، باب تفضيل نبينا صلى الله عليه وسلم على جميع الخلائق، رقم 2278. والإمام أحمد في المسند 2/540. وقال صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد الناس يوم القيامة". أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، رقم 3340. والإمام مسلم في صحيحه، رقم 194. وقال صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم، ولا فخر". أخرجه الإمام أحمد في مسنده3/2، 144. وابن ماجه في سننه 2/1440، كتاب الزهد، باب ذكر الشفاعة. 3 قال صلى الله عليه وسلم: "إنّ الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً". أخرجه الإمام مسلم في صحيحه رقم 532. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الخُلّة: هي كمال المحبة المستلزمة من العبد كمال العبودية لله، ومن الرب سبحانه كمال الربوبية لعباده الذين يُحبّهم ويُحبونه.... ولهذا لم يكن له صلى الله عليه وسلم من أهل الأرض خليل؛ إذ الخلة لا تحتمل الشركة. فإنه كما قيل في المعنى: قد تخلّلت مسلك الروح مني وبذا سُمّي الخليل خليلاً. العبودية لابن تيمية ص 128. وانظر الشفا للقاضي عياض في الفرق بين المحبة والخلة 1/279-289. 4 إبراهيم، ومحمد صلى الله عليهما وعلى آلهما وسلّم.

وقوم صالح1: ذكر عنهم الاشتغال بالدنيا عن الدين، لم يذكر عنهم من التجبر ما ذكر عن عاد، وإنّما أهلكهم لما عقروا الناقة. وأمّا أهل مدين: فذكر عنهم الظلم في الأموال، مع الشرك؛ {قَالُوا يَا شُعَيبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ في أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} 2. وقوم لوط ذكر عنهم استحلال الفاحشة، ولم يذكروا بالتوحيد، بخلاف سائر الأمم. وهذا يدلّ على أنّهم لم يكونوا مشركين، وإنما ذنبهم استحلال الفاحشة، وتوابع ذلك. وكانت عقوبتهم أشد؛ إذ ليس في ذلك تديّن، بل شر يعلمون أنه شرّ3. وهذه الأمور تدلّ على حكمة الربّ، وعقوبته لكل قوم بما يناسبهم؛ فإنّ قوم نوحٍ أَغرقهم إذ لم يكن فيهم خيرٌ يُرجى.

_ 1 في ((ط)) فقط: عليه السلام. 2 سورة هود، الآية 87. 3 وقد وصفهم الله تعالى بصفات قبيحة؛ منها صفة العدوان على حدود الله، فقال تعالى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} . سورة الشعراء، الآية 165-166. ووصفهم بالجهل، قال تعالى: {أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} . سورة النمل، الآية 55. ووصفهم بالإسراف في الشهوات، قال تعالى: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} . سورة الأعراف، الآية 81. وقال تعالى: {أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} . سورة العنكبوت، الآية 29. وقال شيخ الإسلام رحمه الله عن قوم لوط: "وكانوا كفاراً من جهات؛ من جهة استحلال الفاحشة، ومن جهة الشرك، ومن جهة تكذيب الرسل؛ ففعلوا هذا وهذا، ولكن الشرك والتكذيب مشترك بينهم وبين غيرهم، والذي اختصوا به الفاحشة، فلهذا عوقبوا عقوبة تخصهم، لم يعاقب غيرهم بمثلها، وجعل جنس هذه العقوبة هو الرجم".تفسير آيات أشكلت من القرآن 1/391.

فصل في آيات الأنبياء وبراهينهم

فصل في آيات الأنبياء وبراهينهم معنى آيات الأنبياء [و] 1 هي الأدلة والعلامات المستلزمة لصدقهم. الدليل مستلزم للمدلول والدليل لا يكون إلاَّ مستلزما للمدلول عليه مختصاً به، لا يكون مشتركاً بينه وبين غيره؛ فإنّه يلزم من تحقّقه تحقّق المدلول. وإذا [انتفى] 2 المدلول انتفى هو؛ فما يوجد مع وجود الشيء، ومع عدمه، لا يكون دليلاً عليه، بل الدليل ما لا يكون إلاَّ مع وجوده. فما وُجد مع النبوّة تارةً، ومع عدم النبوّة تارةً، لم يكن دليلاً على النبوّة، بل دليلها ما يلزم من وجوده وجودها. اضطراب الناس في دليل النبوة وهنا اضطرب الناس، فقيل: دليلُها جنسٌ يختصّ بها، وهو الخارق للعادة. فلا يجوز وجوده لغير نبيّ؛ لا ساحر، ولا كاهن، ولا وليّ3؛ كما

_ 1 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 2 في ((خ)) : انتفاء. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 الوَلِيّ: بمعنى مفعول في حق المطيع. فيقال: المؤمن ولي الله. المصباح المنير 673. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والولاية ضدّ العداوة. وأصل الولاية: المحبة، والقرب. وأصل العداوة: البُغض والبُعد. وقد قيل: إنّ الوليّ سُمّي وليّاً من موالاته للطاعات؛ أي متابعته لها. والأول أصحّ. والوليّ: القريب.... فإذا كان وليّ الله هو الموافق، المتابع له فيما يُحبّه ويرضاه، ويُبغضه ويُسخطه، ويأمر به وينهى عنه، كان المعادي لوليه معادياً له ... ". الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 9-10.

يقول ذلك من يقوله من المعتزلة1، [وغيرهم] 2؛ كابن حزم3، وغيره. قول الأشاعرة وقيل: بل الدليل هو الخارق للعادة، بشرط الاحتجاج به على النبوّة، والتحدّي بمثله. وهذا منتفٍ في السحر، والكرامة؛ كما يقول ذلك من يقوله من متكلمي أهل الإثبات4؛ كالقاضيَيْن أبي بكر5، وأبي يعلى6، وغيرهما. البيان: كتاب الباقلاني وقد بسط القاضي أبو بكر7 الكلام في ذلك، في كتابه المصنّف8 في الفرق بين المعجزات، والكرامات، والحيل، والكهانات، والسحر، والنيرنجيات9.

_ 1 انظر المغني في أبواب التوحيد والعدل للقاضي عبد الجبار 15/189. 2 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) . وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 انظر المحلى لابن حزم 1/36. 4 يعني الأشاعرة. وانظر قولهم في المعجزة، في: أصول الدين للبغدادي ص 175، 185. والإرشاد للجويني ص 307-315. والمواقف في علم الكلام للإيجي ص 339. وشرح المقاصد للتفتازاني 5/11. 5 الباقلاني. سبقت ترجمته. وانظر كلامه في كتابه البيان ص 19-20، 46-49. وانظر: الإرشاد للجويني ص 312-313. وأصول الدين للبغدادي ص 170-171. والمواقف للإيجي ص 339-340. 6 سبقت ترجمته. 7 الباقلاني. 8 طبع هذا الكتاب أول مرة، ونشره الأب رتشرد يوسف مكارثي اليسوعي عام 1958، في المكتبة الشرقية ببيروت. 9 النِيرَنْج - بالكسر: أخذ كالسحر، وليس به، وإنما هو تشبيه، وتلبيس. انظر: اللسان 2/376. والقاموس المحيط ص 265.

سبب الغلط عند المعتزلة والأشاعرة في دليل النبوة.. وهؤلاء [وهؤلاء] 1 جعلوا مجرّد كونه خارقاً للعادة هو الوصف المعتبر. وفرقٌ بين أن يقال: لا بدّ أن يكون خارقاً للعادة، وبين أن يقال: كونه خارقاً للعادة هو المؤثّر؛ فإنّ الأول يجعله شرطاً لا موجباً، والثاني يجعله موجباً. وفرقٌ بين أن يقال: العلم، والبيان، وقراءة القرآن، لا يكون إلاَّ من حيّ، وبين أن يقال: كونه حيّاً يُوجب أن يكون عالماً قارئاً. ومن هنا دخل الغلط على هؤلاء. ليس في الكتاب والسنة لفظ المعجزة وخرق العادة وليس في الكتاب والسنة تعليق الحكم بهذا الوصف، بل ولا ذكر خرق العادة، ولا لفظ المعجز، وإنّما فيه آيات وبراهين2، وذلك يوجب اختصاصها بالأنبياء.

_ 1 ما بين المعقوفتين ساقطٌ من ((م)) ، و ((ط)) . 2 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وهذه الألفاظ إذا سمّيت بها آيات الأنبياء كانت أدلّ على المقصود من لفظ المعجزات. ولهذا لم يكن لفظ (المعجزات) موجوداً في الكتاب والسنة، وإنما فيه لفظ (الآية) ، و (البينة) ، و (البرهان) ؛ كما قال تعالى في قصة موسى عليه السلام: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ..} . [سورة القصص 32] في العصا، واليد. وقال تعالى في حق محمد صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً} . [سورة النساء، آية 174] .....) . ثمّ ذكر رحمه الله الآيات القرآنية الدالّة على أنّ الآيات النبوية تُسمّى براهين، ثمّ قال رحمه الله: (وأما لفظ الآيات فكثير في القرآن) ... ثمّ استشهد بآيات كثيرة، منها قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} . [سورة الإسراء، آية 101] ... انظر الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح 5/412-419. وانظر قاعدة في المعجزات والكرامات لشيخ الإسلام رحمه الله ص 7.

شرط المعجزة عند الأشاعرة وأيضاً: فقالوا في شرطها: أن لا يقدر عليها إلا الله، لا [تكون] 1 مقدورة للملائكة، ولا للجنّ، ولا للإنس؛ بأن يكون جنسها ممّا لا يقدر عليه إلا الله2؛ كإحياء الموتى، وقلب العصا حية. وإذا كانت من أفعال العباد لكنها خارقة للعادة؛ مثل حمل الجبال، والقفز من المشرق إلى المغرب، والكلام المخلوق الذي يقدر على مثله البشر، ففيه لهم قولان: أحدهما: أنّ ذلك يصح أن يكون معجزة. والثاني: أن المعجزة إنّما هي إقدار المخلوق على ذلك؛ بأن [يخلق] 3 فيه قدرة [خارجة] 4 عن قدرته المعتادة5. مناقشة الباقلاني في تعريف المعجزة وهذا اختيار القاضي أبي بكر6، ومن اتبعه؛ كالقاضي [أبي يعلى] 7.

_ 1 في ((خ)) : يكون. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 انظر: البيان للباقلاني ص 8، 19، 57. 3 في ((خ)) : خلق. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 في ((خ)) : خارقة. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 وقال عبد القاهر البغدادي - من الأشاعرة -: "قال أصحابنا: أكثر المعجزات من أفعال الله تعالى لا يقدر على جنسها غيره؛ كإحياء الأموات، وإبراء الأكمه، والأبرص، وقلب العصا حية، وفلق البحر، وإمساك الماء في الهواء، وتشقق القمر، وإنطاق الحصى، وإخراج الماء من بين الأصابع، ونحو ذلك. ومنها ما هو خلق لله اختراعاً وكسباً لصاحب المعجزة؛ كإقداره إنساناً على الطفر إلى السماء، وعلى قطع المسافة البعيدة في الساعة القصيرة، وعلى إطلاق لسان الأعجمي بالعربية، ونحو ذلك، مما لم يجر العادة به". أصول الدين للبغدادي ص 176-177. وانظر: شرح المقاصد للتفتازاني 5/17. والإرشاد للجويني ص 308-309. 6 الباقلاني. انظر: كتابه البيان ص 14-15، 20، 23، 34. 7 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .

وظنوا أن هذا يوجب طرد قولهم أنّها لا تكون مقدورة لغير الله، بخلاف القول الأول؛ فإنه تقع فيه شبهة إذ كان الجنس معتادا. وإنّما الخارق هو الكثير الخارج عن العادة. الفرق بين المعجزة وغيرها عند الأشاعرة وهذا الفرق الذي ذكره ضعيفٌ، فإنّه إذا كان قادراً على اليسير، فَخَرَقَ العادة في قدرته، حتى جعله قادراً على الكثير، فجنس القدرة معتاد مثل جنس المقدور، وإنّما خُرقت العادة بقدرة خارجة عن العادة؛ كما خرقت بفعل خارج عن القدرة. وعنده أنّ خلقَ القدرة خلقٌ لمقدورها، والقدرة عنده مع الفعل، فلا فرق. وهذا القول، وهو: أنّ المعجزة لا تكون إلاَّ مقدورة للرب، لا للعباد: قولُ كثيرٍ من أهل الكلام؛ من القدرية1، والمثبتة للقدر، وغيرهم. دليل الأشاعرة علىامتناع أن تكون هذه الخوارق لغير الله ثمّ إنّهم لمّا طُولبوا بالدليل على أنّه لا يجوز أن تقدر العباد على مثل: إبراء الأكمه، والأبرص، وإحياء الموتى، ونحو ذلك مما ذكروا أنّه يمتنع أن يكون مقدوراً لغير الله، اعتمدوا في الدلالة على (أنّ القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده) ، فلو جاز أن يكون العبد قادراً على هذه الأمور، لوجب أن لا يخلو من ذلك ومن ضده؛ وهو العجز، أو القدرة على ضدّ

_ 1 القدرية من الألفاظ المشتركة. فالقدرية النفاة هم الذين ينفون الإرادة عن الله تعالى، ويقولون بأنّ العبد يخلق فعل نفسه. وهذا المعروف من معتقد المعتزلة في القدر. والقدرية المثبتة الذين يجعلون العبد مجبوراً على أفعاله. قال شارح الطحاوية: "وسمّوا قدرية لإنكارهم القدر. وكذلك تسمى الجبرية المحتجون بالقدر قدرية أيضاً، والتسمية على الطائفة الأولى أغلب". شرح الطحاوية ص 79. وقد قسّم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله القدرية إلى ثلاثة أصناف: 1- القدرية المشركية. 2- والقدرية المجوسية. 3- والقدرية الإبليسيّة. انظر: مجموع الفتاوى 8/256-261.

ذلك الفعل؛ كما يقولونه في فعل العبد: المعجزات عند الأشاعرة هي ما تعجز قدرات العباد عنها إنّه إذا لم يقدر على الفعل، فلا بُدّ أن يكون عاجزاً، أو قادراً على ضدّه. هذا احتجاج من يقول القدرة مع الفعل1، والقدرة عنده لا تصلح للضدّين؛ كالأشعرية، فيقول: لا يخلو من القدرة، أو العجز، فهذه مقدمة. والمقدمة الثانية: ونحن لا نحسّ من أنفسنا عجزاً عن إبراء الأكمه، والأبرص، وإحياء الموتى، ونحو هذه الأمور، لكنّا غير قادرين عليها، ولا يجوز أن نقدر عليها. وهؤلاء يقولون: لا يكون الشيء عاجزاً إلاَّ عمّا يصحّ أن يكون قادراً عليه، [بخلاف ما لا يصحّ أن يكون قادراً عليه] 2، فلا يصحّ أن يكون عاجزاً عنه. ولهذا قالوا: لا ينبغي أن تُسمّى هذه معجزات؛ لأنّ ذلك يقتضي أنّ الله أعجز العباد عنها، وإنما يعجز العباد عما يصحّ قدرتهم عليه. هذا3 كلام القاضي أبي بكر، ومن وافقه4. رد شيخ الإسلام عليهم وكلا المقدمتين دعوى مجردة لم يقم على واحدة منها حجة. فكيف يجوز أن يكون الفرق بين المعجزة وغيرها مبنيّاً على مثل هذا الكلام الذي

_ 1 هذا قول الأشاعرة. انظر: التمهيد للباقلاني ص 46. والإرشاد للجويني ص 219-220. ويقصد شيخ الإسلام رحمه الله بهذا الكلام أن يُبيّن أنّهم يقولون: القدرة تكون مع الفعل، لا كما يقوله أهل السنة والجماعة: أنّ القدرة تكون قبل الفعل، ومع الفعل. انظر: درء تعارض العقل والنقل 1/60-62،، 9/241-242. ومجموع الفتاوى 8/129-130، 290-292، 371-376، 10/32، 18/172-173. وشرح الطحاوية ص 45. 2 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) ، وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 في ((ط)) فقط: وهذا. 4 انظر: البيان للباقلاني ص 8-12.

ينازعه فيه أكثر العقلاء، ولو كان صحيحاً لم يفهم إلا بكلفة، ولا يفهمه إلا قليلٌ من الناس. فكيف إذا كان باطلاً. والذين آمنوا بالرسل لِمَا رأوه، وسمعوه من الآيات، لم يتكلموا بمثل هذا الفرق، بل ولا خطر بقلوبهم. متأخروا الأشاعرة حذفوا القيد الذي وضعه المتقدمون ولهذا لما رأى المتأخرون ضعف هذا الفرق؛ كأبي المعالي1، والرازي2، والآمدي3، وغيرهم حذفوا هذا القيد؛ وهو كون المعجزة مما ينفرد الباري بالقدرة عليها، وقالوا: كلّ حادثٍ، فهو مقدورٌ

_ 1 هو عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني الشافعيّ، الملقّب إمام الحرمين. أعلم المتأخرين من أصحاب الشافعي. متفنّن في العلوم من الأصول والفروع. وألّف العقيدة النظامية على عقيدة أهل التفويض. ويعتبر من أعلام الأشاعرة كان مولده سنة 419 ?، وتوفي سنة 478 ?، ودفن بنيسابور. انظر: البداية والنهاية 12/128. ووفيات الأعيان 3/167. وشذرات الذهب3/358، وموقف ابن تيمية من الأشاعرة: 2/602. 2 هو محمد بن عمر بن الحسن التيمي البكري الرازي، الإمام المفسّر. كان يُحسن الفارسية، وكان واعظاً بارعاً بها وبالعربية أيضاً. له كتاب ((مفاتيح الغيب)) في تفسير القرآن الكريم. وله مؤلفات عديدة. وهو من علماء الأشاعرة، وممن خلطوا الكلام بالفلسفة، وُلد في الريّ سنة 544?، وتوفي في وهران سنة 606 ?. انظر: وفيات الأعيان 4/2488. وشذرات الذهب 5/21. والأعلام 7/203، وموقف شيخ الإسلام ابن تيمية من الأشاعرة: 2/662. 3 هو أبو الحسن علي بن أبي علي بن محمد بن سلم التغلبي. الفقيه الأصولي، الملقب سيف الدين. كان حنبلياً، ثمّ صار شافعياً. ويعتبر من علماء الأشاعرة، وممن خلطوا الكلام بالفلسفة، له نحو من عشرين مؤلفاً. قال عنه ابن كثير: كان حسن الأخلاق، سليم الصدر، كثير البكاء، تكلموا فيه بأشياء، الله أعلم بصحتها، والذي يغلب على الظنّ أنّه ليس لغالبها صحة. وُلد سنة 551?، ومات سنة 631 ?. انظر: وفيات الأعيان 3/293. والبداية والنهاية 13/140. وشذرات الذهب 5/144. ومعجم المؤلفين 7/155، وموقف شيخ الإسلام من الأشاعرة: 2/679.

للربّ1، وأفعال العباد هي أيضاً مقدورة للرب، وهو خالقها، والعبد ليس خالقاً لفعله؛ فالاعتبار بكونها خارقة للعادة قد استدلّ بها على النبوّة، وتحدّى بمثلها، فلم يمكن أحداً معارضة هذه القيود الثلاثة، وحذفوا ذلك القيد. كلام الباقلاني في الفرق بين المعجز والسحر وزعم القاضي أبو بكر أنّ ما يُستدلّ به على أنّ المعجزات يمتنع دخولها تحت قدر العباد لا يصحّ على أصول القدرية. وبَسَطَ القول في ذلك بكلام يصح بعضه دون بعض؛ كعادته في أمثال ذلك2، ثمّ جعل هذا الفرق: هو الفرق بين المعجزات، وبين السحر، والحيل؛ فقال: وأمّا على قولنا إن المعجز لا يكون إلا من مقدورات القديم، ومّما يستحيل دخوله، ودخول مثله تحت قدر العباد، فإذا كان كذلك، استحال أن يفعل أحدٌ من الخلق شيئاً من معجزات الرسل، أو ما هو من جنسها؛ لأنّ المحتال إنّما يحتال ويفعل ما يصح دخوله تحت قدرته، دون ما يستحيل كونه مقدورا له3. قال: "وأمّا4 القائلون بأنّه يجوز5 أن يكون في6 معجزات الرسل ما يدخل جنسه تحت قُدَرِ العباد، وإن لم يقدروا على كثيره، وما يخرق العادة منه، فإنّهم7 يقولون: قد علمنا أنه لا حيلة ولا شيء من8 السحر يمكن

_ 1 انظر: الإرشاد للجويني ص 319، 322. 2 انظر: البيان للباقلاني ص 66-70. 3 انظر: البيان للباقلاني ص 72-73. 4 في البيان: فأما. 5 في البيان: قد يجوز. 6 في البيان: من. 7 في البيان: فإنهم أيضاً. 8 في البيان: في.

أن يتوصل به الساحر، والمشعبذ1 إلى فعل الصعود في2 السماء، [والطَفَرِ] 3 من المشرق إلى المغرب4. [وقَفْزُ] 5 الفراسخ الكثيرة، والمشي على الماء، وحمل الجبال الراسيات: هذا6 أمرٌ لا يتم بحيلة محتال ولا [سحر] 7 ساحر8"9. وتكلّم على إبطال قول من قال: إنّ السحر لا يكون إلا تخييلاً، لا حقيقة له، وذكر أقوال العلماء [والآثار عن الصحابة بأنّ السّاحر يُقتل بسحره10، 1 الشعبذة، والشعوذة: اللعب بخفة. يرى الإنسان منه الشيء بغير ما عليه أصله في رأي العين؛ أي يرى ما ليس له حقيقة. والمشعبذ هو المشعوذ. انظر: لسان العرب 3/495. والمصباح المنير1/314. والقاموس المحيط ص 427. 2 في البيان: إلى. 3 في ((م)) ، و ((ط)) : ولا قفز. والطفر: هو القفز، والوثوب في ارتفاع. وعُرف بين المتكلمين: النظرية التي تُخالف العقل، والتي اشتهر بها النظّام، فيُقال: طفرة النظام. انظر القاموس المحيط ص 5. وسيأتي معنى الطفرة عند النظام. 4 في البيان: من الشرق إلى الغرب. 5 في ((م)) ، و ((ط)) : ولا طفر. 6 في البيان: هذا زعموا. 7 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 8 في البيان: لا يتمّ بحيلة ساحر ولا محتال. 9 البيان للباقلاني ص 73. 10 ومن آثار الصحابة الدالّة على قتل الساحر:

_ 1- قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل موته بسنة: ((اقتلوا كلّ ساحر)) . قال الراوي: فقتلنا في يوم واحدٍ ثلاث سواحر. أخرجه أبو داود 3/431-432، وقال عنه الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ: إسناده حسن. انظر تيسير العزيز الحميد ص 391-392. 2- وما رواه الإمام مالك من أنّ حفصة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم قتلت جارية لها سحرتها، وقد كانت دبرتها، فأمرت بها فقتلت. موطأ مالك 2/871. 3- وما رواه البخاري في تاريخه الكبير: "كان عند الوليد رجل يلعب، فذبح إنساناً وأبان رأسه، فجاء جندب الأزدي فقتله". التاريخ الكبير للبخاري، القسم الثاني من الجزء الأول، ص 222. وانظر: هذه الآثار في أضواء البيان 4/461.

وقولٌ] 1 أنّه يُقتل حدّاً عند أكثرهم، وقصاصاً عند بعضهم2. [ثمّ قال3

_ 1 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 2 انظر: البيان للباقلاني ص 74-87. وقد اتفق الأئمة الأربعة على قتل الساحر كفراً إذا تضمّن سحره الكفر. أما إن قتل بسحره إنساناً، ولم يكن سحره متضمناً الكفر، فإنه يُقتل عند مالك، والشافعيّ، وأحمد رحمهم الله. أما أبو حنيفة رحمه الله فقال: "لا يُقتل حتى يتكرّر منه ذلك، أو يقرّ بذلك في حقّ شخص معيّن". وإذا قتل، فإنه يقتل حداً عندهم، إلا الشافعيّ، فإنّه قال: يُقتل والحالة هذه قصاصاً. أما هل يقتل الساحر بمجرد فعله السحر، واستعماله، فقال مالك، وأبو حنيفة، ورواية عن أحمد: يقتل. وقال الشافعيّ: "الساحر إذا كان يعمل في سحره، ما يبلغ به الكفر، يُقتل. فإذا عمل عملاً دون الكفر لم نر عليه قتلاً". وهو رواية عن أحمد. انظر: المغني 12/302. وفتح الباري 10/247. وتيسير العزيز الحميد ص 391. وتفسير القرآن العظيم 1/147. وشرح النووي على صحيح مسلم 14/176. وتفسير القرطبي 2/23. وأضواء البيان 4/456-457. 3 أي الباقلاني. قال هذا في البيان ص 93.

[ثم قال1: فصل القول في الفصل بين المعجز والسحر] 2. وهو لم يفرق بين الجنسين، بل يجوز أن يكون ما هو معجزةٌ للرسول يظهر على يد الساحر. لكن قال: الفرق: هو (تحدّي الرسول3 بالإتيان بمثله، وتقريع مخالفه، بتعذر [مثله] 4 عليه، فمتى وجد الذي5 ينفرد الله بالقدرة عليه6، من غير تحدٍّ منه7، واحتجاج لنبوته بظهوره، لم يكن معجزاً. وإذا كان8 كذلك، خرج السحر عن أن يكون معجزاً ومشبهاً لآيات الأنبياء9، [و] 10 كان11 ما يظهر عند فعل الساحر، من جنس

_ 1 أي: الباقلاني. قال هذا في البيان ص 93. 2 ما بين المعقوفتين في ((ط)) فقط هكذا: (باب القول في الفصل بين المعجز والسحر. ثمّ قال) . وهو مخالف لما في ((خ)) ، و ((م)) . 3 في البيان: عليه السلام. 4 في ((خ)) : مثلثه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 في البيان: وجد الشيء الذي. 6 في البيان زيادة: على حدّ العادة. 7 في البيان: على غير تحدي نبيّ به. 8 في البيان: كان ذلك. 9 في البيان: الرسل. 10 في ((خ)) : ولو. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 11 في البيان: وإن كان.

بعض معجزات الرسل، وما يفعله الله1 عند تحديهم به. غير أنّ الساحر إذا احتج بالسحر، وادعى به النبوة، أبطله الله بوجهين) 2: أحدهما: أن ينسيه عمل السحر، أو لا يفعل عند سحره شيئاً في المسحور؛ من موتٍ، أو سقم، أو بغض، ولم يخلق فيه الصعود إلى جهة العلو، والقدرة على الدخول في بقرة. فإذا منعه هذه الأسباب بطل السحر3. والثاني: [أنّ الساحر] 4 تمكن معارضته؛ فإن أبواب السحر معلومة عند السحرة. فإذا تحدى ساحر بشيء يفعل عند سحره، لم يلبث أن يجد خلقاً من السحرة يفعلون مثل فعله، ويعارضونه بأدقّ وأبلغ ممّا أورده5 "والرسول6 إذا ظهر عليه مثل ذلك، وادعاه آية له، قال لهم: هذا آيتي وحجتي، ودليل ذلك: أنّكم لا تقدرون على مثله، ولا يفعله الله7 في وقتي هذا، ومع تحدّيّ8 ومطالبتي بمثله عند سحر ساحر، وفعل كاهن.

_ 1 في البيان: تعالى. 2 البيان للباقلاني ص 94. 3 انظر: البيان للباقلاني ص 94-95. 4 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 5 انظر: البيان للباقلاني ص 95. 6 في البيان: عليه السلام. 7 في البيان: سبحانه. 8 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والتحدي هو أن يحدوهم؛ أي يدعوهم، فيبعثهم إلى أن يُعارضوه، فيُقال فيه: حداني على هذا الأمر؛ أي بعثني عليه. ومنه سمّي حادي العيس؛ لأنه بحداه يبعثها على السير. وقد يُريد بعض الناس بالتحدي دعوى النبوة، ولكنه أصله الأول. قال تعالى في سورة الطور: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} ". [سورة الطور، الآيتان 34-35] ... ) . الجواب الصحيح 5/422-423.

وقد كان1 يظهر من سحرتكم وكهانكم، وهي آية لا تظهر2 اليوم على أحد من الخلق، وإن دقّ سحره، وعظم في الكهانة3 علمه. فإذا ظهر ذلك عليه، وامتنع ظهور مثله على يد ساحرٍ أو كاهن، مع أنّه قد كان يظهر4 من قبل، صار هذا5 [خرقاً] 6 عادة البشر، وعادة السحرة والكهنة7 خاصّة" 8. قال: ولم يبعد أن يقال: هذه الآية أعظم من غيرها، وأنّ لها فضل مزية9. ذكر هذا بعد أن قال: فإن قال قائل: فإذا أجزتم أن يكون من عمل السحر ما يفعل الله عنده سقم الصحيح وموته، ويفعل عنده بغض المحب وحب المبغض، وبغض الوطن والردّ إليه من السفر، وضيق الصدر والعجز عن الوطء بالربط والشدّ الذي [يعمله] 10 السحرة، والصعود في جهة العلو على خيط أو بعض [الآلة] 11. [فما] 12 الفصل بين هذا، وبين معجزات الرسل؟ وكيف ينفصل - مع ذلك - المعجزات من السحر؟ ويمكن

_ 1 في البيان: كان مثل هذا. 2 في البيان: وآيتي أنه لا يظهر اليوم. 3 في البيان: في النهاية. 4 في البيان: يظهر ذلك. 5 في البيان: ذلك. 6 كذا في البيان للباقلاني. وهي في جميع النسخ: خرقٌ. 7 في البيان: عادة الكهنة والسحرة - تقديم وتأخير. 8 البيان للباقلاني ص 95-96. 9 انظر: البيان للباقلاني ص 95-96. 10 في ((م)) ، و ((ط)) : يعلمه. 11 في ((م)) ، و ((ط)) : الآلات. 12 في ((م)) ، و ((ط)) : في.

الفرق بين النبي والساحر؟؛ أوليس لو قال نبي مبعوث: إنّي أصعد على هذا الخيط نحو السماء، وأدخل جوف هذه البقرة وأخرج، وإني أفعل فعلاً أفرّق به بين المرء وزوجه، وأفعل فعلاً أقتل به هذا الحي وأسقم هذا الصحيح. فهل كان يكون ذلك لو ظهر على يده آية ودليلاً على صدقه؟ [فما] 1 الفصل إذاً بين السحر والمعجز2. كلام الباقلاني في الفرق بين المعجزة والسحر هو عمدة الأشاعرة ثم قال في الجواب: يُقال له: جواب هذا قريبٌ، وذلك أنّا قد بيّنا في صدر هذا الكتاب3 أنّ من حق [المعجز أن] 4 لا يكون معجزاً، حتى يكون واقعاً من فعل الله على وجه خرق عادة البشر، مع تحدي الرسول بالإتيان ... إلى آخر ما كتب5. قلت: هذا عمدة القوم، ولهذا طعن الناس في طريقهم، وشنع عليهم ابن حزم6 وغيره. مناقشة شيخ الإسلام لكلام الباقلاني في الفرق بين المعجزة والسحر وذلك أن هذا الكلام مستدرك من وجوه: أحدها: أنّه إذا جوز أن يكون ما ينفرد الرب بالقدرة عليه على قوله: يأتي به النبيّ تارة، والساحر تارة، ولا فرق بينهما إلا دعوى النبوّة، والاستدلال به، والتحدي بالمثل، فلا حاجة إلى كونه مما انفرد الباري

_ 1 في ((م)) ، و ((ط)) : وما. 2 انظر: البيان للباقلاني ص 93-94. 3 يشير الباقلاني إلى أول كتابه ((البيان)) . 4 في ((م)) ، و ((ط)) : المعجزات. 5 انظر: البيان للباقلاني ص 94. 6 انظر بعض كتب ابن حزم؛ مثل: كتاب الدرة فيما يجب اعتقاده ص 195-197. والأصول والفروع 2/132-134. وكتاب الفصل في الملل والأهواء والنحل 5/2-9. والمحلى 1/36.

بالقدرة عليه، لا سيما وقد ظهر ضعف الفرق بين ما يمتنع قدرة العباد عليه، وما لا يمتنع. ولهذا أعرض المتأخرون عن هذا القيد1. لا تكون المعجزة عند الأشاعرة إلا إذا استدل بها واقترن بها دعوى نبوة.. والوجه الثاني: وبه تنكشف حقيقة طريقهم أنه على هذا لم [تتميز] 2 المعجزات بوصف تختص به، وإنما امتازت باقترانها [بدعوى] 3 النبوة. وهذا حقيقة قولهم، وقد صرّحوا به4. فالدليل والبرهان إن استدلّ به كان دليلاً، وإن لم يستدلّ به لم يكن دليلاً، وإن اقترنت به الدعوى، كان دليلاً، وإن لم تقترن به الدعوى، لم يكن دليلا عندهم. ولهذا لم يجعلوا دلالة المعجز دلالة عقلية، بل دلالة وضعية5؛ كدلالة الألفاظ بالاصطلاح.

_ 1 قال شيخ الإسلام - فيما سبق من هذا الكتاب -: "ولهذا لما رأى المتأخرون ضعف هذا الفرق؛ كأبي المعالي، والرازي، والآمدي، وغيرهم، حذفوا هذا القيد، وهو كون المعجزة مما ينفرد الباري بالقدرة عليها. وقالوا: كلّ حادث فهو مقدور للربّ، وأفعال العباد هي أيضاً مقدورة للرب". انظر ص 194. 2 في ((خ)) : يتميز. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 في ((م)) ، و ((ط)) : بدعوة. 4 انظر: شرح المقاصد ص 11. والمواقف للإيجي ص 339. والإرشاد للجويني ص 307-315. وأصول الدين للبغدادي ص 170-171. 5 الدلالة اللفظية الوضعية: هي كون اللفظ بحيث متى أُطلق، أو تُخيّل، فُهم منه معناه للعلم بوضعه. وهي المنقسمة إلى المطابقة، والتضمن، والالتزام. لأنّ اللفظ الدالّ بالوضع يدلّ على تمام ما وضع له بالمطابقة، وعلى جزئه بالتضمّن، وعلى ما يلازمه في الذهن بالالتزام؛ كالإنسان؛ فإنّه يدلّ على تمام الحيوان الناطق بالمطابقة، وعلى جزئه بالتضمّن، وعلى قابل العلم بالالتزام. انظر: التعريفات للجرجاني ص 140. وانظر: الإرشاد للمفيد ص 324.

وهذا مستدرك من وجوه: رد شيخ الإسلام عليهم من تسعة وجوه.. منها: أنّ كون آيات الأنبياء مساوية في الحدّ1 والحقيقة [لسحر] 2 السحرة، أمرٌ معلوم الفساد بالاضطرار من دين الرسل. الثاني: أنّ هذا من أعظم القدح في الأنبياء، [إذ] 3 كانت آياتهم من جنس سحر السحرة، وكهانة الكهان. الثالث: أنّه على هذا التقدير لا [يبقى] 4 دلالة؛ فإنّ الدليل ما يستلزم المدلول، ويختصّ به. فإذا كان مشتركاً بينه وبين غيره، لم يبق دليلاً. فهؤلاء قدحوا في آيات الأنبياء، ولم يذكروا دليلاً على صدقهم. الرابع: أنه على هذا التقدير يمكن الساحر دعوى النبوة. وقوله: أنه عند ذلك يسلبه الله القدرة على السحر، أو يأتي بمن يعارضه5: دعوى مجردة؛ فإنّ المنازع يقول: [لا نسلم] 6 أنه إذا ادعى النبوة فلا بدّ أن يفعل الله ذلك، لا سيما على أصله؛ وهو: أنّ الله يجوز أن يفعل كل مقدور7، وهذا مقدور للرب فيجوز أن يفعله. وادعى أن ما يخرق العادة من الأمور

_ 1 الحدّ: قول دالّ على ماهية الشيء. التعريفات ص 112. 2 في ((م)) ، و ((ط)) : بسحر. 3 في ((م)) ، و ((ط)) : إذا. 4 في ((م)) ، و ((ط)) : تبقى. 5 انظر البيان للباقلاني ص 94-95. 6 في ((خ)) : يسلم. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 7 انظر: البيان للباقلاني ص81-82، 88-90. والتمهيد للباقلاني ص 317-322، 385-386. والإرشاد للجويني ص 319، 322، 326. والاقتصاد للغزالي ص 116-118. وقواعد العقائد له ص 61. والمواقف للإيجي ص 328-331.

الطبيعية، والطلسمات1، هي كالسحر. فقال: ولأجل ذلك لم تلتبس آيات الرسل بما يظهر من جذب حجر المغناطيس2، وما يوجد ويكون عند كتب الطلسمات3. قال: وذلك أنّه لو ابتدأ نبيّ بإظهار حجر المغناطيس، لوجب أن يكون ذلك آية له. ولو أنّ أحداً أخذ هذا الحجر، وخرج إلى بعض البلاد، وادّعى أنّه آية له عند من لم يره، ولم يسمع به، لوجب أن ينقضه الله عليه بوجهين. أحدهما: أن يؤثر دواعي خلق من البشر إلى حمل جنس تلك الحجارة إلى ذلك البلد. وكذلك سبيل الزناد الذي يقدح النار، وتعرفه العرب4. وكذلك سبيل الطلسمات التي يقال أنها تنفي الذباب، والبقّ، والحيّات5.

_ 1 الطلسم: لفظ يوناني. وهو في علم السحر خطوط وأعداد يزعم كاتبها أنه يربط بها روحانيات الكواكب العلوية بالطبائع السفلية، لجلب محبوب، أو دفع أذى. انظر المعجم الوسيط / مادة طلسم 2/568. 2 حجر المغناطيس: هو حجر له خاصيّة جذب الحديد ومعادن أخرى؛ كالكوبالت، والكروم، والنيكل. وهذا الجسم يوجد بكثرة في بلاد السويد، والنورفيج، وأواسط تركيا. وإذا عُلّق المغناطيس تعليقاً حُرّاً فإنّه يأخذ اتجاهاً ثابتاً دائماً نحو الشمال. انظر: الموسوعة العربية الميسرة 1726. ودائرة معارف القرن العشرين 9/282. 3 انظر البيان للباقلاني ص 70. 4 الزند: العود الذي يقدح به النار، وهو الأعلى. والزندة: السفلى، فيها ثقب، وهي الأنثى. فإذا اجتمعا قيل زندان، ولم يقل زندتان. انظر: الصحاح 2/481. والقاموس 364. والمصباح المنير 256. 5 قال ابن حزم رحمه الله: "وأما السحر فإنه ضروب، منه ما هو من قبل الكواكب؛ كالطابع المنقوش فيه صورة عقرب في وقت كون القمر في العقرب، فينفع إمساكه من لدغة العقرب. ومن هذا الباب كانت الطلسمات، وليست إحالة طبيعة، ولا قلب عين، ولكنها قوى ركبها الله عز وجل مدافعة لقوى أخر؛ كدفع الحرّ للبرد، ودفع البرد للحرّ؛ وكقتل القمر للدابة الدبرة إذا لاقى الدبرة ضوءه إذا كانت دبرتها مكشوفة للقمر. ولا يمكن دفع الطلسمات لأننا قد شاهدنا بأنفسنا آثارها ظاهرة إلى الآن من قرى لا تدخلها جرادة، ولا يقع فيه برد ... ". إلى أن قال: "ومنه ما يكون بالخاصة؛ كالحجر الجاذب للحديد، وما أشبه ذلك. ومنه ما يكون لطف يد..". الفصل في الملل والأهواء والنحل 5/4.

والوجه الآخر: أن لا يفعل الله عند ذلك ما كان يفعله من قبل1، فيقال: هذه دعوى مجردة. ومما يوضح ذلك: الباقلاني جعل حجر المغناطيس والطلسمات من جنس معجزات الأنبياء.. والرد عليه الوجه الخامس: وهو أن جعل قدح الزناد، وجذب حجر المغناطيس، والطلسمات من جنس معجزات الأنبياء، وأنه لو بعث نبيّ ابتداء، وجعل ذلك آية له، جاز ذلك: غلطٌ عظيمٌ، وعدم علم بقدر معجزات الأنبياء وآياتهم. وهذا إنما أتاهم حيث جعلوا جنس الخارق هو الآية2؛ كما فعلت المعتزلة. وأولئك3 كذبوا بوجود ذلك لغير الأنبياء، وهؤلاء4 ما أمكنهم تكذيب ذلك؛ لدلالة الشرع، والأخبار المتواترة، والعيان على وجود حوادث [من هذا النوع] 5، فجعلوا [الفرق] 6 افتراق الدعوى، والاستدلال، والتحدي [دون الخارق] 7. ومعلومٌ أن ما ليس بدليل

_ 1 انظر البيان للباقلاني ص 98-100. وقال بعد ذلك: "فلو ادّعى بعضها مدّع لوفّر الله سبحانه دواعي خلق من عباده العالمين بها على معارضة ذلك الرجل، وإظهار مثل قوله". 2 أي أنهم حصروا المعجزة في الخارق. 3 يقصد المعتزلة. انظر المغني في أبواب التوحيد والعدل 15/189. 4 يقصد الأشاعرة. انظر الإرشاد للجويني ص 319. 5 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 6 في ((خ)) : الفراق. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 7 في ((خ)) : والخارق. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

لا يصير دليلاً بدعوى المستدلّ أنّه دليل. الذين ادعوا النبوة ظهرت لهم خوارق ولم يعارضهم أحد وقد بسط الكلام في ذلك، وجوز أن [تظهر] 1 المعجزات على يد كاذب2، إذا خلق الله مثلها على يد من يعارضه؛ فعمدته سلامتها من المعارضة بالمثل، مع أن المثل عنده موجود، وآيات الأنبياء لها أمثال كثيرة لغير الأنبياء، لكن يقول3 إنّ من ادّعى الإتيان؛ فإما أن لا يظهرها الله على يديه، وإما أن [يُقيّض] 4 من يعارضه بمثلها. هذا عمدة القوم، وليس فرقاً حقيقياً بين النبيّ والساحر، وإنّما هو مجرّد دعوى. وهذا يظهر ب الوجه السادس: وهو أنّ من الناس من ادّعى النبوة5، وكان كاذباً، وظهرت على يده بعض هذه الخوارق، فلم يُمنع منها، ولم يعارضه أحدٌ، بل عُرف أنّ هذا الذي أتى به ليس من آيات الأنبياء، وعُرف كذبه بطرق متعددة؛ كما في قصة الأسود العنسي، ومسيلمة الكذاب، [والحارث] 6 الدمشقي، وبابا الرومي، وغير هؤلاء7 ممّن ادعى النبوة. فقولهم: إنّ الكذاب لا يأتي بمثل هذا الجنس، ليس كما ادعوه8.

_ 1 في ((خ)) : يظهر. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 انظر: البيان للباقلاني ص47-48، 91، 94. والإرشاد للجويني ص319، 328. 3 انظر: البيان للباقلاني ص 94-97. 4 في ((ط)) فقط: يقبض. 5 مثل مسيلمة الكذاب. 6 في ((م)) ، و ((ط)) : والحارس. 7 وكلّ هؤلاء سبق التعريف بهم. 8 قال شيخ الإسلام في معرض الردّ عليهم في الجواب الصحيح: "أنت تُجوّز انتقاض العادة، وليس لانتقاضها عندك سبب تختصّ به، ولا حكمة انتقضت لأجلها، بل لا فرق عندك بين انتقاضها للأنبياء والأولياء والسحرة وغير ذلك. ولهذا قلتم: ليس بين معجزات الأنبياء، وبين كرامات الأولياء والسحرة فرق، إلا مجرّد اقتران دعوى النبوة والتحدي بالمعارضة، مع عدم المعارضة، مع أن التحدي بالمعارضة قد يقع من المشرك، بل ومن الساحر، فلم يثبتوا فرقاً يعود إلى جنس الخوارق المفعولة، ولا إلى قصد الفاعل والخالق، ولا قدرته، ولا حكمته". الجواب الصحيح 6/401.

الباقلاني منع من ظهور الخارق على يد الكذاب الوجه السابع: أنه إنما أوجب أن لا يظهر الله الخوارق على يد الكذاب؛ لأنّ ذلك يُفضي إلى عجز الربّ. وهذه عمدة الأشعري في أظهر قولَيْه1، وهي المشهورة عند قدمائهم2، وهي التي سلكها القاضي أبو يعلى، ونحوه. قال القاضي أبو بكر: فإن قال قائلٌ من القدرية3: [فلم] 4 لا يجوز أن يظهر المعجزات على يد مدّعي النبوّة ليُلبّس بذلك على العباد، ويضل به عن الدين، وأنتم تجوّزون خلقه الكفر في قلوب الكفار، وإضلالهم. [فما] 5 الفصل بين إضلالهم بهذا، وبين إضلالهم بإظهار المعجزات على يد الكاذبين؟ قال: فيُقال لمن سأل عن هذا من القدرية: الفصل بين الأمرين ظاهرٌ معلومٌ، وقد نصّ القرآن والأخبار بأنه يضلّ ويهدي6، ويختم على القلوب، والأسماع، والأبصار7.

_ 1 انظر: المواقف في علم الكلام للإيجي ص 342. 2 انظر: الإرشاد للجويني ص 327. وانظر أيضاً الجواب الصحيح 6/397، 398. 3 انظر: شرح الأصول الخمسة لعبد الجبار ص 564، 571. وذكر الجويني اعتراض المعتزلة هذا عليهم في الإرشاد ص 326. 4 في ((ط)) فقط: لم. 5 في ((م)) ، و ((ط)) : في. 6 قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} . سورة الرعد، آية 27. 7 قال تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} . سورة البقرة، الآية 7.

فأما مطالبتهم بالفرق بين إضلال العباد بهذه الضروب1 من الأفعال، وبين إضلالهم بإظهار المعجزات على أيدي الكذابين؟ فجوابه: أنّا لم نحل إضلالهم بهذا الضرب لأنه إضلال عن الدين، أو لقبحه من الله لو وقع، أو لاستحقاقه الذمّ عليه - تعالى عن ذلك، أو لكونه ظالماً لهم بالتكليف مع هذا الفعل. كلّ ذلك باطلٌ محالٌ من تمويههم، وإنما أحلناه لأنه يُوجب عجز القديم عن تمييز الصادق من الكاذب. وتعريفنا الفرق بين النبي والمتنبي من جهة الدليل؛ إذ لا دليل [بقول] 2 كلّ أحدٍ أثبت النبوة على نبوة الرسل وصدقهم، إلا [ظهوراً لأعلام] 3 المعجزة على أيديهم، أو خبرُ من ظهرت المعجزة على يده عن نبوّة آخرَ مُرسَلٍ. فهذا إجماع لا خلاف فيه؛ فلو أظهر الله على يد المتنبي الكاذب ذلك، لبطلت دلائل النبوة، وخرجت المعجزات عن كونها دلالة على صدق الرسول، ولوجب لذلك عجز القديم عن الدلالة على صدقهم. ولمّا لم يجز عجزه، وارتفاع قدرته عن بعض المقدورات، لم يجز لذلك ظهور المعجزات على أيدي الكذابين، بخلاف خلق الكفر في قلوب الكافرين4. متأخروا الأشاعرة سلكوا طريق الضرورة في معرفة صدق النبي قلت: هذا عمدة القوم. والمتأخرون عرفوا ضعف هذا، فلم يسلكوه؛ كأبي المعالي5، والرازي، وغيرهما. بل سلكوا الجواب الآخر: وهو أنّ

_ 1 الضرب: المثل. وضرب المثل: هو ذكر شيء أثره يظهر في غيره. (انظر: القاموس المحيط ص 138. ومفردات ألفاظ القرآن ص 506) . 2 في ((م)) ، و ((ط)) : في قول. 3 في ((م)) ، و ((ط)) : ظهور أعلام. 4 هذا الكلام لا يوجد في القسم المطبوع من البيان. وهو ناقص من آخره. 5 انظر: الإرشاد للجويني ص 312، 325.

العلم بالصدق عند المعجز يحصل ضرورة، فهو علم ضروري1. [وبيّن] 2 ضعف هذا الجواب، مع أنه يُحتجّ به، وقال: فهذا هذا من وجوه: أحدها: أن يقال: إن كان الأمر كما زعمتم، فإنما يلزم العجز إذا كان خلق الدليل الدالّ على صدقهم جنسه لا يدلّ، بل جنسه يقع مع عدم النبوّة، ولم يبق عندكم جنسٌ من الأدلة [يختصّ] 3 النبوة. فلِمَ قلتم: إنّ تصديقهم والحال هذه ممكن؟ ولا ينفعكم هنا الاستدلال بالإجماع ونحوه من الأدلة السمعية؛ لأنّ كلامكم مع منكري النبوات. فيجب أن [تقيموا] 4 عليهم كون المعجزات دليلاً على صدق النبي. وأما من أقر بنبوّتهم بطريقٍ غير طريقكم، فإنّه لا يحتاج إلى كلامكم. فإذا قال لكم منكروا النبوّة: لا نسلّم إمكان طريق يدل على صدقهم، لم يكن معكم ما يدلّ على ذلك. وقد أورد هذا السؤال، وأجاب عنه: بأنّه يمكنه تصديقهم بالقول، والمعجزات تقوم مقام التصديق بالقول، بل التصديق بالفعل أوكد. وضرب المثل بمدّعي الوكالة، إذا قال: قُمْ، أو اقعد، ففعل ذلك عند استشهاد وكيله؛ فإنّ العقلاء كلّهم يعلمون أنّه أقام تلك الأفعال مقام القول. قلت: وهذا يعود إلى الاحتجاج بالطريقة الثانية؛ وهي العلم بالتصديق ضرورة، فلا حاجة إلى طريقة المعجزات.

_ 1 انظر: الإرشاد للجويني ص 312، 336. 2 في ((خ)) : وبيان. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 في ((م)) ، و ((ط)) : يخصّ. 4 في ((خ)) : يقيموا. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

الثاني: أنّه يُمكن أن يخلق علماً ضرورياً بصدقهم. وقد سلّم القاضي أبو بكر1 ذلك، لكن قال: إذا اضطررنا إلى العلم بصدق مدّعي النبوة، وأنّه أرسله إلينا، كان في ضمن هذا العلم اضطراره لنا إلى العلم بذاته، وإلى أنه قد أرسل مدعي النبوة. وإذا علمنا ذلك اضطراراً، لم يكن للتكليف بالعلم بصدقه وجهاً، وخرجنا بذلك عن أن نكون مكلفين [للعلم] 2 بالدين. وهذا كلامٌ يؤدي إلى خروجنا عن حدّ المحنة والتكليف. فيُقال له: إذا حصل العلم الضروريّ بوجود الخالق [وبصدق] 3 رسوله، كان التكليف بالإقرار بالصانع، وعبادته وحده لا شريك له، وبتصديق رسله، وطاعة أمره. وهذا هو الذي أَمَرَتْ به الرسل؛ أَمَرَتْ الخلق أن يعبدوا الله وحده، وأن يُطيعوا رسله، ولم يأمروا جميع الخلق بأن يكتسبوا علماً نظرياً بوجود الخالق، وصدق رسله. لكن من جحد الحق أمروه بالإقرار به، وأقاموا الحجة عليه، وبيّنوا معاندته، وأنّه جاحدٌ للحقّ الذي يعرفه. وكذلك الرسول كانوا يعلمون أنّه صادق ويكذبونه. فليُتدبّر هذا الموضع؛ فإنه موضعٌ عظيم. حكمة الله تمنع ظهور المعجزات على يد الكذاب الوجه الثالث: أن يقال: نحن نُسلّم أنّ المعجزات تدلّ على الصدق، وأنّه لا يجوز إظهارها على يد الكاذب، لكن هو4 لأنّ الله [ميّزه] 5 عن ذلك، وأنّ حكمته تمنع ذلك، ولا يجوز عليه كلّ فعل ممكن، وأنتم مع

_ 1 الباقلاني. 2 في ((م)) ، و ((ط)) : بالعلم. 3 في ((خ)) : وتصدق. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 كذا في ((خ)) ، و ((م)) ، و ((ط)) . 5 في ((م)) ، و ((ط)) : منزه.

تجويزكم عليه كلّ ممكن1، يلزمكم تجويز خلق المعجزة على يد الكاذب، فما علم بالعقل والإجماع من امتناع ظهورها على يد الكاذب يدل على فساد أصلكم. الرد على من قال لا دليل على صدق الأنبياء إلا المعجزات الوجه الرابع: أن يقال: لِمَ قلتم أنّه لا دليل على صدقهم إلا المعجزات2، وما ذكرتم من الإجماع على ذلك لا يصحّ الاستدلال به لوجهين: أحدهما: أنه لا إجماع في ذلك، بل كثيٌر من الطوائف يقولون: إنّ صدقهم بغير المعجزات. الثاني: إنّه لا يصحّ الاحتجاج بالإجماع في ذلك؛ فإنّ الإجماع إنّما يثبت بعد ثبوت النبوة، والمقدمات التي يُعلم بها النبوة لا يُحتج عليها بالإجماع، وقولكم: لا دليل سوى المعجز: مقدمة ممنوعة. وذُكر عن الأشعري أنّه ذَكَرَ جواباً آخر، فقال: وأيضاً فإنّ قول القائل: ما أنكرتم من جواز إظهار المعجزات على أيدي الكذابين: قولٌ متناقضٌ، والله على كل شيء قدير. ولكن ما طالب السائل بإجازته محالٌ، لا تصحّ القدرة عليه، ولا العجز عنه؛ لأنّه بمنزلة كونه أظهر المعجزات على أيديهم؛ فإنّه أوجب أنهم صادقون؛ لأنّ المعجز دليلٌ على الصدق، ومتضمنٌ له. وقوله: مع ذلك أنهم كاذبون: نقضٌ لقوله: أنهم صادقون قد ظهرت المعجزات على أيديهم. فوجب إحالة هذه المطالبة، وصار هذا بمثابة قول

_ 1 انظر: البيان للباقلاني ص81-82، 88-90. والإرشاد للجويني ص319، 322، 326. وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 152-153،155، 268، 272-275. 2 انظر: البيان للباقلاني ص 38. والإرشاد للجويني ص 331.

من قال: ما أنكرتم من صحة1 ظهور الأفعال المحكمة الدالّة على علم فاعلها، والمتضمّنة لذلك من جهة الدليل، من الجاهل بها في أنّه قولٌ باطلٌ متناقضٌ، فيجب إذا كان الأمر كذلك استحالة ظهور المعجزات على يد الكاذبين، واستحالة ثبوت قدرة قادر عليه. وكيف يصح على هذا الجواب أن يقال: ما أنكرتم [وزعمتم أنّه] 2 من فعل المحال الذي لا يصحّ حدوثه، وتناول القدرة له [هو من قبيل الجائز] 3 قياساً على صحّة خلق الكفر، وضروب الضلال التي يصحّ حدوثها، وتناول القدرة لها. من أصول الأشاعرة تجويزهم على الله فعل كل ممكن وعدم تنزيهه عن شيء.. ويلزمهم على ذلك خلق المعجزة على يد الكذاب قلت: هذا كلامٌ صحيحٌ إذا عُلم أنّها دليل الصدق، يستحيل وجوده بدون الصدق، والممتنع غير مقدور، فيمتنع أن يظهر على أيدي الكاذبين ما يدل على صدقهم. لكن المطالب يقول: كيف يستقيم على أصلكم [أن يكون] 4 ذلك [دليل] 5 الصدق، وهو أمرٌ حادثٌ مقدور، وكلّ مقدور يصح عندكم أن يفعله الله، ولو كان فيه من الفساد ما كان؛ فإنّه عندكم لا ينزه عن فعل ممكن، ولا يقبح منه فعل؛ فحينئذ إذا خلق على يد الكاذب مثل هذه الخوارق، لم يكن ممتنعاً على أصلكم، وهي لا تدلّ على الصدق البتة على أصلكم، ويلزمكم إذا لم يكن دليل إلهي، ألاَّ يكون في المقدور دليلٌ على صدق مدعي النبوّة، فيلزم أنّ الربّ سبحانه لا يصدق أحداً ادّعى النبوّة6.

_ 1 كذا في ((خ)) ، و ((م)) ، و ((ط)) . 2 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 3 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو من ((م)) ، و ((ط)) . 4 في ((خ)) : لكن أن يكون. - بزيادة: لكن -. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 6 انظر: الجواب الصحيح 6/393-401. وشرح الأصفهانية 2/621-624. وانظر أيضاً شرح الأصول الخمسة لعبد الجبار المعتزلي ص 571-572.

وإذا قلتم: هذا ممكنٌ، بل واقعٌ، ونحن نعلم صدق الصادق إذا ظهرت هذه الأعلام على يده ضرورةً1. قيل: فهذا يُوجب أنّ الربّ لا يجوز عليه إظهارها على يد كاذب. وهذا فعلٌ من الأفعال هو قادر عليه، وهو سبحانه لا يفعله، بل هو منزّه عنه. فأنتم بين أمرين: إن قلتم: لا يمكنه خلقها على يد الكاذب وكان ظهورها ممتنعاً، فقد قلتم: أنّه لا يقدر على إحداث حادثٍ قد فعل مثله، وهذا تصريحٌ بعجزه. وأنتم قلتم: فليست [بدليل، فلا] 2 يلزم عجزه، فصارت دلالتها مستلزمةً لعجزه على أصلكم. وإن قلتم: يقدر، لكنّه لا يفعل، فهذا حقٌ، وهو ينقض أصلكم. وحقيقة الأمر: أنّ نفس ما يدلّ على صدق [الصادق] 3 بمجموعه، امتنع أن يحصل للكاذب، وحصوله له ممتنعٌ غير مقدور. الله قادر على خلق الخوارق على يد الكذاب ولا يفعل لحكمة وأمّا خلق مثل تلك الخارقة على يد الكاذب، فهو ممكنٌ، والله سبحانه وتعالى قادر عليه، لكنه لا يفعله لحكمته4؛ كما أنّه سبحانه يمتنع عليه أن يكذب، أو يظلم. الأشاعرة ينفون حكمة الله تعالى والمعجزُ تصديقٌ، وتصديق الكاذب هو منزهٌ عنه، والدالّ على الصدق قَصْدُ الربّ تصديق الصادق. وهذا القصد يمتنع حصوله للكاذب؛ فيمتنع جعل من ليس برسولٍ رسولاً، وجعل الكاذبِ صادقاً، ويمتنع من الرب

_ 2 ما بين المعقوفتين رسم في ((خ)) هكذا: بدل ليلا. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 ما بين المعقوفتين ملحق في هامش ((خ)) . 4 قال ابن حزم رحمه الله: "والله تعالى قادر على إظهار الآيات على أيدي الكذابين المدّعين للنبوّة، لكنّه تعالى لا يفعل، كما لا يفعل ما لا يُريد أن يفعله من سائر ما هو قادر عليه". الفصل في الملل والأهواء والنحل 5/2.

قصد المحال، وهو غير مقدور، وهو إذا صدّق الصادق بفعله علم بالاضطرار والدليل أنّه صدّقه، وهذا العلم يمتنع حصوله للكاذب. واستشهادكم بالعلم: هو من هذا الباب؛ فأنتم تقولون إنّ الربّ لا يخلق شيئاً لشيءٍ1. وحينئذٍ: فلا يكون قاصداً لما في المخلوقات من الإحكام،

_ 1 وهي مسألة الحكمة وتعليل أفعال الله التي نفاها الأشاعرة. انظر: الإرشاد للجويني ص 268. ونهاية الإقدام للشهرستاني ص 297. والمواقف في علم الكلام للإيجي ص 331-332. ومحصّل أفكار المتقدمين والمتأخرين للرازي ص 205. وغاية المرام للآمدي ص 224. وقد ناقشهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في نفيهم تعليل الله، وتجويزهم على الله كلّ فعل، وردّ عليهم، فقال رحمه الله: "حيث قيل لهم: على أصلكم: لا يفعل الله شيئاً لأجل شيء، وحينئذٍ فلم يأت بالآيات الخارقة للعادة لأجل تصديق الرسول، ولا عاقب هؤلاء لتكذيبهم له، ولا أنجى هؤلاء ونصرهم لإيمانهم به، إذ كان لا يفعل شيئاً عندكم ... وإذا جوّزتم على الربّ كلّ فعل، جاز أن يظهر الخوارق على يد الكاذب. ويُقال لهم أيضاً: أنتم لا تعلمون ما يفعل الربّ إلا بعادة، أو خبر الأنبياء، فقبل العلم بصدق النبيّ لا يعلم شيء بخبره. والعادة إنما تكون فيما يتكرر؛ كطلوع الشمس، ونزول المطر، ونحو ذلك. والإتيان بالخارق للتصديق ليس معتاداً.....".. إلى أن قال - رحمه الله - عنهم: "ويُجوّزون عليه فعل كلّ شيء ممكن، لا يُنزّهونه عن فعل سيئ الأفعال، وليس عندهم قبيحاً وظُلماً إلا ما كان ممتنعاً؛ مثل جعل الشيء موجوداً معدوماً، وجعل الجسم من مكانين. ولهذا ذكر ذلك مخالفوهم حجة إبطال مذهبهم، وقالوا: قولهم يقدح في العلوم الضرورية، ويسدّ باب العلم بصدق الرسل. قالوا: إذا جوّزتم أن يفعل كلّ شيء، فجوّزوا أن يكون الجبال انقلبت ياقوتاً، والبحار لبناً، ونحو ذلك ممّا يُعلم بالضرورة بطلانه. وجوّزوا أن يخلق المعجزات على يدي الكذابين ... ". الجواب الصحيح6/394-395. وناقش - رحمه الله - حجج الرازي على نفي الحكمة في أفعال العباد، وردّ عليها، وفنّدها في شرح الأصفهانية 2/357-379. وستأتي هذه المسألة ص 499-503 من هذا الكتاب.

فلا يكون الإحكام دالا على العلم على أصلكم؛ فإنّ الإحكام: إنّما هو جعل الشيء محصّلاً للمطلوب؛ بحيث يجعل لأجل ذلك المطلوب. وهذا عندهم لا يجوز؛ فإثباته علمه، وتصديق رسله مشروطٌ بأن يفعل شيئاً لشيءٍ. وهذا عندكم لا يجوز، فلهذا يُقال: إنّكم متناقضون، والله سبحانه وتعالى أعلم. حقيقة المعجزة على قول الأشاعرة الوجه الثامن: أنّ حقيقة الأمر على قول هؤلاء الذين جعلوا المعجزة: الخارق، مع التحدي: أنّ المعجز في الحقيقة ليس إلا منع الناس من المعارضة بالمثل؛ سواءٌ كان المعجز في نفسه خارقاً، أو غير خارق1. وكثيرٌ [ممّا] 2 يأتي به [الساحر] 3 والكاهن أمرٌ معتادٌ لهم. وهم يجوّزون أن يكون آيةً للنبيّ. وإذا كان آيةً، منع الله الساحر والكاهن من مثل ما كان يفعل، أو قيّض له من يعارضه. وقالوا: هذا أبلغ؛ فإنه منع المعتاد. وكذلك عندهم [أحد] 4 نَوْعَي المعجزات [منعهم] 5 من الأفعال المعتادة. وهو مأخذ من يقول بالصرفة6.

_ 1 انظر: البيان للباقلاني ص 16-20، 72-73. والإرشاد للجويني ص 328-331. 2 في ((ط)) فقط: ما. 3 في ((ط)) فقط: ساحر. 4 في ((م)) ، و ((ط)) : إحدى. 5 في ((ط)) فقط: فيهم. 6 الصرفة: هي أنّ الله تعالى صرف الخلق عن الإتيان بمثل القرآن الكريم. وهو قولٌ قال به بعض أهل الكلام؛ كالرازي، وغيره. والصواب أنّ القرآن بنفسه معجز. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ومن أضعف الأقوال: قول من يقول من أهل الكلام إنّه معجز بصرف الدواعي مع تمام الموجب لها، أو بسلب القدرة التامة، أو بسلبهم القدرة المعتادة في مثله سلباً عاماً، مثل قوله تعالى لزكريا: {آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} [سورة مريم، الآية 10] . وهو أنّ الله صرف قلوب الأمم عن معارضته، مع قيام المقتضي التامّ؛ فإنّ هذا يُقال على سبيل التقدير والتنزيل.... وإلا فالصواب المقطوع به: أنّ الخلق كلّهم عاجزون عن معارضته، لا يقدرون على ذلك، ولا يقدر محمد صلى الله عليه وسلم نفسه من تلقاء نفسه على أن يبدل سورة من القرآن، بل يظهر الفرق بين القرآن وبين سائر كلامه لكلّ من له أدنى تدبّر؛ كما قد أخبر الله به في قوله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} . [سورة الإسراء، الآية 88] ... ) . الجواب الصحيح 5/429-431. وانظر: المصدر نفسه 5/420-431. والمغني في أبواب التوحيد والعدل لعبد الجبار 16/264. وشرح الأصول الخمسة له ص 587-590. ومقالات الإسلاميين للأشعري 1/296. وأعلام النبوة للماوردي ص 221-222. وإعجاز القرآن للباقلاني ص 77-79. والمواقف في علم الكلام للإيجي ص 352. ومناهل العرفان للزرقاني ص 310-315.

وإذا كان كذلك، جاز أن يكون كلّ أمرٍ؛ كالأكل، والشرب، والقيام، والقعود معجزةً إذا منعهم أن يفعلوا كفعله، وحينئذٍ: فلا معنى لكونها خارقاً، ولا لاختصاص الربّ بالقدرة عليها، بل الاعتبار بمجرّد عدم المعارضة. وهم يُقرّون بخلاف ذلك، والله أعلم. الوجه التاسع: أنّه إذا كانت المعجزة هي مجموع دعوى الرسالة، مع التحدي، فلا حاجة إلى كونه خارقاً؛ كما تقدم1، ويجب إذا تحدّى بالمثل أن يقول: فليأت بمثل القرآن من يدّعي النبوّة؛ فإنّ هذا هو المعجز عندهم، وإلاَّ القرآن مجرّداً ليس بمعجز؛ فلا يُطلب مثل القرآن إلاَّ ممّن يدّعي النبوّة2؛ كما في الساحر والكاهن إذا ادّعى النبوة سلبه الله ذلك، أو

_ 1 انظر: ص.201 من هذا الكتاب 2 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "..أنّ مسيلمة ادّعى النبوّة، واتبعه قومه على ذلك..... أنه كان له مخاريق، وأنّه ظهر كذبه من وجوه متعددة، وأنّ أبا بكر الصديق والصحابة قاتلوه على كذبه في دعوى النبوة، وقاتلوا قومه على ردّتهم عن الإسلام، واتباعهم نبيّاً كاذباً، لم يُقاتلوهم على كونهم لم يُؤدّوا الزكاة لأبي بكر. وكذلك الأسود العنسيّ الذي ادّعى النبوّة في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقتل في حياته؛ كلّ منهما عُرف كذبه بتكذيب النبيّ الصادق والمصدوق لهما، وممّا ظهر من دلائل كذبهما؛ مثل الأخبار الكاذبة التي تناقض النبوّة، ومثل الإيمان بقرآن مختلف يعلم من سمعه أنه لم يتكلم الله به، وإنما هو تصنيف الآدميين؛ كما قال أبو بكر الصديق لهم لما تابوا من الردّة وعادوا إلى الإسلام: أسمعوني قرآن مسيلمة. فلما أسمعوه إياه قال: ويحكم أين يُذهب بعقولكم! إنّ هذا كلام لم يخرج....) . الجواب الصحيح 6/476.

قيّض له من يعارضه. وإذا لم يدّع النبوّة جاز أن يظهر على يده مثل ما يظهر على يد النبيّ. فكذلك يلزمهم مثل هذا في القرآن، وسائر المعجزات. والله أعلم.

فصل في أن الرسول لا بد أن يبين أصول الدين

فصل في أن الرسول لا بُدّ أن يبيّن أصول الدين1 وهي البراهين الدالّة على أنّ ما يقوله حقّ؛ من الخبر، والأمر؛ فلا بُدّ أن يكون قد بيّن الدلائل على صدقه في كلّ ما أخبر، ووجوب طاعته في كلّ ما أوجب وأمر. ومن أعظم أصول الضلال: الإعراض عن بيان الرسول للأدلة والآيات والبراهين والحجج؛ فإنّ المعرضين عن هذا؛ إمّا أن يُصدّقوه، ويقبلوا قوله، ويؤمنوا به بلا دليلٍ أصلاً ولا علم؛ وإمّا أن يستدلّوا على ذلك بغير أدلته فإن لم يكونوا عالمين بصدقه: فهم ممّن يُقال له في قبره: ما قولك في هذا الرجل الذي بُعث فيكم؟ فأمّا المؤمن أو الموقن، فيقول: هو عبد الله ورسوله جاءنا بالبيّنات والهدى، فآمنّا به واتبعناه. وأمّا المنافق أو المرتاب، فيقول: هاه، هاه، لا أدري، سمعتُ النّاس يقولون شيئاً، فقلتُهُ. فيُضرب بمِرْزَبَّةٍ 2 من حديدٍ، فيصيح صيحةً يسمعها كلّ

_ (1) للمؤلف رحمه الله رسالة باسم: "معارج الوصول إلى أنّ أصول الدين وفروعه قد.بيّنها الرسول صلى الله عليه وسلم". نشر مكتبة ابن الجوزي. وانظر: درء تعارض العقل والنقل للمؤلف 1/22-27 وما بعدها. ومجموع الفتاوى 3/293، 326. (2) المِرْزَبَّة، والمِرْزَبَة - بالتشديد، والتخفيف -: عُصَيّة من حديد. القاموس المحيط للفيروزآبادي ص 114 (رزب) .

شيء، إلا الثقلين12. وإن استدلّ على ذلك بغير الآيات والأدلة التي دعا بها النّاس، فهو مع كونه مبتدعاً3، لا بُدّ أن يُخطئ ويُضلّ. فإن ظنّ الظانّ أنّه بأدلة4 وبراهين خارجة عمّا جاء به تدلّ5 على ما جاء به، فهو6 من جنس ظنّه أنّه يأتي بعبادات غير ما شرعه تُوصل إلى مقصوده7.

_ (1) الثقلان: الجنّ والإنس. القاموس المحيط للفيروزآبادي ص 1256 (ث ق ل) . (2) معنى حديث طويل أخرجه البخاري في صحيحه 1/461، كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر، ومسلم في صحيحه 4/2200-2201، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، وإثبات عذاب القبر، والتعوّذ منه. كلاهما أخرجاه بألفاظ مقاربة لما ذكره المؤلف. (3) الابتداع: هو شرع ما لم يأذن الله به، ولم يكن عليه أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه. وهي ما عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "كل عمل ليس عليه أمرنا.. " الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 6/2675، كتاب الاعتصام، باب: وكذلك جعلناكم أمة وسطا. ومسلم في صحيحه 3/1343، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة وردّ محدثات الأمور. وانظر: معارج القبول للحكمي3/1228) . وعرّف الشاطبي البدعة بقوله: "عبارة عن طريقة في الدين مخترعة، تُضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبّد لله سبحانه". الاعتصام 1/37. والمبتدع: هو الذي وقعت منه البدعة. وهو نوعان: مبتدع اعتقاديّ، ومبتدع عمليّ. والمبتدع المقصود هاهنا هو صاحب البدعة الاعتقادية: الذي يعتقد خلاف ما عليه النبيّ عليه السلام؛ سواء صاحب الاعتقاد عمل، أم لم يُصاحب.. وانظر: الاستقامة لابن تيمية 1/5. (4) كذا في ((خ)) ، و ((م)) ، ولعلّ المراد: أنّه أتى بأدلة (1) في ((خ)) يدلّ، وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . (2) ليست في ((خ)) . وهي في ((م)) ، و ((ط)) . (3) قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وكلّ من دعا إلى شيء من الدين بلا أصل من كتاب الله وسنة رسوله، فقد دعا إلى بدعة وضلالة، والإنسان في نظره مع نفسه ومناظرته لغيره إذا اعتصم بالكتاب والسنة هداه الله إلى صراطه المستقيم؛ فإنّ الشريعة مثل سفينة نوح عليه السلام، من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق". درء تعارض العقل والنقل 1/234.

"وهذا الظنّ وقع فيه طوائف من النظّار الغالطين1، أصحاب الاستدلال والاعتبار والنظر؛ كما وقع في الظنّ الأول طوائف من العبّاد الغالطين2، أصحاب الإرادة والمحبّة والزهد"3. وقوله صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم الجمعة: "خيرُ الكلامِ كلامُ اللهِ، وخيرُ الهَدْيِ هديُ محمّد، وشرُّ الأمورِ مُحْدَثاتُها، وكلُّ بدعةٍ ضلالة"4 يتناول هذا وهذا. وقد أرى الله تعالى عبادَه الآيات في الآفاق، وفي أنفسهم، حتى تبيّن5 لهم أنّ ما6 قاله فهو حقّ؛ فإنّ أرباب العبادة، والمحبّة، والإرادة، والزهد الذين سلكوا غير ما أُمروا به، ضلّوا كما ضلّت النصارى. ومبتدعة (4) مثل المتكلمين. (5) مثل المتصوّفة. (6) العبارة في ((خ)) وردت هكذا: "وهذا الظنّ وقع فيه طوائف من العبّاد الغالطين أصحاب الإرادة والمحبة والزهد؛ كما وقع في الظنّ الأول طوائف من النظّار الغالطين أصحاب الاستدلال والاعتبار والنظر". ولعلّ الصواب ما أُثبت نقلاً عن ((م)) ، و ((ط)) ؛ لأنّ الظنّ المُراد في قوله: (وهذا الظنّ..) هو ظنّ المتكلّمين وأمثالهم ممّن أتوا ببراهين وأدلة خارجة عمّا جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

_ (1) الحديث أخرجه أحمد في المسند 3/310، 371. ومسلم في صحيحه 2/592، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة.. مع اختلاف في الألفاظ. (2) في ((خ)) : يتبيّن، وفي ((م)) ، و ((ط)) : تبيّن. (3) في ((خ)) : أنما، وفي ((م)) ، و ((ط)) : أنّ ما. وهو الصحيح.

هذه الأمة من العبّاد، وأرباب النظر، والاستدلال الذين سلكوا غير دليله وبيانه أيضاً ضلّوا. قال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّيْ هُدَىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدّاْيَ فَلاْ يَضِلُّ وَلاْ يَشْقَىْ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِيْ فَإِنَّ لَهُ مَعِيْشَةً ضَنْكَاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَاْمَةِ أَعْمَىْ قَاْلَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِيْ أَعْمَىْ وَقَدْ كُنْتُ بَصِيْرَاً قَاْلَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاْتُنَاْ فَنَسِيْتَهَاْ وَكَذِلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَىْ} 1. قول الإمام أحمد: أصول الإسلام أربعة وفي الكلام المأثور عن الإمام أحمد: أصول الإسلام أربعة2: دالٌ، ودليل، ومبيِّن، ومُستدِلّ. فالدالّ هو الله، والدليل هو القرآن، والمبيِّن هو الرسول؛ قال الله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاْسِ مَاْ نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 3، والمستدِلّ هم أولوا العلم وأولوا الألباب4 الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم5. وقد ذكره ابن الْمَنِّي6عن أحمد. وهو مذكور في العدّة7 للقاضي أبي يعلى8، وغيرها، إما أنّ أحمد قاله، أو قيل له، فاستحسنه.

_ (4) سورة طه، الآيات 123-126. (5) في كتاب ((العدة في أصول الفقه)) للقاضي أبي يعلى: (قواعد الإسلام أربع) . 3 سورة النحل، جزء من الآية 44.. 4 في العدة: (والمستدلّ أولوا الألباب) .. 5 في العدة: (ولا يُقبل الاستدلال إلا ممّن كانت هذه صفته) .. 6 ابن المني: هو أبو الفتح؛ نصر بن فتيان بن مطر بن المني النهرواني الحنبلي، شيخ الحنابلة. ولد سنة 501هـ. كان ورعاً، عابداً، حسن السمت، على منهج السلف. توفي سنة 583 هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 21/137، 138. والبداية والنهاية 12/350. وذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 1/358. وشذرات الذهب 4/277. 7 انظر: كتاب العدة في أصول الفقه للقاضي أبي يعلى 10/135، تحقيق د/ أحمد بن علي سير المباركي. وانظر: كتاب شرح الكوكب المنير لأبي البقاء الفتوحي1/55. 8 تقدمت ترجمته 175.

أهل الكلام يوجبون النظر ولهذا صار كثير من النظّار يوجبون العلم والنظر والاستدلال1، وينهون عن التقليد، ويقول كثير منهم: إنّ إيمان المقلّد لا يصحّ، أو أنه وإن صحّ، لكنّه عاص بترك الاستدلال، ثمّ النظر2. الاستدلال الفاسد الذي أصله المتكلمون والاستدلال الذي يدعون إليه، ويوجبونه، ويجعلونه أول الواجبات3،

_ 1 وهذا صنيع جمهور المعتزلة والماتريدية والأشعريّة؛ فإنّهم يوجبون العلم والنظر والاستدلال على كلّ أحد، بل يجعلونه أول واجب على المكلّف. انظر: الغنية في أصول الدين لعبد الرحمن النيسابوري ص 55. وشرح الأصول الخمسة لعبد الجبار المعتزلي ص 60-75. والتوحيد للماتريدي ص 135-137. والإرشاد للجويني ص 3. وشرح جوهرة التوحيد للبيجوري ص 38. وشرحها للقاني ص 24-25. 2 قال الصاوي في شرح جوهرة التوحيد - بعد أن ساق في المسئلة ستة أقوال -: "والحقّ الذي عليه المعوّل: أنّه مؤمن عاص بترك النظر، إن كان فيه أهلية النظر".. شرح جوهرة التوحيد للصاوي ص 61. وانظر: أيضاً: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 7/353، 408. ومجموع الفتاوى 20/202. والاستقامة 1/142. وسيأتي ردّ المصنّف رحمه الله عليهم بالتفصيل في هذا الكتاب 392، 393. 3 قال أبو جعفر السمناني عن هذه المسألة: (إنّ هذه المسألة بقيت في مقالة الأشعري من مسائل المعتزلة، وتفرّع عليها أنّ الواجب على كل أحد معرفة الله بالأدلة الدالة عليه، وأنّه لا يكفي التقليد في ذلك ... ) . فتح الباري لابن حجر 13/361. وقد نقلها شيخ الإسلام رحمه الله في درء تعارض العقل والنقل 7/407، 461. ومعتقد السلف في هذه المسألة أنّ أوّل واجب على المكلّف: الشهادتان، لا النظر، ولا القصد إلى النظر، ولا الشكّ؛ كما هي أقوال المتكلمين. فالتوحيد أول ما يدخل به في الإسلام، وآخر ما يخرج به من الدنيا؛ كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنّة" الحديث أخرجه أحمد في مسنده5/233، 347. والحاكم في مستدركه 1/351، وصححه ووافقه الذهبي. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: "فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله" الحديث أخرجه البخاري 2/125، كتاب الزكاة، ومسلم 1/50-51، كتاب الإيمان. فهو أول واجب، وآخر واجب. انظر: درء تعارض العقل والنقل 8/6-7، 21. ومجموع الفتاوى 16/328. وشرح الطحاوية 1/23.

وأصل العلم: هو نظر واستدلال ابتدعوه، ليس هو المشروع؛ لا خبراً، ولا أمراً. وهو استدلال فاسد لا يُوصل إلى العلم؛ فإنّهم جعلوا أصل العلم بالخالق هو الاستدلال على ذلك بحدوث الأجسام1، والاستدلال على

_ 1 لأنّهم قالوا إنّ إثبات الصانع لا يُعرف إلا بالنظر المفضي إلى العلم بإثباته، والعلم بإثبات الصانع لا يمكن إلا بإثبات حدوث العالم، وإثبات حدوث العالم لا يمكن إلا بإثبات حدوث الأجسام؛ لذلك جعلوا أصل العلم بالخالق هو الاستدلال على ذلك بحدوث الأجسام. انظر: الفرقان بين الحق والباطل لابن تيمية ص 96، 98. والرسالة التدمرية له ص 148. ومنهاج السنة النبوية له 1/309-310. ويذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في موضع آخر أنّ الذي أوجب دليل الأعراض وحدوث الأجسام هم متأخرو الأشعريّة؛ كالجوينيّ، فيقول رحمه الله: "وبالجملة: فإنه وإن كان أبو المعالي ونحوه يوجبون هذه الطريقة، فكثير من أئمة الأشعريّة، أو أكثرهم يُخالفونه في ذلك، ولا يُوجبونها، بل إمّا أن يُحرّموها أو يكرهوها أو يبيحوها وغيرها، ويُصرّحون بأنّ معرفة الله تعالى لا تتوقّف على هذه الطريقة، ولا يجب سلوكها. ثمّ هم قسمان؛ قسم يسوقها ويسوق غيرها ويعدّها طريقاً من الطرق، فعلى هذا إذا فسدت لم يضرّهم. والقسم الثاني يذمونها ويعيبونها ويعيبون سلوكها، وينهون عنها؛ إمّا نهي تنزيه، وإما نهي تحريم". نقض التأسيس لابن تيمية 2/15. وهؤلاء الذين يقولون إنّ معرفة الله لا تتوقّف على طريقة الأعراض، ولا يوجبونها، أو الذين ينهون عنها هم من متقدّمي الأشعريّة.. أمّا متأخروهم، فكلهم على أنّها أصل الدين، ولا يُعرف الله إلا بها. وطريقة الأعراض وحدوث الأجسام هذه مأخوذة عن الجهميّة والمعتزلة؛ فهم الأصل فيها، وعنهم انتشرت، وإليهم تُضاف.. كما نصّ على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في درء تعارض العقل والنقل 7/209.

حدوث الأجسام بأنّها مستلزمة للأعراض لا يخلو عنها ولا ينفكّ منها1. ثمّ استدلّوا على حدوث الأعراض. قالوا: فثبتَ أنّ الأجسام مستلزمة للحوادث، لا يخلو عنها، فلا تكون مثلها. دليل الحوادث ثمّ كثير منهم قالوا: وما لم يخل من الحوادِث، أو ما لم يسبق الحوادث، فهو حادِث2، وظنّ أنّ هذه مقدّمة بديهيّة معلومة بالضرورة لا يُطلب عليها دليل، وكان ذلك بسبب أنّ لفظ الحوادِث يُشعر بأنّ3 لها ابتداءً؛ كالحادِث المعيّن، والحوادِث المحدودة4. ولو قدّرت ألف ألف

_ 1 وقد اختلفوا فيما يُستدلّ به على حدوثها؛ هل بملازمتها للأعراض جميعها، أو لبعض الأعراض؛ كالأكوان الأربعة، أو لبعض الأكوان؛ كالحركة مثلاً؛ على أقوال. فاستدلّ المعتزلة بملازمة الأجسام للأعراض جميعها، أو بعضها - كالأكوان - على حدوثها. انظر: شرح الأصول الخمسة لعبد الجبار ص 95. واستدلّ الأشعريّة بملازمة الأجسام للأكوان، أو بعضها - كالحركة والسكون - على حدوثها. انظر: التمهيد للباقلاني ص 38. وأصول الدين للبغدادي ص 59. والإرشاد للجويني ص 40. أما الماتريديّة: فقد وافقوا المعتزلة في استدلالهم بملازمة الأجسام للأعراض، أو لبعضها - كالأكوان - على حدوثها.. انظر: العقائد النسفية لأبي حفص النسفي ص 20. وتفسير أبي البركات النسفي 1/200. وإشارات المرام من عبارات الإمام للبياضي ص 82. 2 وهذه عبارات متنوعة، مؤدّاها واحد. انظر: جامع الرسائل - رسالة في الصفات الاختيارية - لابن تيمية 2/31-32. وكتاب الصفدية له 2/163. ودرء تعارض العقل والنقل له 8/173. وانظر: من كتب الأشعريّة: التمهيد للباقلاني ص 41. والإنصاف له ص 28. والإرشاد للجويني ص 17-28. وأصول الدين للبغدادي ص 60. 3 في ((خ)) : بأنّه.. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 وذلك لأنّ الحادِث ما يكون مسبوقاً بالعدم؛ حدث بعد أن لم يكن. ويُفهم من هذا أنّ جنس الحوادِث لها ابتداء. وهذا الأمر صحيح بالنسبة للحوادِث المخلوقة. أمّا أفعال الله تعالى فليس لنوعها ابتداء؛ فهو - جلّ وعلا - لم يكن معطّلاً عن صفاته الفعلية أزلاً، ثمّ وجدت بعد أن لم تكن. بل هو أزليّ بصفاته، وإن كانت أفعاله قديمة النوع متجدّدة الآحاد. وما كان كذلك لا يُقال عنه إنّه وُجد بعد العدم.

ألف حادث، فإنّ الحوادث إذا جُعلت مقدّرة محدودة، فلا بُدّ أن يكون لها ابتداء1؛ فإنّ ما لا ابتداء له ليس له حدّ معيّن ابتدأ منه، إذ قد قيل لا ابتداء له، بل هو قديم أزليّ دائم. ومعلومٌ أنّ هذه الحوادِث ما لم يسبقها فهو حادث؛ فإنّه يكون إمّا معها، وإمّا بعدها2.

_ 1 وقد مثّلوا لذلك ببرهان، أطلقوا عليه اسم ((برهان التطبيق)) ، وقالوا: لو فُرض فيما لا يتناهى من الحوادِث سلسلتان؛ إحداهما من الطوفان إلى ما لانهاية له في القدم، والأخرى من الهجرة إلى ما لا نهاية له في القدم، ثمّ طبّق بين هاتين السلسلتين؛ فكلما طرح من السلسلة الأولى واحد، طرح من الأخرى مقابله واحد أيضاً، وهنا لا يخلو الحال من أمور ثلاثة: إمّا أن يفرغا معاً: وهذا خلاف الفرض، ويلزم منه مساواة الناقص للزائد. وإمّا ألاّ يفرغا، وهو باطل عندهم أيضاً؛ لأنّه يلزم منه المساواة بين مختلفَيْن - على حد قولهم، وتستحيل المساواة لتحقق الزيادة في أحدهما. وإمّا أن يفرغ أحدهما قبل الآخر؛ فإذا فرغت إحدى السلسلتين، لزم أن تفرغ الأخرى أيضاً لوجود قدر متناه بينهما. وهذا الأمر الثالث هو المعتبر عندهم، وهو يدلّ على امتناع حوادث لا أول لها. انظر: من كتبهم: المواقف للإيجي ص 90. وشرح المقاصد للتفتازاني 2/120-122. 2 وهذا تقدّمت الإشارة إليه قريباً، وهو إحدى المقدّمتين اللتين بنوا عليهما إثبات حدوث الأجسام، وهو معنى قولهم: ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، أو ما لا يسبق الحوادث فهو حادث ... إلخ. انظر: نقض التأسيس لابن تيمية - مخطوط - ق 47/ب) .

وكثير منهم1 يفطن للفرق بين جنس الحوادث، وبين الحوادث المحدودة؛ فالجنس: مثل أن يُقال: ما زالت الحوادث توجد شيئاً بعد شيء، أو ما زال جنسها موجوداً، أو ما زال الله متكلّماً إذا شاء، أو ما زال الله فاعلاً لما يشاء2، أو ما زال قادراً على أن يفعل قدرة يمكن معها اقتران المقدور بالقدرة، لا تكون قدرة يمتنع معها المقدور؛ فإنّ هذه في الحقيقة ليست قدرة3. ومثل أن يُقال في المستقبل: لا بُدّ أنّ الله يخلق شيئاً بعد شيء،

_ 1 أي من النظّار. 2 وهذا ما قاله السلف - رحمهم الله - في صفات الأفعال الاختيارية؛ من أنّها قديمة النوع، حادثة الآحاد، لا بمعنى وجود المفعولات معه جلّ وعلا أزلاً؛ فإنّ القول بوجود المفعولات مع الله جلّ وعلا أزلاً ليس من أقوال المسلمين. انظر: منهاج السنة النبوية لابن تيمية 1/148) . 3 مع القدرة التامة يتعيّن وجود المقدور، وإلا فليست قدرة. انظر: جامع الرسائل - رسالة في الصفات الاختيارية - لابن تيمية 2/20-21) . تنبيه: ليس يُفهم من قول السلف - رحمهم الله تعالى - عن الله جلّ وعلا: لم يزل فاعلاً، أو لم يزل خالقاً، أو لم يزل قادراً، ... إلخ: أنّ الخالق للسموات والأرض والإنسان لم يزل يخلق السموات والأرض والإنسان، أو لم يزل يفعل كذا؛ بمعنى أنّ هذه المفعولات، أو المخلوقات موجودة معه في الأزل، بل المراد ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في موضع آخر بقوله: "لم يزل الخالق لذلك سيخلقه، ولم يزل الفاعل لذلك سيفعله؛ فما من مخلوق من المخلوقات، ولا فعل من المفعولات، إلا والرب تعالى موصوف بأنه لم يزل سيفعله، ليس موصوفاً بأنّه لم يزل فاعلاً له خالقاً له؛ بمعنى أنّه موجود معه في الأزل. وإن قُدّر أنه كان قبل هذا الفعل فاعلاً لفعل آخر، وقبل هذا المخلوق خالقاً لمخلوق آخر، فهو لم يزل بالنسبة إلى كلّ فعل ومخلوق: سيفعله، وسيخلقه، لا يُقال: لم يزل فاعلاً له بمعنى مقارنته له". درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 2/267-268. وقال شيخ الإسلام في موضع آخر: "فليس مع الله في الأزل شيء من المفعولات ولا الأفعال؛ إذ كان كل منهما حادِثاً بعد أن لم يكن، والحادِث بعد أن لم يكن لا يكون مقارناً للقديم الذي لم يزل". درء تعارض العقل والنقل 2/267.

ونعيم أهل الجنة دائم لا يزول، ولا ينفذ. وقد يُقال في النوعين: كلمات الله لا تنفذ، ولا نهاية لها؛ لا في الماضي، ولا في المستقبل، ونحو ذلك1. فالكلام2 في دوام الجنس وبقائه، وأنّه لا ينفذ، ولا ينقضي، ولا يزول، ولا ابتداء له: غير الكلام فيما يقدر محدوداً له ابتداء، أو له ابتداء وانتهاء3؛ فإنّ كثيراً من النظّار4 من5 يقول: جنس الحوادِث إذا قدّر له ابتداء، وجب أن يكون له انتهاء؛ لأنّه يمكن فرض تقدّمه على ذلك الحدّ، فيكون أكثر ممّا وجد، وما لا يتناهى لا يدخله التفاضل؛ فإنّه ليس وراء عدم النهاية شيء أكثر منها، بخلاف ما لا ابتداء له ولا انتهاء؛ فإنّ هذا لا يكون شيء فوقه، فلا يفضي إلى التفاضل فيما لا يتناهى. وبسط هذا له موضع آخر6.

_ 1 وهذا هو التسلسل الذي أجازه السلف - رحمهم الله تعالى - ورأوا أنّ إثباته ضروريّ لإثبات أفعال الله الاختياريّة، وعليه يشهد قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَاْنَ الْبَحْرُ مِدَاْدَاً لِكَلِمَاْتِ رَبِّيْ لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاْتُ رَبِّيْ وَلَوْ جِئْنَاْ بِمِثْلِهِ مَدَدَاً} [الكهف، 109] . فكلمات الله لا نهاية لها؛ لم يزل متكلماً بمشيئته وقدرته، ولا يزال؛ فلا نهاية لكلماته. 2 كذا في ((خ)) ، وفي ((م)) . وفي ((ط)) : فالكلمة. 3 وفي هذا إشارة إلى الفرق بين جنس الحوادث، وبين الحوادث المحدودة؛ كما تقدّم التنويه بذلك. 4 كأبي الهذيل العلاّف، والجهم بن صفوان، ومن وافقهما.. وكان من حجتهم: إذا امتنعت حوادث لا أول لها في الماضي، فيجب أن تمتنع حوادث لا نهاية لها في المستقبل.. انظر: منهاج السنة النبوية لابن تيمية 1/147) . 5 هكذا وردت في ((خ)) ، و ((م)) ، و ((ط)) . ولعلّ الأصوب حذفها. 6 انظر: منهاج السنة النبوية لابن تيمية 1/146-147، 1/223-234، والفتاوى 2/88، و 36/28-30، والصفدية 1/8-135. وقد نسب خصوم شيخ الإسلام رحمه الله كالسبكي وغيره (طبقات الشافعية6/106) أنه يقول بقدم العالم وبتسلسل الحوادث، والمشهور من كتب شيخ الإسلام رحمه الله أنه رد على الفلاسفة القائلين بقدم العالم كما رد على قول المتكلمين الذين يجوزون دوام الحوادث في المستقبل دون الماضي ويقولون: "إن الله خلق بعد أن بم يكن يخلق، ونصر قول أهل الحديث الذي لم يفهمه المتكلمون؛ وهو أن الله لم يزل فاعلا متكلما بمشيئته ولم يكن معطلا عن الخلق والأمر".

المتكلمون جعلوا أصل دينهم النظر في دليل الأعراض وحدوث الأجسام والمقصود هنا أنّ هؤلاء جعلوا هذا أصل دينهم وإيمانهم، وجعلوا النظر في هذا الدليل هو النظر الواجب على كلّ مكلّف، وأنّه من لم ينظر في هذا الدليل؛ فإمّا أنّه لا يصحّ إيمانه، فيكون كافراً1 على قول طائفة منهم، وإمّا أن يكون عاصياً2 على قول آخرين، وإما أن يكون مقلّداً لا علم له بدينه، لكنه ينفعه هذا التقليد، ويصير به مؤمناً غير عاص. الرسول لم يدع الخلق إلى دليل النظر والأقوال الثلاثة باطلة؛ لأنّها مفرّعة على أصل باطل، وهو أنّ النظر الذي هو أصل الدين والإيمان، هو هذا النظر في هذا الدليل؛ فإنّ علماء المسلمين يعلمون بالاضطرار أنّ الرسول لم يدع الخلق بهذا النظر، ولا بهذا الدليل؛ لا عامة الخلق، ولا خاصّتهم3، فامتنع أن يكون هذا شرطاً في الإيمان والعلم.

_ 1 وذلك لأنّ النظر في هذا الدليل ((دليل الأعراض وحدوث الأجسام)) هو المسلك الوحيد عندهم لإثبات وجود الله تعالى، فمن لم يسلكه عجز عن إثبات وجود ربّه وتصحيح عقيدته، فصار من الملحدين. انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 1/303. والفرقان بين الحق والباطل له ص 47. وشرح حديث النزول ص 161-162) . يقول الماتريديّ عن الله تعالى: "لا سبيل إلى العلم به، إلا من طريق دلالة العالم عليه". التوحيد للماتريدي ص 129 ويقول أبو حامد الغزالي: " ... فبان أنّ من لا يعتقد حدوث الأجسام، فلا أصل لاعتقاده في الصانع أصلاً". تهافت الفلاسفة ص 197. 2 قال الصاوي: "والحق الذي عليه المعوّل: أنّه مؤمن عاص بترك النظر ... إلخ". شرح جوهرة التوحيد للصاوي ص 61 3 فالأنبياء عليهم السلام - وفي مقدمتهم نبيّنا صلى الله عليه وسلم - لم يأمروا أحداً بسلوك هذا السبيل، فدلّ ذلك على أنّه غير مشروع؛ إذ لو كان واجباً أو مستحباً لشرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما دام الأمر كذلك، فليست معرفة الله تعالى موقوفة عليه؛ إذ معرفته جلّ وعلا واجبة. انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 6/50.

وقد شهد القرآن والرسول لمن شهد له من الصحابة وغيرهم بالعلم، وأنّهم عالمون بصدق الرسول، وبما جاء به، وعالمون بالله، وبأنّه لا إله إلا الله، ولم يكن الموجب لعلمهم هذا الدليل المعيّن1؛ كما قال تعالى: {وَيَرَىْ الّذِيْنَ أُوْتُوْا الْعِلْمَ الّذِيْ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقُّ وَيَهْدِيْ إِلَىْ صِرَاْطِ الْعَزِيْزِ الْحَمِيْدِ} 2، وقال: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوْا الْعِلْمِ قَاْئِمَاً بِالْقِسْطِ} 3، وقال: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَاْ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىْ} 4. وقد وصف باليقين والبصيرة في غير موضع؛ كقوله: {وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوْقِنُوْنَ} 5، وقوله: {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدَىً مِنْ رَبِّهِمْ} 6، وقوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيْلِيْ أَدْعوا إِلَىْ اللهِ عَلَىْ بَصِيْرَةٍ أَنَا وَمنِ اتَّبَعَنيْ} 7، وأمثال ذلك. فتبين أنّ هذا النظر والاستدلال الذي أوجبه هؤلاء، وجعلوه أصلَ الدين، ليس ممّا أوجبه الله ورسوله8. ولو قدّر أنّه صحيح في نفسه، وأنّ

_ 1 وهو ما أنكره بعض النظّار أنفسهم. يقول أبو حامد الغزالي - وهو من أئمة المتكلمين: "فليت شعري متى نُقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم قالوا لمن جاء مسلماً الدليل على أنّ العالم حادث: أنّه لا يخلو عن الأعراض، وما لا يخلو عن الحوادث حادث". فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة للغزالي ص 89. 2 سورة سبأ، الآية 6. 3 سورة آل عمران، الآية 18. 4 سورة الرعد، الآية 19. 5 سورة البقرة، الآية 4. 6 سورة البقرة، الآية 4. 7 سورة يوسف، الآية 108. 8 بل لم يرد في إثبات هذا النظر والاستدلال دليلٌ؛ لا من كتاب، ولا سنّة، ولا خبر صحابي، ولا قول تابعيّ، ولا أحد من أئمة الدين. انظر: منهاج السنة النبوية لابن تيمية 1/315-316.

الرسول أخبر بصحته، ولم يلزم من ذلك وجوبه؛ إذ قد يكون للمطلوب أدلة كثيرة. طعن الرازي وغيره على الجويني ولهذا طعن الرازي1، وأمثاله2 على أبي المعالي3 في قوله أنّه لا يُعلم حدوث العالم إلا بهذا الطريق4، وقالوا: هب أنّه يدلّ على حدوث العالم، فمن أين يجب أن لا يكون ثمّ طريق آخر.

_ 1 هو محمد بن عمر بن الحسن التيمي؛ فخري الدين الرازي. أشعري المعتقد، إلا أنّه خلط مذهبه بالاعتزال والفلسفة. توفي سنة 606 ?. انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان 3/381-385. ونقض التأسيس لابن تيمية - مخطوط - ق 28/أ. ولسان الميزان لابن حجر 4/246-249. 2 كأبي الحسن الآمدي الذي قلّل من شأن دليل الأعراض وحدوث الأجسام، وقال بعد أن نقل الدليل بطوله: "وهو عند التحقيق سرابٌ غير حقيق". غاية المرام في علم الكلام للآمدي ص 260. 3 هو عبد الملك بن عبد الله بن يوسف، أبو المعالي الجويني. احتار في آخر عمره، وتمنّى أن يكون على عقيدة عجائز بلده. توفي سنة 478 ?. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 18/468-477. والفتاوى المصرية لابن تيمية 6/620-621. وبغية المرتاد له ص 450. 4 انظر: نهاية العقول للرازي - مخطوط - ق 175/ب. والمطالب العالية له 1/71. والمباحث المشرقية له 1/327، 365. "فقد ضعّف البراهين الخمسة التي احتجّ بها أبو المعالي - في الإرشاد ص 37 - ومن شايعه على حدوث العالم وحدوث الأجسام". وقد ذكر شيخ الإسلام موقف الأشعريّة من دليل الأعراض في موضع آخر، فقال: "لكن هؤلاء وغيرهم يعتقدون صحة تلك الطريق، وإن قالوا إنّ تصديق الرسول لا يتوقف عليها. ثم منهم من يقول إنها لا تعارض النصوص، بل يمكن الجمع بينهما؛ وهذه طريقة الأشعريّ وأئمة أصحابه؛ يثبتون الصفات الخبرية التي جاء بها القرآن، مع اعتقاد صحة طريق الاستدلال بحدوث الأعراض وتركيب الأجسام.... ومن هؤلاء من يدّعي التعارض بينهما؛ كالرازي وأمثاله؛ كما يقول ذلك من يوجب الاستدلال بطريقة حدوث الأعراض؛ كالمعتزلة وأبي المعالي وأتباعه". درء تعارض العقل والنقل 7/74-75.

وسلكوا هم طرقاً أُخَر. فلو كانت هذه الطريقة صحيحة عقلاً، وقد شهد لها الرسول والمؤمنون الذين لا يجتمعون على ضلالة بأنها طريق صحيحة، لم يتعيّن، مع إمكان سلوك طرق أُخرى1. كما أنّه في القرآن سور وآيات قد ثبت بالنصّ والإجماع أنها من آيات الله الدالّة على الهدى. ومع هذا، فإذا اهتدى الرجل بغيرها، وقام بالواجب، ومات ولم يعلم بها، ولم يتمكن من سماعها، لم يضرّه؛ كالآيات المكيّة التي اهتدى بها من آمن ومات في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل سائر القرآن. فالدليل يجب طرده، لا يجب عكسه2

_ 1 فكيف! وهي طريق بدعيّة لم ترد في كتاب الله، ولا سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يسلكها أحدٌ من الصحابة الموصوفين بالعلم والإيمان، وكذا التابعون لهم بإحسان. 2 الطرد: ما يوجب الحكم لوجود العلة؛ وهو التلازم في الثبوت. والعكس: عبارة عن تعليق نقيض الحكم المذكور بنقيض علته المذكورة. وقيل العكس: عدم الحكم لعدم العلة. انظر: التعريفات للجرجاني ص 183، 198. والعدة في أصول الفقه للقاضي أبي يعلى 1/77. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية موضّحاً هذه القاعدة - فالدليل يجب طرده، لا يجب عكسه - في بعض مؤلفاته: "فمن المعلوم أنّ الدليل يجب طرده، وهو ملزوم للمدلول عليه؛ فيلزم من ثبوت الدليل ثبوت المدلول عليه، ولا يجب عكسه؛ فلا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول له. وهذا كالمخلوقات؛ فإنّها آية للخالق؛ فيلزم من ثبوتها ثبوت الخالق، ولا يلزم من وجود الخالق وجودها. وكذلك الآيات الدالاّت على نبوة النبيّ. وكذلك كثير من الأخبار والأقيسة الدالّة على بعض الأحكام، يلزم من ثبوتها ثبوت الحكم، ولا يلزم من عدمها عدمه؛ إذ قد يكون الحكم معلوماً بدليل آخر..". درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 5/269-270.

من أنكر سلوك هذه الطريقة ولهذا أنكر كثير من العلماء على هؤلاء إيجاب سلوك هذه الطريق، مع تسليمهم أنّها صحيحة؛ كالخطّابي 12، والقاضي أبي يعلى3، وابن عقيل45، وغيرهم6.

_ 1 هو حمد بن محمد بن إبراهيم بن خطّاب البستي. إمام صاحب تصانيف. تأثر بتقريرات المتكلمين في بعض جوانب العقيدة. توفي سنة 388 ?. انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان 2/214-216. وسير أعلام النبلاء للذهبي 17/23-28) . 2 وقد نصّ على أنّه يرى أنّ الطرق الشرعيّة أوضح بياناً، وأصحّ برهاناً من طريقة الأعراض وحدوث الأجسام، وممّا قاله: "فأما مثبتوا النبوات فقد أغناهم الله تعالى عن ذلك، وكفاهم كلفة المؤونة في ركوب هذه الطريق المنعرجة التي لا يؤمن العنت على راكبها، والابتداع والانقطاع على سالكها) . ذكر ذلك في كتاب الغنية عن الكلام وأهله. وقد نقل عنه ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في نقض التأسيس 1/254. وفي درء تعارض العقل والنقل 7/292-294. 3 تقدمت ترجمته. ولم أقف على كلام له في ذلك. وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى أنّ أبا يعلى ممّن انتقد دليل الأعراض وحدوث الأجسام. انظر: مجموع الفتاوى 5/543. 4 هو أبو الوفاء علي بن عقيل الحنبلي. وقع في حبائل المعتزلة، فتجاسر على تأويل الصفات. من مؤلفاته كتاب الفنون الذي يزيد على أربعمائة مجلد، ولد سنة 430? أو 431?. توفي سنة 513?. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 19/443-451. ولسان الميزان لابن حجر 4/243-244. ومنهاج السنة النبوية لابن تيمية 1/424، وشذرات الذهب 4/35. 5 وها هو ابن عقيل - رغم وقوعه في حبائل المتكلمين - يقول: "أنا أقطع أنّ الصحابة ماتوا ولم يعرفوا الجوهر ولا العرض. فإن رضيتَ أن تكون مثلهم، فكن. وإنرأيتَ أنّ طريقة المتكلمين أولى من طريقة أبي بكر وعمر، فبئس ما رأيتَ". نقله عنه ابن الجوزي في تلبيس إبليس ص 85. وانظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 8/48. 6 كأبي حامد الغزالي (في فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة ص 127) ، وأبي الحسن الآمدي (في غاية المرام في علم الكلام ص 260) ، وابن رشد الحفيد (في الكشف عن مناهج الأدلة ص 43) ، وغيرهم.

والأشعري1 نفسه أنكر على من أوجب سلوكها أيضاً في رسالته إلى أهل الثغر، مع اعتقاده صحتها2، واختصر منها طريقة ذكرها في أول كتابه المشهور المسمّى ب ((اللّمع)) في الردّ على أهل البدع، وقد اعتنى به أصحابه حتى شرحوه شروحاً كثيرة. والقاضي أبو بكر3 شرحه، ونقض كتاب عبد الجبار4 الذي صنّفه في نقضه، وسمّاه ((نقض نقض اللمع)) 5.

_ 1 هو علي بن إسماعيل بن أبي بشر. ينتسب إلى أبي موسى الأشعري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكنيته أبو الحسن. ولد في البصرة سنة (260 ?) ، وتوفي على القول الراجح سنة (324 ?) في بغداد. وكان له ثلاثة أحوال، كان في أولاها معتزلياً، وسلك في الثانية مذهب ابن كلاب، ورجع أخيراً إلى معتقد السلف، وألّف عدة كتب في نصرة معتقدهم؛ ككتاب ((الإبانة)) ، و ((رسالة إلى أهل الثغر)) ، و ((مقالات الإسلاميين)) . انظر: البداية والنهاية 11/199. وشذرات الذهب 2/302. ومقدمة تحقيق د/عبد الله شاكر ل ((رسالة إلى أهل الثغر)) لأبي الحسن الأشعري) . 2 وقد ذكر في رسالة إلى أهل الثغر: "أنّ الأعراض لا يصحّ الاستدلال بها إلا بعد رتب كثيرة يطول الخلاف فيها ويدقّ الكلام عليها؛ فمنها ما يحتاج إليه في الاستدلال على وجودها، والمعرفة بشبه المنكرين لها ... إلخ"؛ من طولها، وغموضها، والتناقضات التي حوتها.. لذلك رأى الأشعريّ - مع تصحيحه لطريقة الأعراض - أنّ في الطرق الشرعيّة غنية عنها. انظر: رسالة إلى أهل الثغر ص 184-185، 186-187. وانظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 1/309. 3 محمد بن الطيّب الباقلاني. سبقت ترجمته ص 116 من هذا الكتاب. 4 هو عبد الجبار بن أحمد الهمداني، شيخ المعتزلة. توفي سنة 415?. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 17/244-245. ولسان الميزان لابن حجر 3/386-387. 5 في ((خ)) : (نقض النقض للمع) . وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

دليل الأعراض وحدوث الأجسام يوجب اعتقادات ولوزام باطلة وأما أكابر أهل العلم من السلف والخلف: فعلموا أنها طريقة باطلة في نفسها، مخالفة لصريح المعقول وصحيح المنقول، وأنّه لا يحصل بها العلم بالصانع، ولا بغير ذلك1، بل يوجب سلوكها اعتقادات باطلة توجب2 مخالفة كثير ممّا جاء به الرسول، مع مخالفة صريح المعقول3؛ كما أصاب من سلكها من الجهميّة، والمعتزلة، والكُلاّبيّة، والكرّاميّة، ومن تبعهم من الطوائف، وإن لم يعرفوا غورها وحقيقتها؛ فإنّ أئمة هؤلاء الطوائف صار كل منهم يلتزم ما يراه لازماً له ليطردها، فيلتزم لوازم4 مخالفة للشرع والعقل، فيجيء الآخر، فيردّ عليه، ويبيّن فساد ما التزمه، ويلتزم هو لوازم أُخر لطردها، فيقع أيضاً في مخالفة الشرع والعقل.

_ 1 قال شيخ الإسلام ابن تيمية في موضع آخر عن هذه الطريقة: "فهذه الطريقة ممّا يُعلم بالاضطرار أنّ محمّداً صلى الله عليه وسلم لم يدع الناس بها إلى الإقرار بالخالق ونبوة أنبيائه. ولهذا قد اعترف حذّاق أهل الكلام كالأشعريّ وغيره بأنها ليست طريقة الرسل وأتباعهم، ولا سلف الأمة وأئمتها، وذكروا أنها محرمة عندهم. بل المحققون على أنها طريقة باطلة". درء تعارض العقل والنقل 1/39. 2 في ((خ)) : يوجب. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 من ذلك تعطيل الله تبارك وتعالى عن صفاته العُلا التي وصف بها نفسه، أو وصفه بها رسوله؛ كلها، أو بعضها.. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في موضع آخر: "لأجل الاستدلال على حدوث العالم بحدوث الأعراض: التزم طوائف من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم نفي صفات الرب مطلقاً، أو نفي بعضها؛ لأنّ الدالّ عندهم على حدوث هذه الأشياء هو قيام الصفات بها، والدليل يجب طرده؛ فالتزموا حدوث كل موصوف بصفة قائمة به، وهو أيضاً في غاية الفساد والضلال. ولهذا التزموا القول بخلق القرآن، وإنكار رؤية الله في الآخرة، وعلوه على عرشه،....". درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 1/41. 4 في ((خ)) : لوازماً. والصواب ما أُثبت، وهو في ((م)) ، و ((ط)) ؛ لأنّ (لوازم) ممنوعة من الصرف.

الجهمية التزموا لأجلها نفي الأسماء والصفات فالجهمية التزموا لأجلها نفي أسماء الله وصفاته، إذ كانت الصفات أعراضاً تقوم بالموصوف، ولا يُعقل موصوف بصفة إلا الجسم1، فإذا اعتقدوا حدوثه، اعتقدوا حدوث كلّ موصوف بصفة، والربّ تعالى قديم. فالتزموا نفي صفاته. وأسماؤه مستلزمة لصفاته؛ فنفوا أسماءه الحسنى2، وصفاته العُلا3. المعتزلة التزموا نفي الصفات والمعتزلة استعظموا نفي الأسماء لما فيه من4 تكذيب القرآن تكذيباً ظاهر الخروج عن العقل والتناقض؛ فإنّه لا بُدّ من التمييز بين الربّ وغيره بالقلب واللسان، فما لا يُميَّز من غيره لا حقيقة له ولا إثبات. وهو حقيقة قول الجهميّة؛ فإنّهم لم يُثبتوا في نفس الأمر شيئاً قديماً البتة5.

_ 1 في ((خ)) : لجسم. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 حكى عنهم شيخ الإسلام في موضع آخر أنهم يقولون عن الله تعالى: "ليس له اسم؛ كالشيء، والحيّ، والعليم، ونحو ذلك؛ لأنه إذا كان له اسم من هذه الأسماء، لزم أن يكون متصفاً بمعنى الاسم؛ كالحياة، والعلم؛ فإنّ صِدق المشتقّ مستلزم لصدق المشتقّ منه، وذلك يقتضي قيام الصفات به، وذلك محال ... ". مجموع فتاوى ابن تيمية 6/35. 3 وقد بسط شيخ الإسلام رحمه الله الكلام عن تعطيل الجهميّة لأسماء الله وصفاته مستندين لدليل الأعراض وحدوث الأجسام في مواضع كثيرة من كتبه الفريدة. انظر: على سبيل المثال: شرح حديث النزول ص 157. ودرء تعارض العقل والنقل 1/39، 305،، 10/260. ومنهاج السنة النبوية 2/97-99) . 4 في ((خ)) : مع. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 وأسماء الله تعالى يُثبتونها على أنّها مجاز في الربّ جلّ وعزّ؛ إذ إثباتها على الحقيقة يستلزم إثبات ما دلّت عليه من صفات. وهذا ما يفرّ المعتزلة من إثباته.. لأنّهم يزعمون أنّ إثبات الصفات لله تعالى يقتضي أن يكون جسماً. انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 1/41. ومنهاج السنة النبوية 3/361. وشرح الطحاوية 1/24-25.

الفلاسفة قالوا بقدم العالم كما أنّ المتفلسفة الذين سلكوا مسلك الإمكان والوجوب1، وجعلوا ذلك بدل الحادث والقديم، لم يُثبتوا واجباً بنفسه البتة2، وظهر بهذا فساد عقلهم، وعظيم جهلهم، مع الكفر؛ وذلك أنّه يُشهد وجود السموات وغيرها. فهذه الأفلاك إن كانت قديمة واجبة، فقد ثبت وجود الموجود القديم الواجب، وإن كانت ممكنة، أو مُحدثة، فلا بُدّ لها من واجب قديم؛ فإنّ وجود الممكن بدون الواجب3، والمحدَث بدون القديم ممتنعٌ في بداية العقول. فثبت وجود موجود قديم واجب بنفسه على كلّ تقدير. فإذا كان ما ذكروه من نفي الصفات عن القديم والواجب يستلزم نفي القديم مطلقاً، ونفي الواجب: عُلم أنّه باطلٌ4.

_ 1 إذ الوجود - عندهم - ينقسم إلى واجب، وممكن - وهو خلاف تقسيم المتكلمين له إلى قديم وحادث. ويُعرّف المتفلسفة الواجب: بأنّه الضروريّ الوجود - وهو يُقابل القديم عند المتكلمين -. ويُعرّفون الممكن بأنّه الذي لا ضرورة فيه بوجه؛ أي لا في وجوده، ولا عدمه - وهو يُقابل المُحدَث عند المتكلمين. انظر: النجاة لابن سينا ص 366. ومعيار العلم في فن المنطق للغزالي ص 325-326. 2 وهم يزعمون أنّ واجب الوجود هو الذات دون صفاتها. ولا يُعقل ذات مجرّدة عن الصفات، بل ذلك من صفات العدم؛ لذلك لم يُثبتوا واجباً. انظر: منهاج السنة لابن تيمية 1/266. 3 في ((خ)) : الوجب. ويبدو أنّ الألف سقطت سهواً. 4 لأنّ الواجب المجرّد عن جميع الصفات، أو القديم الذي ليس له صفة تُميّزه: ممتنع الوجود؛ إذ لا بُدّ لوجوب وجود الواجب، وإثبات وجود القديم من إثبات ما يُميّزه من الصفات.. ولا يستلزم ذلك تعدّد القدماء، أو تركيب الواجب؛ لأنّ نفي ذلك يقتضي نفي ما يُريدون إثباته.. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وإذا لم يكن واجباً، لم يلزم من التركيب مُحال، وذلك لأنّهم إنّما نفوا المعاني لاستلزامها ثبوت التركيب، المستلزم لنفي الوجوب. وهذا تناقض؛ فإنّ نفي المعاني مستلزم لنفي الوجوب، فكيف ينفونها لثبوته؟! ". مجموع فتاوى ابن تيمية 6/345.

من نفى صفة لزمه نفي جميع الصفات وقد بُسط هذا في مواضع1، وبُيِّن أنّ كلّ من نفى صفة ممّا أخبر به الرسول لزمه نفي جميع الصفات، فلا يُمكن القول بموجب أدلة العقول، إلا مع القول بصدق الرسول؛ فأدلة العقول مستلزمة لصدق الرسول2؛ فلا يمكن مع عدم تصديقه القول بموجب العقول، بل من كذّبه فليس معه لا عقل، ولا سمع؛ كما أخبر الله تعالى عن أهل النّار: قال تعالى: {كُلَّمَاْ أُلْقِيَ فِيْهَاْ فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَاْ أَلَمْ يَاْتِكُمْ نَذِيْرٌ قاْلُوْا بَلَىْ قَدْ جَاْءَنَاْ نَذِيْرٌ فَكَذَّبْنَاْ وَقُلْنَاْ مَاْ نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِيْ ضَلاَلٍ كَبِيْرٍ وَقَاْلُوْا لَوْ كُنَّاْ نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَاْ كُنَّاْ فِيْ أَصْحَاْبِ السَّعِيْر فَاعْتَرَفُوْا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقَاً لأصْحَاْبِ السَّعِيْرِ} 3، وهذا مبسوطٌ في غير هذا الموضع4.

_ 1 انظر: من كتب ابن تيمية: منهاج السنة النبوية 2/267. ومجموع الفتاوى 6/345. ودرء تعارض العقل والنقل1/41. والتدمرية ص 31. 2 أما المعقولات التي تُخالف ما جاء به الرسول، فالمتأمّل لها يجد أنها وضعت لتكذيب الرسول، لا لتصديقه؛ كما يزعم أصحابها؛ لذلك يصفها شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بتسميته لها: "ترتيب الأصول في تكذيب الرسول". انظر: درء تعارض العقل والنقل 2/207. 3 سورة الملك، الآيات 8-10. 4 انظر: درء تعارض العقل والنقل 1/320. ومجموع فتاوى ابن تيمية 16/452.

المعتزلة نفوا الصفات وأثبتوا الأسماء والمقصود هنا أنّ المعتزلة لمّا رأوا الجهميّة قد نفوا أسماء الله الحسنى، [استعظموا ذلك] 1، وأقرّوا بالأسماء. ولمّا رأوا هذه الطريق2 توجب نفي الصفات: نفوا الصفات؛ فصاروا متناقضين؛ فإنّ إثبات حيّ، عليم، قدير، حكيم، سميع، بصير، بلا حياة، ولا علم، ولا قدرة، ولا حكمة، ولا سمع، ولا بصر: مكابرة للعقل؛ كإثبات مصلٍّ بلا صلاة، وصائمٍ بلا صيام، وقائمٍ بلا قيام، ونحو ذلك من الأسماء المشتقة؛ كأسماء الفاعلين، والصفات المعدولة عنها. ولهذا ذكروا في أصول الفقه3 أنّ صدق الاسم المشتقّ4؛ كالحيّ، والعليم لا ينفكّ عن صدق المشتق منه؛ كالحياة، والعلم. وذكروا النزاع مع من5 ذكروه من المعتزلة؛ كأبي عليّ6، وأبي

_ (استعظموا ذلك) : ليست في ((خ)) . وأثبتها من ((م)) ، و ((ط)) . 2 طريق التركيب؛ إذ زعموا أنّ إثبات الصفات يستلزم تعدّد القدماء، فيكون القديم مُركّباً، والقديم ليس بمُركّب، لذلك زعم عبد الجبار أنّ نفي الصفات هو السبيل الوحيد إلى القول بإفراد الله بالقدم انظر: المغني في أبواب التوحيد والعدل لعبد الجبار 4/341، ونفي الصفات هو أحد أصول المعتزلة الخمسة، ويُطلقون عليه اسم التوحيد. انظر: شرح المقاصد للتفتازاني 4/83 والملل والنحل للشهرستاني ص 46-47. 3 قال في المراقي: وعند فقد الوصف لا يشتق وأعوز المعتزليّ الحقّ شرح مراقي السعود ص 257. وانظر: بدائع الفوائد لابن القيم 1/22. 4 في ((خ)) : مشتق. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 في ((خ)) : معمن - موصولة. 6 أبو عليّ محمد بن عبد الوهاب بن سلام بن خالد بن حمران بن أبان، مولى عثمان ابن عفان، الجبائي البصري. ولد في سنة 234 ?. شيخ المعتزلة. تنسب إليه فرقة الجبائية من المعتزلة. درس الاعتزال على شيخ المعتزلة عن أبي يعقوب الشحّام، وتزوّج الجبائي بأمّ الأشعريّ، فتتلمذ عليه الأشعريّ قبل أن يترك الاعتزال. توفي سنة 335 ?، ومات بالبصرة. انظر: الملل والنحل للشهرستاني 1/78. والبداية والنهاية 11/134. وسير أعلام النبلاء 14/183. وذكر مذاهب الفرق الثنتين والسبعين المخالفة للسنة والمبتدعين ص 50.

هاشم1، الكلابية أثبتوا الصفات العقلية فجاء ابن كُلاّب، ومن اتبعه؛ كالأشعريّ، والقلانسيّ2، فقرّروا أنّه لا بُدّ من إثبات الصفات متابعة للدليل السمعيّ والعقليّ، مع إثبات الأسماء. وقالوا: ليست أعراضاً3؛ لأنّ العرض لا يبقى

_ 1 أبو هاشم: هو عبد السلام بن أبي علي محمد بن عبد الوهاب. ولد سنة 277?، وتوفي سنة 321. وإليه تنسب فرقة البهشمية - إحدى فرق المعتزلة. انظر: شذرات الذهب 2/289. وسير أعلام النبلاء 15/63. والملل والنحل1/78وذكر مذاهب الفرق الثنتين والسبعين المخالفة للسنة والمبتدعين ص 57. 2 هو أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن خالد القلانسي الرازي. قال عنه ابن عساكر: (إنه من معاصري أبي الحسن رحمه الله، لا من تلاميذه كما قال الأهوازي. وهو من جملة العلماء الكبار الأثبات، واعتقاده موافق لاعتقاده في الإثبات) . تبيين كذب المفتري ص 398. 3 ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنّ العرض في اللغة: هو ما يعرض ويزول. انظر: مجموع الفتاوى 5/215،، 9/300. واستدلّ بقوله تعالى: {يَأْخُذُوْنَ عَرَضَ هَذَاْ الأدْنَىْ} [سورة الأعراف، 169] . وذكر رحمه الله أنّ العرض عند أهل الاصطلاح الكلامي: "قد يُراد به ما يقوم بغيره مطلقاً، وقد يُراد به ما يقوم بالجسم من الصفات. ويُراد به في غير هذا الاصطلاح أمور أخرى". مجموع الفتاوى 9/300. أمّا المتكلّمون: فالعرض عندهم ضدّ الجوهر؛ إذ العالم عندهم جواهر وأعراض. فالجوهر: هو المتحيّز، وكل ذي حجم متحيّز. والعرض: هو المعنى القائم بالجوهر؛ كاللون، والطعم، والرائحة، والحياة، والموت، والعلوم والإرادات، والقُدَر القائمة بالجواهر. انظر: الإرشاد للجويني ص 2. وأصول الدين للبغدادي ص 33.

زمانين1، [وصفات الربّ باقية2. من قال: إن العرض لا يبقى زمانين وسلكوا في هذا الفرق - وهو أنّ العرض لا يبقى زمانين] 3 - مسلكاً أنكره عليهم جمهور العقلاء، وقالوا: إنهم خالفوا الحسّ وضرورة العقل، وهم موافقون لأولئك4 على صحة هذه الطريقة - طريقة الأعراض - قالوا: وهذه5 تنفي عن الله أن يقوم به حادِث، وكلّ حادِثٍ فإنّما يكون بمشيئته وقدرته. قالوا: فلا يتّصف بشيء من هذه الأمور؛ لا يتكلّم بمشيئته وقدرته، ولا يقوم به فعل اختياري يحصل بمشيئته وقدرته6؛ كخلق العالَم، وغيره. بل منهم من قال: لا يقوم به فعل، بل الخلق هو المخلوق؛ كالأشعريّ ومن وافقه7.

_ 1 بل يطرأ عليه التغيّر والتحوّل، وهذا من صفات الحوادث. انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 1/302-306. 2 وليس ذلك شاملاً لكل صفات الله تعالى؛ بل يُفرّقون بين صفات الأفعال، وما عداها؛ فيُطلقون على صفات الأفعال اسم الأعراض، وينفون قيامها بالله تعالى؛ بحجة أنها تعرض وتزول - بزعمهم -، ولا يُطلقون اسم الأعراض على ما عدا ذلك من الصفات. انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 6/36. وعلى هذا المعتقد متقدموا الكلابيّة والأشعريّة، وقد نقل اتفاقهم على ذلك: الرازي في كتابه ((المحصّل)) ص 265. والإيجي في ((المواقف)) ص 101. 3 ما بين المعقوفتين ساقطة من أصل ((خ)) ، وملحقة بالهامش. وهي في ((م)) ، و ((ط)) . 4 للمعتزلة. 5 أي طريقة الأعراض. 6 قالوا: لو قامت به الأفعال الاختياريّة، للزم أن لا يخلو منها؛ لأنّ القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضدّه. وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث. انظر: إحياء علوم الدين للغزالي 1/104-107. ونهاية الإقدام في علم الكلام للشهرستاني ص 11. وشرح جوهرة التوحيد للبيجوري ص 51. 7 كابن فورك، والغزالي، وغيرهما. انظر: مشكل الحديث وبيانه لابن فورك ص 472-473. وقواعد العقائد للغزالي ص 165-167.

ومنهم من قال: بل فعل الربّ قديم أزليّ، وهو من صفاته الأزليّة؛ وهو قول قدماء الكلابيّة1، وهو الذي ذكره أصحاب ابن خزيمة2 ما وقع بين ابن خزيمة والكلابية لمّا وقع بينه وبينهم بسبب هذا الأصل، فكتبوا عقيدةً اصطلحوا عليها3، وفيها: إثبات الفعل القديم الأزليّ. وكان سبب ذلك أنّهم كانوا كلابيّة يقولون: إنّه لا يتكلّم بمشيئته وقدرته، بل كلامه المعيّن لازمٌ لذاته أزلاً وأبداً.

_ 1 الكلابية: هم أتباع أبي محمد عبد الله بن سعيد القطان، المعروف بابن كلاب. سلك الأشعريّ مسلكه في طوره الثاني، وتوفي سنة 240?. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (الكلابية والأشعرية خير من هؤلاء - يقصد النجارية والضرارية - في باب الأسماء والصفات؛ فإنهم يثبتون لله الصفات العقلية، وأئمتهم يثبتون الصفات الخبرية في الجملة؛ كما فصّلتُ أقوالهم في غير هذا الموضع. وأما في القدر ومسائل الأسماء والأحكام فأقوالهم متقاربة) . مجموع الفتاوى 3/103. وانظر: مقالات الإسلاميين 1/350، 351،، 2/225-227. وذكر مذاهب الفرق الثنتين والسبعين المخالفة للسنة والمبتدعين ص 139-140. 2 أصحاب ابن خزيمة: المقصود بهم: أبو علي الثقفي، وأبو بكر الصيفي، وكانا من أخص تلاميذ ابن خزيمة وكانا يقولان بقول ابن كلاب في كلام الله: أنّه أزليّ، وأنّه لا يتكلّم إذا شاء، متى شاء، ولا يتعلّق ذلك بمشيئته. فوقع بين ابن خزيمة وبينهما في ذلك نزاع، حتى أظهروا موافقتهم له فيما لا نزاع فيه. انظر: درء تعارض العقل والنقل 2/9، 77-83، 101. ومجموع الفتاوى 17/56. وسير أعلام النبلاء 14/377-381. وابن كُلاّب كان قد نفى أن يكون كلام الله تعالى من صفات الأفعال، وأثبته على أنّه كلامٌ يقوم بذات المتكلّم بلا قدرة ولا مشيئة، أزليّ كأزليّة العلم والقدرة. انظر: شرح حديث النزول لابن تيمية ص 169-170. ودرء تعارض العقل والنقل له 2/18. 3 ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أنّ هذه المشاجرة التي وقعت بين ابن خزيمة وبعض أصحابه، وما نتج عنها، ذكرها بطولها الحاكم أبو عبد الله النيسابوري في تاريخ نيسابور. انظر: مجموع الفتاوى 17/56. ودرء تعارض العقل والنقل 2/78-83.

وكان ابن خزيمة وغيره على القول المعروف للمسلمين وأهل السنّة: أنّ الله يتكلّم بمشيئته وقدرته، وكان قد بلغه عن الإمام أحمد أنّه كان يذمّ الكلابيّة، وأنّه أمر بهجر الحارث المحاسبي1 لما بلغه أنه على قول ابن كلاب2. وكان يقول: حذروا عن حارث الفقير؛ فإنّه جهميّ3. واشتهر هذا عن أحمد4.

_ 1 هو الحارث بن أسد المحاسبي، أبو عبد الله. من شيوخ الصوفية. قال عنه الذهبي: صدوق في نفسه. وقد نقموا عليه بعض تصوفه وتصانيفه. سير أعلام النبلاء12/110-112. وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "وبسبب مذهب ابن كلاب هجره الإمام أحمد بن حنبل، وقيل تاب منه". منهاج السنة النبوية 1/424. وانظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام 12/368. وقد نقل ابن الجوزي في تلبيس إبليس ص240 عن أبي عبد الرحمن السلمي - صاحب طبقات الصوفية ت 412 أنه قال "وتكلم الحارث المحاسبي في شيء من الكلام والصفات، فهجره أحمد بن حنبل، فاختفى إلى أن مات". 2 في ((ط)) : ابن كلام. وهو خطأ مطبعيّ. 3 لم أجد هذه العبارة بنصها فيما اطلعت عليه من مصادر. ولكن ذكر أبو يعلى في الطبقات: عن الإمام أحمد أنه قال: "حارث أصل البليّة.... ما الآفة إلاّ حارِث..... حذّروا عن حارث أشدّ التحذير..". الطبقات 1/62-63. ونقل ابن الجوزي عن الخلال في كتابه السنة، عن أحمد بن حنبل أنه قال: "احذروا من الحارث أشد التحذير.. الحارث أصل البلية - يعني في حوادث كلام جهم - ذاك جالسه فلان وفلان، وأخرجهم إلى رأي جهم، وما زال مأوى أصحاب الكلام.. حارث بمنزلة الأسد المرابط، انظر: أي يوم يثب على الناس". تلبيس إبليس ص 240. 4 لعل كلمة الإمام أحمد رحمه الله فيه قبل أن يتوب ويرجع كما ذكر ذلك ابن تيمية رحمه الله.. قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وكان الحارث المحاسبي يوافقه - أي ابن كلاب، ثم قيل إنه رجع عن موافقته؛ فإنّ أحمد بن حنبل أمر بهجر الحارث المحاسبي وغيره من أصحاب ابن كلاب لما أظهروا ذلك.. كما أمر السري السقطي الجنيد أن يتقي بعض كلام الحارث. فذكروا أنّ الحارث رحمه الله تاب من ذلك، وكان له من العلم والفضل والزهد". مجموع الفتاوى 6/521-522. وانظر: المصدر نفسه 12/368، 17/56. ودرء تعارض العقل والنقل 2/6، 7/148-149. ومنهاج السنة النبوية 1/424. وقال أيضاً رحمه الله: "وكان الناس قبل أبي محمد بن كلاب صنفين؛ فأهل السنة والجماعة يُثبتون ما قام بالله تعالى من الصفات والأفعال التي يشاؤها ويقدر عليها. والجهميّة من المعتزلة وغيرهم تنكر هذا وهذا. فأثبت ابن كلاب قيام الصفات اللازمة به، ونفى أن يقوم به ما يتعلّق بمشيئته وقدرته من الأفعال وغيرها. ووافقه على ذلك أبو العباس القلانسي، وأبو الحسن الأشعري، وغيرهما. وأما الحارث المحاسبي: فكان ينتسب إلى قول ابن كلاب، ولهذا أمر أحمد بهجره، وكان أحمد يحذر عن ابن كلاب وأتباعه، ثم قيل عن الحارث: إنه رجع عن قوله". درء تعارض العقل والنقل 2/6. وانظر: مجموع الفتاوى 12/366-368.

وكان بنيسابور1 طائفة من الجهميّة والمعتزلة ممّن يقولون2 إنّ القرآن وغيره من كلام الله مخلوق، ويُطلقون القول بأنّه متكلّم بمشيئته وقدرته، ولكنّ مرادهم بذلك أنّه يخلق كلاماً بائناً عنه، قائماً بغيره؛ كسائر المخلوقات. وكان من هؤلاء من عرف أصل ابن كلاب، فأراد التفريق بين ابن خزيمة وبين طائفة من أصحابه، فأطلعه على حقيقة قولهم3، فنَفَرَ

_ 1 نيسابور: مدينة عظيمة من بلاد خراسان، سمّيت بذلك لأنّ سابور بن أزدشير بن بابك مرّ بها. ومنها ما لا يحصى من العلماء والأئمة؛ كالإمام مسلم وغيره. وقد دخلها التتر سنة 618 هـ فدمّروها. انظر: معجم البلدان 5/331. ولطائف المعارف ص 191. 2 في ((خ)) يقول: وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 أي أنّ هذا المعتزلي - أو الجهميّ - الذي أراد التفريق بين ابن خزيمة وبعض أصحابه أطلع ابن خزيمة على موافقة بعض أصحابه لابن كلاب في معتقده في كلام الله تعالى.

منه1. وهم كانوا قد بنوا ذلك على أصل ابن كلاب، واعتقدوا أنّه لا تقوم به الحوادث بناءً على هذه الطريقة؛ طريقة الأعراض. وابن خزيمة شيخهم، وهو الملقّب بإمام الأئمة، وأكثر الناس معه، ولكن لا يفهمون حقيقة النزاع؛ فاحتاجوا لذلك إلى ذكر عقيدة لا يقع فيها نزاع بين الكلابيّة وبين أهل الحديث والسنّة؛ فذكروا فيها: أنّ كلام الله غير مخلوق، وأنّه لم يزل متكلّماً2، وأنّ فعله أيضاً غير مخلوق؛ فالمفعول مخلوق، ونفس فعل الربّ له قديم غير مخلوق3. وهذا قول الحنفيّة، وكثير من الحنبليّة، والشافعيّة، والمالكيّة، وهو اختيار القاضي أبي يعلى وغيره في آخر عمره. وبَسْطُ هذا له موضع آخر4.

_ 1 قال الحاكم: "فلما ورد منصور بن يحيى الطوسي نيسابور، وكان يكثر الاختلاف إلى ابن خزيمة للسماع منه، وهو معتزلي، وعاين ما عاين من الأربعة الذين سميناهم، حسدهم، واجتمع مع أبي عبد الرحمن الواعظ القدري بباي معمر في أمورهم غير مرة، فقالا: هذا إمام لا يسرع في الكلام، وينهى أصحابه عن التنازع في الكلام وتعليمه، وقد نبغ له أصحاب يُخالفونه، وهو لا يدري، فإنّهم على مذهب الكلابية، فاستحكم طمعهما في إيقاع الوحشة بين هؤلاء الأئمة. سير أعلام النبلاء 14/377، 381. وكذلك ذكر تلك القصة شيخ الإسلام رحمه الله في درء تعارض العقل والنقل 2/78-83، وفي مجموع الفتاوى 6/169-172. 2 وقد روى الحاكم بسنده عن الإمام ابن خزيمة أنّه قال: "القرآن كلام الله ووحيه وتنزيله غير مخلوق، ومن قال شيء منه مخلوق فهو جهميّ". نقله عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء 14/379. وتذكرة الحفاظ 2/726. وابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل 2/79. 3 انظر: هذه العقيدة في: مجموع الفتاوى 6/169-172. وسير أعلام النبلاء 14/381. وتذكرة الحفاظ 2/727. 4 انظر: موقف الإمام ابن خزيمة من بعض أصحابه ممّن كان يقول بقول ابن كلاب في: درء تعارض العقل والنقل 2/60، 77-83، 101. وشرح العقيدة الأصفهانية ص 34. ومجموع الفتاوى 6/169-172. وشرح حديث النزول ص 158-159. وسير أعلام النبلاء 14/377-381.

افتراق الأمة بسبب طريقة الأعراض والمقصود التنبيه على افتراق الأمة بسبب هذه الطريقة. ولما عرف كثير من النّاس باطن قول ابن كلاب، وأنّه يقول: إنّ الله لم يتكلّم بالقرآن العربيّ، وإنّ كلامه شيء واحد؛ هو معنى آية الكرسيّ، وآية الدَّيْن1 عرفوا ما فيه من مخالفة الشرع والعقل؛ فنفروا2 عنه، وعرفوا أنّ هؤلاء يقولون: إنّه لا يتكلّم بمشيئته وقدرته، فأنكروه. وكان ممّن أنكر ذلك الكرّامية3، وغير الكرّاميّة؛ كأصحاب أبي معاذ

_ 1 ذكر أبو الحسن الأشعريّ أنّ ابن كُلاّب زعم أنّ كلام الله: "ليس بحروف ولا صوت، ولا ينقسم، ولا يتجزّأ، ولا يتبعّض، ولا يتغاير. وأنّه معنى واحد قائم بالله عزّ وجلّ، وأنّ الرسم هو الحروف المتغايرة، وهو قراءة القرآن. وأنّه خطأ أن يقال: كلام الله هو هو، أو بعضه، أو غيره. وأنّ العبارات عن كلام الله تختلف وتتغاير، وكلام الله سبحانه ليس بمختلف ولا متغاير؛ كما أنّ ذكرنا لله عزّ وجلّ يختلف ويتغاير، والمذكور لا يختلف ولا يتغاير. وإنّما سُمّيَ كلام الله سبحانه عربياً؛ لأنّ الرسم الذي هو العبارة عنه، وهو قراءته: عربيّ؛ فسُمّي عربياً لعلّة، وكذلك سُمّي عبرانياً لعلّة؛ وهي أنّ الرسم الذي هو عبارة عنه عبرانيّ ... ". مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري 2/257-258. وانظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية 8/424-425، 12/49، 165، 370-371، 17/50-51، 147. والفتاوى المصرية 5/15. 2 في ((خ)) : فيفرّوا. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 الكرامية: فرقة من فرق المرجئة، تنتسب إلى محمد بن كرّام. قال عنه الذهبي: عابد متكلّم شيخ الكرامية. مات بالشام سنة 255 هـ. قال شيخ الإسلام عنهم: "الكرامية قولهم في الإيمان قول منكر لم يسبقهم إليه أحد؛ حيث جعلوا الإيمان قول باللسان وإن كان مع عدم تصديق القلب؛ فيجعلون المنافق مؤمناً، لكنّه يخلد في النّار؛ فخالفوا الجماعة في الاسم دون الحكم. وأمّا في الصفات والقدر والوعيد فهم أشبه من أكثر طوائف الكلام التي في أقوالها مخالفة للسنّة". مجموع الفتاوى 3/103. وقال - رحمه الله - أيضاً إنّ الكراميّة المجسمة كلّهم حنفيّة. مجموع الفتاوى 3/185. وانظر: في بيان معتقد الكرامية: مجموع الفتاوى 6/36. والملل والنحل 1/108. والفرق بين الفرق ص 215-225. وميزان الاعتدال 4/21.

التومني1، وزهير البابي2، وداود بن3 عليّ4، وطوائف. فصار كثير من هؤلاء يقولون: إنّه يتكلّم بمشيئته وقدرته، فأنكروه، لكن يراعي تلك الطريقة لاعتقاده صحتها؛ فيقول: إنّه لم يكن في الأزل متكلّماً؛ لأنّه إذا

_ 1 أبو معاذ التومني ينتسب إلى قرية تومن من قرى مصر. من أئمة المرجئة، ورأس الفرقة التومنية. لا يُعرف تاريخ وفاته. وأشار كل من الأشعريّ، والشهرستاني، والبغدادي إلى أقواله وآرائه بالتفصيل. انظر: المقالات لأبي الحسن الأشعري 1/351. والملل والنحل للشهرستاني 1/144. والفرق بين الفرق للبغدادي ص 203-204. والأنساب للسمعاني 3/111. 2 كذا في جامع الرسائل 2/6: البابي. وأحياناً يُذكر باسم زهير اليامي - ولعله تصحيف - انظر: مجموع الفتاوى 6/219) . لم أقف على ترجمته. وكثيراً ما يقرن شيخ الإسلام بينه وبين أبي معاذ التومني في عرض آرائهما العقديّة، وأنّهما من أهل الكلام من المرجئة. ويُسمّيه في درء تعارض العقل والنقل، وشرح حديث النزول: زهير الأبريّ. وقد أفاد د/محمد رشاد سالم رحمه الله أنّ هذه التسمية خاطئة، والصحيح أنّه زهير الأثريّ؛ كما ذكر ذلك الأشعريّ في المقالات، وقال: وكان أبو معاذ التومني يوافق زهيراً في أكثر أقواله. وقد ذكر الأشعريّ في المقالات آراءه بالتفصيل. انظر: مقالات الإسلاميين 1/351، 2/232. وانظر: درء تعارض العقل والنقل 2/19. وشرح حديث النزول ص 404. ومنهاج السنة النبوية 2/361. 3 في ((خ)) : بابن. 4 هو داود بن علي بن خلف الأصبهاني، أبو سليمان، الملقّب بالظاهريّ. قال عنه الخطيب: (هو إمام أصحاب الظاهر، وكان ورعاً ناسكاً زاهداً. مات سنة 270 ?، وقيل سنة 275 ?) . تاريخ بغداد 8/369. وانظر: البداية والنهاية 11/55 والأعلام للزركلي 2/333.

كان لم يزل متكلماً بمشيئته، لزم وجود حوادث لا تتناهى12. وأصل الطريقة أنّ هذا ممتنع، فصار حقيقة قول هؤلاء أنّه صار متكلّماً بعد أن لم يكن متكلّماً. فخالفوا قول السلف والأئمة، أنه لم يزل متكلّماً إذا شاء. وبسط هذه الأمور له موضع آخر3. ذم السلف للكلام والمتكلمين والمقصود هنا أنّ كثيراً من أهل النظر صار ما يوجبونه من النظر والاستدلال ويجعلونه أصل الدين والإيمان هو هذه الطريقة المبتدعة في الشرع، المخالفة للعقل، التي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمها وذمّ أهلها: فذمّهم للجهميّة الذين ابتدعوا هذه الطريقة أولاً متواترٌ مشهور، قد صُنِّف فيه مصنّفات4. وذمّهم للكلام والمتكلّمين ممّا عني به أهل هذه الطريقة؛

_ 1 في ((خ)) : (تتناهى) بدلاً من (لا تتناهى) ، وهو غير مستقيم. والصواب ما في ((م)) ، و ((ط)) . 2 وهم يقولون: إنّ الله تعالى لم يكن في الأزل متكلماً إلا بمعنى القدرة على الكلام؛ لأنه لو كان متكلّماً أزلاً بكلام متعلق بمشيئته وقدرته للزم وجود حوادث لا تتناهى في القدم، ويمتنع وجود حوادث لا أول لها. انظر: توضيح معتقدهم في صفة الكلام في كتب ابن تيمية: مجموع الفتاوى 6/524. والفرقان بين الحق والباطل ص 100. وبغية المرتاد ص 361. 3 بسط شيخ الإسلام رحمه الله الكلام عن موقف المشبهة من صفة الكلام، ومخالفتهم للسلف والأئمة في هذه القضيّة في كتابه: رسالة في العقل والروح - موجود ضمن مجموعة الرسائل المنيرية 2/33 -. وفي قاعدة نافعة في صفة الكلام - يوجد أيضاً ضمن مجموعة الرسائل المنيرية 2/75 -. وفي الفرقان بين الحق والباطل ص100-101. وفي مجموع الفتاوى 6/524. 4 فالإمام نعيم بن حماد، قال عنه الذهبي: "وضع ثلاثة عشر كتاباً في الردّ على الجهميّة". انظر: سير أعلام النبلاء 10/599. والإمام أحمد بن حنبل صنّف كتاباً في الردّ على الجهميّة والزنادقة. وهو مطبوع. والإمام محمد بن أسلم الطوسيّ، له كتاب ((الرد على الجهميّة)) . انظر: سير أعلام النبلاء 12/197. والإمام ابن أبي حاتم له كتاب ((الرد على الجهميّة)) . انظر: سير أعلام النبلاء13/264. والإمام ابن قتيبة له كتاب ((الرد على الجهميّة)) . انظر: سير أعلام النبلاء 13/298. والإمام عثمان بن سعيد الدارمي صنّف في الردّ على بشر المريسي، وفي الرد على الجهميّة، وكلاهما مطبوع. وغير هؤلاء كثير جداً ممّن لا يُحصون في موضع واحد ...

كذمّ الشافعيّ لحفص الفرد12، الذي كان على قول ضرار بن3 عمرو4.

_ 1 حفص الفرد من المجبرة، ومن أكابرهم، نظير النجّار، ويكنى أبا عمرو، وكان من أهل مصر. كان أول أمره معتزلياً، ثمّ قال بخلق الأفعال، وهو من أتباع ضرار بن عمرو، وسمع من أبي الهذيل العلاف من كتبه: الاستطاعة، وكتاب التوحيد، وكتاب الرد على النصارى، وغيرها. قال عنه الذهبي: "حفص الفرد مبتدع، قال النسائي: صاحب كلام لا يكتب حديثه. وكفّره الشافعيّ في مناظرته". ميزان الاعتدال1/564. وانظر: الفرق بين الفرق ص 214. والفهرست لابن النديم ص 255. 2 وأمّا ذم الشافعي له، ففيما رواه البيهقي عن أبي الوليد بن الجارود، قال: "دخل حفص الفرد على الشافعي، فقال - أي الشافعي - لنا: لأن يلقى اللهَ العبدُ بذنوب مثل جبال تهامة، خير له من أن يلقاه باعتقاد حرف ممّا عليه هذا الرجل وأصحابه. وكان يقول بخلق القرآن". أخرجه البيهقي في مناقب الشافعي 1/452، وفي الاعتقاد ص 239. وانظر: درء تعارض العقل والنقل 7/250. وشرح الأصفهانية 2/321. 3 في ((خ)) ابن. 4 هو ضرار بن عمرو القاضي. قال عنه الذهبي: "من رؤوس المعتزلة، شيخ الضراريّة. قال الإمام أحمد بن حنبل: شهدت على ضرار بن عمرو عند سعيد بن عبد الرحمن، فأمر بضرب عنقه، فهرب". سير أعلام النبلاء 10/544-545. وانظر: الملل والنحل 1/90. والمقالات 1/339. والفرق بين الفرق ص 213-214

وذمّ أحمد بن حنبل لأبي عيسى؛ محمد بن1 عيسى برغوث23، الذي كان على قول حسين النجار4. وذمّهما، وذمّ أبي يوسف56،

_ 1 في ((خ)) : ابن. 2 برغوث: أبو عبد الله محمد بن عيسى. وكان على مذهب النجّار. قال عنه الذهبي: وهو رأس البدعة.. الجهميّ، أحد من كان يناظر الإمام أحمد وقت المحنة. صنّف كتاب الاستطاعة، وكتاب المقالات، وكتاب الاجتهاد، وكتاب الردّ على جعفر ابن حرب، وكتاب المضاهاة. قيل توفي سنة أربعين ومائتين، وقيل سنة إحدى وأربعين. وإليه تنسب الفرقة البرغوثيّة. سير أعلام النبلاء 10/544. وانظر: الفرق بين الفرق ص 209. والمقالات 2/230. ودرء تعارض العقل والنقل 7/257. وشرح حديث النزول ص 251-252. وشرح الأصفهانية 2/322. 3 ومن أقوال الإمام أحمد في ذمّ أهل الكلام: (علماء الكلام زنادقة) ، "لا يفلح صاحب كلام أبداً، ولا يرى أحد نظر في الكلام إلا في قلبه دغل". انظر: جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 2/95. وتلبيس إبليس لابن الجوزي ص 83. ودرء تعارض العقل والنقل 7/275. 4 هو أبو عبد الله الحسين بن محمد بن عبد الله النجار، وكان حائكاً في حراز العباس ابن محمد الهاشمي. من كبار المجبرة ومتكلميهم. والسبب في موته أنّه اجتمع مع إبراهيم النظّام، فأفحمه النظّام في مناظرات جرت بينهما، فانصرف محموماً، فكان ذلك سبب علته التي مات فيها. انظر: الفهرست لابن النديم ص 204. وذكر الأشعريّ في المقالات 2/340 أنّ أصحابه يسمون الحسينيّة. وأما الشهرستاني في الملل والنحل فسمّأهم النجّاريّة، وذكر أنّ أكثرهم معتزلة. وكذلك ذكرهم البغدادي في الفرق بين الفرق ص 207. 5 هو القاضي أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري الكوفي، تلميذ أبي حنيفة. عالم، فقيه، محدث. قال يحيى بن معين: ما رأيت في أصحاب الرأي أثبت في الحديث، ولا أحفظ، ولا أصلح رواية من أبي يوسف. توفي رحمه الله سنة 182 هـ. انظر: تذكرة الحفاظ 1/292. والجواهر المضيئة 2/220. 6 ومن ذم أبي يوسف لأهل الكلام، قوله: "من طلب العلم بالكلام تزندق". انظر: درء تعارض العقل والنقل 1/232. والصواعق المرسلة لابن القيم 4/1264. وقد ذكر الذهبي رحمه الله في العلو ص112 قول أبي يوسف: (من طلب الدين بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن تتبع غريب الحديث كذب) .

ومالك1، وغيرهم2 لأمثال هؤلاء الذين سلكوا هذه الطريقة3. وقد صنّف في ذمّ الكلام وأهله مصنّفات أيضاً4، وهو متناول لأهل

_ 1 ومن ذمّ الإمام مالك لأهل الكلام، قوله: (لعن الله عمراً - يعني عمرو بن عبيد؛ فإنّه ابتدع هذه البدع من الكلام، ولو كان الكلام علماً، لتكلّم فيه الصحابة والتابعون كما تكلموا في الأحكام والشرائع. ولكنّه باطل يدلّ على باطل". شرح السنة للبغوي 1/217. وانظر: الفتاوى المصرية لابن تيمية 6/560. ومن أقواله: "لا تجوز شهادة أهل الأهواء والبدع..". انظر: الصواعق المرسلة لابن القيم 4/1264. 2 كالقاضي ابن سريج ((مجموع الفتاوى 17/305)) ، والإمام البغوي ((شرح السنة 1/216)) ، وغيرهما. 3 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فقول ضرار والنجار وأتباعهما كبرغوث وحفص، وقول بشر المريسي ونحوه من أهل الكلام الذين ذمهم الشافعي، وأحمد، وغيرهما من الأئمة: ليس فيه إنكار للقدر، بل فيه إثبات له، وإنّما ذموهم لما في قولهم من نفي ما وصف الله به نفسه، مع أنّ قول النجار وضرار خير من قول المعتزلة، وقولهما في الرؤية يشبه قول من ينفي العلوّ ويُثبت الرؤية من الأشعريّة ونحوهم. وأصل كلامهم الذي بنوا عليه نفي ذلك ما تقدّم من الأصول الثلاثة ليس لهم غيرها، وهي: دليل الأعراض، والتركيب، والاختصاص". درء تعارض العقل والنقل 7/278. 4 يقول الشيخ عبد الرحمن الشبل في مقدمة تحقيق كتاب ذم الكلام للهروي 1/2: "أمّا الكتب التي ألفها أهل العلم في بيان زيف علم الكلام وبطلانه، وفضح أهله، والرد عليهم، فأكثر من أن تحصى. ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله النصيب الأكبر منها، بل إنّ كلّ كتاب ألّفه لا بُدّ أن يُشير غالباً إلى شيء من ذلك. لكن من باب التمثيل أيضاً أُشير إلى الكتب الآتية: 1- الغنية عن الكلام وأهله لأبي سليمان الخطابي. 2- إلجام العوام عن علم الكلام لأبي حامد الغزالي. وله أيضاً: 3- تهافت الفلاسفة. 4- الرد على المنطقيين لشيخ الإسلام ابن تيمية. وله أيضاً: نقض المنطق. 5- نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان. 6- فصل الكلام في ذم الكلام لجلال الدين السيوطي. وله أيضاً: 7- القول المشرق في تحريم الاشتغال بالمنطق. 8- صون المنطق والكلام عن فني المنطق والكلام. 9- جهد القريحة في تجريد النصيحة. لخّص فيه السيوطي كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية المذكور آنفاً. وانظر: أيضاً درء تعارض العقل والنقل لشيخ الإسلام ابن تيمية، والصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة لابن قيم الجوزية، ومختصره لمحمد الموصلي؛ ففيهما مباحث قيّمة تتعلّق بهذا الباب".

هذه الطريقة قطعاً. فكان إيجاب النظر بهذا التفسير باطلاً قطعاً، بل هذا نظر فاسد يُناقض الحقّ والإيمان. حذاق الطوائف ببينوا فساد طريقة الأعراض ولهذا صار من يسلك هذه الطريقة1 من حذّاق الطوائف يتبيّن لهم فسادها2؛ كما ذكر مثل ذلك أبو حامد الغزالي3، وأبو عبد الله الرازي4، وأمثالهما5.

_ 1 طريقة الأعرض وحدوث الأجسام. 2 كذا في ((خ)) ، و ((م)) . وفي ((ط)) : فاسدها. وهو خطأ. 3 وقد تقدّم قوله: "فليت شعري متى نُقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم قالوا لمن جاءهم مسلماً: الدليل على أنّ العالم حادث: أنّه لا يخلو عن الأعراض، وما لا يخلو عن الحوادث حادث". فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة ص 89. وفي قوله توهين لقيمة هذه الطريقة، وتقليل من شأنها، ودليل على أنّه لا يرى - في قرارة نفسه - أنّ هذه الطريقة صالحة للاستدلال على إثبات الصانع. 4 وقد تقدّم أنّ الرازي ضعّف البراهين الخمسة التي احتُجّ بها على حدوث العالم وحدوث الأجسام. انظر: المطالب العالية للرازي 1/71، والمباحث المشرقية له1/327. 5 ذكر أبو الحسن الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر أنّ الرسل لم تدع إلى هذا الدليل المبتدع انظر: ص 185-192) . وكذلك نقل الشهرستاني والخطابي ذمّها. انظر: درء تعارض العقل والنقل 7/227، 293، وما بعدها.

ثمّ الذي يتبيّن له فسادها: إذا لم يجد عند من يعرفه من المتكلمين في أصول الدين غيرها بقي حائراً مضطرباً1. الفلاسفة تسلطوا على المتكلمين بسبب فساد طريقة الأعراض والقائلون بقدم العالم؛ من الفلاسفة، والملاحدة، وغيرهم تبيّن2 لهم فسادها؛ فصار ذلك من أعظم حججهم على قولهم الباطل؛ فيُبطلون قول هؤلاء أنّه صار فاعلاً، أو فاعلاً ومتكلماً بمشيئته بعد أن لم يكن3، ويُثبتون وجوب دوام نوع الحوادث، ويظنّون أنّهم إذا أبطلوا كلام أولئك المتكلمين بهذا حصل مقصودهم4. وهم5 أضلّ وأجهل من أولئك6؛ فإنّ أدلتهم لا توجب قدم شيء بعينه من العالم، بل كلّ ما سوى الله فهو حادث مخلوق كائن بعد أن لم يكن، ودلائل كثيرة غير تلك الطريقة7.

_ 1 لذلك نجد أكثر من سلك هذا المسلك أصابته الحيرة في آخر عمره؛ فمنهم من تاب وأناب، ومنهم من صرّح بما كان يخفيه، وأعلن عن رأيه في الكلام والمنطق. وسيأتي كلام الرازي، والشهرستاني، والغزالي، وغيرهم لاحقاً إن شاء الله. 2 في ((خ)) يبين. والصواب من ((م)) ، و ((ط)) . 3 يقول شيخ الإسلام ابن تيمية حاكياً عن طريقة الأعراض التي سلكها المتكلمون: "فطريقتهم التي أثبتوا بها أنه خالق للخلق، مرسل للرسل، إذا حُقّقت عليهم، وُجد لازمها أنه ليس بخالق ولا مُرسِل. فيبقى المسلم العاقل إذا تبيّن له حقية الأمر، وكيف انقلب العقل والسمع على هؤلاء، متعجباً. ولهذا تسلّط عليهم بها أعداء الإسلام من الفلاسفة والملاحدة وغيرهم؛ لما بيّنوا أنّه لا يثبت بها خلق ولا إرسال؛ فادّعى أولئك قدم العالم، وأثبتوا موجباً بذاته، وقالوا: إنّ الرسالة فيض يفيض على النبيّ من جهة العقل الفعّال، لا أنّ هناك كلاماً تكلّم الله تعالى به قائماً به أو مخلوقاً في غيره". شرح العقيدة الأصفهانية - بتحقيق السعوي - ص 329-330. 4 أي مقصود الفلاسفة. 5 أي الفلاسفة. 6 أي من المتكلمين. 7 انظر: كلام شيخ الإسلام رحمه الله على تسلط الفلاسفة وملاحدة الصوفية على المتكلمين في: الرد على المنطقيين ص 310-311. وشرح الأصفهانية ص 329-331. ومجموع الفتاوى 13/157. وشرح حديث النزول ص 420-422، 428. ومنهاج السنة النبوية 1/352. قال شيخ الإسلام: "إنّ هؤلاء المتكلمين الذين زعموا أنهم ردوا عليهم، لم يكن الأمر كما قالوه، بل هم فتحوا لهم دهليز الزندقة. ولهذا يوجد كثير ممن دخل في هؤلاء الملاحدة إنما دخل من باب أولئك المتكلمين؛ كابن عربي، وابن سبعين، وغيرهم. وإذا قام من يرد على هؤلاء الملاحدة، فإنهم يستنصرون ويستعينون بأولئك المتكلمين المبتدعين، ويعينهم أولئك على من ينصر الله ورسوله؛ فهم جندهم على محاربة الله ورسوله كما قد وجد ذلك عياناً". شرح حديث النزول ص 422-423.

وإن كان الفاعل لم يزل فاعلاً لما يشاء، ومتكلماً بما يشاء، وصار كثير من أولئك1 إذا ظهر له فساد أصل أولئك المتكلمين المبتدعين، وليس عنده إلا قولهم، وقول هؤلاء2، يميل إلى قول هؤلاء الملاحدة، ثمّ قد يُبطن ذلك، وقد يُظهر لمن يأمنه. أثر طريقة الأعراض على المتصوفة وابتُلِيَ بهذا كثير من أهل النظر والعبادة والتصوف، وصاروا يُظهرون هذا في قالب المكاشفة3، ويزعمون أنّهم أهل التحقيق والتوحيد

_ 1 ممّن سلكوا طريقة الأعراض وحدوث الأجسام. 2 الفلاسفة والملاحدة. 3 المكاشفة: هي عبارة عن بيان ما يستتر عن الفهم، فيُكشف للعبد عنه كأنّه يراه رأي العين. انظر: حياة القلوب في كيفية الوصول إلى المحبوب - بهامش قوت القلوب - (2/273) . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فما كان من الخوارق من باب العلم، فتارة بأن يسمع العبد ما لا يسمعه غيره، وتارة بأن يرى ما لا يراه غيره يقظة ومناماً، وتارة بأن يعلم ما لا يعلم غيره وحياً وإلهاماً. أو إنزال علم ضروري، أو فراسة صادقة، ويُسمّى كشفاً ومشاهدات ومكاشفات ومخاطبات. فالسماع مخاطبات، والرؤية مشاهدات، والعلم مكاشفة. ويُسمّى ذلك كله (كشفاً) و (مكاشفة) ؛ أي كشف له عنه". مجموع الفتاوى 11/313. وانظر: الصفدية 1/186.

والعرفان. فأخذوا من نفي الصفات أنّ صانع العالم1 لا داخل العالم، ولا خارجه. ومن قول هؤلاء: إنّ العالم قديم، ولم يروا موجوداً سوى العالم، فقالوا: إنّه هو الله، وقالوا: هو الوجود المطلق، والوجود واحد، وتكلّموا في وحدة الوجود2، وأنه الله بكلام ليس هذا موضع بسطه3.

_ 1 في ((خ)) العلم. وهو خطأ. وما أثبته من ((م)) ، و ((ط)) . 2 وحدة الوجود: من أبرز عقائد ملاحدة الصوفية. وقد أوضح شيخ الإسلام مقصودهم به فقال: "معناه أن وجود الكائنات هو عين وجود الله تعالى، وليس وجودها غيره، ولا شيء سواه البتة". مجموع الفتاوى 11/140. وانظر: المصدر نفسه 11/172-173. والباطنية: باطنية الشيعة والمتصوّفة؛ كابن سبعين وابن عربي هم في الباطن كذلك، بل يقولون: الوجود واحد: وجود الخالق هو وجود الخلق، فيجب أن يكون كل موجود عابداً لنفسه، شاكراً لنفسه، حامداً لنفسه. وابن عربي يجعل الأعيان ثابتة في العدم، وقد صرّح بأنّ الله لم يعط أحداً شيئاً، وأنّ جميع ما للعباد فهو منهم لا منه، وهو مفتقر إليهم لظهور وجوده في أعينهم، وهم مفتقرون إليه لكون أعيانهم ظهرت في وجوده، فالربّ إن ظهر فهو العبد، والعبد إن بطن فهو ربّ، ولهذا قال: لا تحمد ولا تشكر إلا نفسك، فما في أحد من الله شيء ولا في أحد من نفسه شيء. ولهذا قال: إنه يستحيل من العبد أن يدعوه لأنه يشهد أحدية العين، فالداعي هو المدعو، فكيف يدعو نفسه. وزعم أن هذا هو خلاصة غاية الغاية، فما بعد هذا شيء. انظر: جامع المسائل 2/104-105. 3 وقد تكلّم شيخ الإسلام رحمه الله عن هذا الموضوع بكثرة. انظر: على سبيل المثال: الجزء الثاني من الفتاوى؛ فقد حوى رسائل في هذا الموضوع، منها رسالة تسمى ((حقيقة مذهب الاتحاديين أو وحدة الوجود)) من ص 134-285، وكذلك ((رسالة إلى نصر المنبجي)) من ص 452-479. وانظر: جامع الرسائل 2/104-116، 201-206.

ثمّ لمّا ظهر أنّ كلامهم يُخالف الشرع والعقل، صاروا يقولون: ثَبَتَ1 عندنا في الكشف ما يُناقض صريح العقل، ويقولون: القرآن كله شرك، وإنّما التوحيد في كلامنا، ومن أراد أن يحصل له هذا العلم اللدنيّ الأعلى، فليترك العقل والنقل2. وصار حقيقة قولهم الكفر بالله، وبكتبه، ورسله، وباليوم الآخر من جنس قول الملاحدة الذين يظهرون التشيّع. لكنّ أولئك لمّا كان ظاهر قولهم هو ذمّ الخلفاء كأبي بكر وعمر وعثمان [رضي الله عنهم] 3، صارت وصمة الرفض تنفر عنهم خلقاً كثيراً لم يعرفوا باطن أمرهم، وهؤلاء صاروا ينتسبون إلى المعرفة والتوحيد واتباع شيوخ الطرق؛

_ 1 كذا في ((خ)) . وفي ((م)) ، و ((ط)) : يثبت. 2 انظر: كلام هؤلاء في الفرقان ص 229. والفتاوى 2/472. قال شيخ الإسلام رحمه الله عنهم: "ولهذا كان هؤلاء الاتحاديّة والحلوليّة يصفونه بما توصف به الأجسام المذمومة، ويصرحون بذلك، وهؤلاء من أعظم النّاس كفراً وشتماً لله، وسبّاً لله سبحانه وتعالى عمّا يقول الظالمون علواً كبيراً ... ويُسمّون أنفسهم المنزِّهون، وهم أبعد الخلق عن تنزيه الله وأقرب لتنجيس تقديسه.... وهذا التلمساني هو وسائر الاتحادية؛ كابن عربي الطائي صاحب الفصوص وغيره، وابن سبعين، وابن الفارض والقونوي صاحب ابن عربي شيخ التلمساني، وسعيد الفرغاني، إنما يدعون الكشف والشهود لما يخبرون عنه وأن تحقيقهم لا يوجد بالنظر والقياس والبحث، وإنما هو شهود الحقائق وكشفها. ويقولون: ثبت عندنا في الكشف ما يُناقض صريح العقل، ويقولون لمن يسلكونه لا بد أن يجمع بين النقيضين وأن يخالف العقل والنقل، ويقولون: القرآن كله شرك، وإنما التوحيد في كلامنا، ويقولون: لا فرق عندنا بين الأخوات والبنات والزوجات؛ فإنّ الوجود واحد، لكن هؤلاء المحجوبون قالوا حرام، فقلنا حرام عليكم ... ". بيان تلبيس الجهميّة 2/538-539. وانظر: بغية المرتاد ص 491. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 229-230. وكتاب الصفدية ص 244. 3 ليست في ((خ)) و ((م)) ، وهي في ((ط)) .

كالفضيل1، وإبراهيم بن أدهم2، والتستري3، والجنيد4، وسهل بن5 عبد الله6، وأمثال هؤلاء ممّن له في الأمة لسان صدق، فاغترّ بهؤلاء من لم يعرف باطن أمرهم، وهم في الحقيقة من أعظم خلق الله خلافاً لهؤلاء المشايخ

_ 1 الفضيل بن عياض بن مسعود التميمي اليربوعي، الإمام القدوة الثبت، شيخ الإسلام، أبو علي. ولد بسمرقند وأصله من الكوفة، وسكن مكة. يُعدّ من العباد الصالحين، وكان ثقة نبيلاً فاضلاً عابداً ورعاً كثير الحديث. توفي بمكة سنة 187?. انظر: سير أعلام النبلاء 8/421-442. وحلية الأولياء 8/84. وشذرات الذهب 1/316-317. وطبقات الصوفية 6-14. والأعلام 5/153. 2 إبراهيم بن أدهم بن منصور التميمي نزيل الشام، مولده في حدود المائة. قال عنه ابن كثير رحمه الله: (أحد مشاهير العباد، كانت له همة عالية في ذلك رحمه الله) . توفي سنة 162?. انظر: سير أعلام النبلاء 7/387-396. وحلية الأولياء7/367. وطبقات الصوفية ص 27. والبداية والنهاية 10/138. 3 في ((خ)) السّري، وما أُثبت من ((م)) ، و ((ط)) . والتستري هو: سهل بن عبد الله بن يونس التستري، أبو محمد الصوفي الزاهد، وهو من كبار الصوفية. مات سنة 283?. انظر: سير أعلام النبلاء 13/330. وطبقات الصوفية ص206. وحلية الأولياء 10/189. وشذرات الذهب 2/182. 4 هو الجنيد بن محمد بن الجنيد، أبو القاسم. قال عنه الخطيب: (نشأ ببغداد، وسمع بها الحديث، ثمّ اشتغل بالعبادة ولازمها) . مات سنة 298?. انظر: تاريخ بغداد 7/241. وسير أعلام النبلاء 20/272. وحلية الأولياء 10/255. وشذرات الذهب 2/228. وطبقات الصوفية ص 155. 5 في ((خ)) لبن. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 6 لعله أبو طاهر سهل بن عبد الله بن الفرخان الأصبهاني. قال عنه الذهبي: أحد الثقات.. وكان من حملة الحجة، كبير القدر. قال أبو نعيم: لقيت أصحابه، وكان مجاب الدعوة..... وهو أول من حمل مختصر حرملة من علم الشافعي.... إلى أن قال: - ومات في سنة ست وسبعين ومائتين. انظر: سير أعلام النلاء 13/333-334. وحلية الأولياء 10/212-213 - وسماه الفرحان.

السادة، ولمن هو أفضل منهم من السابقين الأولين، والأنبياء المرسلين1. وكان من أسباب ذلك أنّ العبادة والتألّه والمحبة ونحو ذلك ممّا يتكلّم فيه شيوخ المعرفة والتصوّف أمر معظّم في القلوب، والرسل إنّما بُعثوا بدعاء الخلق إلى أن يعرفوا الله، ويكون أحبّ إليهم من كلّ ما سواه، فيعبدوه ويألهوه، ولا يكون لهم معبود مألوه غيره2. وقد أنكر جمهور أولئك المتكلمين أن يكون الله محبوباً، أو أنّه يُحبّ شيئاً، أو يُحبّه أحد3. وهذا في الحقيقة إنكار لكونه إلهاً معبوداً؛ فإنّ

_ 1 قال شيخ الإسلام رحمه الله: "فإنّ ابن عربي وأمثاله وإن ادعوا أنهم من الصوفية، فهم من صوفية الملاحدة الفلاسفة، ليسوا من صوفية أهل الكلام، فضلاً عن أن يكونوا من مشايخ أهل الكتاب والسنة؛ كالفضيل بن عياض، وإبراهيم بن أدهم، وأبو سليمان الداراني، ومعروف الكرخي، والجنيد بن محمد، وسهل بن عبد الله التستري، وأمثالهم رضوان الله عليهم أجمعين". الفرقان ص 213. 2 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "محبة الله، بل محبة الله ورسوله من أعظم واجبات الإيمان، وأكبر أصوله، وأجلّ قواعده، بل هي أصل كلّ عمل من أعمال الإيمان؛ كما أن التصديق به أصل كلّ قول من أقوال الإيمان والدين". مجموع فتاوى ابن تيمية 10/48-49. وانظر: جامع الرسائل 2/235. وتقديم محبة الله تعالى على محبة ما سواه أحد الأسباب - بل أهمها - التي يجد العبد بها حلاوة الإيمان؛ كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كنّ فيه، وجد بهنّ حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه ممّا سواهما.." الحديث. أخرجه البخاري في صحيحه 1/14، كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان. ومسلم في صحيحه 1/66، كتاب الإيمان، باب بيان خصال من اتّصف بهنّ وجد حلاوة الإيمان. 3 انظر: إنكار ابن كلاب لذلك في مقالات الإسلاميين 1/250، 2/225. وإنكار الباقلاني في كتابه الإنصاف ص 69. وابن فورك في مشكل الحديث وبيانه ص 332. وابن جماعة في إيضاح الدليل ص 139. والقرطبي في تفسيره 20/4. ومدارك التنزيل للنسفي 1/209. وعمدة القاري للعيني 25/84. وانظر: أيضاً: مجموع فتاوى ابن تيمية 10/66.

الإله: هو المألوه الذي يستحق أن يؤله ويُعبد، والتألّه والتعبّد: يتضمن غاية الحب بغاية الذلّ1. الإلهية: القدرة على الاختراع عند الأشعري ولكن غلط كثير من أولئك، فظنّوا أنّ الإلهيّة هي القدرة على الخلق، وأنّ الإله بمعنى الآلِه، وأنّ العباد يألههم الله، لا أنّهم هم يألهون الله؛ كما ذكر ذلك طائفة منهم الأشعريّ وغيره2. وطائفة ثالثة3 لما رأت ما دلّ على أنّ الله يُحِبّ أن يكون محبوباً من أدلة الكتاب والسنة، الذين غلطوا في مسمى المحبة والإرادة وكلام السلف وشيوخ أهل المعرفة، صاروا يقرّون

_ 1 انظر: كتاب العبودية للمؤلف؛ فقد تحدّث حول هذا الموضوع ص 35. وانظر: أيضاً: مجموع الفتاوى له 13/202-203، والمصدر نفسه 8/378. والجواب الصحيح 6/31. وجامع الرسائل 2/196، 254-256. 2 هذا الفهم الخاطئ قال به الأشعريّ، وتبعه عليه جميع الأشعريّة. انظر: الملل والنحل للشهرستاني 1/91. وانظر: أيضاً: الجواب الصحيح 2/152. والصفدية 1/148. واقتضاء الصراط المستقيم 2/845. ودرء تعارض العقل والنقل 9/377. ومجموع الفتاوى 8/101. والتدمرية ص 185-186. وفهمهم هذا خاطئ؛ فإنّ الإله بمعنى المألوه المعبود، لا بمعنى الآلِه كما زعموا. وقد بيّن شيخ الإسلام خطأهم في ذلك، فقال: (والإله هو بمعنى المألوه المعبود الذي يستحق العبادة، ليس هو الآلِه بمعنى القادر على الخلق. فإذا فسّر المفسر الإله بمعنى القادر على الاختراع، واعتقد أنّ هذا أخص وصف الإله، وجعل إثبات هذا التوحيد هو الغاية في التوحيد، كما يفعل ذلك من يفعله من متكلمة الصفاتية - وهو الذي ينقلونه عن أبي الحسن وأتباعه - لم يعرفوا حقيقة التوحيد الذي بعث الله به رسوله؛ فإنّ مشركي العرب كانوا مقرّين بأنّ الله وحده خالق كل شيء، وكانوا مع هذا مشركين؛ قال تعالى: {وَمَاْ يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُوْنَ} [يوسف 106] قال طائفة من السلف: تسألهم من خلق السموات والأرض، فيقولون: الله، وهم مع هذا يعبدون غيره..) . درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 1/226-227. وانظر: مجموع الفتاوى 8/378. وشرح الأصفهانية 1/148. 3 انظر: مجموع الفتاوى 10/74-75.

بأنّه محبوب، لكنّه هو نفسه لا يحبّ شيئاً إلا بمعنى المشيئة، وجميع الأشياء مرادة له فهي محبوبة له. وهذه طريقة كثير من أهل النظر والعبادة والحديث؛ كأبي إسماعيل الأنصاري1، وأبي حامد الغزالي، وأبي بكر بن العربي23.

_ 1 هو أبو إسماعيل عبد الله بن محمد بن علي الهروي الأنصاري، ولد سنة 396، وتوفي سنة 481?. قال عنه الذهبي: "شيخ الإسلام الإمام القدوة الحافظ الكبير، وشيخ خراسان من ذرية صاحب النبيّ صلى الله عليه وسلم أبي أيوب الأنصاري". انظر: سير أعلام النبلاء 18/503. وطبقات الحنابلة 2/247-248. وشذرات الذهب 3/365-366. وانظر: كلامه في مدارج السالكين 1/227، وقد علّق عليه ابن القيم رحمه الله بأنّه من أبطل الباطل. كما نقل كلامه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وسمى هذه المسألة مسألة إرادة الكائنات وخلق الأفعال. وقال عنه بأنّه في هذه المسألة (أبلغ من الأشعريّة؛ لا يُثبت سبباً ولا حكمة، بل يقول: إنّ مشاهدة العارف الحكم لا يبقى له استحسان حسنة ولا استقباح سيئة، والحكم عنده هو المشيئة؛ لأنّ العارف عنده من يصل إلى مقام الفناء) . مجموع الفتاوى 8/230. وانظر: المصدر نفسه 8/339-340. 2 في ((خ)) :ابن عربي. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . وأبو بكر بن العربي، هو: محمد بن عبد الله بن محمد بن أحمد بن العربي الأندلسي الأشبيلي المالكي. ولد في أشبيلية سنة 468?، وتوفي سنة 543?. رحل إلى المشرق، وأخذ من العلماء وأشهرهم الغزالي، ثم رجع إلى الأندلس وتولى قضاء أشبيلية. يعتبر من أئمة المالكية، ومن كبار حفّاظهم وفقهائهم إلا أنه أشعري تتلمذ على الغزالي وتأثر ببعض أفكاره. انظر: سير أعلام النبلاء 20/197. والبداية والنهاية 12/245 - وقال عن وفاته: إنها سنة 545 هـ. قانون التأويل - قسم التحقيق - لابن العربي ص 117، وموقف ابن تيمية من الأشاعرة 2/647. 3 بل هذا قول المعتزلة والجهميّة وأغلب الأشعريّة. انظر: المغني في أبواب التوحيد والعدل لعبد الجبار المعتزلي 6/51-56. والإنصاف للباقلاني ص 69-70. ولباب العقول في الرد على الفلاسفة في علم الأصول للمكلاتي ص 288.

وحقيقة هذا القول أنّ الله يُحبّ الكفر، والفسوق، والعصيان، ويرضاه1. وهذا هو المشهور من قول الأشعريّ وأصحابه2، وقد ذكر أبو المعالي أنه أول من قال ذلك3، وكذلك ذكر ابن عقيل4 أنّ أوّل من قال إن الله يحب الكفر والفسوق والعصيان هو الأشعريّ وأصحابه، وهم قد يقولون لا يُحبّه ديناً، ولا يرضاه ديناً، كما يقولون: لا يريده ديناً؛ أي لا يريد أن يكون فاعله مأجوراً، وأما هو نفسه فهو محبوب له كسائر المخلوقات؛ فإنّها عندهم محبوبة له؛ إذ كان ليس عندهم إلا إرادة واحدة

_ 1 لأنّ من جوّز إطلاق المحبة على الإرادة، فلازم قوله أنّ الله يحب الكفر ويرضاه كفراً. انظر: مجموع الفتاوى 8/343. 2 يقول أبو المعالي الجويني: "إذا تعلّقت الإرادة بنعيم ينال عبداً، فإنها تسمى محبة ورضى. وإذا تعلّقت بنقمة تنال عبداً فإنها تسمى سخطاً". الإرشاد للجويني ص 239. وانظر: الإنصاف للباقلاني ص 69-70. والتمهيد له ص 385-386. وانظر: مدارج السالكين لابن القيم 1/228، 251، 2/189. ومنهاج السنة النبوية 1/134-135، 5/360. وسيأتي مزيد إيضاح لهذا الموضوع، حين نقل كلام الأشعري نفسه في اللمع، في ص 301 من هذا الكتاب. 3 انظر: الإرشاد للجويني ص 237-239. وانظر: أيضاً: أصول الدين للبغدادي ص 102-104. ومجموع فتاوى ابن تيمية 8/230. وفي منهاج السنة 5/360 قال: إن أبا الحسن أول من سوّى بينهما. 4 وكان يميل إلى بعض كلام المعتزلة كما ذكر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله درء تعارض العقل والنقل 1/270. وقد نقل في منهاج السنة النبوية 5/360 عنه قوله: (أجمع المسلمون على أن الله لا يحب الكفر والفسوق والعصيان، ولم يقل إنه يحبه غير الأشعري) .

شاملة لكل مخلوق؛ فكل مخلوق، فهو عندهم محبوب مرضيّ1. وجماهير المسلمين يعرفون أنّ هذا القول معلوم الفساد بالضرورة من دين أهل الملل، وأنّ المسلمين واليهود والنصارى متفقون على أنّ الله لا يُحبّ الشرك، ولا تكذيب الرسل، ولا يرضى ذلك، بل هو يُبغض ذلك ويمقته ويكرهه؛ كما ذكر الله في سورة بني إسرائيل ما ذكره من المحرّمات، ثمّ قال: {كُلُّ ذَلِكَ كَاْنَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوْهَاً} 2. وبسط هذه الأمور له مواضع أُخَر3.

_ 1 وهذا نجم عن قولهم "إنّ الإرادة تستلزم الرضى والمحبة"، وقد تقدّم نقل ذلك عنهم. وخطؤهم الذي وقعوا فيه وحدا بهم إلى هذه المآزق هو ظنّهم أنّ الإرادة في النصوص كلها بمعنى واحد، بل ولا تتجدّد أيضاً. وهذا خطأ عظيم، ووهم كبير، وقول مخالف للكتاب والسنّة. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله راداً على معتقدهم هذا: "وإثبات إرادة كما ذكروه لا يُعرف بشرع ولا عقل، بل هو مخالف للشرع والعقل؛ فإنّه ليس في الكتاب والسنّة ما يقتضي أنّ جميع الكائنات حصلت بإرادة واحدة بالعين تسبق جميع المرادات بما لا نهاية له". درء تعارض العقل والنقل 8/283. وانظر: أصول الدين للبغدادي ص 102. ومراتب الإرادة لابن تيمية - ضمن مجموع الفتاوى8/188-190، 197. ومجموع الفتاوى 6/115-116، 8/22-23، 339، 340-341، 440، 474-476، 16/301-303، 17/101، 18/132. ودرء تعارض العقل والنقل 2/172. وشرح الأصفهانيّة - ت مخلوف - ص 27. ومدارج السالكين لابن القيم 1/228، 251-252. 2 سورة الإسراء، الآية 38. 3 انظر: مجموع الفتاوى 6/115-116، 8/22-23، 230-234، 337-355، 370، 440، 474-476، 16/301-303، 17/101، 18/132. ودرء تعارض العقل والنقل 2/172، 8/283. وشرح الأصفهانيّة - ت مخلوف - ص 27. ومنهاج السنة النبوية 5/359-361.

الذين أوجبوا النظر أعرضوا عن طريق الرسول والمقصود هنا أنّ الذين أعرضوا عن طريق الرسول في العلم و1العمل وقعوا في الضلال والزلل، وأنّ أولئك لما أوجبوا النظر الذي ابتدعوه، صارت فروعه فاسدة، إن قالوا إنّ من لم يسلكها كفر أو عصى2، فقد عُرف بالاضطرار من دين الإسلام أنّ الصحابة والتابعين لهم بإحسان لم يسلكوا طريقهم، وهم خير الأمة3. وإن قالوا: إنّ من ليس عنده علم ولا بصيرة بالإيمان، بل قاله تقليداً محضاً من غير معرفة يكون مؤمناً، فالكتاب والسنّة يُخالف4 ذلك. ولو أنّهم سلكوا طريقة الرسول، لحفظهم الله من هذا التناقض؛ فإنّ ما جاء به الرسول جاء من عند الله5،

_ 1 في ((خ)) : أو. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 ذكر الإمام ابن حزم عنهم ذلك، فقال: "ذهب محمد بن جرير الطبري، والأشعريّة كلها، حاشا السمناني إلى أنّه لا يكون مسلماً إلا من استدلّ، وإلا فليس مسلماً. وقال الطبري: من بلغ الاحتلام أو الإشعار من الرجال والنساء، أو بلغ المحيض من النساء، ولم يعرف الله عزّ وجلّ بجميع أسمائه وصفاته من طريق الاستدلال، فهو كافر حلال الدم والمال". الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم 4/35. وانظر: كلام شيخ الإسلام رحمه الله عنهم في هذه المسألة في درء تعارض العقل والنقل 7/407. وانظر: رسالة السجزي في الرد على من أنكر الحرف والصوت ص 139. 3 وهذا سبق بيانه ص 297- 303. 4 في ((خ)) : تخالف. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 انظر: معارج الوصول إلى أنّ أصول الدين وفروعه قد بيّنها الرسول صلى الله عليه وسلم. وكذلك درء تعارض العقل والنقل 1/16-27، 38-43، 194-195، 5/363-370. وانظر: كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن تناقض الأشاعرة في الشرعيّات والعقليّأت في التسعينيّة ص 259-260. وانظر: كلامه - رحمه الله - عن أول واجب على المكلف في درء تعارض العقل والنقل 8/6-7. ومجموع الفتاوى 16/328.

وما ابتدعوه جاؤوا به من عند غير الله، وقد قال تعالى: {وَلَوْ كَاْنَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوْا فِيْهِ اخْتِلافَاً كَثِيْرَاً} 1. وهؤلاء2 بنوا دينهم على النظر، والصوفية بنوا دينهم على الإرادة، وكلاهما لفظ مجمل، يدخل فيه الحق والباطل. فالحق: هو النظر الشرعيّ، والإرادة الشرعيّة. النظر الشرعي [فالنظر الشرعيّ] 3: [هو] 4 النظر فيما بُعث به الرسول من الآيات والهدى؛ كما قال: {شَهْرُ رَمَضَاْنَ الَّذِيْ أُنْزِلَ فِيْهِ الْقُرْآنُ هُدَىً لِلنَّاْسِ وَبَيِّنَاْتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَاْن} 5. الإرادة الشرعية والسماع الشرعي والدليل الشرعي والإرادة الشرعيّة: إرادة ما أمر الله به ورسوله. والسماع الشرعيّ: سماع ما أحبّ الله سماعه كالقرآن. والدليل الذي يستدلّ به هو الدليل الشرعيّ، وهو الذي دلّ الله به عباده، وهداهم به إلى صراط مستقيم6؛ فإنّه لمّا ظهرت البدع، والتبس الحقّ بالباطل صار اسم النظر، والدليل، والسماع، [والإرادة يُطلق على ثلاثة أمور: إطلاقات النظر والإرادة والسماع والدليل منهم: من يريد به البدعيّ دون الشرعيّ؛ فيريدون بالدليل: ما ابتدعوه من الأدلة الفاسدة، والنظر فيها. ومن السماع والإرادة] 7: ما ابتدعوه من

_ 1 سورة النساء، الآية 82. 2 أي المتكلمون. 3 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 4 في ((خ)) : وهو. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 سورة البقرة، الآية 185. 6 كالنظر في المخلوقات، ودلالة المعجزات، وغير ذلك من الأدلة الشرعية. انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 7/300-302. وشرح حديث النزول ص 27-28. ومجموع الفتاوى 11/378. 7 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . وهو في ((م)) ، و ((ط)) .

اتباع ذوقهم ووجدهم، وما تهواه أنفسهم، وسماع الشعر والغناء الذي يُحرّك هذا الوجد التابع لهذه الإرادة النفسانيّة التي مضمونها اتباع ما تهوى الأنفس بغير هدى من الله. ومنهم: من يريد مطلق الدليل والنظر، ومطلق السماع والإرادة، من غير تقييدها لا بشرعيّ ولا ببدعيّ. فهؤلاء يُفسّرون قوله: {الَّذِيْنَ يَسْتَمِعُوْنَ الْقَوْلَ} 1: بمطلق القول الذي يدخل فيه القرآن والغناء، ويستمعون إلى هذه وهذا، وأولئك2 يُفسّرون الإرادة بمطلق المحبة للإله3 من غير تقييدها بشرعيّ ولا بدعيّ، ويجعلون الجميع من أهل الإرادة؛ سواء عبد الله بما أمر الله به ورسوله من التوحيد وطاعة الرسول، أو كان عابداً للشيطان مشركاً، عابداً بالبدع، وهؤلاء أوسطهم، وهم أحسن حالاً من الذين قيّدوا ذلك بالبدعيّ وأما القسم الثالث: فهم صفوة الأمة، وخيارها المتبعون للرسول علماً وعملاً، يدعون إلى النظر والاستدلال والاعتبار بالآيات والأدلة والبراهين التي بعث الله بها رسوله، وتدبّر القرآن وما فيه من البيان، ويدعون إلى المحبة والإرادة الشرعيّة؛ وهي محبة الله وحده، وإرادة عبادته وحده لا شريك له بما أمر به على لسان رسوله؛ فهم لا يعبدون إلا الله، ويعبدونه بما شرع وأمر، ويستمعون ما أحبّ استماعه، وهو قوله الذي قال فيه: {أَفَلَمْ يَدَّبَرُوْا الْقَوْلَ} 4، وهو الذي قال فيه: {فَبَشِّرْ عِبَاْدِ الَّذِيْنَ يَسْتَمِعُوْنَ الْقَوْلَ

_ 1 سورة الزمر، الآية 18. 2 يقصد الصوفية. 3 في ((خ)) : للتأله. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 سورة المؤمنون، الآية 68.

فَيَتَّبِعُوْنَ أَحْسَنَهُ} 1؛ كما قال: {وَاتَّبِعُوْا أَحْسَنَ مَاْ أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ منْ رَبِّكُمْ} 2. وقال: {وَكَتَبْنَاْ لَهُ فِيْ الألْوَاْحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيْلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَاْ بِقُوَّةٍ وَاْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوْا بِأحْسَنِهَاْ} 3. [والله] 4 سبحانه بيَّنَ القدرة على الابتداء؛ كقوله: {إِنْ كُنْتُمْ فِيْ رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّاْ خَلَقْنَاْكُمْ مِنْ تُرَاْبٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} الآية5، ومثل قوله: {وَيَقُوْلُ الإِنْسَاْنُ أَإِذَاْ مَاْ مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيَّاً أَوَلا يَذْكُرُ الإِنْسَاْنُ أَنَّاْ خَلَقْنَاْهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئَاً} 6 الآية، ومثل قوله: {وَضَرَبَ لَنَاْ مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَاْلَ مَنْ يُحْيِيْ الْعِظَاْمَ وَهِيَ رَمِيْم قُلْ يُحْيِيْهَاْ الَّذِيْ أَنْشَأَهَاْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيْم} 7، وغير ذلك. الاستدلال على الخالق بخلق الإنسان طريق عقلي صحيح فالاستدلال على الخالق بخلق الإنسان في غاية الحسن والاستقامة، وهي طريقة عقليّة صحيحة. وهي شرعيّة؛ دلّ القرآن عليها، وهدى النّاس إليها، وبيّنها وأرشد إليها. وهي عقليّة8؛ فإنّ نفس كون الإنسان حادثاً

_ 1 سورة الزمر، الآيتان 17، 18. 2 سورة الزمر، الآية 55. 3 سورة الأعراف، الآية 145. 4 ليست في ((خ)) ، و ((م)) . 5 سورة الحج، الآية 5. 6 سورة مريم، الآيتان 66، 67. 7 سورة يس، الآيتان 78، 79. 8 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فإنّ الفاضل إذا تأمّل غاية ما يذكره المتكلمون والفلاسفة من الطرق العقلية، وجد الصواب منها يعود إلى بعض ما ذكر في القرآن من الطرق. وفي طرق القرآن من تمام البيان والتحقيق ما قد نبهنا على بعضه في غير هذا الموضع". شرح الأصفهانية - ت السعوي - 1/41. وانظر: الاستدلال بهذه الطريقة في: نقض أساس التقديس 1/80-82. ودرء تعارض العقل والنقل 7/300-302.

بعد أن لم يكن، ومولوداً ومخلوقاً من نطفة، ثمّ من علقة، هذا لم يُعلم بمجرّد خبر الرسول، بل هذا يعلمه النّاس كلهم بعقولهم؛ سواء أخبر به الرسول، أو لم يُخبر. لكنّ الرسول أمر أن يُستدلّ به، ودلّ به، وبيّنه، واحتجّ به؛ فهو دليل شرعيّ؛ لأنّ الشارع استدلّ به، وأمر أن يُستدلّ به؛ وهو عقليّ؛ لأنّه بالعقل تُعلم صحته. وكثيرٌ من المتنازعين في المعرفة هل تحصل بالشرع، أو بالعقل لا يسلكونه. وهو عقليّ شرعيّ، وكذلك غيره من الأدلة التي في القرآن؛ مثل الاستدلال بالسحاب والمطر؛ هو مذكور في القرآن في غير موضع، وهو عقليّ شرعيّ؛ كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّاْ نَسُوْقُ الْمَاْءَ إِلَىْ الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعَاً تأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَاْمُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُوْنَ} 1؛ فهذا مرئيّ بالعيون. وقال تعالى: {سَنُرِيْهِمْ آيَاْتِنَاْ فِيْ الآفَاْقِ وَفِيْ أَنْفُسِهِمْ حَتَّىْ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} 2، ثمّ قال: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىْ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيْدٌ} 3. فالآيات التي يُريها الناس، حتى يعلموا أنّ القرآن حق، هي آيات عقليّة؛ يستدلّ بها العقل على أنّ القرآن حقّ، وهي شرعيّة؛ دلّ الشرع عليها، وأمر بها. والقرآن مملوء من ذكر الآيات العقليّة التي يستدلّ بها العقل، وهي شرعيّة؛ لأنّ الشرع دلّ عليها، وأرشد إليها. ولكنْ كثيرٌ4 من النّاس لا يُسمّي دليلاً شرعيّاً إلا ما دلّ بمجرّد خبر الرسول، وهو اصطلاح قاصر، ولهذا يجعلون أصول الفقه هو لبيان الأدلة

_ 1 سورة السجدة، الآية 27. 2 سورة فصلت، الآية 53. 3 سورة فصلت، الآية 53. 4 ما أثبت من ((خ)) ، و ((م)) ؛ على أنّ (لكنْ) - بالنون الساكنة - للاستدراك. وما في ((ط)) : (لكنّ) - بالنون المشدّدة - من أخوات (إنّ) .

الشرعيّة؛ الكتاب، والسنّة، والإجماع. والكتاب يُريدون به أن يعلم مراد الرسول فقط. والمقصود من أصول الفقه: هو معرفة الأحكام الشرعيّة العمليّة؛ فيجعلون الأدلة الشرعيّة: ما دلّت على الأحكام العمليّة فقط، ويُخرجون ما دلّ بإخبار الرسول عن أن يكون شرعاً، فضلاً عمّا دلّ بإرشاده وتعليمه. ولكن قد يُسمّون هذا دليلاً سمعيّاً، ولا يُسمّونه شرعيّاً، وهو اصطلاح قاصر. والأحكام العمليّة أكثر الناس يقولون إنها تُعلم بالعقل أيضاً، وأنّ العقل قد يعرف الحسن والقبح، فتكون الأدلة العقليّة دالّة على الأحكام العمليّة أيضاً. ويجوز أن تُسمّى شرعيّة؛ لأنّ الشرع قرّرها، ووافقها، أو دلّ عليها وأرشد إليها؛ كما قيل مثل ذلك في المطالب الخبريّة؛ كإثبات الربّ، ووحدانيته، وصدق رسله، وقدرته على المعاد: أنّ الشرع دلّ عليها، وأرشد إليها. وبسط هذا له موضع آخر1.

_ 1 انظر: كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في اختلاف الناس في مسألة (الحسن والقبح) في منهاج السنة النبوية 1/316-317. ومجموع الفتاوى 8/90، 309-310، 677-686،، 11/347-355، 676-677،، 16/246-247، 498. والتسعينيّة ص 247. وشرح الأصفهانيّة - ت مخلوف - ص 161. ودرء تعارض العقل والنقل 8/22، 492،، 9/49-62. والرد على المنطقيين ص 420-437. والجواب الصحيح 1/314-315. وقال الأشعريّ: "العقل لا يقتضي حسن شيء، ولا قبحه، وإنّما عُرف القبيح والحسن بالسمع، ولولا السمع ما عُرف قبح الشيء، ولا حسنه". انظر: رسالة السجزي في الرد على من أنكر الحرف والصوت ص 139. والملل والنحل للشهرستاني 1/101. والإرشاد للجويني ص 258. والمحصل للرازي ص 202. وشرح المواقف للجرجاني 8/181-182. فالأشاعرة يقولون: "لا حسن، ولا قبح قبل مجيء الرسول، وإنّما الحسن ما قيل فيه: افعل. والقبيح ما قيل فيه: لا تفعل".

الأشعري بنى أصول الدين على دليل الحوادث والمقصود هنا: أنّ الأشعريّ بنى أصول الدين في ((اللمع)) ، و ((رسالة الثغر)) على كون الإنسان مخلوقاً محدثاً، فلا بُدّ له من محدِث1، لكون هذا الدليل مذكوراً في القرآن، فيكون شرعيّاً عقليّاً. لكنّه في نفس الأمر سلك في ذلك طريقة الجهميّة بعينها2؛ وهو الاستدلال على حدوث الإنسان بأنّه مُركّب من الجواهر المفردة3، فلم يخل من الحوادث، وما لم يخل من الحوادث فهو حادث؛ فجعل العلم بكون الإنسان محدَثاً، وبكون غيره من الأجسام المشهودة محدثاً إنّما يُعلم بهذه الطريقة؛ وهو أنّه مؤلّف من الجواهر المفردة، وهي لا تخلو من اجتماع وافتراق - وتلك أعراض حادثة4 - وما لم ينفكّ من الحوادث، فهو محدَث5.

_ 1 انظر: اللمع للأشعريّ ص 6 - ط مكارثي -. ورسالة إلى أهل الثغر ص 144. 2 وهذا تقدّم توضيحه قريباً ص 303. 3 الجواهر المفردة: تُعرف بأنها الجزء الذي لا يتجزأ، وهو متحيّز لا ينقسم لا بالفكّ والقطع، ولا بالوهم والغرض. انظر: الصحائف الإلهيّة للسمرقندي ص 255. وقال صاحب التعريفات عنها: "والجزء الذي لا يتجزأ: جوهر ذو وضع لا يقبل الانقسام أصلاً، لا بحسب الوهم أو الغرض العقليّ. وتتألف الأجسام من أفراده بانضمام بعضها إلى بعض كما هو مذهب المتكلمين". التعريفات للجرجاني ص 103. وانظر: الإرشاد للجويني ص 17. وأصول الدين للبغدادي ص 33. 4 وهي من الأكوان الأربعة. والأكوان بعض الأعراض؛ كما تقدّم ص 258. 5 وقد نقل عنه تمسّكه بهذه الطريقة - طريقة الأعراض وحدوث الأجسام -، وبناءه عليها، وتأويله للنصوص كي يُوافقها من جاء بعده من أعلام الأشاعرة؛ كابن فورك في المجرد ص 67. والجويني في الإرشاد ص 120. والبغدادي في أصول الدين ص 113. والبيهقي في الأسماء والصفات ص 517، 564. والشهرستاني في نهاية الإقدام ص 304.

وهذه الطريقة أصل ضلال هؤلاء؛ فإنّهم أنكروا المعلوم بالحسّ، والمشاهدة، والضرورة العقليّة؛ من حدوث المحدثات المشهود حدوثها، وادّعوا أنه إنما يُشهد1 حدوث أعراض لا حدوث أعيان، مع تنازعهم في الأعراض. ثمّ قالوا: والأجسام لا تخلو من الأعراض - وهذا صحيح، ثمّ قالوا: والأعراض حادثة. فاضطربوا هنا. ثمّ قالوا: وما لم يخل من الحوادث فهو حادث. وهذا أصل دينهم، وهو أصل فاسد مخالف للسمع والعقل، كما قد بُسط في غير هذا الموضع2. والمتفلسفة أشدّ مخالفة للعقل والسمع منهم، لكنهم عرفوا فساد طريقتهم هذه العقليّة، فاستطالوا عليهم بذلك، وسلكوا ما هو أفسد منها كطريقة الإمكان والوجوب3؛ كما قد بُسط في موضع آخر4؛ فلبّسوا هذا الباطل بالحقّ الذي جاء به الرسول؛ وهو الاستدلال بحدوث الإنسان وغيره

_ 1 في ((ط)) : شُهد، وما أُثبت من ((خ)) ، و ((م)) . 2 انظر: من كتب شيخ الإسلام: مجموع الفتاوى 6/313، 330. وشرح العقيدة الأصفهانية - ت مخلوف - ص 70. وشرح حديث النزول ص 73، وص 413-420 - محقق -. وكتاب الصفدية 2/163. ودرء تعارض العقل والنقل 8/173. ورسالة في الصفات الاختيارية - ضمن جامع الرسائل 2/31-32 -. والفتاوى المصريّة 6/552-556. 3 تقدّم الكلام على مسلكهم - الوجوب والإمكان - قريباً ص 307. 4 انظر: من كتب شيخ الإسلام: شرح العقيدة الأصفهانية - ت السعوي - ص 331، 442-443. وشرح حديث النزول - محقق - ص 420، 422، 428، 436، 438. والفرقان بين الحق والباطل ص 102. ومنهاج السنة النبوية 1/303-304، 352-359، و3/361-362. ودرء تعارض العقل والنقل 3/336-342، 7/242، 345-352، 8/97، 9/68، 379، و10/316-317. ومجموع الفتاوى 12/590، 13/157. ونقض تأسيس الجهميّة 1/223، ومجموع الرسائل الكبرى 1/329-330، ولابن القيم رحمه: مختصر الصواعق المرسلة 1/197-199، ومفتاح دار السعادة 1/158.

من المحدثات التي يُشهد حدوثها. فصار في كلامهم حق وباطل، من جنس ما أحدثه أهل الكتاب؛ حيث لبسوا الحقّ بالباطل، واحتاجوا في ذلك إلى كتمان الحق - الذي جاء به الرسول - الذي يخالف ما أحدثوه، فصاروا يكرهون ظهور ما جاء به الرسول، بل يمنعون عن قراءة الأحاديث وسماعها، وقراءة كلام السلف وسماعه. ومنهم من يكره قراءة القرآن وحفظه. والذين لا يقدرون على المنع من ذلك، صاروا يقرأون حروفه، ولا يعلمون حدود ما أنزل الله على رسوله، بل إن اشتغلوا بعلومه اشتغلوا بتفسير من يشركهم في بدعتهم؛ ممّن يُحرّف1 الكلم؛ كلم الله عن مواضعه. والأصل العقليّ الحسيّ الذي به فارقوا العقل والسمع، هو: حدوث ما يُشهد حدوثه؛ مثل حدوث الزرع، والثمار، وحدوث الإنسان، وغيره من الحيوان، وحدوث السحاب، والمطر، ونحو ذلك من الأعيان القائمة بنفسها، غير حدوث الأعراض؛ كالحركة، والحرارة، والبرودة، والضوء، والظلمة، وغير ذلك. بل تلك الأعيان التي يُسمّونها أجساماً وجواهر هي حادثة؛ فإنه معلوم أنّ الإنسان مخلوق من نطفة، ثمّ من علقة، ثمّ من مضغة، وأنّ الثمار تُخلق من الأشجار، وأنّ الزرع تُخلق من الحبّ، والشجر تُخلق من النوى؛ قال تعالى: {إِنَّ اللهَ فَاْلِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَىْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللهُ فَأَنَّىْ تُؤْفَكُوْنَ فَاْلِقُ الإِصْبَاْحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنَاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاْنَاً ذَلِكَ تَقْدِيْرُ الْعَزِيْزِ الْعَلِيْمِ وَهُوَ الَّذِيْ جَعَلَ لَكُمُ النُّجُوْمَ لِتَهْتَدُوْا بِهَاْ فِيْ ظُلُمَاْتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَاْ الآيَاْتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُوْنَ وَهُوَ الَّذِيْ أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاْحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَاْ الآيَاْتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُوْنَ وَهُوَ الَّذِيْ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاْءِ مَاْءً فَأَخْرَجْنَاْ بِهِ نَبَاْتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَاْ مِنْهُ خَضِرَاً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبَّاً مُتَرَاْكِبَاً وَمِنَ

_ 1 في ((م)) ، و ((ط)) : يُحرّفون.

النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَاْ قِنْوَاْنٌ دَاْنِيَةٌ وَجَنَّاتِ مِنْ أَعْنَاْبِ وَالزَّيْتُوْنَ وَالرُّمَّاْنَ مُشْتَبِهَاً وَغَيْرَ مُتَشَاْبِهٍ أُنْظُرُوْا إِلَىْ ثَمَرِهِ إِذَاْ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِيْ ذَلِكم لآيَاْتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُوْنَ} 1. طريقة الجهمية في خلق الإنسان هي تركيب الجواهر لا إحداثها فهذا الإنسان، والشجر، والزرع المخلوق من مادّة قد خُلق منها عين قائمة بنفسها، [وهم يقولون: إنّما هي من] 2 الجسم3 القائم بنفسه، وهو الجوهر العامّ في اصطلاحهم، الذي يقولون إنّه مُركّبٌ من الجواهر المفردة4. [وهل الذي خُلق من المادّة هو] 5 أعيان، أم لم يخلق إلا أعراض قائمة بغيرها، وأمّا الأعيان فهي الجواهر المفردة، [وتلك لم يُخلق منها] 6 شيء في هذه الحوادث، ولكن أُحدِث فيها جمعٌ وتفريقٌ؛ فكان خلقُ الإنسان وغيره هو تركيب تلك الجواهر، وإحداث هذا التركيب لا إحداث تلك الجواهر. وأمّا حدوث تلك الجواهر فإنّما يُعلم بالاستدلال، فيُستدلّ عليه بأنّ الجواهر التي تركّبت منها هذه الأجسام لا تخلو7 من اجتماع وافتراق، والاجتماع والافتراق حادِث، وما لم يخلُ من الحوادِث فهو حادِث. فهذه طريق هؤلاء الجهميّة أهل الكلام المُحدَث. وأما جمهور العقلاء فيقولون: بل نحن نعلم حدوث هذه الأعيان القائمة بنفسها، لا نقول أنّه لم يحدث8 إلا عرض؛ فإنّ هذا القول يقتضي

_ 1 سورة الأنعام، الآيات 95-99. 2 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 3 في ((خ)) : وهو الجسم. وما أُثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 وهذا أحد تعريفات الجوهر عند المتكلمين. 5 ما بين المعقوفتين من ((م)) ، و ((ط)) . وفي ((خ)) : [وهذه الأعيان خلقت من مادّة هي أعيان] . 6 في ((م)) ، و ((ط)) : وتلك منها. 7 في ((خ)) : لا يخلوا. وما أُثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 8 في ((ط)) فقط: لا محدث.

أنّ تلك الجواهر التي رُكّب منها آدم باقية لم يزل في كلّ آدميّ منها شيء. وهذا مكابرة؛ فإنّ بدن آدم لا يحتمل هذا كلّه، لا يحتمل أن يكون فيه جواهر بعدد ذريته، لا سيّما وكلّ آدميّ إنّما خُلق من مني أبويه. وهم يقولون: تلك الجواهر التي في مني الأبوين باقية بأعيانها في الولد. وهم يقولون: إنّ الجواهر لا تفنى، بل تنتقل من حال إلى حال. وكثير منهم يقول إنّها مستغنية عن الربّ بعد أن خلقها. وتحيّروا فيما إذا أراد أن يفنيها: كيف يفنيها؟ كما قد ذُكر في غير هذا الموضع1؛ إذ المقصود هنا التنبيه على أنّ أصل الأصول معرفة حدوث الشيء من الشيء؛ كحدوث الإنسان من المني، فهؤلاء ظنّوا أنه لا يحدث إلا الأعراض2. ولهذا لمّا ذكر أبو عبد الله بن الخطيب الرازي في كتبه (الكبار والصغار) الطرقَ الدالّة على إثبات الصانع لم يذكر طريقاً صحيحاً، وليس في كتبه وكتب أمثاله طريق صحيح لإثبات الصانع، بل عدلوا عن الطرق العقليّة التي يعلمها العقلاء بفطرتهم؛ وهي التي دلّتهم عليها الرسل، إلى طرق سلكوها

_ 1 وقد بسط شيخ الإسلام رحمه الله الكلام في ذلك في: مجموع الفتاوى 5/421-425، 17/242-260. ودرء تعارض العقل والنقل 3/83-86، 444-446. وشرح الأصفهانية 1/262. ومنهاج السنة النبوية 1/360، 2/139-141، 202، 5/443-444. ودرء تعارض العقل والنقل 1/122-124، 308، 5/195-203، 8/252. وبيان تلبيس الجهمية 1/178، 273. وذكر الدكتور محمد رشاد سالم رحمه الله في أثناء تحقيقه لكتاب منهاج السنة النبوية 2/141، حاشية رقم (4) أن لابن تيمية رحمه الله كتاباً اسمه: ((إبطال قول الفلاسفة بإثبات الجواهر العقلية)) ، ذكره ابن عبد الهادي في كتابه العقود الدرية في مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية ص 36، وابن قيم الجوزية في أسماء مؤلفات ابن تيمية ص 20. وهذا الكتاب من كتب شيخ الإسلام المفقودة. 2 في ((خ)) : عرض. وما أُثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

مخالفة للشرع والعقل، لا سيّما من سلك طريقة الوجوب والإمكان متابعة لابن سينا؛ كالرازي، فإنّ هؤلاء من أفسد النّاس استدلالاً كما قد ذكرنا طرق عامّة النّظّار في غير هذا الموضع؛ مثل كتاب منع تعارض العقل والنقل1، وغير ذلك2. طرق الرازي العقلية في إثبات الصانع والمقصود هنا أنّ الرازي ذكر أنّ ما يُستدلّ به على إثبات الصانع3؛ إمّا حدوث الأجسام4، وإما حدوث صفاتها5، وإمّا

_ 1 انظر: درء تعارض العقل والنقل 1/38-39، 96-97، 307-308، 3/73، 7/71، 141-142، 242، 382، 8/17-18، 93،، 9/132، 10/260. 2 انظر: من كتب شيخ الإسلام: الاستقامة 1/102. وكتاب الصفدية 2/41-55. ومنهاج السنة النبوية 1/309-310، 315. والفتاوى المصرية 6/644-645. وشرح حديث النزول ص 160-161. والفرقان بين الحق والباطل ص 47. ونقض تأسيس الجهمية 1/141-144، 257-258. والرسالة التدمرية ص 148. ومجموع الفتاوى 6/313، 330،، 12/44. 3 وهذه المسالك جميعها ذكرها الرازي مطوّلة في كتابه نهاية العقول - مخطوط - ق 58/أ 63/أ. وذكرها مختصرة في كتابه الأربعين ص 70. ومعالم أصول الدين - على هامش محصل أفكار المتقدمين - ص 26-29. 4 وهذه هي طريقة الأشعريّة، وعامة من ينفي قيام الأفعال الاختيارية بذات الله تعالى؛ استدلّوا بقيام الأعراض بالأجسام على حدوثها - أي الأجسام -. وقد ذمّها الأشعريّ كما تقدّم لطولها وغموضها. وسيأتي بيان المصنّف لهذه الطريق، والقائلين بها قريباً. وشيخ الإسلام قد ناقشها وبيّن بطلانها في الكثير من مصنفاته. انظر: شرح الأصفهانيّة - ت السعوي - ص 260-261. ودرء تعارض العقل والنقل 1/96، 307-308، 3/72-87، 5/292-294، 7/229-232. 5 كصيرورة النطفة علقة، ثمّ مضغة، ثمّ إنساناً - في النهاية، وتحوّل الطين إلى آجرّ، ولبن، ثمّ دار - في النهاية. وهذا التحوّل في صفات الأجسام يدلّ على أنّ لها فاعلاً فعلها. وهذا المسلك ذكره الأشعريّ في كتابه: اللمع ص 6-7، ط مكارثي. وفي رسالة إلى أهل الثغر ص 34-40. وشيخ الإسلام يرى أنّ هذا المسلك صحيح لو جُرّد من الأمور الباطلة التي أُدخلت فيه. انظر: درء تعارض العقل والنقل 3/83.

إمكانها1، وإمّا إمكان صفاتها2، وذكر في بعض المواضع: وإمّا الإحكام والإتقان3، لكن الإحكام والإتقان يدلّ4 على العلم ابتداءً، والاستدلال بحدوث الأجسام، وإمكانها، وإمكان صفاتها طرق فاسدة؛

_ 1 أي الأجسام. وهذا المسلك عمدة المتفلسفة؛ كابن سينا وأمثاله. انظر: النجاة لابن سينا ص 383. والرسالة العرشية له ص 2. والتعليقات للفارابي ص 37. وطريقتهم أنّ الوجود ينقسم إلى واجب وممكن. وكلّ ممكن فلا بُدّ له من واجب. وهذه الطريقة قد نصّ على ضعفها شيخ الإسلام في العديد من مصنفاته. انظر: درء تعارض العقل والنقل 3/75، 138،، 5/293،، 7/230،، 8/125، 127. ومجموع الفتاوى 1/49. وشرح الأصفهانيّة - ت السعوي - ص 141-145) . 2 وهذا يُعرف بدليل الاختصاص. وقد بنوه على أنّ الأجسام متماثلة، وتخصيص بعضها بالصفات دون بعض يفتقر إلى مخصّص. وقالوا: لا يجوز أن يكون الله تعالى جسماً، ونفوا لأجل ذلك صفتَي العلو والاستواء. وهو مسلك بعض الأشعريّة. انظر: أصول الدين للبغدادي ص69. ونهاية الإقدام للشهرستاني ص 105، 245. وقد بيّن شيخ الإسلام رحمه الله فساد هذه الطريقة في مواضع عديدة من تصانيفه. انظر: درء تعارض العقل والنقل 5/192-203،، 7/112-114، 10/312-316. ونقض تأسيس الجهمية 1/183) . وانظر: لهذه الطرق عند الرازي: مجموع الفتاوى 17/246. وشرح الأصفهانية 1/260. ودرء تعارض العقل والنقل 1/307. 3 وهذا المسلك أورده شيخ الإسلام، وبيّن ما فيه من حق وما أدخل سالكوه فيه من باطل. انظر: درء تعارض العقل والنقل 3/128-137. 4 في ((خ)) : تدلّ. وما أُثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

فإنّ [دلالة] 1 حدوثها مبنيّة2 على امتناع حوادث لا أول لها؛ و [دلالة] 3 إمكانها مبنية4 على أنّ ما قامت به الصفات يمتنع أن يكون واجباً بنفسه؛ لأنّه مُركّب؛ و [دلالة] 5 إمكان صفاتها مبنيّة6 على تماثلها، فلا بُدّ لتخصيص7 بعضها بالصفات من مُخصّص. وهذه كلها طرق باطلة. قال8: وأمّا الاستدلال بحدوث الصفات، فهو الاستدلال بحدوث الأعراض9.

_ 1 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 2 في ((خ)) : مبنيّ. وما أثبته من ((م)) ، و ((ط)) . 3 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 4 في ((خ)) : مبنيّ. وما أثبته من ((م)) ، و ((ط)) . 5 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 6 في ((خ)) : مبنيّ. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 7 كذا في ((خ)) ، و ((م)) . وفي ((ط)) : للتخصيص. 8 القائل هو الباقلاني الذي قصد شيخ الإسلام رحمه الله بتأليفه لكتابه ((النبوات)) الردّ عليه. وهذه المقولة ليست في كتاب ((البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات)) له، بل هي في كتابه: ((شرح اللمع)) وهو غير موجود. وقد نقل عنه شيخ الإسلام رحمه الله في مواضع متفرقة من درء تعارض العقل والنقل. 9 تقدّم أنّ من الأمثلة على حدوث الصفات: صيرورة النطفة علقة، ثمّ مضغة، ثمّ إنساناً. أو: تحوّل القطن إلى غزل مفتول، ثمّ ثوب. أو تحوّل الطين إلى آجر ولبن، ثمّ إلى دار. وهذا التحوّل في هذه الأجسام يدلّ على أنّ لها فاعلاً فعلها. وكذا النطفة: لا بُدّ لها من صانع صنعها، وهو الله تعالى. وهذا الدليل ذكره الأشعريّ في كتابه: ((اللمع)) ص 6-7 - ط مكارثي. ثمّ جاء بعده الباقلاني، وشرح كتابه: ((اللمع)) ، وحاول أن يُفسّر أقوال الأشعريّ في هذه المسألة ليُقرّب مذهبه؛ فذكر أنّ الأشعريّ أراد تعميم النطفة، لتشمل سائر الأعراض، كما حاول الباقلاني أن يُدلّل على أنّ مسألة (المحدَث لا بُدّ له من محدِث) مسألة نظرية تحتاج إلى برهان. بينما لم يتعرّض الأشعريّ لهذه المسألة لاعتقاده أنها بدهيّة، لا نظريّة. وقد أطال شيخ الإسلام رحمه الله النَّفَسَ في مناقشة الباقلاني في هذه القضيّة في درء تعارض العقل والنقل 7/304-307، 8/70-88، 106، 300-343. وخلص إلى أنّ ما قرّره الأشعريّ في ((اللمع)) خير ممّا قاله الباقلاني في شرحه لهذا الكتاب.

وهذه الطريق1 أجود ما سلكوه من الطرق مع أنها قاصرة؛ فإنّ مدارها على أنهم لم يعرفوا حدوث شيء من الأعيان، وإنّما علموا حدوث بعض الصفات. وهذا يدلّ على أنّه لا بُدّ لها من محدث2. قال3: وهذا لا ينفي كون المحدَث جسماً، بخلاف تلك الطرق4. وهذه الطريق تدلّ على أنّ الأعراض؛ كتركيب الإنسان لا بُدّ له من مُركّب، ولا ينفي بها شيء من قدم الأجسام والجواهر، بل يجوز أن يكون جميع جواهر الإنسان وغيره قديمة أزليّة، لكن حدثت5 فيها الأعراض. ويجوز أن يكون المحدث للأعراض بعض أجسام العالم.

_ 1 أي: الاستدلال بحدوث الصفات. 2 وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله - في موضع آخر - أنّ طريقة القرآن هي الاستدلال بحدوث الأعيان والمخلوقات ذاتها؛ من إنسان، وحيوان، وغير ذلك، لا بحدوث الصفات؛ يقول رحمه الله: (الطريقة المذكورة في القرآن هي الاستدلال بحدوث الإنسان وغيره من المحدثات المعلوم حدوثها بالمشاهدة ونحوها على وجود الخالق سبحانه وتعالى، فحدوث الإنسان يستدلّ به على المحدث، لا يحتاج أن يُستدلّ على حدوثه بمقارنة التغيّر أو الحوادث له ووجوب تناهي الحوادث. والفرق بين الاستدلال بحدوثه، والاستدلال على حدوثه بيِّن. والذي في القرآن هو الأول لا الثاني؛ كما قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوْا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَاْلِقُوْنَ} [الطور 35] ، فنفس حدوث الحيوان، والنبات، والمعدن، والمطر، والسحاب، ونحو ذلك معلومٌ بالضرورة، بل مشهود لا يحتاج إلى دليل، وإنّما يُعلم بالدليل ما لم يُعلم بالحسّ وبالضرورة) . درء تعارض العقل والنقل 7/219. وانظر: شرح الأصفهانية - ت السعوي - 1/40-41. 3 أي: الباقلاني. 4 كأنّ الباقلاني يرى أنّ هذه الطريق أدلّ على مذهبه - في نفي الصفات خشية التجسيم - من سائر الطرق الأخرى. 5 في ((خ)) : حديث. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

فهذه الطريق لا تنفي أن يكون الربّ بعض أجسام العالم. وتلك باطلة، مع أنّ مضمونها أنّ الربّ لا يتصف بشيء من الصفات، فهي لا تدلّ على صانع، وإن دلّت على صانع، فليس بموجود، بل معدوم، أو متصف بالوجود والعدم؛ كما قد بُسط في غير موضع1. ولهذا يقول الرازي في آخر مصنّفاته2: لقد تأمّلتُ الطرق الكلاميّة، والمناهج الفلسفيّة، فما رأيتُها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيتُ أقرب الطرق طريقة القرآن؛ اقرأ في الإثبات: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} 3، {الرَّحْمَنُ عَلَىْ الْعرْشِ استَوَىْ} 4، واقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيْءٌ} 5،

_ 1 انظر: درء تعارض العقل والنقل 3/83،، 7/219، 224-232، 300، 304-307،، 8/70-88، 100، 106، 300-343. وشرح العقيدة الأصفهانيّة - ت السعوي - ص 261-262. ومجموع الفتاوى 17/267-270. 2 في كتاب ((أقسام اللذات)) . وقد صرح شيخ الإسلام رحمه الله بذكر اسمه بقوله: وقد ذكر هذا الإمام لأتباعه أبو عبد الله الرازي في كتابه أقسام اللذات لما ذكر اللذة العقلية، وأنها العلم، وأن أعرف العلوم العلم بالله، لكنه العلم بالذات والصفات والأفعال، وعلى كل واحدة من ذلك عقدة: هل الوجود هو الماهية أم قدر زائد؟ وهل الصفات زائدة على الذات أم لا؟ وهل الفعل مقارن أم محدث؟ ثم قال: ومن الذي وصل إلى هذا الباب، أو ذاق من هذا الشراب! ". بيان تلبيس الجهمية 1/128-129. وقال الحافظ ابن القيم رحمه الله عن هذا الكتاب: (وهو كتاب مفيد، صنّفه في آخر عمره) . اجتماع الجيوش الإسلامية ص 121. 3 سورة فاطر، الآية 10. 4 سورة طه، الآية 5. 5 سورة الشورى، الآية 11.

{وَلا يُحِيْطُوْنَ بِهِ عِلْمَاً} 1. قال: ومن جرّب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي2. ولما ذكر الرازي الاستدلال بحدث الصفات3؛ كالحيوان، والنبات، والمطر، ذكر أنّ هذه طريقة القرآن4. ولا ريب أنّ القرآن يُذكر فيه الاستدلال بآيات الله؛ كقوله: {إِنَّ فِيْ خَلْقِ السَّمَوَاْتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَاْرِ وَالْفُلْكِ الَّتِيْ تَجْرِيْ فِيْ الْبَحْرِ بِمَاْ يَنْفَعُ النَّاْسَ وَمَاْ اَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاْءِ مِنْ مَاْءٍ فَأَحْيَاْ بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَاْ وَبَثَّ فِيْهَاْ مِنْ كُلِّ دَاْبَّةٍ وَتَصْرِيْفِ الرِّيَاْحِ وَالسَّحَاْبِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاْءِ وَالأَرْضِ لآيَاْتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُوْنَ} 5. وهذا مذكورٌ بعد قوله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاْحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيْم} 6، وقبل قوله: {وَمِنَ النَّاْسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُوْنِ اللهِ أَنْدَاْدَاً يُحِبُّوْنَهُمْ كَحُبِّ اللهِ} 7. لكن القرآن لم يذكر أنّ هذه صفات حادثة، وأنّه ليس فيها إحداثُ عين

_ 1 سورة طه، الآية 110. 2 نقل شيخ الإسلام رحمه الله كلام الرازي هذا في الكثير من مصنفاته. انظر: مجموع الفتاوى 4/72-73. ودرء تعارض العقل والنقل 1/159-160. وشرح حديث النزول ص 441. والفتوى الحموية ص15. ومنهاج السنة النبوية 5/271-272. ونقض المنطق ص 60-61. ومعارج الوصول ص 20. والفرقان بين الحق والباطل ص 84. وبيان تلبيس الجهمية 1/128-129. 3 تقدّم ص 351 - 352 أنّ الرازي ذكرها مطوّلة في كتابه نهاية العقول، ومختصرة في كتابه الأربعين. 4 انظر: نهاية العقول للرازي - مخطوط - ق 58/ب. 5 سورة البقرة، الآية 164. 6 سورة البقرة، الآية 163. 7 سورة البقرة، الآية 165.

قائمة بنفسها، بل القرآن يُبيِّن أنّ في خلق الأعيان القائمة بنفسها آيات، ويذكر الآيات في خلق الأعيان والأعراض؛ كقوله: {إِنَّ فِيْ خَلْقِ السَّمَوَاْتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَاْرِ وَالْفُلْكِ الَّتِيْ تَجْرِيْ فِيْ الْبَحْرِ بِمَاْ يَنْفَعُ النَّاْسَ} 1، وهي أعيان. ثمّ قال: [ {وَمَاْ أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاْءِ مِنْ مَاْءٍ} ، والماء عينٌ قائمةٌ بنفسها. وقوله:] 2 {فَأَحْيَاْ بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَاْ} 3؛ هو ما يخلقه فيها من النبات، وهو أعيان. وكذلك قوله: {وَبَثَّ فِيْهاْ مِنْ كُلِّ دَاْبَّة} ، وقوله: {وَتَصْرِيْفِ الرِّيَاْحِ} ؛ فالرياح أعيان، وتصريفها أعراض. وقوله: {وَالسَّحَاْبِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاْءِ وَالأَرْضِ} ، والسحاب أعيان. {لآيَاْتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُوْنَ} 4. وقد تقدّم5 أنّ أصل الاشتباه في هذا أنّ خلقَ الشيء من مادّة، هل هو خلق عين، أم إحداث اجتماع [و] 6 افتراق وأعراض فقط. اختلاف الناس في خلق الشيء هل هو خلق عين، أم إحداث اجتماع وافتراق على ثلاثة أقوال والناس مختلفون في هذا على ثلاثة أقوال7: فالقائلون بالجواهر المفردة8 من أهل الكلام القائلون بأنّ الأجسام مُركّبة من الجواهر الصغار التي قد بلغت من الصغر إلى حدّ لا يتميّز منها جانب عن جانب يقولون: تلك الجواهر باقية تنقّلت في الحوادث، ولكن تعتقب عليها الأعراض الحادثة. والاستدلال بالأعراض على حدوث ما يلزمه من الجواهر، ثمّ

_ 1 سورة البقرة، الآية 164. 2 ما بين المعقوفتين ليس في ((ط)) ، وهو في ((خ)) ، و ((م)) . 3 سورة البقرة، الآية 164. 4 سورة البقرة، الآية 164. 5 انظر: ما تقدم ص 345-351، وما سيأتي ص 1340-1349 من هذا الكتاب. 6 ليست في ((خ)) . وأثبتها من ((م)) ، و ((ط)) . 7 وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله اختلاف الناس وأقوالهم في هذه المسألة.. انظر: منهاج السنة النبوية 2140-142. ومجموع الفتاوى 17243-245. ودرء تعارض العقل والنقل 383-86. 8 تقدم تعريف الجوهر الفرد ص 345.

الاستدلال بذلك على المحدِث، غير الاستدلال بحدوث هذه الأعراض على المحدِث لها؛ فتلك1 هي طريقة الجهميّة المشهورة، وهي التي سلكها الأشعريّ في كتبه كلها متابعة للمعتزلة2، ولهذا قيل: الأشعريّة مخانيث المعتزلة3. وأما الاستدلال بالحوادث على المحدِث، فهي الطريقة المعروفة لكل أحد4، لكن تسمية هذه أعراضاً هو تسمية القائلين بالجوهر الفرد5، مع

_ 1 أي الاستدلال بحدوث الأعراض على حدوث الجواهر والأجسام، ثمّ الاستدلال بحدوث الجواهر والأجسام على أنّ لها محدِثاً. هذه هي طريقة الجهميّة، ومن تابعهم. 2 انظر: اللمع ص 7، 22 - ط مكارثي -. ورسالة إلى أهل الثغر ص 218-219. والإبانة - ت فوقية - ص 67، 80-81، 102. 3 هذه العبارة يذكرها شيخ الإسلام رحمه الله كثيراً بقوله: قيل. وقد نسبها في الفتاوى 8227 لأبي إسماعيل الأنصاري رحمه الله، أنّه قال: "الأشعريّة الإناث، هم مخانيث المعتزلة". وأحياناً يذكر رحمه الله هذه العبارة بقوله: "فالمعتزلة في الصفات مخانيث الجهميّة". وأمّا الكلابيّة: فيُثبتون الصفات في الجملة، وكذلك الأشعريّون، ولكنّهم كما قال الشيخ أبو إسماعيل الأنصاري: "الأشعريّة الإناث، وهم مخانيث المعتزلة". انظر: مجموع الفتاوى 14348-349. أو يذكرها بقوله: "كما قيل: المعتزلة مخانيث الفلاسفة". انظر: مجموع الفتاوى 1231. 4 وهذه طريقة شرعيّة عقليّة؛ فالقرآن مليء بالآيات التي تحثّ على التفكّر والتدبّر في خلق الله للاستدلال به على الخالق. وهو أمرٌ معلوم بضرورة العقل. انظر: مجموع الفتاوى 1425. والرسالة التدمرية ص 20. ومنهاج السنة النبوية 329-30. 5 وهم متأخّروا المعتزلة والأشعريّة. انظر: الفرق بين الفرق للبغدادي ص 328. والمواقف في علم الكلام للإيجي ص165. والصحائف الإلهية للسمرقندي ص255.

أنّ الرازي توقّف في آخر أمره فيه؛ كما ذَكَرَ ذلك في نهاية العقول1. وذُكِر أيضاً عن أبي الحسين البصري2، وأبي المعالي3 أنّهما توقّفا فيه4. والمقصود أنّ القائلين بالجوهر الفرد يقولون: إنّما أحدث أعراضاً لجمع الجواهر وتفريقها. فالمادّة5 التي هي الجواهر المنفردة باقية عندهم بأعيانها، ولكن أحدث صوراً هي أعراض قائمة بهذه الجواهر6.

_ 1 انظر: نهاية العقول - مخطوط - ق 67أ. 2 هو أبو الحسين؛ محمد بن علي الطيب البصري. ولد في البصرة، ودرس في بغداد على القاضي عبد الجبار. من متأخري المعتزلة، ومن أئمتهم. وقال عنه ابن حجر: "شيخ المعتزلة، ليس بأهل للرواية". مات سنة 436?. انظر: لسان الميزان 5598. وشذرات الذهب 359. 3 الجويني. 4 بل إنّ أكثر طوائف أهل الكلام لم يتكلّموا به. انظر: من كتب ابن تيمية: درء تعارض العقل والنقل 4135-136. والرد على المنطقيين ص 67. ومجموع الفتاوى 12318. ومنهاج السنة النبوية 2211. وتفسير سورة الإخلاص ص 86. 5 المادّة تُسمّى عند المتفلسفة: هيولى. وهي أحد جُزأي الجسم، والجزء الآخر هو الصورة. وكلّ جزء من هذا الجسم محلّه الجزء الآخر. فالصورة صورة للمادة؛ أي أنّها تحلّ بها. والمادّة محلّ للصورة. انظر: التعليقات للفارابي ص 41، 43، 60. والمبين في ألفاظ الحكماء والمتكلمين للآمدي ص 110. يقول شيخ الإسلام: "التحقيق أنّ المادّة والصورة لفظ يقع على معان؛ كالمادّة والصورة الصناعيّة، والطبيعيّة، والكليّة، والأوليّة. فالأوّل: مثل الفضة إذا جعلت درهماً وخاتماً وسبيكةً، والخشب إذا جُعل كرسيّاً، واللبِن والحجر إذا جعل بيتاً، والغزل إذا نُسج ثوباً، ونحو ذلك. فلا ريب أنّ المادّة هنا التي يُسمّونها الهيولى هي أجسام قائمة بنفسها، وأنّ الصورة أعراض قائمة بها، فتحوُّل الفضة من صورة إلى صورة هو تحوُّلها من شكل إلى شكل، مع أنّ حقيقتها لم تتغيّر أصلاً". درء تعارض العقل والنقل 384. 6 انظر: منهاج السنة النبوية 2139-140.

قول الفلاسفة وأمّا المتفلسفة فيقولون: أحدث صوراً في موادّ باقية كما يقول هؤلاء، لكن [يقولون] 1: أحدث صوراً هي جواهر في مادّة هي جوهر، وعندهم ثمّ مادّة باقية بعينها، والصور الجوهرية؛ كصورة الماء، والهواء، والتراب، والمولّدات تعتقب عليها2. أقسام الموجودات عند الفلاسفة وهذه المادة - عندهم3 - جوهر عقليّ، وكذلك الصورة المجرّدة جوهر عقليّ4، ولكن الجسم مُركّب من المادّة والصورة5، ولهذا قسّموا الموجودات، فقالوا: إما أن يكون الموجود حالا [بغيره] 6، أو محلا، أو مركبا من الحال، والمحل، [أو] 7 لا هذا ولا هذا. فالحال في غيره هو الصورة، والمحلّ هو المادّة، والمركّب منهما هو الجسم، وما ليس كذلك؛ إن كان متعلّقاً بالجسم، فهو النفس، وإلا فهو العقل8. وهذا التقسيم فيه خطأ كثير من وجوه، ليس هذا موضعها9؛ إذ

_ 1 ملحقة بهامش ((خ)) . 2 انظر منهاج السنة النبوية 1360. 3 أي عند الفلاسفة. 4 انظر كتاب الشفا لابن سينا 361. 5 انظر تهافت الفلاسفة للغزالي ص 163. 6 في ((خ)) : لغيره. وما أثبت من ((م)) و ((ط)) . 7 ليست في ((خ)) وهي في ((م)) و ((ط)) . 8 انظر: كتاب الشفا لابن سينا 372. والتعليقات للفارابي ص 41، 43، 60. وتهافت الفلاسفة للغزالي ص 163. والمبين في شرح ألفاظ الحكماء والمتكلمين للآمدي ص 110. والتعريفات للجرجاني ص 135، 136، 257. 9 وقد بيّن شيخ الإسلام رحمه الله خطأ هذا التقسيم في مواضع متعدّدة من كتبه. انظر: منهاج السنة النبوية 2211. ودرء تعارض العقل والنقل 4146. وبغية المرتاد ص 416. والرد على المنطقيين ص 67. وكتاب الصفدية 2229.

المقصود أنّهم يقولون أيضاً أنّه لم يُحدِث جسماً قائماً بنفسه، بل إنما أحدث صورة في مادّة باقية1. ولا ريب أنّ الأجسام بينها قدر مشترك في الطول والعرض والعمق، وهو المقدار المجرّد الذي لا يختصّ بجسم بعينه2، ولكنّ هذا المقدار المجرّد هو في الذهن، لا في الخارج؛ كالعدد المجرّد، والسطح المجرّد، والنقطة المجرّدة، وكالجسم التعليميّ3؛ وهو الطويل العريض العميق الذي لا يختصّ بمادّة بعينها4.

_ 1 راجع المصادر المتقدّمة في هامش (6) من الصفحة السابقة. 2 فكلّ جسم له طول، وعرض، وعمق. ولكن هذه الأبعاد لا تُسمّى تركيباً. يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "وإذا سمّى مسمّ هذه مركّباً كان إما غالطاً في عقله؛ لاعتقاده اشتمالها على حقيقتين؛ وجودها، وحقيقتها المغايرة لوجودها. أو على حقيقتين؛ ذات قائمة بنفسها معقولة مستغنية عن صفاتها، وصفات زائدة عليها قائمة بها. أو على جواهر منفردة، أو معقولة، أو نحو ذلك من الأمور التي يُثبتها طائفة من الناس ويُسمّونها تركيباً". انظر: درء تعارض العقل والنقل5146. 3 الجسم التعليمي: هو الذي يقبل الإنقسام طولاً وعرضاً وعمقاً، ونهايته السطح، وهو نهاية الجسم الطبيعيّ. ويُسمّى جسماً تعليمياً إذ يُبحث عنه في العلوم التعليميّة؛ أي الرياضيّة الباحثة عن أحوال الكمّ المتصل والمنفصل منسوبة إلى التعليم والرياضة؛ فإنهم كانوا يبتدؤون بها في تعاليمهم ورياضتهم لنفوس الصبيان لأنها أسهل إدراكاً. انظر: التعريفات للجرجاني ص 76. وانظر: زيادة إيضاح حول هذا الموضوع من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الجواب الصحيح 4307. وفي درء تعارض العقل والنقل 10290. 4 قال شيخ الإسلام رحمه الله - في موضع آخر - عن لفظ الجسم: " ... وكذلك النظار، يُريدون بلفظ الجسم تارة المقدار، وقد يُسمونه الجسم التعليمي، وتارة يريدون به الشيء المقدر، وهو الجسمي الطبيعي والمقدار المجرد عن المقدار، كالعدد المجرد عن المعدود، وذلك لا يوجد إلا في الأذهان دون الأعيان، وكذلك السطح والخط والنقطة المجردة عن المحل الذي تقوم به لا يوجد إلا في الذهن ... ". مجموع الفتاوى 12316-317.

فهذه المادة المشتركة التي أثبتوها هي في الذهن، وليس بين الجسمين في الخارج شيء اشتركا فيه بعينه، فهؤلاء جعلوا الأجسام مشتركة في جوهر عقليّ، وأولئك جعلوها مشتركة في الجواهر الحسيّة. وهؤلاء قالوا: إذا خلق كلّ شيء من شيء، فإنّما أُحدِثت صورة، مع أنّ المادّة باقية بعينها، لكن أفسدت صورة، وكونت صورة. ولهذا يقولون عن ما تحت الفلك: عالم الكون والفساد1. ولهذا قال ابن رشد2: "إنّ الأجسام المركبة من المادة والصورة هي في عالم الكون والفساد، بخلاف الفَلَك؛ فإنه ليس مركباً من مادة وصورة عند الفلاسفة". حيرة المتكلمين والفلاسفة في خلق الشيء من مادة قال3: وإنّما ذكر أنه مركّب من هذا، وهذا: ابن سينا4.

_ 1 انظر: الإرشاد للجويني ص 25، وقد أشار إلى هذا القول للفلاسفة. 2 هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد الأندلسي الفيلسوف. ولد سنة 520?. من أهل قرطبة. وهو المعروف بابن رشد الحفيد تمييزاً له عن جدّه شيخ المالكية. عني بكلام أرسطو وترجمه إلى العربية، وزاد عليه زيادات. قرّبه المنصور أولاً، ثمّ اتهمه خصومه بالزندقة والإلحاد، فنفاه إلى مراكش وأحرق بعض كتبه، ثمّ رضي عنه، وأذن له بالعودة، فعاجلته الوفاة بمراكش سنة 595?. من مصنفاته: تهافت التهافت، ومناهج الأدلة. انظر: شذرات الذهب 4320. والأعلام 5318. وسير أعلام النبلاء 21307. 3 أي ابن رشد. 4 تقدمت ترجمته.

[وهؤلاء، وهؤلاء] 1 تحيّروا في خلق الشيء من مادة؛ كخلق الإنسان من النطفة، والحب من الحب، والشجرة من النواة، وظنّوا أنّ هذا لا يكون إلا مع بقاء أصل تلك المادّة؛ إمّا الجواهر عند قوم2، وإمّا المادّة المشتركة عند قوم3. وهم في الحقيقة يُنكرون أن يخلق الله شيئاً من شيء؛ فإنّه عندهم لم يُحدِث إلا الصورة التي هي عرض عند قوم، أو جوهر عقليّ عند قوم. وكلاهما لم يخلق من مادّة، والمادّة عندهم باقية بعينها، لم يخلق، و [لن] 4 يخلق منها شيء. وقد ذكروا في قوله: {أَمْ خُلِقُوْا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} 5 ثلاثة أمور: قال ابن عباس والأكثرون: أم خُلقوا من غير خالق، وهو الذي ذكره6 الخطابي7.

_ 1 كذا وردت في ((خ)) مكرّرة. ولا يوجد التكرار في النسختين الأخريين. 2 وهم المتكلمون. انظر: شرح الأصفهانية 1262. ومجموع الفتاوى 5424-425. 3 وهم الفلاسفة. انظر: منهاج السنة النبوية 1360. وشرح الأصفهانية 1262. 4 في ((خ)) : لم. وما أثبته من ((م)) ، و ((ط)) . 5 سورة الطور، الآية 35. 6 في ((خ)) : ذكر. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 7 هو حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب البستي، أبو سليمان. فقيه، مُحدِّث، من أهل بست من بلاد كابل، من نسل زيد بن الخطاب. له معالم السنن في شرح سنن أبي داود، وغريب الحديث، والغنية عن الكلام وأهله. توفي في بست سنة 388 ?. انظر: شذرات الذهب 2127. والبداية والنهاية 11346. والأعلام 2273.

وقال الزجاج1، وابن كيسان2: "أم خلقوا عبثاً وسُدى، فلا يُبعثون، ولا يُحاسبون، ولا يؤمرون، ولا يُنهون؛ كما يقولون: فعلتُ هذا من غير شيء؛ أي: لغير علّة"3. وقيل: أم خُلقوا من غير مادّة؛ أي: من غير أب وأمّ. ثمّ من هؤلاء من قال: فهم كالجماد. ومنهم من قال: كالسموات؛ ظنّاً منه أنّها خُلقت من غير مادّة. ذكر الأربعة أبو الفرج45. وذكر البغوي6 الوجهين الأولين7.

_ 1 هو إبراهيم بن السري بن سهل، أبو إسحاق الزجاج. كان فاضلاً ديناً حسن الاعتقاد. وله المصنفات الحسنة، منها كتاب معاني القرآن. مات سنة 311 ?. انظر: البداية والنهاية 11159. وتاريخ بغداد 689. 2 هو محمد بن أحمد بن كيسان النحوي، أحد حفاظه والمكثرين منه. كان يحفظ طريقة البصريين والكوفيين معاً. قال ابن مجاهد: كان ابن كيسان أنحى من الشيخين؛ المبرد وثعلب. توفي سنة 299 ?. انظر: البداية والنهاية 11125. وسير أعلام النبلاء 16329؛ وقد ترجم لولديه، ولم يفرده بترجمة. 3 انظر: معاني القرآن وإعرابه للزجاج 565. 4 هو عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي القرشي البكري الحنبلي. ينتهي نسبه إلى أبي بكر الصديق. قال عنه الذهبي: "الإمام، العلامة، الحافظ، عالم العراق، وواعظ الآفاق". توفي سنة 595 ?. انظر: تذكرة الحفاظ 41342. وسير أعلام النبلاء 21365. وذيل طبقات الحنابلة 1399. وشذرات الذهب 4239. 5 زاد المسير لابن الجوزي 855-56. 6 هو الحسين بن مسعود بن محمد البغوي، صاحب التفسير، وشرح السنة، والتهذيب في الفقه. قال عنه الذهبي: الإمام الحافظ الفقيه المجتهد محيي السنة". وقال عنه ابن كثير: "وكان علامة زمانه فيها، وكان ديناً ورعاً زاهداً عابداً صالحاً". توفي سنة 516 ?. انظر: تذكرة الحفاظ 41257. والبداية والنهاية 12206. وشذرات الذهب 448. 7 انظر: تفسير البغوي المسمى معالم التنزيل 4241.

قول الفلاسفة في المادة والذي ذكرناه من قول أولئك المتكلمين والفلاسفة معنى آخر؛ وهو: أنّ من قال المادّة باقية بعينها، وإنما حدث عرض، أو صورة، وذلك لم يُخلق من غيره، ولكن أُحدِث في المادّة الباقية. فلا يكون الله خلق شيئاً من شيء؛ لأنّ المادّة عندهم لم تُخلق. أمّا المتفلسفة: فعندهم المادّة قديمة أزليّة باقية بعينها. قول المتكلمين في الجواهر وأمّا المتكلّمون: فالجواهر عندهم موجودة، ما زالت موجودة، لكن من قال إنّها حادثة من أهل الملل وغيرهم قالوا: يُستدلّ على حدوثها بالدليل، لا أنّ خلقها معلوم للناس؛ فهو عندهم ممّا يُستدلّ عليه بالأدلة الدقيقة الخفيّة، مع أنّ ما يذكرونه منتهاه إلى أنّ ما لا يخلو عن الحوادِث فهو حادث. وهو دليل باطل. فلا دليل عندهم على حدوثها. وإذا كانت لم تُخلق إذ خُلق الإنسان، بل هي باقية في الإنسان، والأعراض الحادثة لم تخلق من مادّة، فإذا خلق الإنسان لم [يُخلق] 1 من شيء؛ لا جواهره، ولا أعراضه. وعلى قولهم، ما جعل الله من الماء كلّ شيء حيّ، ولا خلق كلّ دابّة من ماء، ولا خلق آدم من تراب، ولا ذريّته من نطفة، بل نفس الجواهر الترابيّة باقية بعينها لم تخلق حينئذ، ولكن أُحدث فيها أعراض، أو صورة حادثة، وتلك الأعراض ليست من التراب. فلمّا خُلق آدم، لم يُخلق شيءٌ من تراب، وكذلك النطفة جواهرها باقية؛ إمّا الجواهر المنفردة، وإمّا المادّة. والحادث هو عرض، أو صورة في مادّة. ولا هذا، ولا هذا خلق من نطفة. وليس قولهم أنّه لم يُخلق من مادّة، معناه أنّ الخالق أبدعه لا من شيء، وأنّهم قصدوا بها تعظيم الخالق، بل الإنسان لا ريب أنّه جوهر قائم بنفسه. وعندهم ذلك القائم بنفسه ما زال موجوداً،

_ 1 في ((ط)) فقط: يخل.

لم يخلق إذ خلق الإنسان. والجوهر الحامل لصورته ما زال موجوداً أيضاً؛ فلم يخلق عند [هؤلاء1 إلا الأعراض] 2، وعند هؤلاء3 إلا صورة مجرّدة. المخلوق عند المتكلمين والفلاسفة وكلاهما ليس هو الإنسان، بل صفة له، أو صورة له. هذا هو المخلوق4 عندهم؛ يُخلق الإنسان فقط. وقد قال تعالى: {أَوَلا يَذْكرُ الإِنْسَاْنُ أَنَّاْ خَلَقْنَاْهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئَاً} 5، وقال تعالى: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئَاً} 6. فقد أمر الإنسان أن يتذكّر أنّ الله خلقه ولم يكُ شيئاً. والإنسان إذا تذكرّ إنّما يذكر أنّه خلق من نطفة. الجواهر والأعراض عند المتكلمين وعندهم ما زال جواهر الإنسان شيئاً، وذلك الشيء باق، وإنّما حدث أعراض لتلك الأشياء. ومعلوم أنّ تلك الأعراض وحدها ليست هي الإنسان؛ فإنّ الإنسان مأمورٌ، منهيّ، حيّ، عليم، قدير، متكلّم، سميع، بصير، موصوفٌ بالحركة والسكون. وهذه صفات الجواهر، والعرض لا يُوصف بشيء؛ لا سيّما وهم يقولون: العرض لا يبقى زمانين7. فالمخلوق - على قولهم - لا يبقى زمانين، بل يفنى عقِب ما يُخلق. اضطرابهم في البعث ولهذا اضطربوا في المعاد؛ فإنّ معرفة المعاد مبنيّة على معرفة المبدأ، والبعث مبنيّ على الخلق. فقال بعضهم: هو تفريق تلك الأجزاء، ثمّ جمعها، وهي

_ 1 أي المتكلمون. 2 في ((خ)) : هؤلاء الأعراض. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 أي الفلاسفة. 4 كذا في ((خ)) ، و ((م)) ، و ((ط)) . وفي حاشية ((خ)) كُتب: لعله المراد. 5 سورة مريم، الآية 67. 6 سورة مريم، الآية 9. 7 تقدّمت مقولتهم هذه ص 310.

باقية بأعيانها. وقال بعضهم: بل يُعدمها، ويُعدم الأعراض القائمة بها، ثمّ يُعيدها، وإذا أعادها فإنّه يُعيد تلك الجواهر التي كانت باقية، إلى أن حصلت في هذا الإنسان. اضطرابهم في جواهر المأكول إذا أُعيدت من الآكل فلهذا اضطربوا لما قيل لهم: فالإنسان إذا أكله حيوان آخر، فإن أُعيدت تلك الجواهر من الأول، نقصت من الثاني، وبالعكس. أما على قول من يقول إنّها تُفرّق ثمّ تجمع، فقيل له: تلك الجواهر إن جمعت للآكل، نقصت من المأكول، وإن [أُعيدت] 1 للمأكول، نقصت من الآكل2. وأما الذي يقول: تُعدم ثمّ تُعاد بأعيانها، فقيل له: أتُعدم لما أكلها الآكل، أم قبل أن يأكلها؟ فإن كان بعد أن أكلها؛ فإنّها تُعاد في الآكل، فينقص المأكول. وإن كان قبل الأكل، فالآكل لم يأكل إلا أعراضاً، لم يأكل جواهر. [فهذا] 3 مكابرة. ثمّ إنّ المشهور أنّ الإنسان يبلى ويصير تراباً كما خُلق من تراب، وبذلك أخبر الله. فإن قيل: إنّه إذا صار تراباً عُدمت تلك الجواهر؛ فهو لما خُلق من تراب عُدمت أيضاً تلك الجواهر. فكونهم يجعلون الجواهر باقية في جميع الاستحالات - إلا إذا صار تراباً - تناقضٌ بيِّن، ويلزمهم عليه الحيوان المأكول، وغير ذلك. وكأنّ هذا الضلال [أصل] 4 ضلالهم في تصوّر الخلق الأوّل، والنشأة

_ 1 في ((ط)) : أعقيدت. وما أثبت من ((خ)) ، و ((م)) . 2 وقد بحث شيخ الإسلام رحمه الله هذه المسألة في مواضع أخرى. انظر: مجموع الفتاوى 17247، 257. وانظر: هذه المسألة في شرح الطحاوية ص 523. وفي لوامع الأنوار 2160. 3 في ((خ)) : وهذا. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 في ((خ)) : أصله. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

الأولى التي أمرهم الرب أن يتذكروها ويستدلوا بها على قدرته على الثانية1. قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَاْ تُمْنُوْنَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُوْنَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَاْلِقُوْن نَحْنُ قَدَّرْنَاْ بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَاْ نَحْنُ بِمَسْبُوْقِيْنَ عَلَىْ أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَاْلَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِيْمَاْ لا تَعْلَمُوْنَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُوْلَىْ فَلَوْلا تَذْكُرُوْنَ} 2. والفلاسفة أجود تصوّراً في هذا الموضع؛ حيث قالوا: تفسد الصورة الأولى وهي جوهر، وتحدث صورة أخرى. فإنّ هذا أجود من أن يُقال: يزول عرض ويحدث عرض. ولكنّ الفلاسفة غلطوا في توهمهم أنّ هناك مادة باقية بعينها، وإنما تفسد صورتها. التحقيق في مسألة المادة والحقّ أنّ المادّة التي منها يُخلق الثاني تفسد، وتستحيل، وتتلاشى، ويُنشئ الله الثانيَ ويبتديه، ويخلق3 من غير أن يبقى من الأول شيء؛ لا مادة، ولا صورة، ولا جوهر، ولا عرض. فإذا خلق الله الإنسان من المني، فالمني استحال وصار علقةً، والعلقة استحالت وصارت مضغةً، والمضغة استحالت إلى عظام وغير عظام. والإنسان بعد أن خُلق، خُلق كلّه؛ جواهره وأعراضه، وابتدأه الله ابتداءً؛ كما قال تعالى: {الَّذِيْ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَاْنِ مِنْ طِيْنٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاْءٍ مَهِيْنٍ} 4، وقال تعالى: {أَوَلا يَذْكُرُ الإِنْسَاْنُ أَنَّاْ خَلَقْنَاْهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئَاً} 5.

_ 1 أي النشأة الثانية. 2 سورة الواقعة، الآيات 58-62. 3 في ((خ)) : يخلقه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 سورة السجدة، الآيتان 7-8. 5 سورة مريم، الآية 67.

فالإنسان مخلوق، خلق الله جواهره وأعراضه كلّها من المني؛ من مادّة استحالت، ليست باقية بعد خلقه؛ كما تقول المتفلسفة أنّ هناك مادّة باقية1. ولفظ المادّة مشترك: فالجمهور يُريدون به ما منه خُلق، وهو أصله وعنصره. وهؤلاء يُريدون بالمادّة جوهر باق، وهو محلّ للصورة الجوهرية. فلم يُخلق عندهم الإنسان من مادّة، بل المادّة باقية، وأحدث2 صورته فيها؛ كما أنّ الصور الصناعيّة؛ كصورة الخاتم، والسرير، والثياب، والبيوت، وغير ذلك إنّما أحدث الصانع صورته العرضيّة في مادّة لم تزل موجودة ولم تفسد، ولكن حُوِّلَت من صفة إلى صفة. فهكذا تقول الجهميّة المتكلّمة المبتدعة أنّ الله أحدث صورة عرضيّة في مادّة باقية لم تفسد؛ فيجعلون خلق الإنسان بمنزلة عمل الخاتم، والسرير، والثوب. والمتفلسفة تقول أيضاً: إنّ مادّته باقية لم تفسد؛ كمادّة الصورة الصناعيّة، لكن يقولون: إنّه أحدث صورة جوهريّة. وهم قد يخلطون ولا يفرقون بين الصور العرضيّة والجوهريّة؛ فإنّهم يُسمّون صورة الإنسان صورةً في مادّة، وصورة الخاتم صورةً في مادّة؛ فيكون خلق الإنسان عند هؤلاء وهؤلاء من جنس ما يُحدِثه الناس في الصور من الموادّ، ويكون خلقه بمنزلة تركيب الحائط من اللَّبِن. ولهذا قال من قال منهم: إنّه يستغني عن الخالق بعد الخلق، كما يستغني الحائط عن البَنَّاء.

_ 1 انظر: درء تعارض العقل والنقل 1308،، 5195-203. ومنهاج السنة النبوية 2140. 2 في ((خ)) : وأحدثت. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

والأشعريّة عندهم أنّ البَنَّاءَ، والخيَّاط، وسائر أهل الصنائع لم يُحدِثوا في تلك الموادّ شيئاً؛ فإنّ القدرة المُحدثة - عندهم - لا تتعلّق إلا بما هو في محلّها، لا خارجاً عن محلّها. ويقولون: إنّ تلك المصنوعات كلّها مخلوقة لله، ليس للإنسان فيها صنع. وخَلْقُ اللهِ على أصلهم: هو إحداث أعراض فيها كما تقدّم1. فيُنكرون ما يصنعه الإنسان، وهو في الحقيقة مثلما يجعلونه [مخلوقاً] 2 للرحمن، وهم لا يشهدون للرحمن إحداثاً ولا إفناءً، بل إنما يحدث عندهم الأعراض، وهي تفنى بأنفسها، لا بإفنائه، وهي تفنى عقب إحداثها. إفناء الأعراض والجواهر عند المتكلمين وهذا لا يُعقل، وهم حائرون؛ إذا أراد أن يُعدم الأجسام، كيف يُعدمها؟. والمشهور - عندهم - أنّها تعدم بأنفسها إذا لم يخلق لها أعراضاً. فالعرض يفني عندهم بنفسه، والجوهر يفني بنفسه إذا لم يخلق له عرض بعد عرض. هذا في الإفناء. وأمّا في الإحداث: فإنّهم استدلوا على حدوثها بدليل باطل، لو كان صحيحاً، للزم حدوث كلّ شيء من غير مُحدِث. فحقيقة أصل [أهل] الكلام المتبعين للجهمية: أنّه لا يُحدِث شيئاً، ولا يُفني شيئاً، بل يُحدث كلَّ شيءٍ بنفسه، ويُفني بنفسه، ويلزمهم جواز أن يكون الربّ مُحدثاً أيضاً بلا محدث. وهذه الأصول [هي] 3 أصول دينهم العقلية التي بها يعارضون الكتاب، والسنّة، والمعقولات الصريحة، وهي في الحقيقة لا عقل،

_ 1 انظر: ص 361-367 من هذا الكتاب. 2 في ((خ)) : مخلوقة. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهي في ((م)) ، و ((ط)) .

ولا سمع؛ كما حكى [الله] 1 عن من قال: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السَّعِير} 2. والخلق يشهدون إحداث الله لما يحدثه، وإفناءه لما يُفنيه؛ كالمني الذي استحال، وفني، وتلاشى، وأحدث منه هذا الإنسان؛ وكالحبة التي فنيت، واستحالت، وأحدث منها الزرع؛ وكالهواء الذي استحال، وفني، وحدث منه النار أو الماء؛ وكالنار التي استحالت، وحدث منها الدخان. فهو - سبحانه - دائماً يُحدث ما يُحدثه ويكوّنه، ويُفني ما يُفنيه ويُعدمه. والإنسان إذا مات وصار تراباً فَنِي وعُدِم، وكذلك سائر ما على الأرض؛ كما قال: {كُلّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} 3، ثمّ يُعيده من التراب كما خلقه ابتداءً من التراب، ويخلقه خلقاً جديداً. ولكنْ للنشأةِ الثانية [أحكامٌ] 4 وصفات ليست للأولى. فمعرفة الإنسان بالخلق الأول، وما يخلقه من بني آدم وغيرهم من الحيوان، وما يخلقه من الشجر والنبات والثمار، وما يخلقه من السحاب والمطر وغير ذلك: هو أصلٌ لمعرفته بالخلق، والبعث بالمبدأ والمعاد، وإن لم يعرف أنّ الله يخلقه كلّه من المنيّ؛ جواهره وأعراضه، وإلا فما عرف أنّ الله خلقه. ومن ظنّ أنّ جواهره لم يخلقها إذ خلقه، بل جواهر المنيّ، وجواهر ما يأكله ويشربه باقية بعينها فيه، لم يخلقها، أو أنّ مادته التي تقوم بها صورته لم يخلقها إذ خلقه، بل هي باقية أزليّة أبديّة، لم يكن قد عرف أنّه مخلوقٌ مُحدَثٌ.

_ 1 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهي في ((م)) ، و ((ط)) . 2 سورة الملك، الآية 10. 3 سورة الرحمن، الآية 26. 4 في ((ط)) فقط: أحكاماً.

والعلماء ينكرون على من يقول إنّ روح الإنسان قديمةٌ أزليّة من المنتسبين إلى الإسلام. وهؤلاء الذين يقولون1 إنّ مادة جسمه باقية بعينها، وهي أزليّة أبديّة، أبعد عن العقل والنقل منهم. وأولئك أنكروا عليهم حيث قالوا: [الإنسان] 2 مركّبٌ من قديمٍ ومحدَثٍ؛ من لاهوتٍ قديم، وناسوتٍ محدَثٍ. [و] 3 هؤلاء4 جعلوه مركباً من مادة قديمة أزلية، وصورة محدثة، وجعلوا القديم الأزلي فيه أخس ما فيه، وهو المادة؛ فإنّها عندهم أخسّ الموجودات، وهي قديمة أزلية. وأولئك5 جعلوا القديم الأزلي أشرف ما فيه وهي النفس الناطقة. وكلتا الطائفتين وإن كان ضالاً؛ فالشريف العالي أولى بالقدم من الخسيس السافل، وهذا أولى بالحدوث. وأما المتكلمة الجهمية: فهم لا يتصوّرون ما يشهدونه؛ من حدوث هذه الجواهر في جواهرَ أُخَر من مادة، ثمّ يدّعون أنّ الجواهر جميعها أُبدعت ابتداءً لا من شيء. وهم لم يعرفوا قطّ جوهراً أُحدث لا من شيء، كما لم يعرفوا عرضاً أُحدِث لا في محلّ. وحقيقة قولهم: أنّ الله لا يُحدث شيئاً من شيء؛ لا جوهراً، ولا عرضاً؛ فإنّ الجواهر كلّها أُحدثت لا من شيء، والأعراض كذلك.

_ 1 وهم الفلاسفة المنتسبون للإسلام، والمتكلمون. 2 في ((ط)) فقط: لإنسان. 3 في ((م)) ، و ((ط)) : أو. 4 الذين يقولون: إنّ مادة جسم الإنسان باقية بعينها، وهي أزليّة أبديّة. 5 الذين قالوا: "إنّ روح الإنسان قديمة أزليّة، وإنّ الإنسان مُركّب من لاهوتٍ قديم، وناسوتٍ مُحدَث.

والمشهود المعلوم للناس إنّما هو إحداثه لما يحدثه من غيره، لا إحداثاً من غير مادة، ولهذا قال تعالى: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئَاً} 1، ولم يقل خلقتك لا من شيء، وقال تعالى: {وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} 2، ولم يقل خلق كل دابة لا من شيء، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} 3. الرد على الجهمية وهذا4 هو القدرة التي تبهر العقول؛ وهو أن يقلب حقائق الموجودات فيحيل الأول ويُفنيه ويُلاشيه، ويُحدث شيئاً آخر؛ كما قال: {فَالِقُ الحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَمُخْرِجُ المَيِّتِ مِنَ الحَيِّ} 5، ويُخرج الشجرة الحية، والسنبلة الحية، من النواة والحبة الميتة، ويخرج النواة الميتة، والحبة الميتة، من الشجرة والسنبلة الحية؛ كما يخرج الإنسان الحي من النطفة الميتة، والنطفة الميتة من الإنسان الحي. وعندهم6 لا يُخرج حيّاً من ميت، ولا ميتاً من حي؛ فإنّ الحيّ والميت إنّما هو الجوهر القائم بنفسه؛ فإنّ الحياة عرض لا يقوم إلا بجوهر، والعرض نفسه لا يقوم بعرض آخر. وإن كان العرض يوصف بأنّه حيّ؛ كما يقال: قد أحييت العلم والإيمان، وأحييت الدين، وأحييت السنة والعدل؛ كما يقال: [أمات] 7 البدعة.

_ 1 سورة مريم، الآية 9. 2 سورة النور، الآية 45. 3 سورة الأنبياء، الآية 30. 4 هكذا وردت في ((خ)) ، و ((م)) ، و ((ط)) . 5 سورة الأنعام، الآية 95. 6 عند المتكلمة الجهمية. 7 في ((خ)) رسمت هكذا: امه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

فهؤلاء1 عندهم لا يُخرج جوهراً من جوهر، ولا عرضاً من عرض؛ فلا يُخرج حيّاً من ميت، ولا ميتاً من حيّ، بل الجواهر التي كانت في الميت هي بعينها باقية كما كانت، ولكن أحدث فيها حياة لم تكن. وتلك الحياة لم تخرج من ميت؛ فما أُخرج عندهم حيّ من ميت، ولا ميت من حي، ولهذا ينكرون أن يقلب الله جنساً إلى جنس آخر، ويقولون: الجواهر كلّها جنس واحد؛ فإذا خلق النطفة إنساناً، لم يقلب عندهم جنساً إلى جنس، بل نفس الجواهر هي باقية كما كانت. وخاصية الخلق إنما هي بقلب جنس إلى جنس، وهذا لا يقدر عليه إلا الله؛ كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابَاً وَلَو اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبُهُمُ الذُّبَابُ شَيْئَاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيّ عَزِيزٌ} 2. ولا ريب أنّ النخلة ما هي من جنس النواة، ولا السنبلة من جنس الحبّة، ولا الإنسان من جنس المني، ولا المني من جنس الإنسان. وهو يخرج هذا من هذا، وهذا من هذا؛ فيخرج كلّ جنسٍ من جنسٍ آخر بعيدٍ عن مماثلته3، و {هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} 4. وهو سبحانه إذا جعل الأبيض أسود، أعدم ذلك البياض، وجعل موضعه السواد، لا أنّ الأجسام تعدم تلك المادة [فتحيلها، وتلاشيها، وتجعل] 5

_ 1 المتكلمة الجهمية. 2 سورة الحج، الآية 73، 74. 3 انظر: درء تعارض العقل والنقل 1308، ففيه كلام مماثل لما هنا. وكذا المصدر نفسه 5201. 4 سورة لقمان، الآية 11. 5 في ((خ)) : فيحيلها، ويلاشيها، ويجعل. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

منها هذا المخلوق الجديد، ويخلق الضدّ من ضدّه؛ كما جعل من الشجر الأخضر ناراً، فإذا حك الأخضر بالأخضر، سخن ما يسخنه بالحركة، حتى ينقلب نفس الأخضر فيصير ناراً1. وعلى قولهم ما جعل فيه ناراً، بل تلك الجواهر باقية بعينها، وأُحْدِثَ فيها [عرضٌ] 2 لم يكن. وخلقُ الشيءِ من غير جنسه أبلغ في قدرة القادر الخالق سبحانه وتعالى؛ كما وصف نفسه بذلك في قوله: {قُل اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْر إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ اللَّيْلَ في النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ في اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَتُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَاب} 3. ولهذا قال للملائكة: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرَاً مِنْ طِين فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} 4، وقال: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ فَجَعَلْنَاهُ في قَرَارٍ مَكِينٍ إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القَادِرُونَ} 5. ولهذا امتنع اللعين؛كما قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيْسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينَاً} 6، وقال: {لَمْ أَكُنْ لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُون} 7.

_ 1 كما قال تعالى: {الَّذي جَعَلَ لَكُم مِن الشَّجَر الأخضَرِ ناراً فَإذَا أنتُم منهُ تُوقِدُون} . سورة يس، الآية 80. والمقصود به ما يُشاهدونه من جعله النّار من العفار والمرخ، وهما شجرتان خضراوان، إذا حكت إحداهما بالأخرى بتحريك الريح لها، اشتعل النار فيها. انظر: تفسير الطبري 2332. ورسالة إلى أهل الثغر ص 160. 2 في ((ط)) فقط: عرضاً. 3 سورة آل عمران، الآيتان 26-27. 4 سورة ص، الآيتان 71-72. 5 سورة المرسلات، الآية 20-23. 6 سورة الإسراء، الآية 61. 7 سورة الحجر، الآية 33.

وأيضاً: فكون الشيء مخلوقاً من مادّة وعنصر، أبلغ في العبودية من كونه خُلق لا من شيء، وأبعد عن مشابهة الربوبية؛ فإنّ الرب هو أحدٌ، صمدٌ، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد؛ فليس له أصل وجد منه، ولا فرع يحصل عنه. فإذا كان المخلوق له أصلٌ وُجد منه، كان بمنزلة الولد له، وإذا خلق له شيء آخر، كان بمنزلة الوالد، وإذا كان والداً ومولوداً كان أبعد عن مشابهة الربوبية والصمدية؛ فإنه خرج من غيره، ويخرج منه غيره؛ لا سيما إذا كانت المادة التي خلق منها مهينة؛ كما قال تعالى: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} 1، وقال تعالى {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِق خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَرَائِبِ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ} 2. وفي المسند عن [بسر] 3 بن جحاش4 قال: "بصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في كفه، فوضع عليها إصبعه، ثم قال: يقول الله تعالى: ابن آدم أنّى [تُعجزني] 5، وقد خلقتك من مثل هذه، حتى إذا سويتك وعدلتك، مشيتَ بين بردين وللأرض منك وئيد، فجمعتَ، ومنعتَ، حتى إذا بلغت التراقي، قلتَ أتصدَّقُ، وأنّى أوان الصدقة"6.

_ 1 سورة المرسلات، الآية 20. 2 سورة الطارق، الآيات 5-10. 3 في ((خ)) ، و ((م)) ، و ((ط)) : بشر - بالشين المعجمة. وقد قال الدارقطني، وابن زبر، وغيرهما: لا يصحّ بالمعجمة. انظر: الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 1148. 4 هو بسر بن جِحاش القرشيّ. صحابي، نزل حمص، ومات بها. الإصابة لابن حجر 1148. 5 في ((ط)) فقط: تعج. 6 أخرجه الإمام أحمد في مسنده 4210. وابن ماجه في سننه 1903، وقال في الزوائد: إسناده صحيح.

وكذلك إذا خلق في محلّ مظلمٍ وضيّق؛ كما خلق الإنسان في ظلمات ثلاث، كان أبلغ في قدرة القادر، وأدلّ على عبودية الإنسان، وذلّه لربّه، وحاجته إليه. وقد يقول [المعيّر] 1 للرجل: مالك أصل ولا فصل2، و [لكنّ] 3 الإنسان أصله التراب، وفصله الماء المهين. ولهذا لمّا خُلق المسيح من غير أب، وقعت به الشبهة لطائفة4، وقالوا: إنّه ابن الله، مع أنّه لم يُخلق إلاَّ من مادّة أمّه، ومن الروح التي نُفخ فيها؛ كما قال تعالى: {وَمَرْيَمَ ابنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} 5، [وقال تعالى أيضاً] 6: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرَاً سَوِيَّاً قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيَّاً قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ [لأَهَبَ] 7 لَكَ غُلامَاً زَكِيَّاً} 8؛ فما خلق من غير مادة [يكون] 9 كالأب له، قد يظن فيه أنّه ابن الله، وأنّ الله خلقه من ذاته.

_ 1 في ((خ)) رسمت هكذا: المعري. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 في مجمع الأمثال للميداني: "لا أصل له ولا فصل". قال الكسائي: "الأصل: الحسب، والفصل: اللسان؛ يعني النطق". مجمع الأمثال 2285. وانظر: اللسان 1117، مادة أصل. 3 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 4 المقصود بهم النصارى. 5 سورة التحريم، الآية 12. 6 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 7 في ((خ)) : ليهب. 8 سورة مريم، الآيات 17-19. 9 في ((م)) ، و ((ط)) : تكون.

فلهذا كانت الأنبياء مخلوقة من مادة لها أصول، ومنها فروع، لها والد ومولود. والأحد الصمد: لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد. وحدوث الشيء لا من مادة، قد يُشبه حدوثه من غير رب خالق، وقد يُظنّ أنّه حَدَثَ من ذات الرب؛ كما قيل مثل ذلك في المسيح، والملائكة أنّها بنات الله، لمّا لم يكن لها [أب] 1، مع أنّها مخلوقة من مادّة؛ كما ثبت في الصحيح؛ صحيح مسلم عن عائشة: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم ممّا وُصف لكم"2. ولمّا ظنّ طائفة أنّها لم تُخلق من مادة، ظنّوا أنّها قديمة أزلية. وأيضاً فالدليل الذي احتجّ به كثيرٌ من النّاس على أنّ كُلّ حادث لا يحدث إلا من شيء، أو في شيء؛ فإن كان عرضاً لا يحدث إلاَّ [في] 3 محلّ، وإن كان عيناً قائمة بنفسها لم [تحدث] 4 إلاَّ من مادة، فإنّ الحادث إنّما يحدث إذا كان حدوثه ممكناً، وكان يقبل الوجود والعدم، فهو مسبوق بإمكان الحدوث وجوازه، فلا بُدَّ له من محلّ يقوم به هذا الإمكان والجواز. وقد تنازعوا في هذا: هل الإمكان صفة خارجية، لا بُدّ لها من محلّ، أو هي حكم عقلي لا يفتقر إلى غير الذهن؟

_ 1 في ((خ)) : أبا. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 الحديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه 42294. والإمام أحمد في مسنده 6153، 168. 3 في ((خ)) : من. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 في ((خ)) : يحدث. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

الإمكان نوعان والتحقيق: أنّه نوعان: فالإمكان الذهني: وهو تجويز الشيء، أو عدم العلم بامتناعه، محلّه الذهن. والإمكان الخارجي المتعلق بالفاعل، أو المحل؛ مثل أن [تقول] 1: يمكن القادر أن يفعل، والمحل؛ مثل أن [تقول] 2: هذه الأرض يمكن أن تزرع، وهذه المرأة يمكن أن تحبل. [و] 3 هذا لا بُدّ له من محلّ خارجيّ، فإذا قيل عن الربّ: يمكن أن يخلق؛ فمعناه أنّه يقدر على ذلك، ويتمكّن منه. وهذه صفة قائمة به. وإذا قيل: يمكن أن يحدث حادث؛ فإن قيل يمكن حدوثه بدون سبب حادث، فهو ممتنع، وإذا كان الحدوث لا بُدّ له من سبب حادث؛ فذاك السبب إن كان قائماً بذات الرب، فذاته قديمةٌ أزليّةٌ، واختصاص ذلك الوقت بقيام مشيئةٍ، أو تمام تمكّنٍ، ونحو ذلك، لا يكون إلا لسببٍ قد أحدثه قبل هذا في غيره، فلا يحدث حادثٌ مبايِنٌ إلاَّ مسبوقاً بحادثٍ مباينٍ له. فالحدوث مسبوقاً بإمكانه، ولا بُدّ لإمكانه من محلّ، ولهذا لم يذكر الله قط أنّه أحدث شيئاً إلا من شيء. والذي يقول إنّ جنس الحوادث حدثت لا من شيء، هو كقولهم: إنها حدثت بلا سبب حادث، مع قولهم إنّها كانت ممتنعة، ثم صارت ممكنة، من غير تجدّد سبب، بل حقيقة قولهم أنّ الربّ صار قادراً بعد أن لم يكن، من غير تجدّد شيءٍ يُوجِب ذلك. وهذه الأمور كلّها من أقوال الجهمية؛ أهل الكلام المحدَث المبتَدَع المذموم، وهو بناء على قولهم: إنّه تمتنع حوادث لا أوّل لها. وهؤلاء وأمثالهم غلطوا فيما جاء به الشرع، وأخبرت به الرسل؛ كما غلطوا في المعقولات؛ فكلّ واحدٍ ممّا يُسمّى شرعاً، وعقلاً، وسمعاً، قد وقع فيه اشتباه.

_ 1 في ((خ)) : يقول. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 في ((خ)) : يقول. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .

معنى الشرع فالشرع يطلق تارة على ما جاء به الرسول؛ من الكتاب والسنة. هذا هو الشرع المنزل، وهو الحق الذي ليس لأحد خلافه، ويُطلق على ما يضيفه بعض الناس إلى الشرع إمّا بالكذب والافتراء، وإما بالتأويل والغلط، وهذا شرع مبدل لا منزّل ولا يجب، بل ولا يجوز اتباعه. لفظ السنة وكذلك لفظ السنة: فإنّ السنّة التي يجب اتباعها هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسنة تُذكر في الأصول والإعتقادات، وتُذكر في الأعمال والعبادات. وكلاهما يدخل فيما أخبر به وأمر به؛ فما أخبر به وجب تصديقه فيه، وما أوجبه وأمر به وجبت طاعته فيه. ثم كثيرٌ من الناس يُضيف إلى السنّة ما أدخله بعض الناس فيها؛ إمّا بالكذب، وإما بالتأويل؛ مثل أحاديث كثيرة ضعيفة، بل موضوعة، واستدلالات بأقواله على ما لا يدلّ عليه، ومثل أقوال أحدثها قوم انتسبوا إلى السنة في بعض الأمور؛ مثل إثبات الصفات، والقدر؛ فإنّ [المنتسبين] 1 لذلك يُضافون إلى السنة؛ لأنّ نفاة الصفات، والقدر مبتدعة. وكذلك حب الخلفاء الراشدين، وموالاتهم يضاف أهله إلى السنّة؛ لأنّ الطاعنين فيهم أهل بدعة. ومثل الإستدلال بالنصوص على موارد النزاع؛ فإنّ أهل ذلك يُضافون إلى السنّة؛ لكونهم يقصدون اتباع القرآن والحديث، والمخالفون لذلك الذين يردّون الأخبار الصحيحة، أو لا يحتجّون بالقرآن مبتدعون. ثم قد يقول المضافون إلى السنّة أشياء ليست من السنة؛ مثل أحاديث كثيرة يروونها في فضائل بعض الصحابة، وهي كذب؛ ومثل [نفي] 2

_ 1 في ((خ)) : المنتبين. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 في ((ط)) فقط: تقى.

الحكمة والأسباب في مسائل القدر؛ ومثل كلامهم في الأجسام والاعراض، وتناهي الحوادث، ونحو ذلك ممّا لم يأخذوه عن الرسول. فهذا ليس من السنّة، وإن كان أهلها وافقوا السنة في مواضع خالفهم [فيها] 1 من تنازعهم في هذه المسائل. فلا يجب إذا كانوا أصابوا حيث وافقوا السنة، أن يُصيبوا حيث لم يوافقوها. وكذلك مسمى العقل؛ فإنّ مسمّى العقل قد مدحه الله في القرآن في غير آية2. لكن لمّا أحدث قومٌ من الكلام المبتدَع المخالِف للكتاب والسنّة - بل وهو في نفس الأمر مخالفٌ للمعقول، وصاروا يُسمّون ذلك عقليّات، وأصولَ دين، وكلاماً في أصول الدين، صار من عَرَفَ أنّهم مبتدعة ضُلاّل في ذلك ينفر عن جنس المعقول، والرأي، والقياس، والكلام، والجدل. فإّذا رأى من يتكلّم بهذا الجنس اعتقده مبتدِعاً مبطلاً؛ وهؤلاء وهؤلاء أدخلوا في مسمى الشرع والعقل ما هو محمود وما هو مذموم كما أنّ هؤلاء3 لمّا رأوا أنّ جنس المنتسبين إلى السنّة والشرع والحديث قد أخطأوا في مواضع، وخالفوا فيها صريح المعقول، وهم يقولون إنّ السنّة جاءت بذلك، صار هؤلاء ينفرون عن جنس ما يُستدلّ في الأصول بالشرع والسنّة،

_ 1 في ((خ)) : فيه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [سورة الملك، الآية 10] . وقال تعالى: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [سورة البقرة، الآية 73] . وقال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [سورة العنكبوت، الآية 43] . وقال تعالى: {لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ} [سورة الزمر، الآية 43] . 3 المتفلسفة.

ويُسمّونهم حشويّة وعامّة1. وكلّ من هؤلاء، وهؤلاء أدخلوا في مسمّى الشرع والعقل والسمع ما هو محمود ومذموم. [ثمّ هؤلاء قبلوا من مسمّى الشرع والسنّة عندهم محموده ومذمومه، وخالفوا مسمّى العقل محموده ومذمومه] 2. وأولئك قبلوا مسمّى العقل عندهم محموده، ومذمومه، [وخالفوا مسمّى الشرع محموده ومذمومه] 3.

_ 1 الحشو من الكلام: الفضل الذي لا يعتمد عليه. وكذلك هو من الناس؛ فحشوة الناس: رذالتهم. انظر: لسان العرب 14180. وتهذيب اللغة 5137-138. وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "مسمّى الحشو في لغة الناطقين به ليس هو اسماً لطائفة معينة لها رئيس قال مقالة فاتبعته؛ كالجهمية، والكلابيّة، والأشعريّة، ولا اسماً لقولٍ معين من قاله كان كذلك. والطائفة إنما تتميز بذكر قولها، أو بذكر رئيسها ... - إلى أن قال: - وإذا كان كذلك، فأوّل من عُرف أنّه تكلّم في الإسلام بهذا اللفظ: عمرو بن عبيد رئيس المعتزلة؛ فقيههم وعابدهم، فإنّه ذُكر له عن ابن عمر شيء يُخالف قوله، فقال: كان ابن عمر حشوياً؛ نسبه إلى الحشو، وهم العامّة والجمهور. وكذلك تُسمّيهم الفلاسفة كما سمّاهم صاحب هذا الكتاب - يعني الرازي -. والمعتزلة ونحوهم يُسمّونهم الحشوية. والمعتزلة تعني بذلك كلّ من قال بالصفات وأثبت القدر. وأخذ ذلك عنها متأخرو الرافضة، فسمّوا هم الجمهور بهذا الاسم. وأخذ ذلك عنهم القرامطة الباطنية فسمّوا بذلك كل من اعتقد صحة ظاهر الشريعة؛ فمن قال عندهم بموجب الصلوات الخمس، والزكاة المفروضة، وصوم رمضان، وحج البيت، وتحريم الفواحش والمظالم والشرك ونحو ذلك، سمّوه حشوياً؛ كما رأينا ذلك مذكوراً في مصنفاتهم. والفلاسفة تُسمّي من أقرّ بالمعاد الجسمي والنعيم الحسّي حشوياً. وأخذ ذلك عن المعتزلة تلامذتهم من الأشعريّة فسمّوا من أقرّ بما ينكرونه من الصفات، ومن يذمّ ما دخلوا فيه من بدع أهل الكلام والجهميّة والإرجاء حشوياً. ومنهم أخذ ذلك هذا المصنّف" - يعني الرازي -. بيان تلبيس الجهميّة 1242، 244-245. وانظر: كلام شيخ الإسلام ابن تيمية عن لفظ ((الحشوية)) في منهاج السنة النبوية 2520-522. ومجموع الفتاوى 487، 89، 146،، 3186،، 12176. 2 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 3 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .

فيجب البيان والتفصيل والاستفسار، وبيان الفرقان بين الحق والباطل؛ فإنّ ذلك يوجب التصديق بما جاء به الشرع المنزّل، والسنّة الغرّاء؛ وهو المعقول الحقّ؛ وهو الكلام الصدق؛ وهو الجدل بالتي هي أحسن؛ ويُوجب ردّ ما أُدخل في الشرع والسنّة، وليس منها؛ وردّ ما سُمّي معقولاً، وهو باطل؛ وسُمّي كلاماً صدقاً، وهو كذب؛ وسُمّي جدلاً بالتي هي أحسن، وهو جدل بالباطل بغير علم. ولهذا حصل من الذين لبسوا الحقّ بالباطل تبديل لما بدّلوه من الدين، وتحريف الكلم عن مواضعه، ومضاهاة لأهل الكتاب ممّا ذمهم الله عليه. والبخاري في أول كتاب ((خلق أفعال العباد)) : ذكر الردّ على المعطّلة الذين يُبدّلون كلام الله من الجهميّة، وذكر من كلام السلف والأئمة فيهم ما عُرِف به مقصودهم1. التبديل نوعان والتبديل نوعان: أحدهما: أن يُناقضوا خبره. والثاني: أن يُناقضوا أمره. فإنّ الله بعثه بالهدى ودين الحق، وهو صادقٌ فيما أخبر به عن الله، آمرٌ بما أمر الله به؛ كما قال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُوْلَ فَقَدْ أَطَاْعَ اللهَ} 2. وأهل التبديل [الذين يُضيفون إلى دينه وشرعه ما ليس منه، وهم أهل الشرع المبدّل] 3: تارةً يُناقضونه في خبره؛ فينفون ما أثبته، أو يُثبتون ما نفاه؛

_ 1 وكتابه - رحمه الله - قسمه إلى جزئين؛ الأوّل منهما في ذكر كلام السلف والأئمة؛ وابتدأه ببابٍ سمّاه: باب ما ذكر أهل العلم للمعطلة الذين يريدون أن يُبدّلوا كلام الله عزّ وجلّ. انظر: ص 7-24. وأمّا الجزء الثاني فقد أفرده للردّ على الجهميّة، وابتدأه ببابٍ سمّاه: باب الردّ على الجهميّة وأصحاب التعطيل. انظر: ص 71 وما بعدها. 2 سورة النساء، الآية 80. 3 ما بين المعقوفتين ملحقة بهامش ((خ)) .

كالجهميّة الذين ينفون ما أثبته من صفات الله وأسمائه؛ والقدريّة الذين ينفون ما أثبته من قدر الله ومشيئته وخلقه وقدرته؛ والقدرية المجبرة الذين ينفون ما أثبته من عدل الله وحكمته ورحمته، ويُثبتون ما نفاه من الظلم والعبث والبخل ونحو ذلك عنه. وأمثال ذلك. ومسائل أصول الدين عامّتها من هذا الباب. الذين أوجبوا النظر لإثبات الصانع ثمّ إنّهم أيضاً يُوجبون ما لم يُوجبه، بل حرّمه، ويُحرّمون ما لم يُحرّمه، بل أوجبه؛ فيوجبون اعتقاد هذه الأقوال والمذاهب المناقضة لخبره، وموالاة أهلها، ومعاداة من خالفها. ويُوجبون النظر المعيّن في طريقهم الذي أحدثوه؛ كما أوجبوا النظر في دليل الأعراض الذي استدلّوا به على حدوث الأجسام1، وقالوا: يجب على كلّ مكلّف أن ينظر فيه ليحصل له العلم بإثبات الصانع2،

_ 1 وهذا نظر مخصوص؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في موضع آخر: "جعلوا ذلك نظراً مخصوصاً؛ وهو النظر في الأعراض، وأنّها لازمة للأجسام، فيمتنع وجود الأجسام بدونها". مجموع فتاوى ابن تيمية 16329. 2 يقول الماتريديّ عن الله جلّ وعلا: "لا سبيل إلى العلم به إلا من طريق دلالة العالَم عليه بانقطاع وجوه الوصول إلى معرفته من طريق الحواس عليه، أو شهادة السمع". التوحيد للماتريدي ص 129. وقد أورد شيخ الإسلام رحمه الله طريقة المتكلمين في إثبات الصانع، فقال: "قالوا: لأنّه لا يعرف بالنظر والاستدلال المفضي إلى العلم بإثبات الصانع، قالوا: ولا طريق إلى ذلك إلا بإثبات حدوث العالم. ثمّ قالوا: ولا طريق إلى ذلك إلا بإثبات حدوث الأجسام، قالوا: ولا دليل على ذلك إلا الاستدلال بالأعراض، أو ببعض الأعراض؛ كالحركة والسكون، أو الاجتماع والافتراق؛ وهي الأكوان؛ فإنّ الجسم لا يخلو منها، وهي حادثة، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث....". ثمّ ذكر رحمه الله ذمّ السلف لهذه الطريقة، واللوازم التي تلزم سالكيها، فقال: "وهذه الطريقة هي أساس الكلام الذي اشتهر ذم السلف والأئمة له، ولأجلها قالوا بأنّ القرآن مخلوق، وأنّ الله لا يُرى في الآخرة، وأنه ليس فوق العرش، وأنكروا الصفات. والذامون لها نوعان: منهم من يذمها لأنها بدعة في الإسلام؛ فإنّا نعلم أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يدع الناس بها، ولا الصحابة؛ لأنها طويلة مخطرة كثيرة الممانعات والمعارضات، فصار السالك فيها كراكب البحر عند هيجانه. وهذه طريقة الأشعري في ذمّه لها، والخطابي، والغزالي، وغيرهم ممن لا يُفصح ببطلانها. ومنهم من ذمها لأنها مشتملة على مقامات باطلة لا تحصل المقصود، بل تناقضه. وهذا قول أئمة الحديث وجمهور السلف". كتاب الصفدية 1274-275.

قالوا: لأنّ معرفة الله واجبة، ولا طريق إليها إلا هذا النظر وهذا الدليل1. الرسول لم يوجب النظر ولما علم كثيرٌ من موافقيهم2 أنّ الاستدلال بهذا الدليل لم يُوجبه الرسول، خالفوهم في إيجابهم، مع موافقتهم لهم على صحته3. والتحقيق ما عليه السلف؛ أنّه ليس بواجب أمراً، ولا هو صحيح خبراً، بل هو باطلٌ منهيّ4 عنه شرعاً؛ فإنّ الله تعالى لا يأمر بقول الكذب والباطل، بل ينهى عن ذلك. لكن غلطوا حيث اعتقدوا أنّه حقّ، وأنّ الدين لا يقوم إلا على هذا الأصل الذي أصّلوه.

_ 1 يقول أبو حامد الغزالي: "من لا يعتقد حدوث الأجسام، فلا أصل لاعتقاده في الصانع أصلاً". تهافت الفلاسفة ص 197. وانظر: الإرشاد للجويني ص 8-9. والفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم 435. ورسالة السجزي ص 198. وقد ناقش شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذه المسألة ونقل كلام بعض من ردّ على هذا القول، أو تبنّاه. انظر: درء تعارض العقل والنقل 7352-445. 2 في ((خ)) : موافقتهم. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 ومن هؤلاء: أبو الحسن الأشعريّ في رسالته إلى أهل الثغر ص 186. والخطابي في الغنية عن الكلام وأهله - انظر: نقض تأسيس الجهمية 1254، والغزالي في فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة ص 127. وغيرهم. 4 في ((ط)) : منهم. وما أثبت من ((خ)) ، و ((م)) .

الذين ضلوا عن طريق الرسول صلى الله عليه وسلم كما أنّ طوائف من أهل العبادة، والزهد، والإرادة، والمحبة، والتصوف سلكوا طرقاً1 ظنّوا أنّه لا يُوصل إلى الله إلا بها. ثمّ منهم من يوجبها ويذمّ من لم يسلكها، ومنهم من لم ير أنّ سالكيها أفضل من غيرهم، ويوسع الرحمة؛ لأنّه قد علم أنّ الرسول والصحابة لم يأمروا بها النّاس، مع اعتقادهم أنّها طرق صحيحة موصلة إلى رضوان الله. وهي عند التحقيق طرق مضلّة إنّما توصل إلى رضى الشيطان، وسخط الرحمن؛ كالعبادات التي ابتدعها ضلاّل أهل الكتاب والمشركين، وخالفوا بها دين المرسلين؛ فهؤلاء في الأحوال البدعيّة، وأولئك في الأقوال البدعيّة. والقول الحقّ هو القرآن، والحال الحق هو الإيمان؛ كما قال جندب2، وابن عمر: "تعلّمنا الإيمان، ثمّ تعلّمنا القرآن، فازددنا إيماناً"3. وفي الصحيحين عن أبي موسى، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "مَثَلُ المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأُترجّة طعمها طيّب، وريحها طيّب. ومثل المؤمن الذي

_ 1 كسلوك الصوفيّة للكشف، والوجد، والذوق، وجعل ذلك أساساً للمعرفة؛ فلا تنال حقائق الأمور عندهم إلا بهذه الطرق التي تُعدّ السبيل الأوحد - لديهم - لتحصيل المعارف، ودرك العلوم. وقد نبذوا لأجل هذه الطرق الكتاب والسنّة، بل وعارضوهما بها، وقدموها عليهما. انظر: تفصيل ذلك في كتاب المصادر العامة للتلقي عند الصوفية - عرضاً ونقداً - لصادق سليم صادق -. 2 ابن عبد الله بن سفيان البجليّ. صحابي. مات بعد الستين. انظر: تقريب التهذيب 1166. 3 أخرجه ابن ماجه في السنن 123، وكذا أخرجه الخلال في السنة 554، وأشار محققه إلى أنّ إسناده حسن. وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه 116.

لا يقرأ القرآن مثل التمرة طعمها طيّب، ولا ريح لها. ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيّب، وطعمها مُرّ. ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن مثل الحنظلة طعمها مرّ، ولا ريح لها"1. الناس أربعة أصناف فالنّاس أربعة أصناف: صاحب قول قرآنيّ، [وحال إيمانيّ؛ فهم أفضل الخلق. وصاحب قول قرآني] 2، وحال ليس بإيمانيّ. وصاحب حال إيمانيّ، وليس له قول. ومن ليس له لا قول قرآنيّ، ولا حال إيمانيّ. وكثيرٌ من المنتسبين إلى القول، والكلام، والعلم، والنظر، والفقه، والاستدلال ابتدعوا أقوالاً تُخالف القرآن. وكثيرٌ من المنتسبين إلى العمل، والعبادة، والإرادة، والمحبّة، وحسن الخلق، والمجاهدة ابتدعوا أحوالاً وأعمالاً تُخالف الإيمان، وصار مع كلّ طائفة نوعٌ من الحقّ الذي جاء به الرسول، لكن ملبوسٌ بغيره. وصار كثيرٌ من الطائفتين يُنكر ما عليه الأخرى مطلقاً؛ كما قالت اليهود ليست النصارى على شيء، وقالت النصارى ليست اليهود على شيء3.

_ 1 الحديث أخرجه البخاري في الصحيح عن أبي موسى 41917، كتاب فضائل القرآن، باب فضل القرآن على سائر الكلام،، و52070، كتاب الأطعمة، باب ذكر الطعام، و62748، كتاب التوحيد، باب قراءة الفاجر والمنافق وأصواتهم وتلاوتهم لا تجاوز حناجرهم. ومسلم في صحيحه 1549، كتاب صلاة المسافرين، باب فضيلة حافظ القرآن. 2 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 3 يشير إلى قوله تعالى حاكياً عن اليهود والنصارى: {وَقَاْلَتِ الْيَهُوْدُ لَيْسَتِ النَّصَاْرَى عَلَىْ شَيْءٍ وَقَاْلَتِ النَّصَاْرَى لَيْسَتِ الْيَهُوْدُ عَلَىْ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُوْنَ الْكِتَاْبَ كَذَلِكَ قَاْلَ الَّذِيْنَ لا يَعْلَمُوْنَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَاْمَةِ فِيْمَاْ كَاْنُوْا فِيْهِ يَخْتَلِفُوْنَ} سورة البقرة، الآية 113.

وفي كلّ من الطائفتين شَبَهٌ من إحدى1 الأمتين؛ ففي المنتسبين إلى العلم إذا لم يُوافقوا العلم النبويّ ويعملوا به شَبَهٌ من اليهود2. وفي أهل العمل إذا لم يُوافقوا العمل الشرعيّ، ويعملوا بعلمٍ شَبَهٌ من النّصَارى34. وصار كثيرٌ من أهل الكلام والرأي يُنكرون جنس محبّة الله، وإرادته؛ [كما صار كثيرٌ من أهل الزهد، والتصوّف يُنكر جنس العلم، والكلام، والنظر. وأولئك الذين أنكروا محبّة الله وإرادته] 5، بَنَوْا ذلك على أصل لهم للقدريّة المجبرة6، والنافية؛ وهو: أنّ المحبّة، والإرادة، والرضا، والمشيئة شيءٌ واحدٌ، ولا يتعلّق ذلك إلا بمعدوم؛ وهو إرادة الفاعل أن يفعل ما لم يكن فَعَلَه؛ فاعتقدوا أنّ المحبّة، والإرادة لا تتعلّق إلا بمعدوم. فالموجود لا يُحَبّ، ولا يُراد. والقديم الأزليّ لا يُحَبّ، ولا يُراد. والباقي لا يُحَبّ، ولا يُراد؛ فأنكروا أن يكون الله محبوباً، أو مُراداً7. وهم لإنكار

_ 1 في ((ط)) ، و ((م)) : أحد. وما أثبت من ((خ)) . 2 الذين عرفوا الحق، فلم يعملوا به، بل عملوا بخلافه. 3 الذين لم يعرفوا الحقّ، فعملوا على جهالة. 4 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ولهذا كان السلف؛ سفيان بن عيينة وغيره يقولون: إنّ من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود. ومن فسد من عُبّادنا ففيه شبه من النصارى". اقتضاء الصراط المستقيم 167. وانظر: درء تعارض العقل والنقل 869-70. ومجموع الفتاوى 8197. 5 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 6 في ((ط)) : للقدرية والمجبرة. وهو خطأ. وما أثبت من ((خ)) ، و ((م)) . 7 ففسّروا محبّة العبد لربه بأنّها إرادة العبادة له، وإرادة التقرب إليه، ولم يُثبتوا أنّ العبد يُحبّ الله. انظر: قاعدة في المحبة لابن تيمية ص 51.

كونه يُحِبّ أبلغ وأبلغ؛ فلا يُثبتون إلا مشيئته أن يخلق فقط، وهي لا تتعلّق إلا بمعدوم. فأمّا أن يُحِبّ موجوداً من خَلْقِه، فهذا باطل عند الطائفتين1. لكنّ المجبرة يقولون: محبّته هي مشيئته، وقد شاء خَلْقَ كلّ شيء، فهو يُحِبّ كلّ شيء2. والنفاة يقولون: محبّته هي إرادته إثابة المطيعين؛ وهي مشيئة خاصّة3. والذي جاء به الكتاب والسنّة، واتفق عليه سلف الأمة، وعليه مشايخ المعرفة، وعموم المسلمين: أنّ الله يُحِبّ، ويُحَبّ؛ كما نطق بذلك الكتاب والسنّة في مثل قوله: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّوْنَهُ} 4، ومثل قوله: {وَالَّذِيْنَ آمَنُوْا أَشَدُّ حُبَّاً لِلَّهِ} 5، وقوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّوْنَ اللهَ فاتَّبِعُوْنِيْ يُحْبِبْكُمُ اللهُ} 6. لا يُحبّ لذاته محبة مطلقة إلا الله وحده بل لا شيء يُستحقّ أن يُحَبّ لذاته محبّة مطلقة إلا الله وحده. وهذا من معنى كونه معبوداً7؛ فحيث جاء القرآن بالأمر بالعبادة، والثناء على أهلها، أو على المنيبين إلى الله، والتوّابين إليه، أو الأوّابين، أو المطمئنّين بذكره، أو المحبين له، ونحو ذلك: فهذا كلّه يتضمّن محبته. وما لا يُحَبّ يمتنع8

_ 1 القدرية المجبرة، والقدرية النافية على السواء في ذلك. 2 نقل ذلك عنهم القاضي عبد الجبار المعتزلي في المحيط بالتكليف ص 408. 3 انظر: المغني في أبواب التوحيد والعدل لعبد الجبار 63، 4، 5. وانظر: منهاج السنة النبوية 5388. 4 سورة المائدة، الآية 54. 5 سورة البقرة، الآية 165. 6 سورة آل عمران، الآية 31. 7 إذ العبادة تتضمّن معنى الحبّ، ومعنى الذلّ؛ فهي تتضمّن كما قال شيخ الإسلام رحمه الله في موضع آخر: (غاية الذلّ لله، بغاية المحبّة له) . انظر: العبودية ص 6. 8 في ((م)) ، و ((ط)) : ممتنع.

كونه معبوداً، ومألوهاً، [و] 1 مُطْمَأَنَاً بذكره. ومن أُطيع لعوضٍ يُؤخذ منه، أو لدفع ضرره، فهذا ليس بمعبود ولا إله، بل قد يكون الشخص كافراً، وظالماً يُبغَض، ويُلعَن، ومع هذا يُعمل معه عمل بعوض. فمن جعل العمل لله لا يكون إلا لذلك، فلم يُثبت الربّ إلهاً معبوداً، ولا ربّاً محموداً، وهو حقيقة قول النفاة من الجهميّة، والقدريّة النافية، والمثبتة. والله سبحانه [وتعالى] 2 رغَّب في عبادته، والعمل له بما ذكره من الوعد، ورهَّب من الكفر به، والشرك بما ذكره من الوعيد، وهو حقّ، لكنّه لم يقل إنّ العابد لله، والعامل له لا يحصل له إلا ما ذُكِرَ، بل وقد قال تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَاْ أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} 3. وفي الحديث الصحيح يقول الله تعالى: "أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ذُخْراً، بله ما أطلعتهم عليه. اقرؤوا إن شئتم: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَاْ أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاْءً بِمَاْ كَاْنُوْا يَعْمَلُوْنَ} 4 5. وقد ثبت في [الحديث] 6 الصحيح عن صهيب، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله: يا أهل الجنّة ‍! إنّ لكم عندي موعداً أُريد أن أُنجزكموه. فيقولون: ما هو؟ ألم [تُبَيِّض] 7 وجوهنا، وتثقل موازيننا، وتُدخلنا الجنّة، وتُجرنا من النّار؟

_ 1 في ((خ)) : أو. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . (وتعالى) ليست في ((خ)) ، وهي في ((م)) ، و ((ط)) . 3 سورة السجدة، الآية 17. 4 سورة السجدة، الآية 17. 5 أخرجه البخاري في صحيحه 41794، كتاب التفسير، باب قوله: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَاْ أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} الآية. ومسلم في صحيحه 42174-2175، كتاب الجنة وصفة نعيمها. وأحمد في مسنده 2313، 416. 6 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 7 في ((م)) ، و ((ط)) : تنتضر.

قال: فيَكشفُ الحجاب، فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئاً أحبّ إليهم من النّظر إليه، وهي الزيادة"1. وفي الحديث الذي رواه النسائي: لمّا صلّى عمّار، فأوجز، وقال: دعوتُ في الصلاة بدعاء سمعته من النبيّ صلى الله عليه وسلم: "اللهمّ بعلمك2 الغيبَ، وقدرتك على الخلق أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفّني إذا كانت الوفاة خيراً لي. اللهمّ إنّي أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحقّ في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيماً لا ينفد، وقُرّة عينٍ لا تنقطع. وأسألك الرضا بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذّة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، من غير ضرّاء مُضرّة، ولا فتنة مُضلّة. اللهمّ زيِّنَّا بزينة الإيمان، واجعلنا هداةً مهتدين"3. وروي نحوَ هذا من وجه آخر4؛ فقد أخبر الصادق المصدوق أنّه لم يُعطَ

_ 1 الحديث أخرجه مسلم في صحيحه 1163، كتاب الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه وتعالى. وأحمد في المسند 4332، 333. والترمذي في جامعه 4687، كتاب صفة الجنة، باب في رؤية الرب تبارك وتعالى. وابن ماجه في سننه 167؛ في المقدمة، حديث رقم (187) . كلّهم أخرجوه بألفاظ مقاربة للّفظ الذي ساقه المصنّف. 2 في ((خ)) : بعملك. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 أخرجه النسائي في سننه 354-55، كتاب السهو، باب نوع آخر في الدعاء بعد الذكر، رقم (62) . وأحمد في المسند 4264. والحاكم في المستدرك 10524-525، وصححه، ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي 1280-281، رقم 1237-1238. 4 من رواية زيد بن ثابت رضي الله عنه؛ كما في مسند الإمام أحمد 5191. وهو حديث طويل، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: ".... أسألك اللهم الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الممات، ولذةَ نظرٍ إلى وجهك، وشوقاً إلى لقائك، من غير ضرّاء مضرّة، ولا فتنة مُضلّة..". وقد صرّح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى 8356 أنّه يقصد بهذا الوجه رواية زيد بن ثابت رضي الله عنه هذه.

أهلُ الجنّة أحبّ إليهم من النظر إليه. وسُنّ أن يُدعى بلذة النظر إلى وجهه الكريم. وأهل الجنّة قد تنعّموا من أنواع النّعيم بالمخلوقات بما هو غاية النّعيم، فلمّا كان نظرهم إليه أحبّ إليهم من كلّ أنواع النّعيم، عُلم أنّ لذّة النّظر إليه أعظم عند أهل الجنّة من جميع أنواع اللَّذَّات. الذين أنكروا محبة الله حزبان الحزب الأول والجنّةُ فيها ما تشتهي الأنفس، وتلذّ الأعين؛ فما لذّت أعينهم بأعظم من لذّتها بالنظر إليه. واللّذّة تحصل بإدراك المحبوب، فلو لم يكن أحبّ إليهم من كلّ شيء، [ما كان النظر إليه أحبّ إليهم من كلّ شيء] 1، وكانت لذّته أعظم من كلّ لذّة. والله تعالى وعد عباده المؤمنين بالجنّة؛ وهي اسمٌ لدارٍ فيها جميع أنواع اللّذّات المتعلقة بالمخلوق، وبالخالق؛ كما أنّ النّار اسمٌ لدارٍ فيها أنواع الآلام، لكن غلط من ظنّ أنّ التنعيم بالنظر إليه ليس من نعيم أهل الجنّة. وصار هؤلاء حزبين: حزباً أنكروا التنعيم بالنظر إليه؛ وهم المنكرون للمحبّة2؛ حتى قال أبو المعالي3 ونحوه ممّن يُنكر محبّته أنّهم إذا رأَوْه لم يلتذوا بنفس النظر، بل يخلق لهم لذّة ببعض المخلوقات مع

_ 1 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 2 قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "والمنكرون لرؤيته من الجهميّة والمعتزلة تُنكر هذه اللذة. وقد يُفسّرها من يتأوّل الرؤية - بمزيد العلم - على لذة العلم به؛ كاللذة التي في الدنيا بذكره، لكن تلك أكمل. وهذا قول متصوفة الفلاسفة والنفاة؛ كالفارابي، وأبي حامد، وأمثاله، فإنّ ما في كتبه من الإحياء وغيره من لذة النظر إلى وجهه هو بهذا المعنى". منهاج السنة النبوية 5390. وانظر: درء تعارض العقل والنقل 762-78. 3 الجويني.

النّظر1. وكذلك قال من شاركهم في التجهّم؛ من أهل الوحدة2؛ كابن عربي؛ قال: ما التذّ عارفٌ بمشاهدة قطّ3. وادّعى أبو المعالي أنّ إنكار محبّته من أسرار التوحيد4. وهو من أسرار توحيد الجهميّة المعطّلة المبدّلة. وحُكِيَ عن ابن عقيل أنّه سمع رجلاً يقول: أسألك لذّة النظر إلى وجهك الكريم. فقال له: هَبْ أنّ له وجهاً، أله وجهٌ يُلتذّ بالنظر إليه5. وهذا بناءً على هذا الأصل؛ فإنّه وشيخه أبا يعلى، ونحوهما وافقوا الجهميّة في إنكار أن يكون الله محبوباً، واتّبعوا في ذلك قول أبي بكر بن الباقلاني6 ونحوه ممّن يُنكر محبّة الله، وجعل القول بإثباتها قول الحلوليّة7.

_ 1 انظر: العقيدة النظامية للجويني ص 39. والإرشاد له ص 171. وقواعد العقائد للغزالي ص 171-172. وانظر: توضيح هذه المسألة في كتب شيخ الإسلام التالية: مجموع الفتاوى 8345، 10695. ومنهاج السنة 5391-392. والاستقامة 298. 2 وحدة الوجود. تقدّم تعريفها 328. 3 لم أعثر عليه في مظانّه. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والفلاسفة تُثبت اللذّة العقليّة، وأبو نصر الفارابي وأمثاله من المتفلسفة يُثبت الرؤية لله، ويُفسّرها بهذا المعنى". منهاج السنة النبوية 5388-400. 4 انظر: مجموع الفتاوى 8345، 10 695. ودرء تعارض العقل والنقل 665-77 - فقد ردّ فيه على من أنكر لذّة النظر إلى وجه الله سبحانه وتعالى. 5 انظر: مجموع الفتاوى 8355، 10695. ومنهاج السنة النبوية 5392. والاستقامة 298. 6 يقول الباقلاني: "واعلم أنّه لا فرق بين الإرادة، والمشيئة، والاختيار، والرضى، والمحبّة، على ما قدّمنا. واعلم أنّ الاعتبار في ذلك كلّه بالمآل لا بالحال". الانصاف للباقلاني ص 69. 7 انظر: مجموع الفتاوى 10697. ومنهاج السنة النبوية 5392.

الحزب الثاني [والحزب الثاني] 1 أنّ طائفة من الصوفيّة والعبّاد شاركوا هؤلاء في أنّ مسمّى الجنّة لا يدخل فيه النظر إلى الله. وهؤلاء لهم نصيب من محبّة الله تعالى والتلذّذ بعبادته، وعندهم نصيب من الخوف والشوق والغرام، فلمّا ظنّوا أنّ الجنّة لا يدخل فيها النظر إليه، صاروا يستخفّون بمسمّى الجنّة، ويقول أحدهم: ما عبدتُك شوقاً إلى جنّتك، ولا خوفاً من نارك2. وهم قد غلطوا من وجهين: الرد عليهم من وجهين أحدهما: أنّ ما يطلبونه من النظر إليه والتمتع بذكره ومشاهدته، كلّ ذلك في الجنّة. الثاني: أنّ الواحد من هؤلاء لو جاع في الدنيا أياماً، أو أُلقي في بعض عذابها، طار عقله، وخرج من قلبه كلّ محبّة. ولهذا قال سمنون3:

_ 1 في ((م)) ، و ((ط)) : الجواب الثاني. 2 نقل الغزالي عن معروفٍ الكرخيّ نحواً من هذه المقالة؛ أنّه عبد الله لا خوفاً من ناره، ولا شوقاً إلى جنّته، بل حُبّاً له. انظر: إحياء علوم الدين 4287. ونقل الغزالي أيضاً عن أبي سليمان الدارانيّ قوله: (إنّ لله عباداً ليس يشغلهم عن الله خوف النّار، ولا رجاء الجنّة) . إحياء علوم الدين 4287. ونقل الغزالي أيضاً قول الثوريّ لرابعة العدويّة: (ما حقيقة إيمانك؟ قالت: ما عبدتُه خوفاً من ناره، ولا حبّاً لجنّته..) . إحياء علوم الدين 4287. والنقول في ذلك عن الصوفيّة كثيرة جداً. وانظر: مجموع الفتاوى 10240، 699. والاستقامة 2104، 105. 3 هو سمنون بن حمزة، أبو الحسن الخواص. موسوس في آخر عمره، وله كلام في المحبّة مستقيم، وسمّى نفسه سمنون الكذّاب. توفي سنة 298?. انظر: البداية والنهاية 11123. وطبقات الصوفيّة ص 195. وحلية الأولياء 10309. وسير أعلام النبلاء 17441، 651.

وليس لي في سواك حظٌّ ... فكيفما شئتَ فامْتحنّي ابتلي بعسر البول، فصار يطوف على المكاتب ويقول: ادعوا لعمّكم الكذّاب1. وأبو سليمان2 لمّا قال: قد أُعطيتُ من الرضا نصيباً لو ألقاني في النّار لكنتُ راضياً3، ذُكِرَ أنّه ابتُليَ بمرض، فقال: إن لم يُعافني وإلا كفرتُ، أو نحو هذا. والفضيل بن عياض ابتُلي بعسر البول، فقال: "بحبّي لك إلا فرّجتَ عنّي4. فَبَذَلَ حبّه في عسر البول". فلا طاقة لمخلوق بعذاب الله، ولا غنى به عن رحمته.

_ 1 انظر: كتاب نتائج الأفكار القدسيّة 1160، وذكر فيه بيتاً آخر زيادة على الذي أورده المصنّف، وهو قوله: إن كان يرجو سواك قلبي ... لانلتُ سُؤلي، ولا التمنّي وانظر: أيضاً: حلية الأولياء 10309-310. وإحياء علوم الدين للغزالي 4141 ومجموع الفتاوى 10241، 690. والبداية والنهاية 11123. 2 هو أبو سليمان عبد الرحمن بن أحمد بن عطية العنسي الدارانيّ - نسبة إلى داريّا؛ قرية من قرى دمشق، له كلام في الزهد. توفي سنة 215?. انظر: حلية الأولياء 9254. وطبقات الصوفية ص 75. وسير أعلام النبلاء 10182. 3 هذه الكلمة رواها أبو نعيم بسنده عن أبي سليمان في حلية الأولياء 9163. وكذا أسندها القشيريّ في رسالته 2246. وانظر: مجموع الفتاوى 10241، 689. 4 أوردها القشيريّ في رسالته 2623. وانظر: مجوع الفتاوى 10691.

وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لرجلٍ: "ما تدعو في صلاتك؟ ". قال: أسأل اللهَ الجنّة، وأعوذ به من النّار، أما أنّي لا أُحسن دندنتك، ولا دندنة معاذ. فقال: "حولها ندندن" 1. ودَخَلَ على أعرابيّ قد صار مثل الفَرْخ، فقال: "هل كنتَ تدعو الله بشيء؟ ". قال: كنتُ أقول: اللهمّ ما كنتَ معاقبي به في الآخرة، فعجّله [لي] 2 في الدنيا. فقال: "سبحان الله! إنّك لا تستطيعه، ولا تُطيقه، [هلاّ] 3 قلتَ: اللهمّ آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النّار"4. والعدوان في الإرادة، والعبادة، والعمل حصل من إعراضهم عن العلم الشرعيّ، واتّباع الرسول، وقد قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّوْنَ اللهَ فَاتَّبِعُوْنِيْ يُحْبِبْكُمُ اللهُ} 5.

_ 1 أخرجه أحمد في المستد 3474. وأبو داود في السنن 1501، كتاب الصلاة، باب في تخفيف الصلاة، رقم 792. وابن ماجه في السنن 1295، كتاب إقامة الصلاة، باب ما يُقال في التشهد، والصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم، رقم 910. وصحّح النوويّ إسناده في الأذكار 1197، والألباني في صحيح سنن أبي داود 1150، وفي صحيح سنن ابن ماجه 1150، وفي تخريج أحاديث الكلم الطيب 103. 2 في ((خ)) : له. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 في ((خ)) : هل لا. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 أخرجه الإمام مسلم في صحيحه 42068-2069، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب كراهية الدعاء بتعجيل العقوبة في الدنيا. والإمام أحمد في مسنده 3107، مع اختلاف يسير في بعض ألفاظ الحديث. 5 سورة آل عمران، الآية 31.

قال بعضهم: ليس الشأن في أن تُحبّه، الشأنُ في أن يكونَ هو يُحِبُّكَ1. وهو إنّما يُحِبُّ من اتَّبع الرسول، وإلا فالمشركون وأهل الكتاب يدّعون أنّهم يُحبُّونه، وأولئك2 غلطوا [بنفي] 3 محبّته، وهؤلاء4 أثبتوا محبّة شركيّة، لم يثُبتوا محبّة توحيديّة خالصة5، وقد قال تعالى: {وَمِنَ النَّاْسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُوْنِ اللهِ أَنْدَاْدَاً يُحِبُّوْنَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِيْنَ آمَنُوْا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} 6. أقسام الناس في المحبة فالأقسام ثلاثة7: أولئك8 معطّلة للمحبّة، وحقيقة قولهم تعطيل العبادة مطلقاً. وهؤلاء9 مشركون في المحبّة؛ فهم مشركون في العبادة. أولئك مستكبرون عن عبادته، والكبر لليهود. وهؤلاء مشركون في عبادته، والشرك للنصارى. لفظ الإسلام وكلّ واحدٍ من المستكبرين والمشركين ليسوا مسلمين، بل الإسلام هو الاستسلام لله وحده. ولفظ الإسلام يتضمّن الإسلام، ويتضمّن

_ 1 نقله ابن كثير في تفسيره 1358 عند تفسيرقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّوْنَ اللهَ فَاتَّبِعُوْنِيْ} [آل عمران 31] وقال: عن بعض العلماء والحكماء.. ولم يعزه لأحد. 2 أي الجهميّة، ومن تبعهم من أهل الكلام.. 3 ليست في ((خ)) . وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 أي الصوفيّة. 5 وقد قال عنهم شيخ الإسلام رحمه الله: "لكنهم قصروا في الأمر والنهي، والوعد والوعيد، وأفرطوا حتى غلا بهم إلى الإلحاد، فصاروا من جنس المشركين". مجموعة الرسائل والمسائل 4300. 6 سورة البقرة، الآية 165. 7 انظر: بيانها في مجموع الفتاوى 1082، 683، 684. 8 أي الجهميّة ومن تبعهم من المتكلمين. 9 أي الصوفيّة.

إخلاصه لله1. وقد ذكر ذلك غير واحدٍ، حتى أهل العربيّة؛ كأبي بكر ابن الأنباري2، وغيره. ومن المفسرين من يجعلهما قولين؛ كما يذكر طائفة منهم البغويّ أنّ المسلم هو: المستسلم لله. وقيل: هو المخلص3. والتحقيق: أنّ المسلم يجمع هذا وهذا؛ فمن لم يستسلم له، لم يكن مسلماً؛ ومن استسلم لغيره كما يستسلم له، لم يكن مسلماً؛ ومن استسلم له وحده، فهو المسلم؛ كما في القرآن: {بَلَىْ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُوْنَ} 4، وقال: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيْنَاً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاْهِيْمَ حَنِيْفَاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاْهِيْمَ خَلِيْلاً} 5. والاستسلام له يتضمّن الاستسلام [لقضائه] 6، وأمره، [ونهيه] 7؛ فيتناول فعل المأمور، وترك المحظور، والصبر على المقدور: {إِنَّهُ مَنْ

_ 1 انظر: مجموع الفتاوى 8623، 635، 1014. والجواب الصحيح 631. وجامع الرسائل 2254. 2 هو أبو بكر محمد بن القاسم بن محمد بن بشار الأنباري. ولد في الأنبار سنة 271 ?. من أعلم أهل زمانه بالآداب واللغة. كان حافظاً للشعر والأخبار، كان يحفظ ثلاثمائة ألف بيت شاهد في القرآن. توفي في بغداد سنة 328?. انظر: طبقات النحويين ص 171. والأعلام 6334. 3 تفسير البغوي 1106. 4 سورة البقرة، الآية 112. 5 سورة النساء، الآية 125. 6 في ((خ)) : لخلقه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 7 ليست في ((خ)) ، وهي في ((م)) ، و ((ط)) .

يَتَّقِ وَيَصْبِرُ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيْعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِيْنَ} 1. قال ابن أبي حاتم2: حدثنا عصام3 بن [رواد] 4، [حدثنا] 5 آدم6، عن أبي جعفر7، عن الربيع، عن أبي العالية8 في قوله: {بَلَىْ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} 9؛ يقول: من أخلص لله. قال ابن أبي حاتم: وروي عن الربيع

_ 1 سورة يوسف، الآية 90. 2 هو أبو محمد عبد الرحمن بن محمد بن إدريس بن المنذر بن مهران التميمي الرازيّ. ولد سنة240?، ورحل في طلب الحديث إلى البلاد مع أبيه وبعده، وصنّف التصانيف، من جملتها: كتاب السنة، والتفسير، وكتاب الرد على الجهمية، وفضائل الإمام أحمد. توفي 327 ?. انظر: سير أعلام النبلاء 13263. وطبقات الحنابلة 255. وشذرات الذهب 2308-309. وطبقات الشافعية للسبكي 3324-328. 3 هو عصام بن رواد بن الجراح العسقلاني. انظر: الجرح والتعديل 726. وميزان الاعتدال 366. ولسان الميزان 4167) . 4 في ((ط)) : وران. وما أثبت من ((خ)) ، و ((م)) ، وتفسير ابن أبي حاتم. 5 في ((خ)) : ثنا. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 6 هو آدم بن أبي إياس العسقلاني. توفي سنة 220 ?. انظر: الجرح والتعديل 2268. وتهذيب التهذيب 1196) . 7 هو عيسى بن عبد الله بن ماهان الرازي. انظر: الجرح والتعديل 5227. وميزان الاعتدال 2404. وتهذيب التهذيب 5176. 8 هو رفيع بن مهران البصري، أبو العالية الرياحي. توفي سنة 93 ?. انظر: الجرح والتعديل 3510. وسير أعلام النبلاء 4207. وتهذيب التهذيب 3284. 9 سورة البقرة، الآية 112.

نحو ذلك1. وقال: ذُكِرَ عن يحيى بن آدم2، حدثنا ابن المبارك3، عن حيوة بن شريح4، عن عطاء بن دينار5، عن سعيد بن جبير6: {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ} ، قال: دينه7.

_ 1 تفسير ابن أبي حاتم 1237. وأخرجه ابن جرير 1493. وابن كثير 1222. وانظر: الدر المنثور 1108. وفتح القدير 1120. وقال محقق تفسير ابن أبي حاتم عن رجال هذا الإسناد: "يُحتجّ بروايتهم، لكنّ أبا العالية يُرسل كثيراً، ورواية أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس مضطربة". تفسير ابن أبي حاتم 128، 35، 42. فالأثر في سنده اضطراب. 2 هو يحيى بن آدم بن سليمان الأموي، أبو زكريا الكوفي، توفي سنة 203 ?. انظر: الجرح والتعديل 9128. وتهذيب التهذيب 11175، 580، 584. 3 هو عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي التميمي مولاهم. ولد سنة 118?، وتوفي سنة 181. أحد الأئمة الحفاظ. انظر: تذكرة الحفاظ 1284. وتهذيب التهذيب 5382. 4 هو حيوة بن شريح بن صفوان التجيبي، أبو زرعة المصري. توفي سنة 158 ?. انظر: الجرح والتعديل 3306. وتهذيب التهذيب 369. 5 هو عطاء بن دينار الهذلي، مولاهم المصري. توفي سنة 126?. له مراسيل عن سعيد بن جبير. انظر: الجرح والتعديل 6332. وميزان الاعتدال 369. وتهذيب التهذيب 7198. 6 هو سعيد بن جبير بن هشام الأسدي الوالبي مولاهم، أبو محمد. تابعي ثقة، أخذ العلم في التفسير عن ابن عباس، وقتله الحجاج سنة 95 ?، ومات بعده بأيام. انظر: الجرح والتعديل 49. والثقات 4275. وتهذيب التهذيب 411. 7 تفسير ابن أبي حاتم 1337-338. وقال محقق تفسير ابن أبي حاتم أيضاً: رجال إسناده ثقات، لكن رواية عطاء - التفسير - عن سعيد بن جبير مرسلة؛ حيث لم يأخذ عنه مباشرة، وإنما وجد صحيفة عن سعيد، فاكتتبها.

وقال أبو الفرج1: "أسلم: أخلص. وفي الوجه قولان: أحدهما: أنّه الدين، والثاني: العمل"2. وقال البغوي: {أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} : أخلص دينه لله، وقيل: أخلص عبادته لله، وقيل: خضع وتواضع لله، وأصل الإسلام: الاستسلام والخضوع، وخُصّ الوجه لأنّه إذا جاد بوجهه في السجود، لم يبخل بسائر جوارحه. {وَهُوَ مُحْسِنٌ} في عمله، قيل: مؤمنٌ، وقيل: مُخلصٌ3. قلت: قول من قال: خضع وتواضع لربّه، هو داخلٌ في قول من قال: أخلص دينه، أو عمله، أو عبادته لله؛ فإنّ هذا إنّما يكون إذا خضع له وتواضع له دون غيره؛ فإنّ العبادة والدين والعمل له لا يكون إلا مع الخضوع له والتواضع، وهو مستلزمٌ لذلك. ولكنّ أولئك4 ذكروا مع هذا أن يكون هذا الإسلام لله وحده؛ فذكروا المعنيَيْن: الاستلزام، وأن يكون لله. حقيقة دين االإسلام [و] 5 قول من قال: خضع وتواضع لله، يتضمّن أيضاً أنّه أخلص عبادته ودينه لله؛ فإنّ ذلك يتضمّن الخضوع والتواضع لله دون غيره. وأمّا ذكره [التوجه] 6: فقد بُسط الكلام عليه في غير هذا الموضع7، وتبيّن أنّ الله ذكر إسلام الوجه له، وذكر إقامة الوجه له في قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ

_ 1 ابن الجوزي. 2 زاد المسير (تفسير ابن الجوزي) 1133. 3 تفسير البغوي 1106. 4 الذين فسّروا إسلام الوجه بإخلاص الدين أو العبادة أو العمل. 5 ليست في ((ط)) ، وهي في ((خ)) ، و ((م)) . 6 في ((خ)) : الوجه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 7 انظر: الجواب الصحيح 631.

لِلدِّيْنِ} 1، وذكر توجيه الوجه له في قوله: {إِنِّيْ وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِيْ فَطَرَ السَّمَوَاْتِ وَالأرْضَ} 2؛ لأنّ الوجه إنّما يتوَجّه إلى حيث توجَّه القلب، والقلب هو الملك، فإذا توجَّه الوجه نحو جهةٍ كان القلب متوجّهاً إليها، ولا يُمكن الوجه أن يتوجّه بدون القلب؛ فكان إسلام الوجه، وإقامته، وتوجيهه، مستلزماً لإسلام القلب، وإقامته، وتوجيهه. وذلك يستلزم إسلام كلّه لله، وتوجيه كله لله، وإقامة [كلّه] 3 [لله] 4. وبسط الكلام على ما يُناسب ذلك56. الذين أنكروا المحبة لهم شبهتان وهذا حقيقة دين الإسلام7. لكن الذين أنكروا ذلك لهم شبهتان: إحداهما: أنّ المحبّة تقتضي المناسبة8، قالوا: وهي منتفية؛ فلا مناسبة بين المحدَث والقديم9. الشبهة الأولى والرد عليها فيُقال لهم: هذا كلامٌ مجملٌ. تعنون بالمناسبة: الولادة؟ أو المماثلة؟ ونحو ذلك ممّا يجب تنزيه الربّ عنه؟؛ فإنّ الشيء

_ 1 سورة الروم، الآية 30. 2 سورة الأنعام، الآية 79. 3 في ((ط)) : كلها. وما أثبت من ((خ)) ، و ((م)) . 4 ليست في ((خ)) ، وهي في ((م)) ، و ((ط)) . 5 انظر: الرد على المنطقيين ص 448. 6 ها هنا في ((خ)) بياض بمقدار سطرين. وقد أُشير إلى ذلك في ((م)) ، و ((ط)) . 7 انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 1014،، 11200، 218. 8 المناسبة بين المحِبّ والمحَبّ. 9 ومثل هذا القول صدرمنهم في الرؤية، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إنّ مثبتة الرؤية، منهم من أنكر أن يكون المؤمن ينعم بنفس رؤية ربّه؛ قالوا: لأنّه لا مناسبة بين المحدَث والقديم؛ كما ذكر ذلك الأستاذ أبو المعالي الجويني في الرسالة النظاميّة، وكما ذكره أبو الوفاء بن عقيل في بعض كتبه". مجموع الفتاوى 10695.

يُنسب إلى أصله بأنّه ابن فلان، وإلى فرعه بأنّه أبو فلان، وإلى نظيره بأنّه مثل فلان. ولمّا سأل المشركون النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن نسب ربّه1، أنزل الله تعالى: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُوْلَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوَاً أَحَد} 2؛ فلم يخرج من شيء، ولا يخرج منه شيء، ولا له مثل. فإن عنيتُم هذا، لم نُسلِّم أنّ المحبّة لا بُدّ فيها من هذا. وإن أردتم بالمناسبة أن يكون المحبوب متّصفاً بمعنى يُحبّه المحِبّ، فهذا لازم المحبّة، والربّ متّصفٌ بكل صفةٍ تُحَبّ. وكلّ ما يُحبّ فإنّما هو منه؛ فهو أحقّ بالمحبّة من كلّ محبوب. وإذا كان الإنسان يُحِبّ الملائكة، وهم من غير جنسه، لما اتصفوا به من الصفات الحميدة؛ فالسُبُّوح القُدُّوس ربُّ الملائكة والروح الذي كلّ ما اتّصفت به الملائكة وغيرهم، فهو من جوده وإحسانه، وهو العزيز الرحيم، إذ كان المخلوق كثيراً ما يتّصف بالعزّة دون الرحمة، أو تكون فيه رحمة بلا عزّة. وهو سبحانه: العزيز، الرحيم، الغفور، الودود، المجيد. معنى اسم الودود والودود: فعولٌ من الودّ. وقال شعيب: {إنَّ رَبِّيْ رَحِيْمٌ وَدُوْدٌ} 3، وقال تعالى: {وَهُوَ الْغَفُوْرُ الْوَدُوْدُ} 4؛ فقرنه بالرحيم في موضع، وبالغفور في موضع.

_ 1 قال الطبري: "ذُكِرَ أنّ المشركين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسب ربّ العزّة، فأنزل الله هذه السورة جواباً لهم. وقال بعضهم: بل نزلت من أجل اليهود: سألوه، فقالوا له: هذا الله خلق الخلقَ، فمن خلق الله؟ فأنزلت جواباً لهم". تفسير الطبري 15342. 2 سورة الإخلاص 1-4. 3 سورة هود، الآية 90. 4 سورة البروج، الآية 14.

قال أبو بكر بن1 الأنباري2: الودود معناه: المحِبّ لعباده؛ من قولهم: وددتُ الرجل أودّه [وُدّاً، ووِدّاً، ووَدّاً] 3، ويُقال: وددتُ الرجلَ [وَدَاداً، ووِدَاداً، ووَدادةً] 4. وقال الخطابي5: "هو اسمٌ مأخوذٌ من الودّ، وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون فعولاً في محلّ مفعول؛ كما قيل: رجل هيوب بمعنى مهيب، وفرس رَكوب بمعنى مركوب. والله سبحانه [وتعالى] 6 مودودٌ في قلوب أوليائه، لما [يتعرّفونه] 7 من إحسانه إليهم8. والوجه الآخر: [أن يكون بمعنى الوادّ] 9؛ أي أنّه يودُّ عباده الصالحين؛ بمعنى أنّه يرضى عنهم، ويتقبّل أعمالهم10. [ويكون] 11 معناه أن يُودِّدهم إلى خلقه؛ كقوله: {سَيَجْعَلُ لَُهمُ الرَّحْمَنُ وُدَّاً} 12 "13.

_ 1 في ((خ)) : ابن. 2 انظر: كلام ابن الأنباري في تفسير ابن الجوزي؛ زاد المسير 4152. وانظر: كذلك تهذيب اللغة للأزهري؛ فقد نقل كلام ابن الأنباري في 14236. وابن لأنباري هو: محمد بن القاسم بن محمد بن بشار، أبو بكر الأنباري. تقدمت ترجمته. 3 ما بين المعقوفتين ضُبطت هكذا في ((خ)) . 4 ما بين المعقوفتين ضبطت هكذا في ((خ)) . 5 تقدمت ترجمته. 6 ما بين المعقوفتين ليست في ((خ)) ، ولا في شأن الدعاء للخطابي. وهي في ((م)) ، و ((ط)) . 7 كذا في ((خ)) ، وفي شأن الدعاء. وفي ((م)) ، و ((ط)) : يعرفونه. 8 في ((شأن الدعاء)) زيادة: وكثرة عوائده عندهم. 9 ما بين المعقوفتين في شأن الدعاء هكذا: أن يكون الودّ بمعنى الوادّ. وما أثبت من ((خ)) ، وفي ((م)) ، و ((ط)) : أن يكون بمعنى الودّ. 10 وهذا تأويل للصفة؛ لأنّ المحبّة غير الرضى، وغير قبول الأعمال. 11 في ((شأن الدعاء)) للخطابي: وقد يكون. وفرق بين العبارتين؛ فالأولى فسّرت الوجه الآخر، وهذه أتت بمعنى جديد. 12 سورة مريم، الآية 96. 13 شأن الدعاء للخطابي ص74. وانظر: كلامه في زاد المسير لابن الجوزي 4152.

الأدلة على أن الله يحب عباده ويحبونه قلت: قوله: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدَّاً} 1 فسّروها بأنّه يُحبُّهم، ويُحبِّبُهم إلى عباده2؛ كما في الصحيحين عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "إذا أحبَّ اللهُ العبدَ نادى: يا جبريل إنّي أُحِبُّ فلاناً فأحبَّه، فيُحبُّهُ جبريل، ثمّ يُنادى في السماء: إنّ الله يُحِبُّ فلاناً فأحبُّوه، فيُحبُّه أهل السماء، ثمّ يُوضع له القبول في الأرض". وقال في البغض مثل ذلك3. وقال عبد [بن] 4 حُميد5: أنبأ عبيد الله بن موسى6، عن ابن أبي

_ 1 سورة مريم، الآية 96. 2 انظر: تفسير الطبري 1132-133. وزاد المسير 5266. وانظر: أيضاً مجموع الفتاوى 15232. 3 أخرجه البخاري في صحيحه 31175، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، و52146، كتاب الأدب، باب الحبّ في الله، و62721، كتاب التوحيد، باب كلام الربّ مع جبريل، ونداء الله الملائكة. - وفي كلّ هذه المواضع لم يذكر في البُغض مثل ذلك - ومسلم في صحيحه 42030، كتاب البرّ والصلة والآداب، باب إذا أحبّ الله عبداً حبّبه إلى عباده. ومالك في الموطأ 2953. وأحمد في المسند 2514. - وقد ذُكر فيها في البُغض مثل ما ذُكِر في الحبّ -. 4 في ((خ)) : ابن بإثبات ألف ابن. 5 هو عبد بن حميد بن نصر، أبو محمد الكِسِّيّ، اسمه عبد الحميد، فخُفِّف. والكِسِّيّ نسبة إلى بلدة في ما وراء النهر، تُقارب سمرقند، يُقال لها: كِسّ. ويُقال له أيضاً: الكِشِّيّ؛ منسوب إلى كِشّ؛ قرية من قرى جرجان، وإذا أعرب كتب بالسين. ولد عبد بن حميد بعد السبعين ومائة بكِشّ، ونشأ بها، ثمّ رحل وطوّف في البلاد الإسلاميّة للسماع والتلقّي. قال عنه الذهبيّ: كان من الأئمة الثقات. وقال ابن حجر: ثقة حافظ من الحادية عشرة. مات سنة تسع وأربعين. ومن مصنفاته: التفسير، والمسند. انظر: الأنساب للسمعانيّ 11108. وسير أعلام النبلاء 12235. وتذكرة الحفّاظ 2524. وتقريب التهذيب 1640. 6 هو عبيد الله بن موسى بن أبي المختار باذام العبسي الكوفي، أبو محمد، من التاسعة. مات سنة 213 ?. انظر: الجرح والتعديل 5334. وميزان الاعتدال 316. وتقريب التهذيب 1640.

ليلى1، عن الحكم2، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدَّاً} 3، قال: "يُحبُّهم، ويُحبِّبُهم"4. ورواه ابن أبي حاتم أيضاً5. وقال عبدُ: أخبرني شبّابة6، عن ورقاء7، عن ابن أبي نجيح8، عن مجاهد9: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدَّاً} ، قال: "يُحبُّهم، ويُحبِّبُهم إلى المؤمنين"10.

_ 1 ستأتي ترجمته. 2 هو الحكم بن عتيبة الكندي - بالولاء -، أبو محمد. توفي سنة 113 ?. انظر: الجرح والتعديل 3123. وتهذيب التهذيب 2433. 3 سورة مريم، الآية 96. 4 أخرجها الطبري في تفسيره 1132. وانظر: زاد المسير 5266. والدر المنثور 4287. 5 انظر: الدر المنثور 4287. 6 هو شبابة بن سوار الفزاري، مولاهم أبو عمر المدائني الخراساني. توفي سنة 254 ?. انظر: الجرح والتعديل 4392. وميزان الاعتدال 2260. 7 هو ورقاء بن عمر بن كليب اليشكري، أبو بشر الكوفي. ثقة. انظر: الجرح والتعديل 950. وميزان الاعتدال 4332. وتهذيب التهذيب 11113. 8 هو عبد الله بن أبي نجيح؛ يسار الثقفي، أبو يسار المكي. توفي سنة 101 ?. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن تفسيره: "تفسير ابن أبي نجيح عن مجاهد من أصح التفاسير". مجموع الفتاوى 17409. 9 هو مجاهد بن جبر المكي، أبو الحجاج المخزومي. ولد سنة 21، وتوفي سنة 103 ?. انظر: الجرح والتعديل 8319. وميزان الاعتدال 3439. وتهذيب التهذيب 1042. 10 تفسير مجاهد - تحقيق عبد الرحمن السورتي - ص 391. وانظر: تفسير الطبري 1132.

أخبرنا1 عبد الرزاق2، عن الثوري3، عن مسلم4، عن مجاهد، عن ابن عبّاس: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدَّاً} ، قال: محبّةً5. وهذا فيه إثبات حبّه لهم، بعد أعمالهم؛ بقوله: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدَّاً} ، وهو نظير قوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّوْنَ اللهَ فَاتَّبِعُوْنِيْ يُحْبِبْكُمُ اللهُ} 6؛ فهو يُحبُّهم إذا اتّبعوا الرسول. ونظير قوله في الحديث الصحيح: "ولا يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أُحبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصر به، ويدَه التي يبطش بها، ورجلَه التي يمشي بها"7.

_ 1 القائل عبد بن حميد. 2 هو عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري، مولاهم الصنعاني. ولد سنة 126، وتوفي سنة 211?. انظر: الجرح والتعديل 639. وميزان الاعتدال 2609. وتهذيب التهذيب 6311. 3 هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، أبو عبد الله الكوفي. الحافظ، أمير المؤمنين في الحديث. ولد سنة 97?، وتوفي سنة 161?. انظر: الجرح والتعديل 4222. وتاريخ بغداد 9151. وتهذيب التهذيب 4111. 4 هو مسلم بن عمران، أو ابن أبي عمران البطين الكوفي. انظر: الجرح والتعديل 8191. وتهذيب التهذيب 10134. 5 تفسير القرآن للإمام عبد الرزاق - تحقيق مصطفى مسلم - 214. وانظر: تفسير الطبري 1132. والدر المنثور 4287. 6 سورة آل عمران، الآية 31. 7 أخرجه البخاري في صحيحه 52384-2385، كتاب الرقاق، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "بُعثت أنا والساعة كهاتين". وأحمد في مسنده 6256.

وكذلك قوله: {وَأَحْسِنُوْا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِيْنَ} 1. {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّاْبِيْنَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِيْنَ} 2. {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِيْنَ} 3. {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِيْنَ يُقَاْتِلُوْنَ فِيْ سَبِيْلِهِ صَفَّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَاْنٌ مَرْصُوْصٌ} 4. وهذه الآيات وأشباهها تقتضي أنّ الله يُحِبّ أصحاب هذه الأعمال؛ فهو يُحِبّ التوابين، وإنّما يكونون توّابين بعد الذنب، ففي هذه الحال يُحِبُّهم. وهذا مبنيّ على الصفات الاختياريّة5، فمن نفاها6 ردّ هذا كلّه. من نفى الصفات الاختيارية لهم في المحبة قولان ولهم7 قولان: أحدهما: أنّ المحبّة قديمة؛ فهو يُحبّهم في الأزل إذا علِم

_ 1 سورة البقرة، الآية 195. 2 سورة البقرة، الآية 222. 3 سورة التوبة، الآية 4. 4 سورة الصف، الآية 4. 5 الصفات الاختياريّة: هي الأمور التي يتصف بها الربّ عزّ وجلّ، فتقوم بذاته بمشيئته وقدرته؛ مثل كلامه، وسمعه، وبصره، وإرادته، ومحبّته ... إلخ. فالجهميّة، ومن وافقهم من المعتزلة وغيرهم يقولون: لا يقوم بذاته شيء من الصفات، ولا غيرها. جامع الرسائل 23-4. ولشيخ الإسلام رحمه الله رسالة صغيرة في هذا الموضوع، اسمها: ((رسالة في الصفات الاختياريّة)) ضمن جامع الرسائل 24-70. وانظر: كلامه أيضاً رحمه الله عن مسألة قيام الأفعال الاختياريّة بالله تعالى، وأقوال السلف فيها، ومن أثبتها، أو نفاها في درء تعارض العقل والنقل 218-24. 6 قال شيخ الإسلام رحمه الله: فباب محبّة الله ضلّ فيه فريقان من الناس؛ فريق من أهل النظر والكلام والمنتسبين إلى العلم جحدوها، وكذّبوا بحقيقتها. وفريق من أهل التعبّد والتصوّف والزهد، أدخلوا فيها من الاعتقادات، والإرادات الفاسدة ما ضاهوا بها المشركين". جامع الرسائل 2245. 7 أي للمتكلّمة الكلابيّة والآشعريّة، ومن وافقهم في نفي الصفات الاختياريّة.

أنّهم يموتون على حالٍ [مرضيّة] 1، ويقولون: إنّ الله يُحِبّ الكفّار في حال كفرهم إذا علم أنّهم يموتون على الإيمان، ويُبغض المؤمن إذا علم أنّه يرتدّ. هذا قول ابن كلاّب2، ومن [تبعه] 3. ثمّ منهم من يُفسّر المحبّة بالإرادة4، ومنهم من يقول: هي صفة زائدة على الإرادة5. والقول الثاني: يجعلون هذا من باب الفعل؛ فالمحبّة عندهم: إحسانه إليهم،

_ 1 ليست في ((خ)) . وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 انظر: الإنصاف للباقلاني ص 69. وذكر الأشعريّ في المقالات قول أصحاب ابن كلاّب "أنّ الله لم يزل راضياً عمّن يعلم أنّه يموت مؤمناً، ساخطاً على من يعلم أنّه يموت كافراً"، وذكر أنّ هذا هو قولهم في الولاية، والعداوة، والمحبّة. مقالات الإسلاميّين للأشعريّ 1350. وانظر: المصدر نفسه 2225، 255. وقال شيخ الإسلام رحمه الله مبيّناً حال ابن كلاب وعقيدته: "أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب القطان، له فضيلة ومعرفة ردّ بها على الجهميّة والمعتزلة نفاة الصفات، وبيّن أنّ الله نفسه فوق العرش، وبسط الكلام في ذلك. ولم يتخلّص من شبهة الجهميّة كلّ التخلّص، بل ظنّ أنّ الربّ لا يتصف بالأمور الاختياريّة التي تتعلّق بقدرته ومشيئته؛ فلا يتكلّم بمشيئته وقدرته، ولا يُحب العبد ويرضى عنه بعد إيمانه وطاعته، ولا يغضب عليه ويسخط بعد كفره ومعصيته، بل محباً راضياً، أو غضبان ساخطاً على من علم أنّه يموت مؤمناً أو كافراً. ولا يتكلّم بكلام بعد كلام ... ". مجموع الفتاوى 7662. وانظر: المصدر نفسه 8340-343. 3 في ((خ)) : اتبعه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 انظر: مشكل الحديث وبيانه لابن فورك ص 332. وانظر: الإنصاف للباقلاني ص 69. وجامع الرسائل 2237. ومجموع الفتاوى 10697. 5 انظر: الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي ص 37. وإيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل لابن جماعه ص 139، 143-144. وتأويل الأحاديث الموهمة للتشبيه للسيوطي ص 120. وانظر: أيضاً مجموع الفتاوى لابن تيمية 8340-341.

والإحسان عندهم ليس فعلاً قائماً به، بل بائناً عنه1. والكتاب، والسنّة، وأقوال السلف والأئمة، والأدلة العقليّة إنّما تدلّ على القول الأوّل2، كما قد بُسط في غير هذا الموضع3؛ إذ المقصود هنا [ذِكرُ اسمه (الودود) ، والأكثرون على ما ذكره] 4 ابن الأنباري5، وأنّه فعولٌ بمعنى فاعل؛ أي هو الوادُّ، كما قرنه بالغفور؛ وهو الذي يغفر، وبالرحيم؛ وهو الذي يرحم. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي6، ثنا عيسى بن جعفر؛ قاضي الريّ7، ثنا سفيان في قوله: {إَنَّ رَبِّيْ رَحِيْمٌ وَدُوْدٌ} 8، قال: مُحِبّ. وقال9:

_ 1 انظر: الإشارة إلى الإيجاز في بعض أنواع المجاز للعز بن عبد السلام ص 144- 145 والجامع لأحكام القرآن للقرطبي1150. وانظر: جامع الرسائل 2237. 2 القول الأوّل: هو تفسير الودود بأنّه المُحِبّ لعباده. وليس المراد به القول الأول من أقوال المؤوّلة لصفة المحبّة - والذي تقدّم آنفاً -. 3 انظر: من كتب شيخ الإسلام: قاعدة في المحبّة - ضمن جامع الرسائل 2193-401. ومجموع الفتاوى 8337، 370. ودرء تعارض العقل والنقل 662-65. 4 ما بين المعقوفتين ساقط من ((ط)) . وهي في ((خ)) ، و ((م)) . 5 انظر: زاد المسير لابن الجوزي 4152. 6 هو محمد بن إدريس بن المنذر بن داود، أبو حاتم الرازي الحنظلي. الإمام الحافظ شيخ المحدثين. انظر: الجرح والتعديل 1349-375. وسير أعلام النبلاء 13247. وشذرات الذهب 2171. 7 انظر: ترجمته في الجرح والتعديل 6273. 8 سورة هود، الآية 90. 9 أي ابن أبي حاتم.

قُرئ على يونس1: ثنا ابن وهب2، قال: وقال ابن زيد3: قوله: (الودود) ، قال: الرحيم. وقد ذَكَرَ4 فيه [قولين] 5؛ القول الأوّل رواه من تفسير الوالبي6

_ 1 هو يونس بن حبيب بن عبد القاهر بن عبد العزيز الأصبهاني، أبو بشر. توفي سنة 267?. قال ابن أبي حاتم: كتبت عنه بأصبهان وهو ثقة. انظر: الجرح والتعديل 9237. أو: يونس بن راشد الجزري، أبو إسحاق الحراني القاضي. انظر: الجرح والتعديل 9239. وميزان الاعتدال 4480. وتهذيب التهذيب 11439. 2 هو عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي، مولاهم، أبو محمد المصري. توفي سنة 198 ?. انظر: الجرح والتعديل 5189. وتهذيب التهذيب 671. 3 هو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم العدوي مولاهم، المدني. توفي سنة 182 ?. انظر: الجرح والتعديل 5233. وميزان الاعتدال 2564. وتهذيب التهذيب 6177. 4 أي ابن أبي حاتم. والظاهر أنّه ذكر هذين القولين في تفسيره، ولكن لم يُطبع منه إلا الأجزاء الأولى. 5 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 6 هو علي بن أبي طلحة؛ سالم بن مخارق الوالبي. قال عنه الذهبي: "أخذ تفسير ابن عباس عن مجاهد، فلم يذكر مجاهداً، بل أرسله عن ابن عباس". مات سنة 123 هـ. صنّف تفسير القرآن. وطريقه عن ابن عباس من أجود الطرق، قال عنه الإمام أحمد رحمه الله: (إنّ بمصر صحيفة في التفسير رواها علي بن أبي طلحة، لو رحل رجلٌ فيها إلى مصر قاصداً ما كان كثيراً) . انظر: ميزان الاعتدال للذهبي 3134. وتهذيب التهذيب لابن حجر 7339. والاتقان للسيوطي 2188. والتفسير والمفسرون للذهبي - المعاصر - 177. وتفسير الوالبي نقل عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مراراً في كتبه بهذا الاسم. انظر: على سبيل المثال: درء تعارض العقل والنقل 8478، 480. وشرح حديث النزول ص 312. وشرح الأصفهانية - ت السعوي - ص 380. ومنهاج السنة النبوية 2186، 5136، 139، 290. وجامع الرسائل والمسائل 4-5340. وأخذ عنه في هذا الكتاب - النبوات - عدّة مرات. ولقب الوالبي يشترك فيه ثلاثة أشخاص، كلهم يروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وكلهم من المفسرين؛ أولهم: سعيد بن جبير الأسدي الوالبي مولاهم، الكوفي. قال عنه ابن حجر: ثقة. قتله الحجاج سنة 95 ?. انظر: تقريب التهذيب 1292. وحلية الأولياء 4272. وثانيهم: أبو خالد هرمز مولى بني والبة، من بني أسد، من أهل الكوفة. ثقة، مات سنة 100 ? انظر: طبقات ابن سعد 6228. وتهذيب التهذيب 1283-84. والثالث: علي بن أبي طلحة؛ سالم بن مخارق الوالبي؛ كما صرّح باسمه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، مبيِّناً أنّه هو المقصود، وقال عنه: إنه لم يسمع التفسير عن ابن عباس. انظر: جامع الرسائل والمسائل 4-5540. وشرح الأصفهانية 1380.

عن ابن عباس قوله: (الودود) ، قال: الحبيب1. والثاني: قول ابن زيد: الرحيم2. وما ذكره الوالبي [أنّه] 3 الحبيب، قد يُراد به المعنيان؛ أنّه يُحِبُّ، ويُحَبُّ4؛ فإنّ الله يُحب من يحبه، وأولياؤه يُحبهم ويُحبُّونه.

_ 1 رواه الطبري في تفسيره عن ابن عباس 15138، عند قوله تعالى: {وَهُوَ الْغَفُوْرُ الْوَدُوْدُ} . وانظر: صحيح البخاري 41885، كتاب التفسير، باب تفسير سورة البروج؛ فإنّه ذكره عن ابن عباس. وانظر: أيضاً فتح القدير للشوكاني 5417. 2 رواه الطبري في تفسيره عن ابن زيد 15139 عند تفسير قوله تعالى: {وَهُوَ الْغَفُوْرُ الْوَدُوْدُ} ، وانظر: تفسير القرطبي 19195. وفتح القدير للشوكاني 5413. 3 ما بين المعقوفتين ساقط من ((ط)) ، وهو في ((خ)) ، و ((م)) . 4 قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في النونية 289 - شرح الهراس -: وهو الودود يُحِبّهم ويُحبُّهُ أحبابه والفضل للمنّان وهو الذي جعل المحبّة في قلوبهم وجازاهم بحب ثان وانظر: توضيح المقاصد - شرح ابن عيسى - 2230. وبدائع التفسير الجامع لتفسير الإمام ابن القيم رحمه الله 5172 عند تفسير قوله تعالى: {وَهُوَ الْغَفُوْرُ الْوَدُوْدُ} . وانظر: كتاب الأسماء والصفات للبيهقي 1198.

والبغويّ ذكر الأمرين، فقال: وللودود معنيان؛ [أنّه] 1 يُحِبّ المؤمنين، وقيل: هو بمعنى المودود؛ أي محبوب المؤمنين2. وقال3 أيضاً في قوله: {وَهُوَ الْغَفُوْرُ الْوَدُوْدُ} 4: أي المحبّ لهم، وقيل: معناه المودود؛ كالحَلُوب، والرَّكوب؛ بمعنى المحلوب والمركوب، وقيل: يغفر، ويودّ أن يغفر، وقيل: المتودّد إلى أوليائه بالمغفرة5. قلت: هذا اللفظ معروفٌ في اللغة أنّه بمعنى الفاعل6؛ كقول النبيّ [صلى الله عليه وسلم] : "تزوّجوا الودود الولود"7. وفعول بمعنى فاعل كثيرٌ؛ كالصبور، والشكور، وأمّا بمعنى مفعول، فقليلٌ. وأيضاً: فإنّ سياق القرآن يدلّ على

_ 1 في ((م)) ، و ((ط)) : أن. 2 تفسير البغوي 2399. 3 أي البغويّ. 4 سورة البروج، الآية 14. 5 تفسير البغوي 5471. 6 انظر: اشتقاق أسماء الله ص 152 لأبي القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي؛ فإنه قال: "الودود فيه قولان: أحدهما: أنّه فعول بمعنى فاعل؛ كقولك غفور بمعنى غافر، وكما قالوا: رجل صَبور بمعنى صابر، وشَكور بمعنى شاكر؛ فيكون الودود في صفات الله تعالى عزّ وجلّ على هذا المذهب أنّه يودّ عباده الصالحين ويُحبّهم. والودّ، والمودّة، والمحبّة في المعنى سواء؛ فالله عزّ وجلّ ودودٌ لأوليائه والصالحين من عباده، وهو محبّ لهم. والقول الآخر: أنّه فعول بمعنى مفعول؛ كما يُقال: رجلٌ هَيوب؛ أي مهيب؛ فتقديره: أنّه عزّ وجلّ مودودٌ؛ أي يودّه عباده ويحبّونه. وهما وجهان جيّدان". اشتقاق أسماء الله لأبي القاسم الزجاجي ص 152. وانظر: تفسير الأسماء للزجاج ص 52. 7 أخرجه الإمام أحمد في مسنده 3158، 245. ورواه ابن حبان في صحيحه وصححه في كتاب النكاح، باب ما جاء في التزويج واستحبابه، رقم 1228. ورواه سعيد بن منصور في سننه 1139، باب الترغيب في النكاح.

أنّه1 أراد أنّه هو الذي يودّ عباده؛ كما أنّه هو الذي يرحمهم ويغفر لهم؛ فإنّ شعيباً قال: {وَاسْتَغْفِرُوْا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوْبُوْا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّيْ رَحِيْمٌ وَدُوْدٌ} 2؛ فذكر رحمته وودّه؛ كما قال تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} 3. وهو أراد وصفاً يُبيّن لهم أنّه سبحانه يغفر الذنب، ويُقبل على التائب؛ وهو كونه وَدوداً؛ كما قال: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّاْبِيْنَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِيْنَ} 4. وقد ثبت في الصحاح من غير وجهٍ عن النبيّ [صلى الله عليه وسلم] أنّ الله يفرح بتوبة التائب أشدّ من فرح من فقد راحلته بأرضٍ دَوِّيَّةٍ5 مُهلكة، ثمّ وجدها بعد اليأس6.

_ 1 في ((م)) ، و ((ط)) زيادة كلمة (صح) بعد: أنّه، وهي ليست في ((خ)) . ولا وجه لإثباتها. 2 سورة هود، الآية 90. 3 سورة الروم، الآية 21. 4 سورة البقرة، الآية 222. 5 الأرض الدويّة: هي الأرض القفر، والفلاة الخالية. قال الخليل: هي المفازة، قالوا: ويُقال: دوية، وداوية: مهلكة: هي موضع خوف الهلاك. ويُقال لها مفازة، قيل: إنّه من قولهم: فوز الرجل إذا هلك. وقيل: على سبيل التفاؤل بفوزه ونجاته منها؛ كما يُقال للّديغ: سليم. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر 2143، 5271. وشرح النووي على صحيح مسلم 1761. 6 يُشير رحمه الله إلى الحديث الذي أخرجه الشيخان في صحيحيهما، ولفظه: "لله أشدّ فرحاً بتوبة عبده المؤمن من رجلٍ في أرضٍ دوّيّة مهلكة، معه راحلته، عليها طعامه وشرابه، فنام فاستيقظ وقد ذهبت. فطلبها، حتى أدركه العطش، ثمّ قال: أرجع إلى مكاني الذي كنتُ فيه، فأنام حتى أموت. فوضع رأسه على ساعده ليموت، فاستيقظ وعنده راحلته، وعليها زاده وطعامه وشرابه. فالله أشدّ فرحاً بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده" الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 52324-2325، كتاب الدعوات، باب التوبة. ومسلم في صحيحه 42102-2103، كتاب التوبة، باب في الحضّ على التوبة والفرح بها. ومسند الإمام أحمد 383؛ كلهم أخرجوه بألفاظ متقاربة.

فهذا الفرح منه بتوبة التائب يُناسب محبّته له، ومودّته له. وكذلك قوله في الآية الأخرى: {وَهُوَ الْغَفُوْرُ الْوَدُوْدُ} 1، فإنّه مثل قوله: {وَهُوَ الرَّحِيْم الْغَفُوْرُ} 2. وأيضاً: فإنّ كونه مودوداً؛ أي محبوباً، يُذكر على الوجه الكامل الذي يتبيّن اختصاصه به؛ مثل: [اسم] 3 الإله؛ فإنّ الإله: المعبود هو مودودٌ بذلك، ومثل اسمه الصمد، ومثل ذي الجلال والإكرام، ونحو ذلك4. وكونه مودوداً ليس بعجيب، وإنّما العجب: جوده، وإحسانه؛ فإنّه يتودّد إلى عباده، كما جاء في الأثر: "يا عبدي! كم أتودّد إليك بالنّعم، وأنت تتمقّت إليّ بالمعاصي، ولا يزال مَلَكٌ كريم يصعد إليّ منك بعمل سيء"5. وفي الصحيحين عن النبيّ [صلى الله عليه وسلم] أنّه قال: يقول الله تعالى: "من

_ 1 سورة البروج، الآية 14. 2 سورة سبأ، الآية 2. 3 في ((ط)) : الاسم. وما أثبت من ((خ)) ، و ((م)) . 4 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وهو سبحانه يحب عباده الذين يحبونه، والمحبوب لغيره أولى أن يكون محبوباً. فإذا كنّا إذا أحببنا شيئاً لله كان الله هو المحبوب في الحقيقة، وحبّنا لذلك بطريق التبع. وكنّا نحب من يحب الله لأنّه يُحب الله، فالله تعالى يُحبّ الذين يحبونه؛ فهو المستحق أن يكون هو المحبوب المألوه المعبود، وأن يكون غاية كل حب". درء تعارض العقل والنقل 415. وانظر: أيضاً المصدر نفسه - عن المحبّة - 9374-376،، 672-73. وجامع الرسائل 2254. 5 روى أبو نعيم الأصبهاني عن مالك بن دينار أنّه قال: "قرأت في بعض الكتب أنّ الله تعالى يقول: يا ابن آدم خيري ينزل عليك، وشرّك يصعد إليّ، وأتحبّب إليك بالنّعم، وتتبغّض إليّ بالمعاصي، ولا يزال ملك كريم قد عرج منك إليّ بعمل قبيح". حلية الأولياء 2358. وانظر: طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى 1194. وإثبات صفة العلو لابن قدامه ص 113وقال محققه: إسناده ضعيف لجهالة الشيخ القرشي. وأورده الذهبي من طريق ابن أبي الدنيا ص 97 وقال: إسناده مظلم. وانظر: اجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم ص 268، فقد ذكر أنّ هذا الأثر رواه ابن أبي الدنيا.

تقرّب إليّ شبراً تقرّبتُ إليه ذراعاً، ومن تقرّب إليّ ذراعاً تقرّبتُ إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة"1. وجاء في تفسير اسمه الحنّان، المنّان: أنّ الحنّان: الذي يُقبل على من أعرض عنه. معنى الحنان والمنان والمنّان: الذي يجود بالنوال قبل السؤال2. وأيضاً: فمبدأ الحبّ والودّ منه، لكن اسمه الودود يجمع المعنَيَيْن؛ كما قال الوالبيّ عن ابن عبّاس: أنّه الحبيب3؛ وذلك أنّه إذا كان يودّ عباده، فهو مستحقٌ لأن يودّه العباد بالضرورة. ولهذا من قال إنّه يُحبّ المؤمنين، قال: إنّهم يُحِبّونه؛ فإنّ كثيراً من النّاس يقول إنّه محبوب، وهو

_ 1 الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 62741، كتاب التوحيد، باب ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وروايته عن ربه، و62694، كتاب التوحيد باب قوله تعالى: {ويُحذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ} [سورة آل عمران 28] ، باختلاف يسير في بعض الألفاظ. ومسلم في صحيحه 42067-2068، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الذكر والدعاء. وأحمد في مسنده 2413، 340، 122. 2 قال الأزهريّ في تهذيب اللغة 15471: "ومن صفات الله تعالى: المنّان؛ ومعناه: المعطي ابتداءً. ولله المنّة على عباده، ولا منّة لأحدٍ منهم عليه". وانظر: أيضاً شأن الدعاء للخطّابيّ ص 100. وهذا الأثر أورده القرطبي بدون عزو في كتاب: الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى - مخطوط - ق 70أ. وفيه: أنّ أكينة بن عبد الله التميمي سمع علي بن أبي طالب يقول وقد سئل عن الحنّان المنّان، فذكره ... وانظر: شرح حديث النزول لابن تيمية ص 453، تعليق المحقق رقم 13، والفتاوى 5573، و 16217. 3 انظر: تفسير الطبريّ 15139.

لا يُحِبّ شيئاً مخصوصاً، لكن محبّته بمعنى مشيئته العامّة1. ومن النّاس من قال: أنّه لا يُحَبّ، مع أنّه يُثبت محبّته للمؤمنين. القسمة في المحبة رباعية فالقسمة في المحبّة رباعيّة؛ فالسلف وأهل المعرفة أثبتوا النوعين؛ قالوا: إنّه يُحِبّ، ويُحَبّ. والجهميّة والمعتزلة تُنكر الأمرين2. ومن النّاس من قال: إنّه يُحبّه المؤمنون، وأمّا هو، فلا يُحبّ شيئاً دون شيء. ومنهم من عكس فقال: بل هو يُحبّ المؤمنين، مع أنّ ذاتَه لا يُحَبّ3؛ كما

_ 1 ومن هؤلاء: غلاة الصوفيّة؛ فإنّهم يعتقدون أنّه ليس في مشهدهم لله محبوبٌ، مرضيّ، مرادٌ إلا ما يقع، فما وقع فالله يُحِبّه ويرضاه، وما لم يقع فالله لا يحبه ولا يرضاه. فمشيئة الله العامّة التي تقع كلّها محبوبة له، يُريدها، ويرضى عنها كما زعموا. انظر: رسالة الاحتجاج بالقدر لابن تيمية ص 80-81. ومن هؤلاء: الأشاعرة، ومن وافقهم؛ فإنّه لما ثبت عندهم أنّ المشيئة، والإرادة، والمحبّة، والرضى كلّها بمعنى واحد - على حدّ زعمهم، قالوا: فالمعاصي والكفر كلها محبوبة لله؛ لأنّ الله شاءها وخلقها. انظر: رسالة الاحتجاج بالقدر لابن تيمية ص 67. ومدارج السالكين لابن القيم 1228، 251، 2189. ولازم هذا القول: أنّ الله - تعالى عن ذلك - يُحِبّ الكفر والمعاصي. انظر: الرسالة الأكملية - ضمن مجموع الفتاوى 6115-116 -. 2 انظر: درء تعارض العقل والنقل 662-66. وجامع الرسائل 2245. ومجموع الفتاوى 8356. 3 وقد بيّن شيخ الإسلام رحمه الله بطلان هذا القول، وذكر أنّ المحبوبات على قسمين، فقال: "المحبوبات على قسمين: قسمٌ يُحبّ لنفسه، وقسمٌ يُحب لغيره. إذ لا بُدّ من محبوبٍ يُحبّ لنفسه. وليس شيء شُرع أن يُحبّ لذاته إلا الله تعالى. وكذلك التعظيم لذاته، تارة يُعظّم الشيء لنفسه، وتارة يعظّم لغيره. وليس شيء يستحق التعظيم لذاته إلا الله تعالى. وكلّ ما أمر الله أن يُحَبّ ويُعظّم، فإنّما محبّته لله وتعظيمه عبادة لله؛ فالله هو المحبوب المعظَّم في المحبّة والتعظيم، المقصود المستقر الذي إليه المنتهى ... ". جامع الرسائل - قاعدة في المحبّة - 2287.

يقولون أنّه يَرحَم، ولا يُرحَم. فإذا قيل: إنّ الودود بمعنى الوادّ، لزم أن يكون مودوداً، بخلاف العكس. فالصواب القطع بأنّ الودود هو الذي يُوَدّ، وإن كان ذلك مُتَضَمَّنَاً؛ لأنّه يستحقّ أن يُوَدّ، ليس هو بمعنى الودود فقط. ولفظ الوِداد بالكسر هو مثل الموادّة والتوادّ، وذاك يكون من الطرفين؛ كالتحابّ. وهو سبحانه لمّا جَعَلَ بين الزوجين مودّة ورحمة، كان كلّ منهما يودّ الآخر ويرحمه. وهو سبحانه كما ثبت في الحديث الصحيح أرحم بعباده من الوالدة بولدها1، وقد بيّن الحديث الصحيح أنّ فرحه بتوبة التائب أعظم من فرح الفاقد ماله ومركوبه في مهلكة، إذ أوجدهما بعد اليأس2. وهذا الفرح [يقتضي] 3 أنّه أعظم مودّة لعبده المؤمن من المؤمنين بعضهم لبعض. كيف، وكلّ وُدِّ في الوجود فهو من فعله. فالذي جعل الودّ في القلوب هو أولى بالودّ؛ كما قال ابن عبّاس، ومجاهد، وغيرهما4 في قوله: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدَّاً} 5؛ قال: يُحِبّهم، ويُحَبِّبهم6. وقد دلّ الحديث

_ 1 الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 52235، كتاب الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته. ومسلم في صحيحه 42109، كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى وأنّها سبقت غضبه. وابن ماجه في السنن 21436، كتاب الزهد، باب ما يُرجى من رحمة الله يوم القيامة. وأبو داود في سننه 3469، كتاب الجنائز، باب الأمراض المكفرة للذنوب. 2 سبق تخريجه في ص 425. 3 في ((خ)) : تقتضي. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 سبق نقل كلامهم قريباً، ص 415-417. 5 سورة مريم، الآية 96. 6 تقدّم ص 417.

الذي في الصحيحين1 على أنّ ما يجعل من المحبّة في قلوب النّاس هو بعد أن يكون هو قد أحبّه، وأمر جبريل أن يُنادي بأنّ الله يُحبّه. فنادى جبريل في السماء أنّ الله يُحِبّ فلاناً فأحبّوه2. وبسط هذا له موضعٌ آخر3. وفي مناجاة بعض الداعين: ليس العجب من حبّي لك مع حاجتي إليك، العجب من حبّك لي مع غناك عنّي4. وفي أثرٍ آخر: يا عبدي! وحقّي إنّي لك محبّ، فبحقّي عليك كن لي محبّاً5. ورُوِيَ: يا داود حبّبني إلي عبادي، وحبّب عبادي إليّ؛ مرهم بطاعتي فأحبّهم، وذكّرهم آلائي فيُحبّوني؛ فإنّهم لا يعرفون منّي إلا الحسن الجميل6. وهو سبحانه كما قال؛ كلّ ما خلقه، فإنّه من نعمه على عباده. ولهذا يقول: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَاْ تُكَذِّبَاْن} 7. والخير بيديه، لا يأتي بالحسنات إلا

_ 1 وهو قوله عليه السلام: " إذا أحبّ الله عبداً.." الحديث. 2 سبق تخريج هذا الحديث ص 414. 3 انظر: قاعدة في المحبّة - ضمن جامع الرسائل 2287 -. 4 انظر: حلية الأولياء لأبي نعيم 1034؛ عن أبي يزيد البسطامي. 5 قال أبو حامد الغزالي: "وفي بعض الكتب: عبدي! أنا - وحقّك - لك محبّ، فبحقّي عليك كن لي محبّاً". إحياء علوم الدين 4274. 6 انظر: إحياء علوم الدين 4138. وقال محقّقه: "الحديث لم أجد له أصلاً، وكأنّه من الإسرائيليّات". وانظر: كتاب تصفية القلوب لليماني الذمار ص 298-299. وقال محقّقه: "رواه ابن حبان من حديث أبي هريرة". ولم أقف عليه في صحيح ابن حبان. 7 سورة الرحمن، وردت في آيات كثيرة.

هو، ولا يذهب بالسيئات إلا هو، ولا حول ولا قوّة إلا به، ولا ملجأ ولا منجا منه إلا إليه. وودّه سبحانه هو لمن تاب إليه وأناب إليه؛ كما قال: {إِنَّ الَّذِيْنَ آمَنُوْا وَعَمِلُوْا الصَّاْلِحَاْتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدَّاً} 1، وقال: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّاْبِيْنَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِيْنَ} 2؛ فلا يستوحش أهل الذنوب، وينفرون منه كأنّهم حمرٌ مستنفرة؛ فإنّه ودودٌ رحيمٌ بالمؤمنين، يُحبّ التوابين، ويُحبّ المتطهّرين. ولهذا قال شعيب: {وَاسْتَغْفِرُوْا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوْبُوْا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّيْ رَحِيْمٌ وَدُوْدٌ} 3، وقال هنا: {وَهُوَ الْغَفُوْرُ الْوَدُوْدُ} 4؛ فذكر (الودود) في الموضعين لبيان مودّته للمذنب إذا تاب إليه، بخلاف القاسي الجافي الغليظ الذي لا ودّ فيه. الشبهة الثانية لمن ينكر المحبة والحجّة الثانية لهم: قالوا: إنّ الإرادة والمحبّة لا تتعلّق إلا بمعدومٍ يُراد فعله؛ فإنّه لو جاز أن يُراد الموجود، وأن يُراد القديم، لجاز أن يكون العالَم قديماً مع كونه مُراداً مقدوراً؛ كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة5؛ فإنّ القائلين أنّه موجب بذاته والعالَم قديم؛ منهم من يصفه

_ 1 سورة مريم، الآية 96. 2 سورة البقرة، الآية 222. 3 سورة هود، الآية 90. 4 سورة البروج، الآية 14. 5 انظر: كلام الفلاسفة في هذا الموضوع في: قاعدة في المحبة - ضمن جامع الرسائل 2397-398 -. والجواب الصحيح 622-45. ومجموع الفتاوى 7586-597.

بالإرادة؛ كأبي البركات1، وغيره؛ قالوا: ومن المعلوم بالاضطرار للعقلاء إذ قالوا: هذا الأمر حصل بالإرادة أن يكون محدَثاً، كائناً بعد أن لم يكن، ولهذا لا يجوز أن يُقال إنّ قدرته ومشيئته تعلّقت بوجوده، ولا ببقائه، ولا بكونه حيّاً، ومن قال إنّ صفاته قديمة الأعيان، لا يقول إنّ كلامه وإرادته حصلت بإرادته وقدرته. فيقال: هذا الذي قالوه، صحيحٌ. لكن هنا نوعان؛ أحدهما: إرادة أن يفعل الشيء ويكون. فهذه لا تكون إلا مع حدوثه. والثانية: محبّة نفس ذاته، من غير أن يفعل في الذات شيء. فهذه التي تتعلّق بالموجود، والباقي، والقديم. وإرادة الفعل تابعة لهذه؛ فإنّه لولا أن تكون الإرادة متعلّقة بنفس الشيء الموجود، امتنع أن يراد إيجاده؛ فإنّ من أراد [أن] 2 يبنيَ بيتاً ليسكنه، إنّما مراده نفس البيت لسكناه والانتفاع، وإنّما البناء وسيلة إلى ذلك. لولا إرادة الغاية المقصودة بالذات لم تُرد الوسيلة. وإذا بناه، فهو مريد له بعد البناء، ولهذا يكره خرابه وزواله. وكذلك من أراد أن يلبس ثوباً، فلبسه، فهو في حال اللبس مريدٌ له. فمن أراد إحداث أمر وفعله، كانت إرادة فعله لغاية مقصودة بعد الفعل، هي العلّة [الغائيّة] 3.

_ 1 هو أبو البركات، هبة الله بن علي بن ملكا البلدي. قال عنه الذهبي: "العلامة الفيلسوف، شيخ الطب، أوحد الزمان". وكان يهودياً، وأسلم في آخر عمره. ولد نحو سنة 480 ?، وتوفي سنة 560 ?. انظر: سير أعلام النبلاء 20419. والأعلام 874. 2 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 3 ما بين المعقوفتين في ((ط)) : الغائبة. وما أثبت من ((خ)) ، و ((م)) . والعلّة الغائيّة هي: ما يوجد الشيء لأجله. انظر: التعريفات للجرجاني ص 202. والمبين في شرح ألفاظ الحكماء والمتكلمين للآمدي ص 123. ومعيار العلم في فنّ المنطق للغزالي ص 313. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فالعلة الغائية متقدّمة في التصوّر والإرادة، وهي متأخرة في الوجود؛ فالمؤمن يقصد عبادة الله ابتداءً، وهو يعلم أنّ ذلك لا يحصل إلا بإعانته، فيقول: {إِيَّاْكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاْكَ نَسْتَعِيْنُ} . مجموع الفتاوى 10284. وانظر: المصدر نفسه 8187. ودرء تعارض العقل والنقل 1329-330.

والفعل المطلوب لغاية، لفاعله إرادتان: إرادة الفعل، وإرادة الغاية. وهذه1 هي الأصل، وتلك2 تبعٌ لهذه. والإرادة إرادة لا تتعلّق بالمعدوم من جهة كونه معدوماً، بل تتعلّق بوجود الفعل، لكن يمتنع أن يراد فعله إلا إذا كان معدوماً3. فالعدم شرطٌ في إرادة فعله، ولهذا جُعل من جملة علل الفعل. ولهذا كان جماهير العقلاء مطبقين على أنّ كلّ مفعولٍ فهو حادث، وكلّ ما أريد أن يُفعل فإنّه يكون حادثاً، وكلّ ما تعلّقت المشيئة والقدرة بفعله فهو حادث. ثمّ من النّاس من يقول: هذا مختصّ بكونه مفعولاً بالاختيار، وإلا إذا كان معلولاً لعلّة موجبة، لم يلزم حدوثه. وهو غلط. بل كلّ ما فُعل، فلا يكون إلا مُحدَثاً؛ سواءٌ كان ذلك ممكناً، أو ممتنعاً. بل نفس كونه مفعولاً مستلزمٌ حدوثه، ونفس تصوّر

_ 1 أي إرادة الغاية. 2 أي إرادة الفعل. 3 انظر: قاعدة في المحبة - ضمن جامع الرسائل 2398 -.

العلم بكونه مفعولاً يوجب العلم بحدوثه، وإن لم يخطر بالبال كونه مفعولاً بالقدرة والاختيار1. ثمّ قد يُقال: ما من مفعول إلا وهو مفعولٌ بالاختيار. والقديم إذا قُدّر فاعلاً بلا مشيئة، كان ذلك ممتنعاً. والموجب بالذات إذا قيل هو موجب بذاته المتصفة بمشيئته وقدرته لما يشاؤه، و [هذا] 2 حقّ، وهو مستلزمٌ لكونه فاعلاً بمشيئته وقدرته. وأمّا موجب بلا مشيئة، أو موجب يُقارنه موجب، فهذان باطلان، وبهما ضلّ من ضلّ من االمتفلسفة القائلين بقدم الفلك ونفي الصفات. ولكن: من أراد إحداث شيء وأحدثه، لم يجب أن تنقطع إرادته، بل قد يكون مريداً له ما دام موجوداً، ولولا أنّه مريد لوجوده لما فعله. فكلّ ما شاء الله وجوده، فهو مريد إحداثه وبقاءه ما دام باقياً. وأمّا الإرادة والمحبّة المتعلّقة بالقديم: فليست إرادة فعل فيه، بل هي محبّة ذاته. وكلّ إرادة ومحبّة، فلا بُدّ أن تنتهي إلى محبوبٍ لذاته. وكلّ فاعل بالإرادة، فإرادته تستلزم محبّة عامّة لأجلها فعل3. فالحبّ أصل وجود كلّ موجود، والربّ تعالى يُحبّ نفسه. ومن لوازم [حبّه] 4 نفسه: أنّها محبّة مريدة لما يريد أن يفعله، وما أراد فعله، فهو يريده لغاية يُحبّها؛ فالحبّ هو العلّة الغائيّة التي لأجله كان كلّ شيء.

_ 1 انظر: مختصر الصواعق لابن الموصلي 2116. 2 في ((خ)) : ولهذا. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 انظر: قاعدة في المحبّة - ضمن جامع الرسائل 2401 -. 4 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .

الفلاسفة يصفون الله بالابتهاج والفرح والمتفلسفة يصفونه بالابتهاج و [الفرح] 1؛ كما جاءت به النصوص النبويّة، لكنّهم يُقصّرون في معرفة هذا وأمثاله من الأمور الإلهيّة؛ فإنّهم يقولون: اللّذّة إدراك الملائم من حيث هو ملائم، وهو مدرك لذاته بأفضل إدراك2؛ فهو أفضل مدرِك لأفضل مدرَك بأفضل [إدراك] 3. تقصير الفلاسفة في ذلك من ثلاثة أوجه وقد قصّروا في ذلك من ثلاثة أوجه: أحدها: أنّ اللّذّة والفرح والسرور والبهجة ليس هو مجرّد الإدراك، بل هو حاصل عقب الإدراك؛ فالإدراك موجب له، ولا بُدّ في وجوده من محبّة. فهنا ثلاثة أمور: محبّة، وإدراك لمحبوب، ولذّة تحصل بالإدراك. وهذا في اللّذّات الدنيويّة الحسيّة وغيرها؛ فإنّ الإنسان يشتهي الحلو ويُحبّه، فإذا ذاقه التذّ بذوقه، والذوق هو الإدراك4. وكذلك في لذّات قلبه يُحِبّ الله؛ فإنّه إذا ذكره، وصلّى له، وجد حلاوة ذلك؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "جُعِلَتْ قُرّة عيني في الصلاة"5. وأهل الجنّة إذا تجلّى لهم، فنظروا إليه، قال: فما أعطاهم شيئاً أحبّ إليهم من النّظر إليه6.

_ 1 في ((خ)) : الفرج. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 انظر: المباحث المشرقية في علم الإلهيّات والطبيعيّات للرازي 1513-514. 3 في ((خ)) : ادرك. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 انظر: المباحث المشرقية للرازي 1514؛ فقد ذكر نحواً من كلام شيخ الإسلام هذا. 5 الحديث رواه أحمد في المسند 3128، 199، 285. والنسائي 761 في عشرة النساء، باب حبّ النساء. والحاكم في المستدرك 2160، وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبيّ من حديث أنس. 6 هو جزء من حديث سبق تخريجه ص 398.

والله أعلم12.

_ 1 وانظر: أقسام النّاس في مقاصد العبادات - سيّما الفلاسفة - في: الجواب الصحيح 637-41. وجامع الرسائل 2251-252. ومجموع الفتاوى 7536. 2 كتب الناسخ عند نهاية هذا الكلام: آخر المجلد الحادي والعشرين من بعد المائة الملحق بالكواكب الدراري، ولله الحمد والمنّة، لا نحصي ثناءً عليه. وصلواته وسلامه وبركاته على سيدنا محمد وآله وأصحابه. ختم آخره [.......] بن محمد بن محمود بن بدر الحنبلي عشيّة يوم الخميس حادي وعشرين شهر شوال سنة ثلاثين وثمان مائة من الهجرة النبوية، عفى الله لمؤلفه ولكاتبه ولقارئه ولجميع المسلمين. يتلوه فصل في تمام القول في محبة الله وانقسام المراد إلى ما يراد لذاته ... إلخ. ملاحظة: في الأصل بين المعقوفتين - التي بعد ختم آخره - بياض، وقد ظهر لي أن اسمه إبراهيم، وذلك من خلال جزء من مخطوطة الكواكب الدراري التي كتبها. وكذلك في البطاقة التي فيها الفهارس والتعريف بكتاب النبوات في مكتبة الجامعة الإسلامية.

فصل في تمام القول في محبة الله

فصل1 في تمام القول في محبّة الله2، وانقسام المراد إلى ما يُراد لذاته، وإلى ما يُراد لغيره3 تابع: الوجه الأول في الرد على الفلاسفة ثمّ4 ذلك الغير لا بُدّ أن يكون مُراداً لذاته، فالمراد لذاته لازمٌ لجنس الإرادة، والإرادة لازمة لجنس الحركة؛ فإنّ الحركة [الطبيعيّة5،و] 6 القسريّة7 مستلزمةٌ للحركة الإراديّة8. والحركة الإراديّة مستلزمة لمرادٍ

_ 1 كُتب في بداية الورقة: "بسم الله الرحمن الرحيم. اللهم عونك، لا حول ولا قوة إلا بك". 2 انظر: كلام المؤلف - رحمه الله - على محبّة الله تعالى في: منهاج السنة النبوية 5388-412. والاستقامة 288-128. ومجموع الفتاوى 1478. والجواب الصحيح 639. وقاعدة في المحبة - ضمن جامع الرسائل - 2193-401. 3 انظر: مزيد كلامٍ للمؤلف - رحمه الله - عن انقسام المراد إلى ما يُراد لذاته، وإلى ما يُراد لغيره في: درء تعارض العقل والنقل 663-66. 4 في ((ط)) : تمّ - بالتاء -، وما أثبت من ((خ)) ، و ((م)) . 5 الحركة الطبيعيّة: هي التي لا تحصل بسبب أمر خارج، ولا تكون مع شعورٍ وإرادة؛ كحركة الحجر إلى أسفل. التعريفات للجرجاني ص 85. 6 ما بين المعقوفتين ليس في ((م)) ، و ((ط)) . وهو في حاشية ((خ)) ، فوق السطر، وعليه علامة التصحيح ((صح)) . 7 الحركة القسريّة: ما يكون مبدؤها بسبب ميلٍ مستفادٍ من خارج؛ كالحجر المرمى إلى فوق. فهي حركة اضطراريّة. التعريفات للجرجاني ص 85. 8 الحركة الإراديّة: ما لا يكون مبدؤها بسبب أمرٍ خارجٍ مقارناً بشعورٍ وإرادة؛ كالحركة الصادرة من الحيوان بإرادته. التعريفات ص 85.

لذاته. فكان جنس الحركات الموجودة في العالَم مستلزمة للمراد لذاته؛ وهو المعبود الذي يستحق العبادة لذاته؛ وهو الله لا إله إلا هو1، فلو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا. وكلّ عملٍ لا يُراد به وجهه، فهو باطلٌ. وكلّ عاملٍ لا يكون [عمله] 2 لله، بل لغيره، وهو المشرك؛ فإنّه كما قال تعالى: {فَكَأَنَّمَاْ خَرَّ مِنَ السَّمَاْءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِيْ بِهِ الرِّيْحُ فِيْ مَكَاْنٍ سَحِيْقٍ} 3؛ فإنّ قوام الشيء بطبيعته الخاصّة به؛ فالحيّ قوامه بطبيعته المستلزمة لحركته الإراديّة، وقوامها بالمراد لذاته، فإذا لم يكن حركتها لإرادة المعبود لذاته، لم يكن لنفسه قوام، بل بقيت ساقطة، خارَّة؛ كما ذكر الله تعالى. ولهذا يهوي في الهاوية؛ وهو ذنبٌ لا يُغفر؛ لأنّه فسد الأصل؛ كالمريض الذي فسد قلبه، لا ينفع مع ذلك إصلاح أعضائه.

_ 1 هذا الدليل الذي ذكره شيخ الإسلام رحمه الله دليلٌ عقليّ، يستخدمه كثيراً رحمه الله، وقد قال عنه في بعض كتبه: "الحركات الموجودة في العالم ثلاثة: قسرية، وطبيعية، وإرادية. ووجه الحصر: أنّ مبدأ الحركة إما أن يكون من المتحرك، أو من سبب خارج. فإن لم تمكن حركته إلا بسبب خارج عنه؛ كصعود الحجر إلى فوق؛ فهذه الحركة القسرية. وإن كانت بسبب منه؛ فإمّا أن يكون المتحرك له شعور، وإما أن لا يكون. فإن كان له شعور، فهي الحركة الإرادية، وإلا فهي الطبيعية. والحركة الطبيعية في العناصر: إما أن تكون لخروج الجسم عن مركزه الطبيعيّ، وإلا فالتراب إذا كان في مركزه لم يكن في طبعه الحركة. فالمتولدات من العناصر لا تتحرك إلا بقاسر يقسر العناصر على حركة بعضها إلى بعض. وإذا كانت الحركات الطبيعية والقسرية مفتقرة إلى محرك في الخارج، عُلم أنّ أصل الحركات كلها الإرادة، فيلزم من هذا أن يكون مبدأ جميع الحركات من العالم العلويّ والسفليّ هو الإرادة". كتاب الصفدية 1174-175. وانظر: مجموع الفتاوى 16131، 8171. وقد استخدم شيخ الإسلام رحمه الله هذا الدليل أيضاً لإثبات وجود الملائكة بالعقل. انظر: المصدر المتقدم نفسه. 2 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 3 سورة الحج، الآية 31.

لفظ الدعاء في القرآن ولفظ دعاء الله في القرآن1 يُراد به دعاء العبادة، ودعاء [المسألة] 2؛ فدعاء العبادة يكون الله هو المراد به، فيكون الله هو المراد. ودعاء المسألة يكون المراد منه3؛ كما في قول المصلّي: {إِيَّاْكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاْكَ نَسْتَعِيْنُ} 4؛ فالعبادة إرادته، والاستعانة وسيلة إلى العبادة إرادة المقصود، وإرادة الاستعانة إرادة الوسيلة إلى المقصود، ولهذا قدّم قوله: {إِيَّاْكَ نَعْبُدُ} ، وإن كانت لا تحصل إلا بالاستعانة؛ فإنّ العلّة الغائيّة مقدّمة في التصوّر والقصد، وإن كانت مؤخّرة في [الوجود] 5 والحصول، وهذا إنّما يكون لكونه هو المحبوب لذاته. لكن المراد به محبّة مختصة به على سبيل الخضوع له والتعظيم، وعلى سبيل تخصيصها به؛ فيُعبّر عنها بلفظ الإنابة، والعبادة، ونحو ذلك؛ [إذ] 6 كان لفظ المحبّة (جنس عامّ) ، يدخل فيه أنواع كثيرة، فلا يرضى لله

_ 1 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة"، وقرأ: {وَقَاْلَ رَبُّكُمُ ادْعُوْنِيْ أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاْخرِيْنَ} [سورة غافر، الآية 60] . والحديث أخرجه الترمذيّ، وقال: هذا حديث حسن صحيح. 2 في ((خ)) : للمسألة. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 أي من الله تعالى. والدعاء ينقسم إلى نوعين: دعاء مسألة: وهو سؤال الله تعالى بأسمائه الحسنى ما ينفع الداعي وطلب كشف ما يضره. ودعاء عبادة: وهو التعبّد لله تعالى بمقتضى هذه الأسماء التي فيها ثناء على الله تعالى، والنوعان متلازمان. قال الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} الآيات وفيها: {وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعا} وقد اشتملت الآية على النوعين، قيل: أعطيه إذا سألني، قيل: أثيبه إذا عبدني. انظر: مجموع الفتاوى 5211، 1510-11. واقتضاء الصراط المستقيم 2778-779. وبدائع الفوائد1164، 32-3. وزاد المعاد 1335. وتيسير العزيز الحميد ص 216، 640. 4 سورة الفاتحة، الآية 5. 5 في ((خ)) : الوجد. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 6 في ((ط)) : إذا. وما أثبت من ((خ)) ، و ((م)) .

بالقدر المشترك، بل إذا ذُكِر من يُحبّ غير الله، قال تعالى: {وَالَّذِيْنَ آمَنُوْا أَشَدُّ حُبَّاً للهِ} 1، وإذا ذُكِر محبّتهم لربّهم، ذُكِرت محبّته لهم، وجهادهم؛ كما في قوله: {فَسَوْفَ يَأْتِيْ اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّوْنَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِيْنَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَاْفِرِيْنَ يُجَاْهِدُوْنَ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ وَلا يَخَاْفُوْنَ لَوْمَةَ لائِمٍ} 2، وفي مثل قوله: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُوْلِهِ وَجِهَاْدٍ فِيْ سَبِيْلِهِ} 3. ولهذا كانت القلوب [تطمئنّ بذكره] 4؛ كما قال تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوْبُ} 5؛ فتقديم المفعول يدلّ على أنّها لا تطمئِنّ إلا بذكره، [و] 6 هو تعالى إذا ذُكِرَ وَجِلَتْ، فحصل لها اضطراب ووجل لما [تخافه] 7 من [دونه] 8، و [تخشاه] 9 من فوات نصيبها منه. فالوجل إذا ذُكر حاصل بسبب من الإنسان، وإلا فنفس ذكر الله يوجب الطمأنينة؛ لأنّه هو المعبود لذاته، والخير كلّه منه؛ قال تعالى: {نَبِّئْ عِبَاْدِيْ أَنِّيْ أَنَاْ الْغَفُوْرُ الرَّحِيْمُ وَأَنَّ عَذَاْبِيْ هُوَ الْعَذَاْبُ الألِيْمُ} 10، وقال تعالى: {اِعْلَمُوْا أَنَّ اللهَ شَدِيْدُ العِقَاْبِ وَأَنَّ اللهَ غَفُوْرٌ رَحِيْمٌ} 11. وقال علي رضي الله عنه: "لا يرجونّ

_ 1 سورة البقرة، الآية 165. 2 سورة المائدة، الآية 54. 3 سورة التوبة، الآية 25. 4 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 5 سورة الرعد، الآية 28. 6 ما بين المعقوفتين ليس في ((ط)) ، وهو في ((خ)) ، و ((م)) . 7 في ((خ)) : يخافه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 8 في ((خ)) : دونها. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 9 في ((خ)) : يخشاه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 10 سورة الحجر، الآيتان 49-50. 11 سورة المائدة، الآية 98.

عبدٌ إلا ربّه، ولا يخافنّ عبدٌ [إلا] 1 ذنبه)) 2؛ فالخوف الذي يحصل عند ذكره، هو بسبب [من] 3 العبد، وإلا فذكر الربّ نفسه يحصل الطمأنينة والأمن؛ فما أصابك من حسنةٍ فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك؛ كما قال ذلك المريض الذي سُئل: كيف تجدك؟ فقال: أرجو الله، وأخاف ذنوبي. فقال [النبيّ صلى الله عليه وسلم] 4: "ما اجتمعا في قلب عبدٍ في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو، وأمّنه ممّا يخاف" 5. ولم يقل بذكر الله توجل القلوب، كما قال: {أَلا بِذِكُرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوْبُ} 6، بل قال: {إِذَاْ ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوْبُهُم} 7، ثمّ قال: {وَإِذَاْ تُلِيَتْ عَلَيْهمْ آيَاْتُهُ زَأْدَتْهُمْ إِيْمَاْنَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكلُوْنَ} 8. وإنّما يتوكّلون عليه لطمأنينتهم إلى كفايته، وأنّه سبحانه حَسْبُ من توكّل عليه؛ يهديه، وينصره،

_ 1 ما بين المعقوفتين ليس في ((ط)) ، وهو في ((خ)) ، و ((م)) . 2 سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن قول عليّ هذا: ما معناه؟ فأجاب رحمه الله: "هذا الكلام يؤثر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو من أحسن الكلام، وأبلغه، وأتمّه؛ فإنّ الرجاء يكون للخير، والخوف يكون من الشرّ، والعبد إنّما يُصيبه الشرّ بذنوبه....." إلى آخر كلامه القيّم رحمه الله تعالى. انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 8161-181. 3 ما بين المعقوفتين ليس في ((ط)) ، وهو في ((خ)) ، و ((م)) . 4 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 5 جزء من حديث رواه الترمذي في جامعه 3302، كتاب الجنائز، رقم 983، وقال: حديث غريب. وابن ماجه - من حديث أنس - في سننه 21423، كتاب الزهد، باب ذكر الموت والاستعداد له. وقال الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب 4163: إسناده حسن. وقال عنه الشيخ الألباني: "رجاله ثقات، وفي سيار بن حاتم كلامٌ لا يضرّ. فالسند حسن". مشكاة المصابيح 1506. 6 سورة الرعد، الآية 28. 7 سورة الأنفال، الآية 2. 8 سورة الأنفال، الآية 2.

ويرزقه بفضله، ورحمته، وجوده. فالتوكّل [عليه] 1 يتضمّن الطمأنينة إليه، والاكتفاء به عمّا سواه. وكذلك قال في الآية الأخرى: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاْحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوْا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِيْنَ الَّذِيْنَ إِذَاْ ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوْبُهُمْ وَالصَّاْبِرِيْنَ عَلَى مَاْ أَصَاْبَهُمْ وَالْمُقِيْمِيْ الصَّلاةِ وَمِمَّاْ رَزَقْنَاْهُمْ يُنْفِقُوْنَ} 2، فهم مُخبتون. والمُخبت: المطمئنّ الخاضع لله. والأرض [الخبت] 3: [المطمئنّة] 4. روى ابن أبي حاتم من حديث ابن مهدي، عن الثوري، عن ابن أبي نجيح: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِيْنَ} ، قال: المطمئنّين5. وعن الضحّاك: المتواضعين6؛ فوصفهم بالطمأنينة مع الوجل، كما وصفهم هناك بالتوكّل عليه مع الوجل، وكما قال في وصف القرآن: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُوْدُ الَّذِيْنَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِيْنُ جُلُوْدُهُمْ وَقُلُوْبُهُمْ إِلَىْ ذِكْرِ اللهِ} 7. فذكر أنّه بعد الاقشعرار تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله؛ فذكره بالذات يوجب الطمأنينة، وإنّما الاقشعرار والوجل عارضٌ بسبب ما في نفس الإنسان من التقصير في حقّه، والتعدّي لحدّه؛ فهو كالزبد مع ما ينفع النّاس: الزبد يذهب جفاء، وما ينفع النّاس يمكث في الأرض.

_ 1 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 2 سورة الحج، الآيتان 34-35. 3 ما بين المعقوفتين ليس في ((ط)) ، وهو في ((خ)) ، و ((م)) . 4 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، و ((م)) ، وهو في ((ط)) . 5 تفسير مجاهد ص 425، وفيه عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِيْنَ} ، قال: المطمئنّين. وكذلك تفسير الطبري 9151. 6 رواه الطبري في تفسيره عن قتادة. انظر: تفسيره 9151. 7 سورة الزمر، الآية 23.

فالخوف مطلوبٌ لغيره، ليدعو النّفس إلى فعل الواجب، وترك المحرّم. وأمّا الطمأنينة بذكره، وفرح القلب به، ومحبّته، فمطلوب لذاته. ولهذا يبقى معهم هذا في الجنّة، فيُلهَمون التسبيح، كما يُلهَمون النَّفَس1. اللذات عند الفلاسفة ثلاث والمتفلسفة2 رأوا اللّذّات في الدنيا ثلاثة3: حسيّة، ووهميّة،

_ 1 أخرج مسلم في صحيحه، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "إنّ أهل الجنّة يأكلون فيها، ويشربون، ولا يتفلون، ولا يبولون، ولا يتغوّطون، ولا يمتخطون". قالوا: فما بال الطعام؟ قال: "جشاء، ورشح كرشح المسك، يُلهمون التسبيح والتحميد، كما يُلهمون النَّفس". صحيح مسلم 42180-2181، كتاب الجنّة وصفة نعيمها وأهلها، باب في صفات أهل الجنّة وتسبيحهم فيها بكرة وعشيّاً. ومسند الإمام أحمد 3349. وانظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب 2211. 2 الفلاسفة هم طائفة من اليونانيّين يشتغلون بالفلسفة، ولهم أقوال مختلفة. وكلمة فلسفة كلمة يونانيّة مركّبة من فيلو، ومعناها: محبّ، وسوفيا، ومعناها: الحكمة. فالفيلسوف هو محبّ الحكمة. ومذهبهم: أنّ العالّم قديم، وعلّته مؤثّرة بالإيجاب، وليست فاعلة بالاختيار. وأكثرهم ينكرون علم الله تعالى، وينكرون حشر الأجساد. وتأثّر بهم كثيرٌ ممّن أراد أن يجمع بين الشريعة والفلسفة؛ مثل ملاحدة الصوفيّة، والشيعة. انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل 141. والملل والنحل 2155. والمعجم الفلسفي ص 138-140. والجواب الصحيح 622-45. وكتاب الصفدية 1267،، 2323. والرد على المنطقيّين ص 332. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن الفلسفة: "والفلسفة هي باطن الباطنيّة، ولهذا صار في هؤلاء نوع من الإلحاد، فقلّ أن يسلم من دخل مع هؤلاء في نوع من الإلحاد في أسماء الله وآياته، وتحريف الكلم عن مواضعه". درء تعارض العقل والنقل 3269. 3 ولقد شاركهم الرازي، وقسّمها مثل تقسيمهم في آخر كتبه؛ وهو كتاب أقسام اللّذّات، وبيّن أنّها ثلاثة: الحسيّة؛ كالأكل، والشراب، والنكاح، واللباس. واللذة الخياليّة الوهميّة؛ كلذة الرياسة، والأمر، والنهي، والترفع، ونحوها. واللذة العقليّة؛ كلذة العلوم، والمعارف. وهي الحقّ، وأنّ شرف العلم بشرف المعلوم. انظر: اجتماع الجيوش الإسلامية ص 304-305. وجامع الرسائل 2250-251. وانظر: ما سيأتي لاحقاً ص 478.

وعقليّة. والحسيّة في الدنيا غايتها دفع الألم. والوهميّة خيالات [وأضغاث] 1، واللذّة الحقيقيّة هي العلم. فجعلوا جنس العلم غاية، وغلطوا من وجوه: أحدها: أنّ العلم بحسب المعلوم، فإذا كان المعلوم محبوباً تكمل النفس بحبّه، كان العلم به كذلك. وإن كان مكروهاً، كان العلم به لحذره، ودفع ضرره؛ كالعلم بما يضرّ الإنسان من شياطين الإنس والجنّ. فلم يكن المقصود نفس العلم، بل المعلوم. ولهذا قد يقولون: سعادتها في العلم بالأمور الباقية2، وأنّها تبقى ببقاء معلومها. ثمّ يظنّون أنّ الفَلَك والعقول والنفوس أمور باقية، وأنّ بمعرفة هذه تحصل سعادة النفس. وأبو حامد في مثل ((معراج السالكين)) ، ونحوه، يُشير إلى هذا3؛ فإنّ كلامه برزخٌ بين المسلمين وبين الفلاسفة؛ ففيه فلسفة مشوبة بإسلام، وإسلامٌ مشوبٌ بفلسفة4، الغزالي بين المسلمين والفلاسفة ولهذا

_ 1 في ((خ)) رسمت: (واصحار) كذا مهملة. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 انظر: كتاب العلم، ضمن إحياء علوم الدين للغزالي. 3 انظر: معراج السالكين - ضمن مجموعة القصور العوالي 3113-114 -. وقال الغزالي في المضنون به على غير أهله - ضمن القصور العوالي 2162: "وأمّا الكلام في أنّ بعض هذه اللّذّات ممّا لا يُرغَب فيها؛ مثل اللبن، والاستبرق، والطلح المنضود، والسدر المخضود، فهذا ممّا خوطب به جماعة يعظم ذلك في أعينهم، ويشتهونه غاية الشهوة". 4 وقال شيخ الإسلام رحمه الله عنه أيضاً: "ولهذا جعلوا كثيراً من كلامه برزخاً بين المسلمين والفلاسفة المشائين؛ فالمسلم يتفلسف به على طريقة المشائين تفلسف مسلم، والفيلسوف يسلم به إسلام فيلسوف، فلا يكون مسلماً محضاً، ولا فيلسوفاً محضاً على طريقة المشائين". منهاج السنة النبوية 1357. وانظر: بغية المرتاد ص 193، 198، 199. وشرح الأصفهانية 2507.

كان في كتبه؛ كالإحياء، وغيره يجعل المعلوم بالأعمال، والأعمال كلها إنّما غايتها هو العلم فقط1، وهذا حقيقة قول هؤلاء الفلاسفة2، وكان يُعظِّم الزهد3 جداً، ويعتني به أعظم من اعتنائه بالتوحيد الذي جاءت به الرسل؛ وهو عبادة الله وحدَه لا شريك له، وترك عبادة ما سواه؛ فإنّ هذا التوحيد يتضمّن محبّة الله وحده، وترك محبّة المخلوق مطلقاً، إلا إذا أحبّه [لله] 4، فيكون داخلاً في محبّة الله، بخلاف من يُحبّه مع الله؛ فإنّ هذا شرك. وهؤلاء المتفلسفة إنّما يُعظّمون تجريد النفس عن الهيولي5، وهي

_ 1 انظر: إحياء علوم الدين 153. 2 وقال عنهم شيخ الإسلام رحمه الله أيضاً: "ثمّ إنّهم مع إقرارهم بأنّ جعل هذه المعاني الصابئية الفلسفية هي مسميات هذه الأسماء النبوية، أو التي يٌقال إنّها نبويّة، هو من كلام هؤلاء المتفلسفة، يقطعون بذلك في مواضع أُخر. بل فيما يجعلونه من أشرف العلوم والمعارف، حتى إنّهم يجعلونه من العلوم التي يُضنّ بها على غير أهلها، ومن العلم المكنون الذي يُنكره أهل الغرة بالله، ولا يعرفه إلا أهل العلم بالله. وهذا موجود في مواضع كثيرة؛ كما في كتاب التفرقة بين الإيمان والزندقة". بغية المرتاد ص 195-196. 3 انظر: كتاب الزهد، ضمن إحياء علوم الدين 4203-225. 4 في ((م)) ، و ((ط)) : الله. وما أثبت من ((خ)) . 5 قال صاحب التعريفات: "الهيولي: لفظ يوناني، بمعنى الأصل والمادّة. وفي الاصطلاح: هي جواهر في الجسم قابلة لما يعرض لذلك الجسم من الاتصال، والانفصال، محلّ للصورتين: الجسميّة، والنوعيّة". التعريفات ص 321. وقال عنه شيخ الإسلام رحمه الله: "الهيولي في لغتهم بمعنى المحلّ؛ يُقال الفضة هيولي الخاتم والدرهم، والخشب هيولي الكرسيّ؛ أي هذا المحلّ الذي تُصنع فيه هذه الصورة، وهذه الصورة الصناعية عرض من الأعراض. ويدّعون أنّ للجسم هيولي، محلّ الصورة الجسميّة، غير نفس الجسم القائم بنفسه". مجموع الفتاوى 17328.

المادّة، وهي البدن، وهو الزهد في أغراض البدن، و [هو] 1 الزهد في الدنيا. وهذا ليس فيه إلا تجريد النفس عن الاشتغال بهذا؛ فتبقى النفس فارغة؛ فيُلقي إليها الشيطان ما يُلقيه، ويوهمه أنّ ذلك من علوم المكاشفات والحقائق2، وغايته وجود مطلق، هو في الأذهان، لا في الأعيان3. الغزالي جعل السلوك إلى الله ثلاثة منازل ولهذا جعل أبو حامد السلوك إلى الله ثلاثة منازل، بمنزلة السلوك4

_ 1 في ((خ)) : هي. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 يقول الغزالي عن هذه المكاشفات والحقائق التي تحصل له: "وهذه هي العلوم التي لا تسطّر في الكتب، ولا يتحدّث بها من أنعم الله عليه بشيء منها إلا مع أهله، وهو المشارك فيه، على سبيل المذاكرة، وبطريق الإسرار، وهذا هو العلم الخفي". إحياء علوم الدين 120-21. وانظر: المنقذ من الضلال ص 51. ويقول أيضاً في ((كيمياء السعادة)) - ضمن الجواهر الغوالي ص 15-16: "إنّ صاحب الرياضة قد يسمع كلام الله، كما سمعه موسى بن عمران عليه السلام". وانظر: العواصم من القواصم ص 22-23. والرد على المنطقيّين ص509-510. والصفدية 1230. ودرء تعارض العقل والنقل 10281-282. وسير أعلام النبلاء 19333-334. وجامع الرسائل 1163-164. 3 وأوضح شيخ الإسلام رحمه الله مرادهم من الوجود المطلق: "أنّ الحق هو الوجود المطلق، والفرق بينه وبين الخلق من جهة التعيين، فإذا عُيِّن كان خلقاً، وإذا أُطلق الوجود كان هو الحقّ". بغية المرتاد ص 410. وقال أيضاً - رحمه الله: "ومنتهاهم أن يُثبتوا وجوداً مطلقاً لا حقيقة له إلا في الذهن، لا في الخارج. وهذا منتهى هؤلاء المتفلسفة ومن سلك سبيلهم من المتصوّفة أهل الوحدة والحلول والاتحاد، ومن ضاهاهم من أصناف أهل الإلحاد". درء تعارض العقل والنقل10282. وانظر: المصدر نفسه 1290، 318، 6242. والرد على المنطقيّين ص 309، 522. وشرح حديث النزول ص 97. 4 في ((خ)) : تكرار: (ثلاثة منازل بمنزلة السلوك) . إلا أنّ الذي قابل النسخة تنبّه لهذا التكرار، فوضع (من) في أوله، و (إلى) في آخره؛ علامة على الحذف. والله أعلم.

إلى مكة؛ فإنّ السالك إليها له ثلاثة أصناف من الشغل: الأول: تهيئة الأسباب؛ كشراء الزاد، والراحلة، وخرز الراوية1. والآخر: السلوك، ومفارقة الوطن، بالتوجّه إلى الكعبة، منزلاً بعد منزل. والثالث: الاشتغال بأركان الحجّ، ركناً بعد ركن، ثمّ بعد النزوع2 عن لبسة الإحرام، وطواف الوداع، استحقّ التعرّض للملك، والسلطنة. قال: فالعلوم ثلاثة3: قسمٌ يجري مجرى سلوك البوادي، وقطع العقبات؛ وهو تطهير الباطن عن كدورات الصفات، وطلوع تلك [العقبة] 4 الشامخة التي عجز عنها الأوّلون والآخرون، إلا الموفّقون. قال5: فهذا سلوك للطريق، وتحصيل علمه6؛ كتحصيل علم جهات الطريق، ومنازله. وكما لا يغني علم المنازل وطريق البوادي دون سلوكها، فكذا لا يغني علم تهذيب الأخلاق دون مباشرة التهذيب. لكن المباشرة دون العلم، غير ممكن. قال: وقسم ثالث يجري مجرى نفس الحج وأركانه؛ وهو العلم بالله، وصفاته، وملائكته، وأفعاله، وجميع ما ذكرناه في تراجم علم المكاشفة.

_ 1 خرز الرواية خياطة الأدم. لسان العرب 5344، والمصباح المنير ص 166 والمقصود خياطة القربة للماء. 2 في إحياء علوم الدين: ثمّ بعد الفراغ والنزوع. 3 ذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالىهنا القسمين الثاني والثالث من العلوم التي ذكرها الغزالي في الإحياء، وترك الأول منها؛ وهو: "قسم يجري مجرى إعداد الزاد والراحلة، وشراء الناقة؛ وهو علم الطب، والفقه، وما يتعلّق بمصالح البدن في الدنيا". إحياء علوم الدين 154. 4 في ((خ)) : العاقبة. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 أي أبو حامد الغزالي. 6 أي علم الطريق.

قال: وها هنا نجاة وفوز بالسعادة. والنجاة حاصلة لكلّ سالك للطريق، إذا كان غرضه المقصد؛ وهو السلامة. وأمّا الفوز بالسعادة: فلا ينالها إلا العارِفون؛ فهم المقرّبون المنعّمون في جوار الله بالروح، والريحان، وجنّة نعيم1. وأما الممنوعون دون ذروة الكمال، فلهم النجاة والسلامة؛ كما قال تعالى: {فَأَمَّاْ إِنْ كَاْنَ مِنَ الْمُقَرَّبِيْن فَرَوْحٌ وَرَيْحَاْنٌ وَجَنَّةُ نَعِيْمٍ وَأَمَّاْ إِنْ كَاْنَ مِنْ أَصْحَاْبِ الْيَمِيْنِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَاْبِ الْيَمِيْن} 2. وقال: وكل من لم يتوجّه إلى المقصد، أو انتهض إلى جهته لا على قصد الامتثال بالأمر والعبوديّة، بل لغرض عاجل، فهو من أصحاب الشمال، ومن الضالّين؛ فله نزلٌ من حميم وتصلية جحيم. قال: واعلم أنّ هذا هو الحق اليقين عند العلماء الراسخين في العلم؛ أعني أنّهم أدركوه بمشاهدة من الباطن. ومشاهدة الباطن أقوى وأجلّ من مشاهدة الأبصار3، وترقّوا فيه عن حدّ التقليد إلى الاستبصار4.

_ 1 في ((م)) ، و ((ط)) : وجنّةٍ، ونعيم - بزيادة الواو. 2 سورة الواقعة، الآيات 88-91. 3 والغزالي يمتدح الصوفية بأنها أفضل الطرق الموصلة للمكاشفات، فيقول: "ومن أول الطريقة تبتدي المكاشفات والمشاهدات، حتى إنّهم في يقظتهم يُشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء، ويسمعون منهم أصواتاً، ويقتبسون منهم فوائد. ثمّ يترقّى الحال من مشاهدة الصور والأمثال إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق، فلا يحاول معبّر أن يُعبّر عنها، إلا اشتمل لفظه على خطأ صريح لا يمكنه الاحتراز منه". المنقذ من الضلال ص 50. 4 إحياء علوم الدين للغزالي 154-55، مع اختلاف يسير جداً في بعض الكلمات.

تعليق شيخ الإسلام على كلام الغزالي قلت: وكلامه من هذا الجنس كثير، ومن لم يعرف حقيقة مقصده [يهوله] 1 مثل هذا الكلام؛ لأنّ صاحبه يتكلّم بخبرة ومعرفة بما يقوله، لا بمجرد تقليدٍ لغيره. لكنّ الشأن فيما خبره، هل هو حقّ مطابق. ومن سلك مسلك المتكلمين؛ الجهميّة، والفلاسفة، ولم يكن عنده خبرة بحقائق ما بعث به رسله، وأنزل به كتبه، بل ولا بحقائق الأمور عقلاً وكشفاً، فإنّ هذا الكلام غايته. [و] 2 أمّا من عرف حقيقة ما جاءت به الرسل، أو عرف مع ذلك بالبراهين العقليّة والمكاشفات الشهوديّة صدقَهم فيما أخبروا؛ فإنّه يعلم غاية مثل هذا [الكلام] 3، وأنّه إنّما ينتهي إلى التعطيل4. ولهذا ذاكرني مرة شيخ جليل له معرفة، وسلوك، وعلم في هذا، فقال: كلام أبي حامد يشوقك، فتسير خلفه، منزلاً بعد منزل، فإذا هو ينتهي إلى لا شيء5.

_ 1 في ((ط)) : فهو له. وما أثبت من ((خ)) ، و ((م)) . 2 ما بين المعقوفتين ليس في ((م)) ، و ((ط)) . 3 في ((ط)) : كالكلام. 4 قال شيخ الإسلام رحمه الله عن الغزالي، وما تؤول إليه حاله: (وما يُشير إليه أحياناً في الإحياء وغيره، فإنّه كثيراً ما يقع في كلامه ما هو مأخوذ من كلام الفلاسفة، ويخلطه بكلام الصوفيّة، أو عباراتهم، فيقع فيه كثيرٌ من المتصوّفة الذين لا يُميّزون بين حقيقة دين الإسلام، وبين ما يخالفه من الفلسفة الفاسدة وغيرها، لا سيّما إذا بُني على ذلك، واتُّبِعت لوازمه، فإنّه يُفضي إلى قول ابن سبعين وابن عربي صاحب الفصوص وأمثالهما، ممّن يقول بمثل هذا الكلام، وحقيقة مذهبهم يؤول إلى التعطيل المحض، وأنّه ليس للعالَم ربّ مباين له، بل الخالق هو المخلوق، والمخلوق هو الخالق) . جامع الرسائل 1164. 5 لم أعرف هذا الرجل الذي شافه شيخ الإسلام بشأن حال الغزالي. وللإمام الطرطوشي عبارة في حال الغزالي، مثل ما ذكر هذا الرجل. انظر: سير أعلام النبلاء 19339، 494.

وهذا الذي جعله هنا الغايةَ، وهو: معرفة الله، وصفاته، وأفعاله، وملائكته، قد ذكره في ((المضنون به على غير أهله)) 1، وهو فلسفة محضة. قولُ المشركين من العرب خيرٌ منه، دع قول اليهود والنصارى. بل قوم نوح، وهود، وصالح، ونحوهم كانوا يُقرّون بالله، وبملائكته، وصفاته، وأفعاله، خيراً من هؤلاء. [لكن] 2 لم يُقرّوا بعبادته وحده لا شريك له، ولا بأنّه أرسل رسولاً من البشر. حقيقة قول الفلاسفة في أصول الدين [وهذا حقيقة قول] 3 هؤلاء؛ فإنّهم لا يأمرون بعبادة الله وحده لا شريك له، ولا يُثبتون حقيقة الرسالة، بل النّبوّة عندهم فيضٌ من جنس المنامات4. وأولئك الكفّار ما كانوا يُنازعون في هذا الجنس؛ فإنّ هذا الجنس موجود لجميع بني آدم، ومع هذا فقد أخبر الله تعالى عنهم أنّهم كانوا يُقرّون بالملائكة؛ كما قال: {فَإِنْ أَعْرَضُوْا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاْعِقَةً مِثْلَ صَاْعِقَةِ عَاْدٍ وَثَمُوْدَ

_ 1 المضنون به على غير أهله - ضمن القصور العوالي - 2126-153. 2 في ((خ)) : ثمّ من. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 ما بين المعقوفتين ساقطٌ من ((ط)) ، وهو في ((خ)) ، و ((م)) . 4 انظر: المضنون به على غير أهله - ضمن القصور العوالي - 2143، 149-150. وانظر: معارج القدس في مدارج معرفة النفس ص 151؛ حيث سلك فيه طريقة الفلاسفة في النبوة، وأنّها ثلاث: قوة التخييل، وقوة العقل، وقوة النفس. ولاحظ كتاب الصفدية لشيخ الإسلام 1230، وفيه ينقل عن الغزالي: (أنّه قد يسمع نفس الخطاب الذي سمعه موسى) . وانظر: سير أعلام النبلاء 19333-334.

إِذْ جَاْءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيْهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوْا إِلاَّ اللهَ قَاْلُوا لَوْ شَاْءَ رَبُّنَاْ لأَنْزَلَ مَلائِكَةً} 1. وقال [قوم] 2 نوح: {مَاْ هَذَاْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيْدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاْءَ اللهُ لأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَاْ سَمِعْنَاْ بِهَذَاْ فِيْ آبَاْئِنَاْ الأَوَّلِيْنَ} 3. بل فرعون قال لموسى: {أَمْ أَنَاْ خَيْرٌ مِنْ هَذَاْ [الَّذِيْ] 4 هُوَ مَهِيْنٌ وَلا يَكَاْدُ يُبِيْنُ فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاْءَ مَعَهُ المَلائِكَةُ مُقْتَرِنِيْنَ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاْعُوْهُ إِنَّهُمْ كَاْنُوْا قَوْمَاً فَاْسِقِيْنَ} 5. والعبادات كلّها عندهم مقصودها تهذيب الأخلاق. والشريعة سياسة مدنيّة. والعلم الذي يدّعون الوصول إليه لا حقيقة لمعلومه في الخارج6. والله أرسل رسوله بالإسلام والإيمان بعبادة الله وحده، وتصديق الرّسول فيما أخبر؛ فالأعمال عبادة الله، والعلوم تصديق الرّسول. وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ في ركعتي الفجر تارةً بسورتي الإخلاص7، وتارةً: {قُوْلُوْا

_ 1 سورة فصلت، الآية 13-14. 2 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 3 سورة المؤمنون، الآية 24. 4 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) . 5 سورة الزخرف، الآيات 52-55. 6 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إنّ الموجودات العقلية التي يُثبتها هؤلاء من واجب الوجود؛ كالعقول العشرة التي هي عند التحقيق لا توجد إلا في الأذهان، لا في الأعيان. والواحد المجرّد الذي يقولون إنه صدر عنه العالم، لا يوجد إلا في الأذهان، لا في الأعيان. والوجود المطلق الذي يقولون إنه الوجود الواجب إنّما يُوجد في الأذهان لا في الأعيان". كتاب الصفدية 1243. وانظر: مناظرات شيخ الإسلام لعلمائهم، وفضحه لأصولهم ومعتقداتهم، وبيانه - رحمه الله - أنّ آخر أمرهم ينتهي إلى الوجود المطلق، وهو في الأذهان لا في الأعيان: في كتاب الصفدية 1296، 302، 303. 7 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعتي الفجر: {قُلْ يَاْ أَيُّهَاْ الْكَاْفِرُوْنَ} ، و {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} . أخرجه البخاري في كتاب التهجّد 272، باب ما يُقرأ في ركعتي الفجر. ومسلم 1502، كتاب صلاة المسافرين، باب في استحباب ركعتي سنة الفجر. وأخرج الترمذي في جامعه 3607، كتاب الحج، باب ما يُقرأ في ركعتي الطواف، من حديث جابر بن عبد الله الأنصاريّ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعتي الطواف بسورتي الإخلاص: {قُلْ يَاْ أَيُّهَاْ الْكَاْفِرُوْنَ} ، و {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} وانظر: التدمرية ص 5. وكتاب الصفدية 2312. وسمّيتا سورتي الإخلاص؛ لأنّ سورة {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} وصف الله سبحانه بالوحدانيّة، والصمديّة، ونفي الكُفُؤ عنه، والمِثل؛ فاسمه الأحد دلّ على أنّه مستحق لجميع صفات الكمال وحده. وسورة {قُلْ يَاْ أَيُّهَاْ الْكَاْفِرُوْنَ} ، فيها إيجاب عبادة الله وحده لا شريك له، والتبري من عبادة كلّ ما سواه. وأمّا من حيث الدلالة: ف {قُلْ يَاْ أَيُّهَاْ الْكَاْفِرُوْنَ} : متضمّنة للتوحيد العمليّ الإراديّ؛ وهو إخلاص الدين لله بالقصد والإرادة. وأمّا سورة {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} : فمتضمّنة للتوحيد القولي العلميّ؛ كما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنّ رجلاً كان يقرأ: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} في صلاته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سلوه لم يفعل ذلك؟ فقال: لأنّها صفة الرحمن، فأنا أُحبّ أن أقرأ بها. فقال: "أخبروه أنّ الله يُحبّه". انظر: التحفة المهدية ص 28.

آمَنَّاْ بِاللهِ وَمَاْ أُنْزِلَ إِلَيْنَاْ} 1 الآية؛ فإنّها تتضمّن الإيمان، والإسلام. وبالآية من آل عمران: {قُلْ يَاْ أَهْلَ الْكِتَاْبِ تَعَاْلَوْا إِلَىْ كَلِمَةٍ سَوَاْءٍ بَيْنَنَاْ وَبَيْنَكُمْ} 23. فلاسفة الصوفية الذين تأثروا بكلام الغزالي [والذين] 4 سلكوا خلف أبي حامد، أو ضاهوه في السلوك؛ كابن سبعين، وابن عربي، صرّحوا بحقيقة ما وصلوا إليه، وهو أنّ الوجود

_ 1 سورة البقرة، الآية 136. 2 سورة آل عمران، الآية 64. 3 قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم هذه أخرجها مسلم في صحيحه 1504، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب ركعتي سنة الفجر. 4 في ((ط)) : والذي. وما أثبت من ((خ)) ، و ((م)) .

واحد1، وعلموا أنّ أبا حامد لا يُوافقهم على هذا، فاستضعفوه، و [نسبوه] 2 إلى أنّه مقيّد بالشرع والعقل3. وأبو حامد بين علماء المسلمين، وبين علماء الفلاسفة. علماء المسلمين يذمّونه على ما شارك فيه الفلاسفة ممّا يُخالف دين الإسلام. والفلاسفة يعيبونه على ما بقي معه من الإسلام، وعلى كونه لم ينسلخ [منه] 4 بالكليّة إلى قول الفلاسفة. ذم ابن رشد للغزالي ولهذا كان الحفيد ابن رشد5 يُنشد فيه: يوماً يمان إذا ما جئتَ ذا يمنٍ وإن لقيتَ معديّاً فعدناني6

_ 1 وشيخ الإسلام رحمه الله يرى أنّ ابن عربيّ، وابن سبعين؛ من أئمة ملاحدة الصوفيّة تأثّروا بكلام الغزالي، وبنوا أفكارهم على أصله الفاسد. انظر: من كتبه: كتاب الصفدية 1230-244. وجامع الرسائل 1163-164. ودرء تعارض العقل والنقل 6241، 10283. 2 في ((خ)) : نسبه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 انظر: ذمّ ابن سبعين للغزالي في: بد المعارف لابن سبعين ص 144. وكذا انظر: ذمّ ابن طفيل له - وهو من الفلاسفة - في فلسفة ابن طفيل، ورسالته ((حي ابن يقظان)) دراسة عبد الحليم محمود ص 79، نقلاً عن تعليق محقق بغية المرتاد ص110. 4 في ((ط)) : عنه. 5 وابن رشد معدود من الفلاسفة. وقد قال يذمّ الغزالي: (إنّه لم يلزم مذهباً من المذاهب في كتبه، بل هو مع الأشاعرة أشعريّ، ومع الصوفية صوفي، ومع الفلاسفة فيلسوف، حتى أنّه كما قيل: يوماً يمان إذا لاقيتَ ذا يمنٍ وإن لقيتَ معديّاً فعدنانيّ) فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال ص 30. 6 من شعر عمران بن حطان الخارجي. انظر: الكامل للمبرد 2170. والأغاني للأصفهاني 18112. وانظر: منهاج السنة النبوية 1357. ودرء تعارض العقل والنقل 10283.

ذم القشيري للغزالي وأبو نصر القشيريّ1، وغيره [ذمّوه] 2 على الفلسفة، وأنشدوا فيه [أبياتاً] 3 معروفة، يقولون فيها: برئنا إلى الله من معشر بهم مرضٌ من كتاب الشفا4 وكم قلت يا قوم أنتم على شفا حفرة ما لها من شَفا فلما استهانوا بتعريفنا رجعنا إلى الله حتى كفا فماتوا على دين [رسطالس] 5 وعشنا على سنة المصطفى6 ذم العلماء له ولهذا كانوا يقولون: أبو حامد قد أمرضه الشفاء7.

_ 1 هو أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم بن هوازن القشيري النيسابوري. قال عنه الذهبي: "النحويّ المتكلّم، وهو الولد الرابع من أولاد الشيخ - أبو القاسم القشيريّ". دخل بغداد، فوعظ بها، فوقع بسببه فتنة بين الحنابلة والشافعيّة، وأُخرج من بغداد لاطفاء الفتنة، فعاد إلى بلده. توفي سنة 514?. انظر: سير أعلام النبلاء 19424. والبداية والنهاية 12200. وطبقات الشافعيّة 7159. 2 ما بين المعقوفتين ملحق من ((خ)) بين السطرين. 3 في ((خ)) : أبيات. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 في ((خ)) ضبطها هكذا: الشِّفَا. وكتب في الحاشية: أي الشفا لابن سينا. 5 نسب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذه الأبيات إلى أبي نصر القشيري في مواضع أخرى من كتبه. انظر: مجموع الفتاوى 9253. والرد على المنطقيين ص 501-511. 6 في ((م)) و ((ط)) : برسطالس. ويقصد به أرسطوطاليس، أحد الفلاسفة اليونان القدماء. انظر: ترجمته ص 227. 7 قال شيخ الإسلام رحمه الله - في موضع آخر: "وقد أنكر أئمة الدين على أبي حامد هذا في كتبه، وقالوا: مرّضه الشفاء؛ يعني شفاء ابن سينا في الفلسفة". مجموع الفتاوى 10551. وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "ومادّة أبي حامد في الفلسفة من كلام ابن سينا، ولهذا يُقال: أبو حامد أمرضه الشفاء، ومن كلام أصحاب رسائل إخوان الصفا، ورسائل أبي حيّان التوحيديّ، ونحو ذلك". بغية المرتاد ص 449. وانظر: أيضاً: مجموع الفتاوى 655. والرد على المنطقيّين ص 511.

وكذلك الطرطوشي1، والمازري2، وابن عقيل3، وأبو البيان4،

_ 1 هو محمد بن الوليد بن محمد بن خلف القرشي الفهري الأندلسي. قال عنه الذهبي: الإمام العلامة القدوة الزاهد شيخ المالكية عالم الاسكندرية. وطرطوشة هي آخر حدّ المسلمين من شمالي الأندلس. ولد فيها سنة 451 ? ورحل إلى المشرق، وأخذ عن العلماء، وحجّ، وسكن الاسكندرية، وتخرج على يديه نحو من مائتي فقيه مفت. توفي سنة 520?. ومن كتبه كتاب كبير عارض به إحياء علوم الدين للغزالي، وكتاب الحوادث والبدع، وسراج الملوك، وغيرها. انظر: سير أعلام النبلاء 19490. والأعلام 7133، 134. وشذرات الذهب 4602. وانظر: كلامه عن الغزالي في: سير أعلام النبلاء 19334، 339، 494، 495. وطبقات الشافعيّة للسبكي 6243. 2 هو أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر التميمي المازري، محدث من فقهاء المالكية. قال عنه الذهبي: "وكان بصيراً بعلم الحديث. وقال عنه القاضي عياض: هو آخر المتكلمين، من شيوخ أفريقية بتحقيق الفقه ورتبة الاجتهاد ودقة النظر". ولد سنة 453 هـ، وتوفي سنة 536هـ. من مؤلفاته: الكشف والإنباء في الرد على الإحياء، والمعلم بفوائد مسلم. انظر: سير أعلام النبلاء 20104. وشذرات الذهب 4114. والأعلام للزركلي 6277. وانظر: كلامه على الغزالي في سير أعلام النبلاء 19330-332، 340-342. وطبقات الشافعية للسبكي 6240-242. 3 ترجمة ابن عقيل سبقت. 4 هو نبأ بن محمد بن محفوظ القرشي، أبو البيان الدمشقي الشافعي. قال عنه الذهبي: "اللغوي الأثري الزاهد، شيخ البيانيّة، وصاحب الأذكار المسجوعة..... وكان حسن الطريقة، صيِّناً، ديِّناً، تقياً، محبّاً للسنة والعلم والأدب، له أتباع ومحبّون". توفي سنة 551 ?. انظر: سير أعلام النبلاء 20326، 327. وطبقات الشافعيّة للسبكي 7318-320. والبداية والنهاية 12235. وشذرات الذهب 4160.

وابن حمدين1، ورفيق أبي حامد؛ أبو نصر المرغيناني2، وأمثال

_ 1 هو أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد بن عبد العزيز بن حمدين الأندلسي المالكي، قاضي الجماعة. قال الذهبي عنه: "صاحب فنون ومعارف وتصانيف. ولي القضاء ليوسف بن تاشفين في قرطبة. توفي سنة 508 ?، وكان ذكياً بارعاً في العلم، متفنناً، أصولياً، لغوياً، شاعراً، حميد الأحكام.... وكان يحطّ على الإمام أبي حامد في طريقة التصوف، وألّف في الردّ عليه". سير أعلام النبلاء 19422. وانظر: نفح الطيب 3537. وقد أفتى قاضي الجماعة ابن حمدين مع بعض العلماء في إتلاف كتاب ((إحياء علوم الدين)) ، ورفعوا أمرهم إلى أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين، فأصدر أمره إلى جميع الأقاليم بمصادرة الكتاب وإحراقه. وأحرق بحضور جماعة من أعيان قرطبة وعلمائها، يتقدمهم قاضي الجماعة ابن حمدين. وكان ذلك سنة 503 ?. انظر: الحلل الموشية في ذكر أخبار المراكشية ص 104. وسير أعلام النبلاء 19327 - في ترجمة القاضي عياض - وكذلك عصر المرابطين والموحدين لمحمد عبد الله عنان ص 79. 2 وهو أبو الحسن علي بن أبي بكر بن عبد الجليل الفرغاني المرغيناني. من أكابر فقهاء الحنفية. كان حافظاً مفسّراً محققاً أديباً. من مؤلفاته: الهداية في شرح البداية، ومنتقى الفروع. ولد سنة 530?، وتوفي سنة 593?. انظر: الأعلام 4266. وقد كنّاه شيخ الإسلام هنا أبو نصر. والصحيح أبو الحسن؛ كما ذكر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله في بعض مؤلفاته. انظر: بغية المرتاد ص 281. ودرء تعارض العقل والنقل 6239. وكتاب الصفدية 1210. ومجموع الفتاوى 466. والأعلام 4266.

هؤلاء1 لهم كلامٌ كثيرٌ في ذمّه على ما دخل فيه من الفلسفة. ولعلماء الأندلس في ذلك مجموع كبير. مراتب الناس عند ابن سبعين ولهذا لما سلك خلفه ابن عربي2، وابن سبعين3، كان ابن سبعين في كتاب [ ((البد)) ] 4 وغيره، يجعل الغاية هو المقرّب؛ وهو نظير المقرّب

_ 1 وممن ذمّ الغزالي من غير هؤلاء، وذكرهم شيخ الإسلام رحمه الله في كتبه الأخرى: أبو بكر بن العربي، وأبو عبد الله الذكي، ومحمود الخوارزمي، ويوسف الدمشقي، وأبو الفرج بن الجوزي، وأبو محمد المقدسي، وأبو عمرو بن الصلاح، وأولاد القشيري، وغيرهم من الشافعيّة. وأبو الحسن بن شكر، وأبو زكريا النووي. كما تكلم فيه الكردري وغيره من أصحاب أبي حنيفة. انظر: درء تعارض العقل والنقل 6239، 240. وبغية المرتاد ص 280-281. وكتاب الصفدية 210-211. ومجموع الفتاوى 466. ونقض المنطق ص56. وكذلك القاضي عياض، نقل كلامه الذهبي في سير أعلام النبلاء 19327. وذكر الزبيدي في اتحاف السادة المتقين 140، الذين أنكروا على الغزالي، أنّهم: "طوائف شتى؛ ما بين مغاربة، ومشارقة، ومالكية، وشافعية، وحنابلة ... ". 2 هو أبو بكر محمد بن علي بن محمد بن عربي الحاتمي الطائي. من أئمة فلاسفة الصوفية أهل الزندقة والإلحاد. قال عنه الذهبي: قدوة القائلين بوحدة الوجود. ولد بالأندلس عام 560، وتوفي بدمشق عام 638?. انظر: البداية والنهاية 13167. وشذرات الذهب 5190. والأعلام 6281. 3 هو عبد الحق بن إبراهيم بن محمد بن نصر بن سبعين. يُعدّ من فلاسفة الصوفية ومن القائلين بوحدة الوجود. ولد سنة 613، ومات سنة 668 بمكة. انظر: البداية والنهاية 13275. وشذرات الذهب 5329. والأعلام 3280. وانظر: مقدمة تحقيق بغية المرتاد ص 135-144. 4 في ((م)) ، و ((ط)) : اليد. وكتاب ((البد)) هو: ((بد العارف)) لابن سبعين، وهو مطبوع. (نقلاً عن شرح الأصفهانية 2548) .

في كلام أبي حامد، ويجعل المراتب خمسة: أدناها الفقيه، ثمّ المتكلّم، ثمّ الفيلسوف، ثمّ الصوفيّ الفيلسوف؛ وهو السالك، ثمّ المحقّق1. عقائد ابن عربي وابن عربي له أربع عقائد2: الأولى: عقيدة أبي المعالي وأتباعه مجرّدة عن حُجّة. والثانية: تلك العقيدة مبرهنة بحججها الكلاميّة. والثالثة: عقيدة الفلاسفة؛ ابن سينا وأمثاله الذين يُفرّقون بين الواجب والممكن. والرابعة: التحقيق الذي وصل إليه؛ وهو [أنّ] 3 الوجود واحدٌ4. وهؤلاء يسلكون مسلك الفلاسفة الذي ذكره أبو حامد في ميزان

_ 1 قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وهم يُرتّبون الناس طبقات؛ أدناهم عندهم الفقيه، ثمّ المتكلّم، ثمّ الفيلسوف، ثمّ الصوفيّ؛ أي صوفيّ الفلاسفة، ثمّ المحقّق. ويجعلون ابن سينا وأمثاله من الفلاسفة في الثانية، وأبا حامد وأمثاله من الصوفيّة من العشرة، ويجعلون المحقّق هو الواحد". الردّ على المنطقيّين ص 522. وانظر: كتاب الصفدية 1268. وشرح الأصفهانية 2547-548. وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلاماً طويلاً - في موضع آخر - بيَّن فيه معنى المحقّق؛ فقال: "لهذا كان هؤلاء؛ كابن سبعين ونحوه يعكسون دين الإسلام؛ فيجعلون أفضل الخلق: المحقّق عندهم؛ وهو القائل بالوحدة. وإذا وصل إلى هذا فلا يضرّه عندهم أن يكون يهودياً أو نصرانياً، بل كان ابن سبعين، وابن هود، والتلمساني، وغيرهم يُسوّغون للرجل أن يتمسّك باليهوديّة والنصرانيّة؛ كما يتمسّك بالإسلام، ويجعلون هذه طرقاً إلى الله بمنزلة مذاهب المسلمين، ويقولون لمن يختصّ بهم من النصارى واليهود إذا عرفتم التحقيق لم يضرّكم بقاؤكم على ملّتكم، بل يقولون مثل هذا للمشركين عُبّاد الأوثان) . كتاب الصفدية 1268-269. 2 قال ابن عربي في الفتوحات المكية: عقد البرية في الإله عقائداً ... وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه نقلاً عن الفكر الصوفي ص 102. 3 ما بين المعقوفتين ليست في ((خ)) ، وهي في ((م)) ، و ((ط)) . 4 انظر: الفتوحات المكية 131-32، 38. وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "لهذا ذكر ابن عربي في الفتوحات له أربع عقائد؛ الأولى: عقيدة أبي المعالي وأمثاله مجرّدة عن الحجة. ثمّ هذه العقيدة بحجتها. ثمّ عقيدة الفلاسفة. ثمّ عقيدة المحققين؛ وذلك أنّ الفيلسوف يُفرّق بين الوجود والممكن والواجب. وهؤلاء يقولون: الوجود واحد. والصوفي الذي يُعظّمه هؤلاء هو الصوفي الذي عظّمه ابن سينا، وبعده المحقق" الرد على المنطقيين ص 522. وانظر: بغية المرتاد ص 446. وقال رحمه الله أيضاً: "لهذا ذكر ابن عربي في أول الفتوحات ثلاث عقائد؛ عقيدة مختصرة من إرشاد أبي المعالي بحججها الكلامية. ثمّ عقيدة فلسفيّة؛ كأنّها مأخوذة من ابن سينا وأمثاله. ثمّ أشار إلى اعتقاده الباطن الذي أفصح به في فصوص الحكم؛ وهو وحدة الوجود، فقال: وأمّا عقيدة خلاص الخاصّ فتأتي مفرقة في الكتاب" كتاب الصفدية 1267.

العمل؛ وهو: أنّ الفاضل له ثلاث عقائد: عقيدة مع العوامّ يعيش بها في الدنيا؛ كالفقه مثلاً. وعقيدة مع الطلبة يدرّسها لهم؛ كالكلام. والثالثة: [سرٌ] 1 لا يطّلع عليه أحدٌ إلا الخواصّ2.

_ 1 ما بين المعقوفتين ليس في ((م)) ، و ((ط)) . 2 انظر: ميزان العمل ص 405-408. بتحقيق سليمان دنيا. ولخّص د محمد رشاد سالم في تعليقه على كتاب الصفدية 1268 كلام ابن عربي الذي ذكر فيه أنّ له ثلاث عقائد؛ فقال: "كر ابن عربي العقيدة الأولى في ج 1 ص 34 من كتاب الفتوحات المكية، وذكر في آخرها ص 38: "هذه عقيدة العوام من أهل الإسلام أهل التقليد وأهل النظر ملخّصة مختصرة" ثمّ قال بعد ذلك مباشرة: "م أتلوها إن شاء الله بعقيدة الناشئة الشادية ... ثمّ أتلوها بعقيدة خواصّ أهل الله من أهل طريق الله؛ من المحققين أهل الكشف والوجود. وجردتها أيضاً في جزء آخر سمّيته المعرفة، وبه انتهت مقدمة الكتاب. وأما التصريح بعقيدة الخلاصة فما أفردتها على التعيين لما فيها من الغموض، لكن جئتُ بها مبدّدة في أبواب هذا الكتاب مستوفاة مبيّنة، لكنّها كما ذكرنا متفرّقة ... إلخ. وتنتهي مقدمة الكتاب ص 47" والطبعة التي أشار إليها دمحمد رشاد سالم هي طبعة دار الكتب العربية الكبرى، القاهرة، 1329 ?.

المضنون به على غير أهله فلسفة محضة ولهذا صنّف الكتب المضنون بها على غير أهلها، وهي فلسفة محضة، سلك فيها مسلك ابن سينا1. ولهذا يجعل اللوح المحفوظ هو النّفس الفلكيّة2 إلى أمور أخرى قد بُسطت في غير هذا الموضع، ذكرنا ألفاظه بعينها في مواضع؛ منها: الردّ على ابن سبعين وأهل الوحدة، وغير ذلك3؛ فإنّه لمّا انتشر الكلام في مذهب أهل الوحدة، وكنتُ لمّا دخلتُ إلى مصر بسببهم، ثمّ صرتُ في الإسكندرية، جاءني من فضلائهم من يعرف حقيقة أمرهم4، وقال: إن كنتَ تشرح لنا كلام هؤلاء، وتُبيِّن مقصودهم، ثمّ تُبطله، وإلا فنحن لا نقبل منك كما لا نقبل من غيرك؛ سبب تأليف بغية المرتاد السبعينية فإنّ هؤلاء لا يفهمون كلامهم. فقلتُ: نعم! أنا أشرح لك ما شئتَ من كلامهم؛

_ 1 قال د محمد رشاد سالم بعد ذكر عقائد الغزالي الثلاث: "هذا هو السبب الذي جعل الغزالي يكتب كتباً للعامّة، وكتباً أخرى للخواصّ، سمّاها أحياناً بالكتب المضنون بها على غير أهلها. وقد اختلف الباحثون في تعيين هذه الكتب الخاصّة (أو المضنون بها على غير أهلها) ، ولكنّهم اتفقوا على أنّه ألّف كتباً من هذا النوع أودعها أفكاراً لم يتمكّن من التصريح بها لعامّ الناس إشفاقا عليهم من الضلال. ولعلّ هذا التصريح في عناوين كتبه ورسائله مثل الاقتصاد في الاعتقاد، وإلجام العوام عن علم الكلام، والمضنون به على غير أهله" مقارنة بين الغزالي وابن تيمية ص 16-17. وانظر: الجواب الصحيح 539. وشرح الأصفهانية 2547. 2 انظر: المضنون الصغير - ضمن القصور العوالي 2183-184. ومشارق الأنوار ص 198. 3 انظر: بغية المرتاد (وهو الرد على ابن سبعين) ص 194، 198، 228، 326، 327. والرد على المنطقيين ص 474، 480. ومجموع الفتاوى 1244-245، 10402-403. 4 ذكر شيخ الإسلام رحمه الله هذه القصة في كتابه الصفدية 1302. وفي الرد على المنطقيين ص 3.

مثل كتاب [البُد] 1، والإحاطة2 لابن سبعين، وغير ذلك. فقال لي: لا، ولكن ((لوح الأصالة)) 3؛ فإنّ هذا يعرفون، وهو في رؤوسهم. فقلتُ له: هاته. فلمّا أحضره شرحتُه له شرحاً بيِّناً، حتى تبيَّن له حقيقة الأمر، وأنّ هؤلاء ينتهي أمرهم إلى الوجود المطلق، فقال: هذا حقّ. وذَكَرَ لي أنّه تناظر اثنان؛ متفلسف سبعينيّ، ومتكلّم على مذهب ابن التومرت4، فقال

_ 1 في ((م)) ، و ((ط)) : اليد. وكتاب ((البد)) هو: بد العارف لابن سبعين، وقد طُبع بتحقيق د. جورج. ونشر في دار الأندلس ودار الكندي سنة 1978 م. انظر: بغية المرتاد ص 48، ح 1. 2 الإحاطة: إحدى رسائل ابن سبعين، وقد طُبعت ضمن رسائل ابن سبعين، تحقيق د عبد الرحمن بدوي، دار الطباعة الحديثة بمصر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "لهذا أمر ابن سبعين أن يُنقش على قبره صاحب نقش فص خاتم الإحاطة. والإحاطة عندهم: هي الوجود المطلق المجرّد الذي لا يتقيّد بقيد، وهو الكلّي الذي لا يتقيّد بإيجاب ولا إمكان" كتاب الصفدية 1285. 3 اسمها: رسالة الألواح؛ وهي ضمن رسائل ابن سبعين. تحقيق د عبد الرحمن بدوي ص 190-200. وهي التي ردّ عليها شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه بغية المرتاد. 4 هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن تومرت البربري المصمودي الهرغي الخارجي بالمغرب، المدّعي أنّه علويّ حسنيّ، وأنّه الإمام المعصوم المهدي. مؤسس دولة الموحدين التي قامت على أنقاض دولة المرابطين. توفي سنة 524 هـ. قال عنه الذهبي: "افق المعتزلة في شيء، والأشعرية في شيء، وكان فيه تشيّع ... وسمّى أصحابه بالموحدين، ومن خالفه بالمجسّمين" انظر: سير أعلام النبلاء 19539-552. وطبقات الشافعيّة للسبكي 6109-117. والبداية والنهاية 12199-200. وشذرات الذهب 470-72. قال عنه شيخ الإسلام رحمه الله: "أقبح من غلوّ هؤلاء: ما كان عليه المتسمّون بالموحدين في متبوعهم الملقّب بالمهدي محمد بن تومرت الذي أقام دولتهم بما أقامها به من الكذب والمحال، وقتل المسلمين، واستحلال الدماء والأموال؛ فعل الخوارج المارقين، ومن الابتداع في الدين، مع ما كان عليه من الزهد والفضيلة المتوسطة، ومع ما ألزمهم به من الشرائع الإسلاميّة، والسنن النبوية؛ فجمع بين خير وشرّ. لكن من أقبح ما انتحلوه فيه: خطبتهم له على المنابر، بقولهم: الإمام المعصوم، والمهدي المعلوم" بغية المرتاد ص 494. وانظر: مجموع الفتاوى 13386. ويُقال إنّهم قتلوا القاضي أبا بكر بن العربي، والقاضي عياض البستي. انظر: بغية المرتاد ص 495. قال عبد الله بن الأشبيري: سمعت عبد المؤمن بن علي القيسيّ، سمعت أبا عبد الله ابن تومرت يقول: أبو حامد الغزالي قرع الباب، وفُتح لنا) . سير أعلام النبلاء 19326.

ذاك: نحن شيخنا يقول بالوجود المطلق1.

_ 1 قال ابن سبعين: "يا هذا! الوجود المطلق هو الله، والمقيّد أنا وأنت، والقدر جميع ما يقع في المستقبل، والمطلق إذا ذكر نفسه ذكر كلّ شيء" الرسالة الرضوانيّة ضمن رسائل ابن سبعين ص 328 - نقلاً عن مقدمة محقق بغية المرتاد ص 140. وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "لهذا كان منتهى محققيهم الوجود المطلق؛ وهو الوجود المشترك بين الموجودات. وهذا إنمّا يكون مطلقاً في الأذهان لا في الأعيان. والمتفلسفة يجعلون الكلي المشترك موضوع العلم الإلهيّ" الرد على المنطقيين ص 309. وانظر: درء تعارض العقل والنقل 6242،، 10298. وبغية المرتاد ص 410. والجواب الصحيح 4304. وقد أشار شيخ الإسلام رحمه الله إلى هذه القصّة في منهاج السنة بتوسّع، فقال: "صاروا يتباهون في التعطيل الذي سمّوه توحيداً أيّهم فيه أحذق، حتى فروعهم تباهوا بذلك كتباهيهم كابن سبعين وأمثاله من أتباع الفلاسفة، وابن التومرت، وأمثاله من أتباع الجهميّة؛ فهذا يقول بالوجود المطلق، وهذا يقول بالوجود المطلق، وأتباع كل منهما يباهون أتباع الآخرين في الحذق في هذا التعطيل. كما قد اجتمع بي طوائف من هؤلاء، وخاطبتهم في ذلك، وصنّفتُ لهم مصنّفات في كشف أسرارهم ومعرفة توحيدهم، وبيان فساده؛ فإنّهم يظنّون أنّ الناس لا يفهمون كلامهم، فقالوا لي: إن لم تُبيِّن وتكشف لنا حقيقة هذا الكلام الذي قالوه ثمّ تُبيِّن فساده، وإلا لم نقبل ما يُقال في ردّه، فكشف لهم حقائق مقاصدهم، فاعترفوا بأنّ ذلك مرادهم. ووافقهم على ذلك رؤوسهم، ثمّ بيّنت ما في ذلك من الفساد والإلحاد حتى رجعوا وصاروا يُصنّفون في كشف باطل سلفهم الملحدين الذين كانوا عندهم أئمة التحقيق والتوحيد والعرفان واليقين". منهاج السنة 3297-298. وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "ولهذا رأيت لابن تومرت كتاباً في التوحيد صرّح فيه بنفي الصفات، ولهذا لم يذكر في مرشدته شيئاً من إثبات الصفات، ولا أثبت الرؤية، ولا قال إنّ القرآن كلام الله غير مخلوق، ونحو ذلك من المسائل التي جرت عادة مثبتة الصفات بذكرها في عقائدهم المختصرة، ولهذا كان حقيقة قوله موافقاً لحقيقة قول ابن سبعين وأمثاله من القائلين بالوجود المطلق موافقة لابن سينا وأمثاله من أهل الإلحاد؛ كما يُقال: إنّ ابن تومرت ذكره في فوائده المشرقية أنّ الوجود مشترك بين الخالق والمخلوق، فوجود الخالق يكون مجرّداً، ووجود المخلوق يكون مقيّداً". درء تعارض العقل والنقل 520. وكذلك انظر: المصدر نفسه: 3438-439، 10298-300. وانظر: رد شيخ الإسلام على ابن تومرت في مجموع الفتاوى 11476-487.

وقال الآخر: ونحن كذلك إمامنا. قلتُ له: والمطلق في الأذهان لا في الأعيان. فتبيّن له ذلك، وأخذ يُصنّف في الردّ عليهم1. ابن تومرت يقول بالوجود المطلق ولم أكن أظنّ ابنَ التومرت يقول بالوجود المطلق، حتى وقفتُ بعد هذا على كلامه المبسوط2، فوجدتُه كذلك، وأنّه كان يقول: الحقّ

_ 1 وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله بعض مناظراته لهؤلاء السبعينيّة، فقال رحمه الله: "وقلتُ لبعض حذّاقهم: هب أنّ هذا الوجود المطلق ثابتٌ في الخارج، وأنّه عين الموجودات المشهودة. فمن أين لك أنّ هذا هو ربّ العالمين الذي خلق السموات والأرض وكلّ شيء. فاعترف بذلك، وقال: هذا ما فيه حيلة". الجواب الصحيح 4313. وانظر: مناظرات أخرى لهؤلاء في: المصدر نفسه 4309-312. وبغية المرتاد ص 520-521. ومنهاج السنة النبوية 828. وكتاب الصفدية 1296. 2 في كتاب ابن تومرت: ((الدليل والعلم)) . وقد نقل عنه شيخ الإسلام بعضَ كلامه، ثمّ ردّ عليه. انظر: درء تعارض العقل والنقل 3439-440. وهناك رد لشيخ الإسلام على المرشدة لابن تومرت، مخطوط، في جامعة الملك سعود بالرياض. وانظر: كلام شيخ الإسلام رحمه الله عن المرشدة لابن تومرت في مجموع الفتاوى 11476-493.

حقّان؛ الحقّ المقيّد، والحقّ المطلق؛ وهو الربّ. وتبيَّنتُ أنّه لا يُثبتُ شيئاً من الصفات، ولا ما يتميّز به موجود عن موجود؛ فإنّ ذلك يُقيّد شيئاً من الإطلاق. وسألني هذا1 عمّا يحتجّون به من الحديث؛ مثل الحديث المذكور في العقل، وأنّ أوّل ما خلق الله تعالى العقل2، ومثل حديث: كنتُ كنزاً لا

_ 1 يعني الرجل الذي في الاسكندرية، الذي طلب منه أن يشرح له كلام أصحاب وحدة الوجود. 2 رواه أبو نعيم في الحلية 7318 عن عائشة بلفظ: ":حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ أوّل ما خلق الله سبحانه وتعالى العقل، فقال: أقبِل، فأقبل. ثمّ قال: أدبِر، فأدبَر. ثمّ قال: ما خلقتُ شيئاً أحسن منك، بك آخذ، وبك أُعطي". قال أبو نعيم: غريب من حديث سفيان. ومنصور الزهري أحد رواة الحديث - لا أعلم له راوياً عن عبد الحميد إلا سهلاً، وأراه واهماً فيه. وقد بيَّن العلماء أنّه حديث موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد قال أبو الفرج ابن الجوزي: هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (الموضوعات لابن الجوزي 1174) . وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "وهذا الحديث كذب موضوع على النبيّ صلى الله عليه وسلم كما ذكر ذلك أهل العلم بالحديث؛ كأبي جعفر العقيليّ، وأبي حاتم البستي، وأبي الحسن الدارقطني، وأبي الفرج بن الجوزي، وغيرهم". الجواب الصحيح 540-41. وانظر: بغية المرتاد ص 171-178. ومجموع الفتاوى 1244، 18122-123، 336-338. ودرء تعارض العقل والنقل 5224. ومنهاج السنة النبوية 815-16. وكتاب الصفدية 1238-239. والرد على المنطقيين ص 196-197. والفرقان بين أولياء الله وأولياء الشيطان ص 206. قال ابن القيم: أحاديث العقل كلها كذب. انظر: المنار المنيف في الصحيح والضعيف ص 66-67. وانظر: اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة للسيوطي 1129-130.

أُعرف، فأحببتُ أن أُعرف1، وغير ذلك؟ فكتبتُ له جواباً مبسوطاً، وذكرتُ أنّ هذه الأحاديث موضوعة، وأبو حامد وهؤلاء لا يعتمدون على هذا، وقد نقلوه إمّا من رسائل إخوان الصفا2، أو من كلام أبي حيان

_ 1 قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وما يروونه: كنتُ كنزاً لا أُعرف، فأحببتُ أن أُعرف، فخلقتُ خلقاً فعرّفتهم بي، فبي عرفوني. هذا ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أعرف له إسناداً صحيحاً ولا ضعيفاً". مجموع الفتاوى 18122. وانظر: المصدر نفسه 18376. ودرء تعارض العقل والنقل 8507. وبغية المرتاد ص 169. وقد حكم عليه بالوضع: السخاوي. انظر: المقاصد الحسنة ص 327. 2 إخوان الصفا: هم جماعة من الإسماعيليّة الباطنيّة، لزموا التكتّم، وألفوا مقالات، وعددها إحدى وخمسون مقالة؛ خمسون منها في خمسين نوعاً من الحكمة، ومقالة حادية وخمسون جامعة لأنواع المقالات. ثمّ بثّوا مقالاتهم وكتموا أسماءهم، وبثوها في الوراقين، ولقّنوها الناس، وزعموا أنّه متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية فقد حصل الكمال. انظر: الامتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي 25. ومجموع الفتاوى 479. وكتاب إخوان الصفا لعمر الدسوقي. وقال شيخ الإسلام رحمه الله عن رسائل إخوان الصفا: "وضعت في أثناء المائة الرابعة لما ظهرت الدولة العبيدية بمصر، وبنوا القاهرة. فصنّفت على مذاهب أولئك الإسماعيليّة كما يدلّ على ذلك ما فيها. وقد ذكروا فيها ما جرى على المسلمين من استيلاء النصارى على سواحل الشام. وهذا إنّما كان بعد المائة الثالثة. وقد عُرف الذين صنّفوها؛ مثل زيد بن رفاعة، وأبي سليمان بن معشر البستي المعروف بالمقدسي، وأبي الحسن علي بن هارون الزنجاني، وأبي أحمد النهرجوري، والعوفي. ولأبي الفتوح المعافى بن زكرياء الجريري صاحب كتاب الجليس والأنيس مناظرة معهم، وقد ذكر ذلك أبو حيّان التوحيدي في كتاب الإمتاع والمؤانسة" منهاج السنة النبوية 2466. وقال رحمه الله أيضاً: "صنّفه طائفة من الذين أرادوا أن يجمعوا بين الفلسفة والشريعة والتشيّع؛ كما كان سلكه هؤلاء العبيديّون". منهاج السنة 811. وانظر: المصدر نفسه 454-55. ودرء تعارض العقل والنقل 510، 26-27. والرد على المنطقيين ص 444. والجواب الصحيح 537-38. وبغية المرتاد ص 180-181. والإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي 23-12.

التوحيدي1، أو من نحو ذلك2. وهؤلاء في الحقيقة من جنس الباطنيّة الإسماعيليّة3، لكنّ أولئك

_ 1 أبو حيان علي بن محمد بن العباس التوحيدي. فيلسوف متصوّف معتزلي. قال أبو الفرج ابن الجوزي: "زنادقة الإسلام ثلاثة: ابن الراوندي، وأبو حيان التوحيديّ، وأبو العلاء المعري. وأشدّهم على الإسلام أبو حيّان؛ لأنّهما صرّحا وهو محجم ولم يُصرّح". وقال الذهبي عنه: "نسب نفسه إلى التوحيد؛ كما سمّى ابن التومرت أتباعه بالموحدين، وكما يُسمي صوفية الفلاسفة نفوسهم بأهل الوحدة، وبالاتحاديّة". مات مستتراً فقيراً عن نيف وثمانين عاماً، وأحرق كتبه، ولم يسلم منها غير ما نقل قبل الإحراق. من كتبه: المقايسات والصراحة، والصديق، والإمتاع والمؤانسة، وغيرها. مات سنة 400 ?. انظر: سير أعلام النبلاء 17119-123. وطبقات الشافعية للسبكي 5286. والأعلام 4326. 2 قال شيخ الإسلام رحمه الله: "والغزالي في كلامه مادة فلسفية كبيرة، بسبب كلام ابن سيناء في الشفاء، وغيره، ورسائل إخوان الصفا، وكلام أبي حيان التوحيدي ... وكلامه في الإحياء غالبه جيّد، لكن فيه موادّ فاسدة؛ مادة فلسفية، ومادة كلامية، ومادة من ترهات الصوفية، ومادة من الأحاديث الموضوعة". مجموع الفتاوى 654-55. وانظر: المصدر نفسه 463-64. وبغية المرتاد ص 449. وسير أعلام النبلاء 19341. ودرء تعارض العقل والنقل 6242. 3 الإسماعيليّة: نسبة إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق. وهم إحدى فرق الباطنية الذين جعلوا لكل ظاهر من الكتاب باطناً، ولكلّ تنزيل تأويلاً، ويخلطون كلامهم ببعض كلام الفلسفة، ويدّعون من الإلهيّة في علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره كدعوى النصيريّة. قال شيخ الإسلام رحمه الله عنهم: "الإسماعيليّة أخذوا من مذاهب الفرس، وقولهم بالأصلين: النور والظلمة وغير ذلك أموراً، وأخذوا من مذاهب الروم من النصرانية، وما كانوا عليه قبل النصرانية من مذهب اليونان وقولهم بالنفس والعقل وغير ذلك. ومزجوا هذا بهذا، وسمّوا ذلك باصطلاحهم السابق والتالي، وجعلوه هو القلم واللوح، وأنّ القلم هو العقل". منهاج السنة النبوية 815. وانظر: الجواب الصحيح 2403-404. ومجموع الفتاوى 7502، 503. ودرء تعارض العقل والنقل 10-11. وانظر: أيضاً: الملل والنحل للشهرستاني 1191-198. والفرق بين الفرق للبغدادي ص 62-82.

يتظاهرون بالتشيّع والرفض، وهؤلاء غالبهم يميلون إلى التشيّع، ويُفضّلون علياً1. ومنهم من يُفضّله بالعلم الباطن، ويُفضّل أبا بكر2 في العلم الظاهر؛ كأبي الحسن [الحرالّي] 3، وفيه نوعٌ من مذهب الباطنيّة الإسماعيليّة، لكن لا يقول بوحدة الوجود مثل هؤلاء، ولا أظنّه يُفضّل غير الأنبياء عليهم؛ فهو أنبل من هؤلاء من وجه، لكنّه ضعيف المعرفة بالحديث، والسير، وكلام الصحابة والتابعين؛ فيبني له أصولاً على أحاديث موضوعة، ويخرج كلامه من تصوّف، وعقليّات، وحقائق. وهو

_ 1 في ((ط)) : رضي الله عنه. 2 في ((ط)) : رضي الله عنه. 3 في ((خ)) ، و ((م)) ، و ((ط)) : الحرلي. وما أثبت من مصادر ترجمته. والحرالّي: هو أبو الحسن علي بن أحمد بن حسن التجيبي الأندلسي الحرالّي - وحرالّه: قرية من عمل مرسيه - ولد في مراكش، ورحل إلى الشرق، وسكن حماه، وتوفي فيها سنة 637 ?. مفسّر من علماء المغرب. قال عنه الذهبي: "كان فلسفيّ التصوف، ملأ تفسيره بحقائقه ونتائج فكره، وزعم أنّه يستخرج من علم الحروف وقتَ خروج الدجال، ووقتَ طلوع الشمس من مغربها". ميزان الاعتدال 3114. وانظر: سير أعلام النبلاء 2347. وشذرات الذهب 5189. والأعلام 4256. ووقع في المخطوطة الحرلي، وكذلك في أصل درء تعارض العقل والنقل 10286. ورجّح الدكتور محمد رشاد سالم رحمه الله أنّه الحرالّي.

خيرٌ من هؤلاء، وفي كلامه أشياء حسنة صحيحة، وأشياء كثيرة باطلة، والله سبحانه [وتعالى] 1 أعلم. الوجه الثاني من أوجه الرد على الفلاسفة الثاني: أنّ صلاح النفس في محبّة المعلوم المعبود؛ وهي عبادته، لا في مجرد علم ليس فيه ذلك، وهم جعلوا غاية النفس التشبّه بالله على حسب الطاقة2، وكذلك جعلوا حركة الفَلَك للتشبّه به3. وهذا ضلال عظيم؛ فإنّ جنس

_ 1 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 2 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إنّ هؤلاء جعلوا غاية الإنسان وكماله في مجرّد أن يعلم الوجود، أو يعلم الحقّ؛ فيكون عالماً معقولاً مطابقاً للعالم الموجود، وهو التشبّه بالإله على قدر الطاقة، وجعلوا ما يأتي به من العبادات والأخلاق إنّما هي شروط وأعوان على مثل ذلك، فلم يُثبتوا كون الربّ تعالى معبوداً مألوهاً يُحَبّ لذاته، ويكون كمال النفس أنها تُحبّه؛ فيكون كمالها في معرفته ومحبّته، بل جعلوا الكمال في مجرّد معرفة الوجود عند أئمتهم، أو في مجرّد معرفته عند من يقرب إلى الإسلام منهم". درء تعارض العقل والنقل 657. وكذا قال رحمه الله في موضع آخر - بعد أن ذكر محبة الله لعباده، ومحبتهم له: "ومن نفى الأولى من الجهميّة والمعتزلة ومن وافقهم، فقد أخطأ. ومن نفى الثانية من المتفلسفة والمتصوفة على طريقتهم فقد أخطأ. مع أنّ هؤلاء المتفلسفة لا يُثبتون حقيقة الأولى، فإنّهم لا يُثبتون أنّ الربّ تُحبّه الملائكة والمؤمنون، وإنّما يجعلون الغاية تشبّههم به، لا حبّهم إياه. وفرقٌ بين أن تكون كوَّن هذا مثل هذا، وبين أن تكون الغاية كون هذا يُحبّه هذا محبّة عبوديّة وذلّ. ولهذا قالوا: "الفلسفة هي التشبّه بالإله على قدر الطاقة". ولهذا كان مطلوب هؤلاء إنّما هو نوع من العلم والقدرة الذي يحصل لهم به شرف. فمطلوبهم من جنس مطلوب فرعون، بخلاف الحنفاء الذين يعبدون الله محبة له وذلاً له". درء تعارض العقل والنقل 669-70. وانظر: المصدر نفسه 670، 3269. وانظر: شرح الطحاوية 188. ومجموع الفتاوى 7536، 17321. والجواب الصحيح 632-37. وجامع الرسائل 2251-252. 3 انظر: مجموع الفتاوى 17329.

التشبّه يكون بين [اثنين] 1 مقصودهما واحد؛ كالإمام والمؤتمّ به. وليس الأمر هنا كذلك. بل الربّ هو معبودٌ لذاته، وهو يعرف نفسه، ويُحبّ نفسه، ويُثني على نفسه، والعبد نجاتُه وسعادته في أن يعرف ربّه، ويُحبّه، ويُثني عليه. والتشبّه به: أن يكون هو [محبوباً لنفسه] 2، مثنياً بنفسه على نفسه. وهذا فسادٌ في حقّه، وضارٌ به. والقوم أضلّ من اليهود والنصارى، بل ومن مشركي العرب؛ فإنّه ليس الربّ عندهم؛ لا رب العالمين وخالقهم؛ ولا إلههم ومعبودهم. ومشركو العرب كانوا يُقرّون بأنّه خالق كلّ شيء، وما سواه مخلوقٌ له محدَث. وهؤلاء الضالّون لا يعترفون بذلك؛ كما قد بُسط في غير هذا الموضع3. الوجه الثالث من أوجه الرد على الفلاسفة والوجه الثالث: أنّهم يظنّون أنّ ما عندهم هو علمٌ بالله. وليس كذلك، بل هو جهل. والرازي لمّا شاركهم4 في بعض أمورهم صار حائراً معترفاً بذلك؛

_ 1 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 2 ما بين المعقوفتين كتب في ((خ)) هكذا: (لنفسه محبوباً) . وعليها علامة ((م)) ؛ وهي علامة على التقديم والتأخير. 3 انظر: حقيقة مذهب الاتحاديّين أو وحدة الوجود ضمن مجموعة الرسائل والمسائل 43-114. وقاعدة في المحبّة ضمن جامع الرسائل 2193-401. ودرء تعارض العقل والنقل 662-70. والرد على المنطقيين ص 282، 394، 521-526. وكتاب الصفدية 1268-273. والفتاوى 7504، 586-597، 631-632، 17295. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 217-230. 4 أي شارك الفلاسفة. انظر: جامع الرسائل 2250.

لمّا ذكر أقسام اللّذّات1، وأنّ اللّذّة العقليّة هي الحقّ؛ وهي لذّة العلم، وأنّ شرف العلم بشرف المعلوم؛ وهو الربّ، وأنّ العلم به ثلاث مقامات: العلم بالذات، والصفات، والأفعال. قال: وعلى كلّ مقامٍ عقدة؛ فالعلم بالذات فيه أنّ وجود الذات: هل هو زائد عليها أم لا؟ وفي الصفات: هل الصفات زائدة على الذات أم لا؟ وفي الأفعال: هل الفعل مقارنٌ أم لا؟. ثمّ قال: ومن الذي وصل إلى هذا الباب؟ أو من الذي ذاق من هذا الشراب؟ نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشةٍ من جسومنا وغاية دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا لقد تأمّلتُ الطرق الكلاميّة، والمناهج الفلسفيّة، فما رأيتُها تشفي عَليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيتُ أقرب الطرق طريقة القرآن؛ اقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَىْ الْعَرْشِ اسْتَوَىْ} 2، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ والْعَمَلُ الصَّاْلِحُ يَرْفَعُهُ} 3، واقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 4، {وَلا يُحِيْطُوْنَ بِهِ عِلْمَاً} 5. ومن جرَّب مثل تجربتي، عرف مثل معرفتي6.

_ 1 ذكر ذلك في كتابه: أقسام اللذات. وقد قال د محمد رشاد سالم عن هذا الكتاب: "وهذا الكتاب مخطوط بالهند، ولم يذكره بروكلمان ضمن مؤلفات الرازي". حاشية درء تعارض العقل والنقل 1160. 2 سورة طه، الآية 5. 3 سورة فاطر، الآية 10. 4 سورة الشورى، الآية 11. 5 سورة طه، الآية 110. 6 ذكر شيخ الإسلام رحمه الله هذا النص عن الرازي في كثير من كتبه، وكذلك تلميذه ابن القيم، والذهبي، مع اختلاف يسير في ألفاظه. وقد سبق أن ذُكر في ص 357-358 من هذا الكتاب. وانظر: مجموع الفتاوى 472-73. ودرء تعارض العقل والنقل 1159-160. وبيان تلبيس الجهمية 1128-129. ومنهاج السنة النبوية 5270-272. واجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم ص 305-306. والمنار المنيف في الصحيح والضعيف ص 85. والصواعق المنزلة - تحقيق د أحمد بن عطية الغامدي، ود علي ابن ناصر الفقيهي - 170. وسير أعلام النبلاء - عند ترجمة الرازي - 21501. والبداية والنهاية لابن كثير 1354. وطبقات الشافعية للسبكي 896. وشرح الطحاوية 1244.

السعادة العلم بالله وما يقرب إليه.. فالسعادة هو أن يكون العلم المطلوب هو العلم بالله وما يُقرّب إليه، ويعلم أنّ السعادة في أن يكون الله هو المحبوب المراد المقصود، ولا يحتجب بالعلم عن المعلوم؛ كما قال ذلك الشيخ العارف للغزالي لمّا قال له: أخلصتُ أربعين صباحاً، فلم يتفجّر لي شيء! فقال: يا بنيّ أنتَ أخلصتَ للحكمة، لم يكن الله هو مرادك، والإخلاص لله أن يكون الله هو مقصود المرء ومراده، فحينئذ تتفجّر ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه؛ كما في حديث مكحول عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "من أخلص لله أربعين صباحاً تفجّرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه"12.

_ 1 رواه أبو نعيم بإسناده عن مكحول، عن أبي أيوب الأنصاري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... وقال: كذا رواه يزيد الواسطي متصلاً، ورواه ابن هارون، ورواه أبو معاوية عن الحجاج، فأرسله. حلية الأولياء 5189. وقال الألباني: حديث ضعيف انظر: السلسلة الضعيفة 155-66. وانظر: المغني عن حمل الأسفار رقم 1652. وانظر: تخريج أحاديث إحياء علوم الدين للحداد 21052، 62406-2407. 2 ذكر شيخ الإسلام رحمه الله هذه الحكاية عن الغزالي في: درء تعارض العقل والنقل 666.

ولهذا تقول العامّة: قيمة كلّ امرئ ما يُحسن1، والعارفون يقولون: قيمة كلّ امرئ ما يطلب2، وفي الإسرائيليّات: يقول الله تعالى: "إنّي لا أنظر إلى كلام الحكيم، وإنّما أنظر إلى همّته"3. فالنفس لها قوة الإرادة مع الشعور، وهما متلازمان. وهؤلاء لحظوا شعورها وأعرضوا عن إرادتها. وهي تتقوّم بمرادها، لا بمجرّد ما [تشعر] 4 به؛ فإنّها تشعر بالخير والشرّ، والنافع والضارّ، ولكن لا يجوز أن يكون مرادها ومحبوبها إلا ما يُصلحها وينفعها؛ وهو الإله المعبود الذي لا يستحقّ العبادة غيره، وهو الله لا إله إلا هو، سبحانه وتعالى عمّا يقول الظالمون علواً كبيراً. العلم الحق ما أخبرت به الرسل ثمّ مع هذا يكون العلم حقاً، وهو ما أخبرت به الرّسل؛ فالعلم الحقّ هو ما أخبروا به، والإرادة النافعة إرادة ما أمروا به؛ وذلك عبادة الله وحده لا شريك له؛ فهذا هو السعادة، وهو الذي اتفقت عليه الأنبياء كلّهم؛ فكلّهم دعوا إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وذلك إنّما يكون بتصديق رسله [وطاعتهم] 5. السعادة متتضمنة للأصلين فلهذا كانت السعادة متضمّنة لهذين الأصلين: الإسلام، والإيمان؛ عبادة الله وحده، وتصديق رسله؛ وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأنّ

_ 1 هذه الحكمة منسوبة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه. انظر: نهج البلاغة 418. 2 انظر: الجواب الصحيح 635. 3 انظر: الجواب الصحيح 635. 4 في ((خ)) : يشعر. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 في ((ط)) : وطاعته. وما أثبت من ((خ)) ، و ((م)) .

محمداً رسول الله، قال تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِيْنَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِيْنَ} 1؛ قال أبو العالية2: هما خصلتان يُسأل عنهما كلّ أحد؛ يُقال: لمن كنتَ تعبد، وبماذا أجبتَ المرسلين3. وقد بُسط هذا في غير هذا الموضع4. والله أعلم. واتبع لها أسعد الناس في الدنيا والآخرة، وخير القرون القرن الذين شاهدوه مؤمنين به وبما يقول؛ إذ كانوا أعرف الناس بالفرق بين الحقّ الذي جاء به وبين ما يُخالفه، وأعظم محبّة لما جاء به وبُغضاً لما خالفه، وأعظم جهاداً عليه. فكانوا أفضل ممّن بعدهم في العلم، والدين، والجهاد؛ أكمل علماً بالحقّ والباطل؛ وأعظم محبّة للحقّ وبُغضاً للباطل؛ وأصبر على متابعة الحقّ، واحتمال الأذى فيه، وموالاة أهله، ومعاداة أعدائه. واتّصل بهم ذلك [إلى] 5 القرن الثاني، والثالث، فظهر ما بُعث به من الهدى ودين

_ 1 سورة الأعراف، الآية 6. 2 هو رفيع بن مهران البصري، أبو العالية الرياحي. أدرك زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو شابّ، وأسلم في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ودخل عليه. روى عن عليّ، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وأبيّ بن كعب، وغيرهم رضي الله عنهم. وهو من ثقات التابعين المشهورين بالتفسير بالمدينة. انظر: سير أعلام النبلاء 4207. والتفسير والمفسرون لمحمد الذهبي 1115. 3 لم أجد هذا الأثر في المصادر التي اطّلعت عليها. 4 انظر: درء تعارض العقل والنقل 662-70. وقاعدة في توحيد الإلهيّة وإخلاص العمل والوجه لله - ضمن مجموع الفتاوى 120-32 - والتدمرية ص 165-178، 195-206، 232-234. ومجموع الفتاوى 1189-310. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 181-182. 5 ما بين المعقوفتين مكانها بياض في ((خ)) ، وهي في ((م)) ، و ((ط)) .

الحقّ على كلّ دين في مشارق الأرض ومغاربها؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "زُوِيَت لي الأرضُ مشارقها ومغاربها، وسيبلغ مُلكُ أُمّتي ما زُوي لي منها"1. وكان لا بُدّ أن يظهر في أمّته ما سبق به القدر، واقتضته نشأة البشر من نوعٍ من التفرّق والاختلاف، كما كان فيما غَبَر. لكن كانت أمّته صلى الله عليه وسلم خيرَ الأمم، فكان الخير فيهم أكثرَ منه في غيرهم، والشرّ فيهم أقلَّ منه في غيرهم؛ كما يعرف ذلك من تأمّل حالهم وحال بني إسرائيل قبلهم. وبنو إسرائيل هم الذين قال الله فيهم: {وَلَقَدْ آتَيْنَاْ بَنِيْ إِسْرَاْئِيْلَ الْكِتَاْبَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاْهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاْتِ وَفَضَّلْنَاْهُمْ عَلَىْ الْعَاْلَمِيْنَ وَآتَيْنَاْهُمْ بَيِّنَاْتٍ مِنَ الأَمْرِ فَمَاْ اخْتَلَفُوْا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَاْ جَاْءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيَاً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِيْ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَاْمَةِ فِيْمَاْ كَاْنُوْا فِيْهِ يَخْتَلِفُوْنَ ثُمَّ جَعَلْنَاْكَ عَلَىْ شَرِيْعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَاْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاْءَ الَّذِيْنَ لا يَعْلَمُوْنَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوْا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئَاً وَإِنَّ الظَّاْلِمِيْنَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاْءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِيْنَ} 2، وقال لهم موسى: {يَاْ قَوْمِ اذْكُرُوْا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيْكُمْ أَنْبِيَاْءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوْكَاً وَآتَاْكُمْ مَاْ لَمْ يُؤْتِ أَحَدَاً مِنَ الْعَاْلَمِيْنَ} 3.

_ 1 أخرجه مسلم في صحيحه 42215-2216، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب في هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض. وأحمد في المسند 5278. وأبو داود في سننه 4450، ح (4252) ، كتاب الفتن والملاحم، باب ذكر الفتن. والترمذي في جامعه 4472، ح (2176) ، كتاب الفتن، باب ما جاء في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً في أمّته. وابن ماجه في سننه 21304، ح (3952) ، كتاب الفتن، باب ما يكون من الفتن. وكلّهم أخرجوه من طريق أبي أسماء الرحبي، عن ثوبان مرفوعاً. 2 سورة الجاثية، الآيات 16-19. 3 سورة المائدة، الآية 20.

خصائص أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإذا كان بنو إسرائيل الذين فضّلهم الله على العالَمين في تلك الأزمان، وكانت هذه الأمة خيراً منهم، كانوا خيراً من غيرهم بطريق الأولى. فكان ممّا خصّهم الله به أنّه لا يُعذّبهم بعذاب عامّ؛ لا من السماء، ولا بأيدي الخلق؛ فلا يُهلكهم بسنة عامة، ولا يُسلّط عليهم عدواً من غيرهم فيجتاحهم؛ كما كان يُسلّط على بني إسرائيل عدوّاً يجتاحهم، حتى لا يبقى لهم دينٌ قائمٌ منصورٌ، ومن لا يقبل منهم يبقى مقهوراً تحت حكم غيرهم. بل لا تزال في هذه الأمّة طائفة ظاهرة على الحقّ إلى يوم القيامة1، ولا يجتمعون على ضلالة2؛ فلا [تزال] 3 فيهم أمّة يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون4. وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "سألتُ ربّي

_ 1 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي يُقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة". رواه مسلم في صحيحه 31524، رقم (173) ، كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين "، و1137، رقم (247) ، كتاب الإيمان، باب نزول عيسى بن مريم حاكماً بشريعة نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم. وأحمد في المسند 3345. وعند البخاري من حديث المغيرة بن شعبة 62667، كتاب الاعتصام، باب قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحقّ" وهم أهل العلم. 2 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنّ الله لا يجمع أمتي على ضلالة". أخرجه الترمذي في جامعه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما 4466، كتاب الفتن، باب ما جاء في لزوم الجماعة. وللحديث شواهد أخرى عن أبي ذر وغيره أخرجها الدارمي في سننه 129. والحاكم في مستدركه 1115. 3 في ((خ)) : يزال. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 قال تعالى: {ولتكن منكم أمّةٌ يدعونَ إلى الخيرِ وَيأمرونَ بالمعروفِ وينهونَ عنِ المُنْكَرِ وأولئك همُ المفلحون} . سورة آل عمران، الآية 104.

ثلاثاً، فأعطاني اثنتين، ومنعني [عن] 1 واحدة؛ سألتُ ربّي أن لا يُسلّط عليهم عدوّاً من غيرهم فيجتاحهم، فأعطانيها؛ وسألتُه أن لا يُهلكهم بسنة عامّة، فأعطانيها؛ وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم، فمنعنيها" 2. معنى البأس وهذا البأس نوعان؛ أحدهما: الفتن التي تجري عليهم. والفتنة تَرِدُ على القلوب، فلا [تعرف] 3 الحقَّ، ولا [تقصده] 4؛ فيؤذي بعضهم بعضاً بالأقوال والأعمال. والثاني: أن يعتدي أهل الباطل منهم على أهل الحقّ منهم، فيكون ذلك محنةً في حقّهم، يُكفّر الله بها سيِّئاتهم، ويرفع بالصبر عليها درجاتهم، وبصبرهم وتقواهم لا يضرّهم كيد الظالمين لهم، بل تكون العاقبة للتقوى، ويكونون من أولياء الله المتقين، وحزب الله المفلحين، وجند الله الغالبين؛ إذا كانوا من أهل الصبر واليقين؛ ف {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِر فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيْعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِيْنَ} 5. والمتعدّي منهم إمّا أن يتوبَ الله عليه كما تاب على إخوة يوسف بعد عدوانهم عليه، وآثره الله عليهم بصبره وتقواه؛ كما قال لمّا قالوا: {أَئِنَّكَ لأَنْتَ يُوْسُفُ قَاْلَ أَنَاْ يُوْسُفُ وَهَذَاْ أَخِيْ قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَاْ إِنَّهُ مِنْ يَتَّقِ وَيَصْبِر فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيْعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِيْنَ قَاْلُوْا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَاْ وَإِنْ كُنَّاْ لَخَاْطِئِيْنَ قَاْلَ لا تَثْرِيْبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاْحِمِيْنَ} 6.

_ 1 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 2 هو جزء من حديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه 42216، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض. 3 في ((خ)) : يعرف. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 في ((خ)) : يقصده. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 سورة يوسف، الآية 90. 6 سورة يوسف، الآيات 90-92.

وكما فعل سبحانه بقادة الأحزاب الذين كانوا عدواً لله وللمؤمنين، وقال فيهم: {لا تَتَّخِذُوْا عَدُوِّيْ وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاْء} 1، ثمّ قال: {عَسَىْ اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِيْنَ عَاْدَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةٌ وَاللهُ قَدِيْرٌ وَاللهُ غَفُوْرٌ رَحِيْمٌ} 2؛ وفي هذا ما دلّ على أنّ الشخص قد يكون عدواً لله، ثمّ يصير وليّاً لله، موالياً لله ورسوله والمؤمنين؛ فهو سبحانه يتوب على من تاب، ومن لم يتب فإلى الله إيابه، وعليه حسابه. وعلى المؤمنين أن يفعلوا معه ومع غيره ما أمر الله به ورسوله؛ من قصد نصيحتهم، وإخراجهم من الظلمات إلى النّور، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر؛ كما أمر الله ورسوله، لا اتّباعاً للظنّ وما تهوى الأنفس، حتى [يكون] 3 من خير أمة أخرجت للنّاس؛ يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالله. وهؤلاء يعلمون الحقّ ويقصدونه، ويرحمون الخلق، وهم أهل صدقٍ وعدلٍ؛ أعمالهم خالصة لله، صوابٌ موافقة لأمر الله؛ كما قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} 4. قال [الفُضَيْل] 5 بن عياض6، وغيره: أخلصه، وأصوبه؛ والخالص أن يكون لله؛ والصواب أن يكون على السنّة7.

_ 1 سورة الممتحنة، الآية 1. 2 سورة الممتحنة، الآية 7. 3 في ((خ)) : تكون. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 سورة الملك، الآية 2. 5 ما بين المعقوفتين لا توجد في ((ط)) . 6 سبقت ترجمته. 7 انظر: تفسير البغوي 4369. وقد أورده شيخ الإسلام ابن تيمية في عدة مواضع من كتبه، انظر: جامع الرسائل 1257، 2226. والعبودية ص 69-70. ومجموع الفتاوى 1333، 7495. والتدمرية ص 233.

دين الإسلام وهو كما قالوا؛ فإنّ هذين الأصلين هما دين الإسلام الذي ارتضاه الله؛ كما قال: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيْنَاً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاْهِيْمَ حَنِيْفَاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاْهِيْمَ خَلِيْلاً} 1؛ فالذي أسلم وجهه لله: هو الذي يُخلص نيّته لله، ويبتغي بعمله وجه الله. والمحسن: هو الذي يُحسن عمله؛ فيعمل الحسنات. والحسنات: هي العمل الصالح. والعمل الصالح: هو ما أمر الله به ورسوله؛ [من] 2 واجبٍ ومستحبٍ. فما ليس من هذا ولاهذا، ليس من الحسنات، والعمل الصالح، فلا يكون فاعله محسناً. وكذلك قال لمن قال: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَاْنَ هُوْدَاً أَوْ نَصَاْرَىْ} 3، قال: {تِلْكَ أَمَاْنِيُّهُمْ قُلْ هَاْتُوْا بُرْهَاْنَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَاْدِقِيْنَ بَلَىْ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُوْنَ} 4. وقد قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيْنَاً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِيْ الآخِرَةِ مِنَ الْخَاْسِرِيْنَ} 5. الإسلام دين جميع الأنبياء والإسلام هو دين جميع الأنبياء والمرسلين ومن اتبعهم من الأمم؛ كما أخبر الله بنحو ذلك في غير موضع6 من كتابه؛ فأخبر عن نوح7،

_ 1 سورة النساء، الآية 125. 2 في ((ط)) : مزن. 3 سورة البقرة، الآية 111. 4 سورة البقرة، الآيتان 111-112. 5 سورة آل عمران، الآية 85. 6 قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} . سورة المائدة، الآية 44. 7 حكى الله تعالى عن نوح عليه السلام أنه قال لقومه: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} . سورة يونس، الآية 72.

وإبراهيم، وإسرائيل1 [عليهم السلام] 2 أنّهم كانوا مسلمين. وكذلك عن أتباع موسى3، وعيسى4 [عليهما السلام] 5، وغيرهم6. معنى الإسلام والإسلام هو أن يَستسلم لله، لا لغيره؛ فيعبد الله ولا يُشرك به شيئاً، ويتوَكَّل عليه وحده، ويرجوه، ويخافه وحده، ويُحبّ الله المحبّة التامّة، لا يُحبّ مخلوقاً كحبّه لله، بل يُحِبّ لله، ويُبغض لله، ويُوالي لله، ويُعادي لله. فمن استكبر عن عبادة الله لم يكن مسلماً، ومن عبد مع الله غيره لم يكن مسلماً. وإنّما تكون عبادتُه بطاعته؛ وهو طاعة رسله؛ [فَمَنْ] 7 يُطع الرسول فقد أطاع الله8؛ فكلّ رسول بُعث بشريعة، فالعمل بها في وقتها

_ 1 وأخبر الله تعالى عن إبراهيم ويعقوب عليهما السلام: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} . سورة البقرة الآيات 130-132. 2 ما بين المعقوفتين من ((ط)) فقط. 3 حكى الله تعالى عن موسى عليه السلام أنّه قال لقومه: {يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} . سورة يونس، الآية 84. 4 قال الله تعالى عن عيسى عليه السلام: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} . سورة آل عمران، الآية 52. 5 ما بين المعقوفتين من ((ط)) فقط. 6 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فهذا دين الأولين والآخرين من الأنبياء وأتباعهم هو دين الإسلام؛ وهو عبادة الله وحده لا شريك له. وعبادته تعالى في كلّ زمان ومكان بطاعة رسله عليهم السلام، فلا يكون عابداً له من عبده بخلاف ما جاءت به رسله". الجواب الصحيح 183. وانظر: مجموع الفتاوى 7624. 7 في ((م)) ، و ((ط)) : من. 8 انظر: معنى الإسلام كما أوضحه شيخ الإسلام رحمه الله في كتاب الإيمان ص 250-252، 346. ومجموع الفتاوى 7623، 635. والفرقان ص 182. والتدمرية ص 169. والاستقامة 2128.

هو دين الإسلام. وأمّا ما بُدِّل منها فليس من دين الإسلام. وإذا نُسخ منها ما نُسخ لم يبق من دين الإسلام؛ كاستقبال بيت المقدس في أول الهجرة بضعة عشر شهراً، ثمّ الأمر باستقبال الكعبة1؛ وكلاهما في وقته دين الإسلام، فبعد النسخ لم يبق دين الإسلام إلا أن يُولّي المصلّي وجهه شطر المسجد الحرام2. فمن قصد أن يُصلّي إلى غير تلك الجهة، لم يكن على دين الإسلام؛ لأنّه يُريد أن يعبد الله بما لم يأمره. وهكذا كلّ بدعة تُخالف أمر الرسول؛ إمّا أن تكون من الدين المُبدّل الذي ما شرعه الله قطّ، أو من المنسوخ الذي نسخه الله بعد شرعه؛ كالتوجّه إلى بيت المقدس. فلهذا كانت السنّة في الإسلام كالإسلام في الدين؛ هو الوسط؛ كما قد شُرح هذا في غير موضع3.

_ 1 روى البخاري عند تفسير قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [سورة البقرة، الآية 142] ، عن البراء رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر شهراً، وكان يعجبه أن تكون قبلته قِبَل البيت. وأنّه صلى - أو صلاها - صلاة العصر، وصلى معه قومٌ، فخرج رجل ممّن كان صلى معه، فمرّ على أهل المسجد وهم راكعون، قال: أشهد بالله لقد صليتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم قِبَل مكّة. فداروا كما هم قبل البيت. وكان الذي مات على القبلة قبل أن تُحوّل قبل البيت رجال قُتلوا لم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} . صحيح البخاري 41631، كتاب التفسير، باب: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ} . 2 ويُوضّح شيخ الإسلام رحمه الله تفاوت الإيمان في حق العباد، وأنّ الأعمال إنّما تجب وتكون إيماناً وإسلاماً إذا فُرضت عليهم. انظر: كتاب الإيمان ص 184-186. 3 انظر: التدمرية ص 169-170. ومجموع الفتاوى 180، 189، 190، 310-311. وقاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان وعبادات أهل الشرك والنفاق ص 16-27.

والمقصود هنا أنّه إذا ردّ ما تنازع فيه الناس إلى الله والرسول؛ سواء كان في الفروع أو [الأصول] 1، كان ذلك خيراً وأحمدَ عاقبة؛ كما قال تعالى: {يَاْ أَيُّهَاْ الَّذِيْنَ آمَنُوْا أَطِيْعُوْا اللهَ وَأَطِيْعُوْا الرَّسُوْلَ وَأُوْلِيْ الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَاْزَعْتُمْ فِيْ شَيْءٍ فَرُدُّوْهُ إِلَىْ اللهِ وَالرَّسُوْلِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُوْنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيْلاً} 2. وقال تعالى: {كَاْنَ النَّاْسُ أُمَّةً وَاْحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّيْنَ مُبَشِّرِيْنَ وَمُنْذِرِيْنَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَاْبَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاْسِ فِيْمَاْ اخْتَلَفُوْا فِيْهِ وَمَاْ اخْتَلَفَ فِيْهِ إِلاَّ الَّذِيْنَ أُوْتُوْهُ مِنْ بَعْدِ مَاْ جَاْءَتْهُمُ الْبَيِّنَاْتُ بَغْيَاً بَيْنَهُمْ فَهَدَىْ اللهُ الَّذِيْنَ آمَنُوْا لِمَاْ اخْتَلَفُوْا فِيْهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِيْ مَنْ يَشَاْءُ إِلَىْ صِرَاْطٍ مُسْتَقِيْمٍ} 3. وفي صحيح مسلم عن عائشة، [أنّ] 4 النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا قام [يُصلّي] 5 من اللّيْل يقول: "اللهمّ ربّ جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطرَ السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما [اختُلف] 6 فيه من الحقّ بإذنك إنّك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم"7.

_ 1 في ((خ)) : الأصل. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 سورة النساء، الآية 59. 3 سورة البقرة، الآية 213. 4 في ((ط)) : فأنّ. وما أثبت من ((خ)) ، و ((م)) . 5 ما بين المعقوفتين في ((خ)) . وليس في ((م)) ، و ((ط)) . وفي صحيح مسلم، قالت عائشة رضي الله عنها: كان إذا قام من الليل افتتح صلاته: "اللهمّ رب ... " وذكرت الحديث. 6 في ((خ)) : اختلفت. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 7 أخرجه الإمام مسلم في صحيحه من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها 1534، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء.

أهل السنة وهذه حال أهل العلم والحق والسنّة؛ يعرفون الحق الذي جاء به الرسول؛ وهو الذي اتفق عليه صريح المعقول وصحيح المنقول؛ ويدعون إليه؛ ويأمرون به نصحاً للعباد، وبياناً للهدى والسداد. ومن خالف ذلك لم يكن لهم معه هوى، ولم يحكموا عليه بالجهل، بل [حكمه] 1 إلى الله والرسول؛ فمنهم من يُكفره الرسول، ومنهم من يجعله من أهل الفسق أو العصيان، ومنهم من يعذره ويجعله من أهل الخطأ المغفور. والمجتهد من هؤلاء المأمور بالاجتهاد، يجعل له أجراً على فعل ما أمر به من الاجتهاد، وخطؤه مغفور له؛ كما دلّ الكتاب2. أهل البدع وأمّا أهل البدع: فهم أهل أهواء وشبهات، يتّبعون أهواءهم فيما يُحبّونه ويُبغضونه، ويحكمون بالظنّ والشبه؛ فهم يتّبعون الظنّ وما تهوى

_ 1 في ((ط)) : حكمة. وما أثبت من ((خ)) ، و ((م)) . 2 قال تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} . [سورة البقرة، الآيتان 285-286] . وثبت في صحيح مسلم أنّ الله سبحانه استجاب هذا الدعاء، وقال: قد فعلتُ. انظر: صحيح مسلم 1116، كتاب الإيمان، باب بيان أنه سبحانه وتعالى لا يُكلّف إلا ما يُطاق، رقم 200. ومسند الإمام أحمد 1233. وقال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} . [سورة الأحزاب، الآية 5] . وانظر: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 144-146 - تحقيق د عبد الرحمن عبد الكريم اليحيى. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب، فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ، فله أجر". متفق عليه؛ أخرجه الإمام البخاري في صحيحه 9133، كتاب الاعتصام، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب. والإمام مسلم في صحيحه 31342، كتاب الأقضية، باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ.

الأنفس، ولقد جاءهم من ربهم الهدى. فكلّ فريقٍ منهم قد أصّل لنفسه أصلَ دينٍ [صنعه] 1؛ إمّا برأيه وقياسه الذي يُسمّيه عقليّات؛ وإمّا بذوقه وهواه الذي يُسمّيه ذوقيّات2؛ وإمّا بما يتأوّله من القرآن، ويُحرّف فيه الكلم عن مواضعه، ويقول إنّه إنّما يتّبع القرآن كالخوارج3؛ وإمّا بما يدّعيه في الحديث والسنّة ويكون كذباً وضعيفاً كما يدّعيه الروافض4؛ من

_ 1 في ((م)) ، و ((ط)) : وضعه. 2 قال صاحب التعريفات: "والذوق في معرفة الله عبارة عن نور عرفانيّ يقذفه الحقّ بتجلّيه في قلوب أوليائه، يُفرّقون به بين الحقّ والباطل من غير أن يتلقّوا ذلك من كتاب أو غيره". التعريفات ص 44. وانظر: أيضاً تعريف الذوق في الرسالة القشيريّة 1271. وانظر: شرح الأصفهانية 2516-517. 3 المقصود أنّ الخوارج لا يأخذون بالسنة. وكل من خرج على الإمام الحقّ الذي اتفقت الجماعة عليه يُسمّى خارجاً. وأول من عرف بذلك، واشتهر به: الذين خرجوا على علي رضي الله عنه في حروراء، وقاتلهم. وهم فرق كثيرة يقولون بتخليد صاحب الكبيرة، ويجمعهم القول بتكفير علي بن أبي طالب، وعثمان، والحكمين، وأصحاب الجمل، ومن رضي بالتحكيم وصوّب الحكمين أو أحدهما. ويجمعهم أيضاً القول بالخروج على الإمام إذا كان جائراً. انظر: الملل والنحل 114. والفرق بين الفرق ص 72، 73. والمقالات 1167. وانظر أيضاً: منهاج السنة النبوية 3461. 4 قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وإنّما سُمّوا رافضة، وصاروا رافضة لمّا خرج زيد بن علي بن الحسين بالكوفة في خلافة هشام، فسألته الشيعة عن أبي بكر وعمر، فترحّم عليهما، فرفضه قومٌ، فقال: رفضتموني، رفضتموني. فسمّوا رافضة. وتولاّه قومٌ فسمّوا زيديّة؛ لانتسابهم إليه. ومن حينئذٍ انقسمت الشيعة إلى رافضة إماميّة، وزيديّة. وكلما ازدادوا في البدعة، ازدادوا في الشرّ. فالزيديّة خيرٌ من الرافضة، أعلم، وأصدق، وأزهد، وأشجع". منهاج السنة النبوية 296. وانظر: المصدر نفسه 3471. ومجموع الفتاوى 1335-36. وهم يغلون في علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ويكفّرون أكثر الصحابة، إلا عدداً يسيراً. وقد أخبر شيخ الإسلام رحمه الله أنّ "أصل الرفض من المنافقين والزنادقة؛ فإنّه ابتدعه ابن سبأ الزنديق، وأظهر الغلوّ في عليّ بدعوى الإمامة والنصّ، وادّعى العصمة له". مجموع الفتاوى 4435، 28483. وانظر: في تعريف الرافضة: المقالات للأشعريّ 189. واعتقاد فرق المسلمين والمشركين للرازي ص 52. والملل والنحل 1155. والبرهان في معرفة عقائد أهل الأديان ص 36. وشرح حديث النزول لابن تيمية ص 427. وبغية المرتاد ص 341.

النصّ والآيات. وكثيرٌ ممّن يكون قد وضع دينه برأيه أو ذوقه يحتجّ من القرآن بما يتأوّله على غير تأويله، ويجعل ذلك حجّة لا عمدة، وعمدته في الباطن على رأيه، كالجهميّة والمعتزلة في الصفات والأفعال، بخلاف مسائل الوعد والوعيد1؛ فإنّهم قد يقصدون متابعة النصّ.

_ 1 يُراد بمسائل الوعد والوعيد عند الرافضة ما أُريد بها عند المعتزلة. ومسائل الوعد والوعيد بيّنها القاضي عبد الجبار المعتزلي بقوله: ".... وأما علوم الوعد والوعيد: فهو أنّ الله تعالى وعد المطيعين بالثواب، وتوعّد العصاة بالعقاب، وأنّه يفعل ما وعد به وتوعّد عليه لا محالة، ولا يجوز عليه التخلّف والكذب..". شرح الأصول الخمسة ص 135-136. والروافض في إثبات الوعيد فرقتان؛ إحداهما تُثبته لمخالفيهم خاصّة. والأخرى تُثبته للنّاس عامّة. يقول الأشعريّ في المقالات: "واختلفت الروافض في الوعيد، وهم فرقتان: فالفرقة الأولى منهم يُثبتون الوعيد على مخالفيهم، ويقولون: إنّهم يعذّبون، ولا يقولون بإثبات الوعيد فيمن قال بقولهم، ويزعمون أنّ الله سبحانه يدخلهم الجنّة، وإن أدخلهم النّار أخرجهم منها. ورووا في أئمتهم أنّ ما كان بين الشيعة وبين الناس من المظالم شفعوا لهم إليهم، حتى يصفحوا عنهم. والفرقة الثانية منهم يذهبون إلى إثبات الوعيد، وأنّ الله عزّ وجلّ يُعذّب كلّ مرتكب للكبائر من أهل مقالتهم كان، أو من غير أهل مقالتهم، ويُخلّدهم في النّار". المقالات للأشعريّ 1126. وانظر: منهاج السنة النبوية 2303.

البدع نوعان فالبدع نوعان: نوعٌ كان قصد أهلها متابعة النصّ والرّسول، لكن غلطوا في فهم النصوص، وكذّبوا بما يُخالف ظنّهم من الحديث ومعاني الآيات؛ كالخوارج، وكذلك الشيعة المسلمين، بخلاف من كان منافقاً زنديقاً1 يُظهر التشيّع، وهو في الباطن لا يعتقد الإسلام. وكذلك المرجئة قصدوا اتباع الأمر والنهي، وتصديق الوعيد مع الوعد. ولهذا قال عبد الله بن المبارك2، ويوسف بن أسباط3، وغيرهما إنّ الثنتين وسبعين فرقة4 أصولها أربعة: الشيعة، والخوارج، والمرجئة، والقدريّة.

_ 1 قال شيخ الإسلام رحمه الله عن لفظ الزندقة أنّه "لا يُوجد في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، كما لا يُوجد في القرآن. وهو لفظٌ أعجميّ معرّب، أُخذ من كلام الفرس بعد ظهور الإسلام وعُرِّب. وقد تكلّم به السلف والأئمة؛ في توبة الزنديق، ونحو ذلك. فأمّا الزنديق الذي تكلّم الفقهاء في قبول توبته في الظاهر، فالمراد به عندهم المنافق الذي يُظهر الإسلام، ويُبطن الكفر، وإن كان مع ذلك يُصلّي ويصوم ويحجّ ويقرأ القرآن، وسواء كان في باطنه يهودياً أو نصرانياً أو مشركاً أو وثنياً، وسواء كان معطِّلاً للصانع وللنبوّة، أو للنبوّة فقط، أو لنبوّة نبيِّنا صلى الله عليه وسلم فقط، فهذا زنديق، وهو منافق. وما في القرآن والسنّة من ذكر المنافقين يتناول مثل هذا بإجماع المسلمين". بغية المرتاد ص 338. 2 سبقت ترجمته. 3 يوسف بن أسباط الزاهد، من سادات المشايخ. له مواعظ وحكم. وثقه ابن معين. وقال أبو حاتم: لا يُحتجّ به. وقال البخاري: دفن كتبه، فكان حديثه لا يجيء كما ينبغي. انظر: سير أعلام النبلاء 9169. وحلية الأولياء 8237. وشذرات الذهب 1343. 4 يُشير إلى حديث: "إنّ أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملّة، وإنّ هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملّة - يعني الأهواء - كلّها في النار إلا واحدة وهي الجماعة. ..". أخرجه الإمام أحمد في المسند 4102. وأبو داود في سننه 55، كتاب السنّة، باب شرح السنّة. والحاكم في مستدركه 1128، وصحّحه ووافقه الذهبي.

الجهمية أصل دينهم المعقول وأمّا الجهميّة النافية للصفات، فلم يكن أصل دينهم اتباع الكتاب والرسول1؛ فإنّه ليس في الكتاب والسنّة نصّ واحدٌ يدلّ على قولهم، بل نصوص الكتاب والسنّة متظاهرة بخلاف قولهم، وإنّما يدّعون التمسّك بالرأي المعقول. وقد بُسط القول على بيان فساد حججهم العقليّة، وما يدّعيه بعضهم من السمعيّات، وبُيِّن أنّ المعقول الصريح موافق للمنقول الصحيح في بطلان قولهم، لا مخالف له2. الكلام في أفعال الرب تعالى والمقصود هنا: الكلام في أفعال الربّ؛ فإنّ الجهميّة والمعتزلة ومن اتبعهم صاروا يسلكون فيه بأصلٍ أُصِّل بالمعقول، و [يجعلونه] 3 العمدة، وخاضوا في لوازم القدر برأيهم المحض، فتفرّقوا فيه تفرّقاً عظيماً، وظهر بذلك حكمة نهي النبيّ صلى الله عليه وسلم لأمّته عن التنازع في القدر، مع أنّ المتنازعين كان كلّ منهما يُدلي بآية، لكن كان ذلك يُفضي إلى إيمان كلّ طائفة ببعض الكتاب دون البعض، فكيف إذا كان المتنازعون [عمدتهم] 4 رأيهم.

_ 1 وانظر: درء تعارض العقل والنقل 5302، 309،، 7110. وكتاب الصفدية 2239-240. ومجموع الفتاوى 3350-354. وشرح الطحاوية 2795. ورسالة السجزي إلى أهل زبيد ص 216. وشرح السنة للبربهاري ص 57. 2 وقد هدم شيخ الإسلام رحمه الله قانون المتكلّمين العقليّ الذي جعلوه مقدّماً على الأدلّة السمعيّة، والتزموا لأجله لوازمَ ردّوا بها كثيراً من أمور العقيدة. وقد بسط ذلك - رحمه الله - في كتابه الكبير: ((درء تعارض العقل والنقل)) . 3 في ((خ)) ، و ((م)) : يجعلون. وما أثبت من ((ط)) . 4 في ((خ)) : عهدتهم. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

أحاديث النهي عن التنازع في القدر والحديث رواه أهل المسند والسنن [مفصّلاً] 1، ورواه مسلم2 مجملاً عن عبد الله بن رباح الأنصاري أنّ عبد الله بن عمرو قال: هجَّرتُ3 إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فسمع [أصوات] 4 رجلين اختلفا في آية، فخرج علينا صلى الله عليه وسلم يُعرف في وجهه الغضب، فقال: "إنّما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب". وقال الإمام أحمد في المسند: [ثنا] 5 أبو معاوية، [حدثنا] 6 داود ابن أبي هند، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه7 قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، والنّاس يتكلّمون في القدر. قال: فكأنّما يُفْقأ في وجهه حبّ الرمّان من الغضب. قال: فقال: "ما لكم تضربون كتاب الله بعضَه ببعض؟ بهذا هَلَكَ من كان قبلكم" قال8: فما غبطتُ نفسي بمجلسٍ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أشهده، ما غبطتُ نفسي بذلك المجلس أنّي لم أشهده". وهذا حديث محفوظ من [رواية] 9 عمرو بن شعيب. وقد رواه ابن ماجه

_ 1 في ((خ)) : متصلاً. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 صحيح مسلم 42053، كتاب العلم، باب النهي عن اتباع متشابه القرآن، والتحذير من متبعيه، والنهي عن الاختلاف في القرآن. 3 قال ابن الأثير: "التهجير: التبكير إلى كلّ شيء، والمبادرة إليه؛ يُقال: هجّر يُهجّر تهجيراً فهو مُهجِّر". النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 5246. 4 في ((خ)) : أصواتاً. وفي ((م)) ، و ((ط)) : صوت. وما أثبت من صحيح الإمام مسلم رحمه الله. 5 في ((م)) ، و ((ط)) : حدثنا. 6 في ((م)) ، و ((ط)) : ثنا. 7 عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. 8 أي عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. 9 في ((خ)) : روايته. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

من حديث أبي معاوية1. وكتب أحمد في رسالته إلى المتوكّل2 هذا الحديث. وجعل يقول في مناظرته لهم يوم الدار في المحنة: إنّا قد نُهينا عن أن نضرب كتاب الله بعضه ببعض3. وروى هذا المعنى: الترمذي من حديث أبي هريرة4، وقال:

_ 1 رواه أحمد في المسند 2178، 196. وابن ماجه في السنن 133، في المقدمة، باب في القدر. وأخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 1115، 3627. والبغوي في شرح السنّة1260. وقال محقّقاه: إسناده حسن. وأخرجه الحارث بن أبي أسامة في مسنده - كما في زوائد ابن ماجه 153 - وقال الساعاتي عن رواية الإمام أحمد: وقال البوصيريّ: هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات. وانظر: الفتح الرباني 1142. وقد حسّنه محقّق جامع الأصول 10135 عبد القادر الأرناؤوط. ورواه الآجري بسنده عن أبي أمامة في الشريعة ص 68. وقال الألباني في تعليقه على مشكاة المصابيح 136: سنده حسن، وقال في تعليقه على شرح الطحاوية ص 218: صحيح. 2 ذكر هذه الرسالة بنصها عبد الله بن الإمام أحمد رحمهما الله في كتاب السنّة ص 21-26. وأبو نعيم في الحلية - عند ترجمة الإمام أحمد - 9216-219. وهي رسالة أرسلها الإمام أحمد رحمه الله جواباً لرسالة وصلته من وزير المتوكل عبيد الله بن يحيى بن خاقان يُخبره أنّ أمير المؤمنين أمره أن يكتب إليه، يسأله عن أمر القرآن، لا مسألة امتحان، ولكن مسألة معرفة وبصيرة.. وقال الذهبي عن هذه الرسالة: "رواة هذه الرسالة عن أحمد أئمة أثبات، أشهد بالله أنّه أملاها على ولده". تاريخ الإسلام. ومقدمة المسند لأحمد شاكر 1124. 3 كتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد 4 أخرج الترمذي بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتنازع في القدر، فغضب حتى احمرّ وجهه؛ حتى كأنّما فُقئ في وجنتيه حبُّ الرّمّان، فقال: أبهذا أُمرتم؟ أم بهذا أُرسلت إليكم؟! إنّما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر. عزمتُ عليكم ألاّ تنازعوا فيه" الحديث أخرجه الترمذي في جامعه 4443، كتاب القدر، باب ما جاء في التشديد في الخوض في القدر. وقال: وفي الباب عن عمر، وعائشة، وأنس. وهذا الحديث غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه، من حديث صالح المرّيّ، وصالح المرّيّ له غرائب يتفرّد بها، لا يُتابع عليها. وانظر: درء تعارض العقل والنقل 149،، 2104.

حديث حسن غريب. شبهة من ينكر صفات الله قال1: وفي الباب الذي [فررت] 2 منه؛ فإنّه لمّا قيل: إنّ له حياة، وعلماً، وقدرة، وإرادة، وغضباً، ورضي، ونحو ذلك، قلتَ: هذا يستلزم أن يكون موافقاً للمخلوق في مسمّى هذه الأسماء. وهذا تشبيه3. فقيل لك4: هذا يلزم مثله في الذات؛ فإن قيل بتعطيل الذات5، فذلك يستلزم ما فررت منه؛ من ثبوت جسم قديم حامل للأعراض والحركات. وإذا كان هذا لازماً لك على تقدير نفي الذات كما ثبت أنّه لازمٌ على تقدير إثباتها، كان لازماً على تقدير النقيضين؛ النفي والإثبات. وما كان كذلك لم يمكن

_ 1 لم يتبيَّن لي القائل، والكلام الذي سيأتي غير واضح. ولا أدري أهو من كلام الترمذيّ، أم من كلام شيخ الإسلام - فلعله رجع بعد الاستطراد انظر: ص 499؛ فليس هذا الكلام في نسخ جامع الترمذي التي بين أيدينا. 2 في ((خ)) : قررت. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 وهذا الكلام - كما يُفهم - من كلام مَن يُنكر صفات الله؛ كالجهميّة، والمعتزلة. وهذه حجّتهم؛ إذ أنّهم لم يفهموا من صفات الخالق إلا ما هو من صفات المخلوق؛ فشبّهوا، ثمّ عطّلوا. 4 المقصود به الجهمي والمعتزلي الذي يُعطِّل الصفات ويُثبت الذات. فيُقال له: القول في الصفات كالقول في الذات. 5 وهذا قول ملاحدة الصوفية، وغلاة الفلاسفة الذين يقولون بالوجود المطلق الذي لا حقيقة له في الأعيان.

نفيه. و [أمّا] 1 نحن فقد بيَّنَّا أنّ اللازم على تقدير إثباتها لا محذور فيه، وإنّما المحذور لازم على تقدير نفيها. وهذا قد بُسط في غير هذا الموضع2. مناقشة من ينفي الحكمة والمقصود هنا: أنه يُقال لهؤلاء3 الذين ينفون الحكمة، ثمّ الإرادة،

_ 1 في ((خ)) : انما. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 انظر: العقيدة التدمرية ص 15-30، 35-46. وشرح الأصفهانية 2384-388، 441-445، 450، 457-467. ودرء تعارض العقل والنقل 1128، 129، 6119-137. والرد على المنطقيين ص 225-232. ومنهاج السنة 2115-120، 160-172، 595-598. وكتاب الصفدية 188، 234-37. 3 المقصود بهم الفلاسفة، والجهميّة. وانظر: ص 533. فهم ينفون تعليل أفعال الله سبحانه وتعالى، وأن يكون مختاراً في أفعاله، ويقولون هو موجب بالذات، فلا يكون فعله لغاية. انظر: الإشارات والتنبيهات لابن سينا 3150-155. وكذا انظر: بيان تلبيس الجهمية 1161. وقال شيخ الإسلام عن الحكمة: "كل ما خلقه الله فله فيه حكمة؛ كما قال: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} ، وقال: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} . وهو سبحانه غنيّ عن العالمين. فالحكمة تتضمّن شيئين؛ أحدهما حكمة تعود إليه يُحبّها ويرضاها. والثانية إلى عباده، هي نعمه عليهم يفرحون بها، ويلتذّون بها. وهذا في المأمورات، وفي المخلوقات". مجموع الفتاوى 835-36. وذكر شيخ الإسلام رحمه الله أقوال النّاس في الحكمة، فقال عن الجهميّة: "ُنكرون التعليل جملة، ولا يُثبتون إلا محض المشيئة، ولا يجعلون في المخلوقات والمأمورات معاني لأجلها كان الخلق والأمر، إلى غير ذلك من لوازم قولهم. والمعتزلة يُثبتون تعليلاً متناقضاً في أصله وفرعه؛ فيُثبتون للفاعل تعليلاً لا تعود إليه حكمة" درء تعارض العقل والنقل 854. أمّا الفلاسفة، فيقول عنهم شيخ الإسلام رحمه الله إنّهم "ُثبتون علة غائيّة للفعل، وهي بعينها للفاعل. ولكنّهم متناقضون؛ فإنّهم يُثبتون له العلّة الغائيّة، ويُثبتون لفعله العلة الغائيّة، ويقولون مع هذا ليس له إرادة، بل هو موجب بالذات، لا فاعل بالاختيار. وقولهم باطل من وجوه ... " مجموعة الرسائل والمسائل 4-5288. ويذكر شيخ الإسلام رحمه الله تناقض الجهميّة والمتفلسفة في موضع آخر؛ فيقول: "لمتفلسفة متناقضون؛ فإنّهم يُثبتون غاية وحكمة غائيّة، ولا يُثبتون إرادة. والجهميّة تُثبت أنّه سبحانه مريد، ولا تُثبت له حكمة فعل لأجلها. وكلّ من القولين متناقض" شرح الأصفهانيّة 2378. وانظر: الكلام عن الحكمة وأقوال الناس فيها في كتب شيخ الإسلام: شرح الأصفهانية 1150-155، 2353-378. ومنهاج السنة النبوية 1133-148، 454، 2612-615، 314، 32، 180-198، 207، 214-215. ودرء تعارض العقل والنقل 854، 9110-111. ومجموع الرسائل 4-5234-235، 240. وانظر: رسالة أقوم ما قيل في المشيئة والحكمة والقضاء والقدر والتعليل وبطلان الجبر - ضمن مجموع الرسائل والمسائل 4-5283-346 - وهي في مجموع الفتاوى 881-158. ومجموع الفتاوى 6128-130،، 835، 57، 377-378، 466-468، 16129-133، 296-298، 1795، 96، 99وبيان تلبيس الجهمية 1163-217. واقتضاء الصراط المستقيم 1409. وانظر: الإرشاد للجويني ص 268 وما بعدها. ونهاية الإقدام للشهرستاني ص 297. ومحصل أفكار المتقدمين للرازي ص 205. والفصل لابن حزم 3174. والمغني في أبواب التوحيد والعدل لعبد الجبار الهمذاني 648، 1192-93. ولعل القول الذي قصده شيخ الإسلام رحمه الله أنّه يُقال للفلاسفة نظير ما قيل لنفاة الصفات، هو ما صرّح به بقوله: "على هذا فكلّ ما فعله علمنا أنّ له فيه حكمة. وهذا يكفينا من حيث الجملة، وإن لم نعرف التفصيل. وعدم علمنا بتفصيل حكمته بمنزلة عدم علمنا بكيفيّة ذاته، وكما أنّ ثبوت صفات الكمال له معلوم لنا. وأما كنه ذاته فغير معلومة لنا، فلا نُكذّب بما علمناه ما لم نعلمه. وكذلك نحن نعلم أنّه حكيم فيما يفعله ويأمره، وعدم علمنا بالحكمة في بعض الجزئيّات لا يقدح فيما علمناه من أصل حكمته. فلا نُكذّب بما علمناه من حكمته ما لم نعلمه من تفصيلها" مجموعة الرسائل 4-5233.

ثمّ الفعل في الأفعال نظير ما قيل لأولئك1 في الصفات، ويجعل مبدأ الكلام من الإرادة في الموضعين2. فيُقال لمن أثبتها، ونفى الحكمة من المنتسبين إلى إثبات القدر3، والمنتسبين إلى أهل السنة والجماعة: لم نفيتم الحكمة؟ فإذا قالوا: لأنّا لا نعرف من يفعل [لحكمة] 4 إلا من يفعل

_ 1 والمقصود بهم المعتزلة والجهميّة. وقد مرّ إلزامات المؤلف رحمه الله لهم قبل أسطر؛ وهو أن يُقال للجميع: يلزمكم التشبيه بالمقدار الذي تُثبتونه لخالقكم ومعبودكم، وإلا أثبتوا حكمته من غير تشبيه. 2 وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أنّ نفي الحكمة هو أصل حجة الفلاسفة على نفي الصانع، فقال: "هذه الحجة لما كان أصلها هو البحث عن حكمة الإرادة، ولم فعل ما فعل؛ وهي مسألة القدر، ظهر بها ما كان السلف يقولونه: إن الكلام في القدر هو أبو جاد الزندقة. وعلم بذلك حكمة نهيه صلى الله عليه وسلم لما رآهم يتنازعون في القدر عن مثل ما هلك به الأمم، قال لهم: بهذا هلكت الأمم قبلكم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض. وعن هذا نشأ مذهب المجوس القدرية، مجوس هذه الأمة، حيث خاضوا في التعديل والتجويز بما هو من فروع هذه الحجة، كما أن التجهم من فروع تلك الحجة" بيان تلبيس الجهمية 1163. 3 والمقصود بهم الأشاعرة؛ فهم قد أثبتوا الإرادة، ونفوا الحكمة. وانظر: كتاب الصفدية 1147-148،، 2331. "قد ردّ ابن تيمية على نفاة الحكمة من الأشاعرة، وذلك لأنّ إثبات النبوة مبنيّ على إثبات صفة الحكمة لله تعالى، والمتكلمون ينفون أن تكون أفعال الربّ تعالى واقعة لسبب، أو لعلّة، أو لغرض، بمعنى آخر: ينفون أن يكون الله تعالى يفعل شيئاً لشيء آخر. ومثال ذلك: ... أن تكون المعجزة مفعولة للربّ لغرض إثبات نبوّة الأنبياء؛ فهم ينفون ذلك الغرض، وهو في الحقيقة نفيٌ لحكمته سبحانه. ومن نفى صفة الحكمة عن الله تعالى فقد انسدّ عليه طريق إثبات النبوّة. لذا وجدناه يُقرّر أنّه قد أجمع المسلمون على أنّ الله تعالى موصوفٌ بالحكمة، ولكنّهم تنازعوا في تفسير ذلك.." النبوة عند ابن تيمية لسعيد خليفة ص 333-334. رسالة ماجستير مكتوبة على الآلة. وانظر: النبوات ص 821. 4 في ((ط)) : الحكمة. وما أثبت من ((خ)) ، و ((م)) .

لغرضٍ يعود إليه. وهذا لا يكون إلا فيمن يجوز عليه اللذّة، والألم، والانتفاع، والضرر، والله منزّهٌ عن ذلك1. فيُقال لهم ما قاله نفاة الإرادة2، وأنتم لا تعقلون إرادة إلا فيمن يجوز عليه اللذّة والألم والانتفاع والضرر، وقد قلتم أنّ الله تعالى مريدٌ؛ فإمّا أن تطردوا أصلكم النافي، فتنفوا الإرادة؛ أو المثبت، فتُثبتوا اللذّة، وإلا، فما المفرق3؟ فإذا قال نفاة الإرادة4: فلهذا نفينا الإرادة؛ كما رجّحه الرازي في المطالب العالية5، واحتجّ به الفلاسفة. قيل لهم: فانفوا أن يكون فاعلاً، فإنكم لا تعلمون فاعلاً غير مقهور إلا بإرادة، ولا يعقلون ما يفعل ابتداءً إلا بإرادة، أو فاعلاً حياءً إلا بإرادة، أو فاعلاً مطلقاً إلا بإرادة6.

_ 1 انظر: التمهيد للباقلاني ص 50 - حيث ذكر هذا الكلام بنصّه. وكتاب الأربعين للرازي ص 250. والمواقف في علم الكلام للإيجي ص 331-332. وقد ردّ شيخ الإسلام رحمه الله على هذه الحجة بأربعة وجوه. انظر: شرح الأصفهانيّة 2369-371. 2 من الجهميّة والمعتزلة. 3 معنى ذلك: "إذا أردتم به أنّ حكمة الله هي ما ذكرتم، فهي دعوى بلا برهان؛ لأنّ حكمة الربّ تعالى فوق تحصيل اللذّة ودفع الألم، بل هو يتعالى عن ذلك؛ لأنّ ما ذكر غرض المخلوق. أمّا الخالق سبحانه فهو غنيّ بذاته عن كلّ ما سواه، حكمته سبحانه لا تُشابه حكمة المخلوقين، كما أنّ إرادته وسائر صفاته لا تُشابه صفات المخلوقين. فحكمته سبحانه أجلّ وأعلى من أن يُقال إنّها تحصيل لذّة، أو دفع ألم وحزن". الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى ص 72. وانظر: التدمرية ص 34. 4 الجهميّة والمعتزلة. 5 انظر: المطالب العالية للرازي 3217. 6 المقصود أنّ المعتزلة القدرية يُثبتون أنّ الله فاعل. وشيخ الإسلام رحمه الله يلزمهم بإثبات الإرادة؛ لأنّه لا يعقل فاعل غير مقهور إلا بإرادة.

فإن قال أتباع أرسطو1:

_ 1 أرسطو: هو أرسطو بن نيقوماخس (384 - 322 ق. م) . يُسمّونه المعلم الأول. ولد في مدينة أسطاغيرا اليونانيّة. وكان أفلاطون يُعلّم الفلسفة ماشياً، وتابعه على ذلك أرسطو فسمّي هو وأصحابه المشائين. انتهت إليه فلسفة اليونان، وكان هو خاتمتهم. وكان مُشركاً يعبد الأصنام. وقد عنى فلاسفة المسلمين بفلسفة أرسطو، وسمّوه معلّمهم الأول) . انظر: الفهرست ص 307-312. وطبقات الأطباء والحكماء ص 25-27. والملل والنحل للشهرستاني 337-63. مجموع الفتاوى 11171-172. والرد على المنطقيّين ص 186، 283. والفرق بين الفرق ص 307-308. وقد ذكر شيخ الإسلام عن أرسطو أنّه "أوّل من صرّح بقدم الأفلاك، وأنّ المتقدمين قبله من الأساطين كانوا يقولون إنّ هذا العالم محدَث ... وأصحاب التعاليم كأرسطو وأتباعه كانوا مُشركين يعبدون المخلوقات، ولا يعرفون النبوات، ولا المعاد البدني، وإنّ اليهود والنصارى خيرٌ منهم في الإلهيّات، والنبوات، والمعاد". منهاج السنة النبوية 1360، 364. وانظر: درء تعارض العقل والنقل 2167. وشرح الأصفهانية 165. والجواب الصحيح 1345. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 80-81. أمّا عن مجمل اعتقاد أرسطو وأتباعه، فإنّهم يقولون: أنّ الله تعالى ليس هو خالق هذا العالم، بل لم يخلق شيئاً، وإنّما العالم قديم، وإنّما صدر عن الله العقل الأول لا على سبيل الخلق والإيجاد، وإنّما عن طريق ما يُسمّونه بالفيض والصدور، وأنّ الله هو علّة موجبة بذاته، وهو واحد لا يصدر عنه إلا واحد، ولذلك صدر عنه العقل الأوّل، وعن هذا العقل صدر عقل ثان، ونفس، وفلك. وعن العقل الثاني صدر عقل ثالث، ونفس، وفلك، وهكذا إلى أن أصبح هناك عشرة عقول، وتسعة نفوس وأفلاك. والعقل عند الفلاسفة بمنزلة الذكر، والنفس بمنزلة الأنثى. وأراد بعضهم التوفيق بين الفلسفة والشريعة، فقالوا: إنّ العرش هو الفلك التاسع. وربّما جعل بعضهم النفس هي اللوح المحفوظ، كما جعل العقل هو القلم. وتارة يجعلون اللوح هو العقل الفعّال العاشر، أو النفس المتعلقة به ... وزعموا أنّ العقول والنفوس هي الملائكة، وأنّهم التسعة عشر الذين على سقر، وأنّ جبريل هو العقل الفعّال، وأنكروا وجود الملائكة. ثمّ يزعمون أنّ هذه النفوس الفلكيّة هي المؤثرة الفعالة في القوى الأرضيّة المنفعلة، وأنّ القوى السماوية هي أسباب لحدوث الكائنات العنصرية؛ فهم يُثبتون بذلك صدوراً للمخلوقات بعضها عن بعض دون إرادة الله تعالى وعلمه ومشيئته، ويُثبتون كذلك التأثير في عالم الأرض، هو من عالم السموات والأفلاك. وأمّا تدبير الأمور اليوميّة؛ أي الحوادث الجزئيّة، وأنّه تعالى {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} فليس لله عندهم في ذلك تأثير، وأسقطوا عن الله تعالى رعايته لهذا الكون، وإمساكه عن الزوال والفناء. وقد أوجبوا وجود نبيّ يستقيم به نظام الكون، وهو عندهم بمثابة الرئيس المدنيّ. والفيلسوف أفضل منه؛ لأنّ النبيّ يتلقى وحيه وعلمه عن طريق القوة المتخيلة، والفيلسوف يتلقى علمه عن طريق القوة الناطقة المفكرة. والقوة المفكرة عندهم هي الرئيسيّة المتحكمة في المتخيلة. انظر: مقارنة بين الغزالي وابن تيمية ص 79. والنبوة عند ابن تيمية ص 370-371. ونقض المنطق ص 99-106. وتفسير سورة الإخلاص ص 49. وكتاب الصفدية 17-9، 280. والفارابي وآراء المدينة الفاضلة ص 55، 61، 89، 112. والنجاة لابن سينا ص 310-311.

فلهذا قلنا إنّه لا يفعل شيئاً1، وليس بموجب بذاته شيئاً، لكن قلنا:

_ 1 وقال شيخ الإسلام رحمه الله موضّحاً هذا المعنى في كتابه الردّ على المنطقيّين: "فإنّ هؤلاء حقيقة قولهم أنّه لم يخلق شيئاً. ومتقدّموهم كأرسطو وأتباعه على أنّه يتحرّك الفلك للتشبّه بها. فليس هو عندهم لا موجباً بالذات، ولا فاعلاً بالمشيئة. وأما ابن سينا وأمثاله ممّن يقول إنّه موجب بذاته، فهم يقولون ما يعلم جماهير العقلاء أنّه مخالف لضرورة العقل؛ إذ يُثبتون مفعولاً ممكناً يمكن وجوده، ويمكن عدمه، وهو مع هذا قديمٌ أزليّ لم يزل ولا يزال، وهو مفعول معلول لعلّة فاعلة لم يزل مقارناً لها في الزمان. فكل من هذين القولين ممّا خالفوا فيه جماهير العقلاء من الأولين والآخرين ... ". الرد على المنطقيين ص 524-525. وانظر: المصدر نفسه ص 220. ودرء تعارض العقل والنقل 1126، 127، 669-70، 8216-224، 290. ومنهاج السنة 1149-150، 402، 405، 3271-289. وشرح الأصفهانية 193. وكتاب الصفدية 2334-335.

إنّ الفلك يتشبّه به، أو قال من هو أعظم تعطيلاً منهم: فلهذا نفينا الأول بالكليّة، ولم [نُثبت] 1 علّة تفعل، ولا علّة يُتشبّه بها. قيل لهم2: فهذه الحوادث مشهودة، وحركة الكواكب، والشمس، والقمر مشهودة، فهذه الحركات الحادثة، وغيرها من الحوادث؛ مثل السحاب، والمطر، والنبات، والحيوان، والمعدن، وغير ذلك ممّا يُشهد حدوثه؛ أحدث بنفسه من غير أن يُحدثه محدِث قديم، أو لا بُدّ للحوادث من محدِث قديم؟ فإن قالوا: بل حَدَثَ كلّ حادث بنفسه، من غير أن يُحدثه أحد3: كان هذا ظاهر الفساد، يُعلم بضرورة العقل أنّه في غاية المكابرة، ونهاية السفسطة، مع لزوم ما فرّوا منه؛ فإنّهم فرّوا من أن يكون ثَمَّ فاعلٌ محدِث، وقد أثبتوا فاعلاً محدِثاً، لكن جعلوا كلّ حادِث هو يحدث بنفسه ويفعلها؛ فجعلوا ما ليس بشيء يجعل الشيء، وجعلوا المعدوم يُحدث الموجود؛ فلزمهم ما فرّوا منه من إثبات فاعل، مع ما لزمهم من الكفر العظيم، وغاية الجهل، وغاية فساد العقل.

_ 1 في ((خ)) : يثبت. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 أي لهؤلاء الذين ينكرون وجود الله. وقد ردّ عليهم شيخ الإسلام رحمه الله بهذا الطريق العقليّ المذكور في القرآن الكريم في كتابه شرح الأصفهانيّة 141، 2353. وكتاب الصفدية 19-10. وفي رسالة أقوم ما قيل في المشيئة والحكمة - ضمن جامع الرسائل والمسائل 4290. 3 انظر: شرح الأصفهانية 139. وقد قال لهم شيخ الإسلام رحمه الله: "هذا السؤال ليس مختصاً بحدوث العالم، بل هو وارد في كلّ ما يحدث في الوجود من الحوادث. والحدوث مشهود، محسوس، متفق عليه بين العقلاء، فكلّ ما يُورده على حدوث خلق السموات والأرض يورد عليه نظيره في الحوادث المشهودة". مجموعة الرسائل والمسائل 4345.

وإن قالوا: بل كُلّ محدَثٍ يُحدِثه مُحدِث، وللمُحدِث مُحدِث1. قيل لهم: هذا أيضاً ممتنع في صريح العقل؛ فإنّ التسلسل في الفاعل ممتنع بصريح العقل واتفاق العقلاء2؛ فإنّه كلما كثر ما يُقدَّر أنّه حادث، كان

_ 1 من نفى الحكمة عن الله من الفلاسفة والأشعريّة استدلّ على ذلك بلزوم التسلسل، وقال هو محال على الله. انظر: التمهيد للباقلاني ص 51-52. والأربعين في أصول الدين للرازي ص 250. وقد ردّ شيخ الإسلام رحمه الله على شبهتهم هذه بأربعة وجوه في شرح الأصفهانية 2363-368. وانظر: كتاب الصفدية 227. ومنهاج السنة النبوية 1145-147. وممّا قاله رحمه الله في ردّه على هذه الشبهة: (هذا التسلسل في الحوادث المستقبليّة، لا في الحوادث الماضية؛ فإنّه إذا فعل فعلاً لحكمة، كانت الحكمة حاصلة بعد الفعل. فإذا كانت تلك الحكمة يُطلب منها حكمة أخرى بعدها، كان تسلسلاً في المستقبل. وتلك الحكمة الحاصلة محبوبة له، وسبب لحكمة ثانية؛ فهو لا يزال سبحانه يُحدِث من الحكم ما يُحبّه ويجعله سبباً لما يُحبّه) . منهاج السنة النبوية 1149. 2 قال شيخ الإسلام رحمه الله في موضع آخر: "التسلسل الممتنع إنّما هو التسلسل في المؤثرات؛ وهو أن يكون للفاعل فاعل، وهلم جرا إلى غير نهاية؛ سواء عبّر عن ذلك بأنّ للعلّة علّة وللمؤثّر مؤثّر، أو عبّر عنه بأنّ للفاعل فاعلاً. فهذا هو التسلسل الممتنع في صريح العقل. ولهذا كان هذا ممتنعاً باتفاق العقلاء؛ كما أنّ الدور الممتنع هو الدور القبلي. فأما التسلسل في الآثار: وهو أن لا يكون الشيء حتى يكون قبله غيره، أو لا يكون إلاّ ويكون بعد غيره. فهذا للناس فيه ثلاثة أقوال: قيل: هو ممتنع في الماضي والمستقبل. وقيل: هو جائزٌ في الماضي والمستقبل. وقيل: ممتنع في الماضي، جائز في المستقبل. والقول بجوازه مطلقاً هو معنى قول السلف، وأئمة الحديث، وقول جماهير الفلاسفة القائلين بحدوث العالم والقائلين بقدمه". منهاج السنة النبوية 2393. وقال رحمه الله: "لفظ التسلسل يُراد به التسلسل في المؤثرات؛ وهو أن يكون للحادث فاعل، وللفاعل فاعل. وهذا باطلٌ بصريح العقل واتفاق العقلاء. وهذا هو التسلسل الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يُستعاذ بالله منه، وأمر بالانتهاء عنه، وأن يقول القائل: ((آمنت بالله ورسله)) ) . درء تعارض العقل والنقل 1363. وانظر: المصدر نفسه 3144، 161، 243، 4292-293، 9180-185، 238-241. ومنهاج السنة النبوية 1146، 176، 2128، 129، 392، 426. ومجموع الفتاوى 1245. وكتاب الصفدية 110-11، 23، 27، 30. وشرح الأصفهانيّة 146.

أحوج إلى القديم. فليس في تقدير حوادث لا [تتناهى] 1 ما يُوجب استغناءها عن القديم، بل إذا كان المحدَث الواحد لا بُدّ له [من] 2 محدِث غيره، فمجموع الحوادث أولى بالافتقار إلى محدِثٍ لها خارج عنها كلّها؛ فإنّ المحدِث لمجموعها يمتنع أن يكون واحداً منها؛ فإنّه يلزم أن يُحدِث نفسه، ويمتنع أن يكون المجموع أحدث المجموع؛ فإنّ الشيء لا يُحدِث نفسه. والمجموع هي الآحاد الحادثة وهيئتها الاجتماعيّة، وتلك الهيئة محتاجة إلى [المجموع الذي] 3 هو كلّ واحد، واحد. والمجموع ليس إلا الآحاد واجتماعها، وكلّ ذلك مفتقر إلى محدِث مباين لها؛ فلا بُدّ للحوادث من قديم ليس بحادث4 ثمّ يُقال لهم: إذا قُدّر تسلسل الفاعلين، وأنّ ما كان محدِثاً له محدَث، وهلم جرا. فهذا فيه إثبات ما فررتم منه؛ وهو أنّ هذا المحدَث فعل هذا، وهذا فعل هذا. لكن أثبتم ما لا يتناهى من ذلك في آنٍ واحد، فركبتم ما فررتم منه، مع لزوم هذه الجهالات التي تقتضي غاية فساد العقل،

_ 1 في ((خ)) : يتناهى. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 3 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 4 انظر: رد المؤلف رحمه الله على هذه الشبهة في مجموعة الرسائل والمسائل 4343.

والكفر [بالسمع] 1. وإذا كان المحذور يلزمهم على تقدير أن يكون الحادث أحدث نفسه، أو أحدث كلُّ حادِثٍ [حادثاً] 2 آخر، مع فساد هذين، تبيّن أنّه لا ينفعه إنكار القديم. وإن قال3: بل أُقرّ بالمحدث القديم. قيل: فقد أقررت بفعل القديم للمحدَث، وإذا ثبت أنّ القديم فعل المحدَث، وأنت لا تعلم فاعلاً [إلا لجلب] 4 منفعة، أو دفع مضرّة5. قيل له: [فما] 6 كان جوابك عن هذا، كان جواباً عن كونه يفعل بإرادته7.

_ 1 في ((ط)) : بالمسع. 2 في ((خ)) : حادث. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 أي الفيلسوف الذي يقول بقدم العالم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "المشهور من مقالة أساطين الفلاسفة قبل أرسطو، هو القول بحدوث العالم. وإنّما اشتهر القول بقدمه عنه، وعن متبعيه؛ كالفارابي، وابن سينا، والحفيد، وأمثالهم". كتاب الصفدية 1130. وانظر: المصدر نفسه 1148-151. ومنهاج السنة النبوية 3386. 4 في ((ط)) : إل لجلب. 5 قال شيخ الإسلام: " ... فإنّ الواحد منّا إنّما يُحسن إلى غيره لجلب منفعة، أو لدفع مضرّة. وإنّما يضرّ غيره لجلب منفعة أو دفع مضرة. فإذا كان الذي يُثبت صفة وينفي أخرى يلزمه فيما أثبته نظير ما يلزمه فيما نفاه، لم يكن إثبات إحداهما ونفي الأخرى أولى من العكس. ولو عكس عاكس فنفى ما أثبته من الإرادة، وأثبت ما نفاه من المحبة لما ذكره، لم يكن بينهما فرق. وحينئذ: فالواجب إمّا نفي الجميع، ولا سبيل إليه للعلم الضروريّ بوجود نفع الخلق والإحسان إليهم، وأنّ ذلك يستلزم الإرادة. وإمّا إثبات الجميع؛ كما جاءت به النصوص. وحينئذٍ فمن توهّم أنّه يلزم من ذلك محذور، فأحد الأمرين لازم؛ إمّا أنّ ذلك المحذور لا يلزم، أو أنه إن لزم فليس بمحذور". قاعدة في الكرامات والمعجزات ص 58. 6 في ((خ)) : فينما. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 7 يُوضّح شيخ الإسلام رحمه الله هذا الجواب الإلزاميّ في موضع آخر فقال: "إذا قال لهم الناس: إذا أثبتم حكمة حدثت بعد أن لم تكن، لزمكم التسلسل. قالوا: القول في حدوث الحكمة، كالقول في سائر ما أحدثه من المفعولات. ونحن نُخاطب من يُسلّم لنا أنّه إذا أحدث المحدثات بعد أن لم تكن؛ فإذا قلنا: إنّه أحدثها بحكمة حادثة، لم يكن له أن يقول: هذا يستلزم التسلسل. بل نقول له: القول في حدوث الحكمة، كالقول في حدوث المفعول الذي ترتّبت عليه الحكمة. فما كان جوابك عن هذا، كان جوابنا عن هذا". مجموعة الرسائل والمسائل 4341.

وقيل لمثبت الإرادة1: ما كان جوابك عن هذا، كان جواباً عن حكمته؛ فقد بيّن أنّ من نفى الحكمة، فلا بُدّ أن ينقض قوله، ويلزمه مع التناقض نفي الصانع، وهو مع نفي الصانع تناقضه أشدّ. والمحذور الذي فرّ منه ألزم، فلم يُغن عنه فراره من إثبات الحكمة إلا زيادة الجهل والشرّ. وهكذا يُقال لمن نفى حبّه، ورضاه، وبغضه، وسخطه2. وهذا مقامٌ شريفٌ من تدبّره وتصوّره تبيّن له أنّه لا بُدّ من الإقرار بما جاء به الرسول، وأنّه هو الذي يُوافق صريح المعقول، وأنّ من خالفه، فهو ممّن لا يسمع، ولا [يعقل، وهو] 3 أسوأ حالاً ممّن فرّ من الملك العادل الذي يلزمه [بطعام] 4 امرأته وأولاده، والزكاة الشرعيّة، إلى بلادٍ ملكها ظالم ألزمه بإخراج أضعاف ذلك لخنازيره وكلابه، مع قلّة الكسب في بلاده. و [بمنزلة] 5 من فرّ من معاشرة أقوام أهل صلاح وعدلٍ ألزموه ما يلزم

_ 1 وهو الأشعري. وجوابه في إثبات الإرادة؛ فيُقال له: القول في الحكمة، كالقول في الإرادة التي تُثبتها. 2 وهم الأشاعرة الذين نفوا تلك الصفات مع الحكمة. انظر: التمهيد للباقلاني ص 47-48، 50-51. 3 في ((ط)) : يعق لو هو. 4 في ((خ)) : بالطعام. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 في ((ط)) : بمنزل.

واحداً منهم من الأمور المشتركة إذ كانوا مقيمين، أو مسافرين؛ ان يُخرج مثلما يُخرجه الواحد منهم. فكره هذا، وفرّ إلى بلدٍ، فألزمه أهلها بأن يُنفق عليهم ويخدمهم، وإلا قتلوه وما أمكنه الهرب منهم. فمن فرّ من حكم الله ورسوله أمراً وخبراً، [أو] 1 ارتدّ عن الإسلام، أو بعض شرائعه خوفاً من محذور في عقله، أو عمله، أو دينه، أو دنياه، كان ما يُصيبه من الشرّ أضعاف ما ظنّه شرّاً في اتباع الرسول. قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَىْ الَّذِيْنَ يَزْعُمُوْنَ أَنَّهُمْ آمَنُوْا بِمَاْ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَاْ اُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيْدُوْنَ أَنْ يَتَحَاْكَمُوْا إِلَىْ الطَّاْغُوْتِ وَقَدْ أُمِرُوْا أَنْ يَكْفُرُوْا بِهِ وَيُرِيْدُ الشَّيْطَاْنُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيْدَاً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودَاً فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيْهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ باللهِ إِنْ أَرَدْنَا إلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقَاً أُوْلَئِكَ الَّذِيْنَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِم فَأَعْرِض عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيْغَاً وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاْءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابَاً رَحِيْمَاً فَلاَ وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيْمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجَاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيْمَاً} 2.

_ 1 في ((خ)) : و. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 سورة النساء، الآيات 59-65.

فصل مناقشة من ينفي المحبة والحكمة والإرادة

فصل1 مناقشة من ينفي المحبة والحكمة والإرادة ويقال لهم: لِمَ فررتم من إثبات المحبّة، والحكمة، والإرادة، والفعل؟ فإن قالوا: لأنّ ذلك لا يعقل إلا في حق من يلتذّ، ويتألم، وينتفع، ويتضرّر. والله منزّهٌ عن ذلك2. قيل للفلاسفة: فأنتم تُثبتون أنّه مستلذّ،

_ 1 مسألة الحكمة وتعليل الأفعال وتداخلها بالقدر من أعظم المسائل التي اضطرب فيها المبتدعة. وقد ألّف شيخ الإسلام رحمه الله في هذا الموضوع رسالة مستقلة، أسماها: "أقوم ما قيل في المشيئة والحكمة والقضاء والقدر والتعليل وبطلان الجبر والتعطيل". انظرها في جامع الرسائل والمسائل 4-5283-346. وذلك على إثر سؤال ورد إليه وهو في الديار المصرية سنة أربع عشرة وسبعمائة في حسن إرادة الله تعالى لخلق الخلق، وإنشاء الأنام، وهل يخلق لعلة أم لغير علة؟ فأجاب رحمه الله بقوله: "هذه المسألة من أجل المسائل الكبار التي تكلّم فيها الناس، وأعظمها شعباً وفروعاً، وأكثرها شبهاً ومحارات؛ فإنّ لها تعلقاً بصفات الله تعالى، وبأسمائه، وأفعاله، وأحكامه؛ من الأمر، والنهي، والوعد، والوعيد. وهي داخلة في خلقه وأمره، فكلّ ما في الوجود متعلق بهذه المسألة؛ فإنّ المخلوقات جميعها متعلقة بها، وهي متعلقة بالخالق سبحانه. وكذلك الشرائع كلها؛ الأمر، والنهي، والوعد، والوعيد متعلقة بها، وهي متعلقة بمسائل القدر، والأمر، ومسائل الصفات والأفعال. وهذه جوامع علوم الناس ... ". جامع الرسائل والمسائل 4-5285. 2 هذه الشبه يحتجّ بها أكثر الفرق؛ كالجهميّة الذين ينفون بها المحبة، والإرادة، والحكمة، والفعل؛ والأشاعرة ينفون بها المحبة، والحكمة، والتحسين، والتقبيح "ذكر الرازي هذه الشبهة ضمن أدلّة الأشاعرة في نفي الحكمة انظر: الأربعين في أصول الدين للرازي ص 249-251. وانظر: نهاية الإقدام للشهرستاني ص 397. ولأبي الحسن الأشعريّ كلام في إنكار الحكمة، انظره في رسالة إلى أهل الثغر ص 240، 442"؛ والمعتزلة ينفون بها الصفات. وانظر: ص 7، 9، 27. وشيخ الإسلام رحمه الله أورد هذه الشبهة ضمن أدلة الأشاعرة، وردّ عليها من وجهين بكلام طويل، انظره في قاعدة في المعجزات والكرامات ص 57-60. وأوردها في موضع آخر من قول الرازي في الأربعين ص 250 يحتجّ بها على نفي الحكمة، وردّ عليها بخمسة أوجه في شرح الأصفهانية 2369-371. وقد يتمسّك الفلاسفة بهذه الشبهة في نفي المحبّة، والحكمة، والإرادة، والفعل. ولكنّ واقع الحال لا يُساعدهم على الأخذ بها، إذ عمدتهم في نفي الصفات هو دليل التركيب، وليس دليل الأعراض. وهذه الشبهة متفرعة عن دليل الأعراض كما سيأتي.

مبتهج، فهذا غير محذور عندكم1. وإن قلتم: لأنّ ذلك2 يستلزم لذّةَ

_ 1 وهذا من الأجوبة الملزمة؛ لأنّ الفلاسفة كما قال شيخ الإسلام: "يُعبّرون بلفظ البهجة، واللذة، والعشق، ونحو ذلك عن الفرح، والمحبّة، وما يتبع ذلك". منهاج السنّة النبويّة 3183. وانظر: من كتب الفلاسفة النجاة لابن سينا ص 227-251. فشيخ الإسلام رحمه الله يقول لهم: لِمَ لَمْ تُثبتوا المحبة، والحكمة، ... إلخ، وأثبتم البهجة، واللذة، والعشق، مع أنّكم تُعبّرون بها عن المحبة، والفرح ... إلخ. وانظر: ردود شيخ الإسلام رحمه الله على الفلاسفة في هذه الجُزئيّة في: منهاج السنة النبوية 5388-400. والعقيدة التدمرية ص 40-41. ودرء تعارض العقل والنقل 1100،، 8216-224، 290 والرد على المنطقيين ص 214. وشرح الأصفهانية ص 236. وكتاب الصفدية 2263-264، 268-269. وقد عاب شيخ الإسلام رحمه الله على الفلاسفة إثباتهم اللذة، والبهجة، ونحو ذلك ممّا أثبتوه ويقتضي نقصاً، وتركهم صفات الكمال التي أتى بها النصّ، فقال: "ويقولون أيضاً إنه يلتذّ ويبتهج. ولفظ اللذة فيها من التشبيه واحتمال النقص ما لا يخفى على عاقل. ويقولون إنّه مدرك، وأنّ اللذّة أفضل إدراك لأفضل مدرَك؛ فيُسمّونه مدرِكاً، ومدرَكاً". درء تعارض العقل والنقل 582. 2 أي إثبات المحبة، والحكمة، والإرادة.

حادثة. قيل لكم: في حلول الحوادث قولان، وليس معكم في النفي إلا ما يدلّ على نفي الصفات مطلقاً؛ كدليل التركيب1. وقد عُرف فساده من وجوه2. وقيل للجهميّة3 والمعتزلة: إن أردتم أنّ ذلك يقتضي حاجته إلى

_ 1 فهؤلاء الفلاسفة كما قال شيخ الإسلام يأخذون بدليل التركيب في نفي الصفات عموماً، ولا يأخذون بدليل الأعراض في نفي حلول الحوادث. بل هم يقولون: "الجسم مركّب إما من المادة والصورة، أو من الجواهر المنفردة. وكلّ مركب ممكن. فبهذه الحجة نفوا الصفات، وكانوا من أشدّ الناس تجهماً؛ لأنّهم زعموا أنّ إثبات الصفات يُنافي هذا التوحيد..". شرح الأصفهانية 151. وانظر: العقيدة التدمرية ص 40-41. وانظر: كلام شيخ الإسلام رحمه الله عن مراد المتكلمين والفلاسفة ب (المركب) في درء تعارض العقل والنقل 3403-404. 2 فدليل التركيب من الأدلة الفاسدة الباطلة. يقول شيخ الإسلام رحمه الله في بطلانه: "قالوا: والعالم حامل الصفات مركّب، فلا يكون واجباً. وإذا كان إثباتهم لصانع العالم على طريقتهم لا تتمّ إلا بنفي الصفات، ونفي الصفات باطل، كان طريقهم في إثبات الصانع باطلاً. ولهذا كان الصانع الذي يُثبتونه لا حقيقة له إلا في الأذهان، لا في الأعيان. فقولهم يستلزم التعطيل". كتاب الصفدية 1244. وانظر: نقد شيخ الإسلام رحمه الله لدليل التركيب، وبيانه لفساده من أوجه عديدة في: شرح الأصفهانية ص 50-89. ودرء تعارض العقل والنقل 5246-247. وكتاب الصفدية 187، 104-106. وشرح حديث النزول ص 83-88. 3 وانظر: قول الجهمية، وشبهتهم في نفي الحكمة، وردّ شيخ الإسلام رحمه الله عليهم في جامع الرسائل والمسائل 4286-287. وقال شيخ الإسلام أيضاً: "ونفوا الحكمة لظنهم أنها تستلزم الحاجة. وهذا قول الأشعري، وأصحابه، ومن وافقهم....... وهذا القول في الأصل قول جهم بن صفوان، ومن اتبعه من الجهمية". مجموع الفتاوى 837-38.

العباد، وأنّهم يضرّونه أو ينفعونه1، فهذا ليس بلازم. ولهذا كان الله منزّهاً عن ذلك، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الإلهيّ: "يا عبادي! إنّكم لن تبلغوا ضرّي فتضرّوني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني"2. فالله أجلّ من أن يحتاج إلى عباده لينفعوه، أو يخاف منهم أن يضرّوه. وإذا كان المخلوق العزيز لا يتمكّن غيره من قهره، فمن له العزّة جميعاً، وكلّ عزة فمن عزّته أبعد عن ذلك. وكذلك الحكيم المخلوق إذا كان

_ 1 ذكر هذه الحجة في نفي الحكمة عن الله: الشهرستاني في نهاية الإقدام ص 397-398. والرازي في الأربعين ص 249-250. والإيجي في المواقف في علم الكلام ص 331-332. وقد ردّ على هذه الشبهة شيخ الإسلام رحمه الله بعشرة أوجه في شرح الأصفهانية 2358-363. وقال رحمه الله في معرض ردّه على المعتزلة في قولهم في الحكمة: "أنتم متناقضون في هذا القول؛ لأنّ الإحسان إلى الغير محمود لكونه يعود منه على فاعله حكم يُحمد لأجله؛ إما لتكميل نفسه بذلك؛ وإما لقصده الحمد والثواب بذلك؛ وإما لرقة وألم يجده في نفسه، يدفع بذلك الإحسان لألم؛ وإما لالتذاذه، وسروره، وفرحه بالإحسان؛ فإنّ النفس الكريمة تفرح، وتسرّ، وتلتذ بالخير الذي يحصل منها إلى غيرها؛ فالإحسان إلى الغير محمود لكون المحسن يعود إليه من فعله هذه الأمور حكم يحمد لأجله. أما إذا قُدِّر أنّ وجود الإحسان وعدمه بالنسبة إلى الفاعل سواء، لم يعلم أنّ مثل هذا الفعل يحسن منه، بل مثل هذا يُعدّ عبثاً في عقول العقلاء، وكل من فعل فعلاً ليس فيه لنفسه لذة، ولا مصلحة، ولا منفعة بوجه من الوجوه لا عاجلة، ولا آجلة، كان عبثاً، ولم يكن محموداً على هذا. وأنتم عللتم أفعاله فراراً من العبث، فوقعتم في العبث؛ فإنّ العبث هو الفعل الذي ليس فيه مصلحة، ولا منفعة، ولا فائدة تعود على الفاعل". جامع الرسائل والمسائل 4291. 2 جزء من حديث قدسيّ طويل، أخرجه الإمام مسلم في صحيحه 41994-1995، كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم.

لا يفعل بنفسه ما يضرّها، فالخالق جلّ جلاله أولى أن لا يفعل ذلك لو كان ممكناً. فكيف إذا كان ممتنعاً. قال تعالى: {وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِيْنَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئَاً [يُرِيْدُ اللهُ أَنْ لا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظَّاً فِي الآخِرَةِ] 1 وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 2. وقال تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىْ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاْتِ مَا رَزَقْنَاْكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ [كَانُوا] 3 أَنْفُسَهُم يَظْلِمُون} 4. فقد بيَّن أنّ العصاة لا يضرّونه، ولا يظلمونه، كعصاة المخلوقين؛ فإنّ مماليك السيّد، وجند الملك، وأعوان الرجل، وشركاءه إذا عصوه فيما يأمرهم ويطلبه منهم، فقد يحصل له بذلك ضرر في نفسه، أو ماله، أو عرضه، أو غير ذلك. وقد يكون ذلك ظلماً له. والله تعالى لا يقدر أحدٌ على أن يضرّه ولا يظلمه. وإن كان الكافر على ربه ظهيراً، فمظاهرته على ربه، ومعاداته له، ومشاقّته، ومحاربته، عادت عليه بضرره، وظلمه لنفسه، وعقوبته في الدنيا والآخرة. وأما النفع فهو سبحانه غنيٌ عن الخلق، لا يستطيعون نفعه [فينفعوه] 5؛ فما أمرهم به إذا لم يفعلوه، لم يضرّوه6 بذلك؛ كما قال تعالى: {وَللهِ عَلَى

_ 1 ما بين المعقوفتين ساقطٌ من ((خ)) . 2 سورة آل عمران، الآية 176. 3 ما بين المعقوفتين ساقطٌ من ((خ)) . 4 سورة الأعراف، الآية رقم 60. 5 في ((خ)) : فيتفعونه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 6 يقول شيخ الإسلام رحمه الله في معرض ردّه على منكري الحكمة، مبيِّناً أنّ قيام الصفات بالله لا يلزم منه افتقاره جلّ وعلا إليها، بل هو الغني عن العالمين: "فإنّ الله غني واجب بنفسه. وقد عُرف أن قيام الصفات به لا يلزم حدوثه، ولا إمكانه، ولا حاجته، وأنّ قول القائل بلزوم افتقاره إلى صفاته اللازمة بمنزلة قوله: مفتقر إلى ذاته. ومعلومٌ أنّه غنيّ بنفسه، وأنه واجب الوجود بنفسه، وأنه موجود بنفسه. فتوهّم حاجة نفسه إلى نفسه؛ إن عنى به أنّ ذاته لا تقوم إلا بذاته. فهذا حقّ؛ فإنّ الله غني عن العالمين، وعن خلقه، وهو غني بنفسه. وأما إطلاق القول بأنّه غني عن نفسه، فهو باطل؛ فإنّه محتاج إلى نفسه. وفي إطلاق كل منهما إيهام معنى فاسد. ولا خالق إلا الله تعالى". قاعدة في المعجزات والكرامات ص 58.

النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سبِيلاً وَمَنْ كفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌ عَنِ الْعَالَمِينَ} 1، وقال: {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّيْ غَنِيٌ كَرِيْمٌ} 2، وقال: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُم وَلا تَزِرُ وَاْزِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 3. وإن أردتم أنّه [هو] 4 سبحانه لا يُريد، و [لا] 5 يفعل ما يفرح به، ويُسَرُّ به، ويجعل عباده المؤمنين يفعلون ما يفرح به، فمن أين لكم هذا6؟

_ 1 سورة آل عمران، الآية 97. 2 سورة النمل، الآية 40. 3 سورة الزمر، الآية 7. 4 ما بين المعقوفتين ليس في ((م)) ، و ((ط)) . 5 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) . 6 قال شيخ الإسلام رحمه الله: "ولهذا لم يأمر الله تعالى، ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من العقلاء أحداً بالإحسان إلى غيره ونفعه ونحو ذلك، إلا لما له في ذلك من المنفعة والمصلحة. وإلا فأمر الفاعل بفعل لا يعود إليه منه لذة، ولا سرور، ولا منفعة، ولا فرح بوجه من الوجوه؛ لا في العاجل، ولا في الآجل، لا يُستحسن من الآمر". جامع الرسائل والمسائل 4291. وانظر: النصوص الكثيرة التي ساقها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لإثبات محبة الله، وفرحه، وأفعاله جل وعلا في منهاج السنة النبوية 3160-162. وقاعدة في الكرامات والمعجزات ص 58-59.

وإن سمى هذا لذة، فالألفاظ المجملة التي قد يُفهم منها معنى فاسد إذا لم ترد في كلام الشارع لم [نكن] 1 محتاجين إلى إطلاقها؛ كلفظ (العشق) . وإن أُريد به المحبة التامّة، وقد أطلق بعضهم2 على الله أنّه يعشق، ويُعشق، وأراد به أنه يُحِبّ، ويُحَبّ محبة تامة، فالمعنى صحيح، واللفظ فيه نزاع. واللذة يُفهم منها لذة الأكل، والشرب، والجماع؛ كما يُفهم من العشق المحبة الفاسدة، والتصور الفاسد، ونحو ذلك ممّا يجب تنزيه الله عنه؛ فإنّ الذين قالوا لا يجوز وصفه بأنّه يعشق؛ منهم من قال: لأنّ العشق هو الإفراط في المحبة، والله تعالى لا إفراط في حبّه. ومنهم من قال: لأنّ العشق لا يكون إلا مع فساد التصوّر للمعشوق، وإلا فمع صحة التصور لا يحصل إفراط في الحبّ. وهذا المعنى لا يُمدح فاعله؛ فإنّ من تصوّر في الله ما هو منزّه عنه، فهو مذموم على تصوّره، ولوازم تصوّره. ومنهم من قال: لأنّ الشرع لم يرد بهذا اللفظ، وفيه إبهام، وإيهام، فلا يُطلق. وهذا أقرب. وآخرون يُنكرون محبة الله، وأن يُحِب ويُحَب؛ كالمعتزلة، والجهميّة، ومن وافقهم من الأشعرية3، وغيرهم، فهؤلاء يكون الكلام

_ 1 في ((خ)) : يكن. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 قال شيخ الإسلام رحمه الله عن الفلاسفة: "ويقولون إنه عاشق، ومعشوق، وعشق. مع أنّ لفظ العشق فيه من التشبيه واحتمال النقص ما لا يخفى على عاقل. وليس في الكتب الإلهية تسميته بعقل، ولا عاشق، ولا معقول، ولا معشوق". درء تعارض العقل والنقل 582. وانظر: المصدر نفسه 5247،، 9304-310، 10224 والصفدية 136. ومنهاج السنة النبوية 3183. 3 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن إنكار هؤلاء لمحبة الله تعالى: "وكان الجعد ... أول من ظهر عنه التعطيل بإنكار صفات الله تعالى، وبإنكار محبته، وتكليمه؛ كما يقول هؤلاء المتفلسفة، والجهمية، والباطنية، ونحوهم من المعطلة، والجهمية، والمعتزلة، ومن اتبعهم؛ فيُنكرون أن يكون الله يُحِب، أو يُحَب حقيقةً، ويُنكرون التمتع برؤيته، ويُنكرون أن يكون هو سبحانه موصوفاً بالفرح، ونحوه؛ لزعمهم أنّ هذا من نوع اللذة، والبهجة. والله لا يُوصف بذلك عندهم ... ". كتاب الصفدية 2263.

معهم في كونه يُحِبّ، ويُحَبّ؛ كما نطق به الكتاب والسنّة في مثل [قوله] 1: {فَسَوْفَ يَأْتِيْ اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّوْنَهُ} 2، لا في لفظ العشق. لفظ اللذة فيه إبهام وإيهام كذلك لفظ اللذة فيه إبهام، وإيهام، والشرع لم يرد بإطلاقه، ولكن استفاض عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّ الله يفرح بتوبة التائب أعظم من فرح من وجد راحلته بعد أن فقدها، وأيس منها في مفازةٍ مهلكة، [يائس] 3 من الحياة والنجاة من تلك الأرض، ومن وجود مركبه، ومطعمه، ومشربه، ثمّ وجد ذلك بعد اليأس؛ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "فكيف تجدون فرحه بدابّته"؟ . قالوا: عظيماً يا رسول الله. قال: " [لله] 4 أشدّ فرحاً بتوبة عبده من هذا براحلته"5. وقد نطق الكتاب والسنّة بأنّه يُحِبّ المتقين6، والمحسنين7، والصابرين8، والتوابين والمتطهرين9، والذين يُقاتلون في سبيله صفّاً

_ 1 في ((خ)) : قولهم. 2 سورة المائدة، الآية 54. 3 في ((م)) ، و ((ط)) : ويئس من. 4 في ((ط)) : الله. 5 أخرجه الإمام البخاري في صحيحه 52324-2325، كتاب الدعوات، باب التوبة. والإمام مسلم في صحيحه 42102-2104، كتاب التوبة، باب في الحض على التوبة، والفرح بها. 6 قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} . سورة التوبة، الآية 4. 7 قال تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} . سورة البقرة، الآية 195. 8 قال تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} .سورة آل عمران، الآية 146. 9 قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} . سورة البقرة، الآية 222.

كأنّهم بنيانٌ مرصوصٌ1، وأنّه يرضى عن المؤمنين2. فإذا كنتم نفيتم حقيقة الحب والرضى لأنّ ذلك يستلزم اللذة بحصول المحبوب. قيل لكم3: إن كان هذا لازماً، فلازم الحق حقّ. وإن لم يكن لازماً بطل نفيكم4. والفرح في الإنسان هو لذّة تحصل في قلبه بحصول محبوبه. وقد جاء أيضاً وصفه تعالى بأنّه يُسَرّ في الأثر، والكتب المتقدّمة5؛ وهو مثل لفظ الفرح6.

_ 1 قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} .سورة الصف، الآية 4. 2 قال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} سورة الفتح، الآية 18. 3 المقصود بهم الفلاسفة، وغيرهم من الجهمية، والمعتزلة، والأشعريّة ممّن ينفي صفة المحبّة والرضى. وانظر: جواب شيخ الإسلام رحمه الله المطوّل على هذه الشبهة في قاعدة في المعجزات والكرامات ص 58؛ فقد أجابهم بجوابين؛ أحدهما بالإلزام. وانظر: كتاب الصفدية 2260-264. 4 انظر: لشيخ الإسلام كلاماً مماثلاً لهذا في منهاج السنة النبوية 3182-183. وقاعدة في المعجزات والكرامات ص 55-56، 58-59. 5 قال ابن القيم رحمه الله: "وفي صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم في بعض الكتب المتقدمة: "عبدي الذي سُرّت به نفسي"، وهذا من كمال محبته له؛ جعله مما تُسرّ به نفسه سبحانه". مدارج السالكين 1216. وانظر: كلامه رحمه الله في السرور، وهل يوصف الله تعالى به، أم لا؟ في مدارج السالكين 3161. وسيأتي نقل ذلك مفصّلاً مما يُسمّى بالعهد القديم، في آخر هذا الكتاب، عند ذكر صفته صلى الله عليه وسلم في الكتب السابقة. انظر: ص 1284 من هذا الكتاب؛ حيث يرد في النصّ ما يُثبت سرور الربّ تبارك وتعالى بنبيّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم. وقد نقل الشيخ رحمه الله هذا النص في الجواب الصحيح 5175 في نبوة أشعيا: "عبدي الذي سُرّت به نفسي، أنزل عليه وحيي، فيظهر في الأمم عدلي، ويوصيهم بالوصايا". 6 الفرح في اللغة: السرور. انظر: مشكل الحديث لابن فورك ص 67. والأسماء والصفات للبيهقي 2421. وفتح الباري لابن حجر 1118.

صفة الضحك والبشبشة وأمّا الضحك: فكثيرٌ في الأحاديث1. ولفظ البشبشة جاء أيضاً أنّه يتبشبش للداخل إلى المسجد؛ كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم إذا قدم2.

_ 1 مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر، كلاهما يدخل الجنّة". الحديث رواه البخاري في صحيحه 31040، كتاب الجهاد والسير، باب الكافر يقتل المسلم، ثمّ يُسلم. ومسلم في صحيحه 31504، كتاب الإمارة، باب بيان الرجلين يقتل أحدهما الآخر، يدخلان الجنة. 2 الحديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "ما توطن رجل مسلم المساجد للصلاة والذكر إلا تبشبش الله له كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم إذا قدم عليهم". الحديث أخرجه ابن ماجه واللفظ له (صحيح سنن ابن ماجه، حديث رقم 652) . وأحمد في المسند 2307، 328، 340، 453. وابن خزيمة في صحيحه 2379، وصحح إسناده أحمد شاكر 8501. ورواه الدارمي في رده على بشر المريسي ص 203. وصححه الألباني انظر: صحيح ابن ماجه 652. وصحيح الترغيب والترهيب325. والحديث فيه إثبات البشبشة، وهي بمعنى الفرح. قال ابن الأثير: "البش: فرح الصديق بالصديق، واللطف في المسألة، والإقبال عليه. وقد بششت به أبش". فمعنى البشّ: الفرح. ويُضرب إذا تلقّى الصديق صديقه بالبرّ، وقرّبه، وأكرمه. انظر: النهاية في غريب الحديث 1130. وقال أبو يعلى الفراء بعد الكلام على صفة الفرح لله تعالى: ".... وكذلك القول في البشبشة؛ لأنّ معناه يُقارب معنى الفرح. والعرب تقول: رأيتُ لفلان بشاشة، وهشاشة، وفرحاً. ويقولون: فلانٌ هشٌ بشٌ فرحٌ؛ إذا كان منطلقاً؛ فيجوز إطلاق ذلك كما جاز إطلاق الفرح. وقد ذكر ابن قتيبة هذا الحديث في كتاب الغريب، وقال قوله: (يُبشبش) من البشاشة، وهو يتفعَّل؛ فحمل الخبر على ظاهره، ولم يتأوّله". انتهى كلام أبي يعلى في إبطال التأويلات لأخبار الصفات 1243. وانظر: غريب الحديث لابن قتيبة 1160. ومشكل الحديث وبيانه لابن فورك ص 68، 256. والأسماء والصفات للبيهقي 2421-422.

وجاء في الكتاب والسنة ما يُلائم ذلك ويُناسبه شيءٌ كثير1. فيُقال لمن نفى ذلك: لم نفيتَه؟ ولم نفيتَ هذا المعنى؛ وهو وصف كمال لا نقص فيه؟ ومن يتصف به أكمل ممّن لا يتصف به؟ وإنّما النقص فيه أن يحتاج فيه إلى غيره، والله تعالى لا يحتاج إلى أحد في شيء، بل هو فعّال لما يُريد. لكن القدرية قد يُشكل هذا على قولهم؛ فإنّ العباد عندهم مستقلّون بإحداث فعلهم، ولكن هذا مثل إجابة دعائهم، وإثابتهم على أفعالهم، ونحو ذلك ممّا فيه أنّ أفعالهم تقتضي أموراً يفعلها هو. وهم لا [يفرّون] 2 من كونه [يجب] 3 عليه أشياء، وأنّه يفعل ما يجب عليه؛ فيكون العبد قد جعله مريداً لما لم يكن مريداً له. وحينئذٍ فإذا كان العباد يجعلونه مريداً عندهم، فالقول في لوازم الإرادة، كالقول فيها. وهذا إمّا أن يدلّ على [فساد] 4 قولهم في القدر، وهو الصواب. وإمّا أن يقولوا: إنّ مثل ذلك جائزٌ على الله، وجائزٌ أن يجعله العبد مريداً بدون مشيئته لذلك، وبدون أن يكون هو الذي شاء ذلك من العبد، فيلزمهم في لوازمها ما يلزمهم فيها. وأمّا على قول المثبتة5: فكلّ ما يحدث، فهو بمشيئته، وقدرته، فما

_ 1 يُريد رحمه الله الأدلة السمعية التي دلّت على إثبات صفات الله الفعليّة. وقد جمع رحمه الله أدلة كثيرة من الكتاب والسنة على مسألة أفعال الله تعالى في درء تعارض العقل والنقل 3115-146. 2 في ((خ)) : يقرون. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 في ((ط)) : يحب. 4 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 5 المثبتة للقدر.

جعله أحدٌ مريداً فاعلاً، بل هو الذي يُحدِث كلَّ شيء، ويجعل بعضَ الأشياء سبباً لبعض. فإن قال نافي المحبة، والفرح، والحكمة، ونحو ذلك1: هذا يستلزم حاجته إلى المخلوق. ظهر فساد قوله. وإن قيل: إنّ ذلك إن كان وصف كمال، فقد كان فاقداً له، وإن كان نقصاً، فهو منزّه عن النقص. قيل له: هو كمال حين اقتضت الحكمة حدوثه، وحدوثه [قبل] 2 ذلك قد يكون نقصاً في الحكمة، أو يكون ممتنعاً غير ممكن؛ كما يُقال في نظائر ذلك3.

_ 1 أي الجهمية، والمعتزلة، والفلاسفة، والأشعرية، وغيرهم من نفاة هذه الصفات. 2 في ((خ)) : قبل. 3 وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله هذه الحجّة، وأنّها قول من يقول: "خلق المخلوقات، وأمر بالمأمورات، لا لعلّة، ولا لداع، ولا باعث. وهو قول الأشعرية، والظاهرية". وقد ردّ عليها رحمه الله. انظر: مجموعة الرسائل والمسائل 4286. وقال رحمه الله أيضاً في حصر الأقوال في التعليل وعدمه فذكر قول أهل السنة والجماعة: "والخامس قول من يُعلّل ذلك بأمور متعلقة بمشيئته وقدرته. فإن كان الفعل المفضي للحكمة حادث النوع، كانت الحكمة كذلك، وإن قُدّر أنّه قام به كلام أو فعل متعلّق بمشيئته وأنّه لم يزل كذلك، كانت الحكمة كذلك؛ فيكون النوع قديماً، وإن كانت آحاده حادثة". مجموعة الرسائل والمسائل 4342. وانظر: قاعدة في المعجزات والكرامات ص 57-58. وقد ذكر هذه الحجة الرازي في الأربعين ص 249-250. وردّ عليها شيخ الإسلام رحمه الله من عشرة أوجه. انظر: شرح الأصفهانية 2357-363. وذكر شيخ الإسلام رحمه الله هذه الحجة أيضاً عن الفلاسفة، وغيرهم من نفاة الأفعال الاختيارية وردّ عليهم رحمه الله من خمسة أوجه. انظر: مجموعة الرسائل والمسائل 4219-220. وكذلك هذه الحجة هي شبهة لمنكري تعليل أفعال الله تعالى. وقد ردّ عليهم شيخ الإسلام رحمه الله من خمسة أوجه. انظر: مجموعة الرسائل والمسائل 4337-339 ومنهاج السنة النبوية 1145) . وانظر: هذه الشبهة في: المواقف في علم الكلام للإيجي ص 331-332. وشرح المقاصد للتفتازاني 4301.

وتمام البسط في هذا الأصل مذكور في غير هذا الموضع1. والمقصود هنا التنبيه على لوازم ذلك؛ فإنّ نفاة ذلك2 نفوا أن يكون في الممكن فعل ينزّه عنه، فليس عندهم فعل يحسن منه، وفعل يُنزّه عنه. الحسن والقبح عند الأشاعرة بل [عندهم] 3 تقسيم الأفعال؛ أفعال الربّ والعبد إلى حسن وقبيح، لا يكون عندهم إلا بالشرع. وذلك لا يرجع إلى صفة في الفعل، بل الشارع عندهم يُرجّح مثلاً على مثل4. والحسن والقبيح إنّما يعقل إذا كان الحسن ملائماً

_ 1 انظر: مجموعة الرسائل والمسائل 4283-346 رسالة أقوم ما قيل في المشيئة والحكمة..؛ فإنّها في صميم الموضوع، وهي عبارة عن سؤال ورد للمؤلف رحمه الله من الديار المصرية، مضمونه: هل يفعل الله تعالى لحكمة أم لا؟ وهل هذه الحكمة لم تزل، أو محدثة؟ ثمّ أورد السائل على تفرعات السؤال إشكالات. فأجاب عنها شيخ الإسلام رحمه الله بهذه الرسالة القيمة. وانظر: أيضاً منهاج السنة النبوية 1133-147. 2 المقصود بهم الأشاعرة الذين ينفون التحسين والتقبيح العقليّين. 3 في ((م)) ، و ((ط)) : عنده. 4 يقول الجرجاني في شرح المواقف: "فلا حسن ولا قبح للأفعال قبل ورود الشرع. ولو عكس الشارع القضيّةَ فحسّن ما قبّحه، وقبّح ما حسّنه، لم يكن ممتنعاً، وانقلب الأمر، فصار القبيح حسناً، والحسن قبيحاً". شرح المواقف للجرجاني 8181-182. وانظر: رسالة إلى أهل الثغر للأشعري ص 243. واللمع له ص71. والإنصاف للباقلاني ص 48، 74-77. والإرشاد للجويني ص 258. والاقتصاد في الاعتقاد للغزالي ص 157. والمحصل للرازي ص 202. والمواقف في علم الكلام للإيجي ص 323-330. وشرح المقاصد للتفتازاني 4282-289.

للفاعل؛ وهو الذي يلتذ به، والقبيح يُنافيه؛ وهو الذي يُتألّم به. والحسن، والقبح في أفعال العباد بهذا الاعتبار متفق على جوازه. وإنّما النزاع في كونه يتعلّق به المدح والثواب. وهذا في الحقيقة يرجع إلى الألم واللذة. فلهذا سلّم الرازي في آخر عمره ما ذكره في كتاب1 [أقسام اللذّات] 2 إنّ الحسن والقبح العقليّين [ثابتان] 3 في أفعال العباد دون الرب4،

_ 1 كتاب أقسام اللذات؛ كما صرّح به شيخ الإسلام رحمه الله في بعض كتبه. انظر على سبيل المثال: جامع الرسائل 2250-251. وبيان تلبيس الجهمية 1127، وكذلك هذا الكتاب النبوات، كما سبق ص 478؛ حيث صرح بذكر هذا الاسم. وانظر: اجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم رحمه الله ص 304-305؛ إذ أورد نماذج من هذا الكتاب، تبيَّن من خلالها تسليم الرازي، وحيرته في آخر عمره. وشيخ الإسلام نقل هذا أيضاً. يقول رحمه الله: "ومن الناس من أثبت قسماً ثالثاً للحسن والقبح، وادّعى الاتفاق عليه، وهو كون الفعل صفة كمال، أو صفة نقص. وهذا القسم لم يذكره عامّة المتقدمين المتكلمين في هذه المسألة، ولكن ذكره بعض المتأخرين؛ كالرازي، وأخذه عن الفلاسفة. والتحقيق: أنّ هذا القسم لا يُخالف الأول؛ فإنّ الكمال الذي يحصل للإنسان ببعض الأفعال، هو يعود إلى الموافقة والمخالفة؛ فالنفس تلتذ بما هو كمال لها، وتتألّم بالنقص، فيعود الكمال والنقص إلى الملائم والمنافي". مجموعة الرسائل الكبرى 2104. 2 بياض بمقدار ثلاث كلمات في جميع النسخ. ولعلّ ما أثبتّ هو المقصود؛ لأنّه ألّفه في آخر حياته. 3 في ((خ)) رسمت هكذا: ياتيان. 4 قال شيخ الإسلام رحمه الله في تعريف الحسن والقبح، وعلاقتهما بالحكمة والقدر، وكيف وقع الاشتباه والاختلاف في ذلك: "إنّ الحسن هو: الحق، والصدق، والنافع، والمصلحة، والحكمة، والصواب. وإنّ الشيء القبيح هو: الباطل، والكذب، والضارّ، والمفسدة، والسفه، والخطأ". ثم ذكر رحمه الله قول القدرية، والجبرية في أفعال العباد، وارتباط ذلك بالحسن، والقبح؛ فقال: "والمعتزلة ومن اتبعها من الشيعة تزعم أنّ الأعمال ليست من خلقه ولا كونها شيء، وأنّ الآلام لا يجوز أن يفعلها إلا جزاء على عمل سابق، أو تعويض بنفع لاحق. وكثير من أهل الإثبات ومن اتبعهم من الجبرية يقولون: بل الجميع خلقه، وهو يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، ولا فرق بين خلق المضارّ والمنافع، والخير والشرّ بالنسبة إليه. ويقول هؤلاء: إنّه لا يُتصوّر أن يفعل ظلماً، ولا سفهاً أصلاً. بل لو فرض أنّه فعل أي شيء، كان فعله حكمة وعدلاً وحسناً، إذ لا قبيح إلا ما نهى عنه، وهو لم ينه أحداً. ويُسوّون بين تنعيم الخلائق وتعذيبهم، وعقوبة المحسن، ورفع درجات الكفار والمنافقين. والفريقان متفقان على أنه لا ينتفع بطاعات العباد، ولا يتضرّر بمعصيتهم. لكنِ الأولون يقولون: الإحسان إلى الغير حسن لذاته، وإن لم يعد إلى المحسن منه فائدة. والآخرون يقولون: ما حسن منّا حسن منه، وما قبح منا قبح منه.....". وقد أطال شيخ الإسلام رحمه الله النفس في توضيح موقف المعتزلة والأشاعرة من الحسن والقبح. انظر: قاعدة في المعجزات والكرامات ص 53. وأما التحسين والتقبيح عند أهل السنة والجماعة، فقد فصّل فيه شيخ الإسلام القول. وممّا قاله: "..وقد ثبت بالخطاب والحكمة الحاصلة من الشرائع، ثلاثة أنواع: أحدها: أن يكون الفعل مشتملاً على مصلحة، أو مفسدة، ولو لم يرد الشرع بذلك؛ كما يُعلم أنّ العدل مشتمل على مصلحة العالم، والظلم يشتمل على فسادهم. فهذا النوع هو حسن وقبيح. وقد يُعلم بالعقل والشرع قبح ذلك، لا أنّه أثبت للفعل صفة لم تكن. لكن لا يلزم من حصول هذا القبح أن يكون فاعله معاقباً في الآخرة إذا لم يرد شرع بذلك. وهذا مما غلط فيه غلاة القائلين بالتحسين والتقبيح؛ فإنّهم قالوا: إنّ العباد يُعاقبون على أفعالهم القبيحة، ولو لم يبعث إليهم رسولاً. وهذا خلاف النصّ؛ قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} .... النوع الثاني: إنّ الشارع إذا أمر بشيء صار حسناً، وإذا نهى عن شيء صار قبيحاً، واكتسب الفعل صفة الحسن والقبح بخطاب الشارع. والنوع الثالث: أن يأمر الشارع بشيء ليمتحن العبد، هل يطيعه أم يعصيه، ولا يكون المراد فعل المأمور به؛ كما أُمر إبراهيم بذبح ابنه، فلمّا أسلما وتلّه للجبين حصل المقصود، ففداه بالذبح. وكذلك حديث أبرص، وأقرع، وأعمى لما بعث الله إليهم من سألهم الصدقة؟ فلمّا أجاب الأعمى، قال المَلَك: أمسك عليك مالك، فإنّما ابتُليتم، فرضي عنك، وسخط على صاحبيك. فالحكمة منشؤها من نفس الأمر، لا من نفس المأمور به. وهذا النوع والذي قبله لم يفهمه المعتزلة، وزعمت أنّ الحسن والقبح لا يكون إلا لما هو متصف بذلك بدون أمر الشارع. والأشعريّة ادّعوا أنّ جميع الشريعة من قسم الامتحان، وأنّ الأفعال ليست لها صفة، لا قبل الشرع، ولا بالشرع. وأما الحكماء والجمهور، فأثبتوا الأقسام الثلاثة. وهو الصواب". مجموع الفتاوى 8434-436. وانظر: المصدر نفسه 16498. ومجموعة الرسائل والمسائل 4292. ومنهاج السنة النبوية 1316، 2294-302، 3177. ودرء تعارض العقل والنقل 822، 492، 949-62. وقاعدة في المعجزات والكرامات ص 53-54. والرد على المنطقيين ص 420-437. ومجموعة الرسائل الكبرى 2103-105. وشرح الأصفهانية 2342، 393، 617. وقال شيخ الإسلام رحمه الله عن موقف الناس من التحسين والتقبيح: "وقد تنازع الناس في حسن الأفعال وقبحها؛ كحسن العدل والتوحيد والصدق، وقبح الظلم والشرك والكذب: هل يُعلم بالعقل، أم لا يُعلم إلا بالسمع. وإذا قيل: إنّه يُعلم بالعقل، فهل يُعاقب من فعل ذلك قبل أن يأتيه رسول؟ على ثلاثة أقوال معروفة في أصحاب الأئمة وغيرهم؛ وهي ثلاثة أقوال لأصحاب الإمام أحمد وغيرهم ... ". الجواب الصحيح 2307-308.

إذا كان معناهما يؤول إلى اللذة والألم. الحسن والقبح عند المعتزلة والمعتزلة أثبتوا حسناً وقبحاً عقليّين في فعل القادر مطلقاً، سواء كان قديماً، أو محدَثاً. وقال1: الحُسْن: ما للقادر فعله. و [القبيح ما] 2 ليس له فعله. وقالوا: إنّ ذلك ثابتٌ بدون كونه مستلزماً للّذة والألم. كما ادّعوا ثبوت حكمته للفاعل القادر، ولا تعود إليه، ولا يستلزم اللذة؛ فادّعوا ما هو

_ 1 لعلها: قالوا. 2 ما بين المعقوفتين ملحق في هامش ((خ)) .

خلاف الموجود والمعقول1. ولهذا تسلّط عليهم النفاة2، فكان حجّتهم عليهم أن يُثبتوا أنّ هذا أمر لا يُعقل إلا مع اللذة والألم. ثمّ يقولون: وذلك في حقّ الله مُحال. فحجّتهم مبنيّة على مقدّمتين: أنّ الحسن والقبح والحكمة مستلزم للذة والألم، وذلك في حق الله مُحال.

_ 1 وانظر: تعريف عبد الجبار الهمذاني وهو من رؤوس المعتزلة للقبيح والحسن في كتابه: المغني في أبواب التوحيد والعدل ج 6، القسم الأول ص 26-30، 59-60. والأصول الخمسة له ص 326-332، 564-566. والمعتمد في أصول الفقه لأبي الحسين البصري المعتزلي 1363. وقال شيخ الإسلام رحمه الله في ذكر موقف كل من المعتزلة والأشاعرة من الحسن والقبح والحكمة: "وتفصيل حكمة الله في خلقه وأمره يعجز عن معرفتها عقول البشر. والقدرية دخلوا في التعليل على طريقة فاسدة مثّلوا الله فيها بخلقه، ولم يُثبتوا حكمة تعود إليه، فسلبوه قدرته، وحكمته، ومحبته، وغير ذلك من صفات كماله. فقابلهم خصومهم الجهمية المجبرة ببطلان التعليل في نفس الأمر. كما تنازعوا في مسألة التحسين والتقبيح؛ فأولئك أثبتوا على طريقة سووا فيها بين الله وخلقه، وأثبتوا حسناً وقبحاً لا يتضمّن محبوباً ولا مكروهاً، وهذا لا حقيقة له. كما أثبتوا تعليلاً لا يعود إلى الفاعل حكمه. وخصومهم سووا بين جميع الأفعال، ولم يُثبتوا لله محبوباً، ولا مكروهاً، وزعموا أنّ الحسن لو كان صفة ذاتية للفعل، لم يختلف حاله. وغلطوا؛ فإنّ الصفة الذاتية للموصوف قد يُراد بها اللازمة له". منهاج السنة النبوية 3177. 2 الأشاعرة نفاة الحسن والقبح. انظر: الأربعين في أصول الدين للرازي ص 249-250. ويُقال لهم: "حكمة الرب فوق تحصيل اللذة ودفع الألم، بل هو يتعالى عن ذلك؛ لأنّ ما ذكر غرض المخلوق. أمّا الخالق سبحانه فهو غنيٌ بذاته عن كلّ ما سواه؛ حكمته سبحانه لا تُشابه حكمة المخلوقين؛ كما أنّ إرادته، وسائر صفاته لا تُشابه صفات المخلوقين". الحكمة والتعليل في أفعال الله ص 72.

والمعتزلة منعوا المقدمة الأولى، فغلبوا معهم. والمقدمة الثانية جعلوها محلّ وفاق1، وهي مناسبة لأصول المعتزلة؛ لكونهم ينفون الصفات؛ فنفي الفعل القائم به أولى على أصلهم، ونفي مقتضى ذلك أولى على أصلهم. وهذه المقدمة التي اشتركوا فيها [تقتضي] 2 نفي كونه مريداً، ونفي كونه فاعلاً، ونفي حدوث شيء من الحوادث؛ كما أنّ نفي الصفات يقتضي نفي [شيء] 3 قائمٍ بنفسه موصوفٍ بالصفات. فنفي اتصافه بالصفات يستلزم أن لا يكون في الوجود شيء يتصف بصفة، ونفي فعله، وإحداثه يقتضي أن لا يكون في الوجود شيء حادِث؛ فكان ما نفوه مستلزماً نهاية السفسطة4، وجحد الحقائق. ولهذا كان من

_ 1 المعتزلة جعلوها محلّ وفاق مع الأشاعرة؛ لأنّها موافقة لأصولهم. 2 في ((خ)) : يقتضي. 3 ما بين المعقوفتين ليس في ((م)) ، و ((ط)) . 4 المقصود بالسفسطة: الحكمة المموّهة. ويُراد بها التمويه، والخداع، والمغالطة في الكلام، وجحد الحقائق. وهي كلمة معربة من اليونانية، مركبة من سوفيا؛ وهي الحكمة، ومن اسطس؛ وهو المموّه؛ فمعناه: حكمة مموّهة. يقول الجرجاني في التعريفات ص 158: "السفسطة: قياس مركب من الوهميات. والغرض منه تغليط الخصم، وإسكاته؛ كقولنا: الجوهر موجود في الذهن، وكل موجود في الذهن قائم بالذهن عرضٌ؛ لينتج أنّ الجوهر عرض". يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فإنّ هذه الكلمة هي كلمة معربة، وأصلها باليونانية (سوفسقيا) ؛ أي حكمة مموهة؛ فإنّ (سوفيا) باليونانية هي الحكمة، ولهذا يقولون: (فيلسوف) ؛ أي محبّ الحكمة ... وأما هذه المموهة فهي تشبه الحق البرهاني ونحوه مما ينبغي قبوله، وهي في الحقيقة باطلة يجب ردها، ولكن موهت كما يموه الحق بالباطل، فسمّوها (سوفسقيا) ؛ أي حكمة مموهة". بيان تلبيس الجهمية 1322-324. وانظر: التسعينيّة ص 36-37. وتاريخ الفلسفة اليونانية ليوسف كرم ص 45. وانظر: تقسيم شيخ الإسلام للسفسطة إلى ثلاثة أقسام في منهاج السنة 1419. وفي كتاب الصفدية 197 قسمها إلى أربعة أقسام.

وافق هؤلاء على نفي محبة الله لما أمر به من الصوفية، يلزمهم تعطيل الأمر والنهي، وأن لا [ينفى] 1 إلا القدر [العامّ] 2. وقد التزم ذلك طائفة من محققيهم3، وكان نفي الصفات يستلزم نفي [الذات] 4، وأن لا يكون [موجودان] 5، أحدهما واجب قديم خالق، والآخر ممكن، أو محدَث، أو مخلوق. وهكذا التزمه طائفة من محققيهم؛ وهم القائلون بوحدة الوجود، و [هؤلاء] 6 يقولون [بكون] 7 العبد أولاً يشهد الرفق بين الطاعة والمعصية، ثمّ يشهد طاعة بلا معصية، ثمّ لا طاعة ولا معصية، بل الوجود واحد8، فالذين أثبتوا الحسن والقبح في الأفعال،

_ 1 في ((خ)) : يبقى. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 في ((ط)) : العلم. 3 انظر: كتاب الصفدية 1243-245، 264-265. 4 في ((م)) ، و ((ط)) : الصفات. 5 في ((خ)) : موجودا ان. 6 في ((م)) ، و ((ط)) : هم. 7 في ((خ)) : يكون. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 8 وقد سوّى غلاة الصوفية بين الإيمان والكفر، والخير والشرّ بكونه منه سبحانه وتعالى. انظر: جامع الرسائل والمسائل 4300-301. وجامع الرسائل 1125. ومجموع الفتاوى 8331، 339، 343-350. وقد قال عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ولهذا يجوز عندهم أن يأمر الله بكل شيء، حتى الكفر والفسوق والعصيان، وينهى عن كل شيء، حتى عن الإيمان والتوحيد، ويجوز نسخ كل ما أمر به بكلّ ما نهى عنه. ولم يبق عندهم في الوجود خير ولا شرّ، ولا حسن ولا قبح إلا بهذا الاعتبار. فما في الوجود ضر ولا نفع. والنفع والضرّ أمران إضافيان، فربما نفع هذا ما ضرّ هذا؛ كما يُقال مصائب قوم عند قوم فوائد". مجموع الفتاوى 8343. وانظر: بيان تلبيس الجهمية 1162.

وأنّ لها صفات تقتضي ذلك، قالوا بما قاله جمهور العقلاء من المسلمين وغيرهم. قال أبو الخطاب1: "هذا قول أكثر الفقهاء والمتكلمين2، لكن تناقضوا، فلم يُثبتوا لازم ذلك، فتسلّط عليهم النفاة. والنفاة لمّا نفوا الحسن والقبح في نفس الأمر3، قالوا4: لا فرق في ما يخلقه الله، [وبما يأمر] 5 به بين فعل وفعل، وليس في نفس الأمر حسن، ولا قبيح، ولا صفات توجب ذلك. واستثنوا ما يوجب اللذة والألم، لكن اعتقدوا ما اعتقدته المعتزلة أنّ هذا لا يجوز إثباته في حق الربّ. وأما في حق العبد: فظنّوا أنّ الأفعال لا [تقتضي] 6 إلا لذة وألماً في الدنيا. وأمّا كونها مشتملة

_ 1 أبو الخطاب هو محفوظ بن أحمد بن الحسن بن أحمد الكلوذاني البغدادي، أحد أعيان المذهب الحنبلي. ولد سنة 432?. وتفقه على القاضي أبي يعلى، وسمع الكثير، ودرّس، وأفتى، وناظر، وصنّف في الأصول والفروع. توفي في بغداد سنة 510 ?. قال السلفي: "هو ثقة رضيّ من أئمة أصحاب أحمد". انظر: البداية والنهاية 12180. والذيل على طبقات الحنابلة 1116-127. والأعلام للزركلي 5291. وسير أعلام النبلاء 19349. 2 انظر: التمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب 4294. وقد نقل شيخ الإسلام رحمه الله هذا النص عن أبي الخطاب في كتابه الجواب الصحيح 2309. 3 وهم الأشاعرة، نفاة الحسن والقبح العقليّين، والحكمة والمحبة. ولأبي الخطاب كتاب مطبوع اسمه التمهيد في أصول الفقه، يقع في أربع مجلدات، من مطبوعات المجلس العلمي في جامعة أم القرى. 4 المقصود بهم الأشاعرة. وهذه حجتهم. وانظر: ص 547-552. وانظر: شرح الأصفهانية 2616-620. 5 في ((م)) ، و ((ط)) : وما يأمره. 6 في ((خ)) : يقتضي.

على صفات تقتضي لذة وألماً في الآخرة، [فذاك] 1 عندهم باطلٌ، ولم يمكنهم أن يقولوا إنّ الشارع يأمر بما فيه لذة مطلقاً، و [ينهى] 2 عمّا فيه ألم مطلقاً. وكون الفعل يقتضي ما يوجب اللذة، هو عندهم من باب التولّد3.

_ 1 في ((م)) ، و ((ط)) : فذلك. 2 في ((خ)) : نهي. 3 المقصود به هنا: التوليد؛ وهو " أن يحصل الفعل عن فاعله بتوسّط فعلٍ آخر؛ كحركة المفتاح في حركة اليد". التعريفات للجرجاني ص 98. وقال شيخ الإسلام رحمه الله عن مسألة التوليد، وموقف كل من المعتزلة والأشاعرة منها: "فإنّ أفعال الإنسان، وغيره من الحيوان على نوعين: أحدهما المباشر، والثاني المتولّد. فالمباشر ما كان في محلّ القدرة؛ كالقيام، والقعود، والأكل، والشرب. وأما المتولّد فهو ما خرج عن محلّ القدرة؛ كخروج السهم من القوس، وقطع السكين للعنق، والألم الحاصل من الضرب، ونحو ذلك. فهؤلاء المعتزلة يقولون: هذه المتولّدات فعل العبد؛ كالأفعال المباشرة. وأولئك المبالغون في مناقضتهم في مسائل القدر من الأشعرية وغيرهم يقولون: بل هذه الحوادث فعل الله تعالى، ليس للعبد فيها فعل أصلاً". كتاب الصفدية 1150. وقال رحمه الله في موضع آخر عن أقوال الناس في التولّد: "فأما الأمور المنفصلة عنه التي يُقال إنها متولّدة عن فعله. فمن الناس من يقول: ليست مفعولة له بحال، بل هي مفعولة لله تعالى؛ كما يقول ذلك كثيرٌ من متكلمي المثبتين للقدر. ومنهم من يقول: بل هو مفعول له على طريق التولد؛ كما يقوله من يقوله من المعتزلة. ويُحكى عن بعضهم أنه قال: لا فاعل لها بحال. وحقيقة الأمر: أنّ تلك قد اشترك فيها الإنسان، والسبب المنفصل عنه؛ فإنّه إذا ضَرَبَ بحجر فقد فعل الحَذْف، ووصول الحجر إلى منتهاه حصل بهذا السبب، وبسببٍ آخر من الحجر والهواء. وكذلك الشبع، والرّيّ حصل بسبب أكله وشربه الذي هو فعله، وبسبب ما في الطعام والشراب من قوة التغذية، وما في بدنه من قوة القبول لذلك. والله خالق هذا كلّه". درء تعارض العقل والنقل 9340-341. وانظر: عن التولّد عند المعتزلة والأشعرية: الأصول الخمسة لعبد الجبار ص 387-390، 424. والتمهيد للباقلاني ص 63-64، 334-341. والإرشاد للجويني ص 230. وأصول الدين للبغدادي ص 137. والفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم 359. والمواقف في علم الكلام للإيجي ص 316-319. وشرح المقاصد للتفتازاني 4271.

معنى الكسب عند االأشاعرة وهم لا يقولون به، بل قدرة العبد عندهم لا [تتعلّق] 1 إلا بفعل في محلّها، مع أنّها عند شيخهم2 غير مؤثرة في المقدور، ولا يقول أنّ العبد فاعلٌ في الحقيقة، بل كاسب3.

_ 1 في ((خ)) : يتعلق. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 المقصود به أبو الحسن الأشعري. قال في مقالات الإسلاميين 2221: (والحق عندي أنّ معنى الاكتساب هو أن يقع الشيء بقدرة محدثة، فيكون كسباً لمن وقع بقدرته) . وقال الشهرستاني في الملل والنحل 191: (قال أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري: إذا كان الخالق على الحقيقة هو الباري تعالى لا يُشاركه في الخلق غيره، فأخص وصفه تعالى هو القدرة على الاختراع) . وقال الشهرستاني عن الكسب، وتأثير القدرة عند الأشعريّ: "ثمّ على أصل أبي الحسن: لا تأثير للقدرة الحادثة في الإحداث؛ لأنّ جهة الحدوث قضيّة واحدة لا تختلف بالنسبة إلى الجوهر والعرض..... أنّ الله تعالى أجرى سنّته بأن يحقق عقيب القدرة الحادثة، أو تحتها، أو معها الفعل الحاصل إذا أراده العبد وتجرّد له. ويُسمّى هذا الفعل كسباً، فيكون خلقاً من الله تعالى إبداعاً وإحداثاً، وكسباً من العبد، حصولاً تحت قدرته". الملل والنحل للشهرستاني 197. وانظر: اللمع للأشعري ص93-95. والإنصاف للباقلاني ص70-71. والإرشاد للجويني ص 208-210. وأصول الدين للبغدادي ص 133-137. 3 الكسب عند الأشعريّ: قال الأشعري عن الكسب: (فكل من وقع منه الفعل بقدرة قديمة، فهو فاعل خالق، ومن وقع منه بقدرة محدثة فهو مكتسب. وهذا قول أهل الحق) . مقالات الإسلاميين 1539. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن الكسب عند الأشعرية: "وهم وإن كانوا لا يُثبتون لقدرة العبد أثراً في حصول المقدور، فإنّهم يُفرّقون بين ما كان في محل القدرة فيجعلونه مقدوراً للعبد، وما كان خارجاً عن محل القدرة فلا يجعلونه مقدوراً للعبد. وأكثر من نازعهم يقول: إنّ هذا كلام لا يُعقل؛ فإنّه إذا لم يثبت للقدرة أثر، لم يكن الفرق بين ما كان في محلّ القدرة، وبين ما كان في غير محل القدرة إلا فرقاً في محلّ الحادث، من غير أن يكون للقدرة في ذلك تأثير. وتسمية هذا مقدوراً دون هذا تحكّم محض، وتفريق بين المتماثلين. ولهذا قال بعض الناس: عجائب الكلام التي لا حقيقة لها ثلاثة: طفرة النظام، وأحوال أبي هاشم، وكسب الأشعري. وإذا قيل لهؤلاء: الكسب الذي أثبتموه لا تُعقل حقيقته. فإذا قالوا: الكسب ما وُجد في محل القدرة المحدثة مقارناً لها من غير أن يكون للقدرة تأثير فيه. قيل لهم: فلا فرق بين هذا الكسب، وبين سائر ما يحدث في غير محلها وغير مقارن لها؛ إذ اشتراك الشيئين في زمانهما ومحلهما لا يُوجب كون أحدهما له قدرة على الآخر؛ كاشتراك العرضين الحادثين في محل واحد، في زمان واحد. بل قد يُقال: ليس جعل الكسب قدرة والقدرة كسباً بأولى من العكس إذا لم يكن إلا مجرد المقارنة في الزمان والمحل". كتاب الصفدية 1148، 150-152. وانظر: المصدر نفسه 2331. ومنهاج السنة النبوية 313، 109. ودرء تعارض العقل والنقل 8320. وشرح الأصفهانية 1150، 2350. ومجموع الفتاوى 30139. وانظر: أيضاً: أصول الدين للبغدادي ص133-134. وشرح الجوهرة للبيجوري ص 104. والعقيدة الإسلامية لعبد الرحمن حبنكة ص 757-758.

ولم يذكروا بين الكسب والفعل فرقاً معقولاً، بل حقيقة قولهم قول جهم: إنّ العبد لا قدرة له، ولا فعل، ولا كسب1. والله عندهم فاعل فعل العبد، وفعله هو نفس مفعوله؛ فصار الربّ عندهم فاعلاً لكلّ ما يُوجد من أفعال العباد. ويلزمهم أن يكون هو الفاعل للقبائح، وأن يتّصف بها على قولهم إنّه يُوصف بالصفات الفعليّة القائمة بغيره.

_ 1 لاحظ الحاشية السابقة.

وقد تناقضوا في هذا الموضع1 [فجعلوه] 2 متكلماً بكلام يقوم بغيره، وجعلوه عادلاً ومحسناً بعدلٍ وإحسانٍ يقوم بغيره؛ كما قد بُسط في غير هذا الموضع3. وحينئذٍ فما بقي يمكنهم أن يُفرّقوا بين ممكن وممكن من جميع الأجناس؛ أي يقولوا: هذا يحسن من الرب فعله، وهذا يُنزّه عنه. بل يجوز عندهم أن يفعل كلّ ممكن مقدور. معنى الظلم عند الأشاعرة والظلم عندهم هو فعل ما نهى المرء عنه، أو التصرّف في ملك الغير4. وكلاهما ممتنعٌ في حقّ الله. فأما أن

_ 1 أي وصفه بالصفات الفعليّة القائمة بغيره. 2 في ((خ)) : فلم يجعلوه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 انظر: كتاب الصفدية 1153-154. وشرح الأصفهانية 125-28. ومنهاج السنة النبوية 2107-120. ودرء تعارض العقل والنقل 5242-250. 4 انظر: التمهيد للباقلاني ص384-385. وأصول الدين للبغدادي ص131-133. وشرح المقاصد للتفتازاني 4274-281. وشرح العقائد العضدية لجلال الدواني 2186-189. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن هذه الطائفة إنهم يقولون: (الظلم ليس بممكن الوجود، بل كل ممكن إذا قُدّر وجوده منه فإنّه عدلٌ. والظلم هو الممتنع؛ مثل الجمع بين الضدّين، وكون الشيء موجوداً معدوماً؛ فإنّ الظلم إمّا التصرف في ملك الغير، وكل ما سواه ملكه؛ وإمّا مخالفة الآمر الذي تجب طاعته. وليس فوق الله تعالى آمرٌ تجب عليه طاعته. وهؤلاء يقولون: مهما تصور وجوده، وقُدّر وجوده فهو عدل. وإذا قالوا كل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل، فهذا أمر أُوهم. وهذا قول المجبرة؛ مثل جهم ومن اتبعه. وهو قول الأشعري ومن اتبعه، وأمثاله من أهل الكلام، وقول من وافقهم من الفقهاء، وأهل الحديث، والصوفية) . جامع الرسائل 1121-122. قال الأشعري: "وهو المالك في خلقه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فلو أدخل الخلائق بأجمعهم الجنة، لم يكن حيفاً، ولو أدخلهم النار لم يكن جوراً؛ إذ الظلم هوالتصرف فيما لا يملكه المتصرف، أو وضع الشيء في غير موضعه. وهو المالك المطلق فلا يتصور منه ظلم، ولا ينسب إليه جور". الملل والنحل 1100.

يكون هناك أمر ممكن مقدور، وهو منزّه عنه، فهذا عندهم لا يجوز. من أصول الأشاعرة فلهذا جوّزوا عليه كلّ ما يُمكن، ولا ينزهونه عن فعل لكونه قبيحاً، أو نقصاً، أو مذموماً، ونحو ذلك1. بل يعلم ما يقع وما لا يقع بالخبر؛ أي بخبر الرسول كما علم بخبره المأمور والمحظور، والوعد والوعيد، والثواب والعقاب، أو بالعادة مع أنّ العادة يجوز انتقاضها عندهم. لكن قالوا: قد يُعلم بالضرورة عدم ما يجوز وقوعه، من غير فرق؛ لا في الوجود، ولا في العلم بين ما علموا انتفاءه، وما لم يعلموه؛ إذ كان أصل قولهم هو جواز التفريق بين المتماثلين بلا سبب. فالإرادة القديمة عندهم تُرجّح مثلاً على مثل بلا سبب في خلق الرب وفي أمره. وكذلك عندهم قد يُحدث في قلب العبد علماً ضرورياً بالفرق بين المتماثلين بلا سبب. فلهذا قالوا: إنّ الشرع لا يأمر وينهى لحكمة2. ولم يعتمدوا على المناسبة، وقالوا: علل الشرع أمارات3؛ كما قالوا: إنّ أفعال العباد أمارة على السعادة والشقاء فقط4، من غير أن يكون

_ 1 انظر: المواقف في علم الكلام للإيجي ص 323، 328، 330، 331. 2 المقصود بهم الأشاعرة. انظر: التمهيد للباقلاني ص 50-66. والمواقف في علم الكلام للإيجي ص 331-332. 3 انظر: المواقف للإيجي ص 314-315، 323. 4 قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وملخص ذلك أنّ الله إذا أمر بأمرٍ فإنّه حسنٌ بالاتفاق، وإذا نهى عن شيء فإنّه قبيحٌ بالاتفاق. لكن حسن الفعل وقبحه إما أن ينشأ من نفس الفعل، والأمر والنهي كاشفان؛ أو ينشأ من نفس تعلق الأمر والنهي به؛ أو من المجموع. فالأول هو قول المعتزلة. ولهذا لا يجوّزون نسخ العبادة قبل دخول وقتها؛ لأته يستلزم أن يكون الفعل الواحد حسناً قبيحاً. وهذا قول أبي الحسين التميمي من أصحاب أحمد، وغيره من الفقهاء. والثاني قول الأشعرية ومن وافقهم من الظاهرية، وفقهاء الطوائف. وهؤلاء يجعلون علل الشرع مجرّد أمارات، ولا يُثبتون بين العلل والأفعال مناسبة. لكن هؤلاء الفقهاء متناقضون في هذا الباب". شرح الأصفهانية 2618. وانظر: الإنصاف للباقلاني ص 74-75. والمواقف في علم الكلام للإيجي ص 323. وقال شيخ الإسلام رحمه الله عن الأشعرية: "وقالوا: إن الطاعات والمعاصي مع الثواب والعقاب كذلك، ليس في الطاعة معنى يُناسب الثواب، ولا في المعصية معنى يُناسب العقاب، ولا كان في الأمر والنهي حكمة لأجلها أمر ونهى. ولا أراد بإرسال الرسل رحمة العباد ومصلحتهم، بل أراد أن يُنعّم طائفة، ويُعذّب طائفة لا لحكمة. والسبب هو جعل الأمر، والنهي، والطاعة، والمعصية علامة على ذلك، لا لسبب، ولا لحكمة. وأنه يجوز أن يأمر بكل شيء، حتى بالشرك، وتكذيب الرسل، والظلم، والفواحش، وينهى عن كل شيء، حتى التوحيد، والإيمان بالرسل، وطاعتهم". مجموع الفتاوى 8468. ونحو هذا الكلام الذي حكاه شيخ الإسلام عن الأشعرية، ذكره البيجوري من الأشعرية في كتابه شرح جوهرة التوحيد، فقال: "وبالجملة: فهو سبحانه وتعالى لا تنفعه طاعة، ولا تضرّه معصية، والكلّ بخلقه. فليست الطاعة مستلزمة للثواب، وليست المعصية مستلزمة للعقاب، وإنما هما أمارتان تدلان على الثواب لمن أطاع، والعقاب لمن عصى، حتى لو عكس دلالتهما بأن قال: من أطاعني عذّبته، ومن عصاني أثبته، لكان ذلك منه حسناً". شرح الجوهرة ص 108.

في أحد الفعلين معنى يُناسب الثواب أو العقاب1. ومن أثبت المناسبة من متأخّريهم؛ كأبي حامد2 ومن تبعه. قالوا: عرفنا بالاستقراء أنّ المأمور به تقترن به مصلحة العباد؛ وهو حصول ما ينفعهم، والمنهي عنه تقترن به المفسدة، فإذا وُجد الأمر والنهي عُلم وجود

_ 1 انظر: الكلام على المناسبة، وما يُراد بها، وتفصيل شيخ الإسلام لها في مجموعة الرسائل والمسائل 4224-225. وانظر: الإنصاف للباقلاني ص 74-77. 2 الغزالي.

قرينه الذي علم بعادة الشرع من غير أن يكون الربّ أمر به لتلك المصلحة، ولا نهى عنه لتلك المفسدة. وجمهورهم وأئمتهم على أنّه يمتنع أن يفعل لحكمة. لكن الآمديّ قال: إنّ ذلك جائز غير واجب؛ فلم يجعله واجباً، ولا ممتنعاً1.

_ 1 ولشيخ الإسلام رحمه الله كلام جميل مختصر في توضيح قول أهل السنة والجماعة في مسألة أفعال العباد، وإثبات ما لله في خلقه وأمره من الأسباب، والحكمة، نختم به هذا الفصل الذي أفاض فيه المؤلف رحمه الله في الحديث عن أقوال الفلاسفة والمتكلمين في هذه القضيّة. يقول رحمه الله تعالى: "جمهور المسلمين يقولون بالحق الذي دلّ عليه المنقول والمعقول؛ فيقولون: إنّ أفعال العباد مخلوقة لله، مفعولة له، وهي فعلٌ للعباد حقيقة لا مجازاً. وهم يُثبتون ما لله في خلقه وأمره من الأسباب، والحكم، وما جعله الله في الأجسام من القوى والطبائع في الحيوان وفي الجماد. لكنهم مع إثباتهم للأسباب والحكم لا يقولون بقول الطبائعيّة من الفلاسفة وغيرهم، بل يقولون: إنّ الله خالق كلّ شيء، وربّه، ومليكه، وأنّه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا حول ولا قوة إلا به. ويعلمون أنّ الأسباب هي مخلوقة لله بمشيئته وقدرته، ولا تزال مفتقرة إلى الله. لا يقولون إنها معلولة له، أو متولدة عنه؛ كما يقوله الفلاسفة، ولا أنها مستغنية عنه بعد الإحداث؛ كما يقوله من يقوله من أهل الكلام. بل كل ما سوى الله تعالى دائم الفقر والاحتياج إليه، لا يحدث ولا يبقى إلا بمشيئته القديمة. فما كان بالأسباب، فالله خالقه، وخالق سببه جميعاً. ويقولون مع هذا: إنّ الأسباب التي خلقها ليس فيها ما يستقلّ بالتأثير في شيء من الأشياء، بل لا بُدّ له من أسباب أُخر تعاونه وتشاركه، وهو مع ذلك له معارضات وموانع تعارضه وتدافعه؛ كما في الشعاع الحادث عن الشمس، والاحتراق الحادث عن النار، ونحو ذلك؛ فإنّه لا بُدّ مع الشمس من محلّ قابل لانعكاس الشعاع عليه. وهو مع ذلك يمتنع بحصول الحائل؛ كالسحاب، والسقف، وغير ذلك من الموانع، وبكل حائل".كتاب الصفدية 1154-155.

فصل عدل الله وحكمته وتعليل أفعاله

فصل عدل الله وحكمته وتعليل أفعاله وهذا الأصل1 دخل في جميع أبواب الدين؛ أصوله، وفروعه؛ في

_ 1 المقصود به عدل الله وحكمته والتعليل في أفعاله؛ كما مرّ في الفصل السابق. وقد ألّف شيخ الإسلام رحمه الله في هذا الأصل رسائل قيّمة؛ مثل رسالة في معنى كون الربّ عادلاً وفي تنزّهه عن الظلم. وهي ممّا ألّفه رحمه الله في محبسه الأخير بالقلعة بدمشق. (انظر جامع الرسائل 1119-142) . وكذلك رسالة في شرح حديث أبي ذر: "يا عبادي إني حرّمتُ الظلم على نفسي"؛ ضمن مجموعة الرسائل المنيرية 2205-246. وانظر منهاج السنة النبوية 1133-146. وممّا قاله رحمه الله عن هذا الأصل: "وهذا الأصل؛ وهو عدل الربّ، يتعلّق بجميع أنواع العلم والدين؛ فإنّ جميع أفعال الرب ومخلوقاته داخلة في ذلك، وكذلك أقواله وشرائعه وكتبه المنزلة، وما يدخل في ذلك من مسائل المبدأ والمعاد، ومسائل النبوات، وآياتهم، والثواب والعقاب، ومسائل التعديل والتجوير، وغير ذلك. وهذه الأمور ممّا خاض فيه جميع الأمم". جامع الرسائل 1125. وشيخ الإسلام رحمه الله يردّ على المبتدعة في أصولهم التي بنوا عليها معتقداتهم، فلذلك ربط رحمه الله بين المعجزات وثبوت النبوة، مع مسائل العدل والحكمة. وقد ذكر أحد أئمة الأشاعرة أنّ النبوّات والمعجزات مبنيّة على أصول، ومرتبة على قواعد. وأصل هذه الأصول كما ذكر هو القول بالتعديل والتجوير. يقول الجويني في الإرشاد ص 257 عن القول في التعديل والتجوير: (إنّ مضمون هذا الأصل العظيم، والخطب الجسيم تحصره مقدّمتان، وثلاث مسائل: إحدى المقدمتين في الردّ على من قال بتحسين العقل وتقبيحه. والأخرى: أنه لا واجب على الله تعالى يدلّ عليه العقل. وأما المسائل الثلاث؛ فإحداها في بيان مذاهب أهل الملل في إيلام الله تعالى من يؤلمه من عباده وخليقته. وهذه المسألة تتشعب القول في التناسخ والأعراض. والمسألة الثانية في الصلاح والأصلح. والثالثة في اللطف ومعناه. وإذا نجزت هذه الأصول افتتحنا بعده المعجزات، ورتبنا على ثبوت النبوات السمعيات) . فالتعديل والتجوير هو أصل الأصول التي بنى عليها هؤلاء إثبات النبوة. لذلك كان اهتمام شيخ الإسلام رحمه الله في الردّ على أصحابها، ونقض ما عندهم من الباطل، وإظهار الحقّ وإعزازه بالدليل والبرهان.

خلق الربّ لما يخلقه، ورزقه، وإعطائه، ومنعه، وسائر ما يفعله تبارك وتعالى، ودخل في أمره، ونهيه، وجميع ما يأمر به، وينهى عنه. ودخل في المعاد؛ فعندهم1 يجوز أن يُعذّب الله جميع أهل العدل والصلاح والدين، والأنبياء والمرسلين بالعذاب الأبديّ، وأن يُنعّم جميع أهل الكذب والظلم والفواحش بالنّعيم الأبديّ. لكنْ بمجرّد الخبر عرفنا أنّه لا يفعل هذا2. ويجوز عندهم أن يُعذّب من لا له ذنب أصلاً بالعذاب الأبديّ3. حكم أطفال المشركين بل هذا واقعٌ عند من يقول بأنّ أطفال الكفّار يُعذّبون في النّار مع آبائهم4؛ فإنّهم كلّهم يُجوّزون تعذيبهم؛ إذ كان عندهم يجوز تعذيب كلّ

_ 1 المقصود بهم الأشاعرة. (انظر منهاج السنة النبوية 1135) . 2 قال الأشعريّ: "فلا يقبح منه أن يُعذّب المؤمنين، ويدخل الكافرين الجنان، وإنّما نقول إنه لا يفعل ذلك لأنّه أخبرنا أنّه يُعاقب الكافرين. وهو لا يجوز عليه الكذب في خبره". ثمّ قال: "والدليل على أنّ كل ما فعله فله فعله: أنّه المالك القاهر الذي ليس بمملوك، ولا فوقه ... فإن قال: فإنّما يقبح الكذب لأنّه قبّحه؟ قيل له: أجل، ولو حسَّنه لكان حسناً، ولو أمر به لم يكن عليه اعتراض". اللمع ص 71. 3 انظر التمهيد للباقلاني ص 382-386. 4 مسألة هل أطفال المشركين يُعذّبون، أم لا، فيها اختلاف بين الفرق: فقد ذهبت المعتزلة إلى أنّه لا يجوز أن يُعذّب الله أطفال المشركين. وذهبت الجبريّة والأشاعرة إلى جواز ذلك، وقالوا: لا يقبح ذلك من الله تعالى؛ لأنّه مالك الرقاب، ويتصرّف في ملكه كيف يشاء. أمّا قول أهل السنة والجماعة، فيقول في بيانه شيخ الإسلام رحمه الله: "وأما ثبوت حكم الكفرة في الآخرة للأطفال، فكان أحمد يقف فيه؛ تارة يقف عن الجواب، وتارة يردّهم إلى العلم؛ لقوله: "الله أعلم بما كانوا عاملين". وهذا أحسن جوابيه، كما نقل محمد بن الحكم عنه، وسأله عن أولاد المشركين، فقال: أذهب إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الله أعلم بما كانوا عاملين" ... ". رواه البخاري ومسلم في كتاب القدر. ثم قال رحمه الله: "وهذا التفصيل يُذهب الخصومات التي كره الخوض فيه لأجلها من كرهه؛ فإنّ من قطع لهم بالنّار كلهم، جاءت نصوص تدفع قوله، ومن قطع لهم بالجنّة كلّهم، جاءت نصوص تدفع قوله. ثمّ إذا قيل هم مع آبائهم لزم تعذيب من لم يُذنب، وانفتح باب الخوض في الأمر والنهي، والوعد والوعيد، والقدر، والشرع، والمحبة، والحكمة، والرحمة. فلهذا كان أحمد يقول هو أصل كل خصومة. أما جواب النبي صلى الله عليه وسلم الذي أجاب به أحمد آخراً، وهو قوله: "الله أعلم بما كانوا عاملين": فإنّه فصل الخطاب في هذا الباب. وهذا العلم يُظهر حكمه في الآخرة. والله تعالى أعلم". درء تعارض العقل والنقل 8397، 402. وذكر ابن حجر في الفتح (3290-291) عشرة أقوال للعلماء في أطفال المشركين. وانظر: منهاج السنة النبوية 2306-309. والجواب الصحيح 2296-300. ومجموع الفتاوى 4277-281، 303، 24372. وطريق الهجرتين لابن القيم ص 677-689. وانظر أيضاً: شرح الأصول الخمسة لعبد الجبار ص 477-479. ورسائل العدل والتوحيد ص 222. وأصول الدين للبغدادي ص 256.

حيّ العذاب المؤبّد بلا ذنب، ولا غرض، ولا حكمة1. لكن: هل يقع هذا في أطفال المشركين؟ منهم من جزم بوقوعه؛ كالقاضي أبي يعلى ومن وافقه2. ومنهم من توقّف لعدم الدليل السمعيّ

_ 1 يقول شيخ الإسلام رحمه الله أيضاً في موضع آخر: "وهؤلاء يُجوّزون أن يُعذّب الله العبدَ في الدنيا والآخرة بلا ذنب؛ كما يُجوّزون تعذيب أطفال الكفار ومجانينهم بلا ذنب. ثمّ من هؤلاء من يقطع بدخول أطفال الكفار النّار، ومنهم من يُجوّزه ويتوقّف فيه". منهاج السنة النبوية 2306. 2 انظر: درء تعارض العقل والنقل 8398. والجواب الصحيح 2296-297.

عنده، لا لمانع عقليّ؛ كالقاضي أبي بكر1، ونحوه2. وليس عندهم من أفعال الله ما يُنزّهونه عنه، أو ما [تقتضي] 3 الحكمة وجوده، بل يجوز عندهم أن يفعل كلّ ممكن، ويجوز أن لا يفعل شيئاً من الخير4. لكن إذا أخبر أنّه يفعل شيئاً، أو أنّه لا يفعله، علم أنّه واقعٌ، أو غير واقعٍ بالخبر. ويجوز عندهم أن يُعذّب من لا ذنب له، ومن هو أبرّ الناس وأعدلهم وأفضلهم عذاباً مؤبّداً لا يُعذّبه أحداً من العالمين. ويجوز أن يُنعّم شرّ الخلق من شياطين الإنس والجنّ نعيماً في أعلى درجات الجنّة، لا يُنعّم مثله [لمخلوق] 5، لكن لمّا أخبر بأنّ المؤمنين يدخلون الجنّة، والكفّار يدخلون النّار، علم ما يقع6، مع أنّه لو وقع ضدّه لم يكن بينهما فرقٌ عندهم، ثمّ مع مجيء [الخبر] 7 فكثيرٌ منهم وافقه. أمّا في جنس الفسّاق مطلقاً، [فيُجوّزون] 8 أن يدخل جميعهم الجنّة، ويُجوّزون أن يدخل جميعهم النّار، ويُجوّزون أن يدخل بعضهم؛ كما يقوله من يقوله [من واقفة] 9 الشيعة، والأشعريّة؛

_ 1 الباقلاني. يقول الباقلاني: "فإن قال قائل: فهل يصحّ على قولكم هذا أن يؤلم الله سبحانه سائر النبيّين، ويُنعّم سائر الكفرة والعاصين من جهة العقل قبل ورود السمع؟ قيل له: أجل، له ذلك. ولو فعله لكان جائزاً منه غير مستنكر من فعله". التمهيد ص 385. 2 كالجويني. انظر الإرشاد ص 273. 3 في ((خ)) : يقتضي. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 انظر: التمهيد للباقلاني ص 382-386. والإرشاد للجويني ص 273. 5 في ((ط)) : المخلوق. 6 انظر: التمهيد للباقلاني ص 382-383. 7 في ((خ)) : الخير. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 8 في ((خ)) : يجوزون، وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 9 في ((م)) ، و ((ط)) : ممن وافق.

كالقاضي أبي بكر1؛ لأنّ القرآن عنده لم يدلّ على شيء، والأخبار أخبار آحاد [بزعمه] 2، فلا يحتجّ بها في ذلك. وأمّا جمهور المنتسبين إلى السنّة من أصحاب مالك، والشافعيّ، وأحمد، وأبي حنيفة، وغيرهم: فيقطعون بأنّ الله يُعذّب بعض أهل الذنوب بالنّار، ويعفو عن بعضهم3؛ كما قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَاْ دُوْنَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاْء} 4، فهذا فيه الإخبار بأنّه يغفر5 ما دون الشرك، وأنّه يغفره لمن يشاء، لا لكلّ أحد. لكن: هل الجزاء، والثواب، والعقاب مبنيٌ على الموازنة بالحكمة والعدل؛ كما أخبر الله بوزن الأعمال6، أو يغفر ويُعذّب بلا سبب، ولا حكمة، ولا اعتبار الموازنة فيه؟

_ 1 الباقلاني. انظر التمهيد له ص 385-386. 2 في ((خ)) : يزعمه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 انظر: جامع الرسائل 1123-124، 126. 4 سورة النساء، الآية، 48، 116. 5 في ((ط)) : يغفقر. 6 قال تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظْلِمُونَ} . [سورة الأعراف، الآيتان 8-9] . وقال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} . [سورة الأنبياء، الآية 47] . وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} . [سورة القارعة، الآيات 6-9] . وانظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 4302. وللشيخ مرعي الحنبلي المقدسي رسالة مطبوعة باسم كتاب تحقيق البرهان في إثبات حقيقة الميزان.

لهؤلاء قولان: فمن جوّز ذلك فإنّه يجوز عندهم أن يُعذّب الله من هو أبرّ النّاس وأكثرهم طاعات وحسنات على سيئة صغيرة عذاباً أعظم من عذاب أفسق الفاسقين. ويجوز عندهم أن يغفر لأفسق الفاسقين من المسلمين وأعظمهم كبائر كلّ ذنب، ويُدخله الجنّة ابتداءً، مع تعذيب ذلك في النّار على صغيرة1. ولهذا قال جمهور النّاس2 [عن هؤلاء] 3: إنّهم لا يُنزّهون الربّ [عن] 4 السّفه والظلم، بل يصفونه بالأفعال التي يُوصف بها المجانين

_ 1 قال شيخ الإسلام رحمه الله عن هؤلاء المجبرة أنّهم: "لايجعلون العدل قسيماً لظلم ممكن لا يفعله، بل يقولون: الظلم ممتنع. ويُجوّزون تعذيب الأطفال، وغير الأطفال بلا ذنبٍ أصلاً، وأن يخلق خلقاً يُعذّبهم بالنّار أبداً، لا لحكمة أصلاً، ويرى أحدهم أنه خلق فيه الذنوب وعذب بالنار لا لحكمة، ولا لرعاية عدل، فتفيض نفوسهم إذا وقعت منهم الذنوب فأصيبوا بعقوباتها بأقوال يكونون فيها خصماء لله تعالى". جامع الرسائل 1125. 2 قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وأما المثبتون للقدر..... فهؤلاء تنازعوا في تفسير عدل الله وحكمته، والظلم الذي يجب تنزيهه عنه، وفي تعليل أفعاله وأحكامه، ونحو ذلك. فقالت طائفة: إنّ الظلم ممتنع منه غير مقدور، وهو محال لذاته؛ كالجمع بين النقيضين، وأنّ كل ممكن مقدور، فليس هو ظلماً، وهؤلاء هم الذين قصدوا الردّ عليهم، وهؤلاء يقولون: إنّه لو عذّب المطيعين، ونعّم العصاة، لم يكن ظالماً. وقالوا: الظلم: التصرّف فيما ليس له. والله تعالى له كلّ شيء. أو هو مخالفة الأمر، والله لا آمر له. وهذا قول كثير من أهل الكلام المثبتين للقدر..... وقالت طائفة: بل الظلم مقدور ممكن، والله تعالى منزّه لا يفعله، لعدله. ولهذا مدح الله نفسه، حيث أخبر أنّه لا يظلم الناس شيئاً. والمدح إنّما يكون بترك المقدور عليه، لا بترك الممتنع". منهاج السنة النبوية 1134-135. وقالوا: "والظلم وضع الشيء في غير موضعه؛ فهو لا يضع العقوبة إلا في المحلّ الذي يستحقها، لا يضعها على محسن أبداً". المصدر نفسه 1139. 3 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 4 في ((خ)) : على. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

والسفهاء؛ فإنّ المجنون والسفيه قد [يُعطي] 1 مالاً عظيماً لمن ليس هو له بأهل. وقد يُعاقب عقوبة عظيمة [لمن] 2 هو أهل للإكرام والإحسان. تنازع الناس في معنى الظلم والربّ تعالى أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، وخير الراحمين. والحكمة وضع الأشياء مواضعها، والظلم وضع الشيء في غير موضعه3. ومن تدبّر حكمته في مخلوقاته، ومشروعاته4 رأى ما يُبهر العقول؛ فإنّه

_ 1 في ((م)) ، و ((ط)) : يعطى. 2 في ((م)) ، و ((ط)) : من. 3 وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله تنازع الناس في معنى الظلم على ثلاثة أقوال. القول الأول: قول المجبرة والأشعريّة: "أنّه هو التصرّف في ملك الغير بغير إذنه، أو مخالفة الآمر الذي تجب طاعته. وكلاهما منتفٍ في حق الله تعالى". جامع الرسائل 1127. وانظر معنى الظلم عند الأشعري في: الملل والنحل 1101. وقد نقلت هذا القول بتوسّع من قول شيخ الإسلام رحمه الله في ص 560-561، 564-571 من هذا الكتاب. وانظر جامع الرسائل 1121. الثاني: قول المعتزلة: "أنّه عدل لا يظلم، لأنه لم يُرد وجود شيء من الذنوب؛ لا الكفر، ولا الفسوق، ولا العصيان. بل العباد فعلوا ذلك بغير مشيئته؛ كما فعلوه عاصين لأمره. وهو لم يخلق شيئاً من أفعال العباد؛ لا خيراً، ولا شراً، بل هم أحدثوا أفعالهم. فلمّا أحدثوا معاصيهم استحقوا العقوبة عليها؛ فعاقبهم بأفعالهم، لم يظلمهم". جامع الرسائل 1123. الثالث: قول أهل السنة: "أنّ الظلم وضع الشيء في غير موضعه، والعدل وضع كل شيء في موضعه. وهو سبحانه حكم عدل يضع الأشياء مواضعها، ولا يضع شيئاً إلا في موضعه الذي يُناسبه، وتقتضيه الحكمة والعدل، ولا يُفرّق بين متماثلين، ولا يُسوّي بين مختلفين، ولا يُعاقب إلا من يستحقّ العقوبة؛ فيضعها موضعها، لما في ذلك من الحكمة والعدل". جامع الرسائل 1123-124. وانظر منهاج السنة 1134، 2304، 309، 312. 4 وقد تكلّم شيخ الإسلام رحمه الله عن الحكمة من بعض مخلوقات الله في الجواب الصحيح 6396. وتكلّم تلميذه الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله عن بعض هذه الحكمة في مخلوقات الله. انظر مفتاح دارالسعادة 1188، 210، 256، 257. وانظر الحكمة في شرع الله في كتاب ((حجة الله البالغة)) للشاه ولي الله الدهلوي 1152.

مثلاً خلق العين، واللسان، ونحوهما من الأعضاء لمنفعة، وخلق الرِّجل، والظفر، ونحو ذلك لمنفعة، فلا تقتضي الحكمة أن يستعمل العين واللسان حيث يستعمل اليد والرجل والظفر، ولا أن يستعمل الرجل واليد حيث يستعمل العين واللسان. وهذا من حكمته موجود في أعضاء الإنسان، وسائر الحيوان، والنبات، وسائر المخلوقات. فكيف يجوز في حكمته، وعدله، ورحمته في مَنْ هو دائماً يفعل ما يُرضيه من الطاعات، والعبادات، والحسنات، وقد نظر نظرة منهيّاً عنها، أن يُعاقبه على هذه النظرة بما يُعاقب به أفجر الفُسّاق، [وأن يكون أفجر الفُسّاق] 1 في أعلى عليّين، وهو سبحانه يفعل ما يشاء، ويحكم ما [يُريد] 2. لكن لا يشاء إلا ما يُناسب حكمته، ورحمته، وعدله، كما لا يشاء ويُريد إلا ما علم أنّه سيكون. فلو قيل: هل يجوز أن يشاء ما علم أنّه لا يكون؟ لم [يجز] 3 ذلك باتفاقهم4، لمناقضة علمه. والعلم يُطابق المعلوم. فكيف يشاء ما يُناقض حكمته، ورحمته، وعدله. وبسط هذه الأمور له مواضع متعدّدة5.

_ 1 ما بين المعقوفتين ملحق في هامش ((خ)) . 2 في ((ط)) : يريده. 3 في ((ط)) : يجر. 4 انظر: الإنصاف للباقلاني ص 75. 5 انظر: جامع الرسائل 1120-142. والمجموعة المنيريّة 2205-246. ومنهاج السنة 1134-145. ومجموعة الرسائل والمسائل 4234-235، 283-346.

اضطراب الأشاعرة في النبوات والمقصود أنّ هؤلاء1 لمّا احتاجوا إلى إثبات النبوات اضطربوا في صفة النبيّ، وما يجوز عليه، وفي الآيات التي بها يُعلم صدقه؛ فجوّزوا أن يُرسل الله من يشاء بما يشاء، لا يشترطون في النبيّ إلا أن يُعلم ما أُرسل به2؛ لأنّ تبليغ الرسالة بدون العلم ممتنع. ومن جوّز منهم تكليف ما لا يُطاق مُطلقاً3، يلزمه جواز أن يأمره الله بتبليغ رسالة لا يعلم ما هي.

_ 1 أي الأشاعرة. 2 المقصود بهم الأشاعرة. وانظر كلام الباقلاني الذي سيأتي نقل شيخ الإسلام رحمه الله له قريباً ص 732. وقال شيخ الإسلام رحمه الله عن النبوة عند الأشاعرة: "فهؤلاء يجوّزون بعثة كلّ مكلّف، والنبوة عندهم مجرّد إعلامه بما أوحاه إليه. والرسالة مجرّد أمره بتبليغ ما أوحاه إليه. وليست النبوة عندهم صفة ثبوتية، ولا مستلزمة لصفة يختصّ بها، بل هي من الصفات الإضافيّة؛ كما يقولون مثل ذلك في الأحكام الشرعيّة". منهاج السنة 2414. وسيأتي نحو هذا الكلام في هذا الكتاب، ص 731. 3 يذكر شيخ الإسلام رحمه الله أنّ إطلاق "القول بتكليف ما لا يُطاق من البدع الحادثة في الإسلام؛ كإطلاق القول بأنّ العباد مجبورون على أفعالهم. وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على إنكار ذلك، وذم من يُطلقه، وإن قصد به الردّ على القدرية الذين لا يُقرّون بأنّ الله خالق أفعال العباد، ولا بأنّه شاء الكائنات. وقالوا: هذا ردّ بدعة ببدعة، وقابل الفاسد بالفاسد، والباطل بالباطل". درء تعارض العقل والنقل 165. أمّا عن موقف السلف رحمهم الله من ذلك: فقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أنّه "ليس في السلف والأئمة من أطلق القول بتكليف ما لا يُطاق، كما أنّه ليس فيهم من أطلق القول بالجبر.... ولهذا كان المقتصدون.... يفصّلون في القول بتكليف ما لا يطاق، كما تقدم القول في تفصيل الجبر؛ فيقولون: تكليف ما لا يُطاق لعجز العبد عنه لا يجوز، وأمّا ما يُقال إنّه لا يُطاق للاشتغال بضدّه، فيجوز تكليفه". مجموع الفتاوى 8469. وذهبت المعتزلة إلى أنّ تكليف ما لا يُطاق غير ممكن. انظر: شرح الأصول الخمسة لعبد الجبار ص 133، 396) . وذهبت طائفة، منهم الرازي إلى جواز تكليف ما لا يُطاق مطلقاً. وانظر كلام شيخ الإسلام رحمه الله في هذه المسألة، وذكره رحمه الله لمن منعها، أو أجازها، أو فصّل فيها القول في: مجموع الفتاوى 8294-302، 437-440، 469-474. ودرء تعارض العقل والنقل 160-65.

القول بتكليف ما لا يطاق. وجوّزوا من جهة العقل ما ذكره القاضي أبو بكر: أن يكون الرسول فاعلاً للكبائر1، إلا أنّه لا بُدّ أن يكون عالماً بمرسله. لكن ما عُلم بالخبر أنّ الرسول لا يتصف به، علم من جهة الخبر فقط، لا لأنّ الله منزّه عن

_ 1 قال شيخ الإسلام رحمه الله عن القاضي أبي بكر وغيره إنّه يقول: "إنّ العقل لا يُوجب عصمة النبيّ إلا في التبليغ خاصّة؛ فإنّ هذا هو مدلول المعجزة. وما سوى ذلك إن دلّ السمع عليه، وإلا لم تجب عصمته منه. وقال محققوا هؤلاء؛ كأبي المعالي وغيره: إنّه ليس في السمع قاطع يُوجب العصمة. والظواهر تدلّ على وقوع الذنوب منهم. وكذلك كالقاضي أبي بكر إنّما يُثبت ما يُثبته من العصمة في غير التبليغ إذا كان من موارد الإجماع؛ لأنّ الإجماع حجة. وما سوى ذلك فيقول لم يدلّ عليه عقل ولا سمع. وإذا احتجّ المعتزلة وموافقوهم من الشيعة عليهم بأنّ هذا يُوجب التنفير ونحو ذلك، فيجب من حكمة الله منعهم منه؛ قالوا: هذا مبني على مسألة التحسين والتقبيح العقليين. قالوا: لا يجب على الله شيء، ويحسن منه كل شيء، وإنما ننفي ما ننفيه بالخبر السمعي، ونوجب وقوع ما يقع بالخبر السمعي أيضاً؛ كما أوجبنا ثواب المطيعين، وعقوبة الكافرين؛ لإخباره أنه يفعل ذلك، ونفينا أن يغفر لمشرك؛ لإخباره أنه لا يفعل ذلك، ونحو ذلك". منهاج السنة 2414-415. وانظر: الإرشاد للجويني ص 356-357 فصل في عصمة الأنبياء. وأصول الدين للبغدادي ص 167-169 فصل عن عصمة الأنبياء عليهم السلام. والمواقف للإيجي ص 358-359. وشرح المقاصد للتفازاني 550-51. وقال شيخ الإسلام رحمه الله أيضاً: "وطوائف أهل الكلام الذين يُجوّزون بعثة كل مكلف؛ من الجهمية، والأشعرية، ومن وافقهم........ متفقون أيضاً على أنّ الأنبياء أفضل الخلق، وأنّ النبي لا يكون فاجراً. لكن يقولون: هذا لم يعلم بالعقل، بل بالسمع؛ بناءً على ما تقدم من أصلهم من أنّ الله يجوز أن يفعل كل ممكن". منهاج السنة النبوية 2419.

إرسال ظالم، أو مرتكب للفواحش، أو مكاس، أو مخنّث، أو غير ذلك؛ فإنّه لا يُعلم نفي شيء من ذلك بالعقل، لكن بالخبر. وهم في السمعيات عمدتهم الإجماع1. عمدة الأشاعرة في السمعيات وأما الاحتجاج بالكتاب والسنّة، فأكثر ما يذكرونه تبعاً للعقل أو الإجماع. والعقل والإجماع مقدّمان عندهم على الكتاب والسنّة2. لم يعتمد الباقلاني في تنزيه الأنبياء على دليل عقلي ولا سمعي فلم يعتمد القاضي أبو بكر3 وأمثاله في تنزيه الأنبياء [لا] 4 على دليل عقليّ، ولا سمعيّ من الكتاب والسنّة؛ فإنّ العقل عنده لا يمنع أن يرسل الله من شاء؛ إذ كان يجوز عنده على الله فعلُ كلّ ما يقدر عليه. وإنّما اعتمد على الإجماع؛ فما أجمع المسلمون عليه أنه لا يكون في النبيّ نَزّه عنه، ثمّ ذكر ما ظنّه إجماعاً؛ كعاداته، وعادات أمثاله في نقل إجماعات5 لا يُمكن

_ 1 الإجماع في اللغة: العزم والاتفاق. وفي الاصطلاح: اتفاق المجتهدين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في عصرٍ على أمر دينيّ". التعريفات للجرجاني ص 15. وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أنّ "معنى الإجماع: أن يجتمع علماء المسلمين على حكم من الأحكام. وإذا ثبت إجماع الأمة على حكم من الأحكام، لم يكن لأحد أن يخرج عن إجماعهم؛ فإنّ الأمة لا تجتمع على ضلالة. ولكنْ كثير من المسائل يظنّ بعض الناس فيها إجماعاً، ولا يكون الأمر كذلك، بل يكون القول الآخر أرجح في الكتاب والسنة". مجموع الفتاوى 2010. وانظر رد شيخ الإسلام رحمه الله على الأشاعرة، وادعائهم الإجماع في درء تعارض العقل والنقل 895-96. 2 وانظر على سبيل المثال رسالة إلى أهل الثغر للأشعريّ؛ فإنّه ذكر فيها واحداً وخمسين إجماعاً، مع أنّ جلّها، أو أكثرها دلّ عليه الكتاب والسنّة. 3 الباقلاني. 4 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 5 والأمثلة كثيرة في ذلك؛ سيما في كتاب البيان للباقلاني، والإرشاد للجويني؛ انظر مثلاً قوله عن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر أنّ دليله الإجماع (في الإرشاد ص 368) ، وغير ذلك. يقول الباقلاني: "ويجب في الجملة أن لا نستثني في السحر شيئاً لا يفعل عنده إلا ما ورد الإجماع والتوقيف على أنه لا يكون بضرب من السحر، وما يفعل عنده ونحو ما ذكرناه، ونحو فلق البحر، وإخراج اليد بيضاء، والآيات التسع، وإخراج ناقة من صخرة، وأمثال هذا مما قد أجمعت الأمة ووقفت على أنه لا يكون عند سحر ساحر". البيان للباقلاني ص 92. وقال أيضاً عن الملائكة: "ولا يمتنع عندنا أن يدعي منهم مدع الربوبية من جهة العقل، لولا الإجماع على منع ذلك، ووصف الباري سبحانه لهم بالنهاية في الطاعة والمعرفة ... فقد ورد الإجماع واستقر بأن ذلك لا يكون منهم، ولا ما دونه من المعاصي". البيان ص 103. وقال الجويني: "واتفق الفقهاء على وجود السحر، واختلفوا في حكمه، وهم أهل الحل والعقد وبهم ينعقد الإجماع ... ثم اعلموا أن السحر لا يظهر إلا على فاسق، والكرامة لا تظهر على فاسق. وليس ذلك من مقتضى العقل، ولكنه متلقى من إجماع الأمة". الإرشاد للجويني ص 323. وانظر المصدر نفسه ص 332. وقال الجويني أيضاً: "إنه ما من أمر يخرق العوائد، إلا وهو مقدور للرب تعالى ابتداء، ولا يمتنع وقوع شيء لتقبيح عقل". الإرشاد ص 319. وقال الإمام القرطبي: "أجمع المسلمون على أنه ليس في السحر ما يفعل الله عنده إنزال الجراد، والقمل، والضفادع، وفلق البحر، وقلب العصا، وإحياء الموتى،.... وأمثال ذلك من عظيم آيات الرسل عليهم السلام. فهذا ونحوه مما يجب القطع بأنه لا يكون ولا يفعله الله عند إرادة الساحر. قال القاضي أبو بكر بن الطيب: وإنما منعنا ذلك بالإجماع، ولولاه لأجزناه". الجامع لأحكام القرآن 247.

نقلها عن واحد من الصحابة، ولا ثلاثة من التابعين، ولا أربعة من الفقهاء المشهورين؛ كدعواه الإجماع على أنّ الصلاة في الدار المغصوبة مجزئة1، مع قوله أنّ العقل يُحيل أن يكون مأموراً به؛ فيدّعي الإجماع على براءة المأمور من فعل ما أُمر به، لكونه فعل ما نُهي عنه.

_ 1 انظر: الإرشاد للجويني ص.

ولأهل الكلام والرأي من دعوى [الإجماعات] 1 التي ليست صحيحة، بل قد يكون فيها نزاعٌ معروفٌ، وقد يكون إجماع السلف على خلاف ما ادّعوا فيه الإجماع ما يطول ذكره هنا. وقد ذكرنا قطعة من الإجماعات الفروعيّة التي حكاها طائفة من أعيان العلماء العالمين بالاختلاف2، مع أنّها منتقضة، وفيها نزاع ثابت لم يعرفوه. وقد يكون غيرهم حكى الإجماع على نقيض قولهم. وربّما كان من السلف؛ كقول الشافعيّ: ما أعلم أحداً قَبِل شهادة العبد3. وقبله من الصحابة: أنس بن مالك؛ يقول: ما أعلم أحداً ردّ شهادة العبد4. وكدعوى ابن حزم الإجماع [على إبطال] 5 القياس6. وأكثر الأصوليّين يذكرون الإجماع على إثبات القياس. وبسط هذا له موضع آخر7.

_ 1 في ((خ)) : الإجمات. وهو تصحيف. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 ولشيخ الإسلام رحمه الله تعليق على مراتب الإجماع لابن حزم، باسم نقد مراتب الإجماع. نشر وتوزيع دار الباز بمكة المكرمة. 3 هذه العبارة عن الشافعي رحمه الله لم أجدها. ولكنه رحمه الله ذكر في كتاب الأمّ عدم قبول شهادة العبد. انظر: الأم للشافعي 743 طبعة الشعب. وانظر: الحاوي الكبير للماوردي 17213-214. والمجموع شرح المهذب للنووي 2321-24) . 4 انظر: المغني لابن قدامه 14185. 5 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 6 انظر كلام ابن حزم رحمه الله عن إبطال القياس في كتابه: الإحكام في أصول الأحكام 71208-1209، ضمن الأجزاء من 5 إلى 8. 7 انظر: مجموع الفتاوى؛ الجزء التاسع عشر، والجزء العشرين. وكتاب أصول الفقه عند ابن تيمية رحمه الله إعداد الدكتور صالح المنصور. ومختارات شيخ الإسلام للّحام.

فصل طريقة الأشاعرة في إثبات المعجزات

فصل طريقة الأشاعرة في إثبات المعجزات ولمّا أرادوا1 إثبات معجزات الأنبياء عليهم السلام، وأنّ الله سبحانه لا يُظهرها على يد كاذب، مع تجويزهم عليه فعل كلّ شيء2، [فتقوا فتقاً] 3، فقالوا: لو جاز ذلك، لزم أن لا يقدر على تصديق من ادعى النبوة. وما لزم منه نفي القدرة كان ممتنعا. فهذا هو المشهور عن الأشعري، وعليه اعتمد القاضي أبو بكر، [وابن فورك] 4، والقاضي أبو يعلى، [وغيرهم] 56.

_ 1 أي الأشاعرة. وانظر: الإرشاد للجويني؛ فقد ذكر أنّ المعتزلة "قالوا: إذا جوّزتم أن يُضلّ الربّ عباده، ويُغويهم، ويُرديهم، فما يؤمنكم من إظهار المعجزات على أيدي الكذّابين". الإرشاد للجويني ص 326. 2 انظر: المواقف في علم الكلام للإيجي ص 331. وانظر: شرح الأصفهانية لشيخ الإسلام 2616-624. 3 رسمت في ((خ)) : فبقوا مما. وفي ((م)) ، و ((ط)) : فعوا معا. وقد ذكر شيخ الإسلام كلمة مماثلة في موضع آخر من هذا الكتاب ص 488، هي: فتقوا فتقاً. فترجح لديّ أنّها المرادة، والله أعلم. 4 ما بين المعقوفتين ملحق في هامش ((خ)) . 5 في ((خ)) : (وغيرهم وغيرهم) مكررة. 6 فعندهم أنّ الخوارق لا تظهر على يد مدعي النبوة إذا كان كاذباً، حتى يتميز المتنبي من غير النبيّ. أمّا إذا لم يدّع النبوة، فلا مانع من ظهور الخوارق. انظر: البيان للباقلاني ص 48، 94، 95، 105. والإرشاد للجويني ص 319، 326، 327. ونهاية الإقدام للشهرستاني ص 434. والمواقف في علم الكلام للإيجي ص241-242. وتفسير الرازي 3214-215. وشرح المقاصد للتفتازاني 518. وانظر من كتب ابن تيمية: الجواب الصحيح 6394، 398. ودرء تعارض العقل والنقل 940.

وهو مبني على مقدمات.: أحدها: أن النبوة لا تثبت إلا بما ذكروه من المعجزات1، وأن الرب لا يقدر على إعلام الخلق بأن هذا نبيّ إلا بهذا الطريق، وأنه لا يجوز أن يعلموا ذلك ضرورة، وأن إعلام الخلق بأن هذا نبيّ بهذا الطريق ممكنٌ. فلو قيل لهم: لا نُسلِّم أنّ هذا ممكنٌ على قولكم، فإنّكم إذا جوّزتم عليه فعلَ كلّ شيء، وإرادة كلّ شيء، لم يكن فرقٌ بين أن يُظهرها على يد صادق، أو كاذب، ولم يكن إرسال رسول [يصدقه] 2 بالمعجزات ممكناً على أصلكم، ولم يكن لكم حجة على جواز إرسال الرسول وتصديقه بالمعجزات؛ إذ كان لا طريق عندهم إلا خلق المعجز. وهذا إنّما يكون دليلاً إذا علم أنّه إنّما خلقه لتصديق الرسول. وأنتم عندكم لا يفعل شيئاً لشيء، ويجوز عليه فعل كل شيء.3.

_ 1 انظر: كتاب البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات والحيل والكهانة والسحر للباقلاني ص 37-38. والإنصاف له ص 93. والإرشاد للجويني ص 331. وأعلام النبوة للماوردي ص 62. وشرح المقاصد للتفتازاني 519؛ فقد ذكروا أنّ الدلالة على ثبوت النبوة لا تكون إلا بالمعجزة الخارقة للعادة فقط. وانظر ردّ شيخ الإسلام ابن تيمية على هذه المقولة في: شرح الأصفهانية 2471، 491. والجواب الصحيح 6504. ودرء تعارض العقل والنقل 940. 2 في ((خ)) : بصدقه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 أي أنّكم أيها الأشاعرة عندكم أنّ الله لا يفعل لحكمة. فكيف يستقيم مع أصلكم، أن يخلق الله المعجزة لتصديق الرسول؟ أليس هذا فعلاً لحكمة؟!. وانظر: الجواب الصحيح 6393-400. وشرح الأصفهانية 2616.

وسلك طائفة منهم طريقاً آخر؛ وهي طريقة أبي المعالي1، وأتباعه؛ وهو أنّ العلم بتصديقه لمن أظهر على يديه المعجز علمٌ ضروريٌ. وضربوا له مثلاً بالملك2. وهذا صحيح إذا مُنعت أصولهم؛ فإنّ هذه تُعلِم إذا كان المعلم بصدق رسوله ممّن يفعل شيئاً لحكمةٍ. فأمّا من لا يفعل شيئاً لشيءٍ، فكيف يُعلم أنّه خلق هذه المعجزة لتدلّ على صدقه لا لشيءٍ آخر؟ ولم لا يجوز أن يخلقها لا لشيءٍ على أصلهم3. وقالوا أيضاً ما ذكره الأشعري: المعجز: علم الصدق، ودليله؛ فيستحيل وجوده بدون الصدق، فيمتنع وجوده على يد الكاذب4.

_ 1 الجويني. 2 انظر: الإرشاد للجويني ص 313، 325-330. ولمع الاعتقاد له ص 71. وشرح الأصول الخمسة لعبد الجبار المعتزلي ص 571. والمواقف للإيجي ص 341. وشرح المقاصد للتفتازاني 514. وتفسير القرطبي 151. وانظر كلام شيخ الإسلام رحمه الله على هذا المثل، وتعليقه عليه في: شرح الأصفهانية 2623-624. والجواب الصحيح 6397-399. ودرء تعارض العقل والنقل 944. 3 وشيخ الإسلام رحمه الله يُبيّن أنّ هذا من تناقضات أبي المعالي الجويني؛ حيث إنّه أثبت أنّ المعجزة معلومة بالاضطرار، وضرب مثال الملك الذي يفعل لحكمة. وأبو المعالي ممن يُنكر الحكمة في أفعال الله، فلا يستقيم له هذا المثال؛ لأنّه مناقضٌ لأصولهم التي أصّلوها. ولذلك قال شيخ الإسلام رحمه الله: "لكن يُقال لهم: الملك يفعل فعلاً لمقصود، فأمكن أن يُقال إنّه قام ليُصدّق رسوله. وأنتم عندكم أنّ الله لا يفعل شيئاً لشيء، فلم يبق المثل مطابقاً. ولهذا صاروا مضطربين في هذا الموضع". الجواب الصحيح 6397. 4 انظر: رسالة إلى أهل الثغر للأشعري ص 141، 183-184. وانظر كذلك: كتاب البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات والحيل والكهانة والسحر للباقلاني ص 37-38. وقال الجويني: "وقد قال شيخنا رحمه الله: المعجزة فعلٌ لله تعالى، يقصد بمثله التصديق". الإرشاد له ص 309، 327. وانظر: شرح المقاصد 512. وأصول الدين للبغدادي ص 178. وانظر كلام شيخ الإسلام عن هذا القول في: الجواب الصحيح 6399.

وهذا كلامٌ صحيحٌ، لكن كونه: علم الصدق، مناقضٌ لأصولهم؛ فإنّه إنّما يكون علم الصادق إذا كان الربّ منزّهاً عن أن يفعله على يد الكاذب، أو علم بالاضطرار أنّه إنّما فعله لتصديق الصادق، أو أنّه لا يفعله على يد الكاذب. وإذا عُلم بالاضطرار تنزّهه عن بعض الأفعال بطل أصلهم1.

_ 1 وكذلك يُوضّح شيخ الإسلام رحمه الله تناقضهم في قولهم: إنّ المعجزة دليلٌ على صدق النبيّ، ولا يُمكن أن يخلقها الله على يد كاذب؛ لأنّ من أصولهم أنّ الله لا يقبح منه شيء؛ فكلّ فعل ممكن لا يُنزّه عنه. انظر مذهبهم في ذلك في: البيان للباقلاني ص 47-48، 91، 94، 96. والتمهيد له ص 385. والإنصاف له ص 62، 67. والإرشاد للجويني ص 238، 273. وأصول الدين للبغدادي ص 170، 174. وانظر أيضاً منهاج السنة النبوية لابن تيمية 2419. وهذا القول الله لا يقبح منه شيء من أصول الأشاعرة: يقول الجويني: "إنه ما من أمر يخرق العوائد إلا وهو مقدور للرب تعالى ابتداء، ولا يمتنع وقوع شيء لتقبيح عقل". الإرشاد للجويني ص 319. ويقول أيضاً: "ولا يمتنع عقلاً أن يفعل الربّ تعالى عند ارتياد الساحر ما سيستأثر بالاقتدار عليه؛ فإنّ كلّ ما هو مقدور للعبد، فهو واقع بقدرة الله تعالى". الإرشاد ص 322. ويقول المازري: "ومذهب الأشعريّ أنه يجوز أن يقع به أكثر من ذلك يقصد خوارق السحرة، وهو الصحيح عقلاً لأنه لا فاعل إلا الله". نقل عنه النووي في شرحه على صحيح مسلم 1475. ويقول القرطبي: "قال علماؤنا: وينكر أن يظهر على يد الساحر خرق العادات مما ليس في مقدور البشر ... ولا يكون الساحر مستقلاً به، وإنما يخلق الشبع عند الأكل، والريّ عند شرب الماء..". الجامع لأحكام القرآن 246-47. ويظهر تناقض الأشاعرة جليّاً في دعواهم أنّ جنس المعجز يقع على يد الكاذب، وأنّه يمتنع وقوعه على يديه إذا ادّعى النبوّة. انظر: الإرشاد للجويني ص 322، 328. وشرح المقاصد للتفتازاني 518.

فصل تعريف المعجزة عند الأشاعرة

فصل تعريف المعجزة عند الأشاعرة والمعتزلة قبلهم1 ظنّوا أنّ مجرّد كون الفعل [خارقاً] 2 للعادة، هو الآية على صدق الرسول، فلا يجوز ظهور خارقٍ إلاّ لنبيٍّ. والتزموا طرداً لهذا: إنكار أن يكون للسحر تأثيرٌ خارجٌ عن العادة؛ مثل أن يموت ويمرض بلا مباشرة شيءٍ. وأنكروا الكهانة، وأن تكون الجن تُخبر ببعض المغيبات، وأنكروا كرامات الأولياء3.

_ 1 أي قبل الأشاعرة. 2 في ((ط)) : خلافاً. 3 وذلك لأنّ من مذهبهم عدم تجويز وقوع الخوارق على يد غير الأنبياء. يقول القاضي عبد الجبار المعتزلي: "إنّ العادة لا تُخرق إلا عند إرسال الرسل، ولا تخرق لغير هذا الوجه؛ لأنّ خرقها لغير هذا الوجه يكون بمنزلة العبث". المغني في أبواب التوحيد والعدل15/189. وانظر: المصدر نفسه15/241. وشرح الأصول الخمسة ص 568-572. ورسائل العدل والتوحيد ص 237. وقال عبد القاهر البغدادي عنهم: "وأنكرت القدرية كرامات الأولياء؛ لأنّهم لم يجدوا في أهل بدعتهم ذا كرامة". أصول الدين ص 175. وانظر أول هذا الكتاب ((النبوات)) ص 148، وما سيأتي لاحقاً ص 1260-1261؛ إذ ذكر المؤلف رحمه الله أنّ الذين أنكروا الكرامات هم المعتزلة، وابن حزم. انظر: المحلى 1/36، وأبو إسحاق الاسفراييني، وأبو محمد بن زيد. وقد ردّ عليهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ص 148-151. وانظر: شرح الأصفهانية 2/609 وقد أورد السبكي شبه المعتزلة في نفي الكرامات، وردّ عليها. انظر: طبقات الشافعية الكبرى 2/334.

فأتى هؤلاء1، فأثبتوا ما أثبته الفقهاء، وأهل الحديث من السحر، والكهانة، والكرامات. تعريف المعجزة عند الأشاعرة لكنْ: قيل لهم: فميزوا بين هذا، وبين المعجزات؟. فقالوا: لا فرق في نفس الجنس. وليس في جنس مقدورات الربّ ما يختصّ بالأنبياء. لكن جنس خرق العادة واحد، فهذا إذا اقترن بدعوى النبوة، وسَلِمَ عن المعارضة عند تحدي الرسول بالمثل، فهو دليلٌ2. فهي عندهم لم تدلّ؛ [لكونها] 3 في نفسها وجنسها دليلاً4. بل إذا

_ 1 الأشاعرة. 2 انظر: البيان للباقلاني ص 94-95، 96. والإرشاد للجويني ص 319، 328. وأصول الدين للبغدادي ص 174، 175. والمواقف للإيجي ص 370. وشرح المقاصد للتفتازاني 5/11-12. وانظر كلام شيخ الإسلام رحمه الله، وردّه عليهم في الجواب الصحيح 6/400، 500. وفي هذا الكتاب النبوات ص 1301-1302. 3 في ((ط)) : لكونهم. 4 قال الباقلاني في البيان ص48: "إنّ المعجز ليس بمعجز لجنسه ونفسه، ولا لحدوثها، وإنّما يصير معجزاً للوجوه التي ذكرناها، ومنها التحدي، والاحتجاج) .

استدلّ بها المدّعي للنبوة كانت دليلا1، [وإلاّ2 لم تكن دليلاً] 3. ومن شرط الدليل سلامته عن المعارضة؛ وهي عندهم غاية الفرق. فإذا قال المدعي للنبوة: ائتوا بمثل هذه الآية، فعجزوا؛ كان هذا هو المعجز المختص بالنبيّ، وإلا فيجوز عندهم أن تكون معجزات الرسول من جنس ما للسحرة والكهان4 من الخوارق، إذا استدلّ بها الرسول5. فالحجة عنده: مجموع الدعوى والخارق، لا الخارق وحده. والاعتبار بالسلامة عن المعارض6. بل قد لا يشترطون أن يكون خارقاً للعادة، لكن يشترطون أن لا يعارض. وعجز الناس عن المعارضة مع أنه معتاد [لا] 7 خارق للعادة. فالاعتبار عندهم بشيئين: باقترانه بالدعوى، وتحديه لمن دعاهم أن يأتوا [بمثله] 8، فلا يقدرون9.

_ 1 قال الجويني في الإرشاد ص 319: "فإنّ المعجزة لا تدلّ بعينها، وإنّما لتعلّقها بدعوى النبيّ الرسالة) . 2 في ((ط)) : وإلى. 3 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 4 قال الجويني في الإرشاد ص 328: "جنس المعجزة يقع من غير دعوى، وإنما الممتنع وقوعه على حسب دعوى الكاذب". وانظر: المصدر نفسه ص 322. والبيان للباقلاني ص 94، 98. 5 تقدّم لشيخ الإسلام رحمه الله في أوّل هذا الكتاب كلامٌ أوضح من هذا الكلام. راجع ص 152-155. وانظر كلامه أيضاً عن الموضوع نفسه في الجواب الصحيح 6/400. 6 انظر: الإرشاد للجويني ص 312. 7 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) . وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 8 في ((خ)) : بمثلثه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 9 لاحظ قول السبكي في طبقات الشافعية الكبرى 2/316، 337. وانظر: البيان للباقلاني ص 16-17، 19، 94. والإرشاد للجويني ص 309، 312-313.

قالوا: وخوارق الأنبياء يظهر مثلها على يد الساحر، والكاهن، والصالح، ولا يدل على النبوة؛ لأنه لم يدّعها. قالوا: ولو ادعى النبوة أحدٌ من أهل هذه الخوارق، مع كذبه، لم يكن بُدٌ من أنّ الله يعجزه عنها؛ فلا يخلقها على يده، أو يُقيّض له من يعارضه، فتبطل حجّته1. مناقشة شيخ الإسلام للأشاعرة في تعريف المعجزة وإذا قيل لهم: لم قلتم: إنّ الله لا بدّ أن يفعل هذا [أو] 2 هذا؛ وعندكم يجوز عليه كل شيء؟ ولا يجب عليه فعل شيء؟ ولا يجب منه فعل شيء؟ قالوا: لأنّه لو لم يمنعه من ذلك، أو يعارضه بآخر، [لكان] 3 قد أتى بمثل ما يأتي به النبيّ الصادق؛ فتبطل دلالة آيات الأنبياء4. فإذا قيل لهم: وعلى أصلكم يجوز أنه [يبطل] 5 دلالتها، وعندكم يجوز عليه فعل كل شيء؟ أجابوا بالوجهين المتقدمين: إما لزوم أنه ليس بقادر، أو أنّ الدلالة [معلومة] 6 بالاضطرار، وقد عرف ضعفهما.

_ 1 انظر: البيان للباقلاني ص 94-95، 100. وقد توسّع شيخ الإسلام رحمه الله في هذه القضيّة، وناقشها في أوّل هذا الكتاب. راجع ص 267-271. 2 في ((م)) ، و ((ط)) : و. 3 في ((خ)) : لكن. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 انظر: البيان للباقلاني ص 98، 105-106. والإرشاد للجويني ص 326-327. وأصول الدين للبغدادي ص 173. وشرح المقاصد للتفتازاني 5/182. وأعلام النبوة للماوردي ص 62. 5 في ((خ)) : تبطل. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 6 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .

ثم هنا يلزمهم شيء آخر؛ وهو أنه: لِمَ قلتم أنّ المعجز الذي يُدَلّ به على صدق الأنبياء، ما ذكرتموه؛ من مجرد كونه خارقاً مع الدعوى وعدم المعارضة1؛ فإن هذا يُقال: إنه باطل من وجوه: أحدها: أنه إذا كان ما يأتي به النبي يأتي به الساحر والكاهن، لكان أولئك2 يعارَضون، وهذا3 لا يعارَض؛ فالاعتبار إذن بعدم المعارضة. فقولوا: كلّ من ادّعى النبوة، [وقال] 4: معجزتي أن لا يدعيها غيري، فهو صادق. أو: لا يقدر غيري على دعواها، فهو صادق، أو: أفعل أمراً معتاداً؛ من الأكل، والشرب، واللباس، ومعجزتي: أن لا يفعله غيري، أو: لا يقدر غيري على فعله، فهو صادق. فالتزموا هذا، وقالوا: المنع من المعتاد كإحداث غير المعتاد5. وعلى هذا: فلو قال الرسول: [معجزتي] 6 [أن] 7 أركب الحمار، أو الفرس، أو آكل هذا الطعام، أو ألبس هذا الثوب، أو أعدوَ8 إلى ذلك المكان، وأمثال ذلك. وغيره لا يقدر على ذلك؛ كان هذا آية [دعواه] 9.

_ 1 انظر قولهم في: الإرشاد ص 312-313. وفي شرح المقاصد 5/11؛ عند تعريف المعجزة. 2 يعني السحرة، والكهنة. 3 النبيّ. 4 في ((خ)) : وقالوا. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 انظر: البيان للباقلاني ص 16-17، 19-20. والإرشاد للجويني ص 308-309. 6 في ((خ)) : معجزة. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 7 في ((م)) ، و ((ط)) : أني. 8 في ((خ)) أعدوا بزيادة الألف. 9 في ((خ)) : ادعوه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

وهذا لا ضابط له؛ فإنّ ما يعجز عنه قوم دون قوم لا ينضبط. ولكنّ هذا يُفسد قول مَنْ فسّرها بخرق العادة1؛ فإن العادات تختلف. وقد ذكروا2 هذا، وقالوا: المعجزة عند كل قوم ما كان خرقاً لعادتهم3. وقالوا: يُشترط أن تكون [خارقة] 4 لعادة من دعاهم، وإن كان معتاداً لغيرهم. [وقالوا: إذا] 5 كان المدّعي كذّاباً؛ فإن الله [يُقيّض] 6 له من يعارضه من أهل تلك الصناعة، أو يمنعه من القدرة عليها7. وهذا وجه ثان يدل على فساد ما أصّلوه8؛ هم، والمعتزلة9.

_ 1 وهم الأشاعرة. انظر من كتبهم: الإرشاد للجويني ص 309. وأصول الدين لعبد القاهر البغدادي ص 170. والمواقف في علم الكلام للإيجي ص 339. 2 يقصد المعتزلة والأشاعرة. 3 انظر: البيان للباقلاني ص45. والإرشاد للجويني ص309. وأصول الدين للبغدادي ص 170. والمواقف في علم الكلام للإيجي ص 339. وشرح الأصول الخمسة ص 571. 4 في ((خ)) رسمت على شكل: خانقة. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 ما بين المعقوفتين ملحق في هامش ((خ)) . 6 في ((خ)) : يقتض. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 7 انظر: البيان للباقلاني ص 94-95، 105. وشرح الأصول الخمسة لعبد الجبار ص 570-572. 8 يقصد الأشاعرة. 9 يوضّح رحمه الله أنّ كلاً من الأشاعرة والمعتزلة أصّلوا أصلاً في إثبات النبوة؛ وهو المعجزة؛ فقالوا: "إنّ النبوة لا تثبت إلا بالمعجزة. ثمّ إنّ المعتزلة التزموا لأجل ذلك نفي الكرامات، وحقيقة السحر والكهانة لأجل أن لا يحصل التباس بينها وبين المعجزات. والأشاعرة التزموا لأجل ذلك أنّه لا فرق بين المعجزة والكرامة والسحر إلا دعوى النبوة وعدم المعارضة.

المعجزة عند الأشاعرة دعوى النبوة وعدم المعارضة وليست الآية بجنسها معجزة الوجه الثالث: أنّ المعارضة بالمثل: أن يأتي بحجةٍ مثلَ حجّة النبيّ. وحجّته عندهم: مجموع دعوى النبوة، والإثبات بالخارق. فيلزم على هذا أن تكون المعارضة بأن يدعي غيره1 النبوة، ويأتي بالخارق. وعلى هذا فليست معارضة الرسول بأن يأتوا بالقرآن، أو عشر سور، أو سورة. [بل] 2 أن يدعي أحدهم النبوة، ويفعل ذلك3. وهذا خلاف العقل والنقل. ولو قال الرسول لقريش: لا يقدر أحدٌ منكم أن يدّعي النبوة، ويأتي بمثل القرآن وهذا هو الآية. وإلا فمجرّد تلاوة القرآن ليس آية. بل قد يقرأه المتعلّم له، فلا تكون آية؛ لأنّه لم يدّع النبوّة. ولو ادّعاها، لكان الله [ينسيه] 4 إياه، أو يُقيّض له من يعارضه5؛ كما ذكرتم6 لكانت قريش، وسائر [العقلاء] 7 يعلمون أنّ هذا باطلٌ. الكاذب لابد أن يتناقض الرابع: أنه إذا كان اعتمادكم على عدم المعارضة، فقولوا ما قاله غيركم؛ وهو: أنّ آية سلامة ما يقوله من التناقض وأنّ كلّ من ادّعى النبوة، وكان كاذباً، فلا بُدّ أن يتناقض، أو يُقيّض الله له من يقول مثل ما قال. وأما السلامة من التناقض من غير دعوى النبوة فليست دليلاً. فهذا خيرٌ من قولكم؛ فإنه قد علم أنّ كلّ ما جاء من عند غير الله، فإنه لا بد أن يختلف

_ 1 في ((ط)) : غيرة. 2 في ((ط)) : مثل. 3 يعني: يأتي بالقرآن، أو عشر سور، أو سورة. 4 في ((خ)) : ينشيه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 انظر: البيان للباقلاني ص 99. 6 الكلام من قوله: "وهذا هو الآية ... ) إلى هنا جملة اعتراضية. وما سيأتي هو جواب الشرط المتقدّم. 7 في ((م)) ، و ((ط)) : العلماء.

ويتناقض، وما جاء من عِند الله لا يتناقض؛ كما قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوْا فِيْهِ اخْتِلافاً كَثِيْرَاً} 1. وأما دعوى الضرورة2: فمن ادّعى الضرورة في شيءٍ دون شيءٍ مع تماثلهما3، وعدم الفرق بينهما في نفس الأمر، كانت دعواه مردودةً، بل كَذِباً؛ فإنّ وجود العلم الضروري بشيء دون شيء، لا بُدّ أن يكون لفرقٍ؛ إمّا في المعلوم، وإمّا في العالم. وإلاّ فإذا قدر تساوي المعلومات، وتساوي حال العالِم [بها، لم] 4 يعلم بالضرورة أحد المتماثلين دون الآخر. آيات النبي مختصة بالأنبياء الخامس: أنه لا بد أن تكون الآية التي للنبيّ أمراً مختصّاً بالأنبياء؛ فإنّ الدليل مستلزمٌ للمدلول عليه. فآية النبي هي دليل صدقه، وعلامة صدقه، وبرهان صدقه، فلا توجد قطّ إلا مستلزمة لصدقه. وقد ادّعوا5 أن آيات صدقهم تكون منفكة عن صدقهم تكون لساحر، وكاهن، ورجل صالح، ولمدعي الإلهية، لكن لا تكون لمن يكذب في دعوى النبوة؛ فجوزوا وجود الدليل مع عدم المدلول عليه6، إلا إذا ادّعى المدلول عليه كاذبٌ.

_ 1 سورة النساء، الآية 82. 2 انظر: الإرشاد للجويني ص 326. ودرء تعارض العقل والنقل 1/90-92، 9/52-53. وشرح الأصفهانية 2/622. والجواب الصحيح 6/398. 3 في ((ط)) : تمثالهما. 4 في ((خ)) : بها، ما لم. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 أي الأشاعرة. وانظر دعواهم هذه في: البيان للباقلاني ص 47-48. وأصول الدين للبغدادي ص 170. 6 يعني رحمه الله وجود الخارق مع عدم دعوى النبوة، فصار المعجز عندهم هو الدعوى، والخارق مدلول عليه.

واستدلوا على ذلك بأنّ الساعة تُخرق عندها خوارق، ولا تدلّ على صدق أحدٍ. ولو ادّعى [مدّعٍ] 1 النبوّة مع تلك الخوارق لدلّت2. قالوا: فعُلم أنّ جنس ما هو معجز يوجد بدون صدق النبي. لكن مع دعوى النبوة لا يوجد إلا مع الصدق3. والآية عندهم: الدعوى، والخارق. والصدق هو: المدلول عليه فلا يكون ذلك كذلك إلا مع هذا4. وأما وجود الخارق مجرّداً عن الدعوى، فليس بدليل. ولا فرق عندهم بين خارق وخارق، وخارق معتاد عند قوم دون قوم. وليس لهم ضابط في العادات. ما يفعله الله من الآيات دليل على صدق الرسل.. ولسائل أن يقول: جميع ما يفعله الله من الآيات في العالم، فهو دليل على صدق الأنبياء، ومستلزم له. وإن كانت [الآيات] 5 معتادة لجنس الأنبياء، أو لجنس الصالحين [الذين] 6 يتبعون الأنبياء، فهي مستلزمةٌ لصدق مدّعي النبوة؛ فإنها إذا لم تكن إلا لنبيّ، أو من يتّبعه، لزم أن يكون من أحد القِسْمَيْن. والكاذب في دعوى النبوة ليس واحداً منهما؛ فالتابع للأنبياء الصالح لا يكذب في دعوى النبوة قط، ولا يدّعيها إلا وهو صادق؛ كالأنبياء المتبعين لشرع موسى. فإذا كان آية نبيّ: إحياء الله الموتى، لم

_ 1 في ((م)) ، و ((ط)) : مدعي. 2 أي على صدقه. 3 انظر: البيان للباقلاني ص 94-95. والإرشاد للجويني ص 328. 4 أي لا تكون الدعوى صادقة إلا مع وجود الخارق. 5 في ((خ)) : الأنبياء. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 6 في ((خ)) : الذي. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

يمتنع أن يحيي الله الموتى لنبيّ آخرَ، أو لمن يتبع الأنبياء؛ كما قد أحيى الميت لغير واحد من الأنبياء ومن [اتبعهم] 1، وكان ذلك آيةً على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، ونبوّة من قبله، إذ كان إحياء الموتى مختصاً بالأنبياء، وأتباعهم2.

_ 1 في ((خ)) : قبلهم. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 ومن الأمثلة: إحياء الله الموتى لعيسى عليه السلام؛ كما قال تعالى حكاية عنه: {وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} . ِالآية 49 من سورة آل عمران. قال القرطبي رحمه الله: " قيل: أحيا أربعة أنفس؛ العازر، وكان صديقاً له، وابن العجوز، وابنة العازر، وسام بن نوح. فالله أعلم) . تفسير القرطبي 4/61. وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . [البقرة، الآية 260] . وقال تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} . [البقرة، 72، 73] . وكذلك آية 243 من السورة نفسها، وهي قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} . وقال تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [سورة البقرة، الآيتان 55-56] . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الجواب الصحيح: "أعظم آيات المسيح عليه السلام إحياء الموتى. وهذه الآية قد شاركه فيها غيره من الأنبياء؛ كإلياس، وغيره". الجواب الصحيح 4/17. وقال أيضاً: "ولا يمتنع أن يأتي نبي بنظير آية نبيّ؛ كما أتى المسيح بإحياء الموتى. وقد وقع إحياء الموتى على يد غيره". الجواب الصحيح 5/434. وقال الماوردي: "حزقيل وهو الذي أصاب قومه الطاعون، فخرجوا من ديارهم حذر الموت، فأماتهم الله ثمّ أحياهم) . أعلام النبوة للماوردي ص 88. وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنّ " صلة بن أشيم مات فرسه وهو في الغزو، فقال: اللهم لا تجعل لمخلوق عليّ منّة. ودعا الله عزّ وجلّ، فأحياه له. فلمّا وصل إلى بيته، قال: يا بني خذ سرج الفرس فإنّه عارية. فأخذ سرجه، فمات الفرس". الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 315. وهذه القصة أخرجها ابن المبارك في الزهد ص 295، وابن الجوزي في صفة الصفوة 3/217، إلا أنهما ذكرا ذهاب بغلته، وليس موتها. وثمة قصص أخرى في إحياء الله الموتى لبعض الناس أوردها شيخ الإسلام في درء تعارض العقل والنقل 7/377. والجواب الصحيح 4/17-18.

إهلاك أعداء الرسل دليل على صدقهم وكذلك ما يفعله الله من الآيات، والعقوبات بمكذّبي الرسل؛ كتغريق فرعون1، وإهلاك قوم عاد بالريح الصرصر2 العاتية3، وإهلاك قوم صالح بالصيحة4، وأمثال ذلك5؛ فإنّ هذا جنس لم يُعذّب به إلاّ من كذّب الرسل. فهو دليلٌ على صدق الرسل. وقد يميت الله بعض الناس بأنواع معتادة من البأس؛ كالطواعين6، ونحوها. لكن هذا معتاد لغير مكذبي الرسل. أمّا ما عذب الله به مكذّبي الرسل، فمختصٌ بهم.

_ 1 والآيات على ذلك كثيرة؛ منها قوله تعالى: {فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} [الأنفال، الآية 54] . 2 الريح الصرصر: هي الريح الباردة المحرقة كما تحرق النار، ولها صوت شديد. (انظر البحر المحيط 7/481، 490) . 3 والآيات كثيرة، منها قوله تعالى: {وأمّا عادٌ فأُهلكوا بريحٍ صرصرٍ عاتية} . [الحاقة، الآية 6] . 4 والآيات كثيرة، منها قوله تعالى يحكي عن قوم صالح عليه السلام: {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} . [هود، الآية 94] . 5 انظر سورة العنكبوت، الآيات 30-40؛ حيث أخبر الله تعالى فيها عن عقابه لمن كذبوا رسله؛ فقد عذّب الله قوم شعيب بالظلّة، وقوم لوط بالحاصب، وقوم نوح بالغرق. 6 الطاعون: مرض من أنواع الحمى الخبيثة، سريع العدوى، يتولد من الجراثيم المضرّة المتسببة من البقايا الحيوانية المتعفنة. انظر: دائرة معارف القرن العشرين لوجدي 5/737.

ولهذا كان [مختصّاً بهم، وكان] 1 من آيات الله كما قال: {وَآتَيْنَا ثَمُوْدَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيْفَاً} 2. أشراط الساعة من آيات الأنبياء ودليل على صدقهم وكذلك ما يحدثه من أشراط الساعة3؛ كظهور الدجال، ويأجوج ومأجوج، وظهور الدابة، وطلوع الشمس من مغربها، بل والنفخ في الصور، وغير ذلك؛ هو من آيات الأنبياء؛ [فإنّهم] 4 أخبروا به قبل أن يكون، فكذّبهم المكذّبون، فإذا ظهر بعد [مئين] 5، أو ألوف من السنين، كما أخبروا به كان هذا من آيات صدقهم، ولم يكن هذا [إلا] 6 لنبيّ، أو لمن يخبر عن نبيّ. والخبر عن النبيّ: هو خبر النبيّ. ولهذا كان وجود ما أخبر به الرسول من المستقبلات من آيات نبوّته إذا ظهر المخبَر به كما كان أخبر. [وخبره عمّا مضى آية لمن عرف صدقه] 7 فيما أخبر به إذ كان هذا8. وهذا لا يمكن أن يُخبر به إلا نبيّ، أو من أخذ عن نبيّ.

_ 1 ما بين المعقوفتين لا يوجد في ((م)) ، و ((ط)) . 2 سورة الإسراء، الآية 59. 3 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة: "إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات.."، فذكر الدخان، والدجّال، والدابّة، وطلوع الشمس من مغربها، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف.. الحديث رواه مسلم في صحيحه في كتاب الفتن، باب ما يكون من فتوحات المسلمين قبل الدجّال، رقم 2901. 4 في ((ط)) : فإنها. 5 في ((خ)) : مايين. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 6 في ((خ)) : لا. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 7 ما بين المعقوفتين في ((م)) ، و ((ط)) هكذا: أخبر فيما مضى عرف صدقه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 8 وقد عقد شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه الجواب الصحيح فصلاً عن أخباره صلى الله عليه وسلم بكثيرٍ من الغيوب في الماضي، والحاضر، والمستقبل، ودلالتها على نبوته. انظر الجواب الصحيح 6/80-158.

وهو1 لم يأخذ عن أحدٍ من الأنبياء شيئاً؛ فدلّ على نبوّته. ولهذا يحتج الله له في القرآن بذلك؛ كما قد بسط في غير هذا الموضع2. الكاهن والفرق بينه وبين النبي وأخبار الكهان فيها كذبٌ كثيرٌ، والكاهن قد عُرف أنه يكذب كثيراً، مع فجوره؛ قال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُوْنَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاْذِبُوْنَ} 3. والكهانة جنسٌ معروف، ومعروفٌ أنّ الكاهن يتلقّى عن الشيطان، ولا بد من كذبهم، وفجورهم. والنبيّ لا يكذب قطّ، ولا يكون [إلا] 4 برّاً تَقِيَّاً. فالفرق بينهما ثابت في نفس صفاتهما، وأفعالهما، وآياتهما؛ لا يقول عاقل إنّ مجرّد ما يفعله الكاهن هو دليلٌ إن اقترن بصادق، وليس بدليلٍ إذا لم يقترن بصادق، وأنّه متى ادّعاه كاذبٌ لم يظهر على يده. وهذا أيضاً باطلٌ. كثير من الكذابين أتوا بخوارق وادعوا النبوة ولم يعارضوا ويظهر بالوجه السادس: وهو أنّه قد ادّعى جماعةٌ من الكذّابينَ النبوّة، وأتوا بخوارق من جنس خوراق الكُهّان والسحرة، ولم يعارضهم أحدٌ في ذلك المكان والزمان، وكانوا [كاذبين] 5؛ فبطل قولهم إنّ الكذّاب إذا أتى بمثل خوارق السحرة والكهان، فلا بد أن يمنعه الله ذلك الخارق، أو يُقَيِّض له من يعارضه6.

_ 1 أي النبيّ. 2 تقدّم كلام شيخ الإسلام رحمه الله عن ذلك في أوّل هذا الكتاب. راجع ص 166-171. 3 سورة الشعراء، الآيات 221-223. 4 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) . وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 5 في ((ط)) : كذابين. 6 انظر: البيان للباقلاني ص 94-95.

وهذا كالأسود العنسيّ1 الذي ادّعى النبوّة باليمن في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم، واستولى على اليمن، وكان معه [شيطانان] 2؛ سُحَيْق، ومُحَيْق. وكان يخبر بأشياء غائبة من جنس أخبار الكهان، وما عارضه أحدٌ. وعُرف كذبه بوجوه متعدّدة، وظهر من كذبه، وفجوره؛ ما ذكره الله بقوله: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} 3. وكذلك مسيلمة الكذاب4. وكذلك الحارث الدمشقي5، ومكحول الحلبي6، وبابا الرومي7،

_ 1 سبق التعريف به، وذكر بعض أخباره ص 192. وانظر بعض أخباره الأخرى في: البداية والنهاية لابن كثير 6/347. 2 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . وهي في ((م)) ، و ((ط)) : شيطان بالإفراد. 3 سورة الشعراء، الآيتان 221-222. 4 سبق التعريف به ص 192. 5 هو الحارث بن سعيد. من أهل دمشق. متنبئ كذّاب، وله أتباع يُعرفون بالحارثية. كان مولى لأحد القرشيّين. يُحكى أنّه كان في أول أمره متعبّداً زاهداً، فأغواه إبليس، فادعى النبوة، فلبّس على الناس بما يُظهر لهم من الأوهام والضلالات. من ذلك أنه كان يأتي إلى رخامة في المسجد، فينقرها بيده، فتسبّح. وكان يُري الناس رجالاً على خيل، ويقول: هذه الملائكة. وكان يُطعم الناس فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف ... إلى غير ذلك من تلبيساته. فتبعه خلقٌ كثير فُتنوا به. وقد طلبه عبد الملك بن مروان، فاختفى في بيت المقدس، فلم يزل يطلبه، حتى قبض عليه، فقتله، وصلبه، وذلك سنة 69 ?. انظر: ميزان الاعتدال للذهبي 1/434. ولسان الميزان لابن حجر 2/151. وتلبيس إبليس لابن الجوزي ص 379. والأعلام للزركلي 2 /154. 6 مكحول الحلبي لم أقف على ترجمته. وشيخ الإسلام رحمه الله يذكر في بعض كتبه جماعة من المتنبئين، ويذكر منهم السهروردي الحلبي المقتول. انظر مثلاً شرح الأصفهانية 1/286، لكن هذا الحلبي ليس اسمه مكحول. 7 ذكر شيخ الإسلام رحمه الله هذا المتنبئ الكذّاب في كثير من كتبه؛ مثل: الجواب الصحيح 2/34. وشرح الأصفهانية 1/287. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 179-180؛ حيث ذكره فيه باسم باباه الرومي. وقد تقدّم تفصيل القول فيه سابقاً، انظر ص 192 من هذا الكتاب.

لعنة الله عليهم، وغير هؤلاء؛ كانت معهم شياطين كما هي مع السحرة والكهان. آيات الأنبياء ليس من شرطها التحدي بها السابع: أن آيات الأنبياء ليس من شرطها استدلال النبيّ بها، ولا تحدّيه بالإتيان بمثلها، بل هي دليلٌ على نبوته، وإن خلت عن هذين القَيْدَيْن. وهذا كإخبار من تقدّم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنّه دليلٌ على صدقه، وإن كان هو لم يعلم بما أخبروا به، ولا يستدلّ به. آيات الأنبياء قد تكون لحاجة المسلمين وأيضاً: فما كان يُظهره الله على يديه من الآيات؛ مثل تكثير الطعام والشراب مرّات؛ كنبع الماء من بين أصابعه غير مرة، وتكثير الطعام القليل حتى كفى أضعافَ أضعافِ من كان محتاجاً إليه، وغير ذلك؛ [كلها] 1 من دلائل النبوة2، ولم يكن يُظهرها للاستدلال بها، ولا يتحدى بمثلها، بل لحاجة المسلمين إليها3.

_ 1 في ((م)) ، و ((ط)) : كله. 2 وانظر هذه المعجزات في صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام 3/1308-1330.وفي صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم 4/1783-1786. وقد جمع ابن كثير رحمه الله كثيراً من آيات الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن ذلك آيات تكثير الطعام والشراب. انظر البداية والنهاية 7/96-131. 3 وقال شيخ الإسلام رحمه الله في موضع آخر: "وتكثير الطعام والشراب مرات كثيرة؛ كما أشبع في الخندق العسكر من قدر الطعام وهو لم ينقص؛ في حديث أم سليم المشهور. وروى العسكر في غزوة خيبر من مزادة ماء، ولم تنقص. وملأ أوعية العسكر عام تبوك من طعام قليل، ولم ينقص، وهم نحو ثلاثين ألفاً. ونبع الماء من بين أصابعه مرات متعددة حتى كفى الناس الذين كانوا معه؛ كما كانوا في غزوة الحديبية نحو ألف وأربعمائة، أو خمسمائة". الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 295-297. وقال رحمه الله في موضع آخر: "وتكثير الماء في عين تبوك، وعين الحديبية، ونبع الماء من بين أصابعه غير مرة، ومزادة المرأة. وأما المركبات: فتكثيره للطعام غير مرة في قصة الخندق؛ من حديث جابر، وحديث أبي طلحة. وفي أسفاره. وجراب أبي هريرة. ونخل جابر بن عبد الله. وحديث جابر وابن الزبير في انقلاع النخل له، وعوده إلى مكانه، وسقياه لغير واحد من الأرض؛ كعين أبي قتادة ... " قاعدة في المعجزات والكرامات ص 16-17. وقال رحمه الله أيضاً: "وأما هذه الآيات: فنقلها أكثر ممن نقل مواقيت الصلاة من جهة الأخبار المعينة، وذلك أنّ آيات الرسول كان كثير منها يكون بمشهد من الخلق عظيم، فيُشاهدون تلك الآيات كما شاهد أهل الحديبية وهم ألف وخمسمائة نبعَ الماء من بين أصابعه، وظهور الماء الكثير من بئر الحديبية لما نزحوها ولم يتركوا فيها قطرة، فكثر حتى روى العسكر. وكما شاهد العسكر في غزوة ذات الرقاع الماء اليسير لما صبه جابر في الجفنة، وامتلأت، وملأ منها جميع العسكر. وكما شاهد الجيش في رجوعهم من غزوة خيبر المزادتين مع المرأة، وقد ملؤوا كل وعاء معهم، وشربوا، وهي ملأى كما هي. وكما شاهد أهل خيبر وهم ألف وخمسمائة الطعام الذي كان كربضة الشاة، فأشبع الجيش كلهم. وكما شاهد الجيش العظيم، وهو نحو ثلاثين ألفاً في تبوك العين لما كانت قليلة الماء، فكثر ماؤها حتى كفاهم، وشاهدوا الطعام الذي جمعوه على نطع، فأخذوا منه حتى كفاهم. وكما شاهد أهل الخندق وهم أكثر من ألف كثرة الطعام في بيت جابر بعد أن كان صاعاً من شعير، وعناقاً، فأكلوا كلهم بعد الجوع حتى شبعوا وفضلت فضلة. وكما شاهد الثمانون نفساً كثرة الطعام لما أكلوا في بيت أبي طلحة. وكما شاهد الثلاثمائة كثرة الماء لما توضؤوا من قدح، والماء ينبع من بين أصابعه، حتى كفاهم للوضوء. وكذلك وليمة زينب، كانوا ثلاثمائة، فأكلوا من طعام في تور من حجارة وهو باق، فظنّ أنس أنه أزيد مما كان، وكانوا يتداولون قصعة من غدوة إلى الليل، يقوم عشرة، ويقعد عشرة؛ كما في حديث سمرة بن جندب. وأهل الصفة لما شربوا كلهم من اللبن القليل، وكفاهم، وفضل، وكانوا ينقلون ذلك بينهم، وهو مشهور ينقله بعض من شاهده إلى من غاب عنه....". الجواب الصحيح 6/324-326.

آية إبراهيم كانت بعد نبوته وكذلك إلقاء الخليل في النار، إنّما كان بعد نبوته، ودعائه لهم إلى التوحيد1. آيات الأنبياء أدلة وبراهين سواء استدلوا بها أو لم الثامن: إنّ الدليل الدالّ على المدلول عليه، ليس من شرط دلالته استدلال أحدٍ به، بل ما كان النظر الصحيح فيه موصلاً إلى علمٍ، فهو دليل، وإن لم يستدلّ به أحدٌ؛ فالآيات أدلةٌ وبراهين تدلّ سواءٌ استدلّ به النبيّ، أو لم يستدلّ. وما لا يدلّ إذا لم يُستدلّ به لا يدلّ إذا استدلّ به، ولا ينقلب ما ليس بدليلٍ دليلاً إذا استدلّ به [مدّعٍ] 2 لدلالته. آيات الأنبياء لا تكون إلا خارقة للعادة ولا يقدر أحد على معارضتها التاسع: أن يُقال: آياتُ الأنبياء لا تكون إلا خارقة للعادة، ولا تكون مما يقدر [أحدٌ] 3 على معارضتها. فاختصاصها بالنبيّ، وسلامتها عن المعارضة شرطٌ فيها، بل وفي كلّ [دليل] 4؛ فإنه لا يكون دليلاً حتى يكون مختصّاً [بالمدلول] 5 عليه، ولا يكون مختصّاً إلا إذا سلم عن

_ 1 يدلّ على ذلك قول الله تعالى يحكي عن الخليل عليه السلام: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} . سورة الأنبياء، الآيات 66-69. 2 في ((خ)) : مدعي. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 في ((خ)) : أحدا. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 5 في ((خ)) : مدل. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

المعارضة1، فلم يُوجد مع عدم المدلول عليه مثله. وإلا إذا وُجد [هو أو مثله] 2 بدون المدلول، لم يكن مختصّاً؛ فلا يكون دليلاً. لكن كما أنّه لا يكفي مجرّد كونه خارقاً لعادة أولئك القوم دون غيرهم، فلا يكفي أيضاً عدم معارضة أولئك القوم، بل لا بدّ أن يكون ممّا لم يعتده غير الأنبياء؛ فيكون خارقاً لعادة غير الأنبياء. فمتى عُرف أنّه يُوجد لغير الأنبياء بطلت دلالته، ومتى عارض غير النبيِّ النبيَّ بمثل ما أتى به، بطل الاختصاص. كرامات الأولياء من دلائل النبوة وما ذكره المعتزلة، وغيرهم؛ كابن حزم: من أنّ آيات الأنبياء مختصةٌ بهم كلامٌ صحيحٌ3. لكنّ كرامات الأولياء هي من دلائل النبوة؛ فإنّها لا تُوجد إلا لمن اتّبع النبيَّ الصادقَ4، فصار وجودها كوجود ما أخبر به

_ 1 أي أنّ استلزام الدليل بالمدلول عليه، والسلامة من المعارضة شرط في كل دليل. 2 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 3 قال القاضي عبد الجبار في شروط المعجزة عند المعتزلة: "واعلم أنّ من حق المعجز أن يكون واقعاً من الله تعالى حقيقة، أو تقديراً، وأن يكون مما تنتقض به العادة المختصة بمن أظهر المعجز فيه، وأن يتعذر على العباد فعل مثله في جنسه، أو صفته، وأن يكون مختصاً بمن يدعي النبوة على طريقة التصديق له. فما اختص بعده بالصفات وصفناه بأنّه معجز من جهة الاصطلاح". المغني في أبواب العدل والتوحيد للقاضي عبد الجبار 15/199. أما ابن حزم فقال: ".. وأنّ المعجزات لا يأتي بها أحد إلا الأنبياء عليهم السلام..". المحلى لابن حزم 1/36. وانظر أعلام النبوة للماوردي ص 62. 4 وقد أوضح شيخ الإسلام رحمه الله أنّ كرامات الأولياء لا تصل إلى آيات الأنبياء الكبرى، ولا يأتون بمثلها؛ كالناقة، والعصا، وخلق الطير من الطين، والقرآن، ونصر الأنبياء، وإهلاك المكذبين؛ فإنه لا تحصل لهم هذه الآيات.. يقول رحمه الله في هذا الكتاب: "وأما آيات الأنبياء التي بها تثبت نبوتهم، وبها وجب على الناس الإيمان بهم: فهي أمرٌ يخصّ الأنبياء، لا يكون للأولياء، ولا لغيرهم". النبوات ص 1035. ويقول رحمه الله أيضاً: "وأما كرامات الصالحين فهي من آيات الأنبياء كما تقدم. ولكن ليست من آياتهم الكبرى، ولا يتوقف إثبات النبوة عليها". النبوات ص 1035.

النبيُّ من الغيب. وأمّا ما يأتي به السحرة، والكهّان من العجائب؛ فتلك جنسٌ معتادٌ لغير الأنبياء وأتباعهم، بل [لجنسٍ معروفين] 1 بالكذب، والفجور؛ فهو خارقٌ بالنسبة إلى غير أهله. وكلّ صناعةٍ فهي خارقةٌ عند غير أهلها، ولا تكون آية. وآيات الأنبياء هي خارقةٌ لغير الأنبياء، وإن كانت [معتادة للأنبياء] 2. آيات الأنبياء خارجة عن مقدور الثقلين العاشر: إنّ آيات الأنبياء خارجةٌ عن مقدور من أُرسل الأنبياء إليه؛ وهم الجنّ والإنس؛ فلا تقدر الإنس3 والجن أن يأتوا بمثل معجز الأنبياء؛ كما قال تعالى: {قُلْ لَئِن اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لا يَأْتُوْنَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَاْنَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيْرَاً} 4. وأما الملائكة فلا تضر قدرتهم على مثل ذلك؛ فإنّ الملائكة إنما تنزل على الأنبياء لا تنزل على السحرة، والكُهّان؛ كما أن الشياطين لا [تتنزل] 5 على الأنبياء. الملائكة تنزل على الأنبياء والشياطين تنزل على الكذابين والملائكة لا تكذب على الله، فإذا كانت الآيات من أفعال الملائكة؛ مثل إخبارهم للنبي عن الله بالغيب، ومثل نصرهم له على عدوه، وإهلاكهم له6 نصراً وهلاكاً خارجين عن العادة؛ كما فعلته الملائكة يوم بدر وغيره7، وكما فعلت

_ 1 في ((م)) ، و ((ط)) : الجنس معروف. 2 في ((خ)) : معتادة لغير الأنبياء. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 في ((ط)) : لإنس. 4 سورة الإسراء، الآية 88. 5 في ((م)) ، و ((ط)) : تنزّل. 6 أي لعدوّه. 7 قال شيخ الإسلام رحمه الله عن يوم بدر، يوم حنين: "أنهما غزاتان بينهما نحو ست سنين؛ كانت بدر في السنة الثانية من الهجرة، وكانت حنين في السنة الثامنة بعد فتح مكة، وأنّ بدراً مكان بين مكة والمدينة؛ شامي مكة، ويماني المدينة. وحنين واد قريب من الطائف شرقي مكة. وإنما قرن بينهما في الاسم لأنّ الله أنزل فيهما الملائكة، وأيّد بهما نبيّه والمؤمنين، حتى غلبوا عدوّهم، مع قوة العدو في بدر، ومع هزيمة أكثر المسلمين أولاً بحنين. وامتنّ الله بذلك في كتابه في قوله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [سورة آل عمران، الآية 123] . وفي قوله: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا..} . [سورة التوبة، الآيتان 25-26] .) . الجواب الصحيح 6/336.

بقوم لوط1، وكما فعلت بمريم والمسيح2، ونحو ذلك؛ وكإتيانهم لسليمان بعرش بلقيس؛ فقد روي أنّ الملائكة جاءته به وهي أقدر من الجنّ3،لم يكن هذا خارجاً عمّا اعتاده الأنبياء، بل هذا ليس لغير الأنبياء، فلا يقول إن غير الأنبياء اعتادوه فنُقضت عادتهم، بل هذا لم يعتده إلا

_ 1 قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ..} الآيات. [سورة هود، الآيات 77-81] . وقال تعالى: {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} . [سورة القمر، الآية 37] . 2 قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً ... } إلى قوله: {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً} . سورة مريم، الآيات 16-19. 3 قال تعالى: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ..} . سورة النمل، الآية 40. والأقوال في الذي عنده علم من الكتاب، وأحضر عرش بلقيس كثيرة، تصل إلى ثمانية أقوال. ومن أشهرها أنه سليمان عليه السلام. وقيل ملك من الملائكة أيّد الله به نبيّه سليمان. وقيل هو جبريل عليه السلام؛ قاله النخعي، وروي عن ابن عباس. وعلم الكتاب على هذا: علمه بكتب الله المنزلة، أو بما في اللوح المحفوظ. وقال أكثر المفسرين: هو آصف بن برخيا ابن خالة سليمان، وكان صدّيقاً يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سُئل به أعطى) . انظر: تفسير البغوي 3/420. وتفسير القرطبي 13/136.

الأنبياء، وهو مناقض لجنس عادات الآدميين؛ بمعنى أنه لا يوجد فيما اعتاده بنو آدم في جميع الأصناف غير الأنبياء؛ كما اعتادوا العجائب من السحر، والكهانة، والصناعات العجيبة، وما يستعينون عليه بالجن والإنس والقوى الطبيعية؛ مثل الطلاسم1 [وغيرها؛ فكل هذا معتاد معروف لغير الأنبياء. وهؤلاء جعلوا الطلاسم] 2 من جنس المعجزات، وقالوا3: لو أتى بها نبي لكانت [آية له] 4، وإذا أتى بها من لم يدّع النبوة جاز، وإن ادّعاها كاذب سلبه الله علمها، أو قيّض له من يعارضه. وهذا قول قبيح؛ فإنّه لو جعل شيء من معجزات الأنبياء وآياتهم من جنس ما يأتي به ساحر، أو كاهن، أو مطلسم، أو5 مخدوم من الجن لاستوى الجنسان، ولم يكن فرق بين الأنبياء وبين هؤلاء، ولم يتميّز بذلك النبيّ من غيره. وهذا مما عظم غلط هؤلاء فيه فلم يعرفوا خصائص النبيّ، وخصائص آياته. الفلاسفة جعلوا للنبوة ثلاث خصائص كما أنّ المتفلسفة أبعد [منهم] 6 عن الإيمان؛ فجعلوا للنبوة ثلاث

_ 1 الطلسم: لفظ يوناني. وقد سبق معناه في ص 388. وقد اشتغل المصريون القدماء، والبابليون، والكلدانيون، والسريانيون بعلم الطلاسم، واشتغل به في المشرق جابر بن حيان، وبعده مسلمة بن أحمد المجريطي في الأندلس. انظر: دائرة المعارف لوجدي 5/770. 2 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 3 المقصود بهم الأشاعرة. انظر كلام الباقلاني في هذه المسألة في كتابه: البيان ص 98-100. 4 في ((خ)) : له آية. إلا أنّ الناسخ جعل فوق الكلمتين حرف ((م)) للدلالة على التقديم والتأخير، فصار الصواب ما هو مثبت في ((م)) ، و ((ط)) . 5 في ((ط)) : احو. 6 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.

خصائص: حصول [العلم] 1 بلا تعلّم2، وقوّة نفسه المؤثرة في هيولي العالم، وتخيّل السمع والبصر3. وهذه الثلاثة توجد لكثير من عوام الناس.

_ 1 في ((خ)) : التعلم. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 قال ابن سينا في كتاب النجاة فصل في طرق اكتساب النفس الناطقة للعلوم: "واعلم أنّ التعلّم سواء حصل من غير المتعلم، أو حصل من نفس المتعلم؛ فإنّ من المتعلمين من يكون أقرب إلى التصوّر؛ لأنّ استعداده الذي قبل الاستعداد الذي ذكرناه أقوى. فإن كان ذلك الإنسان مستعداً للاستكمال فيما بينه وبين نفسه سُمّي هذا الاستعداد القوي حدساً. وهذا الاستعداد قد يشتدّ في بعض الناس، حتى لا يحتاج في أن يتصل بالعقل الفعّال إلى كبير شيء، وإلى تخريج وتعليم، بل يكون شديد الاستعداد لذلك، كأن الاستعداد الثاني حاصل له، بل كأنه يعرف كل شيء من نفسه. وهذه الدرجة أعلى درجات هذا الاستعداد، ويجب أن تُسمّى هذه الحال من الفعل الهيولاني عقلاً قدسياً، وهو من جنس العقل بالملكة، إلا أنه رفيع جداً، ليس مما يشترك فيه الناس كلهم. ولا يبعد أن تفيض هذه الأفعال المنسوبة إلى الروح القدسي لقوتها واستعلائها فيضاناً على المتخيلة أيضاً، فتحاكيها المتخيلة أيضاً بأمثلة محسوسة ومسموعة من الكلام على النحو الذي سلفت الإشارة إليه ... إلى أن قال: وهذا ضرب من النبوة، بل أعلى قوى النبوة. والأولى أن تُسمّى هذه القوة قوة قدسية. وهي أعلى مراتب القوى الإنسانية". النجاة لابن سينا ص 166-168. 3 انظر: كتاب الشفاء لابن سينا في قسم النفس منه ص 244-246. والإشارات والتنبيهات له 2/368-370، 413، 853-903 تحقيق سليمان دنيا. وآراء أهل المدينة الفاضلة للفارابي ص 89. ولقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله خصائص النبوة عند الفلاسفة في مواضع شتى من كتبه؛ انظر مثلاً: درء تعارض العقل والنقل 1/179، و5/355، و9/44، و10/204-205. ومنهاج السنة النبوية 2/413، و8/24. وكتاب الصفدية 1/5-7. والرد على المنطقيين. وشرح الأصفهانية 2/503. والرسالة العرشية ص 11. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص204. ومجموع الفتاوى 11/229. وبغية المرتاد ص 384. والجواب الصحيح 6/24، 47.

ولم يفرقوا1 بين النبيّ والساحر إلا بأنّ هذا برّ، وهذا فاجر. والقاضي أبو بكر2 وأمثاله يجعلون هذا الفرق سمعيا3. والفرق الذي لا بُدّ منه عندهم: الاستدلال بها، والتحدي بالمثل4. وكلّ من هؤلاء5، وهؤلاء6 أدخلوا مع الأنبياء من ليس [بنبيّ] 7، ولم يعرفوا خصائص الأنبياء، ولا خصائص آياتهم؛ فلزمهم جعل من ليس

_ 1 أي المتفلسفة. وانظر ردّ شيخ الإسلام على مقولتهم هذه في: كتاب الصفدية 1/135، 147. والجواب الصحيح 6/400-401، 496، 500؛ حيث ردّ عليهم شيخ الإسلام رحمه الله من وجهين. وقد قال عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وجعلوا ما للأنبياء وغير الأنبياء من المعجزات والكرامات وما للسحرة من العجائب، هو من قوى النفس. لكن الفرق بينهما أنّ ذلك قصده الخير، وهذا قصده الشرّ. وهذا المذهب من أفسد مذاهب العقلاء...... فإنه مبنيّ على إنكار الملائكة، وإنكار الجنّ، وعلى أنّ الله لا يعلم الجزئيات، ولا يخلق بمشيئته وقدرته، ولا يقدر على تغيير العالم. ثمّ إنّ هؤلاء لا يقرّون من المعجزات إلا بما جرى على هذا الأصل وأمكن أن يُقال فيه هذا؛ مثل نزول المطر، وتسخير السباع، وإمراض الغير، وقتله، ونحو ذلك. وأما قلب العصا حية، وإحياء الموتى، وإخراج الناقة من الهضبة، وانشقاق القمر، وأمثال ذلك، فلا يقرّون به ... ". الجواب الصحيح 6/24-25. 2 الباقلاني. 3 انظر: البيان للباقلاني ص 38-41. وانظر: منهاج السنة النبوية 2/415. والجواب الصحيح 6/400-401. 4 انظر: البيان للباقلاني ص 46-47، 94. 5 الأشاعرة. 6 المتفلسفة. 7 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .

بنبي نبيّاً، أو جعل النبيّ ليس بنبيّ؛ إذ كان ما ذكروه في النبوة مشتركا بين الأنبياء وغيرهم. فمن [ظنّ] 1 أنه يكون لغير الأنبياء، قدح في الأنبياء أن [يكون] 2 هذا هو دليلهم بوجود مثل ما جاءوا به لغير النبي. ومن ظنّ أنّه لا يكون إلا لنبيّ، إذا رأى من فعله من متنبئ كاذب، وساحر، وكاهن ظنّ أنّه نبيّ. والإيمان بالنبوة أصل [النجاة] 3 والسعادة. فمن لم يحقق هذا الباب اضطرب عليه باب الهدى والضلال، والإيمان والكفر، ولم يميّز بين الخطأ والصواب. ولما كان الذين اتبعوا هؤلاء وهؤلاء من المتأخرين4؛ مثل أبي حامد5، والرازي، والآمدي، وأمثالهم: هذا، ونحوه مبلغ علمهم بالنبوّة، لم يكن لها في قلوبهم من العظمة ما يجب لها؛ فلا يستدلّون بها على الأمور العلمية الخبرية؛ وهي خاصّة النبيّ؛ وهو الإخبار عن الغيب، والإنباء به؛ فلا يستدلّون بكلام الله ورسوله على الإنباء بالغيب التي يُقطع بها، بل عمدتهم ما يدعونه من العقليات المتناقضة.

_ 1 في ((خ)) : علم ظنّ. ولعلّ الصواب حذف كلمة (علم) بدليل السياق. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 3 في ((خ)) : التجارة. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 أي خلطوا بين الفلسفة والأشعرية، أو ما يُسميهم شيخ الإسلام رحمه الله متفلسفة الأشعرية. انظر: درء تعارض العقل والنقل 3/339. وانظر كلام شيخ الإسلام رحمه الله عن الغزالي، والرازي، والشهرستاني، والآمدي، وتأثرهم بالفلاسفة، وكتب ابن سينا سيما في النبوات في: مجموع الفتاوى 4/99، 5/560. وشرح الأصفهانية 1/272. 5 الغزالي.

ولهذا يقرون بالحيرة في آخر عمرهم؛ كما قال الرازي: نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقال لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي [عليلا] 1، ولا تروي غليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} 2، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 3. وأقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 4، {وَلا يُحِيْطُونَ بِهِ عِلْمَاً} 5. ومن جرّب مثل تجربتي، عرف مثل معرفتي6. آيات الأنبياء مختصة بهم.. الوجه الحادي عشر: إنّ آيات الأنبياء مما يعلم العقلاء أنها مختصة بهم، ليست مما تكون لغيرهم؛ فيعلمون أنّ الله لم يخلق مثلها لغير الأنبياء. وسواء في آياتهم التي كانت في حياة قومهم، وآياتهم التي فرّق الله بها بين أتباعهم وبين مكذّبيهم؛ بنجاة هؤلاء، وهلاك هؤلاء، ليست من جنس ما يوجد في العادات المختلفة لغيرهم7؛

_ 1 في ((ط)) : غليلاً. 2 سورة فاطر، الآية 10. 3 سورة طه، الآية 5. 4 سورة الشورى، الآية 11. 5 سورة طه، الآية 110. 6 تقدّم إيراده مراراً في هذا الكتاب. انظر على سبيل المثال ص 332. 7 وقد عقد المؤلف رحمه الله فصلاً في كتابه ((الجواب الصحيح)) 6/387، وذكر فيه كثيراً من الشواهد والآيات للأنبياء الدالّة على إهلاك الله لمكذّبيهم، ونصره للمؤمنين بهم، وأنها من أعلام نبوتهم، ودلائل صدقهم.

وذلك: مثل تغريق الله لجميع أهل [الأرض] 1 إلا لنوح، ومن ركب معه في السفينة؛ فهذا لم يكن قط في العالم نظيره2. إنجاء الله الرسل ومن معهم وإهلاك مكذبيهم من آياتهم وكذلك: إهلاك قوم عاد إِرَمَ3 ذات العماد التي لم يُخلق مثلها في البلاد، مع كثرتهم، وقوتهم، وعظم عماراتهم التي لم يُخلق مثلها في البلاد، ثم أهلكوا بريح صرصر عاتية مسخرة سبع ليال وثمانية أيام حسوماً؛ حتى صاروا كلّهم كأنّهم أعجاز نخل خاوية4. ونجا هود ومن اتّبعه؛ فهذا لم يوجد نظيره في العالم. وكذلك: قوم صالح؛ أصحاب مدائن، ومساكن في السهل والجبل، وبساتين؛ أُهلكوا كلّهم بصيحةٍ واحدةٍ5؛ فهذا لم يوجد نظيره في العالم.

_ 1 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 2 قال تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً} . [سورة الفرقان، الآية 37] . وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ..} . [سورة هود، الآية 40-43] . 3 قال قتادة، والسدي: إنّ إرم بيت مملكة عاد. قال ابن كثير: وهذا قول حسن جيد. تفسير ابن كثير 8/417. 4 قال تعالى: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} . [سورة الحاقة، الآيات 6-8] . 5 قال تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} . [سورة الأعراف، الآية 74] . وقال تعالى عنهم: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} . [سورة النمل، الآية 52] .

وكذلك: قوم لوط؛ أصحاب مدائن متعددة، رُفعت إلى السماء، ثُمّ قُلبت بهم، وأُتْبعوا بحجارة من السماء، تتّبع شاذهم1، ونجا لوط وأهله، إلا امرأته أصابها ما أصابهم؛ فهذا لم يوجد نظيره في العالم. وكذلك: قوم فرعون وموسى جمعان عظيمان، ينفرق لهم البحر كل فِرق كالطّود العظيم؛ فيسلك هؤلاء، ويخرجون سالمين؛ فإذا سلك الآخرون انطبق عليهم الماء2؛ فهذا لم يوجد نظيره في العالم. فهذه آيات تعرف العقلاء عموماً أنّها ليست من جنس ما يموت به بنو آدم. وقد يحصل لبعض الناس طاعون، ولبعضهم جدب، ونحو ذلك. وهذا مما اعتاده الناس؛ وهو من آيات الله من وجه آخر، بل كل حادث من آيات [الله] 3 تعالى. ولكنّ هذه الآيات ليست من جنس ما اعتيد. الكعبة لها خاصية ليست لغيرها وكذلك الكعبة فإنّها بيتٌ من حجارةٍ بوادٍ غيِر ذي زرع4، ليس عندها أحدٌ يحفظها من عدو، ولا عندها بساتين وأمور يرغب الناس فيها؛ فليس عندها رغبة ولا رهبة. ومع هذا فقد حفظها بالهيبة والعظمة؛ فكل من يأتيها يأتيها خاضعاً، ذليلاً، متواضعاً في غاية التواضع. وجعل فيها من الرغبة ما

_ 1 قال تعالى: {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} . [الحجر، 75] . 2 قال تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة الشعراء، الآيات 62-67] . 3 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 4 قال تعالى يحكي قول إبراهيم الخليل عليه السلام: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} . [سورة إبراهيم، الآية 37] .

يأتيها الناس من أقطار الأرض محبةً، وشوقاً، من غير باعثٍ دنيوي. وهي على هذه الحال من ألوف من السنين؛ وهذا مما لا يُعرف في العالم لبُنيةٍ غيرها. والملوك يبنون القصور العظيمة فتبقى مدة، ثم تهدم، لا يرغب أحدٌ في [بنائها] 1، ولا يرهبون من خرابها. وكذلك ما بني للعبادات قد [يتغيّر] 2 حاله على طول الزمان، وقد يستولي العدو عليه؛ كما استولى [على] 3 بيت المقدس. والكعبة لها خاصية ليست لغيرها. وهذا مما حيّر الفلاسفة ونحوهم؛ فإنهم يظنون أنّ المؤثر في هذا العالم هو حركات الفلك، وأنّ ما بُني وبقي فقد بُني بطالع [سعيد] 4؛ فحاروا في طالع الكعبة، إذ لم يجدوا في الأشكال الفلكيّة ما يوجب مثل هذه السعادة، [والعزة] 5، والعظمة، والدوام، والقهر، والغلبة6. وكذلك ما [فعله] 7 الله بأصحاب الفيل لما قصدوا تخريبها8؛ قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيْل وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرَاً أَبَابِيل تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيل فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ

_ 1 في ((خ)) : ابنائها. 2 في ((م)) ، و ((ط)) : تتغيّر. 3 في ((ط)) : عليه. 4 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 5 في ((م)) ، و ((ط)) : الفرح. 6 انظر: كتاب الصفدية 1/220. والرد على المنطقيين ص 502. والجواب الصحيح 5/264-265. 7 في ((م)) ، و ((ط)) : فعل. 8 أي الكعبة المشرفة.

مَأْكُول} 1؛ قصدها جيشٌ عظيمٌ، ومعهم الفيل، فهرب أهلها منهم، فبرك الفيل، وامتنع من المسير إلى جهتها، وإذا وجّهوه إلى غير جهتها توجّه. ثم جاءهم من البحر طيرٌ أبابيل؛ أي جماعات في تفرقة؛ فوجاً بعد فوج، رموا عليهم حصى هلكوا به كلهم. فهذا [ممّا] 2 لم يوجد نظيره في العالم3. الدليل يستلزم المدلول فآيات الأنبياء هي أدلة وبراهين على صدقهم. والدليل يجب أن يكون مختصاً بالمدلول عليه، لا يوجد مع عدمه، لا [يتحقق] 4 الدليل إلا مع تحقق المدلول؛ كما أنّ الحادث لا بد له من محدِث؛ فيمتنع وجود حادث بلا محدِث، ولا يكون المحدِث إلاّ قادراً؛ فيمتنع وجود الأحداث من غير قادر، والفعل لا يكون إلا من عالمٍ ونحو ذلك؛ فكذلك ما دل على صدق النبيّ، يمتنع وجوده إلا مع كون النبيّ صادقاً. الأشاعرة لم يجعلوا المعجزة تدل دلالة عقلية ولا تدل بجنسها ولم يجعلوا آيات الأنبياء تدلّ دلالةً عقليةً مستلزمةً للمدلول5، ولا [تدل] 6 [بجنسها] 7 ونفسها8، بل قال بعضهم9: قد تدلّ، وقد

_ 1 سورة الفيل كلها (1-5) . 2 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 3 انظر كلام شيخ الإسلام حول هذا الموضوع بالتفصيل في: الجواب الصحيح 6/55-57؛ حيث عدّ ذلك آية من آيات النبوة. 4 في ((خ)) : بتحقيق. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 انظر: الإرشاد للجويني ص 324. والعقيدة النظامية له ص 68. وشرح المواقف للجرجاني 3/181-182. 6 في ((خ)) : يدلّ. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 7 في ((خ)) : لجنسها. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 8 انظر: البيان للباقلاني ص 48. والإرشاد للجويني ص 328. 9 ومنهم القاضي عبد الجبار من المعتزلة. انظر: المغني في أبواب التوحيد والعدل 15/161، 168، 172-173.

لا تدلّ. وقال آخرون: تدلّ مع الدعوى، ولا تدلّ مع عدم الدعوى1. وهذا يبطل كونها دليلاً2. وآخرون3 أرادوا تحقيق ذلك، فقالوا: تدل [دلالة] 4 وضعيّة من جنس دلالة اللفظ على مراد المتكلم؛ تدل أن قصد الدلالة، ولا تدلّ بدون ذلك؛ فهي تدلّ مع الوضع دون غيره5. رد شيخ الإسلام عليهم فيقال لهم: وما يدلّ على قصد المتكلّم، هو أيضاً دليلٌ مطّرد، يمتنع وجوده بدون المدلول، ودلالته تعلم بالعقل؛ فجميع الأدلة تعلم بالعقل دلالتها على المدلول؛ فإنّ ذلك اللفظ إنّما يدلّ إذا عُلم أنّ المتكلّم أراد به هذا المعنى. وهذا قد يُعلم ضرورة، وقد يُعلم نظراً؛ فقد يُعلم قصد المتكلم بالضرورة؛ كما يُعلم أحوال الإنسان بالضرورة؛ فيفرّق بين حمرة الخجل، وصفرة الوجل، وبين حمرة المحموم، وصفرة المريض بالضرورة6. وقد يُعلم نظراً واستدلالاً؛ كما يُعلم أنّ عادته إذا قال كذا: أن يريد كذا، وأنّه لا ينقض عادته إلاّ إذا بيّن ما يدلّ على انتقاضها؛ فيُعلم هذا، كما يُعلم سائر العاديات؛ مثل طلوع الشمس كلّ يوم، والهلال كل شهر، وارتفاع الشمس في الصيف، وانخفاضها في الشتاء.

_ 1 انظر: البيان للباقلاني ص 94. والإرشاد للجويني ص 319، 324. 2 انظر ردّ شيخ الإسلام رحمه الله على هذه المقولة في الجواب الصحيح 6/380. 3 انظر: الإرشاد للجويني ص 324، 325. والاقتصاد في الاعتقاد للغزالي ص 170. 4 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 5 وهذه مقولة الأشعرية. وقد سبق ردّ شيخ الإسلام رحمه الله عليها من عدة وجوه في هذا الكتاب. وقد عقد رحمه الله فصلاً عن هذا الموضوع، وحقق الكلام فيه، وسيأتي ص 268-271. 6 انظر: شرح الأصفهانية 2/622.

سنة الله في الفرق بين الأنبياء وبين مكذبيهم ومن هذا سنة الله في الفرق بين الأنبياء وأتباعهم، وبين مكذّبهم؛ قال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا في الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَان عَاقِبَةُ المُكَذِّبِين} 1، وقال تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ سُنَّةَ الأوَّلِيْنَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيْلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيْلاً} 2، وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيْرُوا في الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِيْ في الصُّدُور} 3، وقال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشَاً فَنَقَّبُوا في الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيْص إِنَّ في ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيد} 4. فإنّ هذه العجائب والآيات التي للأنبياء، تارةً تُعلم بمجرّد الأخبار المتواترة، وإن لم نشاهد شيئاً من آثارها، وتارةً نُشَاهد بالعيان آثارها الدالّة على ما حدث؛ كما قال تعالى: {وَعَادَاً [وَثَمُودَ] 5 وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ} 6، وقال تعالى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَة بِمَا ظَلَمُوا} 7، وقال تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ [مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ] 8} 9، وقال تعالى: {إِنَّ في ذَلِكَ لآيَاتٍ للمُتَوَسِّمِينَ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيم إِنَّ في ذَلِكَ

_ 1 سورة آل عمران، الآية 137. 2 سورة فاطر، الآية 43. 3 سورة الحج، الآية 46. 4 سورة ق، الآيتان 36، 37. 5 في ((خ)) : وثمودا. 6 سورة العنكبوت، الآية 38. 7 سورة النمل، الآية 52. 8 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 9 سورة الصافات، الآيتان 137-138.

لآيَة للمُؤْمِنِينَ وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ [وَإِنَّهُمَا] 1 لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} 2؛ أي لبطريق موضح، [متبيِّن] 3 لمن مرّ به آثارَهم. وهذه الأخبار كانت منتشرة متواترة في العالم، وقد علم النّاس أنّها آيات للأنبياء، وعقوبة لمكذبيهم، ولهذا كانوا يذكرونها عند نظائرها للاعتبار؛ كما قال مؤمن آل فرعون: {يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ [عَلَيْكُمْ] 4 مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ مِثْلَ دَأْبِ قوْمِ نوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمَاً لِلْعِبَادِ} 5، وقال شعيب: {وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلَ مَا أَصَاب قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} 6. القرآن الكريم معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم الخالدة. والقرآن [آيته] 7 باقية على طول الزمان، من حين جاء به الرسول تُتْلى آيات التحدّي به. ويُتلى قوله: {فَليَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} 8، و {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ} 9، و {بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ [اللهِ] 10} 11، ويُتلى قوله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالجِنّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرَاً} 12.

_ 1 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 2 سورة الحجر، الآيات 75-79. 3 في ((خ)) : وتبين. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) . 5 سورة غافر، الآيتان 30-31. 6 سورة هود، الآية 89. 7 في ((خ)) : آية. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 8 سورة الطور، الآية 34. 9 سورة هود، الآية 13. 10 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 11 سورة يونس، الآية 38. 12 سورة الإسراء، الآية 88.

فنفس إخبار الرسول بهذا في أول الأمر، وقطعه بذلك، مع علمه بكثرة الخلق، دليلٌ على أنّه كان خارقاً يعجز الثقلين عن [معارضته] 1. وهذا لا يكون لغير الأنبياء. ثمّ مع طول الزمان، قد سمعه الموافق، والمخالف، والعرب، والعجم. وليس في الأمم [من] 2 أظهر كتاباً يقرأه الناس، وقال إنّه مثله. وهذا يعرفه كلّ أحدٍ. وما من كلام تكلم به الناس وإن كان في أعلى طبقات الكلام لفظاً ومعنىً، إلا وقد قال الناس نظيره، وما يشبهه ويقاربه؛ سواء كان شعراً، أو خطابةً، أو كلاماً في العلوم، [والحِكَمِ] 3 والاستدلال، والوعظ، والرسائل، وغير ذلك. وما وجد من ذلك شيء، إلاَّ ووجد ما يشبهه ويقاربه. والقرآن ممّا يعلم الناس؛ عربهم، وعجمهم أنّه لم يُوجد له نظيرٌ، مع حرص العرب، وغير العرب على معارضته؛ فلفظه آية، ونظمه آية، وإخباره بالغيوب آية، وأمره ونهيه آية، ووعده ووعيده آية، وجلالته وعظمته وسلطانه على القلوب آية4. وإذا ترجم بغير العربي5 كانت

_ 1 في ((خ)) : معارضة. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 في ((خ)) : ممن. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 في ((م)) ، و ((ط)) : الحكمة. 4 انظر: أعلام النبوة للماوردي ص 99-121. وإعجاز القرآن للباقلاني ص 83-102؛ فقد ذكر وجوهاً عدّة لإعجاز القرآن. 5 قال شيخ الإسلام رحمه الله: "القرآن يجوز ترجمة معانيه لمن لا يعرف العربية باتفاق العلماء". الجواب الصحيح 2/55. وقال أيضاً عن ألفاظ القرآن: "ولكن يجوز تفسيرها باللسان العربي، وترجمتها بغير العربيّ) . الجواب الصحيح 3/20. والشيخ رحمه الله يقصد ترجمة معاني وتفسير القرآن إلى لغة أخرى. ولا يُراد بالترجمة ها هنا الترجمة الحرفية لألفاظ القرآن، فهذه لا خلاف في أنّها محرّمة، تؤدّي إلى تحريف القرآن. انظر: مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني 2/27. والبرهان في علوم القرآن للزركشي 1/464.

معانيه آية. كلّ ذلك لا يوجد له نظيرٌ في العالم1. وإذا قيل إنّ التوراة، والإنجيل، والزبور، لم يُوجد لها نظيرٌ أيضاً2، لم يضرّنا ذلك؛ فإنّا قلنا: إنّ آيات الأنبياء لا تكون لغيرهم، وإن كانت لجنس الأنبياء؛ كالإخبار بغيب الله؛ فهذه آية يشتركون فيها، وكذلك إحياء الموتى قد كان آية [لغير] 3 واحدٍ من الأنبياء غير المسيح؛ كما كان ذلك لموسى4، وغيره5.

_ 1 انظر: الجواب الصحيح 5/405-411؛ إذ عقد الشيخ رحمه الله فيه فصلاً في بيان إعجاز القرآن الكريم. وكذا المصدر نفسه 5/433-434؛ وهو شرح وتوضيح لما أجمله الشيخ رحمه الله هنا. وانظر أيضاً: البيان للباقلاني ص 31. والتمهيد له ص 167، 158. وإعجاز القرآن له ص 83-99. والإرشاد للجويني ص 349-353. وتفسير القرطبي 1/52-54؛ فقد ذكر عشرة أوجه لإعجاز القرآن الكريم. وأعلام النبوة للماوردي ص 99-122. 2 يرى الباقلاني أنّ الإعجاز خاص بالقرآن الكريم دون الكتب الأخرى، ولذلك نجده يقول: "إنّا لم نجد أهل التوراة والإنجيل ادّعوا الإعجاز لكتابهم، ولا ادّعى لهم المسلمون. فعُلِم أنّ الإعجاز ممّا يختصّ به القرآن..". إعجاز القرآن للباقلاني ص 81. 3 في ((ط)) : فغير. 4 ووجه إحياء الموتى لموسى عليه السلام ما قاله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة، الآية 73] . وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله تفصيلاً لإحياء الله الموتى على يد موسى عليه السلام في الجواب الصحيح 4/17-18. 5 قال شيخ الإسلام رحمه الله: "فإنّ أعظم آيات المسيح عليه السلام إحياء الموتى. وهذه الآية قد شاركه فيها غيره من الأنبياء؛ كإلياس وغيره". الجواب الصحيح 4/17. وانظر: الجواب الصحيح 5/434-435؛ فهو كالشرح لهذا الكلام.

جنس الأنبياء مميزون عن غيرهم بالآيات وليس المقصود هنا ذكر تفضيل بعض الأنبياء على بعض، بل المقصود أنّ جنس الأنبياء متميزون عن غيرهم بالآيات، والدلائل [الدالّة] 1 على صدقهم، التي يعلم العقلاء إنّها لم توجد لغيرهم؛ [فيعلمون أنّها ليست لغيرهم] 2؛ لا عادةً، ولا خرق عادة، بل إذا عبّر عنها بأنّها خرق عادة، وبأنّها من العجائب، فالأمر العجيب هو الخارج عن نظائره. وخارق العادة ما خرج عن الأمر المعتاد؛ [فالمراد بذلك أنّها خارجة عن الأمر المعتاد لغير الأنبياء] 3، وأنّها من العجائب الخارجة عن النظائر، فلا يُوجد نظيرها [لغير الأنبياء. وإذا وجد نظيرها] 4؛ سواء كان أعظم منها، أو دونها لنبيّ؛ فذلك توكيد لها أنّها من خصائص الأنبياء؛ [فإنّ الأنبياء يصدق5 بعضهم بعضاً، فآية كلّ نبيّ آية لجميع6 الأنبياء] 7؛ كما أنّ آيات أتباعهم آيات لهم أيضاً. وهذا أيضاً من آيات الأنبياء، وهو تصديق بعضهم لبعض؛ فلا يُوجد من أصحاب الخوارق العجيبة التي تكون لغير الأنبياء؛ كالسحرة، والكهنة، وأهل الطبائع، والصناعات إلاّ من يخالف بعضهم بعضاً [فيما يدعو] 8 إليه ويأمر به، ويُعادي بعضهم بعضاً. وكذلك أتباعهم إذا كانوا من أهل الاستقامة؛ فما أتى به الأول من الآيات، فهو دليلٌ على نبوّته،

_ 1 في ((خ)) : الدلالة. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 3 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 4 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 5 في ((خ)) : تصدق. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 6 في ((خ)) : الجميع. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 7 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 8 في ((خ)) : في ما يدعوا. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

ونبوّة من يُبشّر به1، وما أتى به الثاني فهو دليلٌ على نبوّته ونبوة من يُصدّقه ممّن تقدّم2؛ فما أتى به موسى، والمسيح، وغيرهما من الآيات، فهي آيات لنبوّة محمدٍ لإخبارهم بنبوّته، فكان هذا الخبر ممّا دلّت آياتهم على صدقه. وما أتى به محمد من الآيات، فهو دليلٌ على إثبات جنس الأنبياء مطلقاً، وعلى نبوّة كلّ من سُمِّيَ في القرآن، خصوصاً [إذا] 3 كان هذا ممّا أخبر به محمد صلى الله عليه وسلم عن الله، ودلّت آياته على صدقه فيما يخبر به عن الله. وحينئذٍ فإذا قُدِّر أنّ التوراة، أو الإنجيل، أو الزبور معجزٌ لما فيه من العلوم والإخبار عن الغيوب، والأمر والنهي، ونحو ذلك، لم يُنازع في ذلك، بل هذا دليل على نبوّتهم صلوات الله عليهم، وعلى نبوّة من أخبروا بنبوّته. ومن قال: إنها ليست بمعجزة4. فإن أراد ليست معجزة من جهة اللفظ والنظم؛ كالقرآن، فهذا ممكن. وهذا يرجع إلى أهل اللغة العبرانية. هل الكتب السابقة معجزة، أم لا؟ وأما كون التوراة معجزة من حيث المعاني لما فيها من الإخبار عن الغيوب، أو الأمر والنهي. فهذا لا ريب فيه. وممّا يدلّ على أنّ كتب الأنبياء معجزة: أنّ فيها الإخبار بنبوّة محمدصلى الله عليه وسلم قبل أن يُبعث بمدة طويلة. وهذا لا يُمكن علمه بدون إعلام الله لهم. وهذا بخلاف من أخبر

_ 1 كما قال المسيح عليه السلام: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} . [الصف،6] . 2 ومن أمثلة ذلك تصديق المسيح عليه السلام بموسى عليه السلام؛ كما حكى الله ذلك عنه بقوله: {وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} . [آل عمران، 50] . 3 في ((خ)) : إذ. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 قد أورد هذه المسألة الباقلاني بصيغة السؤال والجواب. انظر: إعجاز القرآن للباقلاني ص 79. والتمهيد له ص180. وتفسير القرطبي 1/ 52. وإعلام النبوة للماوردي ص 111-112. والشفا للقاضي عياض 1/390.

بنبوّته من الكهّان والهواتف؛ فإنّ هذا إنّما كان عند قرب مبعثه لمّا ظهرت دلائل ذلك، واستَرَقَتْه الجنّ من الملائكة، فتحدثت به، وسمعته الجنّ من أتباع الأنبياء. فالنبيّ الثاني إذا كان قد أخبر بما هو موجود في كتاب النبيّ الأول، وقد وصل إليه من جهته، لم يكن آية له؛ فإنّ العلماء يشاركونه في هذا. وأما إذا أخبر بقدرٍ زائدٍ لم يوجد في خبر الأول، أو كان ممّن لم يصل إليه خبر نبيّ غيره، كان ذلك آية له؛ كما يوجد في نبوّة أشعيا، وداود، وغيرهما من صفات النبيّ ما لا يوجد مثله في توراة موسى1. فهذه الكتب معجزة لما فيها من أخبار الغيب الذي لا يعلمه إلا نبيّ، وكذلك فيها من الأمر والنهي، والوعد والوعيد، ما لا يأتي به إلا نبيّ، أو تابع نبيّ. وما أتى أتباع الأنبياء من جهة كونهم أتباعاً لهم، مثل أمرهم بما أمروا به، ونهيهم عما نهوا عنه، ووعدهم بما وعدوا به، ووعيدهم بما [يُوعدون] 2 به؛ فإنه من خصائص الأنبياء.

_ 1 لفظ التوراة. يُوضّح شيخ الإسلام رحمه الله أنّ له معنيين يُراد به جنس الكتب التي يُقرّ بها أهل الكتاب، فيدخل في ذلك الزبور، ونبوّة أشعيا، وسائر النبوات غير الإنجيل. وقد يُراد بها نفس الكتب المتقدمة كلّها. فكلّها تُسمّى توراة. انظر الجواب الصحيح 5/157-158. أما إذا قُيّدت بلفظ توراة موسى. فالمقصود التوراة المكتوبة التي أُنزلت على موسى؛ كما قال تعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْء..} . [الأعراف، 145] . يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "والزبور تابعٌ لشرع التوراة، وكذلك الإنجيل فرعٌ على التوراة، لم ينزل كتاب مستقلّ إلا التوراة والقرآن..". الجواب الصحيح 5/351. 2 في ((خ)) : يوعدوا. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

مدعي النبوة لا يأمر بما تأمر به الأنبياء ولا ينهى عما نهوا عنه والكذّاب المدّعي للنبوة لا يأمر بجميع ما أمرت به الأنبياء، وينهى عن كلّ ما نهوا عنه؛ فإنّ ذلك يُفسد مقصوده، وهو كاذبٌ، فاجرٌ، شيطانٌ من أعظم شياطين الإنس، والذي يُعينه على ذلك من أعظم [شياطين] 1 الجنّ. وهؤلاء لا يُتصوّر أن يأمروا بما أمرت به الأنبياء، وينهوا عمّا نهوا عنه؛ لأنّ ذلك يناقض مقصودهم، بل وإن أمروا بالبعض في ابتداء الأمر، [مَنْ] 2 يخدعونه، ويربطونه، فلا بُدَّ أن يناقضوا، [فيأمروا] 3 [بما] 4 نهت عنه الأنبياء، ولا يُوجبوا ما أمرت به الأنبياء؛ كما جرى مثل ذلك لمن ادعى النبوّة من الكذّابين، ولمن أظهر موافقة الأنبياء، وهو في الباطن من المنافقين؛ كالملاحدة الباطنية5 الذين يُظهرون الإسلام والتشيّع ابتداءً، ثمّ إنّهم يستحلّون الشرك، والفواحش، والظلم، ويُسقطون الصلاة، والصيام، وغير ذلك ممّا جاءت به الشريعة. فمن أظهر خلاف ما أبطن، وكان مطاعاً في النّاس، فلا بُدّ أن يظهر من باطنه ما يُناقض ما أظهره.

_ 1 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 2 في ((خ)) : ولمن. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 في ((خ)) : فيأمرا. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 5 قال عنهم شيخ الإسلام رحمه الله: "لا يعتقدون وجوب الصلوات الخمس، ولا الزكاة، ولا صيام شهر رمضان، ولا حجّ البيت العتيق، ولا تحريم ما حرّم الله ورسوله من الخمر، والميسر، والزنا، وغير ذلك. ويزعمون أنّ هذه النصوص لها تأويل وباطن غير الظاهر المعلوم للمسلمين. فالصلاة عندهم معرفة أسرارهم، والصيام كتمان أسرارهم، والحج زيارة شيوخهم، وأمثال ذلك. وقد يقولون: إنّ هذه الفرائض تسقط عن الخاصّة دون العامّة. وأما النصوص التي في المعاد، وفي أسماء الله وصفاته، وملائكته، فدعواهم فيها أوسع وأكثر". كتاب الصفدية 1/5.

فكيف بمن ادّعى النبوّة، وأظهر أنّه صادق على الله، وهو في الباطن كاذب على الله. بل من أظهر خلاف ما أبطن من آحاد الناس، يظهر حاله لمن خبره في مدّة؛ فإنّ الجسد مطيعٌ للقلب، والقلب هو الملك المدبّر له؛ كما قال [النبيّ] 1 صلى الله عليه وسلم: "ألا إنّ في الجسد مضغة إذا صلحت، [صلح] 2 لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب "3. فإذا كان القلب كاذباً على الله، فاجراً، كان ذلك أعظم الفساد، فلا بد أن يظهر الفساد على الجوارح، وذلك الفساد يُناقض حال الصادق على الله. وقد [بسط] 4 هذا في غير هذا الموضع5. آيات الأنبياء كثيرة ومتنوعة [وذلك] 6 أنّ آيات الأنبياء الدالّة على صدقهم كثيرةٌ متنوعةٌ7، وأنّ النبيّ الصادق خير الناس، والكاذب على الله شرّ النّاس8، وبينهما من

_ 1 ما بين المعقوفتين ليس في ((م)) ، و ((ط)) . 2 في ((ط)) : صاح. 3 رواه البخاري في صحيحه1/28-29، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه. ومسلم في صحيحه 3/1219-1220، كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال، وترك الشبهات. 4 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 5 بسط الشيخ رحمه الله الكلام على هذا في كتابَيْه الإيمان الكبير، والأوسط، وهما ضمن مجموع الفتاوى، الجزء السابع. وانظر منه على سبيل المثال لا الحصر الصفحات التالية: 7/50، 362-365، 555. وانظر الجواب الصحيح 6/487. 6 في ((م)) : وذكر. وفي ((ط)) : ذكر. 7 ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أنّ معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم تزيد على ألف معجزة. انظر: الجواب الصحيح 1/399. 8 انظر: الجواب الصحيح 5/356-357.

الفروق ما لا يُحصيه إلا الله، فكيف يشتبه هذا بهذا. بل لهذا من دلائل صدقه، ولهذا من دلائل كذبه ما لا يمكن إحصاؤه. وكلّ من خصّ دليل الصدق بشيء معين فقط، غلط. بل آيات الأنبياء هي من آيات الله الدالّة على أمره ونهيه، ووعده ووعيده. وآيات الله كثيرة متنوعة؛ كآيات وجوده، ووحدانيته، وعلمه، وقدرته، وحكمته، ورحمته سبحانه وتعالى. والقرآن مملوءٌ من تفصيل آياته، وتصريفها، وضرب الأمثال في ذلك، وهو يسميها آيات وبراهين1. وقد ذكرنا الفرق بين الآيات، والمقاييس الكلية التي لا تدلّ [إلا] 2 على أمرٍ كليّ في غير هذا الموضع3. ما يأتي به السحرة والكهان فهو من مقدور الإنس والجن الوجه الثاني عشر: إنّ ما يأتي به الساحر، والكاهن، وأهل الطبائع، والصناعات، والحيل، وكل من ليس من أتباع الأنبياء، لا يكون إلا من مقدور الإنس والجن؛ فما يقدر عليه الإنس من ذلك هو وأنواعه، والحيل فيه كثير. وما يقدر عليه الجن هو من جنس مقدور الإنس، وإنّما يختلفون في الطريق؛ فإن الساحر قد يقدر على أن يقتل إنساناً بالسّحر، أو يمرضه، أو يُفسد عقله، أو حسّه، وحركته، وكلامه؛ بحيث لا يُجامع، أو لا يمشي، أو لا يتكلم ونحو ذلك. وهذا كلّه ممّا يقدر الإنس على مثله، لكن بطرق أخرى. والجنّ يطيرون في الهواء، وعلى الماء، ويحملون الأجسام

_ 1 انظر: الجواب الصحيح 5/412-417. وقاعدة في المعجزات والكرامات. 2 في ((ط)) : إلاى. 3 انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 5/139-141، 477-483. ومجموع الفتاوى 1/47-50.

الثقيلة؛ كما قال العفريت1 لسليمان: {أَنَا آتِيْكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} 2. جنس مقدور الجن وهذا الجنس يكون لمن هو دون الإنس والجنّ من الحيوان؛ كالطيور، والحيتان. والإنس يقدر على جنسه، ولهذا لم يكن هذا الجنس آية لنبيّ لوجوده لغير الأنبياء. فكثيرٌ من الناس تحمله الجنّ، بل شياطين الجنّ، وتطير به في الهواء، وتذهب به إلى مكان بعيد؛ كما كان العفريت يحمل عرش بلقيس من اليمن، إلى مكان بعيد. خوارق أولياء الشيطان ونحن نعرف من هؤلاء عدداً كثيراً، وليسوا صالحين، بل فيهم كفّارٌ، ومنافقون، وفُسّاق، وجُهّال، لا يعرفون الشريعة3، والشياطين تحملهم، وتطير بهم من مكان إلى مكان، وتحملهم إلى عرفات؛ فيشهدون عرفات من غير إحرام، ولا تلبية، ولا طواف بالبيت. وهذا الفعل حرام. والجُهّال يحسبون أنّه من كرامات الصالحين، فتفعله الجن بمن يحب ذلك مكراً به، وخديعةً، أو خدمةً لمن يستخدمهم من هؤلاء الجهّال بالشريعة، وإن كان له زهد وعبادة. وكذلك الجنّ كثيراً ما يأتون الناس بما يأخذونه من أموال الناس؛ من طعام، وشراب، ونفقة، وماء، وغير ذلك؛ وهو من جنس ما يسرقه الإنسي ويأتي به إلى الإنسي، لكنّ الجنّ تأتي بالطعام والشراب في مكان العدم.

_ 1 العفريت من الجنّ: القوي المارد. انظر: تفسير القرطبي 13/135. 2 سورة النمل، الآية 39. 3 ذكر شيخ الإسلام رحمه الله بعض القصص والوقائع عن أحوال مدّعي الولاية. انظر: الجواب الصحيح 2/318-327، 331-332، 338-343،، 3/347-351. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 168، 169، 175، 326-331، 338، 341، 351-356، 365-369. وجامع الرسائل 1/192-196. ومجموع الفتاوى 17/456-460.

آيات الأنبياء لا يقدر على مثلها الجن والإنس ولهذا لم يكن مثل هذا آية لنبيّ، وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يضع يده في الماء، فينبع الماء من بين أصابعه1. وهذا لا يقدر عليه؛ لا إنس، ولا جنّ. وكذلك الطعام القليل يصير كثيراً2، وهذا لا يقدر عليه؛ لا الجنّ، ولا الإنس. ولم يأت [النبيّ] 3 [صلى الله عليه وسلم] 4 قطّ بطعامٍ من الغيب، ولا شرابٍ5، وإنما كان هذا قد يحصل لبعض أصحابه؛ كما أتى خبيب بن عدي6 وهو أسير بمكة بقطف من عنب7. وهذا الجنس ليس من خصائص الأنبياء. ومريم عليها السلام لم تكن نبيّة، وكانت تؤتى [بطعام8. فإنّ هذا قد يكون

_ 1 سبقت الإشارة إلى ذلك ص 165. 2 سبقت الإشارة إلى ذلك ص 165، 601-603. 3 ما بين المعقوفتين كتب في ((خ)) مرتين. 4 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 5 ولشيخ الإسلام رحمه الله زيادة إيضاح لهذا الموضوع. انظر: الجواب الصحيح 6/403-404. 6 خبيب بن عدي بن مالك بن عامر الأوسيّ الأنصاري. شهد بدراً، واستشهد في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم حين أخذه المشركون أسيراً في مكة، فقتله بنو الحارث. وكان خبيب قد قتل الحارث بن عامر في بدر. وقصة أسره وقتله في الصحيحين عن أبي هريرة. وفيه أنه عند مقتله صلى ركعتين. انظر: صحيح البخاري 4 /1499، كتاب المغازي، باب غزوة الرجيع. ومسند الإمام أحمد 2/310، 4/139، 5/287. وقال أبياتاً، منها: ولست أُبالي حين أُقتل مسلماً على أيّ جنبٍ كان في الله مصرعي انظر: أسد الغابة لابن الأثير 2/103. والإصابة لابن حجر 2/262. 7 انظر: صحيح البخاري، كتاب الجهاد، باب هل يستأسر الرجل. رقم الحديث 2880. 8 قال تعالى يحكي عن مريم عليها السلام: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} . [سورة آل عمران، الآية 37] .

من حلالٍ، فيكون كرامة؛ يأتي] 1 به إمّا مَلَك، وإمّا جنّي مسلم. وقد يكون حراماً. فليس كلّ ما كان من آيات الأنبياء يكون كرامةً للصالحين. ليس كل ما كان من آيات الأنبياء يكون كرامة للصالحين وهؤلاء2 يُسوّون بين هذا وهذا، ويقولون: الفرق هو دعوى النبوة والتحدي بالمثل3. وهذا غلط فإن آيات الأنبياء [عليهم السلام] 4 التي دلّت على نبوّتهم، هي أعلى ممّا يشتركون فيه، هم وأتباعهم؛ مثل الإتيان بالقرآن؛ ومثل الإخبار بأحوال الأنبياء المتقدمين، وأممهم، والإخبار بما يكون يوم القيامة، وأشراط الساعة؛ ومثل إخراج الناقة من الأرض5؛ ومثل قلب العصا حية6، وشقّ البحر7؛ ومثل أن [يخلق] 8 من الطين

_ 1 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 2 أي الأشاعرة. 3 انظر: البيان للباقلاني ص 47، 48. والإرشاد للجويني ص 312، 324. 4 زيادة من ((ط)) . 5 قال تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . [سورة الأعراف، الآية 73] . وانظر تفسير ابن كثير 2/218؛ حيث تكلّم عن معجزة صالح عليه السلام؛ وهي إخراج هذه الناقة من صخرة ملساء صمّاء، انفلقت، وخرجت منها ناقة عشراء. 6 وهذه من معجزات موسى عليه السلام. قال تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} . [سورة طه، الآيات 17-20] . 7 وهذه من معجزات موسى عليه السلام. قال تعالى يمتنّ على قوم موسى عليه السلام: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} . [سورة البقرة، الآية 50] . 8 في ((خ)) : خلق. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

كهيئة الطير، فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله1. وتسخير الجنّ لسليمان2 لم يكن مثله لغيره. لكن من الجن المؤمنين من يعاون المؤمنين، ومن الجن الفساق، والكفار من يعاون الفساق؛ كما يُعاون الإنس بعضهم بعضاً3. فأمّا طاعة مثل طاعة سليمان، فهذا لم يكن لغير سليمان [عليه السلام] 4. رسولنا صلى الله عليه وسلم أعطي أفضل مما أعطي سليمان صلى الله عليه وسلم ومحمد صلى الله عليه وسلم أُعطي أفضل ممّا أُعطي سليمان [عليه السلام] 5؛ فإنّه أُرسل إلى الجنّ، وأُمروا أن يؤمنوا به، ويطيعوه6؛ فهو يدعوهم إلى عبادة الله، وطاعته، لا يأمرهم بخدمته، وقضاء حوائجه؛ كما كان سليمان يأمرهم، ولا يقهرهم باليد؛ كما كان سليمان يقهرهم، بل [يفعل] 7 فيهم كما [يفعل] 8 في الإنس، فيجاهدهم الجن والمؤمنون، ويقيمون الحدود على منافقيهم، فيتصرف فيهم تصرّف العبد الرسول، لا تصرّف النبي

_ 1 وهذه من معجزات عيسى عليه السلام. قال الله تعالى حاكياً عن المسيح عليه السلام: {أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} . [سورة آل عمران، الآية 49] . 2 قال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ} إلى قوله {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} . [سورة الأنبياء، الآيتان 81-82] . 3 وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أحوال الجنّ مع الإنس. انظر: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 364) . 4 زيادة من ((ط)) . 5 زيادة من ((ط)) . 6 قال تعالى حكاية عن الجنّ: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} . [سورة الأحقاف: 31-32] . 7 في ((خ)) : يفعله. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 8 في ((خ)) : يفعله. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

الملِك1؛ كما كان سليمان يتصرف فيهم. أنواع استخدام الجن. والصالحون من أمته، المتّبعون له يتّبعونه فيما كان يأمر به الإنس والجنّ. وآخرون دون هؤلاء قد يستخدمون بعض الجنّ في مباحات؛ كما قد يستخدمون بعض الإنس. وقد يكون ذلك مما ينقص دينهم، لا سيما إن كان بسببٍ غير مباح. وآخرون شرّ من هؤلاء يستخدمون الجنّ في أمور محرمة؛ من الظلم، والفواحش، فيقتلون نفوساً بغير حق، ويُعينونهم على ما يطلبونه من الفاحشة، كما يُحضرون لهم امرأة أو صبياً، أو يجذبونه إليه. وآخرون يستخدمونهم في الكفر. فهذه الأمور ليست من كرامات الصالحين2. سبب كرامات الأولياء.. فإنّ كرامات الصالحين هو ما كان سببه الإيمان، والتقوى، لا ما كان سببه الكفر، والفسوق، والعصيان. وأيضاً فالصالحون سابقوهم، لا يستخدمونهم إلا في طاعة الله ورسوله. ومن هو دون هؤلاء لا يستخدمهم إلا في مباح. وأمّا استخدامهم في المحرمات فهو حرام، وإن كانوا إنّما خدموه لطاعته لله؛ كما لو خدم الإنس رجلاً صالحاً لطاعته لله، ثم استخدمهم فيما لا يجوز. فهذا بمنزلة من أنعم عليه بطاعته نعمة، [فصرفها] 3 إلى معصية الله، فهو آثمٌ بذلك.

_ 1 وانظر كلام شيخ الإسلام رحمه الله في: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 104-105، في أنّ العبد الرسول أفضل من النبي الملك. وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 161. 2 وقد أفاض شيخ الإسلام رحمه الله في كتبه في الكلام حول هذا الموضوع، وبيَّن أن كثيراً من الناس يعتقد الولاية في هؤلاء، ويعتقد في خوارقهم أنها كرامات، مع أنهم من أولياء الشيطان. انظر: مجموع الفتاوى 1/82-85، 168-178،، 17/456-460. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 83، 124، 168-169، 226، 321-369. والجواب الصحيح 2/315-325،، 3/347-349. 3 في ((خ)) : صرفها. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

وكثيرٌ من هؤلاء يسلب تلك النعمة، ثم قد يسلب الطاعة؛ فيصير فاسقاً. ومنهم من يرتدّ عن دين الإسلام. فطاعة الجنّ للإنسان ليست أعظم من طاعة الإنس، بل الإنس أجلّ، وأعظم، وأفضل، وطاعتهم أنفع. وإذا كان المطاع من الإنس قد يطاع في طاعة الله، فيكون محموداً مثاباً، وقد يُطاع في معصية الله، فيكون مذموماً آثماً1. فكذلك المطاع من الجنّ الذي يُطيعه الناس. والمطاع من الإنس قد يكون مطاعاً لصلاحه، ودينه. وقد يكون مطاعاً لملكه، وقوته. وقد يكون مطاعاً [لنفعه] 2 لمن يخدمه بالمعاوضة. فكذلك المطاع من الجن؛ قد يُطاع لصلاحه ودينه، وقد يُطاع لقوّة وملكٍ محمودٍ أو مذمومٍ. ثمّ المَلِك إذا سار بالعدل حُمِد، وإن سار بالظلم، فعاقبته مذمومة، وقد يهلكه أعوانه؛ فكذلك المطاع من الجن، إذا ظلمهم، أو ظلم الإنس بهم، أو بغيرهم، كانت عاقبته مذمومة. وقد [تقتله] 3 الجنّ، أو تُسلّط عليه من الإنس من يقتله. وكلّ هذا واقعٌ نعرف من ذلك من الوقائع ما يطول وصفه، كما [نعرف] 4 من ذلك من وقائع الإنس ما يطول وصفه5. وليس آيات الأنبياء في شيءٍ من هذا الجنس.

_ 1 سوف يفصل الشيخ رحمه الله في أقسام طاعة الجن للإنس في ص 1228 من هذا الكتاب. 2 في ((خ)) : بنفعه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 في ((خ)) : يقتله. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 في ((خ)) : يعرف. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 تقدمت الإشارة إلى بعض كتب شيخ الإسلام رحمه الله التي أشار فيها إلى بعض هذه الوقائع. انظر: ص 632 من هذا الكتاب. وسيأتي مزيد بيان لهذا الموضوع في آخر الكتاب ص 1222-1224، 1242، 1290-1292.

سبب الإسراء والمقصد منه ونبيّنا صلى الله عليه وسلم لمّا أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، إنما أُسري به ليرى من آيات ربه الكبرى. وهذا هو الذي كان من خصائصه: أنّ مسراه كان هذا؛ كما قال تعالى: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّة المَأْوَى} 1، وقال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ} 2؛ قال ابن عباس: هي رؤيا عين3 أُريها رسول الله

_ 1 سورة النجم، الآيات 11-15. 2 سورة الإسراء، الآية 60. 3 قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وفي الصحيحين عن ابن عباس في قوله: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} قال: هي رؤيا عين، أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به، وهذه رؤيا الآيات لأنه أخبر النسا بما رآه بعينه ليلة المعراج، فكان ذلك فتنة لهم حيث صدقه قوم وكذبه قوم، ولم يخبرهم بأنه رآى ربه بعينه في شيء من أحاديث المعراج الثابتة ذكر ذلك، ولو كان قد وقع ذلك لذكره كما ذكر ما دونه) . الفتاوى 6/510. وأما مسألة رؤية الله جل وعلا فقال القاضي عياض رحمه الله: "وأما وجوبه لنبينا صلى الله عليه وسلم والقول بأنه رآه بعينه، فليس فيه قاطع أيضاً، ولا نصّ؛ إذ المعوّل فيه على آيتي (النجم) ، والتنازع فيهما مأثور، والاحتمال لهما ممكن، ولا أثر قاطع متواتر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك". الشفاء للقاضي عياض 1/265. ولشيخ الإسلام رحمه الله جمع بين الأقوال في رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لربه: قال رحمه الله: "وأما الرؤية: فالذي ثبت في الصحيح عن ابن عباس أنّه قال: "رأى محمد ربه بفؤاده مرتين" وعائشة أنكرت الرؤية. فمن الناس من جمع بينهما، فقال: عائشة أنكرت رؤية العين، وابن عباس أثبت رؤية الفؤاد. والألفاظ الثابتة عن ابن عباس هي مطلقة، ومقيدة بالفؤاد؛ تارة يقول: رأى محمد ربّه. وتارة يقول: رآه محمد. ولم يثبت عن ابن عباس لفظ صريح بأنه رآه بعينه. وكذلك الإمام أحمد تارة يطلق الرؤية، وتارة يقول رآه بفؤاده. ولم يقل أحدٌ إنه سمع أحمد يقول رآه بعينه. لكنّ طائفة من أصحابه سمعوا بعض كلامه المطلق، ففهموا منه رؤية العين؛ كما سمع بعض الناس مطلق كلام ابن عباس، ففهم منه رؤية العين. وليس في الأدلة ما يقتضي أنه رآه بعينه، ولا ثبت ذلك عن أحد من الصحابة، ولا في الكتاب والسنة ما يدلّ على ذلك. بل النصوص الصحيحة على نفيه أدلّ؛ كما في صحيح مسلم عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيتَ ربَّك؟ فقال: "نور أنى أراه ". مجموع الفتاوى 6/509-510. وانظر أيضاً: زاد المعاد 3/37. وشرح الطحاوية 1/323.

صلى الله عليه وسلم ليلة أُسري به1. فهذا الذي كان من خصائصه، ومن أعلام نبوّته. وأمّا مجرّد قطع تلك المسافة، فهذا يكون لمن [يحمله] 2 الجنّ. وقد قال العفريت لسليمان: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} 3. وحمل [العرش من] 4 القصر من اليمن إلى الشام أبلغ من ذلك5. و {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} 6؛ فهذا أبلغ من قطع المسافة التي بين المسجدين في ليلة. ومحمد صلى الله عليه وسلم أفضل من الذي عنده علمٌ من الكتاب، ومن سليمان؛ فكان الذي خصّه الله به أفضل من ذلك؛ وهو أنه أسرى به في ليلةٍ ليُرِيَه من آياته؛ فالخاصّة أن الإسراء كان ليريه من آياته الكبرى؛ كما {رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّة المَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى} 7

_ 1 رواه البخاري في صحيحه 4/1748، كتاب التفسير، باب قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} . 2 في ((م)) ، و ((ط)) : تحمله. 3 سورة النمل، الآية 39. 4 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 5 تفسير ابن كثير 3/364. 6 سورة النمل، الآية 40. 7 سورة النجم، الآيات 13-17.

فهذا ما حصل مثله؛ لا لسليمان، ولا لغيره. والجنّ وإن قدروا على حمل بعض الناس في الهواء، فلا يقدرون على إصعاده إلى السماء، و [إراءته] 1 آيات ربه الكبرى؛ فكان ما آتاه الله [محمداً] 2 خارجاً عن قدرة الجنّ والإنس، وإنّما كان الذي صحبه في معراجه جبريل الذي اصطفاه الله لرسالته، و {اللهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النّاسِ} 3. وكان المقصود من الإسراء أن يريه ما رآه من آياته الكبرى، ثم يخبر به النّاس، فلمّا أخبر به كذَّب به من كذّب من المشركين، وصدّق به الصدّيقُ وأمثاله4 من المؤمنين، فكان ذلك ابتلاءً ومحنةً للنّاس؛ كما قال: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ} 5؛ أي محنة وابتلاء للناس؛ ليتميّز المؤمن عن الكافر، وكان فيما أخبرهم به أنّه رأى الجنَّة والنَّار، وهذا ممّا يُخوّفهم به؛ قال تعالى: {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانَاً كَبِيرَاً} 6. والرسول لما أخبرهم بما رآه كذّبوه في نفس الإسراء، وأنكروا أن يكون أُسري به إلى المسجد الأقصى، فلما سألوه عن صفته، فوصفه لهم، وقد علموا أنّه لم يره قبل ذلك، وصدّقه من رآه منهم، كان ذلك دليلاً

_ 1 في ((خ)) رسمت: اراه. ولعلها إراءه، والله أعلم. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 في ((خ)) : محمد. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 سورة الحج، الآية 75. 4 انظر: صحيح البخاري 4/1743-1744، كتاب التفسير، باب قوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} . وصحيح مسلم 1/156، كتاب الإيمان، باب ذكر المسيح بن مريم والمسيح الدجّال. ومسند الإمام أحمد 1/309. 5 سورة الإسراء، الآية 60. 6 سورة الإسراء، الآية 60.

على صدقه في المسرى، فلم يُمكنهم مع ذلك تكذيبه فيما لم يروه، وأخبر الله تعالى بالمسرى إلى المسجد الأقصى؛ لأنهم قد علموا صدقه في ذلك، بما أخبرهم به من علاماته، فلا يمكنهم تكذيبه في ذلك. وذكر أنّه رأى من آيات ربه الكبرى، ولم يُعيّن [ما] 1 رآه؛ [وهو] 2 جبريل الذي رآه في صورته التي خُلِق عليها مرتين3؛ لأنّ رؤية جبريل هي من تمام نبوته، وممّا يُبيّن أنّ الذي أتاه بالقرآن مَلَكٌ، لا شيطان؛ كما قال في سورة: "إذا الشمس كورت": {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي العَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِين} ، [ثم قال] 4: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُون وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ المُبِين وَمَا هُوَ عَلَى الغَيْبِ [بِضَنِين] 5 وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} 6.

_ 1 في ((خ)) : مما. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 3 انظر: صحيح البخاري 4/1840-1841، كتاب التفسير، باب في تفسير سورة "النجم". وصحيح مسلم 1/158-159، كتاب الإيمان، باب في ذكر سدرة المنتهى. وفي باب معنى قول الله عزّ وجلّ: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} . 4 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 5 في ((خ)) رسمت: بطنين. 6 سورة التكوير، الآيات 19-27.

فصل قول الأشاعرة في المعجزات

فصل قول الأشاعرة في المعجزات وممّا يُبيِّن ضعف طريقة هؤلاء1 أنّهم قالوا: المعجزات لا تدلّ بجنسها على النبوّة، بل يُوجِد مثل المعجز من كلّ وجه، ولا يدلّ على النبوّة؛ كأشراط الساعة؛ وكما يوجد للسحرة، والكهّان، والصالحين من الخوارق التي تماثل آيات الأنبياء فيما زعمه هؤلاء. قالوا: لكنّ الفرق أنّ هذا يدّعي النبوّة، ويحتجّ بها، ويتحدّاهم بالمثل، فلا يقدر أحدٌ على معارضته. وأولئك لو ادّعوا النبوّة، لمنعهم الله منها، وإن كانوا قبل ذلك غير ممنوعين منها، أو لقيّض [لهم] 2 من يعارضهم. ولو عارضوا بها نبيّاً لمنعهم الله إياها، ليسلم دليل النبوة. قالوا: والمعجز إنّما يدلّ دلالةً وضعيّةً بالجعل، والقصد؛ كدلالة الألفاظ، [والعقود] 3، والخط، والعلامات التي يجعلها الناس بينهم4.

_ 1 أي الأشاعرة. انظر: البيان للباقلاني ص 47-49. والإرشاد للجويني ص 319، 328. 2 في ((خ)) : له. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 في ((م)) ، و ((ط)) : العقد. 4 ممن ذكر ذلك من الأشاعرة: القاضي أبو بكر الباقلاني في كتابه البيان ص 47، 48، 72-73، 94، 95، 96، 105. والجويني في الإرشاد ص 319، 320، 324، 325، 328. والبغدادي في أصول الدين ص 171. والإيجي في المواقف ص 342. والتفتازاني في شرح المقاصد 5 13، 18.

تعليق ابن تيمية على قولهم فيقال لهم: هذه الأمور كلّها إنّما تدلّ إذا تقدم علم المدلول بها أنّ الدالّ جعلها علامةً؛ كما يوكل الرجل وكيلاً، ويجعل بينه وبينه علامة؛ إما وضع يده على ترقوته1، وإما وضع خنصره2، وإما وضع يده على رأسه. فمن جاء بهذه العلامة، علم أنّ موكّله أرسله. [فأمّا إذا] 3 لم يتقدّم ذلك، لم تكن دلالة [جعليّة] 4 وضعية اصطلاحية. وآيات الأنبياء لم [يتقدّم] 5 قبلها من الرب مواضعة بينه وبين العباد. قالوا: هي تشبه ما إذا قال الرجل لموكله، والرسول لمرسله: إنّك أرسلتني إلى هؤلاء القوم، فإن كنت أرسلتني، فقم، واقعد ليعلموا أنّك أرسلتني. فإذا قام وقعد عقب طلب الرسول، علم الحاضرون أنّه قام وقعد ليُعلمهم أنّه رسوله6. وإن كان بدون طلبه قد يقوم ويقعد لأمور أخرى. فيقال لهم: هنا لمّا علم الحاضرون انتفاء [داع] 7 يدعوه، إلاَّ قصد التصديق، علموا أنّه قصد تصديقه. ولهذا: لو جوّزوا قيامه لحاجة عرضت، أو لحيّة، أو عقرب، وقعت في ثيابه، أو لغير ذلك، لم يجعلوا ذلك دليلاً.

_ 1 الترقوة على تقدير فعلوة. وهو: وصل عظم بين ثغرة النحر والعاتق في الجانبين. والترقوتان: العظمان المشرفان بين ثغرة النحر والعاتق، تكون للناس وغيرهم. انظر: تهذيب اللغة للأزهري 9 54. ولسان العرب لابن منظور 10 32. 2 الخنصر: صغرى الأصابع. انظر: تهذيب اللغة 7 660. ولسان العرب 4 261. 3 في ((خ)) : فأما اما إذا. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 في ((ط)) : جملية. 5 في ((م)) ، و ((ط)) : تتقدم. 6 انظر: الإرشاد للجويني ص 325. وأصول الدين للبغدادي ص 178. والمواقف للإيجي ص 341. وشرح المقاصد للتفتازاني 5 14. 7 في ((خ)) : داعي. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

السبر والتقسيم يعلم به الدليل و [السبر] 1 والتقسيم2 مما يعلم به الدليل، وإن لم يقصده الدليل؛ حتى إنّ الرجل المشهور إذا خرج في غير وقت خروجه المعتاد، فقد يعرف كثيرٌ من الناس لأي شيء خرج؛ لعلمهم بانتفاء غيره، وأن خروجه له مناسب، وإنْ لم يكن هنا أحدٌ طلب الاستدلال؛ فخروج الإنسان عن عادته قد [يكون لأسباب] 3؛ فإذا اقترن بسببٍ صالح، وعلم انتفاء غيره، عُلم أنّه لذاك السبب. وهذا إنّما يكون ممن يفعل [لداعٍ] 4 يدعوه. والربّ تعالى عندهم5 لا يفعل لداعٍ يدعوه، فلزمهم؛ إمّا إبطال أصلهم6، وإمّا إبطال هذه الدلالة7.

_ 1 في ((ط)) : السير بالياء. 2 قال صاحب التعريفات: "السبر والتقسيم كلاهما واحد. وهو إيراد أوصاف الأصل؛ أي المقيس عليه، وإبطال بعضها، ليتعيّن الباقي للعليّة؛ كما يُقال: علّة الحدوث في البيت؛ إما التأليف، أو الإمكان. والثاني باطل بالتخلّف؛ لأنّ صفات الواجب ممكنة بالذات، وليست حادثة، فتعيّن الأول؛ وهو حصر الأوصاف في الأصل، وإلغاء البعض لتعين الباقي للعلة؛ كما يُقال: علّة حرمة الخمر؛ إما الإسكار، أو كونه ماء العنب. والمجموع غير الماء وغير الإسكار لا يكون علة بالطريق الذي يُفيد إبطال علة الوصف؛ فيتعيّن الإسكار للعلّة". التعريفات للجرجاني ص 155. 3 في ((خ)) : تكون الأسباب. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 في ((خ)) : داعي. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 أي عند الأشاعرة. 6 المراد: أصل الأشاعرة: الله لا يفعل شيئاً لأجل شيء. فهم يستندون إلى هذا الأصل في نفي حكمة الله، وتعليل أفعاله جلّ وعلا؛ فيجوّزون عليه سبحانه كلّ فعل. 7 وهي المثال الذي ضُرب عن الملك الذي أظهر ما يُناقض عادته، لتصديق رسوله، فيجعلونه دليلاً على تصديق الرسول. وقد مرّ هذا الموضوع فيما سبق، وعلّقتُ عليه. انظر ص 581-583. ولشيخ الإسلام رحمه الله شرح لهذا الموضوع في كتابه العظيم ((الجواب الصحيح)) 6 393-408.

وأيضاً: فيُقال لهم: بل الدليل دلّ لجنسه؛ وهو هذا الفعل الذي لم يفعل إلا لهذا الطلب. ومتى وجد هذا كان جنسه دليلاً. وليست الدعوى جزءاً من الدليل، بل طلب الإعلام بهذا الفعل مع الفعل، هو الدليل. ولهذا لو قال: فافعل ما يدلّ على صدقي، وقام، وقعد، لم يدلّ على صدقه، بخلاف ما إذا قال: فقم واقعد. ولو قال: فأظهر ما يدلّ على صدقي، فلا بد أن يُظهر ما يدلّ جنسه أنّه دليلٌ؛ كقولٍ، أو خطٍّ، أو غير ذلك، أو خلعة تختصّ بمثل ذلك. ففرقٌ بين أن يطلب فعلاً معيناً، أو دليلاً مطلقاً. وهو إذا طلب فعلاً معيناً؛ كقيامٍ، أو وضع يدٍ على الرأس، أو صلاة ركعتين، أو غير ذلك من الأفعال، دلّ على صدقه، وإن كان ذلك معتادا له أن يفعله، فليس من شرط دلالته أن يخرج عن عادته، لكن شرط دلالته أن يعلم أنه فعله لأجل الإعلام؛ بحيث لا يكون هناك سبب داعٍ غير الإعلام. وحينئذٍ فهو دالّ لجنسه. وكذلك يُقال: الربّ إذا خرق العادة لمدّعي الرسالة عقب مطالبته بآية، عُلِم أنّ الله لم يخلق تلك [الأدلة] 1 على صدقه. فهذا يدلّ، [وهذا] 2 [إنّما يتم] 3 مع كون الرب يفعل شيئاً لأجل شيءٍ آخر. وحينئذٍ فقد يكون من شرط الدليل: مطالبة الطالب بدليلٍ، لا أنّ نفس الدعوى هي جزء الدليل. وفرقٌ بين طلبه من الرب آية، [أو] 4 طلبهم منه آية، وبين الدعوى؛ فإظهار ما يظهره الربّ عقب طلبهم، أو طلبه، قد يُقال فيه: إنّ

_ 1 في ((خ)) : الادالة. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 في ((خ)) : فهذا. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 4 في ((خ)) : و. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

الطلب جزء الدليل، وإنّه لو أظهره بدون الطلب، لم يدلّ. وأمّا نفس دعوى النبوّة، فليست جزءاً. وعلى هذا: فإذا قُدِّر أنّه يفعل ذلك عند [طلبه، أو] 1 طلب غيره آية، [دلّ] 2 على [صدقه] 3. لكنّ هذا يكون إذا علم أنّه لم يفعله إلاَّ لإعلام أولئك بصدقه. وهذا لا يكون إلاَّ بأن يتميّز جنس ما دلّ به عن غيره. ولا يجوز أن يدلّ مع وجود مثله من غير دلالة، بل متى قُدِّر وجود مثله من غير دلالة، بطل كونه دليلاً. ولو كانت الدعوى [جزءاً من الدليل] 4، لكانت المعارضة لا تكون إلاَّ مع دعوى النبوة؛ فلو أتوا بمثل القرآن، من غير دعوى النبوة، لم يكونوا عارضوه. الأشاعرة يقسمون الأدلة قسمين: وهذا خلاف ما في القرآن، وخلاف ما أجمع المسلمون، بل العقلاء، والله أعلم. وهم يسمون ما يكون بقصد الدالّ؛ كالكلام دليلاً وضعياً. فالأقوال والأفعال التي يقصد بها الدلالة؛ كالعقد، وما يجعله الرجل علامةً، ونحو ذلك، يسمونه دليلاً وضعياً، ويسمون ما يدلّ مطلقاً دليلاً عقلياً5.

_ 1 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 2 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 3 في ((خ)) : صدقهم. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 في ((خ)) : جزء الدليل. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 الأشاعرة يجعلون دلالة المعجزة على صدق النبيّ دلالة عادية وضعية، ولا يجعلونها دلالة عقلية؛ لأنّ الدلالة العقلية لا تتخلّف، فإذا وُجدت المعجزة التي هي الدليل، لا بُدّ أن يوجد الرسول الذي هو المدلول. أما الدلالة العادية، أو الوضعية، فيجوز عقلاً تخلف المدلول عن الدليل؛ أي الرسول عن معجزته. انظر: الإرشاد للجويني ص 324. والعقيدة النظامية له ص 68. ونهاية الإقدام للشهرستاني ص 438 والمستصفى للغزالي 1 6. وشرح المواقف للجرجاني 3 181-182. وشرح العقائد النسفية للتفتازاني ص 166. وشرح المقاصد له 2 132.

جميع الأدلة عقلية والرد على تقسيم الأشاعرة والأجود أن يُقال: جميع الأدلة عقلية؛ بمعنى أنّ العقل إذا تصوّرها، علم أنّها تدلّ؛ فإنّ الدليل هو ما يكون النظر الصحيح فيه مفضياً إلى العلم بالمدلول عليه، وإنّما يكون النظر الصحيح، لمن يعقل دلالة الدليل. فمن لم يعقل كون الدليل مستلزماً للمدلول، لم يستدلّ به. معنى الدليل ومن عقل ذلك، استدلّ به؛ فهو يدلّ بصفةٍ هو في نفسه عليها، لا بصفة هي في المستدلّ. لكن [كونه] 1 عقلياً يرجع إلى أنّ المستدل عَلِمَهُ بعقله. وهذا صفةٌ في المستدلّ لا فيه. الدليل يدل بمجرده وقد يدل بقصد الدال على دلالته [و] 2 الأجود أن يقال: الدليل قد يدل بمجرده، وقد يدل بقصد الدالّ على دلالته. فالأول لا يحتاج إلى قصد الدلالة؛ كما [يقول] 3 النحاة: إنّ الأصوات تدلّ بالطبع، وتدلّ بالوضع. فالذي يدلّ بالطبع؛ كالنحنحة، والسعال، والبكاء، ونحو ذلك من الأصوات. وهذا ليس كلاماً. وحينئذٍ فما يدلّ بقصد الدالّ، أحق بالدلالة، ودلالته أكمل. ولهذا كانت [دلالة] 4 الكلام على مقصود المتكلم، وهي دلالة سمعية، أكمل من جميع أنواع الأدلة على مراده؛ وهو البيان الذي علمه الله الإنسان، وامتّن بذلك على عباده؛ فمنها ما يدلّ بمجرده، ومنها ما يدلّ بقصد الدالّ. فإذا انضمّ إليه ما يعرف أنّه قصد الدلالة، دلّ؛ فالدليل هنا في الحقيقة: قَصْدُ الدالّ للدلالةِ؛

_ 1 في ((خ)) : فكونه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 في ((م)) ، و ((ط)) : أو. 3 في ((م)) ، و ((ط)) : تقول. 4 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .

وهي دلالة [لا] 1 تنتقض إذا لم يجوز عليه الكذب، وإنّما الذي دلّ به على قصده، هو دلّ بجعله دليلاً، لم يدلّ بمجرّده؛ فهو دليل بالاختيار، لا بمجرده. فالأقوال، والأفعال التي يُقصد بها الدلالة تدلّ باختيار الدالّ بها، لا بمجرّدها، ودلالتها تُعلم بالعقل، وقد يفتقر من العقل إلى أكثر مما يفتقر إليه العقليّ المجّرد؛ لأنّها تحتاج إلى أن يُعلم قصد الدالّ. ولكنّ ما يحصل بها من الدلالة أوضح وأكثر؛ كالكلام. وعلى هذا فإذا أريد تقسيمها إلى عقلي ووضعيّ؛ [أي] 2 إلى عقليّ مجرّد، وإلى وضعيّ، يحتاج مع العقل إلى قصد من الدالّ؛ فهو تقسيم صحيح. فدالّ يُعلم بمجرد العقل، وهذا لا يحتاج مع العقل إلى السمع، أو غيره. وحينئذٍ: فإذا قيل في السمعيات: إنّها ليست عقلية؛ أي لا [يكفي] 3 فيها مجرّد العقل، [بل لا بُدّ] 4 من انضمام السمع إليه. [وعلى هذا قوله: {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} 5] 6. وكذلك ذكر الرازي وغيره أنّ السمع المحض لا يدلّ، [بل لابُدّ] 7 من العقل.3 وهذا صحيحٌ؛ فإنّ العقل شرطٌ في جميع العلوم التي تختص بالعقلاء. والله أعلم.

_ 1 ما بين المعقوفتين ساقط من ((ط)) . 2 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 3 في ((خ)) : تكفي. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 في ((خ)) : بلابد. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 سورة الحج، الآية 46. 6 ما بين المعقوفتين ساقطٌ من ((م)) ، و ((ط)) . 7 في ((خ)) : بلابد. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم التحدي إلا في القرآن ومما يلزم [أولئك أنّ] 1 ما كان يظهر على يد النبيّ صلى الله عليه وسلم في كل وقت من الأوقات ليست دليلاً على نبوّته؛ [لأنّه] 2 لم يكن كلما ظهر شيءٌ من ذلك احتجّ به، وتحدّى الناس بالإتيان بمثله، بل لم ينقل عنه التحدي إلا في القرآن خاصّة3، ولا نُقل التحدي عن غيره من الأنبياء؛ مثل موسى، والمسيح، وصالح4. ولكنّ السحرة لمّا عارضوا موسى، أبطل معارضتهم. وهذا الذي قالوه يُوجب أن لا [تكون] 5 كرامات الأولياء من جملة المعجزات. كرامات الأولياء معجزات لنبيهم وقد ذكر غير واحد من العلماء أنّ كرامات الأولياء معجزات لنبيّهم6، وهي من آيات نبوته. وهذا [هو] 7 الصواب؛ كقصة أبي مسلم الخولاني8،

_ 1 في ((ط)) : أنّ أولئك. 2 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 3 وقد أوضح شيخ الإسلام رحمه الله هذا الأمر في آخر كتابه هذا النبوات. انظر ص 946-951. ومما قاله رحمه الله في كتابه الجواب الصحيح: "وآيات النبوة وبراهينها تكون في حياة الرسول، وقبل مولده، وبعد مماته، لا تختصّ بحياته، فضلاً عن أن تختصّ بحال دعوى النبوة، أو حال التحدّي؛ كما ظنّه بعض أهل الكلام". الجواب الصحيح 6 380. 4 ولابن حزم كلام طيب في رده على الأشاعرة في قولهم: إنه لا تكون المعجزة معجزةً حتى يُتحدّى بها. انظر المحلى لابن حزم 1 36. 5 في ((خ)) : يكون. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 6 انظر: تفسير القرطبي 13 137. وقد ذكر ذلك ابن كثير في كتابه دلائل النبوة ـ ضمن البداية والنهاية 6 161. وكذا البيهقي في دلائل النبوة. 7 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 8 تقدمت قصته ص 158.

وغيره [ممّا] 1 جرى لهذه الأمة من الآيات؛ ومثل ما كان يظهر على أيدي الحواريين، وعلى يد موسى وأتباعه2. [لا أنه] 3 جعل التحدي بالمثل جزءاً من دليله وآيته، فلا يكون دليلاً حتى يتحداهم بالمثل! بل قد عُلم أنّ [نفس] 4 استدلال المستدل بالدليل، يوجب اختصاصه بالمدلول عليه، وكلّ من أتى بآية هي دليل وبرهان وحجة، فقد عُلم أنه يقول إنّها مستلزمة للمدلول عليه، لا يوجد مع عدمه، فلا يمكن أحداً أن يعارضها، فيأتي بمثلها مع عدم المدلول عليه. أجزاء الدليل على صدق النبي عند الأشاعرة وهؤلاء5 جعلوا من جملة الدليل: دعوى النبوة، والاحتجاج به، والتحدّي بالمثل؛ ثلاثة أشياء6. وهذه الثلاثة هي أجزاء الدليل. ودعوى النبوة هو الذي تقام عليه البيّنة، والذي [يقام] 7 عليه الحجة ليس هو جزءاً من الحجة. والدعوى تسمى مدلولا عليها، ((ونفس المدعى [يُسمى] 8 مدلولاً عليه، وثبوت المدعى يسمى مدلولاً [عليه] 9)) 10، والعلم بثبوته يُسمّى مدلولاً عليه.

_ 1 في ((ط)) : ما. 2 انظر: الجواب الصحيح 2 400. 3 في ((م)) ، و ((ط)) : لأنه. 4 في ((ط)) : النفس. 5 أي الأشاعرة. 6 انظر: الإرشاد للجويني ص 312-313. وشرح المقاصد للتفتازاني 5 11. 7 في ((م)) ، و ((ط)) : تقام. 8 في ((خ)) : تسمى. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 9 في ((خ)) : عليها. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 10 تكرّرت الجملة التي بين الهلالين في ((خ)) بلفظ: "ونفس المدعى تسمى مدلولاً عليه. وثبوت المدعى يسمى مدلولاً عليه". ولم تكرّر في ((م)) ، و ((ط)) .

فهنا دعوى النبوة، وهنا النبوة، وهنا النبوة المدعاة قبل أن يُعلم ثبوتها، وهنا ثبوتها في نفس الأمر، وهنا علم الناس بثبوتها. وكذلك سائر الدعاوي. فمن ادّعى تحريم النبيذ المتنازع فيه؛ فهنا: دعواه التحريم، ونفس التحريم هل هو ثابت أم منتف؟ وثبوت التحريم في نفس الأمر، والعلم بالتحريم. وكذلك من ادعى حقاً عند الحاكم؛ فهنا: دعواه الحق، وهنا نفس المدعى؛ وهو استحقاقه ذلك الحق، وهنا ثبوت هذا الاستحقاق في نفس الأمر، وهنا العلم باستحقاقه. فالبينة والحجة [يجب] 1 أن يقارن المدلول عليه؛ الذي هو المدعى، وثبوته في نفس الأمر؛ سواء ادعاه [مدع] 2، أو لم يدّعه؛ وسواء علمه عالم، أو لم يعلمه؛ فإنّ الدليل مستلزم للمدلول عليه؛ مستلزم لحرمة النبيذ، واستحقاق الحق. وثبوت الحرمة في نفس الأمر، مستلزم للحرمة. وأمّا مجرّد الحرمة المتصورة: فليست مستلزمة لوجودها في نفس الأمر، بل قد يتصور في الأذهان ما لا [يوجد] 3 في الأعيان. والله أعلم.

_ 1 في ((خ)) تجب. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 في ((خ)) : مدعي. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 في ((خ)) : يتصور يوجد بزيادة: يتصور. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

فصل كلام الباقلاني في المعجزات ومناقشة شيخ الإسلام له

فصل كلام الباقلاني في المعجزات ومناقشة شيخ الإسلام له وقد ذكر القاضي أبو بكر أنّ من المثبتة المجيزين للكرامات من أجاب عن حجة النفاة، بأن قال: الأدلّة على ضربين: عقلية، ووضعية؛ فالعقليّ يدلّ لنفسه وجنسه، والوضعيّ يدلّ مع المواطأة، ولا يدلّ مثله مع عدمها؛ كعقد العشرة. وضعف أبو بكر هذا، بأن قال لهم أن يقولوا: إذا كانت المعجزات تجري مجرى القول، فحيث قصدت دلّت. وعنده أنّ الأمر ليس كذلك1. قلت: بل هذا القائل أحسن؛ لأنّها تدلّ إذا قصدت بها الدلالة؛ مثل قيام الأمر، وقعوده إذا طلب ذلك منه؛ ومثل العلامة التي تكون للشخص إذا جعلها علامة؛ فحيث قصد الدلالة به دلّ. لكن لازم هذا أن لا يكون إلا إذا طلب الاستدلال بها، [لا نفس] 2 الدعوى. ثم إنّه3 ذكر أنّ الخارق للعادة لا بُدّ أن يكون خارقاً لعادة جميع المرسَل إليهم4.

_ 1 لعلّ ما نقله شيخ الإسلام رحمه الله هنا عن القاضي أبي بكر الباقلاني هو من القسم المفقود من كتاب البيان؛ إذ المطبوع منه ناقصٌ من آخره. 2 في ((ط)) : لأنفس. 3 أي القاضي أبو بكر الباقلاني. 4 انظر: البيان للباقلاني ص 50، 55.

ثمّ جوَّز أن يكون ممّا اعتاده كثيٌر منهم، بشرط أن يمنعهم عن المعارضة، فيكون ذلك خرق عادة1. ثم قال في الكرامات: لا يجوز أن تكثر حتى تصير عادة؛ لأنّ من حق المعجز على قولنا وقولهم أن يكون خارقاً للعادة، فلا تجوز إدامة ظهوره فيصير عادة، بل يقع نادراً2. وقد [جوَّزوا] 3 في السحر والكهانة أن يكون عادة، لكن عند دعوى النبوة يمنعهم من المعارضة، فكانت الكرامات أولى بذلك هي عادة للصالحين، وإذا ادّعى النبوّة صادقٌ منع من المعارضة4. فهذا اضطرابٌ آخر. قول الباقلاني الخوارق لاتظهر إلا على يد نبي أو ولي. والرد عليه ... وادّعى إجماع الأمة على أنّها لا تظهر على فاسق. ولولا الإجماع لجوّز ذلك؛ لأنّه لا ينقض دليل النبوة، فصارت تدلّ على الولاية بالإجماع. على أنّها لا تظهر إلا على يد نبيّ أو وليّ. فبهذا الإجماع يعلم أن من ظهرت [على] 5 يده وليّ6. وهذا تناقضٌ من وجهين: أحدهما: أنّهم قد قالوا: إنّها لا تدلّ على الولاية؛ لأن الولي من مات على الإيمان. وهذا غير معلوم.

_ 1 انظر: البيان للباقلاني ص 16-20، 23، 72. 2 هذا الكلام غير موجود في المطبوع من كتاب البيان للباقلاني. وقد تقدمت الإشارة إلى أنّ الكتاب ناقص من آخره. 3 في ((خ)) : جوّز. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 انظر: البيان للباقلاني ص 94-95، 96-97، 100. 5 في ((ط)) : عغى. وهو خطأ مطبعي. 6 انظر: البيان للباقلاني ص 91، 103-104، 105.

الفرق بين المعجزات والسحر عند الأشاعرة الثاني: أنّه يقال: إذا جوَّزتَ أن يظهر على يد الساحر، والكاهن، ونحوهما من الكفار ما هو من جنس المعجزات والكرامات، وقلتَ1: يجب أن لا يستثنى من السحر شيء لا يفعل عنده، إلا ما ورد الإجماع والتوقيف على أنه لا يكون بضرب من السحر، ولا يفعل عنده؛ كفلق البحر ونحوه؛ فيكون الفرق بين السحر وغيره [إنّما] 2 يُعلم بهذا الإجماع، إن ثبت. وإلا فعندك يجوز أن يظهر على يد الساحر كل ما يظهر على يد النبيّ إذا لم يدع النبوة، [ويحتجّ] 3 بذلك إذا ادّعى النبوة، وعارضه معارضٌ بالمثل. فكيف [تقول] 4 مع هذا: إنّ الخوارق تدلّ على الولاية بالإجماع، وأنت تجوّز ظهورها على أيدي الكفار؛ من السحرة، والكهان. فإن قال: السحر والكهانة كانا قبل الرسول، فلما جاء بطلا. قيل: أنت قد أثبتَّ أنّ نفسه سُحِر بعد النبوة5، وأنّ السحر كان على عهد الصحابة، وقتلوا الساحر، وذكرتَ إجماع الفقهاء على أنَّ السحر يكون من المسلمين، وأهل الكتاب6، والساحر ليس [بوليٍّ لله] 7. والسحر عندك هو من جنس الكرامات. الجميع خارق للعادة، لم يستدل به على النبوّة8.

_ 1 انظر: قول الباقلاني في كتابه البيان ص 91-98. 2 في ((ط)) : تأنما. 3 في ((م)) ، و ((ط)) : ولا يحتجّ. 4 في ((خ)) : يقول. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 انظر: البيان للباقلاني ص 82-83. 6 انظر: البيان للباقلاني ص 78-87. 7 في ((ط)) : بولي الله. 8 انظر: البيان للباقلاني ص 93-97. فالباقلاني يجعل عمل الساحر من الخوارق، وأنه مما يفعله الله عند سحر الساحر، ولا يستثني من عمل الساحر للخوارق إلا ما ورد الإجماع والتوقيف على أنّه لا يكون بضربٍ من السحر؛ كالآيات الكبرى للأنبياء. أما الفرق بين السحر والمعجزات: فإنه إن ادّعى الساحر بسحره النبوة أبطله الله تعالى بوجهين: أحدهما: أنه إذا علم ذلك في حال الساحر، وأنه سيدعي به النبوة، أنساه عمل السحر جملة. والثاني: أن يهيئ الله خلقاً من السحرة يفعلون مثل فعله، ويعارضونه، فينتقض بذلك ما ادعاه، ويبطل. انظر: البيان للباقلاني ص 91، 94-95. أما الفرق بين المعجزة والكرامة: فليس موجوداً في المطبوعة الناقصة من البيان. ولكن الباقلاني ذكر ذلك في رسالته إلى أحد العلماء؛ إذ ذكر فيها أنّ الفرق هو أنّ الأمر الخارق للنبيّ مقرونٌ بالتحدي والاحتجاج، وأنّ صاحب الكرامة لا يدّعي النبوة بكرامته، ولو علم الله أنه يدعي بها، لما أجراها على يديه. انظر المعيار المعرب 11 250-251، ضمنه رسالة كتبها الباقلاني إلى محمد بن أحمد بن المعتمر المرقي. وقد نقلت النصّ من كتاب موقف ابن تيمية من الأشاعرة 2 549. وهذا يؤكد ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عنهم أنهم يجعلون الكرامات من جنس السحر. وقد صرّح الجويني بهذا في كتابه الإرشاد. انظر: الإرشاد ص 322، 328.

فكيف تقول مع هذا: إنّ الخوارق [لا تكون] 1 إلاَّ لنبيّ، أو وليّ، وأنت [تُثبتها] 2 للكفار3. وهذا كلّه من جهة أنّه أخذ جنس [الخارق] 4 مشتركاً؛ فجوّز أن يكون للنبيّ، وغير النبيّ، مع قوله: إنّ الخارق لا بُدّ أن يكون خارقاً لعادة جميع

_ 1 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 2 في ((م)) ، و ((ط)) : أثبتها. 3 انظر: البيان للباقلاني ص 48-49، 91-98. وانظر: أيضاً أصول الدين للبغدادي ص 170. 4 في ((م)) ، و ((ط)) : الخوارق.

المرسَل إليهم. ولكن عنده هذا يحصل بعدم المعارضة. وحينئذٍ فاشتراط كونه خارقاً، ومختصاً بمقدور [الربّ] 1 باطلٌ. وهو قد حكى أنّ الاجماع على أن المعجز لا بُدّ أن يكون خارقاً للعادة، فقال: اعلموا رحمكم الله أنّ الكلّ من سائر الأمم قد شرطوا في صفة المعجز أن يكون خارقاً للعادة2. [ثم قال3 في فصول الكرامات] 4:

_ 1 في ((خ)) : للربّ. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 البيان للباقلاني ص 50. 3 أي الباقلاني. 4 قال في ((ط)) : "فصل. ثمّ قال في فصول الكرامات ... ". ولا يُسلّم له صنيعه؛ لأنّ الكلام متعلّق بما سبق؛ من ذكر أقوال القاضي أبي بكر الباقلاني في الكرامات.

فصل قول الباقلاني لايدل على صدق النبي إلا المعجزات ولو لم تدل للزم عجز القديم..

[ثم قال1 في فصول الكرامات] 2 فصلٌ3 قول الباقلاني: لايدل على صدق النبي إلا المعجزات ولو لم تدل للزم عجز القديم.. ويقال لهم: إنّ من النّاس من لا يشترط في الآية المعجزة أن تكون خارقاً للعادة. وهذا كما ذكر إجماع الناس على أنّه لا يدلّ على صدق النبيّ إلا المعجزات4، فقال في الاستدلال على أنّها لو لم تدلّ، لزم عجز القديم؛ إذ لا دليل [لقول] 5 كلّ أحدٍ أثبت النبوّة على نبوة الرّسل وصدقهم، إلا ظهور المعجزة. فهذا إجماعٌ لا خلاف فيه. فلو ظهرت على يد المتنبي، لبطلت دلالة النبوّة، ولوجب عجز القديم عن دليل يدلّ على نبوتهم. وهو نفسه قد ذكر في ذلك عدّة أقوال في غير هذا الكتاب6.

_ 1 أي: الباقلاني. 2 قال في (ط) : "فصل. ثم قال في فصول الكرامات ... ". ولا يُسلم له صنيعه؛ لأنَّ الكلام متعلق بما سبق؛ من ذكر أقوال القاضي أبي بكر الباقلاني في الكرامات. 3 هذا الفصل في الكرامات لا يُوجد في القسم المطبوع من كتاب ((البيان)) للباقلاني، وإلاَّ فالمؤلف ذكر في خطبة الكتاب أنّه سيتحدّث عن هذا الفصل في آخر الكتاب. وهذا ممّا يدلّ على أنّ الكتاب ناقص في آخره. 4 انظر: البيان للباقلاني ص 37-38. والإرشاد للجويني ص 331. 5 في ((خ)) : يقول. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 6 أي في غير كتاب البيان الذي يعتمد عليه شيخ الإسلام في سوق أقوال الباقلاني، والردّ عليها ببيان تناقضاته. انظر: التمهيد ص 156-157. والإنصاف ص 93. وكلاهما للباقلاني. وانظر كتاب: البيان له ص 45-48.

وأيضاً: فالاستدلال بالإجماع إنّما يكون [بعد] 1 ثبوت النبوة، فلا يحتجّ على مقدّمات دليل النبوة بمجرد الإجماع. سبب عدم ظهور المعجزات على يد الكاذب عند الأشاعرة وهؤلاء إنما أوقعهم في هذه المناقضات أنّ القدرية2 يجعلون لربّهم شريعة بالقياس على خلقه، ويقولون: لا يجوز أن يفعل كذا، ولا أن يفعل كذا؛ كقولهم: لا يجوز أن يضلّ هذا، فإنّا لو جوّزنا عليه الإضلال لجاز أن يظهر المعجزات على أيدي الكذابين؛ فإنّ غاية ذلك أنّه إضلال. وإذا جاز ذلك لم يبق دليلٌ على صدق الأنبياء، ولم يفرّق بين الصادق والكاذب. فعارضهم هؤلاء3 بأن قالوا: يجوز أن يفعل كلّ ممكن مقدور، ليس يجب أن ينزّه عن فعلٍ من الأفعال، وليس في الممكنات ما هو قبيح، أو ظلم، أو سيئ، بل كلّ ذلك حسنٌ وعدل، فله أن يفعله. فقيل لهم: فجوّزوا إظهار المعجزات على [أيدي] 4 الكذابين. ففتقوا لهم فتقا، فقالوا5: هذا يلزم

_ 1 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 2 المقصود بهم المعتزلة. وانظر: شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار ص 133، 564. والمختصر في أصول الدين له ص 237 ـ ضمن رسائل العدل والتوحيد. 3 أي الأشاعرة. انظر: البيان للباقلاني ص 40-41. والتمهيد له ص 382-386. والإرشاد للجويني ص 258 وما بعدها. والمواقف للإيجي ص 328. وشرح الجوهرة للبيجوري ص 108. 4 في ((خ)) : يدي. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 أي الأشاعرة. انظر من كتب أئمتهم: البيان للباقلاني ص 45-48. والإرشاد للجويني ص 327- 328. وأصول الدين للبغدادي ص 170، 173. والمواقف للإيجي ص 342.

منه عجز الرب عن أن ينصب دليلاً يدل على صدق النبيّ، وإن كان يمكنه أن يعرف صدقهم بالضرورة، فذلك يوجب أن يعرفوا نفسه بالضرورة، وهو يرفع التكليف. قول شيخ الإسلام في عدم ظهور المعجزات على يد الكاذب.. والتحقيق: أن إظهار المعجزات الدالّة على صدق الأنبياء على يد الكاذب لا يجوز، لكن قيل لامتناع ذلك في نفسه؛ كما قاله الأشعري1. وقيل: لأنّ ذلك يمتنع في حكمة الرب وعدله. وهذا أصحّ؛ فإنّه قادر على ذلك، لو فعله بطلت دلالة المعجز على الصدق2. وهذا كما أنه قادر على سلب العقول، ولو فعل ذلك لبطلت العلوم. وهو سبحانه لو فعل ذلك قادرٌ على تعريف الصدق بالضرورة، وقادرٌ على أن لا يعرف بذلك، ولا يميز للناس بين الصادق والكاذب، لكنه لا يفعل هذا المقدور. ونحن نعلم بالاضطرار أنه لا يفعل ذلك، وأنّه لا يبعث أنبياء

_ 1 انظر: المواقف للإيجي؛ فقد نقل ذلك عن الأشعري ص 342. وانظر ما قاله شيخ الإسلام رحمه الله عن هذه المسألة بتوسّع في كتبه التالية: شرح الأصفهانية تحقيق السعوي 2 612-624. ودرء تعارض العقل والنقل 1 89-90. والجواب الصحيح 6 393-401. وذكر شيخ الإسلام رحمه الله عن مذهب الأشاعرة في إثبات النبوة أنّهم يسلكون أحد طريقين: "إما طريق القدرة؛ كما سلكها الأشعري في أحد قوليه، والقاضيان أبو بكر وأبو يعلى، وغيرهما؛ وهو أنه لا طريق إلى تصديق النبيّ غير المعجزة، فلو لم تكن دالّة على التصديق، للزم عجز الباري عن تصديق الرسل. وإما طريق الضرورة؛ كما سلكها الأشعري في قوله الآخر، وأبو المعالي، وطوائف أُخَر". درء تعارض العقل والنقل 9 52-53. 2 سبق أن أورد الشيخ رحمه الله هذه المسألة في ص 272، 278، 280-282، 580-583، من هذا الكتاب. وسوف يأتي زيادة إيضاح منه رحمه الله لهذه المسألة في ص 1134-1150، 1161-1163 منه.

صادقين يبلغون رسالته ويأمر الناس باتباعهم ويتوعّد من كذّبهم، فيقوم آخرون كذّابون يدّعون مثل ذلك، وهو يسوي بين هؤلاء وهؤلاء في جميع ما يفرق به بين الصادق والكاذب. بل قد علمنا من سنّته أنه لا يُسوّي في دلائل الصدق والكذب بين المحدث الصادق، والكاذب، والشاهد الصادق، والكاذب، وبين الذي يعامل الناس بالصدق، والكذب، وبين الذي يظهر الإسلام صادقاً، والذي يظهره نفاقاً وكذباً، بل يُميّز هذا من هذا بالدلائل [الكثيرة] 1؛ كما يُميّز بين العادل وبين الظالم، وبين الأمين وبين الخائن؛ فإنّ هذا مقتضى سنّته التي لا تتبدّل، وحكمته التي هو منزّه عن نقيضها، وعدله سبحانه بتسويته بين المتماثلات، وتفريقه [بين] 2 المختلفات. فكيف يُسوي بين أفضل الناس وأكملهم صدقاً، وبين أكذب الناس وشرّهم كذباً فيما يعود إلى فساد العالم في العقول، والأديان، والأبضاع، والأموال، والدنيا، والآخرة. الرد على القدرية في قولهم: لو جوزنا عليه الإضلال لجاز أن يظهر المعجزات على يد الكاذب وقول [القدريّ] 3: إذا جاز عليه إضلال من أضلّه، جاز عليه إضلال بعض الناس. يقال له: أولاً: ليس إظهار المعجزة على أيدي الكذابين من باب الإضلال. بل لو ظهرت على يده لكانت لا تدلّ على الصدق، فلم يكن دليلاً يُفرّق به بين الصدق والكذب. وعدم الدليل يوجب عدم العلم بذلك الدليل، لا يوجب اعتقاد نقيضه. ولو كان لا يظهرها إلا على يد كاذب، لكانت إنّما تدل على

_ 1 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 2 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 3 في ((م)) ، و ((ط)) : القدر.

الكذب؛ فالاشتراك بين الصنفين يرفع دلالتها، واختصاص أحدهما بها يوجب دلالتها على المختصّ. ويقال ثانياً: تجويز إضلال طائفة معينة؛ بمعنى أنه حصل لهم الضلال لعدم نظرهم، واستدلالهم، وقصدهم الحق، وجعل قلوبهم معرضة عن طلب الحق وقصده، وأنّها تكذب الصادق: ليس هو مثل إضلال العالم كلّه، ورفع ما يعرف به الحق من الباطل. بل مثال هذا: مثل من قال: إذا جاز أن [يعمي] 1 طائفة من الناس، جاز أن [يعمي] 2 جميع النّاس، فلا يرى أحدٌ شيئاً. وإذا جاز أن [يُصِمّ] 3 بعض النّاس، جاز أن يصم جميعهم، فلا يسمع أحدٌ شيئاً. وإذا جاز أن يُزمن4 بعض النّاس، أو يُشلّ يديه، جاز إزمان جميع الناس، وإشلال أيديهم؛ حتى لا يقدر أحدٌ في العالم على شيء، ولا بطش بيده. وإذا جاز أن يُجنّن بعض الناس، جاز أن يُجنّن جميعَهم؛ حتى لا يبقى في الأرض إلا مجنونٌ، لا عاقل. وإذا جاز أن يُميت بعض الناس، جاز أن يُميتهم كلّهم في ساعةٍ واحدة، مع بقاء العالم على ما هو عليه. وأن يقال: إذا جاز أن يُضِلّ بعض الناس عن قبول بعض الحق، جاز أن يضله عن قبول كلّ حق؛ حتى لا يصدق أحداً في شيء، ولا يقبل شيئاً مما يُقال له؛ فلا يأكل، ولا يشرب، ولا يلبس، ولا ينام. وأنّ كلّ من أضلّ جاز أن يفعل به هذا كلّه.

_ 1 في ((م)) ، و ((ط)) : يعمى. 2 في ((م)) ، و ((ط)) : يعمى. 3 في ((ط)) : يضم. 4 قال ابن منظور: (الزَّمِن: ذو الزمانة. والزمانة آفة في الحيوانات. ورجلٌ زَمِن: أي مبتلى بيِّن الزمانة. والزمانة: العاهة..) . لسان العرب 13 199.

وهذا كلّه ممّا يُعرف بضرورة العقل الفرق بينهما. ومن سوى بين هذا وهذا1، كان مصاباً في عقله. وآيات الأنبياء هي من هذا الباب؛ فلو لم يميّز بين الصادق والكاذب، لكان قد بعث أنبياء يبلّغون رسالته، ويأمرون بما أمر به؛ من أطاعهم سعد في الدنيا والآخرة، ومن كذّبهم شقي في الدنيا والآخرة، وآخرين كذّابين يبلّغون عنه ما لم يقله، ويأمرون بما نهى عنه، وينهون عمّا أمر به، ومن اتبعهم شقي في الدنيا والآخرة، ولم يجعل لأحدٍ سبيلاً إلى التمييز بين هؤلاء وهؤلاء. [وهذا] 2 أعظم من أن يقال إنّه خلق أطعمة نافعة، وسموماً قاتلة، ولم يميّز بينهما، بل كلّ ما أكله الناس، جاز أن يكون من هذا وهذا. ومعلومٌ أنّ من جوّز مثل هذا على الله، فهو مصابٌ في عقله. الله جعل الأشياء متلازمة وكل ملزوم دليل على لازمه.. ثمّ إنّ الله جعل الأشياء متلازمة، وكلّ ملزوم هو دليل على لازمه؛ فالصدق له لوازم كثيرة؛ فإنّ من كان يصدق، ويتحرى الصدق، كان من لوازمه أنّه لا يتعمّد الكذب، ولا يخبر بخبرين متناقضين عمداً، ولا يُبطن خلاف ما يظهر، ولا يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه، ولا يخون أمانته، ولا يجحد حقاً هو عليه، إلى أمثال هذه الأمور التي يمتنع أن [تكون] 3 لازمةً إلا لصادق؛ فإذا انتفت انتفى الصدق، وإذا وجدت كانت مستلزمة لصدقه. والكاذب بالعكس؛ لوازمه بخلاف ذلك؛ وهذا لأنّ الإنسان حيّ ناطق، والنطق من لوازمه الظاهرة لبني جنسه. ومن لوازم النطق: الخبر؛ فإنه ألزم له من الأمر، والطلب؛ حتى قد قيل: إنّ جميع أنواع الكلام

_ 1 أي بين النبيّ، والمتنبّئ. 2 في ((ط)) : وه. وهو خطأ مطبعي. 3 في ((خ)) : يكون. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

[تعود] 1 إلى الخبر؛ فلزم أن يكون من لوازم الإنسان إخباره، [وظهور] 2 إخباره، وكثرته، وأنّ هذا لا بُدّ من وجوده حيث كان. وحينئذ: فإذا كان كذّاباً عَرَفَ النّاس كذبه؛ لكثرة ما يظهر منه من [الخبر] 3 عن الشيء بخلاف ما هو عليه، من أحوال نفسه وغيره، وممّا رآه، وسمعه، وقيل له في الشهادة والغيب. ولهذا كلّ من كان كاذباً ظهر عليه كذبه بعد مدة؛ سواء كان مدّعياً للنبوّة، أو كان كاذباً في العلم ونقله، أو في الشهادة، أو في غير ذلك4. وإن [كان] 5 مطاعاً، كان ظهور كذبه أكثر لما فيه من الفساد.

_ 1 في ((م)) ، و ((ط)) : يعود. 2 في ((ط)) : وظهوراً. 3 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 4 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو يشرح حديث أبي سفيان مع هرقل: "فسألهم عن زيادة أتباعه ودوامهم على اتّباعه، فأخبروه أنهم يزيدون، ويدومون. وهذا من علامات الصدق والحق؛ فإنّ الكذب والباطل لا بُدّ أن ينكشف في آخر الأمر، فيرجع عنه أصحابه، ويمتنع عنه من لم يدخل فيه. ولهذا أخبرت الأنبياء المتقدمون أنّ المتنبئ الكذاب لا يدوم إلا مدة يسيرة. وهذه من بعض حجج ملوك النصارى الذين يُقال إنهم من ولد قيصر هذا، أو غيرهم حيث رأى رجلاً يسبّ النبيّ صلى الله عليه وسلم من رؤوس النصارى، ويرميه بالكذب. فجمع علماء النصارى، وسألهم عن المتنبئ الكاذب، كم تبقى نبوته؟ فأخبروه بما عندهم من النقل عن الأنبياء؛ أنّ الكذّاب المفتري لا يبقى إلا كذا وكذا سنة؛ مدة قريبة؛ إما ثلاثين سنة، أو نحوها. فقال لهم: هذا دين محمد له أكثر من خمسمائة سنة أو ستمائة سنة وهو ظاهر مقبول متبوع. فكيف يكون هذا كذاباً. ثمّ ضرب عنق ذلك الرجل". شرح الأصفهانية تحقيق السعوي 2 485. 5 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.

[و] 1 في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: ((ثلاثةٌ لا يُكلّمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكّيهم، ولهم عذاب أليم: ملكٌ كذّاب، وشيخ زان، وعائل مستكبر ـ ويُروى ـ وفقيرٌ محتال)) 2. ولهذا كثيرٌ من أهل الدول كانوا يتواصون بالكذب، وكتمان أمورهم، ثم يظهر؛ كالقرامطة3. ولهذا امتنع اتفاق الناس على الكذب، والكتمان،

_ 1 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 2 الحديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه 1 102-103، كتاب الإيمان، باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار. مع تقديم، وتأخير في الألفاظ، وليس فيه: وفقير محتال. 3 القرمطة نسبة إلى مذهب القرامطة. ووجه قرمطتهم: أنّهم جعلوا للنص معنى باطناً يُخالف معناه الظاهر. والقرامطة: نسبة إلى حمدان قرمط، ولُقّب بذلك لقرمطة في خطه، أو في خطوه. كان أحد دعاتهم في الابتداء، فاستجاب له جماعة، فسموا قرامطة، وقرمطية. وكان هذا الرجل من أهل الكوفة، وكان يميل إلى الزهد، فصادف أحد دعاة الباطنية، وأثّر عليه؛ فاعتنق مذهبهم. ثمّ لم يزل بنوه وأهله يتوارثون مكانه. وكان أشدّهم بأساً: رجل يُقال له أبو سعيد. ظهر في سنة ست وثمانين ومائتين، وقوي أمره، وقتل ما لا يحصى من المسلمين، وخرب المساجد، وأحرق المصاحف، وفتك بالحاج، وسنّ لأهله وأصحابه سنناً، وأخبرهم بمحالات. ثم مات، وخلف بعده ابنه أبا طاهر؛ ففعل مثل فعله، وهجم على الكعبة، فأخذ ما فيها من الذخائر، وقلع الحجر الأسود، وحمله إلى بلده، وأوهم الناس أنه الله تعالى الله عن قوله علواً كبيراً. انظر: الفرق بين الفرق للبغدادي ص 289. وفضائح الباطنية للغزالي ص 12. وتلبيس إبليس لابن الجوزي ص 144-146. وانظر تعريف شيخ الإسلام رحمه الله للقرمطة في السمعيات في كتابه: نقض تأسيس الجهمية 1 150. والرسالة التدمرية ص 19. وشرح حديث النزول ص 428. وبغية المرتاد ص 183-184. وشرح الأصفهانية 2 451-457. ودرء تعارض العقل والنقل 2 15. ومجموع الفتاوى 12 213، 13 168.

من غير تواطؤ؛ لما جعل الله في النفوس من الداعي إلى الصدق والبيان، وجعل الله في القلوب هدايةً ومعرفةً بين هذا وهذا. ولم يُعرف قطّ في بني آدم أنّه اشتبه صادقٌ بكاذبٍ إلاَّ مدة قليلة، ثم يظهر الأمر. وليس هذا كالضلال في أمور خفية ومشتبهة على أكثر الناس؛ فإنّ التمييز بين الصادق والكاذب يظهر لجمهور الناس وعامتهم بعد مدّة، ولا يطول اشتباه ذلك عليهم، وإنما يشتبه الأمر عليهم فيما لم يتعمّد فيه الكذب، بل أخطأ أصحابه؛ فأخذ عنهم تقليداً لهم. وأما مع كون أصحابه يتعمّدون الكذب، [فهو] 1 لا يخفى على عامة الناس.

_ 1 في ((م)) ، و ((ط)) : فهذا.

فصل الفروق بين آيات الأنبياء وغيرها

فصل الفروق بين آيات الأنبياء وغيرها وقد تقدم1 ذكر بعض الفروق بين آيات الأنبياء وغيرهم. وبينها وبين غيرها من الفروق ما لا يكاد يحصى. الأول: أنّ النبيّ صادقٌ فيما يخبر به عن الكتب، لا يكذب قط. ومن خالفهم من السحرة، والكهّان، لا بُدّ أن يكذب؛ كما قال: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِين * تَنَزَّلُ عَلَى كُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} 2. الثاني: من جهة ما يأمر به هذا ويفعله، ومن جهة ما يأمر به هذا ويفعله؛ فإنّ الأنبياء لا يأمرون [إلاَّ] 3 بالعدل، وطلب الآخرة، وعبادة الله وحده، وأعمالهم البر والتقوى. ومخالفوهم يأمرون بالشرك، والظلم، ويعظّمون الدنيا، وفي أعمالهم الإثم والعدوان. الثالث: أنَّ السحر، والكهانة، ونحوهما أمور معتادة معروفة لأصحابها، ليست خارقة لعادتهم. وآيات الأنبياء لا تكون إلا لهم ولمن اتّبعهم. الرابع: أنَّ الكهانة والسحر يناله الإنسان بتعلّمه، وسعيه، واكتسابه. وهذا مجرّبٌ عند الناس. بخلاف النبوة؛ فإنّه لا ينالها أحدٌ باكتسابه.

_ 1 انظر: ص 227، 588-631 من هذا الكتاب. وسيأتي أيضاً بعض الفروق في ص 728-729، 794-797، 1314-1334 منه. 2 سورة الشعراء، الآيتان 221-222. 3 في ((ط)) : إلى.

الخامس: أنَّ النبوّة لو قُدِّر أنها تنال بالكسب، فإنّما تُنال بالأعمال الصالحة، والصدق، والعدل، والتوحيد. لا تحصل مع الكذب على من دون الله، فضلاً عن أن تحصل مع الكذب على الله. فالطريق الذي تحصل به لو حصلت بالكسب مستلزمٌ للصدق على الله فيما يُخبر به. السادس: أنَّ ما يأتي [به] 1 الكهّان، والسحرة، لا يخرج عن كونه مقدوراً للجنّ والإنس، وهم مأمورون بطاعة الرسل. وآيات الرسل لا يقدر عليها؛ لا جنّ، ولا إنس، بل هي خارقة لعادة كلّ [من] 2 أُرسل النبيّ إليه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالجِنّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرَاً} 3. السابع: أنَّ هذه يمكن أن تُعارض بمثلها. وآيات الأنبياء لا يمكن أحداً أن يعارضها بمثلها. الثامن: أنَّ تلك ليست خارقة لعادات بني آدم، بل كلّ ضربٍ منها معتادٌ لطائفة غير الأنبياء. وأما آيات الأنبياء: فليست معتادة لغير الصادقين على الله، ولمن صدّقهم. التاسع: أنَّ هذه قد لا يقدر عليها مخلوق؛ لا الملائكة، ولا غيرهم؛ كإنزال القرآن، وتكليم موسى. وتلك تقدر عليها الجنّ والشياطين. العاشر: أنَّه إذا كان من الآيات ما يقدر عليه الملائكة؛ فإنّ الملائكة لا تكذب على الله، ولا تقول لبشر إنَّ الله أرسلك، ولم يرسله. وإنما يفعل ذلك الشياطين. والكرامات معتادة في الصالحين منّا، ومَنْ قبلنا، ليست

_ 1 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 2 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 3 سورة الإسراء، الآية 88.

خارقة لعادة الصالحين. وآيات الأنبياء خارقة لعادة الصالحين. وهذه1 تُنال بالصلاح؛ بدعائهم، وعبادتهم. ومعجزات الأنبياء لا تُنال بذلك. ولو طلبها النّاس؛ حتى يأذن الله فيها. {قُلْ إِنَّما الآياتُ عِنْدَ الله} 2، {قُلْ إِنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً} 3. الحادي عشر: أنَّ النبيّ قد تقدّمه [أنبياء] 4؛ فهو لا يأمر إلا بجنس ما أمرت به الرسل قبله؛ فله نظراء يعتبر بهم. وكذلك الساحر، والكاهن له نظراء يعتبر بهم. الثاني عشر: أنَّ النبي لا يأمر إلا بمصالح العباد في المعاش والمعاد؛ فيأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر؛ فيأمر بالتوحيد، والإخلاص، والصدق؛ وينهى عن الشرك، والكذب، والظلم. فالعقول، والفطر توافقه؛ كما توافقه الأنبياء قبله؛ فيصدقه صريح المعقول وصحيح المنقول الخارج عمّا جاء به. والله أعلم.

_ 1 أي الكرامات. 2 سورة الأنعام، الآية 109. 3 سورة الأنعام، الآية 37. 4 في ((ط)) : الأنبياء.

فصل ما يخالف الكتاب والسنة فهو باطل

فصل ما يخالف الكتاب والسنة فهو باطل ومن تدبّر هذا1، وغيره، تبيَّن له أنَّ جميع ما ابتدعه المتكلمون، وغيرهم؛ مما يخالف الكتاب والسنة، فإنّه باطل. المبتدعون المخالفون للكتاب والسنة ولا ريب أن المؤمن يعلم من حيث الجملة أنّ ما خالف الكتاب والسنة فهو باطل. لكنْ كثيرٌ من الناس لا يعلم ذلك في المسائل المفصلة؛ لا يعرف ما الذي يوافق الكتاب والسنة، وما الذي يخالفه؛ كما قد أصاب [كثيراً] 2 من النّاس في الكتب المصنفة في الكلام؛ في أصول الدين، وفي الرأي والتصوف، وغير ذلك؛ فكثيرٌ منهم قد اتّبع طائفة يظنّ أنّ ما يقولونه هو الحق، وكلّهم على خطأ وضلال. خطبة الإمام أحمد ولقد أحسن الإمام أحمد في قوله في خطبته، وإن كانت مأثورة عمن تقدم3: "الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل

_ 1 أي هذه الفروق بين آيات الأنبياء وغيرهم، والتي ذكرها آنفاً في الفصل السابق. 2 في ((م)) ، و ((ط)) : كثير. 3 أخرجه ابن عدي في الكامل 1153، والخطيب البغدادي في كتاب أصحاب الحديث ص 28. وقال الهيثمي: يتقوى الحديث بتعدد طرقه، فيكون جسناً. انظر: إرشاد الساري 14. وذكر ابن القيم لهذا الحديث عدة طرق، في مفتاح دار السعادة 1206-207. وأورده التبريزي في مشكاة المصابيح رقم 248، وفيه: عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين". رواه البيهقي. وقد علق الشيخ الألباني على هذا الحديث بأنه مرسل؛ لأن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري هذا تابعي مقلّ كما قال الذهبي، وراويه عنه معاذ بن رفاعة ليس بعمدة. لكن الحديث قد روي موصولاً من طريق جماعة من الصحابة، وصحح بعض طرقه الحافظ العلائي في بغية الملتمس (3-4) . وروى الخطيب في شرف أصحاب الحديث (235) عن مهنا بن يحيى قال: سألت أحمد يعني ابن حنبل عن حديث معاذ بن رفاعة عن إبراهيم هذا، فقلت لأحمد: كأنه كلام موضوع؟ فقال: لا، هو صحيح. فقلتُ له: ممن سمعته أنت؟ قال: من غير واحد. قلت: من هم؟ قال: حدثني به مسكين، إلا أنه يقول: معاذ، عن القاسم بن عبد الرحمن. قال أحمد: معاذ بن رفاعة لا بأس به ... انظر: مشكاة المصابيح 182-83. وقال الذهبي عن العذري في الميزان: "ما علمته واهياً، أرسل حديث: "يحمل هذا العلم من كلّ خلفٍ عدوله" ...

العلم، يدعون من ضلّ إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويُبصّرون بنور الله أهل العمى. فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه. فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم. ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عنان الفتنة؛ فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب. يقولون على الله، وفي الله، وفي كتاب الله بغير علم. يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشّبهون عليهم. فنعوذ بالله من فتن المضلين"1. فهؤلاء أهل البدع من أهل الكلام وغيرهم، كما قال: مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، متفقون على مفارقة الكتاب.

_ 1 انظر: الرد على الجهمية والزنادقة للإمام أحمد ص 85 تحقيق عبد الرحمن عميرة.

أهل البدع مخالفون للكتاب والسنة وتصديق ما ذكره: أنّك لا تجد طائفة منهم توافق الكتاب والسنة فيما جعلوه أصول دينهم. بل [لكلّ] 1 طائفة أصول دين لهم؛ فهي أصول دينهم الذي هم عليه، ليس هي أصول الدين الذي بعث الله به رسوله، وأنزل به كتابه. وما هم عليه من الدين، ليس كله موافقاً للرسول، ولا كله مخالفاً له؛ بل بعضه موافق، وبعضه مخالف؛ بمنزلة أهل الكتاب الذين لبسوا الحق بالباطل؛ كما قال تعالى: {يَا بَنِي إِسرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعمَتِيَ التِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهدِكُمْ وَإِيّاي فَارْهَبُون وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقَاً لِمَا مَعَكُم وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنَاً قَلِيلاً وَإِيَّاي فَاتَّقُون وَلا تَلْبِسُوا الحَقَّ بِالبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُون} 2، وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الحَقَّ بِالبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُون} 3. لكنّ بعض الطوائف أكثر مخالفةً للرسول من بعض، وبعضها أظهر مخالفة. ولكنّ الظهور أمرٌ نسبيّ؛ فمن عرف السنّة ظهرت له مخالفة من خالفها؛ فقد [تظهر] 4 مخالفة بعضهم للسنة لبعض الناس؛ لعلمه بالسنة دون من لا يعلم منها ما يعلمه هو؛ وقد تكون السنة في ذلك معلومة عند جمهور الأمة؛ فتظهر مخالفة من خالفها؛ كما [تظهر] 5 للجمهور مخالفة الرافضة للسنة. وعند الجمهور هم المخالفون للسنة، فيقولون: أنت سني، أو رافضي؟.

_ 1 في ((ط)) : بكل. 2 سورة البقرة، الآيات 40-42. 3 سورة آل عمران، الآية 71. 4 في ((خ)) : يظهر. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 في ((خ)) : يظهر. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

وكذلك الخوارج: لمّا كانوا أهل سيف وقتال، ظهرت مخالفتهم للجماعة؛ حين كانوا يقاتلون الناس. وأما اليوم فلا يعرفهم أكثر الناس. وبدع القدرية، والمرجئة، ونحوهم: لا تظهر مخالفتها بظهور هذين. ظهور الخوارج ظهور القدرية والمرجئة وهاتان البدعتان ظهرتا1 لما قتل عثمان [رضي الله عنه] 2؛ في الفتنة؛ في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب [رضي الله عنه] 3. وظهرت [الخوارج] 4 بمفارقة أهل الجماعة، واستحلال دمائهم وأموالهم؛ حتى قاتلهم5 أمير المؤمنين علي بن أبي طالب [رضي الله عنه] 6 في ذلك لأمر النبي صلى الله عليه وسلم 7.

_ 1 وانظر: عرضاً لظهور الفتن، وانتشار البدع، والمذاهب في الإسلام في مجموع الفتاوى لابن تيمية 8228-229،، 28490-491. وفي منهاج السنة النبوية له 1306-309. 2 زيادة من ((ط)) . 3 زيادة من ((ط)) . 4 في ((م)) ، و ((ط)) : الخوارق. 5 انظر: سبب خروج الخوارج، وقتال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه لهم في موقعة النهروان، في البداية والنهاية لابن كثير 7289-321. 6 زيادة من ((ط)) . 7 يُشير رحمه الله إلى قول عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: "إذا حدّثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلأن أخر من السماء أحب إليّ من أن أقول عليه ما لم يقل. وإذا حدّثتكم فيما بيني وبينكم؛ فإنّ الحرب خدعة؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " سيخرج في آخر الزمان قومٌ أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية. فإذا لقيتموهم فاقتلوهم؛ فإنّ في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله يوم القيامة"..". صحيح البخاري 31321-1322، كتاب المناقب، باب علامة النبوة. وصحيح مسلم 2746-747، كتاب الزكاة، باب التحريض على قتل الخوارج.

الأحاديث في الخوارج قال الإمام أحمد بن حنبل: صحّ الحديث في الخوارج من عشرة أوجه1. وهذه2 قد رواها صاحبه مسلم بن الحجاج في صحيحه3، وروى البخاري قطعة منها4. اتفاق الصحابة على قتال الخوارج واتفقت الصحابة على قتال الخوارج، حتى إنّ ابن عمر مع امتناعه عن الدخول في فرقة؛ كسعد5، وغيره من السابقين6. ولهذا لم يبايعوا

_ 1 انظر: السنة للخلال 1145. وقال المحقق: إسناده صحيح. وقال شيخ الإسلام رحمه الله في غير هذا الكتاب: "قال الإمام أحمد: صحّ الحديث في الخوارج من عشرة أوجه. وقد رواها مسلم في صحيحه، وروى البخاري منها ثلاثة أوجه؛ حديث عليّ، وأبي سعيد، وسهل بن حنيف. وفي السنن والمسانيد طرق أُخَر متعددة ... ". مجموع الفتاوى 28512. 2 الأوجه. 3 انظر: صحيح مسلم 2740-746، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، و2746-749 كتاب الزكاة، باب التحريض على قتل الخوارج، و2750، كتاب الزكاة، باب الخوارج شر الخلق والخليقة. 4 انظر: صحيح البخاري 31148، كتاب الخمس، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يُعطي المؤلفة قلوبهم، 31219، كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} ، 41583، كتاب المغازي، باب بعث علي وخالد رضي الله عنهما إلى اليمن قبل حجة الوداع،، 41927-1928، كتاب فضائل القرآن، باب من راءى بقراءة القرآن، 31321-1322، كتاب المناقب، باب علامات النبوة، 62539، كتاب استتابة المرتدين، باب قتل الخوارج، 62540، كتاب استتابة المرتدين، باب من ترك قتال الخوارج للتألف. 5 ابن أبي وقاص رضي الله عنه. 6 اعتزل كثير من الصحابة الفتنة التي وقعت بعد مقتل عثمان رضي الله عنه، فلم يُقاتلوا لا مع علي، ولا مع معاوية. ومن هؤلاء: سعد بن أبي وقاص، وأسامة بن زيد، وعبد الله بن عمر، ومحمد بن مسلمة، وأبو بكرة، وعمران بن حصين، وأكثر السابقين الأولين. انظر: منهاج السنة النبوية 1541-542.

لأحدٍ إلا في الجماعة1قال2 عند الموت: ما آسى على شيء إلا على أني لم أقاتل الطائفة الباغية مع علي رضي الله عنه3؛ يريد بذلك قتال الخوارج، وإلا فهو لم يبايع؛ لا لعلي، ولا غيره، ولم يبايع معاوية إلا بعد أن اجتمع الناس عليه. فكيف يقاتل إحدى الطائفتين؟ وإنّما أراد المارقة التي قال فيها النبيّ صلى الله عليه وسلم: "تمرُق مارقة على حين فرقةٍ من الناس، يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق"4. وهذا حدَّث به أبو سعيد5، فلما بلغ ابن عمر قول النبي صلى الله عليه وسلم في الخوارج، وأمره بقتالهم، تحسّر على ترك قتالهم. الصحابة على ثلاثة أقوال في فتنة الجمل وصفين فكان قتالهم ثابتاً بالسنة الصحيحة الصريحة، وباتفاق الصحابة؛ بخلاف فتنة الجمل وصفّين6؛ فإنّ أكثر السابقين الأولين كرهوا القتال في هذا، وهذا. السنة دلت على أن عليا أولى الطائفتين وكثيرٌ من الصحابة قاتلوا إما من هذا [الجانب] 7، وإما من هذا الجانب؛ فكانت الصحابة في ذلك على ثلاثة أقوال8.

_ 1 انظر: عن الذين اعتزلوا الفتنة؛ كسعد، وابن عمر، فلم يبايعوا لأحدٍ إلا في جماعة: منهاج السنة النبوية 4392-393، و8525-526. والبداية والنهاية 7237. 2 القائل هو عبد الله بن عمر رضي الله عنه. 3 انظر: سير أعلام النبلاء 3231-232. 4 الحديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه 2745-746، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم. والإمام أحمد في مسنده 332، 48. 5 الخدري رضي الله عنه. 6 انظر: خبرهما في البداية والنهاية 7241، وما بعدها،، و 264 وما بعدها. وانظر: كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في المنهاج 8522-528؛ فهو مشابه للكلام الذي ذكره هنا. 7 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 8 انظر: منهاج السنة النبوية 1535، 541-542،،4501-502،، 7473. ومجموع الفتاوى 2773.

\لكن الذي دلت عليه السنة الصحيحة أنّ علياً بن أبي طالب [رضي الله عنه] 1 كان أولى بالحق2، وأنّ ترك القتال بالكلية كان خيراً وأولى؛ ففي الصحيحين عن أبي سعيد أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "تمرق مارقة على حين فرقة من الإسلام يقتلهم أولى الطائفتين بالحق"3. وقد ثبت عنه أنّه جعل القاعد فيها خيراً من القائم، والقائم خيراً من الماشي، والماشي خيراً من الساعي4، وأنّه أثنى على من صالح، ولم يُثن على من قاتل؛ ففي البخاري وغيره عن أبي بكرة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال عن الحسن: "إن ابني هذا سيِّدٌ، وسيصلح الله به بين فئتين من المسلمين"5؛ فأثنى على الحسن في إصلاح الله به بين الفئتين. وفي صحيح مسلم، وبعض نسخ البخاري: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم [قال] 6 لعمّار: "تقتلك الفئة الباغية" 7.

_ 1 زيادة من ((ط)) . 2 انظر: منهاج السنة النبوية 4358. ومجموع الفتاوى 2751. 3 تقدم تخريجه آنفاً. 4 فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي. ومن تشرّف لها تستشرفه، ومن وجد فيها ملجأ فليعذ به". الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 31318، كتاب المناقب، باب علامات النبوة. ومسلم في صحيحه 42211-2212، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب نزول الفتن كمواقع القطر. 5 رواه البخاري في صحيحه 2962-963، كتاب الصلح، باب قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إنّ ابني هذا لسيد"، و 31328، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام. 6 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 7 رواه الإمام البخاري في صحيحه 31035، كتاب الجهاد، باب مسح الغبار عن الرأس في سبيل الله. والإمام مسلم في صحيحه 42235-2236، كتاب الفتن، باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل.

بقاء الطائفة المنصورة إلى يوم القيامة وفي الصحيحين أيضاً أنّه قال: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة"1؛ قال معاذ: وهم بالشام. وفي صحيح مسلم عنه أنّه قال: "لا يزال أهل المغرب ظاهرين لا يضرهم من خذلهم" 2. أهل المغرب هم أهل الشام قال أحمد بن حنبل، وغيره: أهل المغرب: أهل الشام3؛ أي أنّها أول المغرب؛ فإن التغريب [والتشريق] 4 أمر نسبيّ؛ فلكل بلد غرب وشرق، وهو صلى الله عليه وسلم تكلّم بمدينته؛ فما تغرب عنها فهو غرب، وما تشرق عنها فهو شرق، وهي5 مسامتة أول الشام من ناحية الفرات؛ كما أنّ مكة مسامتة لحرّان6،

_ 1 انظر: صحيح البخاري 31329، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، و 62667، كتاب الاعتصام، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، وهم أهل العلم"، و62714، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه} . وانظر: صحيح مسلم 31523-1524، كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم". 2 انظر: صحيح مسلم 31525، كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم"، ولفظ مسلم: "لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة". 3 انظر: مجموع الفتاوى 2741، 507. وانظر أقوال العلماء في معنى أهل الغرب، في: شرح النووي على مسلم 1368. ومنهاج السنة النبوية 4461-462. وفتح الباري 13308. والمغني لابن قدامة 1320. 4 في ((ط)) : والتشريف. 5 أي المدينة النبوية. 6 قال ياقوت في معجم البلدان: (هي مدينة عظيمة مشهورة من جزيرة أقور، وهي قصبة ديار مضر. بينها وبين الرّها يوم، وبين الرقة يومان) . معجم البلدان 2271.

و [سميساط] 1، ونحوهما2. قتال صفين من أي الأنواع كان [وتصويب قتالهم] 3 إن كان بعد الإصلاح، فلم يقع الإصلاح وإن كان عند بغيهم في الاقتتال. وإن لم يكن إصلاح فهؤلاء البغاة لم [يكن] 4 في أصحاب عليّ من يقاتلهم، بل تركوا قتالهم؛ إما عجزاً، وإما تفريطاً؛ فتُرِكَ الإصلاحُ المأمور به. وعلى هذا قوتلوا ابتداءً قتالاً غير مأمور به، ولما صار قتالهم مأموراً به لم يقاتلوا القتال المأمور به، بل نكل أصحاب علي [رضي الله عنه] 5 عن القتال؛ إمّا عجزاً، وإمّا تفريطاً.

_ 1 في ((خ)) : سميشاط. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . وسُمَيْسَاط: قال ياقوت في معجم البلدان: (سُمَيْسَاط بضم أوله، وفتح ثانيه، ثم ياء من تحت ساكنة، وسين أخرى، ثم بعد الألف طاء مهملة: مدينة على شاطئ الفرات، في طرف بلاد الروم، على غربي الفرات) . معجم البلدان 3293. 2 وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله معلّقاً على حديث: "لا يزال أهل المغرب.. ": (وهذا كما ذكروه؛ فإنّ كلّ بلد له غرب وشرق، والاعتبار في لفظ النبي صلى الله عليه وسلم بغرب مدينته، ومن الفرات هو غرب المدينة؛ فالبيرة ونحوها على سمت المدينة؛ كما أنّ حران والرقة وسميساط ونحوها على سمت مكة. ولهذا يُقال إنّ قبلة هؤلاء أعدل القبل؛ بمعنى أنك تجعل القطب الشمالي خلف ظهرك، فتكون مستقبل الكعبة. فما كان غربي الفرات فهو غربي المدينة إلى آخر الأرض. وأهل الشام أول هؤلاء". منهاج السنة النبوية 757. وانظر مزيد بيان لهذه المسألة في: مجموع الفتاوى 2741-42، 507-508،، 28532. 3 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 4 في ((م)) ، و ((ط)) : تكن. 5 زيادة من ((ط)) .

قتال البغاة والبغاة المأمور بقتالهم: هم الذين بغوا بعد الاقتتال، وامتنعوا من الإصلاح المأمور به؛ فصاروا بغاة مقاتلين. والبغاة إذا ابتدءوا [بالقتال] 1 جاز قتالهم بالاتفاق؛ كما يجوز قتال [الغواة] 2 قطّاع الطريق إذا قاتلوا باتفاق الناس. فأمّا الباغي من غير قتال، فليس في النص أنّ الله أمر بقتاله، بل الكفار إنما يُقاتلون بشرط [الحراب] 3؛ كما ذهب إليه جمهور العلماء، وكما دل عليه الكتاب والسنة؛ كما هو مبسوط في موضعه4. أنواع المرتدين الذين قاتلهم الصديق والصدّيق قاتل المرتدين الذين ارتدوا عمّا كانوا فيه على عهد الرسول من دينه، وهم أنواع: منهم من آمن بمتنبىء [كذّاب] 5، ومنهم من لم يقرّ ببعض فرائض الإسلام التي أقرّ بها مع الرسول، ومنهم من ترك الإسلام بالكليّة6. ولهذا تُسمّى هذه وأمثالها من الحروب بين المسلمين فتناً؛ كما سمّاها

_ 1 في ((م)) ، و ((ط)) : القتال. 2 في ((خ)) : الغداة. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 في ((م)) ، و ((ط)) : الجراب. أما في ((خ)) فقد كتب الحراب، ووضع تحت حاء الحراب علامة (ح) إشارة إلى أنها مهملة. 4 انظر: المغني لابن قدامة 12474-483. ومنهاج السنة النبوية 4463، 502. ومجموع الفتاوى 4445، 450، 10374-375، 2741-42، 507-508، 28300-301، 532، 3578-79. 5 في ((خ)) : الكذاب. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 6 انظر: منهاج السنة النبوية 4494، 501؛ حيث بيّن شيخ الإسلام رحمه الله أنواع المرتدين الذين قاتلهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. والجواب الصحيح 6474-475.

النبيّ صلى الله عليه وسلم 1. والملاحم: ما كان بين المسلمين والكفار. وبسط هذا له موضع آخر2. الكلام في الخوارج والمقصود هنا: أنّ الخوارج ظهروا في الفتنة، وكفّروا عثمان وعلياً [رضي الله عنهما] 3، ومن والاهما، وباينوا المسلمين في الدار، وسمّوا دارهم دار الهجرة4، وكانوا كما وصفهم النبيّ صلى الله عليه وسلم: يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان، وكانوا أعظم الناس صلاةً وصياماً وقراءةً؛ كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم؛ يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية"5. معنى مروقهم من الدين ومروقهم منه: خروجهم؛ باستحلالهم دماء المسلمين، وأموالهم؛ فإنّه قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه"6. وهم بسطوا في المسلمين أيديهم وألسنتهم؛ فخرجوا منه.

_ 1 فعن أسامة بن زيد رضي الله عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أشرف على أطم من آطام المدينة، ثم قال: "هل ترون ما أرى. إني لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع المطر". صحيح مسلم 42211، كتاب الفتن، باب الفتن كمواقع المطر. وانظر: منهاج السنة النبوية 4450-452؛ فقد ذكر الشيخ رحمه الله عدة أحاديث، فيها إخبار النبيّ صلى الله عليه وسلم بما سيكون من الفتن. 2 انظر: منهاج السنة النبوية 6328-344،، 8232-233. 3 زيادة من ((ط)) . 4 انظر: منهاج السنة النبوية 5243. 5 سبق تخريج هذا الحديث ص 680. 6 رواه البخاري في صحيحه 113، كتاب الإيمان، باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده.

لا يكفر الخوارج ولم يحكم علي [رضي الله عنه] 1، وأئمة الصحابة فيهم بحكمهم في المرتدين، بل جعلوهم مسلمين. قول سعد في الخوارج وسعد بن أبي وقاص، وهو أفضل من كان قد بقي بعد علي [رضي الله عنه] 2، وهو من أهل الشورى، واعتزل في الفتنة؛ فلم يقاتل، لا مع علي، ولا مع معاوية. ولكنّه ممن تكلم في الخوارج، وتأوّل فيهم قوله3: {وَمَا يُضِلّ بِهِ إِلاّ الفَاسِقِين الّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ في الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ} 4. إحراق علي لمن ادعى فيه الألوهية وحدث أيضاً طوائف الشيعة الإلهية الغلاة، فرُفع إلى عليّ [رضي الله عنه] 5 منهم طائفة ادّعوا فيه الإلهية، فأمرهم بالرجوع، فأصروا، فأمهلهم ثلاثاً، ثم أمر بأخاديد من نار فخُدّت، وألقاهم فيها؛ فرأى قتلهم بالنار6. اختلاف ابن عباس مع علي في تحريق الزنادقة وأما ابن عباس: فقال7: لو كنت أنا لم أحرّقهم بالنار؛ لنهي [رسول

_ 1 زيادة من ((ط)) . 2 زيادة من ((ط)) . 3 انظر: منهاج السنة النبوية 5250. وتفسير ابن كثير 165. 4 سورة البقرة، الآيتان 26-27. 5 زيادة من ((ط)) . 6 انظر: منهاج السنة النبوية 1306-307،، 261-65،، 3459. وقد قال وقتها: لما رأيت الأمر أمراً منكراً ... أججت ناري ودعوت قنبرا انظر: مجموع الفتاوى 1332-34. وانظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم 547. وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 8169. 7 انظر قوله في: صحيح البخاري 31098،، 62537. ومنهاج السنة النبوية 1307. وسير أعلام النبلاء 3346.

الله] 1 صلى الله عليه وسلم أن يُعذّب بعذاب الله، ولضربت أعناقهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من بدّل دينه فاقتلوه". رواه البخاري2. وأكثر الفقهاء على قول ابن عباس. ابن السوداء وإفساده في الدين وروي أنّه بلغه أنّ ابن السوداء3 يسبّ أبا بكر وعمر [رضي الله عنهما] 4، فطلب قتله، فهرب منه5. فإما قتله على السب، أو لأنّه كان متهماً بالزندقة.

_ 1 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 2 الحديث رواه البخاري 31098، كتاب الجهاد، باب لا يعذب بعذاب الله، 62537، كتاب استتابة المرتدين، باب حكم المرتد والمرتدة. 3 هو عبد الله بن سبأ، رأس الطائفة السبئية، كانت تقول بألوهية علي. أصله من اليمن، وكان يهودياً من يهود صنعاء، أظهر الإسلام، ورحل إلى الحجاز، فالبصرة، فالكوفة، ودخل دمشق في أيام عثمان بن عفان، فأخرجه أهلها، فانصرف إلى مصر، وجهر ببدعته. ومن مذهبه: رجعة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الدنيا، فكان يقول: العجب ممن يزعم أن عيسى يرجع، ويكذب برجوع محمد. ولما بويع علي قام إليه ابن سبأ، فقال له: أنت خلقت الأرض، وبسطت الرزق، فنفاه إلى ساباط المدائن، حيث القرامطة وغلاة الشيعة. عُرف بابن السوداء لسواد أمه. قال ابن حجر: ابن سبأ من غلاة الزنادقة، أحسب أن علياً حرقه بالنار. وقال شيخ الإسلام: إن علياً لما بلغه قول السبئية طلب ابن السوداء الذي بلغه ذلك عنه، وقيل: إنه أراد قتله، فهرب منه إلى أرض قرقيسيا. والسبئية يزعمون أن علياً لم يمت، وأنه يرجع إلى الدنيا، وكذلك الأموات يرجعون إلى الدنيا بزعمهم انظر: مقالات الإسلاميين للأشعري 186. والفرق بين الفرق ص 233-236. والملل والنحل 1174. ومنهاج السنة النبوية 123، 30، 308،، 8479. والبداية والنهاية 4174. ولسان الميزان 3289. 4 زيادة من ((ط)) . 5 انظر: منهاج السنة النبوية 111، 308.

وقيل: إنه هو الذي ابتدع بدعة الرافضة، وأنّه كان قصده إفساد دين الإسلام1. وهذا يستحق القتل باتفاق المسلمين. حكم من سبّ أبابكر وعمر والذين يسبون أبا بكر وعمر [رضي الله عنهما] 2، فيهم [تزندق] 3؛ كالإسماعيلية، والنصيرية؛ فهؤلاء يستحقون القتل بالإتفاق. وفيهم من يعتقد [نبوّة] 4 النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ كالإمامية؛ فهؤلاء في قتلهم نزاعٌ، وتفصيلٌ مذكورٌ في غير هذا الموضع5. وتواتر عن علي بن أبي طالب [رضي الله عنه] 6 أنّه قال: "خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر"7. قدماء الشيعة يفضلون أبا بكر وعمر وهذا متفقٌ عليه بين قدماء الشيعة، وكلّهم كانوا يفضلون أبا بكر وعمر [رضي الله عنهما] 8، وإنّما كان النزاع في علي وعثمان [رضي الله عنهما] 9 حين صار لهذا شيعة، ولهذا شيعة. وأمّا أبو بكر وعمر [رضي الله عنهما] 10: فلم يكن أحدٌ يتشيّع لهما، بل جميع الأمة كانت متفقة عليهما؛ حتى الخوارج فإنّهم يتولونهما، وإنما يتبرءون من علي وعثمان11 [رضي الله عنهما] 12.

_ 1 انظر: الملل والنحل للشهرستاني 1174. ومنهاج السنة النبوية 123، 30، 308، 6361، 7511، 8251، 479. 2 زيادة من ((ط)) . 3 في ((خ)) : تزنديق. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 في ((م)) ، و ((ط)) : بنبوة. 5 انظر هذه المسألة بالتفصيل، مع أدلتها، وأقوال العلماء فيها في: الصارم المسلول على شاتم الرسول ص 566-587. 6 زيادة من ((ط)) . 7 انظر: منهاج السنة النبوية 1308،، 2138. 8 من ((ط)) . 9 من ((ط)) . 10 من ((ط)) . 11 انظر: منهاج السنة النبوية 113،، 7369، 472. 12 من ((ط)) .

وروي1 أنّ معاوية قال: لابن عباس: أنتَ على ملة علي، أم عثمان؟ قال: لا على ملة علي، ولا عثمان، أنا على ملّة رسول الله صلى الله عليه وسلم. اتفاق شيعة علي وشيعة عثمان على تقديم الشيخين وكان كل من الشيعيتن يذمّ الآخر بما برأه الله منه؛ فكان بعض شيعة عثمان يتكلمون في عليّ بالباطل، وبعض شيعة عليّ يتكلمون في عثمان بالباطل. والشيعتان مع سائر الأمة متفقة على تقديم أبي بكر وعمر. قيل لشريك بن عبد الله القاضي2: أنت من شيعة علي، وأنت تفضّل أبا بكر وعمر؟! فقال: كلّ شيعة علي على هذا؛ هو يقول على أعواد هذا المنبر: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر. أفكنّا نكذّبه! والله ما كان كذّاباً3. وقد روى البخاري في صحيحه4 من حديث محمد بن الحنفية، أنّه قال له5: يا أبت من خير الناس بعد رسول الله؟ فقال: يا بني أوما تعرف؟

_ 1 انظر: حلية الأولياء 1329. وسير أعلام النبلاء 3342. 2 هو شريك بن عبد الله بن أبي نمر المدني المحدّث. مات قبل الأربعين ومائة. انظر: سير أعلام النبلاء 6159. وتهذيب التهذيب 4337. 3 انظر: منهاج السنة 113-14؛ حيث ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أنه نقل قول شريك عن عبد الجبار المعتزلي في كتابه تثبيت النبوة. انظر: تثبيت النبوة لعبد الجبار 1549. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وقد روي عن علي من نحو ثمانين وجهاً وأكثر أنه قال على منبر الكوفة: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر". مجموع الفتاوى 4407. 4 صحيح البخاري 31342، كتاب فضائل أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، باب قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لو كنتُ متخذاً خليلاً.. ". 5 أي لعلي رضي الله عنه.

قال: لا. قال: أبو بكر. قال: ثمّ مَنْ؟ قال: ثمّ عمر. وهو مروي من حديث الهمدانيين؛ شيعة علي، عن أبيه. وروي عن علي أنه قال: ولو كنتُ بوّاباً على باب جنّة لقلت لهمدان ادخلي بسلام1. وقد روي عنه2 أنه قال: "لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري". قتل علي لمن اعتقد إلهيته وقد ثبت عن علي رضي الله عنه بالأحاديث الثابتة، بل المتواترة أنه قتل الغالية؛ كالذين يعتقدون إلهيته، بعد أن استتابهم ثلاثاً كسائر المرتدين، وأنّه كان يبالغ في عقوبة من يسبّ أبا بكر وعمر، وأنّه كان يقول إنّهما خير هذه الأمة بعد نبيها. وهذا مبسوط في مواضع3. والمقصود هنا: أن هاتين4 حدثتا في ذلك الوقت5.

_ 1 انظر: منهاج السنة النبوية 6137،، 7511. ومجموع الفتاوى 4407. 2 فضائل الصحابة للإمام أحمد 183. قال المحقق: إسناده ضعيف. وانظر: منهاج السنة 1308،، 6138،، 7511. ومجموع الفتاوى 4407. 3 انظر: منهاج السنة النبوية 1306-308. ومجموع الفتاوى 4406-407. 4 بدعة الخوارج، وبدعة الروافض. 5 انظر: منهاج السنة النبوية 1306-310؛ فقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله فيه موضوعاً مشابهاً لما ذكر هنا حول نشأة الفرق وتطورها في الإسلام. وانظر: مجموع الفتاوى 1331-40، 48-50.

بدعة القدرية حدثت في آخر عهد الصحابة ثمّ في آخر عصر الصحابة: حدثت القدرية، وتكلم فيها من بقي من الصحابة؛ كابن عمر1، وابن عباس2 [وواثلة] 3 بن الأسقع، وغيرهم4. بدعة الإرجاء وحدثت أيضاً بدعة المرجئة في الإيمان. والآثار عن الصحابة ثابتةٌ بمخالفتهم، وأنّهم5 قالوا: الإيمان يزيد وينقص6؛ كما ثبت ذلك عن الصحابة؛ كما هو مذكور في موضعه7. أصول البدع أربعة بدعة الجهمية حدثت في أواخر الدولة الأموية وأما الجهمية نفاة الأسماء والصفات: فإنّما حدثوا في أواخر الدولة الأموية8. وكثيٌر من السلف لم يدخلهم في الثنتين وسبعين فرقة؛ منهم: يوسف بن أسباط، وعبد الله بن المبارك؛ قالوا: أصول البدع أربعة: الخوارج، والشيعة، والقدرية، والمرجئة. فقيل لهم: الجهمية؟ فقالوا: ليس هؤلاء من أمة محمد9.

_ 1 وقول ابن عمر رضي الله عنهما مخرّج في صحيح مسلم 136، كتاب الإيمان، باب الإيمان، والإسلام، والإحسان. وفيه قوله رضي الله عنه لمن نقل له مقولة القدرية، وأنهم يقولون إنّ الأمر أنف: "فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم براء مني. والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أنّ لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه، ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر ... ثمّ ذكر رضي الله عنه حديث جبريل المشهور في بيان الإسلام، والإيمان، والإحسان. 2 انظر قول ابن عباس في كتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد 2125-126. 3 في ((م)) ، و ((ط)) : ووائلة. 4 انظر: مجموع الفتاوى 7384-385. ومنهاج السنة النبوية 1309. 5 أي الصحابة رضي الله عنهم. 6 انظر: كتاب الإيمان لابن أبي شيبة 1-46. وكتاب الإيمان لأبي عبيد. وكتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد. 7 انظر: مجموع الفتاوى 7223-227، 507،، 8450. 8 انظر: منهاج السنة النبوية 1309. 9 سبق تخريجه ص 498. وانظر: رسالة السجزي ص 216. ورسالة إلى أهل الثغر للأشعري ص 308. والإيمان لابن بطة 1380. ودرء تعارض العقل والنقل 7110. والرد على المنطقيين ص 143.

الجهمية ليسوا من الثنتين وسبعين فرقة ولهذا تنازع من بعدهم من أصحاب أحمد، وغيرهم: هل هم من الثنتين وسبعين؟ على قولين؛ ذكرهما عن أصحاب أحمد: أبو عبد الله بن حامد1 في كتابه في الأصول2. الجهمية ينفون الأسماء والصفات والتحقيق: أنّ التجهّم المحض؛ وهو نفي الأسماء والصفات؛ كما يُحكى عن جهم، والغالية من الملاحدة، ونحوهم ممّن نفى أسماء الله الحسنى كفرٌ، بيِّنٌ، مخالفٌ لما علم بالإضطرار من دين الرسول3. المعتزلة ينفون الصفات وأما نفي الصفات، مع إثبات الأسماء؛ كقول المعتزلة4: فهو دون [هذا] 5. لكنّه عظيمٌ أيضاً.

_ 1 هو أبو عبد الله الحسن بن حامد بن علي بن مروان البغدادي. قال عنه ابن أبي يعلى: إمام الحنبلية في زمانه، ومدرسهم، ومفتيهم. له المصنفات في العلوم المختلفات، له الجامع في المذهب نحو من أربعمائة جزء، وله شرح الخرقي، وشرح أصول الدين، وأصول الفقه. توفي سنة 403. انظر: طبقات الحنابلة 2171-177. والبداية والنهاية 11349. 2 لم أقف على هذا الكتاب. وشيخ الإسلام ينقل عنه كثيراً، ويسميه أصول الدين. انظر: درء تعارض العقل والنقل 275. ومجموع الفتاوى 6162، 163) . 3 انظر: الفرق بين الفرق للبغدادي ص211. ومنهاج السنة النبوية 1309-312. والبداية والنهاية 9364. والخطط للمقريزي 2349. وقد تكلم الشيخ رحمه الله عن تنازع الناس في الجهمية: هل هم من الثنتين والسبعين فرقة، أم لا؟. وقد سبق ذكر هذا النص ص 497. انظر: شرح الأصفهانية 2239-240. ومجموع الفتاوى 3350، 354. 4 انظر: الفرق بين الفرق ص 20، 114. والملل والنحل 143. والخطط للمقريزي 2345. والبرهان في عقائد أهل الأديان ص 49. 5 في ((ط)) : ذها.

الأشاعرة يثبتون الصفات العقلية وأما من أثبت الصفات المعلومة بالعقل والسمع، وإنّما نازع في قيام الأمور الاختيارية [به] 1؛ كابن كلاب، ومن اتّبعه2. فهؤلاء ليسوا جهمية، بل وافقوا جهماً في بعض قوله، وإن كانوا خالفوه في بعضه. وهؤلاء من أقرب الطوائف إلى السلف وأهل السنة والحديث. معتقد السالمية والكرامية وكذلك السالمية3، والكرامية، ونحو هؤلاء يوافقون في جملة أقوالهم المشهورة؛ فيثبتون الأسماء والصفات، والقضاء والقدر في الجملة ليسوا من الجهمية، والمعتزلة النفاة للصفات. وهم أيضاً يُخالفون الخوارج،

_ 1 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 2 ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنّ نفاة قيام الأفعال الاختيارية بالله نوعان، فقال رحمه الله: "أحدهما وهم الأصل: المعتزلة ونحوهم من الجهمية. فهؤلاء ينفون الصفات مطلقاً، وحجتهم على نفي قيام الأفعال به من جنس حجتهم على نفي قيام الصفات به. وهم يُسوّون في النفي بين هذا وهذا؛ كما صرّحوا بذلك. وليس لهم حجة تختص بنفس قيام الحوادث...... وأما مثبتة الصفات الذين ينفون الأفعال الاختيارية القائمة به؛ كابن كلاب، والأشعري؛ فإنهم فرقوا بين هذين؛ بأنه لو جاز قيام الحوادث به لم يخل منها؛ لأنّ القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضدّه، وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث. وبهذا استدلوا على حدوث الأجسام؛ لأنها لا تخلو من الأعراض الحادثة؛ كالحركة، والسكون، والاجتماع، والافتراق ... ". ثمّ أجابهم رحمه الله بثلاثة أجوبة. انظر: شرح الأصفهانية - ت السعوي - 2441. وانظر: رسالة السجزي ص 173. ودرء تعارض العقل والنقل 216-18. وجامع الرسائل 27. ومنهاج السنة النبوية 2227-229. 3 السالمية: فرقة من أهل الكلام فيها تصوّف، تنتسب إلى محمد بن سالم، المتوفى سنة 297 ?، وابنه أحمد المتوفى سنة 350 ?. ومن أشهر رجالها: أبو طالب المكي صاحب كتاب قوت القلوب. انظر: المعتمد في أصول الدين ص390. والفرق بين الفرق ص157-202. ودائرة المعارف الإسلامية 1169. وشذرات الذهب 336.

والشيعة؛ فيقولون بإثبات خلافة الأربعة، وتقديم أبي بكر وعمر، ولا يقولون بخلود أحدٍ من أهل القبلة في النّار. الكرامية والكلابية وأكثر الأشعرية: مرجئة لكن الكرامية، والكلابية، وأكثر الأشعرية: مرجئة1، وأقربهم الكلابية؛ يقولون: الإيمان: هو التصديق بالقلب، والقول باللسان، والأعمال ليست منه؛ كما يُحكى هذا عن كثيرٍ من فقهاء الكوفة؛ مثل أبي حنيفة، [وأصحابه] 23. الأشعري وأصحابه يوافقون جهماً في بعض قوله في الإيمان وأما الأشعريّ4: فالمعروف عنه، وعن أصحابه: أنّهم يُوافقون جهماً في قوله في الإيمان، وأنّه مجرّد تصديق القلب، أو معرفة القلب. لكن قد يظهرون مع ذلك قول أهل الحديث، ويتأولونه، ويقولون بالاستثناء على الموافاة؛ فليسوا موافقين لجهم من كلّ وجه، وإن كانوا أقرب الطوائف إليه في الإيمان، وفي القدر أيضاً5؛ فإنه6 رأس الجبرية؛ يقول: ليس للعبد فعل البتة7.

_ 1 انظر: رسالة السجزي ص217. والخطط للمقريزي 2357. وشرح الأصفهانية - ت السعوي - 2587-588. ومجموع الفتاوى 7509، 543، 550. 2 في ((خ)) : أصعا. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 انظر: الفقه الأكبر بشرح ملا علي القاري ص 126. ومجموع الفتاوى 7195، 297، 507. وشرح الأصفهانية ت السعوي 2585-586. 4 انظر: التمهيد للباقلاني ص 388، 389. وأصول الدين للبغدادي ص 252. والمواقف للإيجي ص 388. ومجموع الفتاوى لشيخ الإسلام 7120، 154. 5 انظر: مجموع الفتاوى 8229، 339-340. والتسعينية ص 255-256. 6 أي الجهم. 7 انظر: مقالات الإسلاميين للأشعري 1338. والفرق بين الفرق للبغدادي ص 211. والملل والنحل للشهرستاني 187-88.

كسب الأشعري والأشعريّ يوافقه1 على أنّ العبد ليس بفاعل، ولا له قدرة مؤثرة في الفعل، ولكن يقول: هو كاسب2. جهم يقول بالجبر وجهم لا يثبت له شيئاً، لكن هذا الكسب؛ يقول أكثر الناس: إنّه لا يعقل فرقٌ بين الفعل الذي نفاه، والكسب الذي أثبته. وقالوا: عجائب الكلام ثلاثة: [طفرة] 3 النظّام، وأحوال أبي هاشم، وكسب الأشعري. وأنشدوا4: عجائب الكلام ممّا يُقال ولا حقيقة عنده ... معقولة تدنو إلى الأفهام الكسب5 عند الأشعري والحال6 عنـ ... د [البهشمي] 7 و [طفرة] 8 النظام

_ 1 أي يوافق جهماً. 2 سبق أن أوضحت معنى الكسب ص 558-559. 3 في ((خ)) : ظفرة. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 انظر: منهاج السنة 1459، 2297. وشرح الأصفهانية - ت السعوي - 1149-150. ودرء تعارض العقل والنقل 3444، 8320. وكتاب الصفدية 1151-154. 5 سبق التعريف بالكسب: ص 461-462. 6 الحال في اللغة: نهاية الماضي، وبداية المستقبل. التعريفات للجرجاني ص 110. والأحوال عند من يثبتها: لا موجودة، ولا معدومة، ولا هي أشياء، ولا هي مخلوقة، ولا غير مخلوقة. واشتهر بها أبو هاشم بن الجبائي، وأتباعه البهشمية. انظر: الإرشاد للجويني ص 80. والفرق بين الفرق ص 184، 195-196. والفصل في الملل والأهواء والنحل 549. ونهاية الإقدام ص 131-132. 7 في ((خ)) : النهشمي. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 8 في ((خ)) : ظفرة. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . والطفرة اشتهر بها النظام من المعتزلة. ومعناها عنده: أنّ الجسم قد يكون في مكان، ثم يصير منه إلى المكان الثالث، أو العاشر من غير مرور بالأمكنة المتوسطة بينه وبين العاشر، ومن غير أن يصير معدوماً في الأول، ومعاداً في العاشر. انظر: مقالات الإسلاميين 219. والفرق بين الفرق ص 140. والفصل لابن حزم 564-65. والملل والنحل للشهرستاني 170-71.

قول الكرامية في الإيمان لم يسبقوا إليه وأمّا الكرامية: فلهم في الإيمان قولٌ ما سبقهم إليه أحدٌ؛ قالوا: هو الإقرار باللسان، وإن لم يعتقد بقلبه. وقالوا: المنافق هو مؤمن، ولكنّه مخلّدٌ في النّار. وبعض الناس [يحكي] 1 عنهم: أن المنافق في الجنّة. وهذا غلطٌ عليهم، بل هم يجعلونه مؤمناً، مع كونه مخلّداً في النّار؛ فينازَعون في الاسم، لا في الحكم. منشأ الغلط في أقوال أهل البدع في الإيمان وقد بسط القول2 على منشأ الغلط؛ حيث ظنّوا [أنّ الإيمان] 3 لا يكون إلا شيئاً متماثلاً عند جميع الناس؛ إذا ذهب بعضه، ذهب سائره. قول الخوارج والمعتزلة في الإيمان ثم قالت الخوارج والمعتزلة4: وهو أداء الواجبات، واجتناب المحرمات؛ فاسم المؤمن مثل اسم البرّ، والتقي؛ وهو المستحق للثواب، فإذا ترك بعض [ذلك] 5 زال عنه اسم الإيمان والإسلام. ثم قالت الخوارج: ومن لم يستحق هذا ولا هذا فهو كافرٌ. وقالت المعتزلة: بل ينزل منزلة بين المنزلتين؛ فنسمّيه فاسقاً، لا مسلماً، ولا كافراً، ونقول: إنّه مخلّد في النار. وهذا هو الذي امتازت به المعتزلة، وإلا فسائر بدعهم قد قالها غيرهم؛ فهم وافقوا الخوارج في حكمه، ونازعوهم، ونازعوا غيرهم في الاسم.

_ 1 في ((م)) ، و ((ط)) : يحكى. 2 انظر: منهاج السنة النبوية 3462. ومجموع الفتاوى 7140-141، 404، 509، 511، 514-517. وشرح الأصفهانية - ت السعوي - 2586-587. 3 ما بين المعقوفتين مكرّر في ((خ)) . 4 انظر: مجموع الفتاوى 7222-223، 242، 257، 510، و1348. وشرح الأصفهانية - ت السعوي - 2574، 586-587. 5 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .

قول الجهمية والمرجئة في الإيمان وقالت الجهمية والمرجئة1: بل الأعمال ليست من الإيمان، لكنّه شيئان، أو ثلاثة يتفق فيها جميع الناس: التصديق بالقلب، والقول باللسان، أو المحبة، والخضوع مع ذلك. وقالت الجهمية والأشعرية والكرامية2: بل ليس إلا شيئاً واحداً يتماثل فيه الناس. أصل غلط أهل البدع في الإيمان ظنهم أن الناس يتماثلون فيه وهؤلاء الطوائف أصل غلطهم3: ظنّهم أن الإيمان يتماثل فيه الناس، وأنّه إذا ذهب بعضه، ذهب كلّه. وكلا الأمرين غلطٌ؛ فإن الناس لا يتماثلون؛ لا فيما وجب منه، ولا فيما يقع منهم، بل الإيمان الذي وجب على بعض الناس قد لا يكون مثل الذي يجب على غيره؛ كما كان [الإيمان بمكة لم يكن الواجب منه كالواجب بالمدينة، ولا كان في آخر الأمر كما كان] 4 في أوله. ولا يجب على أهل الضعف والعجز من الإيمان، ما يجب على أهل القوة والقدرة في العقول والأبدان5. بل أهل العلم بالقرآن، والسنّة، ومعاني ذلك يجب عليهم من تفصيل الإيمان ما لا يجب على من لم يعرف ما عرفوا. وأهل الجهاد يجب عليهم من الإيمان في تفصيل الجهاد ما لا يجب على غيرهم. وكذلك ولاة الأمر،

_ 1 انظر: مجموع الفتاوى 7141، 143، 154، 508، 509. وشرح الأصفهانية - ت السعوي - 2574-575. 2 انظر: مجموع الفتاوى 7508-509، 582. 3 وقد استوفى الشيخ رحمه الله الردّ عليهم، وتبيين غلطهم. انظر: مجموع الفتاوى 7511-513. 4 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 5 انظر: مجموع الفتاوى 7519. وشرح الأصفهانية - ت السعوي - 2577-578.

وأهل الأموال يجب على كلٍّ؛ من معرفة ما أمر الله به، ونهى عنه، وأخبر به ما لا يجب على غيره. والإقرار بذلك من الإيمان. ومعلوم أنه وإن كان الناس كلّهم يشتركون في الإقرار بالخالق، وتصديق الرسول جملة، فالتفصيل لا يحصل بالجملة. ومن عرف ذلك مفصلاً، لم يكن ما أُمر به ووجب عليه، مثل من لم يعرف ذلك. الناس غير متماثلين في فعل المأمور وأيضاً: فليس الناس متماثلين في فعل ما أُمروا به؛ من اليقين، والمعرفة، والتوحيد، وحب الله، وخشية الله، والتوكل على الله، والصبر لحكم الله، وغير ذلك مما هو من إيمان القلوب، ولا [من] 1 لوازم ذلك [التي] 2 تظهر على الأبدان. وإذا قُدِّر أنَّ بعض ذلك زال، لم يزل سائره. بل يزيد الإيمان تارة وينقص تارة؛ كما ثبت ذلك عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ مثل عمر بن حبيب الخطمي، وغيره؛ أنهم قالوا: الإيمان يزيد وينقص3؛ كما قد بسط في غير هذا الموضع4. مخالفة أهل البدع لأصول دين الرسول صلى الله عليه وسلم إذ المقصود هنا: أنّ طوائف أهل البدع من أهل الكلام وغيرهم ليس فيهم من يوافق الرسول في أصول دينه لا فيما اشتركوا فيه ولا فيما انفرد به بعضهم. فإنهم وإن اشتركوا في مقالات فليس إجماعهم حجة، ولا هم معصومون من الاجتماع على خطأ.

_ 1 في ((م)) ، و ((ط)) : في. 2 في ((ط)) : الشيء. 3 انظر: طبقات ابن سعد 4381. والمصنف لابن أبي شيبة 1113. والإيمان له ص 7. والسنة لعبد الله بن الإمام أحمد 1315. والشريعة للآجريّ ص 112. وطبقات الحنابلة لابن أبي يعلى 1307. وشرح اعتقاد أهل السنّة للالكائي 577، 721. 4 انظر: مجموع الفتاوى 7223-227.

وقد زعم طائفة1 أنّ إجماع المتكلمين في المسائل الكلامية كإجماع الفقهاء. وهذا غلط، بل السلف قد استفاض عنهم ذم المتكلمين، وذمّ أهل الكلام مطلقاً2. اشتراك أهل البدع في دليل الأعراض ونفس ما اشتركوا فيه؛ من إثبات الصانع بطريقة الأعراض، وأنها لازمة للجسم أو متعاقبة عليه، فلا يخلو منها، وما لم يخل من الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها، وأن الله يمتنع أن يقال إنه لم يزل متكلما بمشيئته بعد أن لم يكن بلا حدوث حادث، وما يتبع هذا هو أصل مبتدع في الإسلام؛ أول ما عرف أنه قاله الجهم بن صفوان مقدّم

_ 1 من هؤلاء الرازي. 2 تقدمت الإشارة إلى ذلك ص 320-324. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن طرق أهل الكلام المبتدعة المذمومة: (ولم تكن هذه الطرق شرعية بل بدعية؛ لأن معرفة الله ورسوله لا تتوقف على هذه المسائل، ولأن كثيراً من النظار اعتقدوا أن هذا من أصول الدين وقواعد الإيمان، فتكلموا في ذلك بالكلام الذي ذمه السلف والأئمة. وهؤلاء هم الجهمية من المعتزلة ومن اتبعهم، وأصل كلامهم أنهم قالوا: لا يعرف صدق الرسول حتى يعرف إثبات الصانع، ولا يعرف إثبات الصانع حتى يعرف حدوث العالم، ولا يعلم حدوث العالم إلا بما به يعلم حدوث الأجسام، ثم استدلوا على حدوث الأجسام بطرق، أحدها: أنه لا يخلو عن الحوادث، وما لم يخل عن الحوادث فهو حادث ... ) . شرح الأصفهانية 1264. وانظر: المصدر نفسه 2328-331. وقال الإمام البربهاري: (واعلم أنها لم تكن زندقة ولا كفر ولا شكوك ولا بدعة ولا ضلالة ولا حيرة في الدين إلا من الكلام وأهل الكلام والجدل والمراء والخصومة والعجب) . شرح السنة ص 48. وانظر: ذم السلف لأهل الكلام في: شرح الأصفهانية 2318. ودرء تعارض العقل والنقل 1232.

الجهمية1، وأبو الهذيل العلاف مقدّم المعتزلة2. اللوازم التي التزمها أصحاب الدليل ولهذا طرداه3؛ فقالا بامتناع الحوادث في المستقبل، وقال الجهم بفناء الجنة والنار. وقال أبو الهذيل بانقطاع حركاتهما؛ كما قد بسط فروع هذا الأصل الذي اشتركوا فيه4. الجهمية والمعتزلة نفوا لأجله الصفات وقالوا بخلق القرآن ثم افترقوا بعد ذلك في فروعه؛ فأئمتهم كانوا يقولون كلام الله؛ القرآن وغيره مخلوقٌ، وكذلك سائر ما يوصف به الرب ليس له صفة قامت به؛ لأن ذلك عرض عندهم لا يقوم إلا بجسم، والجسم حادث5؛ فقالوا: القرآن وغيره من كلام الله مخلوقٌ، وكذلك سائر ما يوصف به الربّ6.

_ 1 انظر: رسالة إلى أهل الثغر لأبي الحسن الأشعريّ ص 185. والفرقان بين الحق والباطل لابن تيمية ص 96. ومجموع الفتاوى له 13147. وشرح الأصفهانية 2328-330، 340. 2 انظر: شرح الأصول الخمسة لعبد الجبار ص 95. وأبو الهذيل العلاف لعلي مصطفى الغرابي ص 52. وعلم الكلام للدكتور أحمد محمود صبحي 1339 القسم الخاصّ بالمعتزلة. ومذاهب الإسلاميين لعبد الرحمن بدوي الجزء الأول الخاص بالمعتزلة والأشاعرة ص 397. 3 أي طردا أصلهما: امتناع حوادث لا أول لها. 4 انظر: من كتب ابن تيمية: شرح حديث النزول ص 162. ومجموع الفتاوى 3304-305. ودرء تعارض العقل والنقل 139. والفتاوى المصرية 1135. ومنهاج السنة النبوية 1157. 5 انظر: الانتصار والردّ على ابن الراوندي للخياط ص 111، 170-171. وشرح الأصول الخمسة لعبد الجبار ص 200-201. ومنهاج السنة النبوية لابن تيمية 3361. ودرء تعارض العقل والنقل له 211. والإرادة والأمر له - ضمن مجموعة الرسائل الكبرى - 1383-384. 6 انظر: الكشّاف للزمخشري 288،، 3411. والمغني في أبواب العدل والتوحيد لعبد الجبار 784، 94. وشرح الأصول الخمسة له ص 528. والمحيط بالتكليف له ص 32، 107، 155، 316، 331، 333. ومتشابه القرآن له 1545. ومقالات الإسلاميين للأشعري 1244-245. والفرق بين الفرق للبغدادي ص 114. والتبصير في الدين للاسفراييني ص 64. والمنية والأمل لابن المرتضى المعتزلي ص 6. والملل والنحل للشهرستاني ص 44. واعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازي ص 33. وانظر: من كتب ابن تيمية: تفسير سورة الإخلاص ص 151-152. ومنهاج السنة النبوية 2107. ومجموع الفتاوى 12315-316.

فجاء بعدهم؛ مثل ابن كلاب، وابن كرّام، والأشعريّ، وغيرهم مَنْ شاركهم في أصل قولهم1، لكن قالوا بثبوت الصفات لله، وأنّها قديمة2. قول الأشعري الصفات لا تسمى أعراضاً لكن منهم3 من قال: لا تُسمّى أعراضاً؛ لأنّ العرض لا يبقى زمانين، وصفات الرب باقية؛ كما يقوله الأشعري وغيره4.

_ 1 في امتناع حوادث لا أول لها. 2 انظر: الفتاوى المصرية لابن تيمية 6442-443. ومجموع الفتاوى 636. ودرء تعارض العقل والنقل 26-12،، 5245-246،، 7147-148. ومنهاج السنة النبوية 1312. والفرقان بين الحق والباطل ص 86، 100. 3 وهم الأشاعرة. وقد نقل الإيجي والرازي اتفاقهم على ذلك. انظر: المواقف في علم الكلام للإيجي ص 101. ومحصّل أفكار المتقدمين والمتأخرين للرازي ص 265. 4 وانظر: من كتب الأشاعرة: اللمع لأبي الحسن الأشعريّ ص 22-23. والتمهيد للباقلاني ص 38. والإنصاف له ص 27-28. وأصول الدين للبغدادي ص 50-52. والشامل في أصول الدين للجويني ص 167.

ومنهم1 من قال: تُسمّى أعراضاً، وهي قديمة، وليس كلّ عرضٍ حادثاً؛ كابن كرّام، وغيره2. قول ابن كلاب في كلام الله ثمّ افترقوا في القرآن3، وغيره من كلام الله؛ فقال ابن كلاب ومن اتبعه: [هو] 4 صفة من الصفات، قديمةٌ كسائر الصفات5. ثم قال: ولا يجوز أن يكون صوتاً؛ لأنه لا يبقى، ولا معاني متعددة؛ فإنها إن كان لها عدد مقدّر فليس قدر بأولى من قدر، وإن كانت غير متناهية، لزم ثبوت معان في آن واحد لا نهاية لها. وهذا ممتنع6. فقال: إنّه معنى واحد، هو معنى آية الكرسي، وآية الدَّيْن، والتوارة، والإنجيل7. وقال جمهور العقلاء: إنّ تصوّر هذا القول تصوراً تاماً يُوجب العلم بفساده.

_ 1 وهم المشبّهة؛ كالكرامية، ونحوهم. 2 انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 636. والفرقان بين الحق والباطل له ص 100. 3 وأقوالهم الفاسدة في القرآن الكريم ناجمة عن أصلهم الجهميّ الفاسد: (ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث) ، وقولهم بامتناع حوادث لا أول لها. وقد أشار إلى ذلك شيخ الإسلام رحمه الله في درء تعارض العقل والنقل 1306؛ فقال بعد أن ذكر مذاهب المبتدعة؛ من معطلة ومشبهة في صفات الله تعالى، واستنادهم فيها إلى دليل الأعراض وحدوث الأجسام: "وعن هذه الحجة ونحوها نشأ القول بأنّ القرآن مخلوق، وأنّ الله تعالى لا يُرى في الآخرة، وأنّه ليس فوق العرش، ونحو ذلك من مقالات الجهميّة النفاة؛ لأنّ القرآن كلام، وهو صفة من الصفات، والصفات عندهم لا تقوم به. وأيضاً فالكلام يستلزم فعل المتكلّم، وعندهم لا يجوز قيام فعل به....". 4 في ((ط)) : فهو. 5 انظر: شرح حديث النزول لابن تيمية ص 169-170. ودرء تعارض العقل والنقل له 218. 6 انظر: ما نقله عنه أبو الحسن الأشعري في مقالات الإسلاميين 2257-258. 7 وانظر: الكيلانية لابن تيمية ضمن مجموع الفتاوى 12376. والفتاوى المصرية له 515.

قول السالمية في كلام الله وقال طائفة1: بل كلامه قديم العين، وهو حروفٌ، أو حروفٌ وأصواتٌ قديمةٌ أزليّةٌ، مع أنّها مترتّبة في نفسها، وأنّ تلك الحروف والأصوات باقيةٌ أزلاً وأبداً2. وجمهور العقلاء يقولون إنّ فساد هذا معلومٌ بالضرورة. وهاتان الطائفتان3 [تقولان] 4 إنّه لا يتكلم بمشيئته وقدرته. قول الهشامية والكرامية في كلام الله وقال آخرون؛ كالهشاميّة والكراميّة: بل هو متكلم بمشيئته وقدرته، وكلامه قائم بذاته، ولا يمتنع قيام الحوادث به، لكن يمتنع أن يكون لم يزل متكلماً؛ فإنّ ذلك يستلزم وجود حوادث لا أوّل لها وهو ممتنع5. فهذه الأربعة في القرآن وكلام الله هي أقوال المشركين في امتناع دوام كون الرب فعّالاً بمشيئته، أو متكلّماً بمشيئته.

_ 1 وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله (في مجموع الفتاوى 12166) أنّ هذا القول: "قول طوائف من أهل الكلام والحديث؛ من السالمية، وغيرهم؛ يقولون: إنّ كلام الله حروف وأصوات قديمة أزليّة، ولها مع ذلك معان تقوم بذات المتكلّم. وهؤلاء يوافقون الأشعرية والكلابية في أنّ تكليم الله لعباده ليس إلا مجرّد خلق إدراك للمتكلم، ليس هو أمراً منفصلاً عن المستمع". وانظر: زيادة إيضاح من كلام شيخ الإسلام لهذا القول في شرح الأصفهانية 2331، 333، 338، 341. وانظر: ما سبق ص 317. 2 انظر: شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العزّ 1173. وقد ذكر شارح الطحاوية تسعة أقوال للناس في صفة الكلام؛ فراجعها في 1172 وما بعدها. 3 الكلابيّة الذين يُنكرون أن يكون حرفاً وصوتاً. والسالمية التي تزعم أنّ كلام الله حروف وأصوات باقية أزلاً وأبداً. 4 في ((خ)) : يقولان. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 6524. والفرقان بين الحق والباطل له ص 100. وقاعدة نافعة في صفة الكلام له - ضمن مجموعة الرسائل المنيرية - 275. ورسالة في العقل والروح له - ضمن مجموعة الرسائل المنيرية - 232-33.

قول أئمة السنة والحديث في كلام الله تعالى وأمّا أئمة السنة والحديث؛ كعبد الله بن المبارك، وأحمد بن حنبل1، وغيرهما2؛ فقالوا: لم يزل الربّ متكلماً إذا شاء وكيف شاء؛ [فذكروا] 3 أنّه يتكلم بمشيئته وقدرته، وأنّه لم يزل كذلك4. المتكلمون مخالفون للكتاب والسنة وهذا يناقض الأصل5 الذي اشترك فيه المتكلمون؛ من الجهميّة، والمعتزلة، ومن تلقى عنهم؛ فلا هم موافقون للكتاب والسنة وكلام السلف؛ لا فيما اتفقوا عليه، ولا فيما تنازعوا فيه، ولهذا يوجد في عامّة أصول الدين لكل منهم قول، وليس في أقوالهم ما يوافق الكتاب والسنة؛ كأقوالهم في كلام الله، وأقوالهم في إرادته ومشيئته، وفي علمه، وفي قدرته، وفي غير ذلك من صفاته6. وإن كان بعضهم أقرب إلى السنة والسلف من بعض.

_ 1 انظر: كلام الإمام أحمد بن حنبل في الرد على الجهمية والزنادقة له ص131. ونقله عنه العلامة ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية ص 213. وانظر: أيضاً: كتاب المحنة لحنبل بن إسحاق ص 45، 68. 2 وانظر كتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل ص 21-42؛ حيث ذكر نقولاً كثيرة عن أئمة أهل السنّة والحديث في كلام الله عزّ وجلّ. 3 في ((ط)) فقط: فكذروا. 4 انظر تفصيل معتقدهم في صفة الكلام في كتب ابن تيمية الآتية: الإيمان ص 162. ودرء تعارض العقل والنقل 2329،، 10222. والاستقامة 1311. ومجموع الفتاوى6533. والتسعينيّة ص131-138، 176-188. 236-238. وشرح الأصفهانية 1200-201، 2341. 5 وهو امتناع حوادث لا أول لها. وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث. 6 ومن يُقلّب كتب المعتزلة، والأشاعرة، والماتريدية، يجد البون الشاسع والفرق الكبير بين أقوال متبعي هذه المذاهب في قضيّة استندوا فيها جميعاً إلى أصل جهميّ واحد، وانطلقوا من منطلق واحد؛ فبنوا عليه أقوالهم التي ينطح بعضها بعضاً، وينقض أوّلها آخرها.

المتكلمون في مسألة القرآن لا يعرفون قول أهل السنة ولكن قد شاع ذلك بين أهل العلم والدين منهم؛ فكثيرٌ من أهل العلم والدين المنتسبين إلى السنّة والجماعة من قد يوافقهم على بعض أقوالهم في مسألة القرآن، أو غيرها؛ إذ كان لا يعرف إلا ذلك القول، أو ما هو أبعد عن السنة منه؛ إذ كانوا في كتبهم لا يحكون غير ذلك؛ إذ كانوا لا يعرفون السنّة، وأقوال الصحابة، وما دلّ عليه الكتاب والسنة. لا يعرفون [إلاّ قولهم] 1، وقول من يخالفهم من أهل الكلام، ويظنّون أنّه ليس للأمة إلا هذان القولان، أو الثلاثة. المتكلمون يعتمدون على القياس العقلي وعلى الإجماع وهم يعتمدون في السمعيات على ما يظنّونه من الإجماع، وليس لهم معرفة بالكتاب والسنّة، بل يعتمدون على القياس العقلي2؛ الذي هو أصل كلامهم، وعلى الإجماع.

_ 1 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 2 وهو القياس الذي يستعمله أهل الكلام في حقّ الله تعالى. وهو نوعان: "قياس شمول منطقيّ تستوي أفراده في الحكم، وقياس تمثيل يستوي فيه الأصل والفرع. وكلا النوعين لا يُستعملان في حقّ الله تعالى؛ فإنّه سبحانه لا مِثل له، وإنّما يُستعمل في حقّه من هذا وهذا قياس الأولى؛ مثل أن يُقال: كلّ نقصٍ يُنزّه عنه مخلوق من المخلوقات، فالخالق تعالى أولى بتنزيهه عنه، وكلّ كمال مطلق ثبت لموجود من الموجودات، فالخالق تعالى أولى بثبوت الكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه..". درء تعارض العقل والنقل 7362. وانظر: من كتب ابن تيمية: المصدر نفسه 129-30، 6181، 7154، 322-327، 362-364. ومجموع الفتاوى 3297، 302، 321،، 5201، 250، 919-20، 12344، 347-350، 356، 16357، 358، 360، 446. ومنهاج السنة النبوية 1371، 417. والرسالة التدمرية ص 50، 151. وكتاب الصفدية 225، 27. والرد على المنطقيين ص 115-116، 118، 119، 120-123. ونقض تلبيس الجهمية - مخطوط - ق 225. وشرح الأصفهانية 2342، 344.

إجماع المتكلمين إنما هو على ما ابتدعه رأس من رؤوسهم وأصل كلامهم العقلي باطل، والإجماع الذي يظنونه إنما هو إجماعهم، وإجماع نظرائهم من أهل الكلام، ليس هو إجماع أمة محمد، ولا علمائها. والله تعالى إنّما جعل العصمة للمؤمنين [من] 1 أمة محمد؛ فهم الذين لا يجتمعون على ضلالة ولا خطأ؛ كما ذكر على ذلك الدلائل الكثيرة2. وكلّ ما اجتمعوا عليه فهو مأثور عن الرسول؛ فإنّ الرسول بيَّن الدين كلّه، وهم [معصومون] 3 أن يُخطئوا كلّهم، ويضلّوا عمّا جاء به محمد. بل هم يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر؛ فلا يبقى معروفٌ إلا أمروا به، ولا منكر إلا نهوا عنه. وهم أمّة وسط، عدل، خيار، شهداء الله في الأرض؛ فلا يشهدون إلا بحقّ؛ فإجماعهم هو على علم موروث عن الرسول، جاء من عند الله، وذلك لا يكون إلا حقّاً. وأمّا من كان إجماعهم على ما ابتدعه رأس من رؤوسهم4؛ فيجوز أن يكون إجماعهم خطأ؛ إذ ليسوا هم المؤمنين، ولا أمة محمد، وإنما هم فرقة منهم.

_ 1 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 2 من الأدلة على الإجماع من القرآن الكريم: قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} . [النساء 115] . وكذلك قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} . [البقرة 143] . وانظر: كلام شيخ الإسلام رحمه الله عن الإجماع في: مجموع الفتاوى 19173-202، 2010-11، 247-248. 3 في ((ط)) : معصومن. 4 وهم فرق المبتدعة يُجمعون على ما ابتدعه جهم بن صفوان الراسبي.

وإذا قيل: المعتبر من أمة محمد بعلمائها. قيل: إذا اتفقت علماؤها على شيء، فالباقون يُسلمون لهم ما اتفقوا عليه، لا يُنازعونهم فيه؛ فصار هذا إجماعاً من المؤمنين. ومن نازعهم بعلم فهذا لا يثبت الإجماع دونه كائناً من كان. أمّا من ليس من أهل العلم فيما تكلموا فيه، فذاك وجوده كعدمه. المجتهدون الذين يعتبر بقولهم وقول من قال: الاعتبار بالمجتهدين دون غيرهم، وأنّه لا يُعتبر بخلاف أهل الحديث، أو أهل الأصول، ونحوهم: كلامٌ لا حقيقة له؛ فإنّ المجتهدين إنْ أُريد بهم من له قدرة على معرفة جميع الأحكام بأدلّتها، فليس في الأمة من هو كذلك، بل أفضل الأمة كان يتعلم ممن هو دونه شيئاً من السنّة ليس عنده. وإن عنى به من يقدر على معرفة الاستدلال على الأحكام في الجملة، فهذا موجودٌ في كثيرٍ من أهل الحديث، والأصول، والكلام. وإن كان بعض الفقهاء أمهر منهم بكثير من الفروع، أو بأدلتها الخاصّة، أو بنقل الأقوال فيها؛ فقد يكون أمهر منه في معرفة أعيان الأدلة؛ كالأحاديث، والفرق بين صحيحها وضعيفها، ودلالات الألفاظ عليها، والتمييز بين ما هو دليل شرعيّ، وما ليس بدليل. وبالجملة: العصمة إنّما هي للمؤمنين لأمة محمد، لا لبعضهم. لكن إذا اتفق علماؤهم على شيء، فسائرهم موافقون للعلماء. وإذا تنازعوا ولو كان المنازع واحداً، وجب ردّ ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول. وما أحد شذّ بقول فاسد عن الجمهور، إلا وفي الكتاب والسنة ما يُبيِّن فساد قوله، وإن كان القائل كثيراً؛ كقول [سعيد] 1 في أن المطلقة ثلاثاً تباح بالعقد2.

_ 1 في ((خ)) : سعد. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . وهو سعيد بن المسيب رحمه الله. 2 انظر: قوله في المغني لابن قدامة 10548-549.

من شذ بقول فاسد عن الجمهور ففي الكتاب والسنة ما يبين فساد قولهم فحديث عائشة في الصحيحين يدل على خلافه1، مع دلالة القرآن أيضاً2. وكذلك غيره. القول الذي يدل عليه الكتاب والسنة غير شاذ وإن كان القائل به واحداً وأما القول الذي يدلّ عليه الكتاب والسنة، فلا يكون شاذّاً وإن كان القائل به أقل من القائل بذاك القول، فلا عبرة بكثرة القائل باتفاق الناس. ولهذا كان السلف؛ من الصحابة، والتابعين لهم بإحسان يردّون على من أخطأ بالكتاب والسنة، لا يحتجون بالإجماع إلا علامة. العلامات والدلائل التي يبين بها المرسل الرسول وقد يبعث معه نشّابه3، أو سيفه، أو شيئاً من السلاح المختص به، أو يُركِبَه دابّته المختصة به، ونحو ذلك مما يعلم الناس أنّه قصد به تخصيصه، وإن كانت تلك الأفعال [تفعل] 4 مع أمثاله، وقد يُفعل لغير الرسول ممن

_ 1 فعن عروة بن الزبير أنّ عائشة أخبرته أنّ امرأة رفاعة القرظي جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! إنّ رفاعة طلقني فبتّ طلاقي. وإنّي نكحت بعده إلى عبد الرحمن بن الزبير القرظي، وإنما معه مثل الهدبة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعلّك تُريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته" الحديث. رواه البخاري في صحيحه 52014، كتاب الطلاق، باب من أجاز طلاق الثلاث. ومسلم في صحيحه 21055، كتاب النكاح، باب لا تحلّ المطلقة ثلاثاً لمطلقها، حتى تنكح زوجاً غيره، ويطأها، ثم يفارقها وتنقضي عدتها. وموضع الشاهد: قول امرأة رفاعة: فبتّ طلاقي: أي طلّقها ثلاثاً. وقد أجاز النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا الطلاق، ولكنّه لم يردّها إلى زوجها الأوّل الذي طلقها ثلاثاً بمجرّد العقد على زوجٍ غيره، بل اشترط أن يطأها زوجها الجديد، فتذوق عسيلته، ويذوق عسيلتها. 2 قال تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} ... إلى قوله {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا..} . [البقرة، 229-231] . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ..} . [الطلاق، 1] . 3 النُّشَّاب: النَّبل. واحدته نُشّابة. ويُطلق كذلك على السهام. انظر: لسان العرب 1757. وتهذيب اللغة 11379-380. 4 في ((خ)) ، و ((م)) ، و ((ط)) : يفعل. ولعل الصواب ما أثبته.

يقصد إكرامه وتشريفه، لكن هي خارقة لعادته؛ بمعنى أنه لم يعتد أن يفعل ذلك مع عموم الناس، ولا يفعله إلا مع من ميّزه بولاية، أو رسالة، أو وكالة. والولاية والوكالة [تتضمن] 1 الرسالة. فكلّ من هؤلاء هو في معنى رسوله إلى من ولاّه؛ إني قد ولّيته، وإلى من أرسله بأني أرسلته. فهذه عادة معروفة في العلامات، والدلائل التي يبيِّن بها المرسِل أنّ هذا رسولي وجنس خرق العادة لا يستلزم الإكرام، بل [يَخْرِق] 2 عادته بالإهانة تارة، وبالإكرام أخرى؛ فقد يخرج ويركب في وقت لم تجر عادته به، بل لعقوبة قومٍ. وآيات الربّ - تعالى - قد [تكون] 3 تخويفاً لعباده؛ كما قال: {وَمَا نُرْسِلُ [بِالآيَاتِ] 4 إِلاَّ تَخْوِيفَا} 5، وقد يُهلك بها؛ كما أهلك أمماً مكذبين، وإذا قصّ قصصهم قال: {إنّ في ذلك لآيات} 6، وكان إهلاكهم خرقاً للعادة

_ 1 في ((خ)) : يتضمن. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 في ((م)) ، و ((ط)) : تُخرق. 3 في ((خ)) : يكون. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 5 سورة الإسراء، الآية 59. 6 وهذا كثيرٌ في القرآن الكريم. ومن أمثلة ذلك: 1- قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} . [سورة يونس، الآية 67] ، [سورة الروم، الآية 23] . 2- وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} . [سورة الرعد، الآية 3] ، [سورة الروم، الآية 10] ، [سورة الزمر، الآية 42] . 3- وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} . [سورة الرعد، الآية 4] ، [سورة الروم، الآية 24] . 4- وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} . [سورة إبراهيم، الآية 5] ، [سورة سبأ، الآية 19] . 5- وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهَى} . [سورة طه، الآية 54، 128] . 6- وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيات وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} . [سورة المؤمنون، الآية 30] . 7- وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . [سورة الزمر، الآية 52] ، [سورة الروم، الآية 37] . 8- وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ} . [سورة الروم، الآية 22] . 9- وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ} . [سورة السجدة، الآية 26] .

دلّ بها على أنّه عاقبهم بذنوبهم، وتكذيبهم للرسل، وأنّ ما فعلوه من الذنوب مما يُنهى عنه، ويُعاقب فاعله بمثل تلك العقوبة. فهذه خرق عادات لإهانة قوم وعقوبتهم لما فعلوه من الذنوب [تجري] 1 مجرى قوله: عاقبتهم لأنّهم كذبوا رسولي وعصوه. ولهذا يقول سبحانه كلّما قصّ قصة من كذّب رسله، وعقوبته إياهم؛ يقول: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُر وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ للذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِر} 2؛ كما يقول في موضع آخر: {إِنَّ في ذَلكَ لآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} 3، و {إِنَّ في ذَلك لآيَة وَمَا كَان أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} 4، و {تَرَكْنَا فِيهَا آيَة للَّذِينَ يَخَافُونَ العَذَابَ الألِيم} 5. وإذا كانت تلك العلامات مما جرت عادته أنه يفعلها مع من أرسله، ويُهلك بها من كذّب رسله، كانت أبلغ في الدلالة، وكانت معتادة في هذا النوع.

_ 1 في ((خ)) : يجري. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 سورة القمر، الآيات 16-17، 21-22. 3 سورة المؤمنون، الآية 30. 4 سورة الشعراء، الآية 8. 5 سورة الذاريات، الآية 27.

تقسيم الباقلاني للعادات إلى عامة وخاصة وهؤلاء1 تكلّموا بلفظ لم يحققوا معناه؛ وهو لفظة خرق العادة، وقالوا: العادات تنقسم إلى عامّة، وخاصّة؛ فمنها ما يشترك فيه جميع الناس، في جميع الأعصار؛ كالأكل، والشرب، واتقاء الحر والبرد. والخاصّ منها ما يكون كعادة للملائكة فقط، أو للجنّ فقط، أو للإنس دون غيرهم2. قالوا: ولهذا صحّ أن يكون لكلّ قبيلٍ منهم ضرب من التحدّي، وخرق لما هو عادة لهم دون غيرهم، وحجّة عليهم دون ما سواهم3. ومنها ما يكون عادة لبعض البشر؛ نحو اعتياد بعضهم صناعة، أو تجارة، أو رياضة في ركوب الخيل، والعمل بالسلاح4. لكن هذه كلّها مقدورات للبشر. قالوا: وآية الرسل لا تكون مقدورة لمخلوق، بل لا تكون إلا مما ينفرد الله بالقدرة عليه5. فإذا قالوا هذا، ظنّ الظانّ أنّهم اشترطوا أمراً عظيماً. قول الأشاعرة: المعجز: الإقدار على الفعل لا نفس الفعل ولم يشترطوا شيئا؛ فإنهم قالوا6 في جنس الأفعال التي لا [يقدر] 7 النّاس إلاَّ على اليسير منها؛ كحمل الجبال، ونقلها: إنّ المعجزة هنا إقدارهم على الفعل، لا نفس الفعل. ورجّحوا هذا على قول من يقول: نفس الفعل آية؛ لأنّ جنس الفعل مقدورٌ.

_ 1 يعني الأشاعرة. 2 انظر: البيان للباقلاني ص 52-53. 3 انظر: البيان للباقلاني ص 53. 4 انظر: البيان للباقلاني ص 54. 5 انظر: البيان للباقلاني ص 54. 6 انظر: البيان للباقلاني ص 61، 72. 7 في ((م)) ، و ((ط)) : تقدر.

نقد شرطهم وليس هذا بفرق طائل؛ فإنّه لا فرق بين تخصيصهم بالفعل، أو بالقدرة عليه. فإذا كان إقدارهم على الكثير الذي لم تجر به العادة معجزة، كان نفس الكثير الذي لم تجر به العادة معجزة. الأشاعرة أثبتوا للعبد قدرة غير مؤثرة وهؤلاء عندهم أنّ قدرة العباد لا تؤثّر في وجود شيء، ولا يكون مقدورها إلا في محلها1؛ فهم في الحقيقة لم يثبتوا قدرة؛ فكل ما في الوجود هو مقدور لله عندهم. الجويني والرازي تركا هذا الشرط في المعجزة ولهذا عدل أبو المعالي، ومن اتبعه؛ كالرازي عن هذا الفرق2، فلم يشترطوا أن يكون ممّا ينفرد الرب بالقدرة عليه؛ إذ كانت جميع الحوادث عندهم كذلك. وقالوا3: إنّ ما يحصل على يد الساحر، والكاهن، وعامل الطلسمات، وعند الطبيعة الغريبة، هو ممّا ينفرد الرب بالقدرة عليه، ويكون آية للنبيّ. وهذا معتاد لغير الأنبياء، فلم يبق لقولهم خرقٌ [للعادة] 4 معنى معقول. قول الباقلاني: خرق العادة يكون لجميع الذين تحداهم الرسول بل قالوا - واللفظ للقاضي أبي بكر5: الواجب على هذا الأصل أن يكون خرق العادة الذي يفعله الله مما يخرق جميع القبيل الذين تحدّاهم الرسول بمثله، ويحتجّ به على نبوته؛ فإن أرسل ملكاً إلى الملائكة، أظهر

_ 1 انظر: الملل والنحل للشهرستاني 197. ويُشير بذلك إلى ما عُرف ب (كسب الأشعري) . وقد تقدم بيان معناه ص 558، 697. 2 يقصد ما تقدم ص 251-254 من هذا الكتاب. 3 انظر: البيان للباقلاني ص 91. والإرشاد ص 319. 4 في ((خ)) : العادة. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 الباقلاني.

على يده ما هو خرق لعادتهم؛ وإن أرسل بشراً، أرسله بما يخرق عادة البشر؛ وإن أرسل جنيّاً، أظهر على يديه ما هو خارق لعادة الجن1. مناقشة الأشاعرة في شروطهم التي اشترطوها للمعجزة فيُقال: السّحر، والكهانة معتادٌ للبشر. وأنتم تقولون2: يجوز أن يكون ما يأتي به الساحر، والكاهن [آية] 3، بشرط أن لا يمكن معارضته. فلم يبق لكونه خارقاً للعادة معنى يعقل عندكم. لهذا قال محققوهم4: [إنّه] 5 لا يُشترط في الآيات أن تكون خارقة للعادة؛ كما قد حكينا لفظهم في غير هذا الموضع؛ كما تقدم6، وإنّما الشرط: أنها لا تعارض، وأن تقترن بدعوى النبوة7؛ هذان الشرطان هما المعتبران. وقد بيّنا في غير موضع أنّ كلاً من الشرطين باطلٌ. والأول: يقتضي أن يكون المدلول عليه جزءاً من الدليل. وآيات النبوة أنواع متعددة؛ منها ما يكون قبل وجوده؛ ومنها ما يكون بعد موته؛ ومنها ما يكون في غيبته8. والمقصود هنا كان: هو الكلام على المثال الذي ذكروه، وأنّ ما ضرب من الأمثلة على الوجه الصحيح، فإنّه - ولله الحمد - يدلّ على صدق الرسول، وعلى فساد أصولهم.

_ 1 انظر: البيان للباقلاني ص 55. 2 انظر: البيان للباقلاني ص 94، 95. والإرشاد للجويني ص 327-328. 3 رسمت في ((خ)) : انه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 انظر: البيان للباقلاني ص 47-48. والإرشاد للجويني ص 309. 5 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 6 تقدم هذا في ص 659-660 من هذا الكتاب. 7 انظر: البيان للباقلاني ص 47-48، 194. والإرشاد للجويني ص 320-321. 8 انظر: الجواب الصحيح 6380.

طريق الضرورة لإثبات النبوة ولكن هم ضربوا مثالاً، إذا اعتبر على الوجه الصحيح كان حجةً - ولله الحمد - على صدق النبيّ، وعلى فساد ما ذكروه في المعجزات حيث قالوا1: هي الفعل الخارق للعادة، المقترن بدعوى النبوة والاستدلال به، وتحدّي النبيّ من دعاهم أن يأتوا بمثله. وشَرَطَ بعضهم2 أن يكون مما ينفرد الرب بالقدرة عليه. تعريف المعجزة عند الأشاعرة وشروطها وهذه الأربعة هي التي شَرَطَ القاضي أبو بكر3، ومن سلك مسلكه؛ كابن اللبان4، وابن شاذان5، والقاضي أبي يعلى6، وغيرهم7: أن يكون ممّا ينفرد الرب بالقدرة عليه على أحد القولين، أو منه ومن الجنس الآخر، إذا وقع على وجه يخرق العادة، وطريق متعذر على غيرهم مثله - على القول الآخر. قالوا وهذا لفظ [القاضي] 8 أبي بكر.

_ 1 انظر: البيان للباقلاني ص 16، 94. وأصول الدين للبغدادي ص 170-171. والمواقف للإيجي ص 339-340. والمقاصد مع شرحها للتفتازاني 511. وانظر: الجواب الصحيح 6497. 2 انظر: البيان للباقلاني ص 45. 3 انظر: البيان للباقلاني ص 45. 4 هو عليّ بن محمد بن نصر الدينوري، أبو الحسن، ابن اللبّان. إمام، محدّث، حافظ. توفي سنة ثمانٍ وستين وأربع مائة. انظر: سير أعلام النبلاء 18369-370. 5 هو الحسن بن أبي بكر؛ أحمد بن إبراهيم بن الحسن بن محمد بن شاذان. أبو علي البغدادي البزّاز الأصوليّ. إمام، فاضل، مسند العراق. توفي في آخر يوم من سنة 425 ?، ودفن في أول يوم من سنة 426 ?. انظر: سير أعلام النبلاء 17415-418. وشذرات الذهب 3228-229. 6 سبقت ترجمته. 7 وانظر: أيضاً في أقوال هؤلاء في إثبات النبوة: الجواب الصحيح 6397-398. 8 ما بين المعقوفتين مكرّر في ((خ)) .

والثاني: أن يكون ذلك الشيء الذي يظهر على أيديهم مما يخرق العادة، وينقضها. ومتى لم يكن كذلك، لم يكن معجزاً. والثالث: أن يكون غير النبي ممنوعاً من إظهار ذلك على يده، على الوجه الذي ظهر عليه، ودعا إلى معارضته، مع كونه خارقاً للعادة. والرابع: أن يكون واقعاً مفعولاً عند تحدي الرسول بمثله، وادعائه آيةً لنبوّته، وتقريعه بالعجز عنه من خالفه وكذّبه. قالوا: فهذه هي الشرائط، والأوصاف التي تختص بها المعجزات1. مناقشة شيخ الإسلام للأشاعرة في الشروط التي اشترطوها في المعجزة فيقال لهم: الشرط الأول قد عرف أنّه لا حقيقة له، ولهذا [أعرض] 2 عنه أكثرهم3. والثاني أيضاً لا حقيقة له؛ فإنهم لم يميزوا ما يخرق العادة ممّا لا يخرقها. ولهذا ذهب من ذهب من محققيهم إلى إلغاء هذا الشرط؛ فهم لا يعتبرون خرق عادة جميع البشر، بل ما اعتاده السحرة، والكهان، وأهل الطلاسم عندهم، يجوز أن يكون آية إذا لم يُعارض4. وما اعتاده أهل صناعة، أو علم، أو شجاعة ليس هو عندهم آية، وإن لم يعارض. فالأمور العجيبة التي خص الله بالإقدار عليها بعض الناس، لم يجعلوها خرق عادة. والأمور المحرمة، أو هي كفرٌ؛ كالسحر، والكهانة، والطلسمات: جعلوها خرق عادة، وجعلوها آية، بشرط أن لا يعارض. وهو الشرط الثالث، وهو في الحقيقة خاصة المعجزة عندهم.

_ 1 انظر: البيان للباقلاني ص 45-46. 2 في ((ط)) : أعراض. 3 كما مرّ معنا في ص 226-227، 640-641 من هذا الكتاب؛ من أمثال الجويني، والرازي. 4 انظر: البيان للباقلاني ص 94-96. والإرشاد للجويني ص 327-328.

لكن كون غير الرسول ممنوعاً منه: إن اعتبروا [أنه] 1 ممنوع مطلقا؛ فهذا لا يعلم. وإن اعتبروا أنه ممنوع من المرسل اليهم؛ فهذا لا يكفي، بل يمكن كلّ ساحر، وكاهن أن يدّعي النبوّة، ويقول إنني كذا. قالوا2: لو فعل هذا، لكان الله يمنعه فِعْلَ ذلك، أو يقيّض له من يعارضه. قلنا: من أين لكم ذلك؟ ومن أين يعلم الناس ذلك؟ ويعلمون أن كل كاذب فلا بُدّ أن يُمنع من فعل الأمر الذي اعتاده هو وغيره قبل ذلك؟ أو أن يعارض؟ والواقع خلاف ذلك؛ فما أكثر من ادّعى النبوّة، أو الاستغناء عن الأنبياء، وأنّ طريقه فوق طريق الأنبياء، وأنّ الربّ يُخاطبه بلا رسالة، وأتى بخوارق من جنس ما تأتي السحرة، والكهّان، ولم يكن في من دعاه من يعارضه3. وأما الرابع: وهو أن يكون عند تحدي الرسول فيه، يحترزون عن الكرامات4. وهو شرطٌ باطلٌ.

_ 1 في ((خ)) : لأنّه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 انظر: البيان للباقلاني ص 94، 95، 100. 3 كمسيلمة الكذّاب، والأسود العنسيّ، والحارث الكذّاب، والحلاّج، وغيرهم. لم يكن عندهم مَنْ يُعارضهم. وسيتناول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذا الموضوع بشيءٍ من الإيضاح والشرح. انظر: ص 950-954 من هذا الكتاب. وانظر: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 168-169، 321-332. والجواب الصحيح 6500. 4 وانظر الفرق بين المعجزات والكرامات عند الأشاعرة، في: البيان للباقلاني ص48. والإرشاد للجويني ص317، 319-320، 322-323. وأصول الدين للبغدادي ص 174.

تعريف الدليل آيات الأنبياء وإن لم يتحدوا بها فهي دلائل على النبوة بل آيات الأنبياء آيات، وإن لم ينطقوا بالتحدي بالمثل. وهي دلائل على النبوّة، وصدق المخبِر بها. والدليل مغايرٌ للمدلول عليه، ليس المدلول عليه جزءاً من الدليل. لكن إذا قالوا: الدليل هو دعاء الرسول، لزمه أن يريهم آية، وخلق تلك الآية عقب سؤاله. وإن كان ذلك قد يخلقه بغير سؤاله لحكمة أخرى. فهذا متوجّه؛ فالدليل هو مجموع طلب العلامة، مع فعل ما جعله علامة؛ كما أنّ العباد إذا دعوا الله فأجابهم، كان ما فعله إجابةً لدعائهم، ودليلاً على أنّ الله سمع دعاءهم، وأجابهم؛ كما أنّهم إذا استسقوه فسقاهم، واستنصروه فنصرهم، وإن كان قد يفعل ذلك بلا دعاء، [فلا يكون هناك دليلٌ على إجابة دعاء. فهو دليلٌ على إجابة الدعاء] 1 إذا وقع عقب الدعاء، ولا يكون دليلاً إذا وقع على غير هذا الوجه. وكذلك الرسول: إذا قال لمرسله: أعطني علامة. فأعطاه ما شرّفه به، كان دليلاً على رسالته، وإن كان قد يفعل ذلك لحكمة أخرى. لكن فعل ذلك عقب سؤاله، آية لنبوته هو الذي يختص به. وكذلك إذا علم أنه فعله إكراماً له، مع دعواه النبوة، علم أنّه قد أكرمه بما يكرم به الصادقين عليه، فعلم أنّه صادق؛ لأنّ ما فعله به مختص بالصادقين الأبرار، دون الكاذبين عليه الفجّار. كرامات الأولياء من آيات الأنبياء وعلى هذا فكرامات الأولياء هي من آيات الأنبياء2؛ فإنها مختصة بمن شهد لهم بالرسالة، وكلّ ما استلزم صدق الشهادة بنبوتهم، فهو دليلٌ على صدق هذه الشهادة؛ سواءٌ كان الشاهد بنبوّتهم المخبِر بها هم، أو

_ 1 ما بين المعقوفتين ساقطٌ من ((ط)) . 2 انظر: دقائق التفسير لشيخ الإسلام رحمه الله 1159. وانظر: تفسير القرطبي 13137. ودلائل النبوة لابن كثير ضمن البداية والنهاية 6161.

غيرهم. بل غيرهم إذا أخبر بنبوتهم، وأظهر الله على يديه ما يدلّ على صدق هذا الخبر، كان أبلغ في الدلالة على صدقهم من أن يظهر على أيديهم. ليس من شرط دلائل النبوة اقترانها بدعوى النبوة أو التحدي بها فقد تبيّن أنّه ليس من شرط دلائل النبوة؛ [لا اقترانه] 1 بدعوى النبوة، ولا الاحتجاج به، ولا التحدي بالمثل2، ولا تقريع من يخالفه. بل كلّ هذه الأمور قد تقع في بعض الآيات، لكن لا يجب أنّ ما لا يقع معه لا يكون آية، بل هذا إبطالٌ لأكثر آيات الأنبياء؛ [لخلوها] 3 عن هذا الشرط4.

_ 1 في ((م)) ، و ((ط)) : لاقترانه. 2 كما يقوله أهل الكلام من المعتزلة والأشاعرة. انظر: المغني لعبد الجبار الهمداني 15199، 215. وشرح الأصول الخمسة له ص 569-571. والبيان للباقلاني ص 45-46. والمواقف للإيجي ص 339-340. 3 في ((خ)) : خلوها. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 المتكلّمون جعلوا التحدّي شرطاً من شروط المعجزة. وقد ردّ عليهم شيخ الإسلام رحمه الله اشتراطهم لهذا الشرط؛ فقال: "وآيات النبوة وبراهينها تكون في حياة الرسول، وقبل مولده، وبعد مماته، لا تختصّ بحياته، فضلاً عن أن تختصّ بحال دعوى النبوة، أو حال التحدّي؛ كما ظنّه بعض أهل الكلام". انظر: الجواب الصحيح 6380، 408، 496. وقد ردّ ابن حزم أيضاً على من اشترط هذا الشرط؛ فقال: "ومن ادّعى أنّ إحالة الطبيعة لا تكون آية إلا حتى يتحدى فيها النبيّ صلى الله عليه وسلم النّاس، فقد كذب، وادّعى ما لا دليل عليه أصلاً؛ لا من عقل، ولا من نص قرآن ولا سنّة. وما كان هكذا، فهو باطلٌ، ويجب من هذا أنّ حنين الجذع، وإطعام النفر الكثير من الطعام اليسير حتى شبعوا، وهم مئون من صاع شعير، ونبعان الماء من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإرواء ألف وأربعمائة من قدح صغير تضيق سعته عن الشبر، ليس شيء من ذلك آية له عليه السلام؛ لأنّه عليه السلام لم يتحدّ بشيء من ذلك أحداً". المحلى لابن حزم 136. وانظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل له 52، 6.

الدليل ما يستلزم وجود المدلول ثمّ هو شرطٌ بلا حجة؛ فإنّ الدليل على المدلول عليه، هو ما استلزم وجوده. وهذا لا يكون إلا عند عدم المعارض المساوي، أو الراجح. وما كان كذلك، فهو دليلٌ؛ سواءٌ قال المستدلّ به: ائتوا بمثله، وأنتم لا تقدرون على الإتيان بمثله، وقرعهم وعجزهم. أو لم يقل ذلك. فهو إذا كان في نفسه مما لا يقدرون على الإتيان بمثله؛ سواءٌ ذكر المستدلّ [هذا] 1، أو لم يذكره؛ لا بذكره يصير دليلاً، ولا بعدم ذكره تنتفي دلالته. وهؤلاء قالوا: لا يكون دليلا [إلا] 2 [إذا] 3 ذكره المستدل. وهذا باطلٌ. وكذلك الدليل، هو دليلٌ؛ سواءٌ استدلّ به مستدلّ، أو لم يستدلّ. وهؤلاء قالوا: لا يكون دليل النبوة دليلاً، إلا إذا استدلّ به النبيّ حين ادّعى النبوة؛ فجعل نفس دعواه، واستدلاله، والمطالبة بالمعارضة، وتقريعهم بالعجز عنها؛ كلها جزءاً من الدليل. وهذا غلطٌ عظيمٌ. بل السكوت عن هذه الأمور أبلغ في الدلالة، والنطق بها لا يُقوِّي الدليل. والله تعالى لم يقُل: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ [مِثْلِهِ] 4} 5، إلاَّ حين قالوا: افتراه؛ لم يجعل هذا القول شرطاً في الدليل، بل نفس عجزهم عن المعارضة هو من تمام الدليل.

_ 1 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين , 2 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 3 ما بين المعقوفتين مكرّر في ((خ)) . 4 في ((خ)) : بمثله. 5 سورة الطور، الآية 34.

الأشاعرة يجعلون الفرق بين جنس المعجزات والكرامات وخوارق السحرة: ادعاء النبوة وإلا فالجنس واحد [وهم] 1 إنّما شرطوا ذلك؛ لأنّ كرامات الأولياء عندهم؛ متى اقترن بها دعوى النبوّة، كانت آية للنبوة2؛ وجنس السحر، والكهانة؛ متى اقترن به دعوى النبوة، كان دليلاً على النبوّة عندهم، لكن قالوا: الساحر، والكاهن لو ادّعى النبوّة، لكان [يُمنع] 3 من ذلك، أو يُعارض بمثله4. وأمّا الصالح: فلا يدّعي. فكان أصلهم: أنّ ما يأتي به النبيّ، والساحر، والكاهن، والولي: من جنسٍ واحد، لا يتميّز بعضه عن بعضٍ بوصف5، لكن خاصّة النبيّ: اقتران الدعوى، والاستدلال، والتحدي بالمثل بما يأتي به. فلم يجعلوا لآيات الأنبياء خاصّة تتميّز بها عن السحر، والكهانة، وعمّا يكون لآحاد المؤمنين، ولم يجعلوا للنبيّ مزيّة على عموم المؤمنين، ولا على السحرة، والكهّان من جهة الآيات التي يدل [الله] 6 بها العباد على صدقه. رد شيخ الإسلام عليهم وهذا افتراءٌ عظيمٌ؛ على الأنبياء، وعلى آياتهم، وتسويةٌ بين أفضل الخلق، وشرار الخلق. الساحر والكاهن لا يأتي إلا بالفجور بل تسويةٌ بين [ما يدلّ] 7 على النبوّة، وما يدلّ على نقيضها؛ فإنّ ما يأتي به السحرة، والكهّان، لا يكون إلاَّ لكذّابٍ، فاجرٍ، عدوٍّ لله؛ فهو مناقض للنبوة.

_ 1 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 2 انظر: البيان للباقلاني ص 48. والإرشاد للجويني ص 319-321. 3 في ((م)) ، و ((ط)) : يمتنع. 4 انظر: البيان للباقلاني ص 94، 95، 100. 5 انظر: البيان للباقلاني ص 91، 96. والإرشاد للجويني ص 327-328. 6 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 7 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.

من الفروق بين آيات الأنبياء وبين خوارق السحرة والكهان فلم يفرقوا بين ما يدلّ على النبوّة وعلى نقيضها، وبين ما لا يدلّ عليها، ولا على نقيضها؛ فإنّ آيات الأنبياء تدلّ على النبوة، وعجائب السحرة، والكهّان تدلّ على نقيض النبوّة؛ وإنّ صاحبها ليس ببرّ، ولا عدلٍ، ولا وليٍّ لله، فضلاً عن أن يكون نبيّاً. بل يمتنع أن يكون الساحر، والكاهن نبيّاً، بل هو من أعداء الله. والأنبياء أفضل خلق الله، وإيمان المؤمنين، وصلاحهم لا يناقض النبوة، ولا يستلزمها. الأشاعرة سووا بين الأجناس الثلاثة فهؤلاء1 سوّوا بين الأجناس الثلاثة؛ فكانوا بمنزلة من سوّى بين عبادة [الرحمن] 2، وعبادة الشيطان والأوثان؛ فإنّ الكهّان، والسحرة يأمرون بالشرك، وعبادة الأوثان، وما فيه طاعة للشيطان. [والأنبياء] 3 لا يأمرون إلا بعبادة الله وحده، وينهون عن عبادة ما سوى الله وطاعة الشياطين. النبي عند الأشاعرة فسوّى هؤلاء بين هذا وهذا، ولم يبق الفرق إلا مجرّد تلفّظ المدّعي بأني نبيّ. فإن تلفّظ به، كان نبيّاً، وإن لم يتلفّظ به، لم يكن نبيا. فالكذّاب المتنبي إذا أتى بما يأتي الساحر، والكاهن، وقال: أنا نبيّ، كان نبيّاً. وقولهم: إنّه إذا فعل ذلك مُنِع منه، وعورض4: دعوى مجردة؛ فهي لا تُقبل لو لم يعلم بطلانها. فكيف، وقد علم بطلانها، وأنّ كثيراً ادّعوا ذلك، ولم يعارضهم ممّن دعوه أحد، ولا مُنعوا من ذلك.

_ 1 يعني الأشاعرة. انظر: الجواب الصحيح 6400، 500. 2 في ((ط)) : احرحمن. 3 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 4 انظر: البيان للباقلاني ص 94، 95، 100.

فلزم على قول هؤلاء: التسوية بين النبيّ الصادق، والمتنبي الكاذب. وقد قال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ في جَهَنّمَ مَثْوَىً لِلْكَافِرِينَ وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ} 1. ولم يُفرّق هؤلاء2 بين هؤلاء3 وهؤلاء4، ولا بين آيات هؤلاء، وآيات هؤلاء. وقال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورَاً وَهُدَىً للنَّاسِ [تَجْعَلُونَهُ] 5 قَرَاطِيسَ [تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ] 6 كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ في خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ القُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِطُونَ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبَاً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ الله وَلَوْ تَرَى [إذ] 7 الظَّالِمُونَ في غَمَرَاتِ المَوْتِ وَالمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ اليَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُونِ بِمَا كُنْتُم تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ

_ 1 سورة الزمر، الآيتان 32-33. 2 الأشاعرة. 3 الأنبياء عليهم السلام. 4 السحرة والكهان. 5 في ((خ)) : يجعلونه. 6 في ((خ)) : يبدونها ويخفونها. 7 ما بين المعقوفتين ساقطٌ من ((ط)) .

ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ [أنّهم] 1 فِيكُمْ شُرَكَاءَ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} 2. فنسأل الله العظيم: أن يهدينا إلى [صراطه] 3 المستقيم؛ صراط الذين أنعم عليهم؛ من [النبيين] 4، والصديقين، والشهداء، والصالحين؛ الذين عبدوه وحده، لا شريك له، وآمنوا بما أرسل به رسله، وبما جاءوا به من الآيات، وفرق بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والغيّ والرشاد، وطريق أولياء الله المتقين، وأعداء الله الضالّين، والمغضوب [عليهم] 5؛ فكان ممّن صدَّق الرسل فيما أخبروا به، وأطاعهم فيما أمروا به. ولا حول ولا قوة إلا بالله. من أصول الأشاعرة وهؤلاء6 يُجوّزون أن يأمر الله بكلّ شيء، وأن ينهى عن كلّ شيء؛ فلا يبقى عندهم فرق بين النبيّ الصادق، والمتنبي الكاذب؛ لا من جهة نفسه؛ فإنهم لا يشترطون فيه إلاَّ مجرّد كونه في الباطن مقرّاً بالصانع7. وهذا موجودٌ في عامّة الخلق؛ ولا من جهة [آياته؛ ولا من جهة] 8

_ 1 في ((ط)) : إنهم. 2 سورة الأنعام، الآيات 91-94. 3 في ((م)) ، و ((ط)) : صراط. 4 في ((ط)) : افنبين. 5 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 6 يعني الأشاعرة. 7 بل لا مانع عند الجهمية أن يكون النبيّ من أجهل الخلق، يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "الجهمية تثبت نبوة لا تستلزم فضل صاحبها ولا كماله ولا اختصاصه قط بشيء من صفات الكمال، بل يجوز أن يُجعل من هو من أجهل الناس نبيّاً..". منهاج السنة النبوية 5436. 8 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .

ما يأمر به1. والفلاسفة من هذا الوجه أجود قولاً في الأنبياء؛ فإنّهم يشترطون في النبيّ اختصاصه بالعلم من غير تعلم، وبالقدرة على التأثير الغريب، والتخييل. ويُفرّق بين الساحر، والنبيّ: بأنّ النبيّ يقصد العدل، ويأمر به؛ بخلاف الساحر2. الغزالي عدل إلى طريق الفلاسفة في النبوة ولهذا عدل الغزالي في النبوة عن طريق أولئك المتكلمين، إلى طريق الفلاسفة؛ فاستدلّ بما يفعله، ويأمر به، على نبوته3. وهي طريق صحيحة، لكن إنّما أثبتَ بها نبوةّ مثل نبوةّ الفلاسفة4.

_ 1 ولشيخ الإسلام رحمه الله كلام طيّب عن النبوّة عند الأشاعرة. فمن ذلك قوله رحمه الله عنهم: "فهؤلاء يُجوّزون بعثة كلّ مكلّف، والنبوة عندهم مجرد إعلامه بما أوحاه إليه، والرسالة مجرّد أمره بتبليغ ما أوحاه إليه. وليست النبوة عندهم صفة ثبوتية، ولا مستلزمة لصفة يختصّ بها، بل هي من الصفات الإضافية؛ كما يقولون مثل ذلك في الأحكام الشرعية.... إلخ". منهاج السنة النبوية 2414. وانظر: الجواب الصحيح 6496، 500-504. وكتاب الصفدية 1148-149، 225. وانظر: موقفهم من عصمة الأنبياء في المصدر نفسه 2414-415. 2 انظر: كتاب الصفدية 1143. 3 انظر: المنقذ من الضلال للغزالي ص 145-150. ومعارج القدس له ص 151، 164؛ فإنه يجعل للنبوة ثلاثة خواص. وتهافت الفلاسفة له ص 192-194. وانظر: ما نقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح الأصفهانية - ت السعوي - 2519-522، 533. وما نقله - شيخ الإسلام - أيضاً عن المازري من أن كلام الغزالي يؤثر في الإيمان بالنبوة فينقص قدرها، انظر: الصفدية 1211. 4 وقد علّق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على كلام الغزالي، وبيَّن مشابهة قوله لقول الفلاسفة في حقيقة النبوّة. انظر: شرح الأصفهانية - ت السعوي - 2542- 543 والصفدية 16 ودرء تعارض العقل والنقل 132. والرد على المنطقيين ص510. وانظر: كلام الغزالي في النبوة في طبقات الشافعية للسبكي 4110-114.

مقارنة بين الأشاعرة والفلاسفة في النبوات وأولئك1 خيرٌ من الفلاسفة؛ من جهة أنّهم لما أقرّوا بنبوّة محمدٍ، صدّقوه فيما أخبر به من أمور الأنبياء، وغيرهم، وكان عندهم معصوماً من الكذب فيما يبلغه عن الله؛ فانتفعوا بالشرع، والسمعيات. وبها صار فيهم من الإسلام ما تميّزوا به على أولئك2؛ فإن أولئك لا ينتفعون بأخبار الأنبياء؛ إذ كانوا عندهم يُخاطبون الجمهور بالتخييل؛ فهم يكذبون عندهم للمصلحة3.

_ 1 يعني الأشاعرة. 2 يعني الفلاسفة. 3 ولشيخ الإسلام رحمه الله كلام طيّب يشرح فيه النبوة عند الفلاسفة، يقول فيه: "وأما المتفلسفة القائلون بقدم العالم، وصدوره عن علة موجبة - مع إنكارهم أنّ الله تعالى يفعل بقدرته ومشيئته، وأنّه يعلم الجزئيات - فالنبوة عندهم فيضٌ يفيض على الإنسان بحسب استعداده، وهي مكتسبة عندهم. ومن كان متميزاً - في قوته العلمية؛ بحيث يستغني عن التعليم، وشُكّل في نفسه خطاب يسمعه كما يسمع النائم، وشخص يخاطبه كما يُخاطَب النائم؛ وفي العملية بحيث يؤثر في العنصريات تأثيراً غريباً - كان نبيّاً عندهم. وهم لا يُثبتون مَلَكَاً مُفضَّلاً يأتي بالوحي من الله تعالى، ولا ملائكة، بل ولا جِنّاً يخرق الله بهم العادات للأنبياء، إلا قوى النفس. وقول هؤلاء وإن كان شراً من أقوال اليهود والنصارى، وهو أبعد الأقوال عمّا جاءت به الرسل، فقد وقع فيه كثيرٌ من المتأخرين الذين لم يُشرق عليهم نور النبوة؛ من المدّعين للنظر العقليّ، والكشف الخيالي الصوفي. وإن كان غاية هؤلاء الأقيسة الفاسدة، والشكّ، وغاية هؤلاء الخيالات الفاسدة والشطح". منهاج السنة النبوية 2415-416. وانظر: كلاماً مشابهاً لهذا الكلام لشيخ الإسلام في شرح الأصفهانية - ت السعوي - 2502-507. وكتاب الصفدية 25-7.

ولكنْ آخرون1 سلكوا مسلك التأويل، وقالوا: إنّهم لا يكذبون. ولكن أسرفوا فيه. من أسباب ظهور الفلاسفة على المتكلمين ففي الجملة: ظهور الفلاسفة، والملاحدة، والباطنية على هؤلاء تارةً، ومقاومتهم لهم تارةً: لا بُدّ له من أسباب في حكمة الرب، وعدله. ومن أعظم أسبابه: تفريط أولئك2 وجهلهم بما جاء به الأنبياء؛ فالنبوّة التي ينتسبون إلى نصرها، لم يعرفوها، ولم يعرفوا دليلها، ولا قدروها قدرها. وهذا يظهر من جهات متعددة. ولا حول ولا قوة إلا بالله.

_ 1 استوفى شيخ الإسلام رحمه الله ذكر مذاهب هؤلاء والرد عليهم، وذكر أن المبتدعة لهم طريقتان في نصوص الأنبياء: أولاً طريقة التبديل، وأهلها صنفان: 1- أهل الوهم والتخييل؛ كابن سينا، وابن عربي، والفارابي، والسهروردي، وابن رشد الحفيد، وابن سبعين، وهو قول المتفلسفة والباطنية كالملاحدة الإسماعيلية، وإخوان الصفا، وملاحدة الصوفية. 2- أهل التحريف والتأويل، وهم المقصودون هنا، وهي طريقة المتكلمين من المعتزلة والكلابية والسالمية والكرامية والشيعة وغيرهم. أما الطريقة الثانية: فهي طريقة التجهيل. انظر: درء تعارض العقل والنقل 18-20. وكتاب الصفدية 1202، 203، 209، 237، 244، 265، 276، 288، 289. وشرح الأصفهانية 2502-508. والرد على المنطقيين ص 469. ومجموع الفتاوى 467. 2 يعني الأشاعرة، ومن نحا منحاهم من أصحاب دليل الأعراض وحدوث الأجسام. وقد فصّل شيخ الإسلام رحمه الله هذا الموضع، وزاده بسطاً وإيضاحاً في كتابه القيم شرح الأصفهانية 2329-335. وانظر: في الكلام على النبوة عند الأشاعرة: منهاج السنة النبوية 2414، 5436-437. وكتاب الصفدية1225-226، 228-229. والكلام عن عصمة الأنبياء عندهم في منهاج السنة 2414-415. وقد مرت معنا مقارنة بين موقف الأشاعرة من النبوة، وموقف الفلاسفة منها في ص 609-612 من هذا الكتاب.

المجلد الثاني

المجلد الثاني فصل أصول الدين ... فصل أصول الدين قد ذكرنا في غير موضع1 أن أصول الدين الذي بعث الله به رسوله محمّداً صلى الله عليه وسلم قد بيّنها في القرآن أحسن بيان، وبيّن دلائل الربوبية والوحدانية، ودلائل أسماء الرب وصفاته، وبيّن دلائل نبوة أنبيائه، وبيّن المعاد بين إمكانه وقدرته عليه في غير موضع، وبيَّن وقوعه بالأدلة السمعية والعقلية؛ فكان في بيان الله أصول الدين الحقّ؛ وهو دين الله؛ وهي أصول ثابتة، صحيحة، معلومة؛ فتضمّن بيان العلم النافع، والعمل الصالح؛ الهدى، ودين الحق. وأهل البدع الذين ابتدعوا أصولَ دينٍ يخالف ذلك، ليس فيما ابتدعوه؛ لا هدى، ولا دين حقّ؛ فابتدعوا ما زعموا أنّه أدلّة وبراهين على إثبات الصانع، وصدق الرسول، وإمكان المعاد أو وقوعه. وفيما ابتدعوه ما خالفوا به الشرع. وكلّ ما خالفوه من الشرع، فقد خالفوا فيه العقل أيضاً؛ فإنّ الذي بعث اللهُ به محمّداً، وغيرَه من الأنبياء: هو حقّ، وصدق، وتدلّ عليه الأدلة العقلية؛ فهو ثابت بالسمع، و [بالعقل] 2.

_ 1 انظر ص 286 من هذا الكتاب. وانظر: نقض تأسيس الجهميّة 1246. وشرح الأصفهانية 141. ودرء تعارض العقل والنقل 1188-199. وكتاب الصفدية 1295-296. ودقائق التفسير 5263. 2 في ((م)) ، و ((ط)) : العقل.

الذين خالفوا الرسل ليس معهم سمع ولا عقل والذين خالفوا الرسل ليس معهم [سمعٌ] 1، ولا عقل؛ كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِير قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ في ضَلالٍ كَبِيرٍ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقَاً لأَصْحَابِ السَّعِير} 2. وقال تعالى لمكذّبي الرسل: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا في الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ [قُلُوبٌ] 3 يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي في الصُّدُور} 4، ذكر ذلك بعد قوله: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ [قَوْمُ] 5 نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ للكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِير فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ [أَهْلَكْنَاهَا] 6 وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ [خَاوِيَةٌ عَلَى] 7 عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} 8، ثم قال: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا في الأَرْضِ} الآية9، ثم قال: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ المَصِير} 10؛ فذكر إهلاك من أهلك، وأملاه لمن أملى؛ لئلاّ يغترَّ المغتر؛ [فيقول] 11: نحن لم يهلكنا.

_ 1 في ((م)) ، و ((ط)) : لا سمع. 2 سورة الملك، الآيات 8-11. 3 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 4 سورة الحج، الآية 46. 5 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 6 في ((خ)) : أهلكتها. 7 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 8 سورة الحج، الآيات 42-45. 9 سورة الحج، الآية 46. 10 سورة الحج، الآية 48. 11 في ((خ)) : فتقول. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

وقد بسط هذا في غير هذا الموضع1. ما جاء به الرسول يدل عليه السمع والعقل والمقصود هنا: أنّ ما جاء به الرسول يدلّ عليه السمع والعقل، وهو حقّ في نفسه؛ كالحكم الذي يحكم به؛ فإنه يحكم بالعدل؛ وهو الشرع. فالعدل هو الشرع، والشرع هو العدل. ولهذا يأمر نبيه أن يحكم بالقسط، وأن يحكم بما أنزل الله. والذي أنزل الله هو القسط، والقسط هو الذي [أنزله] 2 الله. وكذلك الحق، والصدق هو ما أخبرت به الرسل، وما أخبرت به فهو الحق، والصدق. ذم السلف لأهل الكلام [والسلف] 3 والأئمة ذموا أهل الكلام المبتدعين؛ الذين خالفوا الكتاب، والسنّة4. ومن خالف الكتاب والسنة لم يكن كلامه إلا باطلاً؛ فالكلام الذي ذمّه السلف يُذمّ لأنّه باطل، ولأنّه يُخالف الشرع5. الشافعي وأحمد ذمّا كلام الجهمية من الناس من ظن أن السلف أنكروا كلام القدرية فقط ولكنّ لفظ الكلام لمّا كان مجملاً، لم يعرف كثيرٌ من الناس الفرق بين الكلام الذي ذموه، وغيره؛ فمن الناس من يظن أنّهم إنّما أنكروا كلام القدرية فقط؛ كما ذكره البيهقي6،

_ 1 انظر: درء تعارض العقل والنقل 7394. 2 في ((م)) ، و ((ط)) : أنزل. 3 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 4 سبقت الإشارة إلى ذلك ص 320-324. 5 قال الإمام البربهاري رحمه الله: "اعلم أنها لم تكن زندقة، ولا كفر، ولا شكوك، ولا بدعة، ولا ضلالة، ولا حيرة في الدين، إلا من الكلام، وأهل الكلام والجدل والمراء والخصومة والعجب". شرح السنة للبربهاري ص 48. 6 انظر تبيين كذب المفتري لابن عساكر 341، 344-352؛ حيث نقل كلام البيهقي في أنّ الشافعيّ إنّما قصد بذمّه لأهله الكلام القدرية، ومنهم حفص الفرد. والبيهقي هو: أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي الشافعيّ، شيخ خراسان، ومن أئمة المحدثين. ولد سنة 384 ?، وتوفي سنة 458 ?. قال عنه إمام الحرمين الجويني: "ما من شافعيّ إلا وللشافعي في عنقه منّة، إلا البيهقي؛ فإنّه له على الشافعي منّة؛ لتصانيفه في نصرته لمذهبه وأقاويله". انظر: طبقات الشافعية 48-16. وشذرات الذهب 3304-305.

وابن عساكر1 في تفسير كلام الشافعيّ، ونحوه؛ ليُخرجوا أصحابهم عن الذمّ، وليس كذلك؛ بل الشافعي أنكر كلام الجهمية؛ كلام حفص الفرد، وأمثاله2، وهؤلاء كانت منازعتهم في الصفات، والقرآن، والرؤية، لا في القدر. وكذلك أحمد بن حنبل خصومه من أهل الكلام هم الجهمية3

_ 1 انظر: تبيين كذب المفتري لابن عساكر ص 336. وانظر رد شيخ الإسلام على مقولته: درء تعارض العقل والنقل 7246-251. وابن عساكر هو: علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله الدمشقي الشافعي المعروف بابن عساكر. محدث، حافظ، فقيه، مؤرخ، رحل إلى ديار كثيرة، وسمع فيها، وحدّث. توفي سنة 571 ?. انظر: طبقات الشافعية 7215-223. والبداية والنهاية 12294. ومعجم المؤلفين 769، 70. 2 سبق نقل كلام الشافعي في حفص الفرد. انظر ص 321 من هذا الكتاب، وانظر ترجمة حفص الفرد في الصفحة نفسها. وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "وقد بيَّنّا أنّ ذمّ الشافعيّ لكلام حفص وأمثاله لم يكن لأجل إنكار القدر؛ فإنّ حفصاً لا يُنكره، وإنّما كان لإنكار الصفات والأفعال المبني على دليل الأعراض". درء تعارض العقل والنقل 7275. وانظر: المصدر نفسه 7146، 245، 246، 250. 3 ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في غير ما موضع من كتبه أنّ المحنة التي وقعت للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، والمناظرة التي حدثت لم تكن مع المعتزلة فقط، بل كانت مع جنس الجهميّة. ومن النصوص التي وقفت عليها في ذلك: قول شيخ الإسلام رحمه الله عن فتنة خلق القرآن التي وقعت زمن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: "ولم تكن المناظرة مع المعتزلة فقط، بل كانت مع جنس الجهمية؛ من المعتزلة، والنجارية، والضرارية، وأنواع المرجئة؛ فكلّ معتزليّ جهميّ، وليس كلّ جهميّ معتزلياً ... الخ". منهاج السنة النبوية 2603-604. وقال رحمه الله في موضع آخر يحكي عن الإمام أحمد وما جرى له مع ابن أبي دؤاد: " ... وكان أحمد بن أبي دؤاد قد جمع له نفاة الصفات القائلين بخلق القرآن من جميع الطوائف؛ فجمع له مثل أبي عيسى محمد بن عيسى بن برغوث، ومن أكابر النجارية؛ أصحاب حسين النجّار. وأئمة السنة؛ كابن المبارك، وأحمد بن إسحاق، والبخاريّ، وغيرهم يُسمّون جميع هؤلاء جهمية. وصار كثير من المتأخرين؛ من أصحاب أحمد، وغيرهم يظنّون أنّ خصومه كانوا المعتزلة، ويظنون أنّ بشر بن غياث المريسي وإن كان قد مات قبل محنة أحمد، وابن أبي دؤاد، ونحوهما كانوا معتزلة. وليس كذلك؛ بل المعتزلة كانوا نوعاً من جملة من يقول: القرآن مخلوق. وكانت الجهمية أتباع جهم، والنجارية أتباع حسين النجار، والضرارية أتباع ضرار بن عمرو، والمعتزلة، هؤلاء يقولون: القرآن مخلوق". مجموع فتاوى ابن تيمية 14352. وقال شيخ الإسلام رحمه الله أيضاً: "وهذه المعاني مما ناظروا بها الإمام أحمد في المحنة، وكان ممن احتج على أنّ القرآن مخلوق بنفي التجسيم: أبو عيسى محمد بن عيسى؛ برغوث؛ تلميذ حسين النجار، وهو من أكابر المتكلمين؛ فإنّ ابن أبي دؤاد كان قد جمع للإمام أحمد مَنْ أمكنه من متكلمي البصرة، وبغداد، وغيرهم؛ ممن يقول: إنّ القرآن مخلوق. وهذا القول لم يكن مختصاً بالمعتزلة كما يظنّه بعض الناس؛ فإنّ كثيراً من أولئك المتكلمين، أو أكثرهم لم يكونوا معتزلة. وبشر المريسي لم يكن من المعتزلة، بل فيهم نجاريّة، ومنهم برغوث، وفيهم ضراريّة، وحفص الفرد الذي ناظر الشافعيّ كان من الضرارية؛ أتباع ضرار بن عمرو، وفيهم مرجئة. ومنهم بشر المريسيّ، ومنهم جهمية محضة، ومنهم معتزلة. وابن أبي دؤاد لم يكن معتزلياً، بل كان جهمياً ينفي الصفات. والمعتزلة تنفي الصفات؛ فنفاة الصفات الجهميّة أعمّ من المعتزلة ... ". مجموع الفتاوى 17299-300.

الذين ناظروه في القرآن؛ مثل أبي عيسى محمد بن عيسى برغوث؛ صاحب حسين النّجّار، وأمثاله1. ولم يكونوا قدريّة، ولا كان النزاع في مسائل

_ 1 سبق كلام الإمام أحمد رحمه الله في برغوث ص 322 من هذا الكتاب، وقد ذكرت ترجمة برغوث، وترجمة صاحبه حسين النجار في الصفحة نفسها. وانظر في ذم السلف لأهل الكلام: شرح الأصفهانية 2318-323. ولزيادة إيضاح هذا الموضوع، انظر: درء تعارض العقل والنقل 1230-231، 249، 7257، 275، 276، 278.

القدر. ولهذا يُصرّح أحمد، وأمثاله من السلف بذمّ الجهميّة، بل يكفرونهم أعظم من سائر الطوائف1. أصول أهل الأهواء وقال عبد الله بن المبارك2، ويوسف بن أسباط3، وغيرهما: أصول أهل الأهواء أربع: الشيعة4، والخوارج5، والمرجئة6،

_ 1 وللسلف كتب مستقلة في فضح وذمّ الجهميّة. انظر على سبيل المثال: الردّ على الجهمية للإمام أحمد، وللإمام الدارمي، وللجعفي شيخ البخاريّ، وبيان تلبيس الجهميّة لشيخ الإسلام ابن تيمية، واجتماع الجيوش الإسلامية، والصواعق المنزلة على الطائفة الجهمية والمعطلة؛ كلاهما لابن قيم الجوزية رحمه الله. وهناك كتب جمعها السلف فيها ذمّ للجهمية، وردّ عليهم. انظر: كتاب الردّ على الجهمية في صحيح البخاري، وخلق أفعال العباد "الجزء الثاني منه" للإمام البخاري. وكتاب شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي. وكتاب السنة لابن أبي عاصم. وسميّه لعبد الله بن الإمام أحمد، وكذلك للخلاّل، وغيرهم كثير. 2 سبقت ترجمته. 3 سبقت ترجمته. 4 سبق التعريف بهم. 5 سبق التعريف بهم. 6 قال الشهرستاني: "الإرجاء على معنيين: أحدهما: بمعنى التأخير؛ كما في قوله تعالى: {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} [الأعراف، 111] ؛ أي أمهله وأخّره. والثاني: إعطاء الرجاء. وأما إطلاق اسم المرجئة على الجماعة بالمعنى الأول فصحيح؛ لأنهم كانوا يؤخرون العمل عن النية والعقد. وأما بالمعنى الثاني فظاهر؛ فإنهم كانوا يقولون: لا تضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة". الملل والنحل للشهرستاني 1139. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (المرجئة ثلاث أصناف: الذين يقولون: الإيمان مجرد ما في القلب، ثم من هؤلاء من يدخل فيه أعمال القلوب، وهم أكثر فرق المرجئة ... ومنهم من لا يدخلها في الإيمان؛ كجهم ومن اتبعه كالصالحي. وهذا الذي نصره هو وأكثر أصحابه. والقول الثاني: من يقول: هو مجرد قول باللسان. وهذا لا يعرف لأحد قبل الكرامية. والثالث: تصديق القلب، وقول اللسان. وهذا هو المشهور عن أهل الفقه والعبادة منهم". مجموع الفتاوى 7195. وانظر: الفرق بين الفرق للبغدادي ص 202-207. ومقالات الإسلاميين للأشعري 1213-234. والفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم 2111-112، 4204. والملل والنحل للشهرستاني 1139-146.

والقدرية1. فقيل لهم: الجهمية2؟ فقالوا: الجهمية ليسوا من أمّة محمد3. ولهذا ذكر أبو عبد الله بن حامد4 عن أصحاب أحمد في الجهمية: هل هم من الثنتين وسبعين فرقة؟ وجهين5؛ أحدهما: أنّهم ليسوا منهم؛ لخروجهم عن الإسلام. السلف لم يذموا جنس الكلام وطائفة تظنّ أنّ الكلام الذي ذمّه السلف: هو مطلق النظر، والاحتجاج، والمناظرة6،

_ 1 والمقصود بهم القدرية النفاة. وهو من ألقاب المعتزلة الذين ينفون الإرادة والقدرة عن الله ويثبتون للعبد قدرة يفعل بها ما اختار فعله. فكل إنسان عندهم يخلق فعل نفسه. انظر: الفرق بين الفرق للبغدادي ص 114-116. والفصل لابن حزم 322. والملل والنحل للشهرستاني 143-45، ودرء تعارض العقل والنقل 8405. 2 سبق التعريف بهم. 3 سبق تخريج هذا الأثر.. انظر ص 498 من هذا الكتاب. 4 سبقت ترجمته. 5 انظر ص 694؛ فقد سبق تخريج هذا الأثر. 6 السلف رحمهم الله انصبّ ذمّهم على الكلام الباطل؛ بسبب مخالفته للنصوص الشرعيّة. ويزيد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذا المعنى إيضاحاً؛ فيقول: "السلف رحمهم الله لم يذمّوا جنس الكلام؛ فإنّ كلّ آدميّ يتكلّم، ولا ذمّوا الاستدلال، والنظر، والجدل الذي أمر الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، والاستدلال بما بيَّنه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، بل ولا ذمّوا كلاماً هو حقّ، بل ذمّوا الكلام الباطل، وهو المخالف للكتاب والسنّة، وهو المخالف للعقل أيضاً، وهو الباطل، فالكلام الذي ذمّه السلف هو الكلام الباطل، وهو المخالف للشرع والعقل، ولكن كثير من الناس خفي عليه بطلان هذا الكلام". الفرقان بين الحق والباطل لابن تيمية ص 96. وانظر: مجموع الفتاوى 3306-307، 13147-148، 16473. ودرء تعارض العقل والنقل 1178، 232-237، 7170، 181. والفتاوى المصرية 1136، 137، 6560. وجامع الرسائل 236 رسالة في الصفات الاختيارية.

ويزعم من يزعم [من] 1 هؤلاء أنّ قوله: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هي أَحْسَن} 2، و {جَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِي أَحْسَن} 3: منسوخٌ بآية السيف4.

_ 1 في ((خ)) : أن. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 سورة العنكبوت، الآية 46. 3 سورة النحل، الآية 125. 4 انظر: زاد المسير لابن الجوزي 4506، 9254. وآيات السيف، مثل قوله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} سورة التوبة. ومثل قوله: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} سورة محمد. ونقل الحافظ ابن كثير رحمه الله عن ابن أبي حاتم بسنده إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: "بعث النبي صلى الله عليه وسلم بأربعة أسياف؛ سيف في المشركين من العرب، قال تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} . هكذا رواه مختصراً. وعقّب الحافظ ابن كثير بقوله: وأظن أن السيف الثاني هو قتال أهل الكتاب، لقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} ، والسيف الثالث: قتال المنافقين، في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} الآية. والرابع: قتال الباغين في قوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} . تفسير ابن كثير 2336-337.

وهؤلاء أيضاً غالطون؛ فإنّ الله تعالى قد أخبر عن قوم نوح، وإبراهيم بمجادلتهم للكفار؛ حتى: {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} 1، وقال عن قوم إبراهيم: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} 2، إلى قوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} 3، وذكر محاجّة إبراهيم للكافر. [والقرآن] 4 فيه من مناظرة الكفار، والاحتجاج عليهم ما فيه؛ من [شفاء] 5، وكفاية. وقوله تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هي أَحْسَن إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} 6، وقوله: {جَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِي أَحْسَن} 7: ليس في القرآن ما ينسخهما، ولكنّ بعض الناس يظنّ أنّ من المجادلة ترك الجهاد بالسيف. وكلّ ما كان متضمنا لترك الجهاد المأمور به فهو منسوخ بآيات السيف والجهاد. متى تكون المجادلة؟ والمجادلة قد [تكون] 8 مع أهل الذمّة، والهدنة، والأمان، ومن لا يجوز قتاله بالسيف، وقد [تكون] 9 في ابتداء الدعوة؛ كما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يُجاهد الكفّار بالقرآن، وقد [تكون] 10 لبيان الحقّ، وشفاء القلوب من الشبه، [مع من] 11 يطلب الاستهداء والبيان.

_ 1 سورة هود، الآية 32. 2 سورة الأنعام، الآية 80. 3 سورة الأنعام، الآية 83. 4 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 5 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 6 سورة العنكبوت، الآية 46. 7 سورة النحل، الآية 125. 8 في ((خ)) : يكون. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 9 في ((خ)) : يكون. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 10 في ((خ)) : يكون. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 11 في ((خ)) رسمت: معمن.

وبسط هذا له موضع آخر1. المبتدعة ابتدعوا أصولاً تخالف الكتاب والمقصود هنا: أنّ المبتدعين الذين ابتدعوا كلاماً وأصولاً تُخالف الكتاب، وهي أيضاً مخالفة للميزان؛ وهو العدل؛ فهي مخالفة للسمع، والعقل؛ كما ابتدعوا في إثبات الصانع إثباته بحدوث الأجسام، وأثبتوا حدوث الأجسام بأنّها مستلزمة للأعراض لا تنفكّ عنها. قالوا: وما لا يخلو عن الحوادث، فهو حادث؛ لامتناع حوادث لا أول لها. فهؤلاء2 إذا حقق عليهم ما قالوه، لم يوجدوا قد [أثبتوا] 3 العلم بالصانع، ولا أثبتوا النبوة، ولا أثبتوا المعاد. وهذه هي أصول الدين والإيمان4. بل كلامهم في الخلق، والبعث؛ المبدأ والمعاد، وفي إثبات الصانع ليس فيه تحقيق العلم لا عقلاً، ولا نقلاً.

_ 1 قال شيخ الإسلام رحمه الله يؤصل المسائل المختلف فيها، يبين حال الخصوم بياناً شافياً، ثم يكر عليه بالرد، وذلك بهدم الباطل الذي عند الخصم وإحلال الحق مكانه، قال رحمه الله: "فإن المبتدع الذي بنى مذهبه على أصل فاسد، فينبغي إذا كان المناظر مدعيا أن الحق معه أن يبدأ بهدم ما عنده فإذا انكسر وطلب الحق فأعطه إياه، وإلا فما دام معتقداً نقيض الحق لم يدخل الحق إلى قلبه، كاللوح الذي كتب فيه كلام باطل، أمحه أولاً، ثم أكتب فيه الحق" بل يرى مناظرة أهل البدع، ودحض شبهاتهم؛ فيقول رحمه الله: "فكلّ من لم يُناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم، لم يكن أعطى الإسلام حقّه، ولا وفى بموجب العلم والإيمان، ولا حصل بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة النفوس، ولا أفاد كلامه العلم واليقين". مجموع الفتاوى 7158-159. وانظر منهج شيخ الإسلام في الرد على خصومهم: موقفه من الأشاعرة 1284-318 درء تعارض العقل والنقل 1357. وانظر: المصدر نفسه 1232-237. 2 المبتدعة؛ أصحاب دليل الأعراض وحدوث الأجسام. 3 في ((خ)) : أثبتو. 4 انظر طريقة المتكلمين في إثبات أصول الدين، وذمّ السلف لهذه الطريقة في كتاب الصفدية 1274-275، 277-279.

ندم الرازي وحيرته [وهم] 1 معترفون بذلك؛ كما قال الرازي: لقد تأملت الطرق الكلاميّة، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق: طريقة القرآن؛ أقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 2، {وَلا يحِيطُون بِهِ عِلْمَاً} 3، وأقرأ في الإثبات: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 4، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ} 5، {أَأَمِنْتُمْ مَنْ في السَّمَاءِ} 6. ثم قال7: ومن جرّب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي8. وكذلك الغزالي9، وابن عقيل10، وغيرهما11 يقولون ما يشبه هذا.

_ 1 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 2 سورة الشورى، الآية 11. 3 سورة طه، الآية 110. 4 سورة طه، الآية 5. 5 سورة فاطر، الآية 10. 6 سورة الملك، الآية 16. 7 يعني الرازي. 8 سبق كلام الرازي هذا مراراً. انظر ص 356-357، 478، 612. 9 انظر ذمّ الغزالي للكلام في إحياء علوم الدين 1113-117، وقواعد العقائد ص 82-105 وكلاهما للغزالي. وانظر: درء تعارض العقل والنقل لشيخ الإسلام 7157-186، 242-246. وشرح الأصفهانية له 2551. 10 قال ابن عقيل: "فنصيحتي لإخواني من المؤمنين الموحدين أن لا يقرع أبكار قلوبهم كلام المتكلمين، ولا تصغي مسامعهم إلى خرافات المتصوفين..... وقد خبرت طريقة الفريقين؛ غاية هؤلاء الشك، وغاية هؤلاء الشطح". انظر: درء تعارض العقل والنقل 866. وشرح الأصفهانية 171. وانظر ذم ابن عقيل للكلام في تلبيس إبليس ص 116-117. وتحريم النظر في كتب أهل الكلام لابن قدامة ص 5. ودرء تعارض العقل والنقل 748-50،، 861-68. 11 وانظر أيضاً ذم الجويني للكلام في تلبيس إبليس ص 115. ودرء تعارض العقل والنقل 747. وانظر الجزء السابع من درء تعارض العقل والنقل؛ فقد ذكر فيه شيخ الإسلام رحمه الله أقوال العلماء في ذمّ الكلام، وعلق عليها. وانظر أيضاً: درء تعارض العقل والنقل 1232،، 5218، 8277. وشرح الأصفهانية 2318. ومجموع الفتاوى 5261، 6243، 472-476.

وهو كما قالوا؛ فإنّ الرازي قد جمع ما جمعه من طرق المتكلمين والفلاسفة، ومع هذا فليس في كتبه إثبات الصانع؛ كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع1، وبُيِّن جميع ما ذكره في إثبات الصانع، وأنه ليس فيه ذلك، وليس فيه أيضاً إثبات النبوة2؛ فإنّ النبوة مبناها على أنّ الله قادر، وأنّه يُحدث الآيات لتصدق بها الرسل، وليس في كتبه إثبات أن الله قادر،

_ 1 انظر كتاب نقض تأسيس الجهميّة لشيخ الإسلام ابن تيمية؛ فهو مما أفرده رحمه الله في نقض كلام الرازي، وقد بيّن فيه مخالفة الرازي لطريقة السلف. والكتاب وزّع كرسائل علمية على الطلاب في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وهو الآن قيد الطبع كما نما إلى سمعي. وتوجد قطعة منه مطبوعة، وقد اعتنى بها الشيخ عبد الرحمن بن قاسم. انظر منها على سبيل المثال: 1459، 478. وانظر درء تعارض العقل والنقل 968. 2 قال شيخ الإسلام عن الرازي في موضع آخر: "أبو عبد الله الرازي فيه تجهم قوي، ولهذا يوجد ميله إلى الدهرية أكثر من ميله إلى السلفية الذين يقولون إنه فوق العرش، وربما كان يوالي أولئك أكثر من هؤلاء، ويعادي هؤلاء أكثر من أولئك، مع اتفاق المسلمين على أن الدهرية كفار، وأن المثبتة للعلوّ فيهم من خيار المسلمين من لا يحصيه إلا الله تعالى. وقد صنف على مذهب الدهرية المشركين والصابئين كتباً، حتى صنّف في السحر وعبادة الأصنام وهو الجبت والطاغوت، وإن كان قد أسلم من هذا الشرك، وتاب من هذه الأمور، فهذه الموالاة والمعاداة لعلها في تلك الأوقات، ومن كان بتلك الأحوال فهو قبل الإسلام والتوبة..". بيان تلبيس الجهمية 1122-123. وقال شيخ الإسلام رحمه الله أيضاً عنه: "ليس في كتبه إثبات النبوة، بل كان يصنف في دين المشركين". مجموع الفتاوى 13116. وانظر: المصدر نفسه 1855، 77. وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 612.

ولا مريد. بل كلامه فيه تقرير حجج من نفى قدرته وإرادته، دون الجانب الآخر؛ كما قد بيَّنَّا ذلك في الكلام على ما ذكره في مسألة القدرة والإرادة1، مع أنّه ولله الحمد الأدلة الدالة على إثبات الصانع، وإثبات قدرته ومشيئته، تفوق الاحصاء. لكن من لم يجعل الله له نوراً، فما له من نور. وسبب ذلك إعراضهم عن الفطرة العقلية، و [الشرعة] 2 [النبوية؛ بما ابتدعه المبتدعون مما أفسدوا به الفطرة، والشرعة] 3؛ فصاروا يُسفسطون4 في العقليّات ويقرمطون5 في السمعيات؛ كما قد بُيِّن هذا في

_ 1 هذا الكتاب لم أقف عليه، ويبدو أنّه غير مطبوع، والله أعلم. وللشيخ رحمه الله كتاب باسم "الإرادة والقدر"، وهو لا يزال مخطوطاً، ويقع في (24) ورقة، كُتب في القرن العاشر. ويوجد في المكتبة السليمانية بتركيا، "خزانة أزميرلي"، رقم 365. انظر قائمة ببعض مخطوطات شيخ الإسلام رحمه الله ضمن رسالة حققها علي بن عبد العزيز الشبل، بعنوان ((قاعدة في الرد على الغزالي في التوكل)) لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 15. 2 في ((م)) ، و ((ط)) : الشرعية. 3 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 4 سبق تعريف هذه الكلمة ص 553. وانظر معنى السفسطة من كلام شيخ الإسلام في نقض تأسيس الجهمية 1150، 322، 324. وشرح العقيدة الأصفهانية 2451-457. وبغية المرتاد ص 184. ودرء تعارض العقل والنقل 215. والتدمرية ص 19. والرد على البكري ص 77-88. ومنهاج السنة النبوية 2524-225. وكتاب الصفدية 198. 5 القرمطة نسبة إلى مذهب القرامطة. ووجه قرمطتهم: أنّهم جعلوا للنص معنى باطناً يُخالف معناه الظاهر. والقرامطة: نسبة إلى حمدان قرمط، ولُقّب بذلك لقرمطة في خطه، أو في خطوه. كان أحد دعاتهم في الابتداء، فاستجاب له جماعة، فسموا قرامطة، وقرمطية. وكان هذا الرجل من أهل الكوفة، وكان يميل إلى الزهد، فصادف أحد دعاة الباطنية، وأثّر عليه؛ فاعتنق مذهبهم. ثمّ لم يزل بنوه وأهله يتوارثون مكانه. وكان أشدّهم بأساً: رجل يُقال له أبو سعيد. ظهر في سنة ست وثمانين ومائتين، وقوي أمره، وقتل ما لا يحصى من المسلمين، وخرب المساجد، وأحرق المصاحف، وفتك بالحاج، وسنّ لأهله وأصحابه سنناً، وأخبرهم بمحالات. ثم مات، وخلف بعده ابنه أبا طاهر؛ ففعل مثل فعله، وهجم على الكعبة، فأخذ ما فيها من الذخائر، وقلع الحجر الأسود، وحمله إلى بلده، وأوهم الناس أنه الله ـتعالى الله عن قوله علواً كبيراً. انظر: الفرق بين الفرق للبغدادي ص 289. وفضائح الباطنية للغزالي ص 12. وتلبيس إبليس لابن الجوزي ص 144-146. وانظر تعريف شيخ الإسلام رحمه الله للقرمطة في السمعيات في كتابه: نقض تأسيس الجهمية 1150. والرسالة التدمرية ص 19. وشرح حديث النزول ص 428. وبغية المرتاد ص 183-184. وشرح الأصفهانية 2451-457. ودرء تعارض العقل والنقل 215. ومجموع الفتاوى 12213، 13168.

مواضع1.

_ 1 وهذه القرمطة في السمعيات، والسفسطة في العقليات؛ والتي هي صنيع المبتدعة الذين ابتدعوا أصولاً عارضوا بها أصول الدين: قد أشار إليها شيخ الإسلام في العديد من مصنّفاته. راجع مصنّفات شيخ الإسلام رحمه الله المذكورة في الحاشيتين (4) ، (5) عند التعليق على السفسطة في العقليات، والقرمطة في السمعيات. وقد بيّن شيخ الإسلام رحمه الله أنّ القرآن الكريم جاء بالأدلة العقلية لأصول الدين، وردّ على من يُهمل دلالة القرآن العقلية والسمعية على ذلك؛ فقال: "إنّ القرآن ضرب الله فيه الأمثال والمقاييس العقلية التي يُثبت بها ما يُخبر به من أصول الدين؛ كالتوحيد، وتصديق الرسل، وإمكان المعاد، وأنّ ذلك مذكور في القرآن على أكمل الوجوه، و.... عامة ما يُثبته النظار من المتكلمين والمتفلسفة في هذا الباب يأتي القرآن بخلاصته، وبما هو أحسن منه على أتم الوجوه، بل لا نسبة بينهما لعظم التفاوت". التسعينيّة ص 273. ويقول أيضاً: "والمتكلم يستحسن مثل هذا التأليف ويستعظمه؛ حيث قررت الربوبية، ثم الرسالة، ويظنّ أنّ هذا موافق لطريقته الكلامية في نظره في القضايا العقليات أولاً؛ من تقرير الربوبية، ثم تقرير النبوة، ثم تلقي السمعيات من النبوة؛ كما هي الطريقة المشهورة الكلامية للمعتزلة، والكرامية، والكلابية، والأشعرية، ومن سلك هذا الطريق في إثبات الصانع أولاً بناء على حدوث العالم، ثمّ إثبات صفاته نفياً وإثباتاً بالقياس العقلي، على ما بينهم من اتفاق واختلاف؛ إما في المسائل، وإما في الدلائل. ثمّ بعد ذلك يتكلمون في السمعيات؛ في المعاد، والثواب والعقاب، والخلافة، والتفضيل، والإيمان بطريقة مجملة. وإنما عمدة الكلام عندهم ومعظمه هو تلك القضايا التي يُسمونها العقليات؛ وهي أصول دينهم، وقد بنوها على مقاييس تستلزم رد كثير مما جاءت به السنة؛ فلحقهم الذم من جهة ضعف المقاييس التي بنوا عليها، ومن جهة ردهم لما جاءت به السنة". مجموع الفتاوى 27. وانظر: شرح الأصفهانية 140-41، 397. وكتاب الصفدية1276-278.

طرق إثبات النبوة عند الرازي وأيضاً فإذا عرف1 أنّ الله قادر، كما قد عرفه غيره، فليس عنده في النبوة إلا طريق أصحابه الأشعريّة2؛ الذين سلكوا مسلك الجهمية3 في

_ 1 المقصود به الرازي. وانظر كتابه الأربعين ص 122-125. ويُوضّح شيخ الإسلام رحمه الله موقف الرازي من هذه المسألة، فيقول: "والرازي وأمثاله يترجمون هذه المسألة بأنّ الباري تعالى هو فاعل مختار، أو موجب بالذات، ويجعلون الأول قول أهل الملل، والثاني قول الفلاسفة، ثم يُقررون القادر المختار بأنّه الذي يفعل مع جواز أن لا يفعل. وهذا تفسير القدرية، بل تفسير بعضهم. وأما بعضهم: فإنه يوافق أئمة أهل السنة على أنه مع القدرة التامة، والإرادة الجازمة يلزم وجود المراد". شرح الأصفهانية 2351. وانظر الصفدية 1146. 2 وينقل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلام الرازي: فإنّ الطريق إلى إثبات الصانع، ومعرفة النبوة، ليس إلا العقل. ثمّ ينقل قوله: الدليل السمعي لا يُفيد اليقين. انظر درء تعارض العقل والنقل 5330-331،، 9333-334،، 7242. 3 انظر كلام شيخ الإسلام في النبوة عند الجهمية والأشاعرة في منهاج السنة 2414. وشرح الأصفهانية 2471-472، 502، 543، 609، 610، 616، 617، 621.

أفعال الله تعالى، أو طريق الفلاسفة1. ولهذا يقول من يقول من علماء الزيدية2 وهم يميلون إلى الاعتزال، مع تشيع الزيديّة يقولون: نحن لا نتكلم في الشافعي؛ [فإنّه إمام] 3. لكن هؤلاء صاروا جهميّة4؛ يعني القدريّة فلاسفة، والشافعي لم يكن جهميّاً، ولا فيلسوفاً. المتكلمون لم يعرفوا الفرق بين آيات الأنبياء ومخالفيهم وهؤلاء5 لم يعرفوا آيات الأنبياء، والفرق بينها وبين غيرها6، لكن ادعوا أنّ ما يأتي به الكهان، والسحرة، وغيرهم قد يكون من آيات الأنبياء، لكن بشرط: أن لا يقدر أحدٌ من المرسل إليهم على معارضته؛ وهذه خاصّة المعجز عندهم7.

_ 1 انظر كلام شيخ الإسلام في النبوة عند المتفلسفة في منهاج السنة النبوية 2415. وشرح الأصفهانية 2543، 502-507، 633. 2 الزيدية أتباع زيد بن علي بن الحسين. ساقوا الإمامة في أولاد فاطمة رضي الله عنها، وجوزوا إمامة المفضول مع قيام الأفضل. وكان زيد يتولى أبا بكر وعمر، ويفضل علي بن أبي طالب على سائر الصحابة. والزيدية ست فرق، تجمعهم أصول المعتزلة الخمسة، ومنها القول بأن مرتكب الكبيرة مخلد في النار. انظر: مقالات الإسلاميين 1136. والملل والنحل 1154. وانظر ما سبق ص 495. وأما القائل من علمائهم، فلم أعرفه. 3 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 4 قد تقدّم المراد من إطلاق كلمة جهميّة على طائفة ما، انظره ص 152. 5 المقصود بهم الأشاعرة. 6 انظر بعض الفروق كما أوضحها شيخ الإسلام رحمه الله في: شرح الأصفهانية 2472-477. وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله جملة من الفروق بين النبيّ، والمتنبئ في هذا الكتاب، فراجع ص: 589-631، 671-674، 728-729. 7 انظر: البيان للباقلاني ص 48، 91، 94-96، 100. والإرشاد للجويني ص 319، 328.

وهذا فاسد من وجوه كثيرة؛ كما قد بسط في [غير] 1 هذا الموضع2. المتكلمون ليس في كتبهم إثبات الربوبية ولا المعاد وأما كلامه في المعاد: فأبعد من هذا، وهذا؛ كما قد بُيِّن أيضاً3؛ وكذلك كلام من [تقدمه] 4؛ من الجهمية، وأتباعهم من الأشعرية، وغيرهم، ومن المعتزلة؛ فإنّك لا تجد في كلامهم الذي ابتدعوه؛ لا إثبات الربوبية، ولا النبوّة، ولا المعاد. [والأشعري نفسه، وأتباعه، ليس في كتبهم إثبات الربوبية، ولا المعاد] 5، وكذلك من سلك سبيلهم في أدلتهم6 من أتباع الفقهاء؛ كالقاضي أبي

_ 1 ما بين المعقوفتين ليس في ((ط)) . 2 انظر: الجواب الصحيح 6400-401. وانظر أيضاً هذا الكتاب ص 263-274، 585-642. 3 قال شيخ الإسلام رحمه الله عن أصل الرازي في إثبات المعاد وطريقته: (إنّ إثبات المعاد موقوف على ثبوت الجوهر الفرد. وهذا قول أبي عبد الله الرازي، وغيره، وهو ملخص من جعله الأصل في الإيمان بالله؛ فجعله هو الأصل في الإيمان بالمعاد، مع كونه يجعله أصلاً في نفي الصفات التي يُنكرها ... ) . ثمّ نقل رحمه الله من كتاب الرازي نهاية العقول ما يُؤيّد ما ذكره عنه، ثم أبطل رحمه الله هذا الأصل الذي يعتمد عليه..) . انظر نقض تأسيس الجهمية 1281-286. 4 في ((خ)) : يقدمه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 6 يقول شيخ الإسلام رحمه الله عن أصل هؤلاء المتكلمين الذي بنوا عليه إثبات الخالق، والمعاد: "وأصل هؤلاء المتكلمين من الجهمية والمعتزلة، ومن وافقهم بنوا عليه هذا: هو مسألة الجوهر الفرد؛ فإنهم ظنوا أنّ القول بإثبات الصانع، وبأنه خلق السموات والأرض، وبأنه يقيم القيامة، ويبعث الناس من القبور: لا يتمّ إلا بإثبات الجوهر الفرد؛ فجعلوه أصلاً للإيمان بالله واليوم الآخر. أما جمهور المعتزلة، ومن وافقهم؛ كأبي المعالي، وذويه: فيجعلون الإيمان بالله تعالى لا يحصل إلا بذلك، وكذلك الإيمان بالله واليوم الآخر؛ إذ كانوا يقولون: لا يعرف ذلك إلا بمعرفة حدوث العالم، ولا يعرف حدوثه إلا بطريقة الأعراض، وطريقة الأعراض مبنية على أنّ الأجسام لا تخلو منها. وهذا لم يمكنهم أن يُثبتوه إلا بالأكوان التي هي: الاجتماع، والافتراق، والحركة، والسكون. فعلى هذه الطريقة اعتمد أولهم وآخرهم ... فإنّ هذا أبلغ الأقوال؛ وهو قول الأشعريّ، ومن وافقه؛ كالقاضي أبي بكر، والقاضي أبي يعلى، وأبي المعالي الجويني، وأبي الحسين، وابن الزاغوني، وغيرهم". نقض تأسيس الجهمية 1280.

يعلى، وابن عقيل، وابن الزاغوني1، وغيرهم. والمعتزلة كذلك أيضاً، وكذلك الكرّاميّة. وقد تأملت كلام أئمة هؤلاء الطوائف؛ كأبي [الحسين] 2 [البصري] 3، ونحوه من المعتزلة، وكابن [الهيصم] 4 من الكرامية، وكأبي الحسن

_ 1 هو علي بن عبيد الله بن نصر بن السري، أبو الحسن بن الزاغوني، الفقيه، الحنبلي، شيخ الحنابلة، وواعظهم، وأحد أعيانهم. كان متقناً لعلوم شتى. توفي سنة 527 ?. انظر: ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 1180-184. وسير أعلام النبلاء 19605-607. وشذرات الذهب 480، 81. 2 في ((ط)) : الحسن. 3 في ((م)) : الصبري. وهو: أبو الحسين محمد بن علي الطيب البصري، من متأخري المعتزلة، ومن أئمتهم. قال عنه الخطيب البغدادي: "المتكلم، صاحب التصانيف على مذهب الاعتزال. بصري، سكن بغداد، ودرس بها الكلام إلى حين وفاته". وقال ابن حجر: "شيخ المعتزلة، ليس بأهل للرواية". توفي سنة 436 ?. انظر: لسان الميزان 5298. وتاريخ بغداد 3100. وشذرات الذهب 3259. 4 في ((خ)) ، و ((م)) ، و ((ط)) : الهيضم بالضاد. وهو خلاف الموجود في كتب التراجم. وقد ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مراراً في كتبه؛ سيما في المنهاج (2285، 4120) ، وفي كتاب الصفدية (136) ، وفي بيان تلبيس الجهمية (1201) باسم ابن الهيصم بالصاد، فلعلّ ما في النبوات خطأ من الناسخ. وهو أبو عبد الله محمد بن الهيصم. من أئمة الكرامية. عاش في القرن الخامس الهجري. قال عنه الشهرستاني: "وقد اجتهد ابن الهيصم في إرمام مقالة أبي عبد الله في كلّ مسألة، حتى ردّها من المحال الفاحش إلى نوع يُفهم فيما بين العقلاء"، وذكر طوائف الكرامية إلى ثنتي عشرة فرقة، وقال: وأقربهم الهيصمية. ونفى عنه ابن أبي الحديد (في شرح نهج البلاغة 3229-230) ما يُنسب إليه من تجسيم، وفوقية. وقد تناظر ابن الهيصم، وابن فورك بحضور السلطان محمود بن سكتكين في مسألة العرش، فمال السلطان إلى قول ابن الهيصم. البداية والنهاية 1230. وانظر: الملل والنحل للشهرستاني 1108-112. وشرح نهج البلاغة 3229. وانظر بعض آرائه في منهاج السنة النبوية 2285، 4120. وكتاب الصفدية 136.

نفسه1، والقاضي أبي بكر، وأبي المعالي الجويني، وأبي إسحاق الاسفرايني، وأبي بكر ابن فورك، وأبي القاسم القشيري، وأبي الحسن التميمي، والقاضي أبي يعلى، وابن عقيل، وابن الزاغوني غفر الله لهم ورحمهم أجمعين2. وتأمّلت ما وجدته في الصفات من المقالات؛ مثل كتاب الملل والنحل للشهرستاني، وكتاب مقالات الإسلاميين للأشعري؛ وهو أجمع كتابٍ رأيته في هذا الفن، وقد ذكر فيه ما ذكر أنّه مقالة أهل السنة والحديث، وأنّه يختارها، وهي أقرب ما ذكره من المقالات إلى السنّة والحديث، لكنْ فيه أمور لم يقلها أحدٌ من أهل السنة والحديث. ونفس مقالة أهل السنة والحديث لم يكن يعرفها، ولا هو خبيرٌ بها؛ فالكتب المصنّفة في مقالات الطوائف التي صنفها هؤلاء، ليس فيها ما جاء به الرسول، وما دلّ عليه القرآن؛ لا في

_ 1 لعله يعني أبا الحسن الأشعري؛ لأنه ذكره بعد ذكر أئمة كل فرقة، فكان من المناسب أن يُتبعهم بذكر الأشعري وأتباعه. 2 انظر أصل هؤلاء المتكلمين الذي بنوا عليه إثبات الخالق، والمعاد؛ وهو إثبات الجوهر الفرد، في: نقض تأسيس الجهمية 1280-281.

المقالات المجرّدة، ولا في المقالات التي يذكر فيها الأدلة؛ فإنّ جميع هؤلاء دخلوا في الكلام المذموم الذي عابه السلف وذموه1. الأشعري أعلم من الشهرستاني بالمقالات والشهرستاني أعلم من الغزالي بها ولكنّ بعضهم أقرب إلى السنة من بعض، وقد يكون هذا أقرب في بعض، وهذا أقرب في مواضع؛ وهذا لكون أصل اعتمادهم لم يكن على القرآن والحديث؛ بخلاف الفقهاء؛ فإنّهم في كثيرٍ ممّا يقولونه إنّما يعتمدون على القرآن والحديث، فلهذا كانوا أكثر متابعة، لكن ما تكلّم فيه أولئك أجلّ، ولهذا يُعظَّمون من وجه، ويذمّون من وجه؛ فإنّ لهم حسنات، وفضائل، وسعياً مشكوراً، وخطأهم بعد الاجتهاد مغفورٌ. والأشعريّ أعلم بمقالات المختلفين من الشهرستاني؛ ولهذا ذكر عشر طوائف، وذكر مقالات لم يذكرها الشهرستاني2، وهو أعلم بمقالات أهل السنة، وأقرب إليها، وأوسع علماً من الشهرستاني. والشهرستاني أعلم باختلاف المختلفين، ومقالاتهم من الغزالي؛ ولهذا ذكر لهم في القرآن أربع مقالات، وعدّد طوائف من أهل القبلة3. الغزالي حصر أهل العلم الإلهي في أربعة أصناف والغزالي حصر أهل العلم الإلهي في أربعة أصناف؛ في الفلاسفة، والباطنية، والمتكلمين، والصوفية؛ فلم يعرف مقالات أهل الحديث والسنة، ولا مقالات الفقهاء، ولا مقالات أئمة الصوفية، ولكن ذكر عنهم العمل، وذكر عن بعضهم اعتقاداً يُخالفهم فيه أئمتهم4.

_ 1 انظر نقد شيخ الإسلام رحمه الله لكتب المقالات في درء تعارض العقل والنقل 2307-311، 368، 735-36، 967-68. 2 ذكر ذلك في كتابه مقالات الإسلاميين. 3 ذكر ذلك في كتابه الملل والنحل. 4 انظر كتاب الغزالي ((المنقذ من الضلال)) ص 25.

والقشيري أعلم بأقوال الصوفيّة، ومع هذا لم يذكر أقوال أئمتهم1. وأبو طالب2 أعلم منهما3 بأقوال الصوفية، ومع هذا فلم يعرف مقالة الأكابر؛ كالفضيل بن عياض، ونحوه4. ابن رشد حصر أهل العلم الإلهي في ثلاثة أصناف وأبو الوليد بن رشد الحفيد حصر أهل العلم الإلهي في ثلاثة: في الحشوية، والباطنية، والأشعرية. والباطنية عنده يدخل فيهم باطنية الصوفية، وباطنية الفلاسفة5. ملاحدة الصوفية ومن هنا دخل ابن سبعين، وابن عربي؛ فأخذوا مذاهب الفلاسفة، وأدخلوها في التصوف6.

_ 1 انظر: الرسالة القشيرية له. 2 هو أبو طالب محمد بن علي بن عطية الحارثي، المكي المنشأ، العجمي الأصل. صاحب قوت القلوب. قال عنه الذهبي: إنه وعظ، فخلط في كلامه، فقال: "ليس على المخلوقين أضرّ من الخالق"، فبدّعوه، وهجروه. وهو من أشهر رجال السالمية؛ أتباع أبي عبد الله محمد بن أحمد بن سالم، وابنه أحمد بن محمد بن سالم. ويجمع السالمية في مذهبهم بين كلام أهل السنة، وكلام المعتزلة، مع ميل إلى التشبيه، ونزعة صوفية اتحادية. وقد توفي أبو طالب المكي ببغداد سنة 386 ?. انظر: تاريخ بغداد 389. وسير أعلام النبلاء 16536. والبداية والنهاية 11341. وشذرات الذهب 3120-121. والأعلام 6274. 3 أي من الغزالي، والقشيري. 4 انظر كتاب ((قوت القلوب)) لأبي طالب المكي. 5 انظر كتاب ((الكشف عن مناهج الأدلة)) لابن رشد الحفيد. وانظر درء تعارض العقل والنقل 968-69. 6 انظر: كتاب الصفدية لشيخ الإسلام 1265-270، 273، 284. وشرح الأصفهانية 2547-549. وبغية المرتاد ص 445-450.

وأبو حامد يدخل في [بعض] 1 هذا؛ فإنّ ابن سينا تكلّم في مقالات العارفين بتصوّف فاسد. قولهم في الصحابة لأجل أنهم لم يتكلموا بنحو كلامهم ثمّ إنّ هؤلاء2 مع هذا [لمّا لم] 3 يجدوا الصحابة والتابعين تكلموا بمثل كلامهم، بل ولا نقل ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، صار منهم من يقول: كانوا مشغولين بالجهاد عن هذا الباب، وأنّهم هم حققوا ما لم يحققه الصحابة4. ويقولون أيضاً: إنّ الرسول لم يعلمهم هذا، لئلا يشتغلوا به عن الجهاد؛ فإنّه كان محتاجا إليهم في الجهاد5.

_ 1 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 2 المتصوفة. 3 في ((ط)) : لم لم. 4 وقال شيخ الإسلام رحمه الله عن طريقة هؤلاء المبتدعة أنهم "أسقطوا بها حرمة الكتاب والرسول عندهم، وحرمة الصحابة والتابعين لهم بإحسان؛ حتى يقولون: إنهم لم يُحقّقوا أصول الدين كما حققناها. وربما اعتذروا عنهم بأنهم كانوا مشتغلين بالجهاد. ولهم من جنس هذا الكلام الذي يُوافقون به الرافضة ونحوهم من أهل البدع، ويُخالفون به الكتاب والسنة والإجماع". درء تعارض العقل والنقل 214-15. وانظر: قواعد العقائد للغزالي ص 97. وتفسير المنار لمحمد رشيد رضا 3186-187. ومن كتب شيخ الإسلام: درء تعارض العقل والنقل 851-54، والتسعينية ص 256؛ حيث نسب بعض هذه الأقوال للجويني. 5 وقال شيخ الإسلام عنهم: "صار كثير منهم يقول: إن الرسول لم يكن يعرف أصول الدين، أو لم يبين أصول الدين. ومنهم من هاب النبي، ولكن يقول: الصحابة والتابعون لم يكونوا يعرفون ذلك. ومن عظّم الصحابة والتابعين مع تعظيم أقوال هؤلاء يبقى حائراً: كيف لم يتكلم أولئك الأفضل في هذه الأمور التي هي أفضل العلوم. ومن هو مؤمن بالرسول معظم له: يستشكل كيف لم يبين أصول الدين مع أن الناس إليها أحوج منهم إلى غيرها". درء تعارض العقل والنقل124. وانظر: مجموع الفتاوى 13249-252.

وهكذا يقول من يقول من مبتدعة أهل الزهد، والتصوف1؛ إذا دخلوا في عبادات منهي عنها، ومذمومة في الشرع، قالوا: كان الصحابة مشغولين عنها بالجهاد، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يخاف أن يشتغلوا بها عن الجهاد. وأهل السيف قد يظنّ من يظنّ منهم أنّ لهم من الجهاد، وقتال الأعداء ما لم يكن مثله للصحابة، وأنّ الصحابة كانوا مشغولين بالعلم والعبادة عن مثل جهادهم. ومن أهل الكلام من يقول: بل الصحابة كانوا على عقائدهم، وأصولهم، لكن لم يتكلموا بذلك؛ لعدم حاجتهم إليه2. فهؤلاء جمعوا بين أمرين؛ بين أن ابتدعوا أقوالاً باطلةً ظنّوا أنّها هي أصول الدين، لا يكون عالما بالدين إلا من وافقهم عليها، وأنّهم علموا، وبيّنوا من الحق ما لم يُبيّنه الرسول والصحابة. وإذا تدبر الخبير حقيقة ما هم عليه، تبيّن له أنّه ليس عند القوم فيما ابتدعوه؛ لا علم، ولا دين، ولا شرع، ولا عقل.

_ 1 انظر: التسعينية لشيخ الإسلام ص 257. 2 انظر: قواعد العقائد للغزالي ص 97. وإحياء علوم الدين 1113-114. ويقول شيخ الإسلام رحمه الله في الردّ عليهم، وبيان أنّ السلف أعلم في المنقول والمعقول: "ومن تدبّر كلام أئمة أهل السنة المشاهير في هذا الباب، علم أنهم كانوا أدقّ الناس نظراً، وأعلم الناس في هذا الباب بصحيح المنقول وصريح المعقول، وأنّ أقوالهم هي الموافقة للمنصوص والمعقول، ولهذا تأتلف، ولا تختلف، وتتوافق، ولا تتناقض. والذين خالفوهم لم يفهموا حقيقة أقوال السلف والأئمة، فلم يعرفوا حقيقة المنصوص والمعقول؛ فتشعّبت بهم الطرق، وصاروا مختلفين في الكتاب، مخالفين للكتاب ... ". درء تعارض العقل والنقل 2301-302. وانظر: مجموع الفتاوى 1329

وآخرون1 لما رأوا ابتداع هؤلاء، وأنّ الصحابة والتابعين لم يكونوا يقولون مثل قولهم، ظنّوا أنّهم كانوا كالعامة الذين لا يعرفون الأدلة والحجج، وأنهم كانوا لا يفهمون ما في القرآن مما تشابه على من تشابه عليه، وتوهّموا أنه إذا كان الوقف على قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله} 2؛ كان المراد أنّه لا يفهم معناه إلا الله؛ لا الرسول، ولا الصحابة؛ فصاروا ينسبون الصحابة، بل والرسول إلى عدم العلم بالسمع والعقل، وجعلوهم مثل أنفسهم لا يسمعون ولا يعقلون، وظنّوا أنّ هذه طريقة السلف؛ وهي الجهل البسيط3 التي لا يعقل صاحبها ولا يسمع، وهذا وصف أهل النار، لا وصف أفضل الخلق بعد الأنبياء.

_ 1 انظر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن هؤلاء؛ فقد توسع في ذكر أقوالهم، وما يلزم عليها، في: درء تعارض العقل والنقل 116-20، 5380-381، 851-53. وكتاب الصفدية 1260، 276، 287-288. 2 سورة آل عمران، الآية 7. وانظر أقوال العلماء في الوقف في هذه الآية في: تفسير الطبري 5182-186. وتفسير ابن كثير 1346-347. وأضواء البيان 1331-336. وانظر لشيخ الإسلام: درء تعارض العقل والنقل 5380-381، 7327. والعقيدة التدمرية ص 90. 3 هو عدم العلم عمّا من شأنه أن يكون علماً. انظر: التعريفات للجرجاني ص 108. وقال شيخ الإسلام رحمه الله عن أهل الجهل البسيط والجهل المركب: "فأهل الجهل البسيط منهم أهل الشك والحيرة من هؤلاء المعارضين للكتاب، المعرضين عنه، وأهل الجهل المركب أرباب الاعتقادات الباطلة التي يزعمون أنها عقليات. وآخرون ممن يعارضهم يقول: المناقض لتلك الأقوال هو العقليات". درء تعارض العقل والنقل 1170. وانظر: المصدر نفسه 117.

ابن مسعود يحث على التمسك بهدي الصحابة.. قال ابن مسعود رضي الله عنه: من كان منكم مستنّاً، فليستنّ بمن قد مات؛ فإنّ الحيّ لا يؤمن عليه الفتنة. أولئك أصحاب محمد أبرّ هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلّها تكلفاً؛ قومٌ اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقّهم، وتمسّكوا بهديهم؛ فإنّهم كانوا على الهدى المستقيم1.

_ 1 انظر: مشكاة المصابيح 168، وقد علّق عليه الشيخ الألباني بقوله: (أخرجه ابن عبد البرّ في جامع بيان العلم وفضله 297، والهروي (ق 86أ) من طريق قتادة، عنه. فهو منقطع. وانظر أيضاً شرح السنة للبغوي 124 مع اختلاف يسير في الألفاظ. وانظر منهاج السنة النبوية لشيخ الإسلام 276-77، مع اختلاف يسير. ويُعلّق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على هذا الأثر؛ فيقول: "وقول عبد الله بن مسعود: كانوا أبرّ هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً: كلامٌ جامع، بيّن فيه حسن قصدهم، ونياتهم ببر القلوب، وبيّن فيه كمال المعرفة، ودقتها بعمق العلم، وبيّن فيه تيسير ذلك عليهم، وامتناعهم من القول بلا علم بقلة التكلف ... وهم أفضل الأمة الوسط الشهداء على الناس، الذين هداهم الله لما اختُلف فيه من الحق بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم؛ فليسوا من المغضوب عليهم الذين يتبعون أهواءهم، ولا من الضالين الجاهلين ... بل لهم كمال العلم، وكمال القصد؛ إذ لو لم يكن كذلك، للزم أن لا تكون هذه الأمة خير الأمم، وأن لا يكونوا خير الأمة، وكلاهما خلاف الكتاب والسنة. وأيضاً فالاعتبار العقليّ يدلّ على ذلك؛ فإنّ من تأمّل أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وتأمل أحوال اليهود، والنصارى، والصابئين، والمجوس، والمشركين، تبيّن له من فضيلة هذه الأمة على سائر الأمم في العلم النافع، والعمل الصالح ما يضيق هذا الموضع عن بسطه. والصحابة أكمل الأمة في ذلك بدلالة الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار، ولهذا لا تجد أحداً من أعيان الأمة إلا وهو معترف بفضل الصحابة عليه وعلى أمثاله، وتجد من ينازع في ذلك كالرافضة من أجهل الناس. ولهذا لا يوجد في أئمة الفقه الذين يُرجع إليهم رافضي، ولا في أئمة الحديث، ولا في أئمة الزهد والعبادة، ولا في الجيوش المؤيدة المنصورة جيش رافضي، ولا في الملوك الذين نصروا الإسلام، وأقاموه، وجاهدوا عدوه من هو رافضي، ولا في الوزراء الذين لهم سيرة محمودة من هو رافضي ... ". منهاج السنة النبوية 279-81. وانظر مدح شيخ الإسلام رحمه الله للسلف، وذكر مميزاتهم، وقيامهم بحفظ هذا الدين في: مجموع الفتاوى 17-8.

وقال أيضاً: إنّ الله نظر في قلوب العباد؛ فوجد قلب محمد خير قلوب العباد؛ فاصطفاه لنفسه، وابتعثه برسالته. ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد؛ فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد بعد قلبه؛ فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه. فما رآه المسلمون حسناً، فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحاً، فهو عند الله قبيح1. فضل الصحابة رضي الله تعالى عنهم وقد ثبت في الصحيحين، من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "خير القرون: القرن الذي بُعثت فيهم، ثمّ الذين يلونهم، ثمّ الذين يلونهم"2. وقد قال تعالى: {وَالسَّابِقونَ الأوَّلونَ مِنَ المُهَاجِرينَ وَالأنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعوهُمْ بِإِحْسَانٍ} 3؛ فرضي عن السابقين مطلقاً، ورضي عمّن اتبعهم

_ 1 رواه الإمام أحمد في المسند ط أحمد شاكر 5311، وقال عنه: إسناده صحيح، مع اختلاف يسير في الألفاظ. وانظر منهاج السنة 277-78. 2 أخرجه البخاري 2938، كتاب الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جور إذا شهد. و31335، كتاب فضائل أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، باب فضائل أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم. و52362، كتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها. و62452، كتاب الأيمان والنذور، باب إذا قال أشهد بالله. و62463، كتاب الأيمان والنذور، باب إثم من لا يفي مع اختلاف يسير في جميع هذه الأبواب. وأخرجه مسلم في صحيحه 41962-1965، كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم، مع اختلاف يسير. 3 سورة التوبة، الآية 100.

بإحسان؛ وذلك متناول لكلّ من اتّبعهم إلى يوم القيامة؛ كما ذكر ذلك أهل العلم1. قال ابن أبي حاتم: قُرىء على يونس بن عبد الأعلى: [أنا] 2 ابن وهب، حدثني عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: {وَالَّذِينَ اتَّبَعوهُمْ بِإِحْسَانٍ} 3: قال من بقي من أهل الإسلام إلى أن تقوم الساعة4. وبسط هذا له موضع آخر5. الهدى والبيان والبراهين في القرآن والمقصود هنا: أنّ الهدى، والبيان، والأدلة، والبراهين في القرآن؛ فإنّ الله تعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، وأرسله بالآيات البيّنات؛ وهي الأدلة البينة الدالة على الحق، وكذلك سائر الرسل. ومن الممتنع أن يرسل الله رسولاً يأمر الناس بتصديقه، ولا يكون هناك ما يعرفون به صدقه. وكذلك من قال إني رسول [الله] 6، فمن الممتنع أن يجعل مجرد الخبر المحتمل للصدق والكذب دليلاً له، وحجة على الناس. هذا لا يُظنّ بأجهل الخلق، فكيف بأفضل الناس؟. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: " ما من نبيّ من الأنبياء، إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر. وإنّما كان الذي أوتيته وحياً

_ 1 انظر: تفسير الطبري 116-9. وتفسير البغوي 2322. وبدائع التفسير لابن القيم جمع يسري السيد محمد 2372. 2 في ((ط)) : أن. "وأنا: مختصر "أخبرنا". 3 سورة التوبة، الآية 100. 4 الدر المنثور للسيوطي 3271. 5 انظر: العقيدة التدمرية ص 236. ومنهاج السنة النبوية 7155،، 8219. 6 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.

أوحاه الله إليّ، [فأرجو] 1 أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة" 2. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ [مَا] 3 [أَنْزَلْنَا] 4 مِنَ البَيّنَاتِ وَالهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ للنَّاسِ في الكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ} 5؛ فالبيّنات: جمع بيّنة؛ وهي الأدلة والبراهين التي هي بينة في نفسها، وبها يتبيّن غيرُها؛ يُقال: بيّن الأمر: أي تبين في نفسه، ويقال: بيّن غيره؛ فالبين: اسمٌ لما ظهر في نفسه، ولما أظهر غيره. وكذلك المبين؛ كقوله فاحشة مبيّنة؛ أي متبينة6. فهذا شأن الأدلة؛ فإنّ مقدماتها تكون معلومة بنفسها؛ كالمقدمات الحسية، والبديهية. وبها يتبيّن غيرها؛ فيستدل على الخفي بالجلي. والهدى: مصدر هداه هُدَى، والهدى: هو بيان ما ينتفع به الناس، ويحتاجون إليه، وهو ضدّ الضلالة؛ فالضالّ يضلّ عن مقصوده وطريق مقصوده.

_ 1 في ((خ)) : فأرجوا. 2 رواه البخاري في صحيحه 41905، كتاب فضائل القرآن، باب كيف نزل الوحي، وأول ما أنزل. و62654، كتاب الاعتصام، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "بعثت بجوامع الكلم". ورواه مسلم في صحيحه 1134، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس، ونسخ الملل بملته. 3 في ((م)) : اما. 4 في ((ط)) : أنزل. 5 سورة البقرة، الآية 159. 6 انظر: مفردات القرآن للراغب الأصفهاني ص 156. ولسان العرب لابن منظور 367-68.

وهو سبحانه بيّن في كتبه ما يهدي الناس؛ فعرفهم ما يقصدون، وما يسلكون من الطرق؛ عرَّفهم أنّ الله هو المقصود المعبود وحده، وأنّه لا يجوز عبادة غيره، وعرَّفهم الطريق؛ وهو ما يعبدونه به. ففي الهدى: بيان المعبود، وما يعبد به. والبينات فيها بيان الأدلة والبراهين على ذلك. فليس ما يخبر به، ويأمر به من الهدى قولاً مجرّداً عن دليله ليؤخذ تقليداً واتباعاً للظنّ، بل هو مبيّن بالآيات البيّنات؛ وهي الأدلة اليقينية، والبراهين القطعية. وكان عند أهل الكتاب من البيّنات الدالّة على نبوّة محمد، وصحّة ما جاء به أمور متعددة؛ [لبشارات كتبهم] 1، وغير ذلك؛ فكانوا يكتمونه؛ قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ الله} 2؛ فإنّه كان عندهم شهادة من الله، [تشهد] 3 بما جاء به محمد، وبمثله، [فكتموها] 4. وقال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدَىً للنّاس وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الهُدَى وَالفُرْقَان} 5؛ فأنزله هادياً للنّاس، وبيِّنات من الهدى والفرقان؛ فهو يهدي النّاس إلى صراط مستقيم؛ يهديهم إلى صراط العزيز الحميد الذي له ما في السموات وما في الأرض، بما فيه من الخبر والأمر، وهو بيّنات دلالات، وبراهين من الهدى؛ من الأدلة الهادية المبيّنة

_ 1 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو من ((م)) ، و ((ط)) . 2 سورة البقرة، الآية 140. 3 في ((خ)) : يشهد. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 في ((ط)) : فتكتموها. 5 سورة البقرة، الآية 185.

للحق، ومن الفرقان المفرّق بين الحق والباطل، والخير والشر، والصدق والكذب، والمأمور والمحظور، والحلال والحرام؛ وذلك أنّ الدليل لا يتمّ إلاّ بالجواب عن المعارض؛ فالأدلة تشتبه كثيراً بما يعارضها، فلا بُدّ من الفرق بين الدليل الدالّ على الحقّ، وبين ما عارضه؛ [ليتبين أنّ الذي عارضه باطلٌ. فالدليل يحصل به الهدى وبيان الحق، لكن لا بد مع ذلك من الفرقان؛ وهو الفرق بين ذلك الدليل، وبين ما عارضه] 1، والفرق بين خبر الرب، والخبر الذي يخالفه. فالفرقان يحصل به التمييز بين المشتبهات. ومن لم يحصل له الفرقان كان في اشتباه، وحيرة. الهدى التام لا يكون إلا مع الفرقان والهدى التام لا يكون إلا مع الفرقان. فلهذا قال أولاً: {هُدىً لِلنَّاسِ} ، ثم قال: {وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} ؛ فالبينات: الأدلة على ما تقدم من الهدى؛ وهي بينات من الهدى، الذي هو دليل على أنّ الأول هدى، ومن الفرقان الذي يُفرّق بين البيّنات والشبهات، والحجج الصحيحة والفاسدة. فالهدى: مثل أن يُؤمر بسلوك الطريق إلى الله؛ كما يُؤمر قاصد الحج [بسلوك] 2 طريق مكّة مع دليل يوصله. والبيّنات: ما يدلّ، ويُبيّن أنّ ذلك هو الطريق، وأنّ سالكه سالك للطريق لا ضالّ. والفرقان: أن يُفرّق بين ذاك الطريق وغيره، وبين الدليل الذي يسلكه ويدلّ الناس عليه، وبين غيرهم ممّن يدّعي الدلالة، وهو جاهل مضلّ.

_ 1 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 2 في ((ط)) : بساوك.

وهذا، وأمثاله مما يبين أنّ في القرآن الأدلة الدالّة للنّاس على تحقيق ما فيه من الأخبار، والأوامر كثير. وقد بسط هذا في غير هذا الموضع1. والمقصود هنا: الكلام على النبوة؛ فإنّ المتكلمين المبتدعين تكلموا في النبوات بكلامٍ كثيرٍ لبّسوا فيه الحق بالباطل؛ كما فعلوا مثل ذلك في غير النبوات؛ كالإلهيات، وكالمعاد. وعند التحقيق: لم يعرفوا النبوّة، ولم يثبتوا ما يدلّ عليها؛ فليس عندهم لا هدى، ولا بينات. النبوة عند المتكلمين والله سبحانه أنزل في كتبه البيّنات، والهدى؛ فمن تصوّر الشيء على وجهه، فقد اهتدى إليه؛ ومن عرف دليل ثبوته، فقد عرف البينات. فالتصوّر الصحيح: اهتداء. والدليل الذي يُبيّن التصديق بذلك التصور: بيّنات. والله تعالى أنزل الكتاب هدى للناس، وبيّنات من الهدى والفرقان. والقرآن أثبت الصفات على وجه التفصيل، ونفى عنها التمثيل؛ وهي طريقة الرسل؛ جاءوا بإثبات مفصل، ونفي مجمل. وأعداؤهم جاءوا بنفي مفصل، وإثبات مجمل2. فلو لم يكن الحق فيما بينه الرسول للناس،

_ 1 انظر: درء تعارض العقل والنقل 1188-199، 233-237،، 736-74، 352. وشرح الأصفهانية 141. ونقض تأسيس الجهمية 1246. والتسعينية ص 273. وكتاب الصفدية 1293-296. وانظر أول هذا الفصل؛ ففيه ذكر إحالات على ذلك الكتاب 736. 2 الرسل عليهم الصلاة والسلام جاءوا بإثبات مفصّل (أي تفصيل في الصفات الثبوتية) ، ونفي مجمل (أي إجمال في الصفات السلبية) ؛ فطريقة الرسل التي هي طريقة القرآن: التفصيل في صفات المدح والثناء، والإجمال في صفات النفي التي فيها النقائص والعيوب والتمثيل. والأمثلة من القرآن كثيرة: فمنها: قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . [سورة الشورى، الآية 11] . وقوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} . [سورة مريم، الآية 65] . وقوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ ... الآية} . [سورة الحديد، الآيتان 3-4] . وقوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ إلى قوله سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . [سورة الحشر، الآيات 22-24] . وأما طريقة مخالفي الرسل من أهل الإلحاد والزندقة وغيرهم: فإنهم يصفونه بالصفات السلبية على وجه التفصيل، ولا يُثبتون إلا وجوداً مطلقاً لا حقيقة له عند التحصيل؛ فيقولون: لا يوصف بالحياة، ولا العلم، ولا القدرة، ولا يقرب من شيء، ولا يقرب منه شيء، ولا يرى في الآخرة، ولا له كلام يقوم به، ولا داخل العالم ولا خارجه ... إلى أمثال هذه العبارات السلبية التي لا تنطبق إلا على المعدوم. ثمّ قالوا في الإثبات: هو وجود مطلق، أو وجود مقيد بالأمور السلبية. انظر: العقيدة التدمريّة ص 8-15. وكتاب الصفدية 1116-117. وشرح الأصفهانية 1379-380.

وأظهر لهم، بل كان الحق في نقيضه، للزم أن يكون عدم الرسول خيراً من وجوده، إذا كان وجوده لم يفدهم عند هؤلاء علماً ولا هدى، بل ذكر1

_ 1 والمقصود به هنا الرسول صلى الله عليه وسلم. وشيخ الإسلام يذكر هذا على سبيل الإلزام، ومناظرتهم بمفهوم كلامهم. وقد أوضح رحمه الله موقف المتكلمين من أصول الدين التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فقال: "وهؤلاء الفرق مشتركون في القول بأنّ الرسول لم يُبيّن المراد بالنصوص التي يجعلونها مشكلة، أو متشابهة....، ثم منهم من يقول: لم يعلم معانيها أيضاً، ومنهم من يقول: بل علمها، ولم يبينها، بل أحال في بيانها على الأدلة العقلية، وعلى من يجتهد في العلم بتأويل تلك النصوص؛ فهم مشتركون في أنّ الرسول لم يَعْلم، أو لم يُعلّم، بل جهل معناها، أو جهلها الأمة من غير أن يقصد أن يعتقدوا الجهل المركب. وأما أولئك فيقولون: بل قصد أن يعلمهم الجهل المركب، والاعتقادات الفاسدة. وهؤلاء مشهورون عند الأمة بالإلحاد والزندقة، بخلاف أولئك؛ فإنهم يقولون: الرسول لم يقصد أن يجعل أحداً جاهلاً معتقداً للباطل، ولكن أقوالهم تتضمن أن الرسول لم يبيّن الحق فيما خاطب به الأمة من الآيات، والأحاديث، إما مع كونه لم يعلمه، أو مع كونه علمه، ولم يبيّنه". درء تعارض العقل والنقل 116-17.

أقوالاً تدلّ على الباطل، وطلب منهم أن يتعلموا الهدى بعقولهم ونظرهم، ثم ينظروا فيما جاء به؛ فإمّا أن يتأولوه ويحرفوا الكلم عن مواضعه، وإما أن [يفوّضوه] 1. ردود شيخ الإسلام على المتكلمين ومنها: نقض التأسيس فذكرنا هذا ونحوه مما يبين أنّ الهدى مأخوذ عن الرسول، وأنه قد بين للأمة ما يجب اعتقاده من أصول الدين في الصفات، وغيرها. فكان الجواب خطاباً مع من يقرّ بنبوّته، ويشهد له بأنّه رسول الله. فلم يُذكَر فيه دلائل النبوة، وذُكِرَ أن الشبهات العقلية التي تعارض خبر الرسول باطلة، وذُكِرَ في ذلك ما هو موجود في هذا الجواب. سبب تأليف درء تعارض العقل والنقل ثم بعد ذلك حدثت أمور أوجبت أن يُبسط الكلام في هذا الباب، و [يُتكلّم] 2 على حجج النفاة، ويُبيَّن بطلانها، و [يُتكلم] 3 على ما أثبتوه؛ من أنه يجب تقديم ما يزعمون أنّه معقول على ما عُلِم بخبر الرسول. وبُسِطَ في ذلك من الكلام والقواعد ما ليس [هذا] 4 موضعه5،

_ 1 في ((م)) ، و ((ط)) : يعوّضوه. وهذا المعنى هو قانون الرازي الذي ردّ عليه شيخ الإسلام رحمه الله. 2 في ((خ)) : نتكلم. 3 في ((خ)) : نتكلم. 4 في ((ط)) : هذه. 5 شيخ الإسلام رحمه الله يقصد كتابه الكبير: ((درء تعارض العقل والنقل)) ، وهو كتابٌ يردّ فيه شيخ الإسلام رحمه الله على القانون الكلّي الذي سنّه الرازي لأتباعه؛ زاعماً فيه أنه إذا تعارض العقل والنقل، قُدِّم العقل. وأما النقل فإما أن يُتأول، وإما أن يُفوّض. انظر: درء تعارض العقل والنقل 14 في المقدمة) . وانظر قانون الرازي في كتبه الآتية: أساس التقديس في علم الكلام ص 172-173. والمطالب العالية 1337. ولباب الأربعين ص 36. ونهاية العقول في دراية الأصول ق 13. والشرع عند الرازي وأتباعه كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: "لا يعتمد عليه فيما وصف الله به نفسه وما لا يوصف، وإنما يُعتمد في ذلك على عقلهم، ثم ما لم يُثبته إما أن ينفوه، وإما أن يقفوا فيه". درء تعارض العقل والنقل 213. وشيخ الإسلام رحمه الله ردّ على هؤلاء من أربعة وأربعين وجهاً في كتابه درء تعارض العقل والنقل، وهو الذي أُفرد لهدم هذا القانون الباطل من أساسه. وقد قال أحد الباحثين وهو الدكتور عبد الرحمن المحمود عن هذا الكتاب، وسبب تأليفه: "وهذا الكتاب من أعظم كتب ابن تيمية، وقد ألفه في الرد على الأشاعرة الذين يقولون بوجوب تقديم العقل على النقل إذا تعارضا، وجعلوا ذلك قانوناً كليّاً لهم. ومن الذين قالوا بهذا القانون: الرازي وأتباعه، والجويني، والقاضي أبو بكر بن العربي، وغيرهم. وقد ألف ابن تيمية هذا الكتاب بعد تأليفه لنقض أساس التقديس، وقد رجح المحقق رحمه الله أنه ألفه بعد وصوله إلى الشام من مصر؛ أي بين عامي 712- 718 ?. ويقول ابن تيمية مشيراً إلى ذلك: (وهذه الطريقة هي ثابتة في الأدلة الشرعية والعقلية؛ فإنّا قد بيّنا في الرد على أصول الجهمية النفاة للصفات في الكلام على تأسيس التقديس، وغيره". فهذا النص أخّر تأليف هذا الكتاب عن كتابه الآخر الذي ألفه في مصر ((نقض أساس التقديس)) ، ونلمح هنا التدرج التأليفي في نقض أصول الأشاعرة؛ فهو في البداية ردّ على أدلتهم مباشرة، وأجاب عن الاعتراضات الواردة عليها، ثم رأى أنّ هؤلاء إنما يعتمدون في شبههم واعتراضاتهم على ما كتبه شيخهم ومقدمهم الرازي، فرأى أن من تمام الكلام في نقض كلامهم نقض كلام شيوخهم كالرازي؛ فألف نقض أساس التقديس، ثم بعد ذلك رأى أن الرازي وأمثاله ليسوا مستقلين بذلك استقلالاً كاملاً، وإنما مادة كلامهم من كلام الفلاسفة، فأراد أن يُكمّل الردّ بنقض أصولهم الفلسفية؛ فجاء هذا الكتاب ((درء تعارض العقل والنقل)) الذي لم يكن مقتصراً على جواب هذه المسألة فقط: تقديم العقل على النقل. وإنما حوى مباحث طويلة مع الفلاسفة شيوخ الرازي، وغيرهم، ونقل أقوالهم، وبيّن من وجوه عديدة أنواعاً من تناقضهم، وردّ بعضهم على بعض. والكتاب والحمد لله وصل إلينا كاملاً، ونشر نشراً علمياً ممتازاً، فجزى الله محققه خيراً، وغفر له ورحمه) . موقف ابن تيمية من الأشاعرة 1206-207. وشيخ الإسلام رحمه الله قد أشار إلى كتابه العظيم، وسماه: درء تعارض العقل والنقل في: الرد على المنطقيين ص 253-254.

وتُكُلِّمَ مع الفلاسفة والملاحدة الذين يقولون إنّ الرسل خاطبوا خطاباً قصدوا به التخييل إلى العامة1 ما ينفعهم، لا أنّهم قصدوا [الإخبار] 2 بالحقائق. وهؤلاء لم يكن وقت الجواب قصد مخاطبتهم إذ كان هؤلاء في الحقيقة مكذبين للرسل، يقولون إنّهم كذبوا لما رأوه مصلحة بل كان الخطاب مع من يقرّ بأنّ الرسول لا يقول إلا الحق باطناً وظاهراً، ثم بعد هذا طلب الكلام على تقرير أصول الدين بأدلتها العقلية، وإن كانت مستفادة من تعليم الرسول، وذكر فيها ما ذكر من دلائل النبوة3 في مصنف يتضمن شرح عقيدة صنفها شيخ النظّار بمصر: شمس الدين الأصبهاني4. فطُلِبَ مني شرحها،

_ 1 انظر: درء تعارض العقل والنقل 18-11، 17، 19. وكتاب الصفدية 1276، 287. 2 في ((ط)) : الأخبار. 3 شيخ الإسلام يقصد بكلامه هذا الذي ذكره: سببَ شرحه للعقيدة الأصفهانية، وأنه ضمنها دلائل النبوة. لذلك يقول شيخ الإسلام رحمه الله عن عقيدة الأصبهاني: "إنه اختصر هذه العقيدة من كتب أبي عبد الله ابن الخطيب الرازي ... ". انظر شرح الأصفهانية 140. 4 وقد قام شيخ الإسلام رحمه الله بشرح هذه العقيدة في مصنّف موسوم بشرح الأصفهانية. وكان شيخ الإسلام رحمه الله قد سُئل وهو مقيم في الديار المصرية عام 712? أن يشرحها، فاعتذر بأنه لا بد عند شرح ذلك الكلام من مخالفة بعض مقاصده لما توجبه قواعد الإسلام؛ فإن الحق أحق أن يُتبع، والله ورسوله أحق أن يُرضوه إن كانوا مؤمنين ... انظر شرح الأصفهانية 11-2. ثم شرحها رحمه الله مبيناً انحرافها عن منهج السلف. وقد طبع الشرح بدون تحقيق، وقدم له: حسنين محمد مخلوف، ثم قام بتحقيقها د محمد بن عودة السعوي لنيل درجة الدكتوراة من جامعة الإمام، ولم تطبع بعد. والأصبهاني هو: القاضي أبو عبد الله محمد بن محمود بن عباد العجلي الأصبهاني، شمس الدين. تولى القضاء في القاهرة، ثم استقر فيها. ولد سنة 616 ?، وتوفي سنة 688 ?. انظر: طبقات السبكي 8100. وشذرات الذهب 5406.

فشرحتها، وذكرت فيها من الدلائل العقلية ما يعلم به أصول الدين. سبب تأليف الجواب الصحيح وبعدها جاء كتاب من النصارى1 يتضمّن الاحتجاج لدينهم بالعقل

_ 1 أشار شيخ الإسلام رحمه الله إلى هذا الكتاب في كتابه النفيس: "الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح"، وذكر فيه أنّ وروده إليه من أسباب تأليفه لهذا الكتاب. وهذا يدلّ على أن الجواب الصحيح أُلّف بعد شرح الأصفهانية، ودرء التعارض، ونقض التأسيس. يقول رحمه الله: "وكان من أسباب نصر الدين وظهوره: أن كتاباً ورد من قبرص فيه الاحتجاج لدين النصارى بما يحتج به علماء دينهم، وفضلاء ملتهم قديماً وحديثاً من الحجج السمعية، والعقلية؛ فاقتضى ذلك أن نذكر من الجواب ما يحصل به فصل الخطاب، وبيان الخطأ من الصواب؛ لينتفع بذلك أولوا الألباب، ويظهر ما بعث الله به رسله من الميزان. وأنا أذكر ما ذكروه بألفاظهم بأعيانها فصلاً فصلاً، وأُتبع كل فصل بما يناسبه من الجواب فرعاً وأصلاً، وعقداً وحلاً. وما ذكروه في هذا الكتاب هو عمدتهم التي يعتمد عليها علماؤهم في مثل هذا الزمان، وقبل هذا الزمان، وإن كان يزيد بعضهم على بعض، بحسب الأحوال؛ فإن هذه الرسالة وجدناهم يعتمدون عليها قبل ذلك، ويتناقلها علماؤهم بينهم، والنسخ بها موجودة قديمة، وهي مضافة إلى بولص الراهب أسقف صيدا الأنطاكي، كتبها إلى بعض أصدقائه، وله مصنفات في نصر النصرانية..... وقد عظّم هذه الرسالة، وسماها: "الكتاب المنطيقي الدولة خاني المبرهن عن الاعتقاد الصحيح والرأي المستقيم" ... ". الجواب الصحيح 198-101.

والسمع، واحتجوا بما ذكروه من القرآن؛ فأوجب ذلك أن يُرَدَّ عليهم، ويُبَيَّن فساد ما احتجوا به من الأدلة السمعية؛ من القرآن، ومن كلام الأنبياء المتقدمين، وما احتجوا به من العقل، وأنهم مخالفون للأنبياء وللعقل؛ خالفوا المسيح، ومَنْ قبله، وحرّفوا كلامهم؛ كما خالفوا العقل، وبُيِّن ما يحتجون به من نصوص الأنبياء، وأنها هي وغيرها من نصوص الأنبياء التي عندهم حجة عليهم لا لهم، وبُيِّن الجواب الصحيح لمن حرّف دين المسيح. وهم لم يطالبوا ببيان دلائل نبوّة نبيّنا، لكن اقتضت المصلحة أن يذكر من هذا ما يناسبه، ويُبْسَط الكلام في ذلك بسطاً أكثر من غيره1. وقلوب كثير من الناس يجول فيها أمر النبوات وما جاءت به الرسل. وهم2 وإن أظهروا تصديقهم3 والشهادة لهم، ففي قلوبهم مرض ونفاق؛ إذ كان ما جعلوه أصولاً لدينهم، معارض لما جاءت به الأنبياء4.

_ 1 وقد بسط ذلك في كتابه الكبير: الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح. والكتاب حقق في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية على شكل رسائل جامعية لنيل درجة الدكتوراة، وقد طبع في ستة أجزاء كبار. 2 أصحاب القانون الكلي؛ الرازي وأتباعه الذين يقدّمون عقلياتهم على قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم. 3 تصديق الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين. 4 ويقول شيخ الإسلام رحمه الله عن أصولهم: "ترتيب الأصول في مخالفة الرسول والمعقول؛ جعلوها أصولاً للعلم بالخالق، وهي أصول تناقض العلم به؛ فلا يتم العلم بالخالق إلا مع اعتقاد نقيضها". مجموع الفتاوى 16442-443. وانظر درء تعارض العقل والنقل 213-14.

وهم لم يتعلموا ما جاءت به الأنبياء، ولم يأخذوا عنهم الدلائل، والأصول، والبينات، والبراهين. وإذا وجب أن يؤخذ عن الأنبياء ما أخبروا به من أصول الدين، ومن تصديق خبرهم، مع وجود ما يعارضه، فلأن يؤخذ عنهم ما بيّنوا به تلك العقائد؛ من الآيات، والبراهين أولى وأحرى؛ فإنه بهذا يتبين ذاك، وإلا فتصديق الخبر متوقف على دليل صحته، أو على صدق المخبر به. وتصديقه بدون أن يعلم أنّه في نفسه حق، أو أنّ المخبر به صادق: قول بلا علم. الرسول أرسل بالبينات والهدى والرسول صلوات الله عليه وسلامه قد أُرسل بالبينات والهدى؛ بيَّن الأحكام الخبرية والطلبية، وأدلتها الدالة عليها؛ بيَّن المسائل والوسائل؛ بيَّن الدين؛ ما يقال، وما يعمل؛ وبيَّن أصوله التي بها يعلم أنه دين حق. وهذا المعنى قد ذكره الله تعالى في غير موضع، وبيَّن أنّه أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين [كله] 1؛ ذكر هذا في سورة التوبة2، والفتح3، والصف4. والهدى: هو هدي الخلق إلى الحق، وتعريفهم ذلك، وإرشادهم إليه. وهذا لا يكون إلا بذكر الأدلة، والآيات الدالة على أنّ هذا هدى، وإلا فمجرّد خبر: لم يعلم أنه حق، ولم يقم دليل على أنّه حقّ: ليس بهدى.

_ 1 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 2 قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة، 33] . 3 قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} . [الفتح، 28] . 4 قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} . [الصف، 9] .

وهو سبحانه إذا ذكر الأنبياء؛ نبينا وغيره، ذكر أنّه أرسلهم بالآيات البينات1؛ وهي الأدلّة، والبراهين البيّنة، المعلومة علماً يقينياً؛ إذ كان كل دليل لا بد أن ينتهي إلى مقدمات بيّنة بنفسها، قد تسمى بديهيّات2، وقد تسمّى ضروريات3، وقد تسمى أوليات4، وقد يقال: هي معلومة

_ 1 قال تعالى عن رسله عليهم السلام: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ... } الآية. [سورة الحديد، الآية 25] ، وقال تعالى عن عيسى عليه السلام: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ..} الآية. [سورة البقرة، الآية 87] ، وقال تعالى عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ} . [سورة البقرة، الآية 99] ، وقال تعالى عن يوسف عليه السلام: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ..} الآية. [سورة غافر، الآية 34] . 2 البديهيّ: هو الذي لا يتوقف حصوله على نظر وكسب، سواء احتاج إلى شيء آخر؛ من حدس، أو تجربة، أو غير ذلك، أو لم يحتج؛ فيرادف الضروري. وقد يُراد به ما لا يحتاج بعد توجه العقل إلى شيء أصلاً؛ فيكون أخص من الضروريّ؛ كتصور الحرارة والبرودة، وكالتصديق بأن النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان. التعريفات للجرجاني ص 63. 3 ذكر الجرجاني في تعريفاته أنّ الضرورية المطلقة: هي التي يحكم فيها بضرورة ثبوت المحمول للموضوع، أو بضرورة سلبه عنه، ما دام ذات الموضوع موجودة. أما التي حكم فيها بضرورة الثبوت، فضرورية موجبة؛ كقولنا: كلّ إنسان حيوان بالضرورة؛ فإن الحكم فيها بضرورة ثبوت الحيوان للإنسان في جميع أوقات وجوده. وأما التي حكم فيها بضرورة السلب، فضرورية سالبة؛ كقولنا: لا شيء من الإنسان بحجر بالضرورة؛ فالحكم فيها بضرورة سلب الحجر عن الإنسان في جميع أوقات وجوده. انظر التعريفات للجرجاني ص 180. 4 الأوّليّ: هو الذي بعد توجه العقل إليه لم يفتقر إلى شيء أصلاً من حدس، أو تجربة، أو نحو ذلك؛ كقولنا: الواحد نصف الاثنين، والكل أعظم من جزئه؛ فإن هذين الحكمين لا يتوقفان إلا على تصور الطرفين. وهو أخص من الضروريّ مطلقاً. التعريفات للجرجاني ص 58.

بأنفسها؛ فالرسل صلوات الله عليهم بعثوا بالآيات البينات. إذا خاطب جنس الإنس ذكر جنس الأنبياء وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال: " ما من نبيّ من الأنبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي، [فأرجو] 1 أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة" 2. وهو سبحانه إذا خاطب جنس الإنس، ذكر جنس الأنبياء3، و [أثبت] 4 جنس ما جاءوا به. وإذا خاطب أهل الكتاب المقرين بنبوة موسى، خاطبهم بإثبات نبيّ بعده؛ كما قال في سورة البقرة في خطابه لبني إسرائيل لما ذكر ما ذكره من أحوالهم مع موسى، وذكّرهم بأنعامه عليهم، وبما فعلوه من السيئات، ومغفرته لها؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابنَ مَرْيَم البَيّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقَاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقَاً تَقْتُلُونَ} 5، ثمّ ذكر محمداً؛ فقال: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ [كِتَابٌ] 6 مِنْ عِنْدِ اللهِ

_ 1 في ((خ)) : وأرجوا. 2 سبق تخريجه في ص 767. 3 والآيات في ذلك كثيرة؛ منها: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ.} إلى قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا..} . [البقرة، 21-23] ؛ فذكر الناس، ثم ذكر بعدهم عبده ونبيه محمداً صلى الله عليه وسلم. ومنها: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ.} الآية. [النساء، 170] . ومنها: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً} . [النساء، 174] . 4 في ((خ)) : ثبت. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 سورة البقرة، الآية 87. 6 في ((خ)) ، و ((م)) : رسولٌ.

مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الكَافِرِينَ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ بَغْيَاً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاؤُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} 1. فذكر سبحانه أنّه أرسل المسيح إليهم بالبيّنات، بعدما أرسل قبله الرسل، وأنّهم تارة يُكذّبون الرسل، وتارة يقتلونهم، وذكر أنّه أرسل عيسى بالبينات لأنّه جاء بنسخ بعض شرع التوراة، بخلاف من قبله2، ولهذا لم يذكر ذلك عنهم. وقال في موسى إنّه آتاه الكتاب؛ لأنهم كانوا مقرين بنبوته، ولكن حرّفوا كتابه في المعنى باتفاق الناس، وحرّفوا اللفظ أحياناً، وفي بعض المواضع. وهو تعالى قد ذكر في غير موضع أنّه أرسل موسى بالآيات البيّنات؛ فقال لما ناجاه: {وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرَاً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ المُرْسَلُونَ إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنَاً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ وَأَدْخِلْ يَدَكَ في جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ في تِسْعِ آيَاتٍ إلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَاً فَاسِقِينَ} 3، وقال في سورة القصص: {يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ اسْلُكْ يَدَكَ في جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ

_ 1 سورة البقرة، الآيتان 89-90. 2 ذكر هذا في قوله جلّ وعلا: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابنَ مَرْيَم البَيّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقَاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقَاً تَقْتُلُونَ} . [سورة البقرة، الآية 87] . 3 سورة النمل، الآيات 10-12.

مِنَ الرَّهْبِ [فَذَانِكَ] 1 بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَاً فَاسِقِينَ} 2، وقال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالجَرَادَ وَالقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمَاً مُجْرِمِينَ} 3. وقد قال تعالى لمّا قصّ قصص الرسل؛ نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب4، ونصره لهم، وإهلاك أعدائهم. ثمّ ذكر الأنبياء عموماً؛ فقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا في قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} 5، إلى قوله: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ تِلْكَ القُرَى نَقُصُّ [عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا] 6 وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الكَافِرِينَ وَمَا وَجَدْنَا لأكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِين} 7. فقد أخبر أنّ أهل القرى كلهم؛ الذين أهلكهم، جاءتهم رسلهم بالبينات، ولكن شابه متأخروهم متقدّميهم، فما كان هؤلاء ليؤمنوا بما كذّب به أشباههم، كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين. وهذا كقوله تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُون} 8.

_ 1 في ((ط)) : فذلك. 2 سورة القصص، الآيتان 31-32. 3 سورة الأعراف، الآية 133. 4 في ((ط)) : عليهم السلام. 5 سورة الأعراف، الآية 94. 6 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، و ((م)) . 7 سورة الأعراف، الآيات 100-102. 8 سورة الذاريات، الآية 52.

قال تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُفْسِدِين} 1؛ فبيَّن سبحانه أنّه بعث موسى بآياته. وقال2 في أثناء القصة: {إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ العَالَمِينَ حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلاَّ الحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيل} 3؛ فأخبر أنه جاء ببينة من [الله] 4؛ أي بآية بينة من الله؛ بدليل من الله وبرهان،؛ فهي آية منه، وعلامة منه على صدقي، وأنّي رسولٌ منه؛ فإن قوله: {مِنْ رَبِّكُمْ} : متعلق بالرسول، وبالآية؛ يُقال: فلانٌ قد جاء بعلامة من فلان؛ فالعلامة منه، والرسول منه، والآية منه؛ كما قال: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ} 5؛ فدلّ على أنّ كلّ واحدٍ؛ من الرسول، ومن آيات الرسول، هو من الله تعالى. قال له فرعون: {إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} 6. وذكر القصة، ومعارضة السحرة له، إلى أن قال: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ و [أُلْقِيَ] 7 السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ

_ 1 سورة الأعراف، الآية 103. 2 القائل هو موسى عليه السلام؛ كما حكى الله تعالى عنه. 3 سورة الأعراف، الآيتان 104-105. 4 ما بين المعقوفتين ساقط من ((ط)) . 5 سورة القصص، الآية 32. 6 سورة الأعراف، الآية 106. 7 في ((ط)) : وألقَى.

العَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ قَالَ فِرْعَوْنُ [آمَنْتُمْ] 1 بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ في المَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خلافٍ ثُمّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرَاً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} 2. فذكر السحرة أنهم آمنوا بآيات ربهم لمّا جاءتهم، وهم من أعلم الناس بالسحر؛ لما علموا أنّ هذه الآيات آيات من الله؛ كما قال موسى: {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} ، إلى قوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالجَرَادَ وَالقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمَاً مُجْرِمِينَ} 3، إلى قوله: {فَأَغْرَقْنَاهُمْ في اليَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غافلين} 4. التوراة أنزلت بعد غرق فرعون وليس المراد بالآيات هنا: كتاباً منزلاً؛ فإنّ موسى لمّا ذهب إلى فرعون لم تكن التوراة قد نزلت، وإنّما أنزلت التوراة بعد أن غرق فرعون، وخلص [ببني] 5 إسرائيل6، فاحتاجوا إلى شريعة يعملون بها؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا القُرُونَ الأُوْلَى بَصَائِرَ للنَّاسِ وَهُدَى} 7. ولكنّ تكذيبهم بآياته: إنكارهم أن [تكون] 8 آية من

_ 1 في ((ط)) : آمنت. 2 سورة الأعراف، الآيات 117-126. 3 سورة الأعراف، الآية 133. 4 سورة الأعراف، الآية 136. 5 في ((ط)) : بني. 6 انظر: الجامع في أحكام القرآن للقرطبي 13192. وتفسير ابن كثير 3390. 7 سورة القصص، الآية 43. 8 في ((خ)) : يكون. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

الله، وقولهم: (إنّها سحرٌ) ؛ كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله: {وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} 1، {وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} 2؛ لم يذكروها، ويتأملوا ما دلّت عليه من صدق موسى، وأنّه مرسل من الله. فالتكذيب: ضدّ التصديق، والغفلة عنها: ضدّ النظر فيها. ولهذا قيل: النظر تجريد العقل عن الغفلات، وقيل: هو تحديق العقل نحو المرئي. والأول هو النظر الطلبي؛ وهو طلب ما يدلّه على الحق، والثاني هو النظر الاستدلالي؛ وهو النظر في الدليل الذي يوصله إلى الحق. وهذا الثاني هو الذي يوجب العلم3.

_ 1 سورة الأعراف، الآية 132. 2 سورة الأعراف، الآية 136. 3 الأصوليون قسّموا النظر، ووضعوا حدّاً لكلّ قسم، فأتوا بتعريفات متقاربة في المعنى. من ذلك قول أبي الخطاب (في التمهيد 158) : (النظر على ضربين؛ نظر العين، ونظر القلب. فحدّ نظر القلب: هو التفكّر في حال المنظور فيه، وحدّ المنظور فيه: هو الأدلة والأمارات الموصلة إلى المطلوب) . وكصنيع أبي الخطاب صنع أبو يعلى (في العدة 1183-184) ؛ حين قسّم النظر إلى نظر بالعين، ونظر بالقلب؛ فقال: "لنظر ضربان؛ ضرب هو النظر بالعين، فهذا حدّه الإدراك بالبصر. والثاني: النظر بالقلب، وهذا حدّه الفكر في حال المنظور فيه. أما الآمديّ (في الإحكام في أصول الأحكام 111) ، فقد ذكر عدة معان للنظر، واختار المعنى الذي يُوافق المتكلمين؛ فقال: "أما النظر: فإنه قد يُطلق في اللغة بمعنى الانتظار، وبمعنى الرؤية بالعين، والرأفة، والرحمة، والمقابلة، والتفكر، والاعتبار. وهذا الاعتبار الأخير هو المسمّى بالنظر في عرف المتكلمين. وقد قال القاضي أبو بكر في حدّه: هو الفكر الذي يطلب به من قام به علماً، أو ظنّاً"

فذمُّهُم على الغفلة عن آياته، يتضمن النوعين؛ النظر فيها والتأمّل لها. والتذكّر لها: ضد الغفلة عنها. وهي آيات معينة، فإذا جُرّد العقل عن الغفلة عنها، وحدقه للنظر فيها، حصل له العلم بها. وقد يحصل العلم بها، ولكن يمتنع عن اتباعها لهواه؛ كما قال الله عن قوم فرعون: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمَاً وَعُلُوَّاً} 1؛ فإنّ الحقّ إذا ظهر، صار معلوماً بالضرورة. والآيات، والدلائل الظاهرة تدلّ على لوازمها بالضرورة. لكنّ اتباع الهوى يصدّ عن التصديق بها، واتباع ما أوجبه العلم بها. وهذه حال عامة المكذبين؛ مثل مكذبي محمّد وموسى [عليهما السلام] 2، وغيرهما؛ فإنّهم علموا صدقهما علماً يقينياً؛ لِمَا ظهر من آيات الصدق، ودلائله الكثيرة. لكنّ اتباع الهوى صدّ؛ قال تعالى: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ} 3، وقال تعالى عن قوم فرعون: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمَاً وَعُلُوَّاً} 4، وقال موسى لفرعون: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤلاءِ إِلاَّ رَبّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْض بَصَائِر} 5، ولهذا قال: {وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِين} 6؛ فعلموا أنّها حقّ، وغفلوا عنها؛ كما يغفل الانسان عما يعلمه.

_ 1 سورة النمل، الآية 14. 2 زيادة من ((ط)) . 3 سورة الأنعام، الآية 33. 4 سورة النمل، الآية 14. 5 سورة الإسراء، الآية 102. 6 سورة الأعراف، الآية 136.

ومنه الغفلة عن ذكر الله تعالى؛ قال تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطَاً} 1. وقال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ في نَفْسِكَ تَضَرُّعَاً وَخِيفَةً وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الغَافِلِينَ} 2. وقال تعالى: {إِنَّ الذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالحَيَاةِ الدُّنيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 3. فذكر الذين هم عن آياته غافلون هنا؛ كما ذكرهم هناك. وهناك وصفهم بالتكذيب بها، مع الغفلة عنها، وضدّ الغفلة التذكر. والتذكر لآياته سبحانه وتعالى: يُوجب العلم بها، وحضورها في القلب، وهو موجب لاتباعها، إلا أن يمنعه هوى؛ قال تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابّ عِندَ اللهِ الصُّمُّ البُكْمُ الذِينَ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مِعْرِضُونَ} 4؛ فهو سبحانه لو علم فيهم خيراً؛ وهو قصد الحق، لأفهمهم. لكنهم لا خير فيهم، فلو أفهمهم لتولّوا وهم معرضون. وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ العَالَمِين فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنهَا يَضْحَكُونَ وَمَا نُريهمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِي أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 5. وقد ذكر أنّ الآيات التي هي دلائل النبوّة منه، في غير موضع غير ما

_ 1 سورة الكهف، الآية 28. 2 سورة الأعراف، الآية 205. 3 سورة يونس، الآيتان 7-8. 4 سورة الأنفال، الآيتان 22-23. 5 سورة الزخرف، الآيات 46-48.

تقدم؛ كقوله تعالى: {فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّك فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى [إِنَّا قَدْ أُوْحِيَ إِلَيْنَا] 1 أَنَّ العَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى قَالَ فَمَا بَالُ القُرُونِ الأوْلَى قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي في كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ [مَهْدَاً] 2 وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجَاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ في ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ} ، إلى قوله عن السحرة: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ البَيِّنَاتِ} 3، وقال تعالى: {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} 4، وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا في الصُّحُفِ الأُوْلَى} 5. فالآيات التي هي دلائل النبوة، وبراهينها، هي آيات من الله، وعلامات منه أنّه أرسل الرسول. وكما أنّ الآيات التي هي كلامه تتضمّن إخباره لعباده، وأمره لهم؛ ففيها الإعلام والإلزام؛ فكذلك دلائل النبوة هي آيات منه تتضمّن إخباره لعباده بأنّ هذا رسوله، وأمره لهم بطاعته؛ ففيها الاعلام والإلزام.

_ 1 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 2 في ((خ)) : مهاداً. 3 سورة طه، الآيات 47-72. 4 سورة آل عمران، الآية 49. 5 سورة طه، الآية 133.

الآيات القولية والفعلية وكما أنّ آياته القوليّة: زعم المكذبون أنّها ليست كلامه، ولا منه، بل هي من قول البشر، وزعموا أنّ الرسول افتراها، أو مَنْ معه، أو تعلّمها من غيره1؛

_ 1 هذا ما ادّعاه كفّار قريش معارضة لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهذا الوليد بن المغيرة المخزومي أحد رؤسائهم، قال قتادة: زعموا أنه قال: والله لقد نظرت فيما قال الرجل "قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم" فإذا هو ليس بشعر، وإنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنه ليعلو وما يُعلى عليه، وما أشكّ أنّه سحر. فأنزل الله: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} . (انظر: تفسير ابن كثير 4443. والجواب الصحيح 5373-377) . وانظر الجواب الصحيح 5331-332؛ فقد ذكر فيه شيخ الإسلام رحمه الله أنّه كان بمكة مولى أعجمي، فقالت قريش إنه يُعلّم محمّداً القرآن. ومن الآيات التي أنزلها الله فيما ادّعاه هؤلاء الكفّار: 1- قوله تعالى: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} . [المدثر، الآيات 18-25] . 2- قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} . [سورة النحل، الآية 103] . 3- قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} . [سورة يونس، الآية 38] . 4- قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ} . [سورة الطور، الآية 33] . وهذه الآيات جاءت ردّاً على مزاعم الكفار الأوائل. وملّة الكفر واحدة؛ فهؤلاء أذنابهم من الملاحدة، والزنادقة، والفلاسفة يُردّدون تلك الأقوال تلميحاً أو تصريحاً، يُريدون ليُطفئوا نور الله، والله متم نوره. وينقل لنا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أقوالهم في آيات الله الكونيّة، وأنّها نوع من السحر والطلسمات؛ فيقول عنهم: "في الجملة فهؤلاء يدّعون ما ذكره ابن سينا في إشاراته؛ من أنّ خوارق العادات في العالم ثلاثة أنواع، لأنها إما أن تكون بأسباب فلكية؛ كتمزيج القوى الفعّالة السماوية بالقوى المنفعلة الأرضيّة؛ وهذا هو الطِّلسمات. وإما أن تكون بأسباب طبيعية سفلية؛ كخواص الأجسام، وهي النيرنجيات. وإما أن تكون بأسباب نفسانية، ويزعمون أنّ المعجزات التي للأنبياء، والكرامات التي للأولياء، وأنواعاً من السحر والكهانة هو من هذا الباب، ويقولون: الفرق بين النبيّ والساحر: أنّ النبيّ نفسه زكية، تأمر بالخير، والساحر نفسه خبيثة تأمر بالشرّ. فهما يفترقان عندهم فيما يأمر به كلّ منهما، لا في نفس الأسباب الخارقة" كتاب الصفدية 1142-143. وانظر: شرح الأصفهانية 2504. والجواب الصحيح 2328، 6400.

فكذلك الآيات الفعلية1: زعم المكذبون أنّها ليست آية منه، وعلامة ودلالة منه على أنّ الرسول رسوله، بل [ممّا] 2 يفعله الرسول فيكذب، وهذه من فعل المخلوقين، لكنها عجيبة فهي سحرٌ سَحَرَ بها الناس3، فلم يكن من المكذبين من قال: إنّها من الله، ولكن لم يخلقها لنصدّقك بها، بل خلقها لا لشيء، أو خلقها، وإن كنت كاذباً فإنّه قد يخلق مثل هذه على أيدي الكذّابين، ليضلّ بها النّاس. فإنّ هذا وإن كان يقال إنه قبيح، فإنّه لا يقبح منه شيء، كما أنّه لم يكن في المكذبين من قال: إنّ الكلام كلام الله، لكنه كذب؛ إذ الكذب وإن كان قبيحاً من المخلوق، فالخالق لا يقبح منه شيء، وهذا لأنّه من المعلوم بالفطرة الضرورية لجميع بني آدم أنّ الله لا يكذب، ولا يفعل القبائح؛ فلا يؤيد الكذّاب بآيته ليضل بها الناس، لكن قالوا4:

_ 1 وقد بسط شيخ الإسلام رحمه الله الكلام على آياته الفعلية التي منها المعجزات، وآيات الله القولية مثل القرآن الكريم، في: مجموع الفتاوى 11322-323. وكتاب الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 285-286. 2 في ((خ)) : من ما. 3 كما قال تعالى عنهم: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} . [سورة الذاريات، الآيتان 52-53] . 4 يعني المشركين والصادين عن آيات الله؛ فإنّ كفار مكة لما رأوا انشقاق القمر قالوا: هذا سحر؛ كما قال الله عنهم: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} . [سورة القمر، الآيتان 1-2] ، وقالوا عن القرآن الكريم؛ كما حكى الله عنهم: {فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} . [سورة المدثر، الآيتان 24-25] .

ليست آية من الله، بل هي سحر من عندك. وهم [و] 1 إن كانوا قد يعلمون أنّ الله خالق كل شيء2، ففرقٌ بين ما يفعله البشر، ويتوصلون إليه بالاكتساب، وبين ما لا قدرة لهم على التوصل إليه بسبب من الأسباب، وفرقٌ بين ما قد علموا أنه يخلقه لغير تصديق الرسل؛ كالسحر؛ فإنّه لم يزل معروفا في بني آدم، فقد علموا أنّه لا يخلقه آية وعلامة لنبيّ؛ إذ كان موجودا لغير الأنبياء، معتاداً منهم، وإن كان عجيباً، خارجاً عن العادة عند من لم يعرفه، بل كان المكذبون يُطالبون الرسل بالآيات؛ كقول فرعون: فأت بآية إن كنت من الصادقين3، وقول قوم صالح له: {إِنَّما أَنْتَ مِنَ المُسَحَّرِينَ مَا أَنْتَ إِلاَّ بَشَر مِثْلنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقين} 4. وكانت الأنبياء تأتي بالآيات، وهي آيات بينات؛ فيكذبون بها؛ كما يكذّب المعاند بالحق الظاهر المعلوم؛ كما قال فرعون: إنّه ساحر5. ولمّا

_ 1 ما بين المعقوفتين ليس في ((ط)) . 2 والآيات الدالّة على أنّ المشركين مقرون بربوبية الله عزّ وجلّ كثيرة، ولكن لم ينفعهم إقرارهم لإشراكهم مع الله غيره. فمن ذلك قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} . [سورة العنكبوت، الآية 61] . وقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [سورة الزخرف، الآية 87] . وقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} . [سورة الزخرف، الآية 9] . وغير هذه من الآيات. 3 قال فرعون لموسى عليه السلام كما حكى الله عنه: {قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} . [سورة الأعراف، الآية 106] . 4 سورة الشعراء، الآيتان 153-154. 5 كما حكى الله تعالى عنه قوله للملأ من قومه: {قَالَ لِلْمَلأِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} . [سورة الشعراء، الآيتان 34-35] .

غُلِب السحرة، وآمنوا، واعترفوا بأنّ هذه آية من الله، قال لهم فرعون: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} 1، {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ في المَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا} 2. وهذا كذبٌ ظاهرٌ؛ فإن موسى جاء من الشام3، ولم يجتمع بالسحرة، إنما فرعون جمعهم، ولم يكن دين موسى دين السحرة، ولا مقصوده مقصودهم، بل هم وهو في غاية التعادي والتباين. وكذلك سائر السحرة، والكهنة مع الأنبياء من أعظم الناس ذماً لهم، وأمراً بقتلهم، مع تصديق الأنبياء بعضهم ببعض، وإيجاب بعضهم الإيمان ببعض. وهم يأمرون بقتل من يكذّب نبياً، ويأمرون بقتل السحرة، ومن آمن بهم4. من الفروق بين الأنبياء والسحرة والسحرة [يذم] 5 بعضهم بعضاً، والأنبياء يصدّق بعضهم بعضاً،

_ 1 سورة طه، الآية 71،، وسورة الشعراء، الآية 49. 2 سورة الأعراف، الآية 123. 3 انظر: تفسير ابن كثير 2238. 4 ومن الأحاديث التي وردت في ذلك: ما رواه جندب رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "حدّ الساحر ضربة بالسيف". رواه الترمذي في جامعه 460، وقال: الصحيح عن جندب موقوف. ورواه الدارقطني في سننه 3114. ومن الآثار الواردة عن الصحابة رضي الله عنهم في قتل السحرة: قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل موته بسنة: "اقتلوا كلّ ساحر"؛ قال الراوي: فقتلنا في يوم ثلاث سواحر. أخرجه أبو داود في سننه 3431-432، وقال عنه الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ: إسناده حسن. انظر: تيسير العزيز الحميد ص 391-392. 5 في ((ط)) : بذم.

وهؤلاء1 يأمرون بعبادة الله وحده، والصدق، والعدل، ويتبرّأون من الشرك وأهله. وهؤلاء2 يُحبّون أهل الشرك، ويوالونهم، ويبغضون أهل التوحيد والعدل. فهذان جنسان، متعاديان؛ كتعادي الملائكة والشياطين؛ كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيّ عَدُوَّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورَاً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا [يُؤْمِنُونَ] 3 بِالآخِرَةِ وَلْيَرْضَوْهُ وَلْيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} 4. فمن جعل النبيّ ساحراً، أو مجنوناً، هو بمنزلة من جعل الساحر، أو المجنون نبياً، وهذا من أعظم الفرية، والتسوية بين الأضداد المختلفة، وهو شرّ من قول من يجعل العاقل مجنوناً، والمجنون عاقلاً، أو يجعل الجاهل عالماً، والعالم جاهلاً. فإنّ الفرق بين النبيّ، وبين الساحر والمجنون، أعظم من الفرق بين العاقل والمجنون، والعالم والجاهل5.

_ 1 يعني الأنبياء عليهم السلام. 2 يعني السحرة. 3 في ((ط)) : يمنون. 4 سورة الأنعام، الآيتان 112-113. 5 وقد مرّ معنا فروق كثيرة بين النبيّ والساحر. (انظر ص 671) . وسيأتي مزيد بيان لهذه الفروق. وانظر بعض هذه الفروق في: شرح الأصفهانية 2474-479. والجواب الصحيح 186، 127-129، 140-144، 2332، 5357، 6297-300. والرد على المنطقيين ص 441. ومجموع الفتاوى 1289-292، 4168-169، 6489-491. وكتاب الصفدية 1176. ومنهاج السنة النبوية2419-420.

وأمّا السحرة فإنّه أمر بقتلهم. وفي التوراة: "سأُقيم لبني إسرائيل من إخوتهم نبيّاً مثلك، أجعل كلامي على فمه، كلكم يسمعون"1.

_ 1 وفي الطبعة الموجودة للكتاب المقدس عندهم: "يقيم لك الرب إلهك نبياً من وسطك من إخوتك مثلي له تسمعون ... قال لي الرب: قد أحسنوا في ما تكلموا، أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه؛ فيكلمهم بكل ما أوصيه به، ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به أخي أنا أطالبه ... ". الكتاب المقدس عندهم، سفر التثنية، الإصحاح الثامن عشر، رقم 16، 18-20، ص 308-309، طبعة دار الكتاب المقدس، جمعية الكتاب المقدس سابقاً، القاهرة، مصر. وقد ذكره الماوردي رحمه الله ضمن بشارات الأنبياء بنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلق عليه قائلاً: "ومعلوم أن أخا بني إسرائيل هم بنو إسماعيل، وليس منهم من ظهر كلام الله تعالى على فمه، غير محمد صلى الله عليه وسلم". أعلام النبوة للماوردي ص 198. وذكر شيخ الإسلام رحمه الله هذا النص في كتابه الجواب الصحيح 5157، 188. وللشيخ العلامة رحمت الله الكيرانوي الهندي رحمه الله تعالى في كتابه القيم (إظهار الحق) كلام جميل يعلق فيه على هذه البشارة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ويُفنّد أقوال اليهود والنصارى فيما يدّعونه من وجوه كثيرة؛ فيقول: "وهذه البشارة ليست بشارة يوشع عليه السلام كما يزعم الآن أحبار اليهود، ولا بشارة عيسى عليه السلام كما زعم علماء بروتستنت، بل هي بشارة محمد صلى الله عليه وسلم لعشرة أوجه " ... ثم ذكر هذه الأوجه بالتفصيل، وأختصرها لتعميم الفائدة: 1- إن اليهود المعاصرين لعيسى عليه السلام كانوا ينتظرون نبياً آخر مبشراً به، وكان هذا المبشّر به عندهم غير المسيح، فلا يكون يوشع، ولا عيسى عليهما السلام. 2- جاء في هذه البشارة لفظ (مثلك) ، ويوشع وعيسى عليهما السلام لا يصح أن يكونا مثل موسى عليه السلام؛ لأمور، منها: أولاً: لكونهما من بني إسرائيل، فلا يجوز أن يقوم أحد من بني إسرائيل مثل موسى؛ لما جاء في سفر التثنية: (ولم يقم بعد ذلك من بني إسرائيل مثل موسى يعرفه الرب وجهاً لوجه) . ثانياً: لا مماثلة بين يوشع وبين موسى عليهما السلام؛ لأنّ موسى صاحب كتاب وشريعة جديدة مشتملة على أوامر ومناهي، ويوشع ليس كذلك، بل هو متبع لشريعة موسى. وكذلك لا توجد المماثلة التامة بين موسى وعيسى عليهما السلام. 3- جاء في هذه البشارة لفظ (من بين إخوتهم) ، والأسباط الإثني عشر كانوا موجودين مع موسى عليه السلام، حاضرين عنده، فلا يعمهم هذا الخطاب، فلو كان النبيّ المبشّر به منهم لقال: منهم، ولم يقل: من بين إخوتهم. 4- جاء في هذه البشارة لفظ (سوف أقيم) ، ويوشع عليه السلام كان حاضراً عند موسى عليه السلام، داخلاً في بني إسرائيل، فلا يدخل في هذا اللفظ. 5- قوله: (أجعل كلامي في فمه) : هو إشارة إلى أنّ ذلك النبيّ ينزل عليه الوحي والكتاب، وهو أُميّ يحفظ كلام الله. 6- قوله: "ومن لم يطع كلامه الذي يتكلم به فأنا أكون المنتقم من ذلك": لا يصدق على عيسى عليه السلام؛ لأنّ شريعته خالية عن أحكام الحدود، والقصاص، والتعزير، والجهاد. 7- جاء في كتاب الأعمال أعمال الرسل: "فتوبوا وارجعوا كي تمحى خطاياكم، حتى إذا تأتي أزمنة الراحة من قدام وجه الرب، ويرسل المنادي به لكم، وهو يسوع المسيح الذي إياه ينبغي للسماء أن تقبله إلى الزمان الذي يسترد فيه كل شيء تكلم به الله على أفواه أنبيائه القديسين منذ الدهر أن موسى قال: إن الرب إلهكم يقيم لكم نبياً من إخوتكم مثلي له تسمعون في كل ما يكلمكم به، ويكون كل نفس لا تسمع ذلك النبيّ تهلك من الشعب". فهذه العبارة تدلّ صراحة على أنّ هذا النبيّ غير المسيح عليه السلام، وأن المسيح لا بد أن تقبله السماء إلى زمان ظهور هذا النبيّ. وهذه الوجوه التي ذكرتها تصدق في حق النبي محمد صلى الله عليه وسلم أكمل صدق؛ لأنه غير المسيح عليه السلام، ويماثل موسى عليه السلام في أمور كثيرة، منها: (1) كونه عبد الله ورسوله. (2) كونه ذا الوالدين. (3) كونه ذا نكاح وأولاد. (4) شريعته مشتملة على السياسات المدنية. (5) أنه مأمور بالجهاد. (6) اشتراط الطهارة وقت العبادة في شريعته. (7) وجوب الغسل للجنب والحائض والنفساء في شريعته. (8) اشتراط طهارة الثوب من البول والبراز. (9) حرمة غير المذبوح وقرابين الأوثان. (10) شريعته مشتملة على العبادات البدنية والرياضة الجسمانية. (11) أمره بحد الزنا. (12) تعيين الحدود والتعزيرات والقصاص. (13) كونه قادراً على إجرائها. (14) تحريم الربا. (15) أمره بالإنكار على من يدعو إلى غير الله. (16) أمره بالتوحيد الخالص. (17) أمره الأمة بأن يقولوا له: عبد الله ورسوله. (18) موته على الفراش. (19) كونه مدفوناً كموسى. (20) عدم كونه ملعوناً لأجل أمته. 8- في هذه البشارة أنّ النبيّ الذي ينسب إلى الله ما لم يأمره به يقتل. فلو لم يكن محمد صلى الله عليه وسلم نبياً حقاً، لكان يقتل. وعيسى عليه السلام بزعم أهل الكتاب قتل وصلب، فلو كانت هذه البشارة في حقه للزم أن يكون نبياً كاذباً، كما يزعمه اليهود. 9- إنّ محمداً صلى الله عليه وسلم أخبر عن الأمور الغيبية الكثيرة في المستقبل، وظهر صدقه فيها. 10- إنّ علماء اليهود سلّموا كونه مبشراً به في التوراة، لكن بعضهم أسلم، وبعضهم بقي على الكفر. انظر إظهار الحق 2362-370.

وموسى صلوات الله عليه أمر بتصديق من يأتي بعده من الأنبياء الصادقين؛ كما أمر بتكذيب الكذابين. وهذا يقتضي طاعة من يقوم بعده من الأنبياء. ثم من الناس من يُعيِّن هذا؛ فاليهود يقولون هو يوشع؛ والنصارى يقولون هو المسيح؛ وبعض المسلمين يقولون: هو محمد صلى الله عليه وسلم يحتجون على ذلك بحجج كثيرة، قد ذكرت في غير [هذا] 1 الموضع2. ومنهم من يقول: بل هذا اسم جنس، وهو عام في كل نبي يأتي بعده لئلا يكذبوه؛ كما

_ 1 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 2 انظر الجواب الصحيح 5157، 188. وأعلام النبوة للماوردي ص 198. وقد أورده ابن القيم رحمه الله، وقال: فهذا النصّ مما لا يمكن أحداً منهم جحده وإنكاره، ولكن لأهل الكتاب فيه أربعة طرق.. ثم ذكرها وأبطلها كلها. انظر: هداية الحيارى ص 107-109.

فعلت اليهود وأنكروا النسخ1. وهذا القول أقرب؛ فيدخل في هذا المسيح، ومحمد2، ومن قبلهما من أنبياء بني إسرائيل؛ فإنّ المقصود أمرهم بتصديق الأنبياء، وطاعتهم، وأنّ الله سبحانه ينزل على الأنبياء كلامه، فالذي يقولونه هو كلام الله ما سمعوا منه. وبسط هذا له موضع آخر3. وقد بسط القول4 في أنّ الناس يعلمون بالضرورة أنّ الآيات التي يأتي بها الأنبياء آيات من الله، وعلامة أعلم بها عباده؛ أنّه أرسلهم، وأمرهم بطاعتهم، والذين كذّبوا بها كانوا يقولون ليست من الله، بل هي سحر، أو كهانة، أو نحو ذلك، لا يقرون بأنّها آية من الله، ويقولون مع ذلك: قد يخلقها الله لغير التصديق، أو يخلقها ليضلّ بها الخلق، أو نحو ذلك؛ فإنّ بسط هذه الأمور له موضع آخر5. الرسول بيَّن للناس الأدلة والبراهين الدالة على أصول الدين والمقصود هنا: أنّ الرسول بيّن للناس الأدلّة والبراهين الدالّة على أصول الدين كلّها؛ كما قد ذكر سبحانه هذا في مواضع؛ كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ في الكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ

_ 1 أي نسخ شريعة موسى عليه السلام؛ إما بعضها على يد عيسى عليه السلام، أو كلها على يد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين وسيدهم. وانظر: الجواب الصحيح 5152. 2 في ((ط)) : عليهما السلام. 3 انظر: الجواب الصحيح 5146، 152، 159، 187، 188، 197. 4 انظر: شرح الأصفهانية 2622. والجواب الصحيح 6397. 5 انظر الجواب الصحيح، ففيه فصل في طرق العلم ببشارات الأنبياء بمحمد صلى الله عليه وسلم 5160-196، وفيه كذلك فصل ذكر فيه ست طرق كبرى للقطع بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم 6324-379.

اللهُ} 1، وقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدَىً للنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الهُدَى والفُرْقَان} 2. ومن ذلك قوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ [يَتْلُو] 3 عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ [لَفِي] 4 ضَلالٍ مُبِين} 5. قد وصف الرسول بذلك في مواضع؛ فذكر هذا في البقرة، في دعوة إبراهيم، وفي قوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً [مِنْكُمْ] 6 [يَتْلُو] 7 عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ} 8، وفي قوله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الكِتَابِ وَالحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} 9، وهنا لم يذكر [يتلو] 10 عليهم آياته ويزكيهم؛ لحكمة تختص بذلك، وذكر هذا في آل عمران في قوله: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِين} 1 1. وقد قال: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى في بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالحِكْمَةِ} 12،

_ 1 سورة البقرة، الآية 159. 2 سورة البقرة، الآية 185. 3 في ((خ)) : يتلوا.؟ 4 في ((ط)) : في. 5 سورة آل عمران، الآية 164. 6 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 7 في ((خ)) : يتلوا. 8 سورة البقرة، الآية 151. 9 سورة البقرة، الآية 231. 10 في ((خ)) : يتلوا. 11 سورة آل عمران، الآية 164. 12 سورة الأحزاب، الآية 34.

وهذا [يُشبه] 1 الموضع الثالث في البقرة2. فأخبر في غير موضع عن الرسول: أنّه [يتلو] 3 عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة4. فالتلاوة، والتزكية عامّة لجميع المؤمنين؛ فتلاوة الآيات [يحصل بها العلم؛ فإنّ الآيات هي العلامات، والدلالات، فإذا سمعوها دلّتهم على المطلوب] 5؛ من تصديق الرسول فيما أخبر، والإقرار بوجوب طاعته؛ وأمّا التزكية: فهي تحصل بطاعته فيما يأمرهم به من عبادة الله وحده وطاعته. فالتزكية تكون بطاعة أمره؛ كما أنّ تلاوة آياته يحصل بها العلم، وسميت آيات القرآن آيات، وقيل: إنّها آيات الله؛ كقوله: {تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالحَقِّ} 6؛ لأنها علامات، ودلالات على الله، وعلى ما أراد؛ فهي تدلّ على ما أخبر به، وعلى ما أمر به ونهى عنه؛ وتدلّ أيضاً على أنّ الرسول صادق؛ إذ كانت مما لا يستطيع الإنس والجن أن يأتوا بمثلها، وقد تحدّاهم بذلك؛ كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع7.

_ 1 في ((م)) ، و ((ط)) : شبه. 2 وهو قوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . [سورة البقرة، الآية 129] . 3 في ((خ)) : يتلوا. 4 ومن ذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} . [سورة الجمعة، الآية 2] . 5 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 6 سورة البقرة، الآية 252. 7 انظر الجواب الصحيح 6422-436؛ فقد عقد فيه شيخ الإسلام رحمه الله فصلاً في الإعجاز القرآني.

وأيضاً: فهي نفسها فيها من بينات الأدلة والبراهين ما يُبيّن الحق؛ فهي آيات من وجوه متعددة. ثم قال: {وَيُعَلّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ} 1، وهذا لمن يعلم ذلك منهم، وقد يتعلم الشخص منهم بعض الكتاب والحكمة. فالكتاب: هو الكلام المنزل الذي يكتب، والحكمة: هي السنة؛ وهي معرفة الدين والعمل به2. وقد قال تعالى: {وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} 3، وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوَاً} 4؛ ففرّق بين الآيات الدالة على العلم؛ التي يعلم بالعقل أنها دلائل للرب، وبين النذر؛ وهو الإخبار عن المخوف؛ كإخبار الأنبياء بما يستحقه العصاة من العذاب؛ فهذا يعلم بالخبر والنذر؛ ولهذا قال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} 5.

_ 1 جزء من آيات متعددة في عدّة سور، منها: الآية 129 في سورة البقرة. 2 سئل الإمام مالك رحمه الله عن الحكمة، فقال: المعرفة بالدين، والفقه في الدين، والاتباع له. انظر: تفسير الطبري 1557. وانظر: تفسير ابن كثير 1184. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "قال غير واحد من السلف في مسمى الحكمة كما قال مالك بن أنس: "الحكمة معرفة الدين والعمل به"، وكذلك قال الفضيل بن عياض، وابن قتيبة، وغير واحد من السلف. قال الشاعر: وكيف يصحّ أن تُدعى حكيماً ... وأنت لكلّ ما تهوى ركوب وقال آخر: ابدأ بنفسك فانهها عن غيّها ... فإذا انتهت عنه، فأنت حكيم درء تعارض العقل والنقل 922-23. وانظر كتاب الصفدية 2325. والرد على المنطقيين ص 447. 3 سورة يونس، الآية 101. 4 سورة الكهف، الآية 56. 5 سورة الإسراء، الآية 15.

وأما الآيات: فتعلم دلالتها بالعقل. والأنبياء جاؤوا بالآيات والنذر، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً [نوحِي] 1 إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالبَيِّنَاتِ وَالزُّبُر} 2، وقال تعالى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالكِتَابِ المُنِير} 3. ومثل هذا كثير يذكر أن جميع الأنبياء جاءوا بالآيات التي تعلم دلالتها بالعقل4. الناس في معرفة الله وتوحيده على ثلاثة أقوال ولمّا كان كثيرٌ من الناس مقصّرين فيما جاء به الرسول، قد أخرجوا ما تعلم دلالته بالعقل عن مسمى الشرع5، تنازع الناس في معرفة الله وتوحيده، وأصول الدين: هل يجب ويحصل بالشرع؟ أو يجب بالشرع، ويحصل بالعقل؟ أو يجب، ويحصل بالعقل؟؛ على ثلاثة أقوال مشهورة6 لأصحاب الإمام أحمد، وغيرهم من أتباع الأئمة الأربعة. القول الأول فطائفة يقولون: يجب بالشرع، ويحصل به؛ وهو قول السالمية، وغيرهم؛ مثل الشيخ أبي الفرج المقدسي7. وهذا هو الذي

_ 1 في ((خ)) : يوحى. 2 سورة النحل، الآيتان 43-44. 3 سورة آل عمران، الآية 184. 4 انظر تفسير ابن كثير 1434. 5 انظر كلام شيخ الإسلام رحمه الله عن هذا المبحث في كتابه: درء تعارض العقل والنقل 1198-200. 6 تطرق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لهذه المسألة في كتبه الأخرى بالتفصيل والبيان. انظر على سبيل المثال: الجواب الصحيح 2307-314. ودرء تعارض العقل والنقل 7352-362،، 91-66. وشرح الأصفهانية 2342. 7 هو أبو الفرج عبد الواحد بن محمد بن علي الشيرازي، ثم المقدسي، ثم الدمشقي الأنصاري الخزرجي، شيخ الشام في وقته. حنبليّ، أصله من شيراز، تفقه ببغداد على القاضي أبي يعلى، وسكن المقدس، واستقر في دمشق، فنشر مذهب الإمام أحمد بن حنبل. توفي في دمشق سنة 486. ومن مؤلفاته: التبصرة في أصول الدين. انظر: طبقات الحنابلة 2248-249. والذيل لابن رجب 168-73. والأعلام 4177.

حكاه1 عن أهل السنة من أصحاب أحمد، وغيرهم، وكذلك من شابههم؛ مثل ابن درباس2، وابن شكر3، وغيرهما من أصحاب الشافعي4. وهو المشهور عن أهل الحديث، والفقه الذين يذمون الكلام. وهذا مما وقع فيه النزاع بين صدقة بن الحسين الحنبليّ المتكلّم5، وبين طائفة من أصحاب

_ 1 وقد نقل شيخ الإسلام رحمه الله كلامه من كتاب التبصرة. انظر درء تعارض العقل والنقل 84-6. 2 هو أبو القاسم عبد الملك بن عيسى بن درباس الماراني الكردي الشافعي، قاضي الديار المصرية في زمن صلاح الدين الأيوبي. ولد سنة 516?، وتوفي سنة 605?. انظر: سير أعلام النبلاء 21474. والعبر 3139. والبداية والنهاية 1357. وحسن المحاضرة 1408. 3 هو أبو العباس أحمد بن علي بن محمد بن علي بن شكر الأندلسي. مقرئ وصل إلى المشرق، وأخذ القراءات. من مصنفاته: ((مختصر التيسير شرح الشاطبية)) . توفي سنة 640 هـ بالفيوم من مصر. انظر: معجم المؤلفين 220. 4 انظر: درء تعارض العقل والنقل 916-17. 5 هو أبو الفرج صدقة بن الحسين بن الحداد البغدادي الحنبلي، الناسخ الفرضي، المتكلم، المتهم في دينه. أخذ عن ابن عقيل، وابن الزاغوني، وسمع من ابن مَلَّة، واشتغل مدة، وأمّ بمسجد كان يسكنه، وناظر، وأفتى، وتكلم فيه ابن الجوزي. قل الحافظ ابن رجب: كان بينه وبين ابن الجوزي مباينة شديدة، وكل واحد يقول في صاحبه مقالة الله أعلم بها. مات في ربيع الآخر سنة 573?، وهو في عمر الثمانين. انظر: سير أعلام النبلاء 2166. والذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب 1331-340. والبداية والنهاية لابن كثير 12319.

أحمد، وكذلك بين أبي الفرج بن الجوزي، وطائفة منهم؛ أولئك يقولون الوجوب والحصول بالشرع، وهؤلاء يقولون الحصول بالعقل، والوجوب بالشرع. وقد ذكر الأمدي1 ثلاثة أقوال في طرق العلم؛ قيل: بالعقل فقط، والسمع لا يحصل به؛ كقول الرازي؛ وقيل: بالسمع فقط؛ وهو الكتاب والسنة؛ وقيل: بكلّ منهما، ورجّح هذا وهو الصحيح. القول الثاني والقول الثاني: أنّها لا تجب إلا بالشرع، لكن يحصل بالعقل؛ وهو قول الأشعري، وأصحابه، ومن وافقهم؛ كالقاضي أبي يعلى، وابن الزاغوني، وابن عقيل، وغيرهم. القول الثالث والقول الثالث: أنّها تحصل بالعقل، وتجب به؛ وهو قول من يوجب بالعقل؛ كالمعتزلة، والكرامية، وغيرهم من أتباع الأئمة؛ كأبي الحسن الآمدي، وأبي الخطاب، وغيرهم. وهو قول طائفة من المالكية، والشافعية، وعليه أكثر الحنفية، ونقلوه عن أبي حنيفة نفسه. وقد صرح هؤلاء قبل المعتزلة، وقبل أبي بكر الرازي، وأبي الخطاب، وغيرهم: أنّ من لم يأته رسول، يستحق العقوبة في الآخرة؛ لمخالفته موجب العقل2.

_ 1 هو أبو الحسين علي بن أبي محمد بن سالم؛ سيف الدين الآمدي. ولد سنة 551 ? في آمد من ديار بكر، وانتقل إلى بغداد، فدرّس بها، ثم انتقل إلى مصر، وأخيراً إلى حماة ثم دمشق؛ حيث درس في العزيزية، ثم عزل عنها، ومات سنة 631 ?. من مؤلفاته: الإحكام في أصول الأحكام، ومنتهى السؤل مطبوعان، وله أيضاً: أبكار الأفكار. انظر: سير أعلام النبلاء 22364. وطبقات الشافعية للسبكي 8306. 2 انظر: التمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب 4294-306.

أعدل الأقوال في المسألة وقد ذكرنا في غير هذا الموضع1: أنّ أعدل الأقوال: أنّ الأفعال مشتملة على أوصاف تقتضي [حسنها] 2 ووجوبها، و [تقتضي] 3 قبحها وتحريمها، وأنّ ذلك قد يعلم بالعقل، لكن الله لا يعذّب أحداً إلا بعد بلوغ الرسالة؛ كما قال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} 4، ولم يفرّق سبحانه بين نوعٍ، ونوعٍ، وذكرنا أنّ هذه الآية يحتجّ بها الأشعريّ، وأصحابه، ومن وافقهم؛ كالقاضي أبي يعلى5، وأتباعه، وهم يجوزون أنّ الله يُعذّب في الآخرة بلا ذنب؛ حتى قالوا يعذب أطفال الآخرة؛ فاحتجوا بها على المعتزلة، والآية حجّة على الطائفتين؛ كما قد بسط في غير هذا الموضع6.

_ 1 انظر من هذا الكتاب: ص 547-555. وقد تقدّم ذكر كثير من الإحالات، مما يُغني عن تكرارها ها هنا. وانظر: مجموع الفتاوى 890-91، 309-310، 428-436. وشرح الأصفهانية 2617-619. 2 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 3 في ((خ)) : يقتضي. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 سورة الإسراء، الآية 15. 5 انظر العدة في أصول الفقه لأبي يعلى 2422، 41218-1224. 6 انظر: الجواب الصحيح 2296-300. ومنهاج السنة النبوية 2306-309. ودرء تعارض العقل والنقل 8397-402. ومجموع الفتاوى 4277-281، 303. وقد سبق أن تطرّق شيخ الإسلام رحمه الله إلى هذا الموضوع. وانظر ص 566 من هذا الكتاب.

فصل الحجة على من أنكر قدرة الله وحكمته وقد ذكر الله تعالى في القرآن الحجة على من أنكر قدرته، وعلى من أنكر حكمته؛ فأول ما أنزل الله تعالى: {اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقْ اِقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم} 1؛ فذكر أنّه الأكرم، وهو أبلغ من الكريم2، وهو المحسن غاية الإحسان3. ومن كرمه: أنّه علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم؛ فعلّمه العلوم بقلبه، والتعبير عنها بلسانه، وأن يكتب ذلك بالقلم.

_ 1 سورة العلق، الآيات 1-5. 2 انظر كلام شيخ الإسلام رحمه الله عن اسم (الأكرم) لصاحب العزة والجلال، في مجموع الفتاوى 16295، 297، 317-322. وانظر: شأن الدعاء للخطابي ص 103-104. والأسماء والصفات للبيهقي 1148. ومدارج السالكين لابن القيم 1453. وعدة الصابرين له ص 267-271. وشفاء العليل له 158، 2243. 3 انظر أيضاً كلام شيخ الإسلام رحمه الله في إثبات اسم (المحسن) لله سبحانه وتعالى في: مجموع الفتاوى1379، 5238، 16317. وبيان تلبيس الجهمية 1189. وانظر: بدائع الفوائد لابن القيم 2249. وطريق الهجرتين له ص 120. ومدارج السالكين له 1416. وللشيخ الدكتور عبد الرزاق بن عبد المحسن العباد بحث في إثبات اسم (المحسن) لله سبحانه وتعالى، ضمن مجلة البحوث الإسلامية، العدد36.

فذِكْرُ التعليم بالقلم يتناول علم العبارة والنطق، وعبارة المعاني والعلوم؛ فإذا كان قد علّمه هذه العلوم1، فكيف يمتنع عليه أن يعلمه ما يأمره به، وما يخبره به. وبيان ذلك: أنّه قال في أول السورة: {اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقْ} ، ومعلوم أنّ من رأى العلقة2 قطعة من دم، فقيل له: هذه العلقة يصير منها إنسان يعلم كذا وكذا، لكان يتعجب من هذا غاية التعجب، وينكره أعظم الإنكار. ومعلومٌ أنّ نقل الإنسان من كونه علقة إلى أن يصير إنساناً عالماً قادراً كاتباً، أعظم من جعل مثل هذا الإنسان يعلم ما أمر الله به، وما أخبر به؛ فمن قدر على أن ينقله من الصغر إلى أن يجعله عالماً قارئاً كاتباً، كان أن يقدر على جعله عالماً بما أُمر به، وبما أُخبر به أولى وأحرى. وهذا كما استُدِلّ على قدرته على إعادة الخلق، بقدرته على الابتداء3. وقد أخبر الله تعالى عن الكفّار أنهم تعجّبوا من التوحيد، ومن

_ 1 في ((خ)) كتبت في الأصل، ثمّ عُلّق عليها في الحاشية: الأمور. وعليها حرف (ص) ، فلعلّ المقصود: فإذا كان قد علّمه هذه الأمور. 2 العلق هو الدم الجامد، ومنه العلقة التي يكون منها الولد. انظر: مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني ص 579. ولسان العرب لابن منظور 10267. 3 وهذا من براهين البعث؛ لأنّ من خلق الناس من العدم، قادرٌ على إعادتهم بعد فنائهم؛ قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [سورة الروم، الآية 27] ، وقال تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [سورة الأنبياء، الآية 104] ، وقال تعالى: {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [سورة الإسراء، الآية 51] ، وقال تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [سورة يس، الآية 79] ، وقال تعالى: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ..} [سورة ق، الآية 15] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ..} [سورة الحج، الآية 5] ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى} [سورة الواقعة، الآية 62] . وانظر الرد على المنطقيين ص 320-321؛ فقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله براهين البعث العقلية. وانظر: أضواء البيان للشيخ محمد الأمين الشنقيطي 1115-116. وجهود الشيخ محمد الأمين في تقرير عقيدة السلف 2576.

النبوّة، ومن المعاد1؛ فقال تعالى: {ص وَالقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا في عِزَّةٍ وَشِقَاق كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوا وَلاتَ حِينَ مَنَاص وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّاب أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهَاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجاب} 2؛ فذكر تعجبهم من التوحيد، والنبوة، وقال تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبَاً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} 3، وهذا أيضاً تعجبٌ من أنْ أُرْسِل إليهم رجلٌ منهم، وقوله: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبَاً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} : دلّ على أنّه منذرٌ لجنس الناس، وأنه من جنس الناس لا يختص به العرب دون غيرهم، وإن كان أول ما أرسل إليهم، وبلسانهم، وقال تعالى: {ق وَالقُرْآنِ المَجِيد بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مِنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيد} 4، وقال تعالى: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيد أوْلَئِكَ الذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلالُ في أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون} 5، وقال تعالى: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُون وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُون} 6؛ فالرسول كان يعجب من تكذيبهم

_ 1 وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله هذه الأصول في تفسيره لسورة العلق، وذكر كلاماً مشابهاً لما ذكره هاهنا في مجموع الفتاوى 16260-265. 2 سورة ص، الآيات 1-5. 3 سورة يونس، الآية 2. 4 سورة ق، الآيات 1-3. 5 سورة الرعد، الآية 5. 6 سورة الصافات، الآيات 12-14.

لما جاءهم به من آيات الأنبياء، وهم يعجبون مما جاء به لكونه خارجاً عما اعتادوه من النظائر، فإنهم لم يعرفوا قبل مجيئه؛ لا توحيداً، ولا نبوةً، ولا معاداً؛ قال تعالى: {قُلْ هَلُمّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} 1. الحكمة من جعل الرسول من البشر وأما حكمته في إرسال بشر: فقد ذكر أنّه من جنسهم، وأنّه بلسانهم؛ فهو أتمّ في الحكمة والرحمة2، وذكر أنّهم لا يمكنهم الأخذ عن المَلَك3، وأنّه لو نزّل ملكاً، لكان يجعله في صورة بشر، ليأخذوا عنه4.

_ 1 سورة الأنعام، الآية 150. 2 من حكمة الله سبحانه وتعالى أن جعل الرسل بشراً، كي يسهل على أممهم الأخذ عنهم؛ بالتأسّي بهم، والاقتداء بأفعالهم؛ كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [سورة الأحزاب، الآية 21] ، وقال تعالى يحكي عن مقولة الرسل لأممهم: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [سورة إبراهيم، الآية 17] ، وقال تعالى مانّاً على المؤمنين: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [سورة آل عمران، الآية 164] . وهذا أتمّ في إقامة الحجة عليهم، إضافة إلى كونه أتمّ في رحمتهم؛ إذ لا يمكنهم الأخذ إلا عمّن هو من جنسهم، ويتكلّم بلسانهم. 3 رؤية الملائكة أمر صعب وخطير، فالكفار لا يرون الملائكة إلا حين الموت، أو حين نزول العذاب، فلو قدّر أنهم رأوهم وقت نزول العذاب لكانت رؤيتهم لهم في يوم هلاكهم. انظر الرسل والرسالات لعمر الأشقر ص 72. قال تعالى: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} [سورة الفرقان، الآية 22] . وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ} [سورة الأنعام، الآية 8] . 4 قال تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [سورة الأنعام، الآية 9] .

ولهذا لم يكن البشر يرون الملائكة إلا في صورة الآدميين1؛ كما كان جبريل يأتي في صورة دحية الكلبي2، وكما أتى مرّة في صورة

_ 1 ومن الآيات القرآنية الدالة على تشكّل الملائكة بصورة الآدميين: الآيات التي تحدّثت عن مجيء جبريل عليه السلام إلى مريم، وهي قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً} [سورة مريم، الآيات 16-19] . ومن الآيات: تلك التي تحدثت عن مجيء الملائكة إلى لوط عليه السلام في صورة شباب حسان، وهي قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ. وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [سورة هود، الآيتان 77-78] . ومن ذلك: دخول الملكين بصورة رجلين، وتسورهما المحراب على داود عليه السلام؛ قال تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} [سورة ص، الآيتان 21-22] . 2 روى البخاري رحمه الله في صحيحه 31330، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام عن أبي عثمان قال: "أُنبئت أن جبريل عليه السلام أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنده أمّ سلمة، فجعل يُحدّث، ثم قام، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأم سلمة: مَنْ هذا؟ أو كما قال. قال: قالت: هذا دحية. قالت أم سلمة: أيم الله ما حسبته إلا إياه، حتى سمعت خطبة النبيّ صلى الله عليه وسلم بخبر جبريل، أو كما قال. قال: فقلت لأبي عثمان: ممن سمعت هذا؟ قال: من أسامة بن زيد". وانظر صحيح مسلم 41906، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: وكان جبريل عليه السلام يأتي النبيّ صلى الله عليه وسلم في صورة دحية. أخرجه الإمام أحمد في مسنده 8167 ط المعارف، وقال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله: إسناده صحيح. وانظر: منهاج السنة النبوية 2534. ودرء تعارض العقل والنقل 6109-110. وكتاب الصفدية 1196-198، 201. ودحية الكلبي: هو دحية بن خليفة بن فروة بن فضالة الكلبي القضاعي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسوله بكتابه إلى عظيم بُصرى ليُوصله إلى هرقل. أسلم دحية قبل بدر، ولم يشهدها، وكان يتشبّه به جبريل عليه السلام، فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم على صورته، وكان من أجمل الناس وجهاً. شهد اليرموك، وسكن المزة من قرى دمشق، وبقي إلى زمن معاوية. انظر سير أعلام النبلاء 2550. والإصابة لابن حجر 1463.

أعرابيّ1. ولما جاءوا إبراهيم، وامرأته حاضرة، كانوا في صورة بشر، وبشّروها بإسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب2؛ قال تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الهُدَى إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَرَاً رَسُولاً قُلْ لَوْ كَانَ في الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكَاً رَسُولاً} . وأما قدرته على تعريف الخلق بأنّه نبيّه، فكما تقدم3؛ فإنّه إذا كان

_ 1 روى الإمام مسلم في صحيحه 136-38، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان بسنده عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: " بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد.... ثم ساق الحديث، وفي آخره: قال: ثم انطلق، فلبثت ملياً، ثم قال لي: يا عمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم". وانظر عن تمثّل الملك في صورة دحية، وفي صورة الأعرابي: فتح الباري لابن حجر 127. 2 قال تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [سورة هود، الآيات 69-71] . 3 انظر أوّل هذا الفصل، ص 813.

قادراً على أن يهدي الإنسان الذي كان علقةً، ومضغةً إلى أنواع العلوم بأنواعٍ من الطرق إنعاماً عليه، وفي ذلك من بيان قدرته، وحكمته، ورحمته، ما فيه، [فكيف] 1 لا يقدر أن يعرفه صدق من أرسله إليه. وهذا أعظم النعم عليه، والإحسان إليه، والتعريف بهذا دون تعريف الإنسان ما عرفه به من أنواع العلوم؛ فإنّه إذا كان هداهم إلى أن يعلم بعضهم صدق رسول من أرسله إليه بشر مثله، بعلامات يأتي بها الرسول، وإن كان لم تتقدم مواطأة وموافقة بين المرسَل والمرسَل إليهم. طرق الناس في دلالة المعجزة على صدق الرسول فمن هدى عباده إلى أن يرسلوا رسولاً بعلامة، ويعلم المرسل إليها أنّها علامة تدلّ على صدقه قطعاً، فكيف لا يقدر هو أن يرسل رسولاً، ويجعل معه علامات يعرّف بها عباده أنّه قد أرسله. وهذا كمن جعل غيره قديراً، عليماً، حكيماً، فهو أولى أن يكون قديراً، عليماً، حكيماً، فمن جعل الناس يعلمون صدق رسول [يُرسله بعض خلقه بعلامات يعلم بها المرسل صدق رسوله] 2، فمن هدى العباد إلى هذا، فهو أقدر على أن يعلمهم صدق رسوله بعلامات يعرفون بها صدقه، وإن لم يكن قبل ذلك قد تقدم بينهم وبينه مواطأة3.

_ 1 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 2 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 3 وهذا من قياس الأولى؛ وهو أنّ كلّ كمال اتصف به المخلوق، وأمكن أن يتصف به الخالق، فهو أولى وأحق أن يتصف به. انظر: شرح الأصفهانية 1159. والعقيدة التدمرية 50. ودرء تعارض العقل والنقل 129. ونقض تأسيس الجهمية 2397

وللناس طرق في دلالة المعجزة على صدق الرسول1: طريق الحكمة، وطريق القدرة، وطريق العلم والضرورة، وطريق سنته وعادته التي بها يعرف أيضاً ما [يفعله] 2؛ وهو من جنس المواطأة، وطريق العدل، وطريق الرحمة، وكلّها طرق صحيحة. وكلما كان الناس إلى الشيء أحوج، كان [الربّ] 3 به أجود، [وكذلك كلما كانوا إلى بعض العلم أحوج، كان به أجود] 4؛ فإنه سبحانه الأكرم، الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم، وهو الذي خلق

_ 1 فالمعتزلة وابن حزم لا يُثبتون النبوة إلا بطريق القدرة؛ الذي هو المعجزة. انظر: شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار المعتزلي ص 585-586. والمحلى لابن حزم 136. والدرة فيما يجب اعتقاده له أيضاً ص 194. أما الأشاعرة: فيُثبتون النبوة بطريق القدرة؛ الذي هو المعجزة، أو بطريق الضرورة، إلا أنّ طريق المعجزة عندهم هي أشهر الطرق. انظر: المواقف للإيجي ص 349، 356، 357. والإرشاد للجويني ص 331. والإنصاف للباقلاني ص 93. والبيان له ص 37-38. وانظر من كتب شيخ الإسلام رحمه الله: درء تعارض العقل والنقل 189-90،، 940-53. والجواب الصحيح 6393-401،، 5196. وانظر: شرح الأصفهانية 1140-141، 2471-485، 492-497، 500-502، 557-558، 591-597، 609-617، 621-624 فقد ذكر فيه شيخ الإسلام رحمه الله طرقاً كثيرة لمعرفة النبيّ. وانظر هذا الكتاب ص 274-275، 563-567، 509، 645. وقد تقدم مزيد توضيح لهذه الطرق في ص 640-647، 653-654، 666-680. 2 في ((م)) ، و ((ط)) : يفعل. 3 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 4 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .

فسوّى، [والذي] 1 قدَّر فهدى، وهو الذي أعطى كلّ شيء خلقه ثمّ هدى2.

_ 1 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 2 وقد وضّح شيخ الإسلام رحمه الله هذا الأمر في مواضع كثيرة، وبيَّن أنّ الله الأكرم جلّ وعلا يسّر لعباده معرفة رسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وأنّ طرق معرفتهم كثيرة جداً ومتنوعة؛ فقال رحمه الله تعالى: "قد ذكرنا ما تيسّر من طرق الناس في المعرفة بالله ليُعرف أنّ الأمر في ذلك واسع، وأنّ ما يحتاج الناس إلى معرفته؛ مثل الإيمان بالله ورسوله، فإنّ الله يوسع طرقه وييسرها، وإن كان الناس متفاضلين في ذلك تفاضلاً عظيماً. وليس الأمر كما يظنّه كثير من أهل الكلام؛ من أنّ الإيمان بالله ورسوله لا يحصل إلا بطريق يعيّنونها، وقد يكون الخطأ الحاصل بها يُناقض حقيقة الإيمان، كما أنّ كثيراً منهم يذكر أقوالاً متعدّدة، والقول الذي جاءت به الرسل، وكان عليه سلف الأمة لا يذكره ولا يعرفه. وهذا موجود في عامة الكتب المصنّفة في المقالات والملل والنحل ... فيبقى الناظر في كتبهم حائرً، ليس فيما ذكروه ما يهديه ويشفيه، ولكن قد يستفيد من ردّ بعضهم على بعض علمه ببطلان تلك المقالات كلها". درء تعارض العقل والنقل 966-67. وقال رحمه الله تعالى أيضاً: "كلما كان الناس أحوج إلى معرفة الشيء، فإنّ الله يوسّع عليهم دلائل معرفته كدلائل معرفة نفسه، ودلائل نبوة رسوله، ودلائل ثبوت قدرته وعلمه وغير ذلك؛ فإنّها دلائل كثيرة قطعية، وإن كان من الناس من قد يضيق عليه ما وسّعه الله على من هداه؛ كما أنّ من الناس من يعرض له شكّ وسفسطة في بعض الحسيّات والعقليات التي لا يشك فيها جماهير الناس. والمقصود هنا أنّا نحن أخرجنا الله من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئاً، فنفتقر في حصول العلم إلى أسباب غير أنفسنا. ومن الأشياء ما نعلمها بمشاعرنا بلا دليل، ومنها ما نفتقر في العلم به إلى دليل، فلا نكون عالمين به حتى نعلم الدليل الذي يستلزم في علمنا به علمنا بالمدلول عليه. والرب تعالى علمه من لوازم نفسه المقدسة، وكذلك قدرته، لم يستفد شيئاً من صفاته المقدسة من غيره، ولم يحتج إلى سواه بوجه من الوجوه، بل هو الغني عن كلّ ما سواه". درء تعارض العقل والنقل 10129-130. وانظر: الرد على المنطقيين ص 254-255. والجواب الصحيح 5141. ويذكر رحمه الله تعالى كثيراً من الدلائل والعلامات التي تدلّ على صدق الرسول؛ فيقول: "وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم من آياته وأخلاقه وأقواله وأفعاله وشريعته من آياته، وأمته من آياته، وعلم أمته ودينهم من آياته، وكرامات صالح أمته من آياته، وذلك يظهر بتدبّر سيرته؛ من حين ولد إلى أن بُعث، ومن حيث بعث إلى أن مات، وتدبّر نسبه، وبلده، وأصله، وفصله؛ فإنّه كان من أشرف أهل الأرض نسباً؛ من صميم سلالة إبراهيم الذي جعل الله في ذريّته النبوّة والكتاب....... لم يزل معروفاً بالصدق، والبرّ والعدل، ومكارم الأخلاق، وترك الفواحش والظلم وكل وصف مذموم ... لا يُعرف بشيء يعابه؛ لا في أقواله، ولا أفعاله، ولا في أخلاقه ... ". دقائق التفسير 1159. وقد ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى تنوع طرق الهداية والدلالة على صدق المرسلين؛ فقال رحمه الله: "فطرق الهداية متنوعة رحمة من الله بعباده، ولطفاً بهم؛ لتفاوت عقولهم، وأذهانهم، وبصائرهم؛ فمنهم من يهتدي بنفس ما جاء به، وما دعا إليه، من غير أن يُطلب منه برهان خارجاً عن ذلك؛ كحال الكمل من الصحابة، كالصديق رضي الله عنه. ومنهم من يهتدي بمعرفة حاله صلى الله عليه وسلم، وما فُطر عليه من كمال الأخلاق والأوصاف والأفعال.... كخديجة رضي الله عنها ... وهذه المقامات في الإيمان عجز عنها أكثر الخلق، فاحتاجوا إلى الآيات والخوارق ... " مفتاح دار السعادة 213.

فكيف لا يقدر أن يهدي عباده إلى أن يعلموا أنّ هذا رسوله، وأنّ ما جاء به من الآيات [أنّه] 1 من الله، وهي شهادة من الله له بصدقه، وكيف [تقتضي] 2 حكمته أن يسوي بين الصادق والكاذب؛ فيؤيد الكاذب من آيات الصدق، بمثل ما يؤيّد به الصادق؛ [حتى] 3 لا يعرف هذا من هذا، وأن يرسل رسولاً يأمر الخلق بالإيمان به وطاعته، ولا يجعل لهم طريقاً إلى معرفة صدقه.

_ 1 في ((م)) ، و ((ط)) : آية. 2 في ((خ)) : يقتضي. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 في ((خ)) : وحتى. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

وهذا كتكليفهم بما لا يقدرون عليه، وما لا يقدرون على أن يعلموه. وهذا ممتنع في صفة الرب، وهو منزّه عنه سبحانه؛ فإنه لا يكلّف نفساً إلا وسعها. وقد علم من سنته وعادته: أنّه لا يؤيد الكذاب، بمثل ما أيّد به الصادق [قط] 1، بل لا بد أن يفضحه ولا ينصره، بل لا بد أن يهلكه. وإذا نصر ملكاً ظالماً مسلطاً، فهو لم يدع النبوة، ولا كذب عليه، بل هو ظالم سلّطه على ظالم؛ كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضَاً} 2، بخلاف من قال: إنّه أرسله؛ فهذا لا يؤيده تأييداً مستمراً إلا مع الصدق، لكن قد يمهله مدّة، ثم يهلكه؛ كما فعل بمن كذّب الرسل: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدَاً وأَكِيدُ كَيْدَاً فَمَهِّلِ الكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدَاً} 3. معنى النبي في اللغة ولفظ النبي كلفظ الرسول4، هو في الأصل إنما قيل مضافاً إلى الله؛ فيُقال: رسول الله، ثم عُرّف باللام؛ فكانت اللام تعاقب الإضافة؛ كقوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا [أَرْسَلْنَا] 5 إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُول} 6، وقوله: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ [كَدُعَاءِ] 7 بَعْضِكُمْ بَعْضَاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ [مِنْكُمْ] 8 لِوَاذَاً} 9.

_ 1 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 2 سورة الأنعام، الآية 129. 3 سورة الطارق، الآيات 15-17. 4 انظر: مجموع الفتاوى 10290. 5 في ((خ)) ، و ((م)) ، و ((ط)) : فأرسلنا. وهو خلاف الآية: {كَمَا أَرْسَلْنَا..} . وكلمة: (فأرسلنا) : ملحقة في ((خ)) بين السطرين. 6 سورة المزمل، الآيتان 15-16. 7 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 8 في ((ط)) : منهم. 9 سورة النور، الآية 63.

وكذلك اسم النبي؛ يقال نبي الله؛ كما قال: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 1، وقيل لهم: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضَاً} 2؛ فتقولون: يا محمد. بل قولوا: يا نبيّ الله، يا رسول الله. معنى الرسول في اللغة ورسول: فعول؛ بمعنى مفعول؛ [أي مُرْسَل؛ فرسول الله: الذي أرسله الله؛ فكذلك نبي الله هو بمعنى مفعول] 3: أي منبّأ الله؛ الذي نبأه الله. وهذا أجود من أن يقال: إنه بمعنى فاعل؛ أي منبِّىء؛ فإنّه إذا نبّأه الله، فهو نبيّ [الله] 4؛ سواء أنبأ بذلك غيره، أو لم ينبئه؛ فالذي صار به النبيّ نبيّاً: أن ينبئه الله. وهذا مما يبيّن ما امتاز به عن غيره؛ فإنه إذا كان الذي ينبئه الله؛ كما أنّ الرسول هو الذي يُرسله الله؛ فما نبأ الله حقّ، وصدق، ليس فيه كذب؛ لا خطأً، ولا عمداً5؛ وما يوحيه الشيطان: هو من إيحائه، ليس من إنباء

_ 1 سورة البقرة، الآية 91. 2 سورة النور، الآية 63. 3 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 4 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 5 وهذه مسألة لغوية يتطرّق إليها شيخ الإسلام رحمه الله في تعريف اسم النبيّ: هل النبيّ فعيل بمعنى فاعل، أم فعيل بمعنى مفعول. وهي مسألة خلافية، ذهب فيها بعض العلماء إلى القول الأول؛ أي أنّه فعيل بمعنى فاعل. انظر: لسان العرب لابن منظور 1162. وروح المعاني للآلوسي 978-79. ورجّح شيخ الإسلام رحمه الله أنّه فعيل بمعنى مفعول، وعلّل ذلك بأنّ النبيّ صار نبيّاً؛ لأنّه منبَّأ من الله، وهذا الذي امتاز به النبيّ عن غيره؛ فهو بمعنى مفعول: أي نبّأه الله؛ سواء نبّأ غيره، أم لا. ومن العلماء من جمع بين القولين؛ كالراغب الأصفهاني الذي قال: (والنبيّ لكونه منبئاً بما تسكن إليه العقول الذكية، وهو يصحّ أن يكون فعيلاً بمعنى فاعل؛ لقوله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي} [الحجر 49] ، {قل أو أُنبّئكم} [آل عمران 15] ، وأن يكون بمعنى المفعول؛ لقوله: {نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم 3] ) . انظر مفردات القرآن للراغب الأصفهاني ص 789. وسيأتي التعريف اللغوي للنبوة، وزيادة إيضاح لما ذكر هاهنا من كلام شيخ الإسلام رحمه الله في ص 863 من هذا الكتاب.

الله؛ فالذي اصطفاه الله [لإنبائه] 1، وجعله نبيّاً له؛ كالذي اصطفاه لرسالته، وجعله رسولاً له؛ فكما أنّ رسول الله لا يكون [رسولاً] 2 لغيره، فلا يقبل أمر غير الله؛ فكذلك نبيّ الله لا يكون نبيّاً لغير الله، فلا يقبل أنباء أحد إلا أنباء الله. وإذا أخبر بما أنبأ الله، وجب الإيمان به؛ فإنّه صادق مصدوق، ليس في شيء مما أنبأه الله به شيء من وحي الشيطان. وهذا بخلاف غير النبيّ؛ فإنّه وإن كان قد يُلهم، ويحدث، ويوحى إليه أشياء من الله، ويكون حقّاً، فقد يلقي إليه الشيطان أشياء. ويشتبه هذا بهذا؛ فإنه ليس نبيّاً لله؛ كما أنّ الذي يأمر بطاعة الله غير الرسول، وإن كان أكثر ما يأمر به هو طاعة الله، فقد يغلط ويأمر بغير طاعة الله، بخلاف الرسول المبلّغ عن الله؛ فإنه لا يأمر إلا بطاعة الله؛ قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله} 3، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ} 4.

_ 1 في ((ط)) : لأنبيائه. 2 في ((خ)) : رسلاً. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 سورة النساء، الآية 80. 4 سورة النساء، الآية 64.

فنبيّ الله هو [الذي] 1 ينبّئه الله، لا غيره. ولهذا أوجب الله الإيمان بما أوتيه النبيون؛ فقال تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوْتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوْتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} 2، وقال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} 3، وقال تعالى: {وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ والملائكة وَالكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} 4. وليس كل من أوحي إليه الوحي العام5 يكون نبيّاً؛ فإنه قد يوحى إلى

_ 1 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 2 سورة البقرة، الآية 136. 3 سورة البقرة، الآية 285. 4 سورة البقرة، الآية 177. 5 الوحي: لغة يأتي بمعان كثيرة، وهو ما يطلق عليه الشيخ رحمه الله هنا: (الوحي العامّ) ؛ فهو يأتي بمعنى الإلهام للإنسان وللحيوان، وبمعنى الأمر، وبمعنى أن تكلّمه بكلام تخفيه من غيره، ويأتي بمعنى الإشارة السريعة، وبمعنى الكتابة والكتاب والمكتوب، وبمعنى الرسالة والبعث، وبمعنى العجلة والسرعة، وبمعنى الإيماء بالجوارح، وبمعنى التصويت شيئاً بعد شيء. انظر لسان العرب لابن منظور 15380-382. وأما في الاصطلاح: فنقل شيخ الإسلام رحمه الله كلام الزهري رحمه الله في معنى الوحي؛ فقال: "الوحي ما يوحي الله إلى النبيّ من أنبيائه عليهم السلام، ليثبت الله عزّ وجلّ ما أراد من وحيه في قلب النبيّ، ويكتبه، وهو كلام الله ووحيه، ومنه ما يكون بين الله وبين رسله، ومنه ما يتكلّم به الأنبياء ولا يكتبونه لأحد، ولا يأمرون بكتابته، ولكنّهم يُحدّثون به الناس حديثاً، ويُبيّنونه لهم؛ لأنّ الله أمرهم أن يُبيّنوه للناس ويبلغوهم إياه، ومن الوحي ما يرسل الله به من يشاء ممن اصطفاه من ملائكته؛ فيُكلّمون به أنبياءه من الناس، ومن الوحي ما يُرسل الله به من يشاء من الملائكة؛ فيوحيه وحياً في قلب من يشاء من رسله. قلت: فالأول: الوحي؛ وهو الإعلام السريع الخفي إما في اليقظة وإما في المنام؛ فإنّ رؤيا الأنبياء وحي، ورؤيا المؤمنين جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة؛ كما ثبت ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في الصحاح..". انظر في تخريج حديث الرؤيا: صحيح البخاري 62562، كتاب التعبير، باب رؤيا الصالحين. وصحيح مسلم 41773، كتاب الرؤيا. ومسند أحمد 218، 50، 229. ثمّ ذكر شيخ الإسلام رحمه الله الوحي بمعناه العام؛ فقال: "فهذا الوحي يكون لغير الأنبياء، ويكون يقظة ومناماً، وقد يكون بصوت هاتف، يكون الصوت في نفس الإنسان، ليس خارجاً عن نفسه يقظة ومناماً؛ كما يكون النور الذي يراه أيضاً في نفسه ... ) . مجموع الفتاوى 12397-398، 402. وانظر بغية المرتاد ص 316.

غير الناس؛ قال تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتَاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} 1، وقال تعالى: {وَأَوْحَى في كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} 2. وقال تعالى عن يوسف وهو صغير: {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ في غَيَابَةِ الجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُون} 3 وقال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} 4، وقال تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي} 5. وقوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْيَاً} 6؛ يتناول وحي الأنبياء، وغيرهم؛ كالمحدّثين الملهمين؛ كما في الصحيحين عن النبي

_ 1 سورة النحل، الآية 68. 2 سورة فصلت، الآية 12. 3 سورة يوسف، الآية 15. 4 سورة القصص، الآية 7. 5 سورة المائدة، الآية 111. 6 سورة الشورى، الآية 51.

صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "قد كان في الأمم قبلكم مُحَدَّثون، فإن يكن في أمتي أحدٌ فعمر منهم" 1. وقال عبادة بن الصامت2: رؤيا المؤمن كلامٌ يكلّم به الربّ عبده في منامه3. معنى المحدث والملهم فهؤلاء المحدثون الملهمون المخاطبون4 يوحى إليهم هذا الحديث

_ 1 صحيح البخاري 31349، كتاب فضائل الصحابة، باب في مناقب عمر بن الخطاب. وصحيح مسلم 41864، كتاب فضائل الصحابة، باب في فضائل عمر ابن الخطاب. ومسند الإمام أحمد 655. وقال ابن وهب: تفسير محدثون: ملهمون. وفي بعض روايات البخاري: "لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يُكلمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن من أمتي منهم أحدٌ، فعمر". انظر صحيح البخاري، نفس الكتاب ونفس الباب. 2 هو عبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم، من بني عمرو بن عوف بن الخزرج الأنصاري. أحد النقباء ليلة العقبة، ومن أعيان البدريين. سكن بيت المقدس، وشهد المشاهد كلّها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وممن جمع القرآن في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم. مات سنة أربع وثلاثين. انظر: سير أعلام النبلاء 25. وشذرات الذهب 140، 62. 3 قال ابن حجر رحمه الله عن هذا الأثر: "وذكر ابن القيم حديثاً مرفوعاً غير معزوّ: "إنّ رؤيا المؤمن كلام يكلم به العبد ربه في المنام"، ووجد الحديث المذكور في نوادر الأصول للترمذي، من حديث عبادة بن الصامت، أخرجه في الأصل الثامن والسبعين، وهو من روايته عن شيخه عمر بن أبي عمر، وهو واه، وفي سنده جنيد". فتح الباري لابن حجر 12370. وانظر: مجموع الفتاوى 12398. 4 تكلّم شيخ الإسلام رحمه الله عن حديث: "قد كان في الأمم قبلكم محدّثون ... "، وذكر معنى المحدث، وذكر الفرق بينه وبين الصدّيق، وبيّن أنّ الصدّيق أفضل من المحدث. انظر من كتب شيخ الإسلام: كتاب الصفدية1252-259. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 148-157. وشرح الأصفهانية 2535-538، 540. ودرء تعارض العقل والنقل 528، 747. والردّ على المنطقيين ص 514. ومنهاج السنة النبوية 620، 9114-115. وبغية المرتاد ص 385-386. ومجموع الفتاوى 298.

الذي هو لهم [خطابٌ] 1، وإلهام، وليسوا بأنبياء معصومين [مصدّقين] 2 في كلّ ما يقع لهم؛ فإنه قد يوسوس لهم الشيطان بأشياء لا تكون من إيحاء الرب، بل من إيحاء الشيطان، وإنما يحصل الفرقان بما جاءت به الأنبياء؛ فهم الذين يُفرّقون بين وحي الرحمن ووحي الشيطان؛ فإن [الشياطين] 3 [أعداؤهم] 4، وهم يوحون بخلاف وحي الأنبياء5؛ قال تعالى: {وَكَذَلِكَ

_ 1 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 2 في ((خ)) : مصدوقين. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 في ((ط)) : الشيطان. 4 في ((خ)) : أعطاهم. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأما من ابتدع ديناً لم يشرعوه (أي الأنبياء) ، فترك ما أمروا به من عبادة الله وحده لا شريك له، واتباع نبيه فيما شرعه لأمته، وابتدع الغلوّ في الأنبياء والصالحين والشرك بهم، فإنّ هذا تتلاعب به الشياطين ... ". ثمّ ذكر رحمه الله قصصاً حدثت تدلّ على تلاعب الشيطان بأولئك العبّاد؛ فقال رحمه الله تعالى: "وهذا كما أنّ كثيراً من العبّاد يرى الكعبة تطوف به، ويرى عرشاً عظيماً وعليه صورة عظيمة، ويرى أشخاصاً تصعد وتنزل، فيظنّها الملائكة، ويظنّ أنّ تلك الصورة هي الله تعالى وتقدّس.... ويكون ذلك شيطاناً. وقد جرت هذه القصة لغير واحدٍ من النّاس، فمنهم من عصمه الله وعرف أنّه الشيطان؛ كالشيخ عبد القادر في حكايته المشهورة؛ حيث قال: كنت مرة في العبادة، فرأيت عرشاً عظيماً، وعليه نور، فقال لي: يا عبد القادر أنا ربك وقد حلّلتُ لك ما حرّمت على غيرك. قال: فقلت له: أنت الله الذي لا إله إلا هو؟ اخسأ يا عدوّ الله. قال: فتمزّق ذلك النور وصار ظلمة، وقال: يا عبد القادر نجوتَ مني بفقهك في دينك وعلمك، وبمنازلاتك في أحوالك. لقد فتنتُ بهذه القصة سبعين رجلاً. فقيل له: كيف علمت أنه الشيطان؟ قال: بقوله لي: حللت لك ما حرمت على غيرك، وقد علمت أنّ شريعة محمد صلى الله عليه وسلم لا تنسخ ولا تبدل، ولأنه قال أنا ربك، ولم يقدر أن يقول أنا الله الذي لا إله إلا أنا". مجموع الفتاوى 1171-172. وانظر إلى ص 179 من نفس المصدر. وانظر: شرح الأصفهانية 2472-476. وانظر الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان لشيخ الإسلام رحمه الله؛ فقد بيّن فيه كثيراً من هذه الأحوال الشيطانية، والخوارق الإبليسيّة.

جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوَّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورَاً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} 1، وقال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ ليُوْحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ [لَمُشْرِكُونَ] 2} 3. الذين غلطوا في النبوة الفلاسفة والباطنية والملاحدة من أبعد الطوائف عن النبوة وقد غلط في النبوة طوائف غير الذين كذّبوا بها؛ إما ظاهراً وباطناً، وإما باطناً؛ كالمنافق المحض، بل الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أُنزل إلى الرسول، وإلى من قبله، وهم خلقٌ كثيرٌ فيهم شُعبة نفاق، وإن لم يكونوا مكذّبين للرسول من كلّ وجه، بل قد يعظّمونه بقلوبهم، ويعتقدون وجوب طاعته في أمور دون أمور. وأبعد هؤلاء عن النبوة: المتفلسفة، والباطنية، والملاحدة4؛ فإن هؤلاء لم يعرفوا النبوة إلا [من] 5 جهة القدر المشترك بين بني آدم؛ وهو

_ 1 سورة الأنعام، الآية 112. 2 في ((خ)) : لمشتركون. 3 سورة الأنعام، الآية 121. 4 سبق في هذا الكتاب الكلام عن النبوة عند الفلاسفة. انظر ص 156، 609-612، 635-636 من هذا الكتاب. وانظر من كتبه الأخرى رحمه الله: مجموع الفتاوى 985. ومنهاج السنة النبوية 16، 357،، 2415-416،، 823-25. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 204. وكتاب الصفدية 1202-203. وبغية المرتاد ص 384. ودرء تعارض العقل والنقل 1179. والرد على المنطقيين ص 394، 443-444، 471، 486-487. وانظر أعلام النبوة للماوردي ص 20. 5 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.

المنام، وليس [في] 1 كلام أرسطو وأتباعه كلام في النبوة2، والفارابي جعلها من جنس المنامات فقطّ، ولهذا يُفضل هو وأمثاله الفيلسوف على النبيّ3. ابن سينا جعل للنبي ثلاث خصائص وابن سينا عظّمها أكثر من ذلك4؛ فجعل للنبي [ثلاث] 5 خصائص6:

_ 1 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 2 انظر نحواً من هذا الكلام في: منهاج السنة النبوية 1358. وشرح الأصفهانية 2633. وكتاب الصفدية 1134. 3 انظر: كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة للفارابي ص 68، 76، 84، 86، 89، 114. وانظر من كتب شيخ الإسلام رحمه الله: درء تعارض العقل والنقل 110. وشرح الأصفهانية 2362، 505. والرد على المنطقيين ص 281، 483، 486. ومجموع الفتاوى 986. وانظر ما سبق في هذا الكتاب، ص 635-636. 4 والفارابي، وابن سينا إنّما ذهبوا في ذلك إلى فلسفة أتباع أرسطو؛ كما وضّح ذلك شيخ الإسلام رحمه الله بقوله: (وأما الفلاسفة فلا يجمعهم جامع، بل هم أعظم اختلافاً من جميع طوائف المسلمين واليهود والنصارى. والفلسفة التي ذهب إليها الفارابي وابن سينا إنّما هي فلسفة المشّائين أتباع أرسطو صاحب التعاليم) . درء تعارض العقل والنقل 1157. 5 في ((خ)) : ثلاثة. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 6 انظر من كتب ابن سينا: كتاب النجاة ص 166-167. وقد تكلّم شيخ الإسلام رحمه الله مراراً عن خصائص النبوة عند ابن سينا. انظر: كتاب الصفدية 15-7، 128، 132، 142، 165، 176، 230. وشرح الأصفهانية 2502-503. ومجموع الفتاوى 11229. والرد على المنطقيين ص 486-487. ودرء تعارض العقل والنقل 5355-356. وقد سبق ذكر تلك الخصائص عند الفلاسفة في هذا الكتاب ص 425.

أحدها: أن ينال العلم بلا تعلّم، ويسميها القوة القدسية؛ وهي القوة الحدسية عنده. والثاني: أن يتخيّل في نفسه ما يعلمه؛ فيرى في نفسه صوراً نورانية، ويسمع في نفسه أصواتاً؛ كما يرى النائم في نومه صوراً تكلّمه، ويسمع كلامهم، وذلك موجود في نفسه لا في الخارج. فهكذا عند هؤلاء جميع ما يختص به النبي مما يراه ويسمعه دون الحاضرين، إنّما يراه في نفسه ويسمعه في نفسه، وكذلك الممرور1 عندهم2. والثالث: أن يكون له قوّة يتصرّف بها في هيولي العالم، بإحداث أمور غريبة؛ وهي عندهم آيات الأنبياء، وعندهم ليس في العالم حادثٌ إلا عن قوّة نفسانية، أو ملكية، أو طبعية؛ كالنفس الفلكية3،

_ 1 المرّة: إحدى الطبائع الأربع، وهي مزاج من أمزجة البدن. والمَرارة التي فيها المِرّة. والممرور الذي غلبت عليه المرة. انظر لسان العرب لابن منظور 5168. 2 انظر ذلك عند المتفلسفة؛ فقد ذكر مثل هذا الكلام: كلّ من: الفارابي في آراء أهل المدينة الفاضلة ص 116. وابن سينا في الإشارات والتنبيهات 4871-872. وذكر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله عنهم، وبسطه في كتبه؛ مثل: منهاج السنة النبوية 821. وكتاب الصفدية 16. 3 هي أفلاك تتحرّك، ولا تتمّ حركة كلّ واحدٍ منها إلا بمعاضدة غيره من الأفلاك له. انظر: المبين في شرح ألفاظ الحكماء والمتكلمين للآمدي ص 95. وشرح المواقف للجرجاني ص 554. وانظر: الرد على المنطقيين ص 474-475، 480. وكتاب الصفدية 134. وبغية المرتاد ص 326. وقال شيخ الإسلام رحمه الله عن الفلاسفة: "وقد تنازعوا في النفس الفلكية: هل هي جوهر، أو عرض؟ وأكثرهم يقولون هي عرض، ولكنّ ابن سينا وطائفة رجّحوا أنّها جوهر". كتاب الصفدية 134. وقال رحمه الله أيضاً عن معتقد هؤلاء الفلاسفة من القرامطة في اللوح المحفوظ، وأنّه النفس الكلية، فحكى عنهم قولهم: "أنّ اللوح المحفوظ؛ وهو العقل الفعّال، أو النفس الكلية، وذلك ملَك من الملائكة، وأنّ حوادث الوجود منتقشة فيه، فإذا اتصلت به النفس الناطقة فاضت عليها..". بغية المرتاد ص 326. وقال رحمه الله عن تأويلاتهم للّوح المحفوظ بالنفس الكلية، والقلم بالعقل الفعّال، وغير ذلك: "وأما العلميات: فتأولوا بعضها؛ كاللوح، قالوا: هو النفس الفلكية، والقلم قالوا هو العقل الفعال، وربما قالوا عن الكوكب والشمس والقمر التي رآها إبراهيم إنها النفس والعقل الفعال والعقل الأول، وتأوّلوا الملائكة، ونحو ذلك..". الرد على المنطقيين ص 281.

والإنسانية1، والأشكال الفلكية2، والطبائع3 التي للعناصر الأربعة، والمولّدات4، لا يُقرّون بأنّ فوق الفلك

_ 1 هو كمال أوّل لجسم طبيعي آلي من جهة ما يدرك الأمور الكليات ويفعل الأفعال الفكرية. انظر: المبين في شرح ألفاظ الحكماء والمتكلمين للآمدي ص 94-95. والتعريفات للجرجاني ص 244. 2 هي الهيئة الحاصلة للأفلاك بسبب إحاطة حدّ واحد بالمقدار. انظر المبين في شرح ألفاظ الحكماء والمتكلمين ص 65. 3 الطبائع: هي عبارة عن ما يُوجد في الأجسام من القوّة؛ كالحرارة بالنسبة إلى النّار ... إلخ. انظر: المبين في شرح ألفاظ الحكماء والمتكلمين ص 83-84. وكتاب التعريفات للجرجاني ص 140. 4 المولّدة: هي قوّة من شأنها فصل جزءٍ من الجسم الذي هي فيه، حتى يمكن أن يكون منه شخصٌ آخر من نوع ما هي قوّة له. انظر المبين في شرح ألفاظ الحكماء والمتكلمين ص 97. وانظر معنى المولّدات من كلام شيخ الإسلام في: الصفدية1150، 216، 218. والرد على المنطقيين ص 27، 219، 474-478. وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 304. وقال شيخ الإسلام رحمه الله عن معنى التولّد عند الفلاسفة، أنّهم يقولون: "فالعقول والنفوس متولدة عن الله تولداً قديماً أزلياً لازماً لذاته، والعالم متولد عن ذلك. فالعالم كله متولّد عندهم عن الله تولّداً قديماً أزلياً لازماً لذاته، وإن كانوا قد لا يُعبّرون بلفظ الولد، فهم يعبّرون بلفظ المعلول، والعلة، وهو أخصّ أنواع التولّد، ويعبّرون بلفظ الموجِب والموجَب. وما ذكره الله في كتابه من إبطال التولّد يُبطل قولهم عقلاً وسمعاً، وذلك أنه قال تعالى: {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام، 100] .. ". كتاب الصفدية 1216.

[نفسِهِ] 1 شيءٌ يفعل، ولا يحدث شيئاً، فلا يتكلم، ولا يتحرك بوجهٍ من الوجوه؛ لا ملَك ولا غير ملَك، فضلاً عن رب العالم. والعقول التي يثبتونها2 عندهم ليس فيها تحوّل من حال إلى حال البتة؛ لا بإرادة، ولا قول، ولا عمل، ولا غير ذلك. وكذلك المبدأ الأول3. النبوة عند الفلاسفة وهؤلاء عندهم جميع ما يحصل في نفوس [الأنبياء] 4، إنّما هو من فيض العقل الفعّال5.

_ 1 في ((ط)) : نفس. 2 المقصود بها العقول العشرة عند الفلاسفة. انظر: بغية المرتاد ص 241-255. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 205. 3 انظر كتاب الصفدية 185. 4 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 5 انظر: آراء أهل المدينة الفاضلة للفارابي ص 55، 61، 63. وكتاب النجاة لابن سينا ص 310-314. والرسالة العرشية له ص 30. والإشارات والتنبيهات له تحقيق سليمان دنيا ص 216-243. والشفاء في الإلهيات له تحقيق إبراهيم مذكور ص 402. وانظر من كتب شيخ الإسلام: شرح الأصفهانية 2545. وكتاب الصفدية 17، 9، 134، 201. والرد على المنطقيين ص 476.

ثمّ إنّهم لمّا سمعوا كلام الأنبياء، أرادوا الجمع بينه، وبين أقوالهم؛ فصاروا يأخذون ألفاظ الأنبياء، فيضعونها على معانيهم، ويسمّون تلك المعاني بتلك الألفاظ المنقولة عن الأنبياء، ثم يتكلّمون ويصفون الكتب بتلك الألفاظ المأخوذة عن الأنبياء؛ فيظنّ من لم يعرف مراد الأنبياء ومرادهم أنّهم عنوا بها ما عنته الأنبياء. وضل بذلك طوائف. وهذا موجود في كلام ابن سينا1، ومن أخذ عنه. الغزالي ربما حذّر عن مذهب الفلاسفة وأخذ بأقوالهم وقد ذكر الغزالي ذلك عنهم تعريفاً بمذهبهم، وربّما حذّر عنه2، ووقع في كلامه طائفة من هذا في الكتب المضنون بها على غير أهلها3، وفي غير ذلك4؛ حتى في كتابه الإحياء5؛ يقول: الملك، والملكوت،

_ 1 انظر: الرسالة العرشية لابن سينا ص 120. وآراء أهل المدينة الفاضلة للفارابي ص 112. وانظر أيضاً بغية المرتاد لابن تيمية ص 332، 342. وقد جعل ابن سينا العقل الفعّال هو جبريل عند المسلمين، وكذا الفارابي يرى أنّ جبريل عقل محض، وجوهر، وليس بمادة. راجع آراء أهل المدينة الفاضلة للفارابي ص 61. فجبريل عند ابن سينا، وعند الفارابي، وغيرهما من الفلاسفة هو عقل، يتلقى العلوم من عقل آخر؛ وهي نفس العلوم التي عند الله؛ فالعقل الفعّال يفيض العلوم دون أمر من أحد، وإنّما هذا الفيض هو لجوده وكرمه الذي هو في الأصل صفة لله انتقلت إليه عن طريق العقول. انظر: آراء أهل المدينة الفاضلة ص 59-60، 68-73. والهداية لابن سينا ص 474. 2 انظر مثلاً تكفيره للفلاسفة في كتابه: تهافت الفلاسفة ص 254. 3 انظر كتابه: المضنون به على غير أهله ص 305-309. 4 انظر من كتب الغزالي: مشكاة الأنوار ص 66-74. وتهافت الفلاسفة ص 192-194. ومعارج القدس ص 151-164؛ فإنّه يرى أنّ النبوة لها ثلاث خواصّ، مثل الفلاسفة تماماً. 5 انظر: إحياء علوم الدين 187.

والجبروت؛ ومقصوده: الجسم، والنفس، والعقل الذي [أثبتته] 1 الفلاسفة2، ويذكر اللوح المحفوظ؛ ومراده به: النفس الفلكية، إلى غير ذلك مما قد بُسط في غير هذا الموضع3. وهو في التهافت4 وغيره: يكفّرهم، وفي المضنون به5: يذكر ما هو حقيقة مذهبهم؛ حتى يذكر في النبوات عين ما قالوه6، وكذلك في الإلهيات. وهذه الصفات الثلاث التي جعلوها خاصة الأنبياء، توجد لعموم الناس، بل توجد لكثير من الكفار؛ من المشركين، وأهل الكتاب؛ فإنّه قد

_ 1 في ((خ)) : ثبتته. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عنه أنه يقول: "إنّ الكواكب، والشمس، والقمر هي النفس، والعقل الفعّال، والعقل الأول، ونحو ذلك". درء تعارض العقل والنقل 1315. 3 انظر من كتب ابن تيمية رحمه الله: الرد على المنطقيين ص 196-197، 282، 472-480. وبغية المرتاد ص 184، 196، 326. وكتاب الصفدية 1209-212، 249، 250. ودرء تعارض العقل والنقل 1315-318، 5241، 6241. ومنهاج السنة النبوية 820-21. وشرح الأصفهانية 2507، 538، 541-547. وسبق نحو هذا الكلام عن الغزالي في هذا الكتاب ص 448-453، 466. 4 وقد تقدّم أنّه كفّر الفلاسفة لمّا صرّحوا أنّ الأنبياء خاطبوا الجماهير بالخيالات والتمثيل. انظر: تهافت الفلاسفة للغزالي ص 254. 5 انظر: المضنون به على غير أهله ص 305-309. 6 وسبق أن أوضح شيخ الإسلام رحمه الله أنّ الغزالي قد استدلّ على صدق النبيّ بطريقة الفلاسفة؛ وهي طريقة الضرورة، وهي صحيحة، إلا أنّ الغزالي أثبت بها نبوة مثل نبوة الفلاسفة. انظر ص 733 من هذا الكتاب، وانظر المنقذ من الضلال للغزالي ص 73-74.

يكون لأحدهم من العلم والعبادة، ما يتميز به على غيره من الكفار، ويحصل له بذلك حدس وفراسة يكون أفضل من غيره. وأما التخييل في نفسه: فهذا حاصل لجميع الناس الذين يرون في مناماتهم ما يرون، لكن هو يقول: إن خاصة النبي أن يحصل له في اليقظة ما حصل لغيره في المنام. وهذا موجودٌ لكثيرٍ من الناس؛ قد يحصل له في اليقظة ما يحصل لغيره في المنام. ويكفيك أنّهم جعلوا مثل هذا يحصل للممرور، وللساحر، ولكن: قالوا: الساحر قصده فاسد، والممرور ناقص العقل، فجعلوا ما يحصل للأنبياء، من جنس ما يحصل للمجانين والسحرة. وهذا قول الكفّار في الأنبياء؛ كما قال تعالى: {كَذَلكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُون أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُون} 1. الفرق بين الرسول والساحر عند الفلاسفة وهؤلاء عندهم ما يحصل للنبي من المكاشفة2 والخطاب، هو من جنس ما يحصل للساحر والمجنون، لكن الفرق بينه وبين الساحر: أنّه يأمر بالخير، وذاك يأمر بالشرّ3، والمجنون ما له عقل. وهذا القدر الذي فرّقوا به موجودٌ في عامّة النّاس، فلم يكن عندهم للأنبياء مزية على السحرة والمجانين، إلاَّ ما يشاركهم فيه عموم المؤمنين.

_ 1 سورة الذاريات، الآية 52. 2 سبق بيان معنى المكاشفة في ص 246 من هذا الكتاب. 3 انظر نحواً من هذا الكلام في كتب ابن تيمية: كتاب الصفدية 1143-178. وشرح الأصفهانية 2504، 632. والرد على المنطقيين ص 322. وقد تقدم ذلك قريب من هذا المعنى في ص 156، 733 من هذا الكتاب.

القوة الفعالة عند الفلاسفة تحصل للساحر وكذلك ما أثبتوه من القوّة الفعّالة المتصرّفة: هي عندهم تحصل للساحر، وغيره؛ وذلك أنّهم لا يعرفون الجن والشياطين، وقد أخبروا بأمور عجيبة في العالم، فأحالوا ذلك على قوة نفس الإنسان، فما يأتي به الأنبياء من الآيات والسحرة والكهان، وما يخبر به المصروع والممرور: هو عندهم كله من قوة نفس الإنسان؛ فالخبر بالغيب: هو لاتصالها بالنفس الفلكية؛ ويسمونها اللوح المحفوظ1. والتصرّف: هو بالقوة النفسانية. وهذا حذق ابن سينا وتصرفه، لمّا أخبر بأمور في العالم غريبة، لم يمكنه التكذيب بها؛ فأراد إخراجها على أصولهم، وصرّح بذلك في إشاراته، وقال: هذه الأمور لم نثبتها ابتداءً، بل لمّا تحققنا أن في العالم أموراً من هذا الجنس، أردنا أن نبيّن أسبابها. أرسطو وأتباعه لم يعرفوا الأنبياء وآياتهم ولكن السحر موجود فيهم وأما [أرسطو] 2 وأتباعه: فلم يعرفوا هذه الأمور الغريبة، ولم يتكلموا عليها ولا على آيات الأنبياء، ولكن كان السحر موجوداً فيهم. وهؤلاء من أبعد الأمم عن العلوم الكلية، والإلهية؛ فإنّ حدوث هذه الغرائب من الجن، واقترانهم بالسحرة والكهان، مما قد عرفه عامة الأمم، وذكروه في كتبهم، غير العرب؛ مثل الهند، والترك، وغيرهم؛ من المشركين، وعباد الأصنام، وأصحاب الطلاسم والعزائم، وعرفوا أنّ كثيراً من هذه الخوارق هو من الجن والشياطين. وهؤلاء الجهال لم يعرفوا ذلك، ولهذا كان من

_ 1 انظر من كتب ابن تيمية: الرد على المنطقيين ص 474-480، 512-513. وكتاب الصفدية 134. وبغية المرتاد ص 326. وقد سبق ذكر نحو من هذا الكلام في ص 466 من هذا الكتاب. 2 في ((خ)) : أرسطوا.

أصلهم أن النبوة مكتسبة، وكان السهروردي المقتول يطلب أن يكون نبياً، وكذلك ابن سبعين، وغيره1. النبوة الحق والنبوة الحق: هي [إنباء] 2 الله لعبده، ونبي الله: مَنْ كان الله هو الذي ينبئه، ووحيه من الله، وهؤلاء3 وحيهم من الشياطين؛ فهم من جنس المتنبئين الكذابين؛ كمسيلمة الكذاب، وأمثاله. بل أولئك4 أحذق منهم؛ فإنّهم كانت تأتيهم أرواح، فتكلمهم وتخبرهم بأمور غائبة، وهي موجودة في الخارج لا في أنفسهم، وهؤلاء لا يعرفون مثل هذا.

_ 1 وقد نقل عنهم شيخ الإسلام رحمه الله في مواضع من كتبه قولهم بأنّ النبوة مكتسبة، وطلب كبرائهم لها، ومما حكاه من قولهم: "إنّ النبوة مكتسبة. ولهذا كان أكابر هؤلاء يطمعون في النبوة، فكان السهروردي المقتول يقول: لا أموت حتى يُقال لي: قُم فأنذر، وكان ابن سبعين يقول: لقد زَرَب ابن آمنة حيث قال: ((لانبي بعدي)) . ولما جعل خلع النعلين إشارة إلى ذلك، أخذ ذلك ابن قس ونحوه، ووضع كتابه في خلع النعلين واقتباس النور من موضع القدمين من مثل هذا الكلام. ومن هنا دخل أهل الإلحاد؛ من أهل الحلول والوحدة والاتحاد، حتى آل الأمر بهم إلى أن جعلوا وجود المخلوقات عين وجود الخالق سبحانه وتعالى، كما فعل صاحب الفصوص ابن عربي، وابن سبعين، وأمثالهما من الملاحدة المنتسبين إلى التصوف والتحقيق، وهم من جنس الملاحدة المنتسبين إلى التشيع، لكن تظاهر هؤلاء من أقوال شيوخ الصوفية وأهل المعرفة..". درء تعارض العقل والنقل 1318. وانظر من كتب ابن تيمية: المصدر نفسه 522-23، 10204. ومنهاج السنة النبوية 823-25. والرد على المنطقيين ص 483. وبغية المرتاد ص 194. وكتاب الصفدية 1165، 249، 262. وشرح الأصفهانية 2547، 634. ومجموع الفتاوى 12393. وانظر هذا الكتاب ص 463-472، 542، 557-562. 2 في ((ط)) : أنباء. 3 كابن عربي، وابن سبعين، والسهروردي، وأمثالهم من الملاحدة. 4 كمسيلمة الكذاب وأمثاله من المتنبئين.

وقائع دخول الجن في الإنس أكثر من أن تحصى ووجود الجن والشياطين في الخارج وسماع كلامهم أكثر من أن يمكن سطر عُشْرِهِ هنا، وكذلك صرعهم للإنس، وتكلمهم على ألسنتهم. والفرق بين النبيّ [و] 1 الساحر أعظم من الفرق بين الليل والنهار. والنبي يأتيه ملَك كريم من عند الله ينبئه الله، والساحر والكاهن إنّما معه شيطان يأمره ويخبره؛ قال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِين تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُون} 2؛ فلا الخبر كالخبر، ولا الأمر كالأمر، ولا مُخْبِر هذا كمخبر هذا، ولا آمر هذا كآمر هذا؛ كما أنّه ليس هذا مثل هذا؛ ولهذا قال تعالى لما ذكر الذي جاء بالقرآن إلى محمّد وأنه ملَك منفصل، ليس خيالاً في نفسه، كما يقوله هؤلاء؛ قال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي العَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِين وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ المُبِين وَمَا هُوَ عَلَى الغَيْبِ بِضَنِين وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيم وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ} 3؛ فالقرآن قول رسولٍ أرسله الله، لم يرسله الشيطان؛ وهو ملَك كريم، ذي قوة عند ذي العرش مكين، مطاع ثم أمين؛ فهو مطاع عند ذي العرش في [الملأ] 4 الأعلى. أصح الأقوال في جنة آدم صلى الله عليه وسلم والشياطين لا يطاعون في السموات، بل ولا يصعدون إليها، وإبليس من حين أهبط منها لم يصعد إليها.

_ 1 ما بين المعقوفتين لا يوجد في ((م)) ، و ((ط)) . 2 سورة الشعراء، الآيات 221-223. 3 سورة التكوير، الآيات 19-29. 4 في ((ط)) : الأم.

ولهذا كان أصحّ القولين1: أن جنة آدم جنّة التكليف، لم تكن في

_ 1 هذه المسألة خلافية بين العلماء: فمنهم من قال: هي جنة الخلد التي في السماء، وأُهبط منها آدم عليه السلام. ومنهم من قال: هي جنة في الأرض. ومنهم من توقف في هذه المسألة، فلم يرجح أحد القولين على الآخر. وقد ذكر الخلاف في هذه المسألة الحافظ ابن كثير رحمه الله، وأطال النفس في ذلك؛ ذاكراً أقوال العلماء، ومما قاله رحمه الله: "الجمهور على أنها هي التي في السماء، وهي جنة المأوى لظاهر الآيات والأحاديث. وقال آخرون: بل الجنة التي أسكنها آدم لم تكن جنة الخلد؛ لأنه كلّف فيها أن لا يأكل من تلك الشجرة، ولأنه نام فيها، وأخرج منها، ودخل عليه إبليس فيها. وهذا مما ينافي أن تكون جنة المأوى. وهذا القول محكي عن أبيّ بن كعب، وعبد الله بن عباس، ووهب بن منبه، وسفيان بن عيينة، واختاره ابن قتيبة في المعارف، والقاضي منذر بن سعيد البلوطي في تفسيره، وأفرد له مصنّفاً على حدة، وحكاه عن أبي حنيفة الإمام وأصحابه رحمهم الله، ونقله أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي ابن خطيب الريّ في تفسيره عن أبي القاسم البلخي وأبي مسلم الأصبهاني، ونقله القرطبي في تفسيره عن المعتزلة والقدرية. وهذا القول هو نصّ التوراة التي بأيدي أهل الكتاب. وممن حكى الخلاف في هذه المسألة: أبو محمد بن حزم في الملل والنحل، وأبو محمد بن عطية في تفسيره، وأبو عيسى الرماني في تفسيره وحكى عن الجمهور الأول، وأبو القاسم الراغب، والقاضي الماوردي في تفسيره؛ فقال: واختلف في الجنة التي أُسكنها يعني آدم وحواء على قولين: أحدهما: أنها جنة الخلد، والثاني: جنة أعدها الله لهما، وجعلها دار ابتلاء، وليست جنة الخلد التي جعلها دار جزاء. ومَنْ قال بهذا اختلفوا على قولين؛ أحدهما: أنها في السماء؛ لأنّه أهبطهما منها. وهذا قول الحسن. والثاني: أنها في الأرض؛ لأنه امتحنهما فيها بالنهي عن الشجرة التي نهيا عنها دون غيرها من الثمار. وهكذا قول ابن يحيى، وكان ذلك بعد أن أمر إبليس. هذا كلامه. فقد تضمّن كلامه حكاية أقوال ثلاثة، وأشهر كلامه أنه متوقف في المسألة. ولقد حكى أبو عبد الله الرازي في تفسيره في هذه المسالة أربعة أقوال؛ هذه الثلاثة التي أوردها الماوردي، ورابعها التوقف. وحكى القول بأنها في السماء، وليست جنة المأوى عن أبي علي الجبائي..... قالوا: وليس هذا القول مفرعاً على قول من ينكر وجود الجنة والنار اليوم، ولا تلازم بينهما. فكلّ من حكي عنه هذا القول من السلف وأكثر الخلف ممن يُثبت وجود الجنة والنار اليوم كما دلّت عليه الآيات والأحاديث الصحاح". البداية والنهاية 169-71. وانظر تفسير ابن كثير 181. ومن أكثر من بحث هذه المسألة وأطال فيها: الحافظ ابن القيم رحمه الله؛ فقد قام رحمه الله باستقصاء أدلة كل قوم بالتفصيل، ولم يرجح رحمه الله قولاً على قول، بل توقّف في المسألة لتعارض الأدلة، ولقوة ووجاهة كلّ قول. انظر: مفتاح دار السعادة 116-44. وحادي الأرواح إلى بلاد الأفراح ص 52-75. وانظر القرطبي في تفسيره؛ فقد رجح أنها جنة الخلد 1207-208. وممن ذكر أقوال العلماء في هذه المسألة بالتفصيل: الآلوسي في روح المعاني 1233. والقاسمي في تفسيره 2111-112. ومحمد رشيد رضا في تفسيره تفسير القرآن الحكيم 1276-277؛ وذكر في هذه المسألة ثلاثة أقوال، ورجّح أنها في الأرض. والماوردي في أعلام النبوة ص 78-79.

السماء؛ فإنّ إبليس دخل إلى جنة التكليف؛ جنة آدم بعد [إهباطه] 1 من السماء، وقول الله له: {فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنّكَ رَجِيم وَ [إِنَّ] 2 علَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّين} 3، وقوله تعالى: { [اخْرُجْ] 4 مِنْهَا [مَذْءُومَاً] 5 مَدْحُورَاً} 6، لكن كانت في مكان عال في الأرض من ناحية [المشرق7] 8، ثمّ لما أكل

_ 1 في ((ط)) : إهباط ٍ. 2 في ((ط)) : أنّ. 3 سورة ص، الآية 78. 4 في ((خ)) ، و ((م)) ، و ((ط)) : فاخرج. 5 في ((م)) ، و ((ط)) : مذموماً. 6 سورة الأعراف، الآية 18. 7 انظر: تفسير القاسمي 2111. 8 في ((ط)) : الشرق.

من الشجرة، أُهبط منها إلى الأرض؛ كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع1. لفظ الجنة في القرآن ولفظ الجنّة في غير موضع من القرآن: يُراد به بستان في الأرض؛ كقوله: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الجَنَّةِ} 2، وقوله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ

_ 1 وقد سئل شيخ الإسلام رحمه الله: هل كانت الجنة التي سكنها آدم جنة الخلد الموجودة، أم جنة من الأرض خلقها الله له؟. فأجاب رحمه الله بقوله: "الجنة التي أسكنها آدم وزوجته عند سلف الأمة وأهل السنة والجماعة: هي جنة الخلد. ومن قال إنها جنة في الأرض بأرض الهند، أو بأرض جدة، أو غير ذلك، فهو من المتفلسفة والملحدين، أو من إخوانهم المتكلمين المبتدعين؛ فإنّ هذا يقوله من يقوله من المتفلسفة والمعتزلة. والكتاب والسنة يردّ هذا القول، وسلف الأمة وأئمتها متفقون على بطلان هذا القول) . ثمّ ذكر رحمه الله الأدلة التي يعتضد بها هذا القول. انظر مجموع الفتاوى 4347-349. ولعلّ قائلاً يقول: هذا تناقض من الشيخ رحمه الله؛ حيث يرجح في موضع أنها جنة الخلد، وفي موضع آخر أنها جنة التكليف. والذي يظهر لي والله أعلم أنّ الشيخ رحمه الله كان يرى أنّ المسألة لا تقتضي إلا قولاً واحداً، وهو أنّ الجنة جنة الخلد؛ كما نقلنا عنه آنفاً، وجعله قول أهل السنة قاطبة، ولم يقل بغير ذلك إلا المعتزلة والفلاسفة والملاحدة. والملاحظ على شيخ الإسلام رحمه الله في كتاب النبوات أنّه يجعل للمسألة قولين معتبرين عند أهل السنة، إلا أنّ أصحهما أنها جنة التكليف. وهذا يدلّ على أنّ المسألة مختلف فيها عند شيخ الإسلام، وأنّ له فيها قولين. وعلى كلّ حال: فهذا تلميذه العلامة ابن القيم، وهو ممن حفظ لنا علم شيخه ابن تيمية رحمه الله يذكر أدلة كلّ فريق، ولا يرجح قولاً على قول، بل يتوقف في المسألة لقوة أدلة كلا الفريقين. وعموماً: فالمسألة ليست من المسائل التي يتوقف عليها أمر تعبّديّ، بل هي من الأمور الخبرية. 2 سورة القلم، الآية 17.

جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ} ، إلى قوله: {كِلْتَا الجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئَاً} ، إلى قوله: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} 1، وقوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَتَثْبِيتَاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} الآية، إلى قوله: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} الآية2، وقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ في مَسْكَنِهِمْ آيَة جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ} ، إلى قوله: {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيل} 3، وقوله: { [كَمْ] 4 تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} الآية5، وقوله: {أَتُتْرَكُونَ فِيمَا هَهُنَا آمِنِينَ في جَنَّاتٍ وَعُيُون} 6. وجنّة الجزاء والثواب التي في السماء لم يدخلها الشيطان بعد أن أهبط من السماء، وهو أهبط من السماء لما امتنع من السجود لآدم، قبل أن يدخل آدم إلى جنّة التكليف التي وسوس له، وأخرجه منها7.

_ 1 سورة الكهف، الآيات 32-35. 2 سورة البقرة، الآيتان 265-266. 3 سورة سبأ، الآيتان 15-16. 4 في ((م)) ، و ((ط)) : وكم. 5 سورة الدخان، الآية 25. 6 سورة الشعراء، الآيتان 146-147. 7 قال تعالى لإبليس لما امتنع من السجود لآدم: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [الأعراف، 13] ، وقال في موضع آخر: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [ص، 78] ، وقال تعالى: {قال قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف، 18] .

جنة الجزاء مخلوقة والرد على من أنكر ذلك وجنة الجزاء مخلوقة أيضاً. وقد أنكر بعض أهل البدع1 أن تكون مخلوقة، وقال: إنّ آدم لم يدخلها؛ لكونها لم تخلق بعد. فأنكر ذلك عليه من أنكره من علماء السنة. وقد ذكر أبو العالية، وغيره من السلف: أنّ الشجرة التي نُهي عنها آدم كان لها غائط، فلما أكل احتاج إلى الغائط2، وجنة الجزاء ليس فيها هذا. لكن الله أعلم بصحة هذا النقل. وإنما المقصود: أنّ بعض السلف كان يقول إنّها في السماء، وبعضهم يقول إنها في مكان عال من الأرض. ولفظ الجنة في القرآن: قد ذُكر فيما شاء الله من المواضع، وأريد به جنة في الأرض. وجنّة الجزاء مخصوصة بمماتهم؛ كقوله: {قِيلَ ادْخُلِ الجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ المُكْرَمِين} 3؛ فإنّ أرواح

_ 1 قال شارح الطحاوية: "اتفق أهل السنة على أنّ الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن، ولم يزل على ذلك أهل السنة، حتى نبغت نابغة من المعتزلة والقدرية فأنكرت ذلك، وقالت: بل يُنشئهما الله يوم القيامة. وحملهم على ذلك أصلهم الفاسد الذي وضعوا به شريعة لما يفعله الله، وأنه ينبغي أن يفعل كذا، ولا ينبغي له أن يفعل كذا، وقاسوه على خلقه في أفعاله، فهم مشبهة الأفعال". ثمّ ذكر النصوص التي تردّ عليهم. انظر شرح الطحاوية ص 615-620. ولقد أطال النفس في توضيح هذه المسألة العلامة ابن القيم رحمه الله؛ فذكر أنّ الجنة مخلوقة، وموجودة الآن، وأنّ هذا قول أهل السنة قاطبة، والرسل من أولهم إلى آخرهم، إلى أن نبغت نابغة القدرية والمعتزلة، فأنكرت أن تكون مخلوقة الآن. ثمّ أورد شبههم التي يحتجون بها، وأجاب عنها مفنّداً كلّ قول بالدليل. انظر: حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح ص 38-51، 76-81. 2 انظر: تفسير الطبري 1236. 3 سورة يس، الآيتان 26-27.

المؤمنين تدخل الجنة من حين الموت؛ كما في هذه الآية: {قِيلَ ادْخُلِ الجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ المُكْرَمِين} 1، قال تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} 2، وقال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتَاً بَلْ أَحْيَاء عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون} 3، وقال تعالى لما ذكر أحوال الموتى عند الموت: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ المُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيم وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ اليَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ اليَمِين وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ المُكَذِّبِينَ الضَّالِّين فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيم وَتَصْلِيَة جَحِيم} 4. وهذا غير ما ذكره في أول السورة من انقسامهم يوم القيامة الكبرى إلى سابقين، وأصحاب يمين، ومكذبين؛ فإنّه سبحانه ذكر في أول السورة انقسامهم في القيامة الكبرى5، وذكر في آخرها انقسامهم عند الموت؛ وهو القيامة الصغرى6؛ كما قال المغيرة بن شعبة: "من مات فقد قامت قيامته"7،

_ 1 سورة يس، الآيتان 26-27. 2 سورة يس، الآيتان 28-29. 3 سورة آل عمران، الآية 169. 4 سورة الواقعة، الآيات 88-94. 5 قال تعالى: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} . [سورة الواقعة، 7-12] . 6 قال تعالى: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ المُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيم وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ اليَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ اليَمِين وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ المُكَذِّبِينَ الضَّالِّين فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيم وَتَصْلِيَة جَحِيم} . [سورة الواقعة، الآيات 88-94] . 7 ذكره الغزالي في إحياء علوم الدين 4527 مرفوعاً، بلفظ: (وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الموت القيامة، فمن مات، فقد قامت قيامته". وقال محقق إحياء علوم الدين: أخرجه ابن أبي الدنيا في الموت بإسناد ضعيف.

وكذلك قال علقمة1، وسعيد بن جبير عن ميت: أمّا هذا فقد قامت قيامته2؛ أي صار إلى الجنة أو النار. وإن كان بعد هذا تعاد الروح إلى البدن، و [تقعد] 3 بقبره. الإيمان بنعيم القبر وعذابه ومقصودهم: أنّ الشخص لا يستبطىء الثواب والعقاب؛ فهو إذا مات يكون في الجنة أو في النار4؛ قال تعالى عن قوم نوح: {مِمَّا

_ 1 هو علقمة بن قيس بن عبد الله النخعي الكوفي. ثقة ثبت فقيه عابد. مات بعد الستين، وقيل بعد السبعين. وقد أخرج حديثه الجماعة. انظر تقريب التهذيب لابن حجر ص 397. 2 ذكره الغزالي في إحياء علوم الدين 4527، عن علقمة. 3 في ((م)) ، و ((ط)) : يقعد. 4 من عقيدة أهل السنة والجماعة: الإيمان بعذاب القبر ونعيمه، وأنّه إما حفرة من حفر النار، أو روضة من رياض الجنة. وقد جاءت النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة تدلّ على إثبات نعيم القبر للمؤمنين، وعذابه للعاصين والكافرين، أعاذنا الله من عذابه، وجعل قبورنا وقبور إخواننا المسلمين روضة من رياض الجنة، وثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. أما أدلة الكتاب: فمنها: قوله تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} . [النحل، 32] ، وقال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} . [الفجر، 27-29] ، وقال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} . [إبراهيم، 27] ، وقال تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} . [السجدة، 21] ، وقال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} . [البقرة، 154] . أما الأدلة من السنة، فكثيرة جداً؛ منها: قوله صلى الله عليه وسلم: "إنّ أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة". أخرجه البخاري في صحيحه 1464، كتاب الجنائز، باب الميت يعرض عليه مقعده. ومسلم في صحيحه 42199، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت. ومنها: حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فذكر الحديث بطوله، وفيه: "فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي، فافرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة. قال: فيأتيه من روحها وطيبها"، فذكر الحديث. أخرجه الإمام أحمد في مسنده 4287. ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما نسمة المؤمن طير يعلق في شجر الجنة، حتى يرجعها الله إلى جسده يوم القيامة". أخرجه الإمام مالك في الموطأ 1240، كتاب الجنائز، باب جامع الجنائز. ومنها: مخاطبته صلى الله عليه وسلم لأهل القليب يوم بدر، وسماعهم له، وقوله لهم: "هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً". رواه البخاري في صحيحه 1463، كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر. ومسلم في صحيحه 2643، كتاب الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه. و 42202، كتاب الجنة ونعميها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة والنار عليه. ومنها: حديث القراء؛ أصحاب بئر معونة، وفيه: "بلغوا قومنا عنا أن قد لقينا ربنا، فرضي عنا ورضينا عنه". أخرجه مسلم في صحيحه 1468، كتاب المساجد، باب استحباب القنوت في جميع الصلاة. والأدلة في ذلك كثيرة جداً، يضيق المكان دون ذكرها.

[خَطَايَاهُمْ] 1 أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارَاً} 2، وقال عن آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوَّاً وَعَشِيَاً وَيَومَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَاب} 3. وبسط هذا له موضع آخر4.

_ 1 كذا في ((خ)) ، و ((م)) ، و ((ط)) . وهي قراءة أبي عمرو. وقرأ الباقون: خطيئاتهم. انظر: الغاية في القراءات العشر للنيسابوري ص 280. وزاد المسير لابن الجوزي 8374. 2 سورة نوح، الآية 25. 3 سورة غافر، الآية 46. 4 انظر الكلام على القيامة الكبرى والصغرى في مجموع الفتاوى 4262، 270.

ملاحدة الصوفية وكلامهم في النبوة والمقصود هنا: الكلام على النبوة؛ فهؤلاء المتفلسفة ما قدروا النبوة حقّ قدرها، وقد ضلّ بهم طوائف من المتصوفة المدّعين للتحقيق وغيرهم، وابن عربي، وابن سبعين ضلوا بهم؛ فإنّهم اعتقدوا مذهبهم، وتصوّفوا عليه، ولهذا يقول ابن عربي: إنّ الأولياء أفضل من الأنبياء1، وإنّ الأنبياء وسائر الأولياء يأخذون عن خاتم الأنبياء علم التوحيد، وأنه هو يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول؛ فإنّ الملَك عنده هو الخيال الذي في [النفس] 2، وهو جبريل عندهم، وذلك الخيال تابعٌ للعقل؛ فالنبيّ عندهم يأخذ عن هذا الخيال ما يسمعه من الصوت في نفسه. ولهذا يقولون: إنّ موسى كُلّم من سماء عقله، والصوت الذي سمعه كان في نفسه لا في الخارج، ويدّعي أحدهم أنّه أفضل من موسى، وكما ادّعى ابن عربيّ أنّه أفضل من محمّد؛ فإنّه يأخذ عن العقل الذي يأخذ منه الخيال، والخيال عنده هو الملك الذي يأخذ منه النبي، فلهذا قال: فإنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملَك الذي يوحى به إلى النبيّ، قال: فإن عرفت هذا فقد حصل لك العلم النافع. وبسط الكلام على هؤلاء له مواضع أُخر3.

_ 1 انظر الفتوحات المكية لابن عربي 2252-253. ومما قاله: مقام النبوّة في برزخ فويق الرسول ودون الوليّ وانظر من كتب شيخ الإسلام: درء تعارض العقل والنقل19. وكتاب الصفدية 1251. ومنهاج السنة النبوية 5335-336،، 822. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 191، 196، 198. وشرح الأصفهانية 2505. 2 في ((ط)) : لنفس. 3 انظر: فصوص الحكم لابن عربي 161-64، 134-137. وانظر أيضاً من كتب ابن تيمية: كتاب الصفدية 1229-234، 247-252، 262-265. وبغية المرتاد ص 183، 386-387. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 198-199. ومجموع الفتاوى 11226-229،، 12399. وشرح الأصفهانية 2503-507، 634. ودرء تعارض العقل والنقل 5356،، 10204-205. ومنهاج السنة النبوية 822-23.

الفرق بين الرسول والنبي والمقصود هنا: الكلام على النبوة؛ فالنبي هو الذي ينبئه الله، وهو ينبىء بما أنبأ الله به؛ فإن أُرسل مع ذلك إلى من خالف أمر الله ليبلغه رسالة من الله إليه؛ فهو رسول، وأما إذا كان إنما يعمل بالشريعة قبله، ولم يُرسل هو إلى أحد [يبلغه] 1 عن الله رسالة؛ فهو نبي، وليس برسول؛ قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ في أُمْنِيَّته} 2، وقوله: {مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيّ} ؛ فذكر إرسالاً يعمّ النوعين، وقد خص أحدهما بأنّه رسول؛ فإنّ هذا هو الرسول المطلق الذي أمره بتبليغ رسالته إلى من خالف الله؛ كنوح. وقد ثبت في الصحيح أنّه3 أول رسول بُعث إلى أهل الأرض4،

_ 1 في ((خ)) : بلغه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 سورة الحج، الآية 52. 3 يعني نوحاً عليه السلام. 4 كما في حديث الشفاعة، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "فيأتون نوحاً فيقولون: يا نوح أنت أول الرسل إلى الأرض.." الحديث أخرجه البخاري 4392-393، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} . ومسلم في صحيحه 1184-185، كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها. وانظر كلام شيخ الإسلام في: الرد على المنطقيين ص 370. ودقائق التفسير 1431. وقال في تفسير آيات أشكلت 1232: " إن نوحاً أول رسول بعث إلى المشركين ".. وقال الشيخ حافظ حكمي رحمه الله: "إنّ نوحاً أول الرسل والنبيين بعد الاختلاف؛ قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء، 163] ؛ لأنّ أمته أول من اختلف، وغيّر، وبدّل، وكذّب؛ كما قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ} [غافر، 5] ، وإلا فآدم قبله كان نبياً رسولاً، وكان الناس أمة واحدة على دينه ودين وصيه شيث عليه السلام؛ كما قال ابن عباس رضي الله عنهما، وابن مسعود، وأبيّ بن كعب، وقتادة، ومجاهد، وغيرهم رضي الله عنهم في قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة، 213] ؛ قالوا: كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا، فبعث الله النبيّين مبشرين ومنذرين) . معارج القبول 2678. وانظر: أضواء البيان 1286.

وقد كان قبله أنبياء؛ كشيث1، وإدريس2 عليهما السلام، وقبلهما آدم كان نبيّاً مكلّماً3. قال ابن عباس: كان بين آدم ونوح، عشرة قرون كلهم على الإسلام4.

_ 1 قال ابن كثير رحمه الله: "ومعنى شيث: هبة الله، وسمياه بذلك لأنّهما رزقاه بعد أن قتل هابيل. قال أبو ذر في حديثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ الله أنزل مائة صحيفة وأربع صحف؛ على شيث خمسين صحيفة. قال محمد بن إسحاق: ولما حضرت آدم الوفاة عهد إلى ابنه شيث، وعلّمه ساعات الليل والنهار، وعلّمه عبادات تلك الساعات، وأعلمه بوقوع الطوفان بعد ذلك. قال: ويقال: إنّ أنساب بني آدم اليوم كلها تنتهي إلى شيث، وسائر أولاد آدم غيره انقرضوا وبادوا، والله أعلم) . البداية والنهاية 191. وانظر: أعلام النبوة للماوردي ص 81. وتاريخ الطبري 1164. 2 قال الله تعالى عنه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} [سورة مريم، الآية 56-57] . قال ابن كثير رحمه الله عن نبيّ الله إدريس: "كان أول بني آدم أُعطي النبوة بعد آدم وشيث عليهما السلام". البداية والنهاية 192-93. وقال ابن قتيبة: "وسمي إدريس؛ لكثرة ما كان يدرس من كتب الله تعالى وسنن الإسلام". أعلام النبوة للماوردي ص 81-82. 3 أخرجه الإمام أحمد في المسند 5266 من حديث أبي ذر قال: قلت: يا نبيّ الله! أو نبيّ كان آدم؟ قال: " نعم نبيّ مُكلّم". وكذا أخرجه ابن حبان في صحيحه 854، وقال: على شرط مسلم ولم يخرجه. وصححه الألباني. انظر مشكاة المصابيح 31599. 4 أخرجه البزار (كشف الأستار 341) ، والطبري في تفسيره 2334، والحاكم في المستدرك 2442، وقال: هذ حديث صحيح على شرط البخاري، ولم يُخرّجاه، ووافقه الذهبي. وأخرجه ابن المنذر، وابن أبي حاتم (الدر المنثور 1582) . وانظر: تفسير القرطبي 1838. وفتح القدير للشوكاني 1214.

أنبياء بني إسرائيل يحكمون بالتوراة فأولئك الأنبياء يأتيهم وحي من الله بما يفعلونه ويأمرون به المؤمنين الذين عندهم؛ لكونهم مؤمنين بهم؛ كما يكون أهل الشريعة الواحدة يقبلون ما يبلّغه العلماء عن الرسول. وكذلك أنبياء [بني] 1 إسرائيل2 يأمرون بشريعة التوراة، وقد يُوحى إلى أحدهم وحي خاص في قصّة معينة، ولكن كانوا في شرع التوراة كالعالِم الذي يُفهِّمه الله في قضية معنى يطابق القرآن؛ كما فهَّم الله سليمان [حكم] 3 القضية التي حكم فيها هو وداود4.

_ 1 في ((ط)) : ببني. 2 وقد ذكر العلماء أسماء أنبياء بني إسرائيل بين موسى وعيسى عليهما السلام. انظر: أعلام النبوة للماوردي ص 88-91. والبداية والنهاية 23-50. 3 في ((ط)) : حكيم. 4 يُشير إلى قوله تعالى حكاية عن داود وسليمان عليهما السلام: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} . [سورة الأنبياء، الآيتان 78-79] . وروى ابن جرير الطبري رحمه الله بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّه قال في تفسير هذه الآية: "وذلك أنّ رجلين دخلا على داود؛ أحدهما صاحب حرث، والآخر صاحب غنم، فقال صاحب الحرث: إنّ هذا أرسل غنمه في حرثي، فلم يبق من حرثي شيئاً، فقال له داود: اذهب، فإنّ الغنم كلها لك. فقضى بذلك داود. ومرّ صاحب الغنم بسليمان، فأخبره بالذي قضى به داود. فدخل سليمان على داود، فقال: يا نبي الله إنّ القضاء سوى الذي قضيت. فقال: كيف؟ فقال سليمان: إنّ الحرث لا يخفى على صاحبه، ما يخرج منه في كلّ عام، فله من صاحب الغنم أن يبيع من أولادها وأصوافها وأشعارها حتى يستوفي ثمن الحرث؛ فإنّ الغنم لها نسل في كلّ عام. فقال داود: قد أصبت القضاء كما قضيت. ففهّمها الله سليمان". تفسير الطبري 1751-52.

الفرق بين الرسول والنبي فالأنبياء ينبئهم الله؛ فيُخبرهم بأمره، ونهيه، وخبره. وهم يُنبئون المؤمنين بهم ما أنبأهم الله به من الخبر، والأمر، والنهي. فإن أُرسلوا إلى كفار يدعونهم إلى توحيد الله، وعبادته وحده لا شريك له، ولا بُدّ أن يكذّب الرسلَ قومٌ؛ قال تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُون} 1، وقال: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} 2؛ فإنّ الرسل تُرسَل إلى مخالفين؛ فيكذّبهم بعضهم. وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً يُوحَى3 إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ القُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا في الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوا أَفَلا [تَعْقِلُونَ] 4 حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُنْجِي5 مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بأْسُنَا عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِين} 6.

_ 1 سورة الذاريات، الآية 52. 2 سورة فصلت، الآية 43. 3 كذا في ((خ)) ، و ((م)) ، و ((ط)) : يُوحَى، وهي قراءة الأصل. وقرأ حفص عن عاصم: نُوحِي بالنون وكسر الحاء. انظر: الغاية في القراءات العشر للنيسابوري ص 181. وزاد المسير لابن الجوزي 4295. والوافي في شرح الشاطبية في القراءات السبع لعبد الفتاح القاضي ص 297. 4 في ((خ)) : يعقلون. 5 كذا في ((خ)) ، و ((م)) ، و ((ط)) : فنُنْجِي بنونين؛ الأولى مضمومة، والثانية ساكنة، والياء ساكنة، وهي قراءة ابن كثير، ونافع، وأبي عمرو، وحمزة، والكسائي. وقرأ حفص، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، ويعقوب: فنُجِّيَ بنون واحدة مضمومة، وتشديد الجيم، وياء مفتوحة. انظر: الغاية في القراءات العشر للنيسابوري ص 181. وزاد المسير لابن الجوزي 4296. والوافي في شرح الشاطبية في القراءات العشر لعبد الفتاح القاضي ص 297. 6 سورة يوسف، الآيتان 109-110.

وقال: {إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا والَّذِينَ آمَنُوا في الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} 1. فقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} 2: دليلٌ على أن النبيّ مرسل، ولا يسمى رسولاً عند الإطلاق؛ لأنّه لم يرسل إلى قوم بما لا يعرفونه، بل كان يأمر المؤمنين بما يعرفونه أنّه حقّ؛ كالعالِم، ولهذا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "العلماء ورثة الأنبياء" 3. ليس من شروط الرسول أن يأتي بشرع جديد وليس من شرط الرسول أن يأتي بشريعة جديدة؛ فإنّ يوسف كان على ملة إبراهيم، وداود وسليمان كانا رسولين، وكانا على شريعة التوراة4؛

_ 1 سورة غافر، الآية 51. 2 سورة الحج، الآية 52. 3 أخرجه أبو داود في سننه 457، 58، كتاب العلم، باب الحث على طلب العلم، رقم 3641. والترمذي في جامعه 548-49، كتاب العلم، باب فضل الفقه على العبادة. وابن ماجه في سننه 181، في المقدمة، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، رقم 223. وقد صحّحه الألباني في (صحيح سنن الترمذي 2342) ، و (صحيح سنن ابن ماجه 143) ، وحسّن سنده في (صحيح الترغيب والترهيب 133، ح 68) ، وفي (مشكاة المصابيح 174، رقم 212) . 4 تعددت الأقوال في الفرق بين النبيّ والرسول، وكلّها لا تخلو من مناقشة، ولا تسلم من اعتراضات ترد عليها. وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فروقاً كثيرة بين النبيّ والرسول، وهذه الفروق مبنيّة على الكتاب والسنة؛ فخرج تفريقه بين النبيّ والرسول من أرجح التفريقات، ومن أسلمها من الانتقادات. ويمكن تلخيص هذه الفروق فيما يلي: (1) النبيّ: هو من يُنبئ بما أنبأ الله به، ولا يُسمّى رسولاً عند الإطلاق؛ لأنه لم يُرسل إلى قوم بما لا يعرفونه، بل كان يأمر المؤمنين بما يعرفونه أنه حقّ؛ كالعالم. ولهذا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم عن العلماء: "العلماء ورثة الأنبياء"؛ إذ النبيّ يعمل بشريعة من قبله. فالأنبياء يأتيهم وحي من الله بما يفعلونه ويأمرون به المؤمنين الذين عندهم، لكونهم مؤمنين بهم؛ كما يكون أهل الشريعة الواحدة يقبلون ما يبلغه العلماء عن الرسول. وكذلك أنبياء بني إسرائيل يأمرون بشريعة التوراة، وقد يوحى إلى أحدهم وحي خاص في قضية معينة، ولكن كانوا في شرع التوراة كالعالم الذي يفهمه الله في قضية ما معنى يُطابق القرآن. فالأنبياء يُنبئهم الله؛ فيخبرهم بأمره، ونهيه، وخبره، وهم ينبئون المؤمنين بهم ما أنبأهم الله من الخبر، والأمر، والنهي. (2) الرسول: هو من أنبأه الله وأرسله إلى من خالف أمره، ليبلغه رسالة ً من الله إليه؛ فهو رسول. فالرسل: من أُرسلوا إلى كفار يدعونهم إلى توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له. ولا بُدّ أن يُكذّب الرسلَ قومٌ؛ قال تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} ، وقال تعالى: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} ؛ فإنّ الرسل ترسل إلى مخالفين، فيكذبهم بعضهم. والرسول يُسمّى رسولاً على الإطلاق؛ لأنّه يُرسل إلى قوم بما لا يعرفونه. وليس من شرط الرسول أن يأتي بشريعة جديدة؛ فإنّ يوسف عليه السلام كان رسولاً، وكان على ملة إبراهيم عليه السلام، وداود وسليمان عليهما السلام كانا رسولين، وكانا على شريعة التوراة. وانظر أقوال العلماء مفصّلة في هذه المسألة، في: تفسير الطبري 17189. وأعلام النبوة للماوردي ص 37-38. والفرق بين الفرق للبغدادي ص 342. والشفا للقاضي عياض 1251. وشرح المقاصد للتفتازاني 2173. وتفسير القرطبي 1254. وزاد المعاد لابن القيم 143. وطريق الهجرتين له ص 349. وشرح الطحاوية ص 167. وأنوار التنزيل وأسرار التأويل 457. ولوامع الأنوار البهية 149. وأضواء البيان للشنقيطي 5735. ورحلة الحج له ص 136-137.

قال تعالى عن مؤمن آل فرعون: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ في شَكّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً} 1، وقال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا

_ 1 سورة غافر، الآية 34.

إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورَاً وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمَاً} 1. الإرسال اسم عام والإرسال: اسمٌ عامٌ يتناول إرسال الملائكة، وإرسال الرياح، وإرسال الشياطين، وإرسال النار؛ قال تعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ} 2، وقال تعالى: {جَاعِلِ المَلائِكَةِ رُسُلاً أُوْلِي أَجْنِحَةٍ} 3؛ فهنا جعل الملائكة كلهم رسلاً. والملك في اللغة: هو حامل الألوكة؛ وهي الرسالة4. وقد قال في موضع آخر: {اللهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاس} 5. فهؤلاء الذين يرسلهم بالوحي؛ كما قال: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْيَاً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء} 6، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ [بُشْرَاً] 7 بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} 8، وقال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} 9.

_ 1 سورة النساء، الآيتان 163-164. 2 سورة الرحمن، الآية 35. 3 سورة فاطر، الآية 1. 4 انظر: لسان العرب 10496. ومفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني ص 776. 5 سورة الحج، الآية 75. 6 سورة الشورى، الآية 51. 7 في ((خ)) : نشراً. 8 سورة الأعراف، الآية 57. 9 سورة مريم، الآية 83.

لكن الرسول المضاف إلى الله: إذا قيل: رسول الله، فُهِم مَنْ يأتي برسالة من الله؛ من الملائكة، والبشر؛ كما قال: {اللهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاس} 1، وقالت الملآئكة: {يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} 2. وأما عموم الملائكة، والرياح، والجنّ: فإنّ إرسالها [لتفعل] 3 [فعلاً] 4، لا [لتبلغ] 5 رسالةً، قال تعالى: {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمُ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحَاً وَجُنُودَاً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرَاً} 6. فرسل الله الذين يبلّغون عن الله أمره ونهيه: هي رسل الله عند الإطلاق. وأما من أرسله الله ليفعل فعلاً بمشيئة الله وقدرته: فهذا عامٌ يتناول كلّ الخلق؛ كما أنهم كلّهم [يفعلون] 7 بمشيئته، وإذنه المتضمّن لمشيئته، لكنّ أهل الإيمان يفعلون بأمره، ما يحبه ويرضاه، ويعبدونه وحده، ويطيعون رسله، والشياطين يفعلون بأهوائهم، وهم عاصون لأمره، متبعون لما يسخطه، وإن كانوا يفعلون بمشيئته وقدرته. وهذا كلفظ [البعث] 8: يتناول البعث الخاص؛ البعث الشرعي؛

_ 1 سورة الحج، الآية 75. 2 سورة هود، الآية 81. 3 في ((خ)) : ليفعل. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 في ((خ)) : فلا. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 في ((خ)) : ليبلغ. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 6 سورة الأحزاب، الآية 9. 7 في ((ط)) : يعفلون. 8 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .

فصل الحجة على من أنكر قدرة الله وحكمته

فصل الحجة على من أنكر قدرة الله وحكمته ... كما قال: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ في الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ} 1، ويتناول البعث العام الكوني؛ كقوله: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُوْلاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادَاً لَنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالِ الدِّيَارِ} 2، وقال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ العَذَابِ} 3. فالعامّ بحكم مشيئته وقدرته، والخاصّ هو أيضاً [بحكم مشيئته وقدرته] 4، وهو مع ذلك بحكم أمره، ورضاه، ومحبته. وصاحب الخاصّ من أولياء الله يكرمه ويثبّته، وأمّا من خالف أمره، فإنّه يستحقّ العقوبة، ولو كان فاعلاً بحكم المشيئة؛ فإنّ ذلك لا يُغني عنه من الله شيئاً. ولا يَحتَجّ بالمشيئة على المعاصي، إلاَّ من تكون حجته داحضة، ويكون متناقضاً، متّبعاً لهواه، ليس عنده علمٌ بما هو عليه؛ كالمشركين الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} 5؛ كما قد بُسِط [هذا] 6 في غير هذا الموضع7. والله أعلم.

_ 1 سورة الجمعة، الآية 2. 2 سورة الإسراء، الآية 5. 3 سورة الأعراف، الآية 167. 4 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 5 سورة الأنعام، الآية 148. 6 ما بين المعقوفتين ساقط من ((م)) ، و ((ط)) . 7 انظر: منهاج السنة النبوية 314-18، 78-85. ومجموع الفتاوى 8181-197، 262-272. والمجلد الثاني عشر من مجموع الفتاوى كلّه في بيان مسائل القدر.

فصل الدليل هو الآية والبرهان

فصل الدليل هو الآية والبرهان الدليل الذي هو الآية والبرهان يجب طرده كما تقدم1؛ فإنه لو كان تارةً يتحقق مع وجود المدلول عليه، وتارةً يتحقق مع عدمه. فإذا تحقّق لم يعلم: هل وجد المدلول، أم لا؟ فإنّه كما يوجد مع وجوده، [يوجد مع عدمه] 2. ولهذا كان الدليل3 إمّا مساوياً للمدلول عليه، وإمّا أخصّ منه، لا يكون أعمّ من المدلول. ولهذا لم يكن للأمور المعتادة دلالة على ما هو أخصّ؛ كطلوع الشمس، والقمر، والكواكب، لا [تدلّ] 4 على صدق أحد، ولا كذبه؛ لا مدّعي النبوة، ولا غيره؛ فإنّها توجد مع كذب الكاذب، كما توجد مع صدق الصادق. المخلوقات آيات للرب لكن [تدلّ] 5 على ما هو أعم منها؛ وهو وجود الرب، وقدرته، ومشيئته، وحكمته؛ فإن وجود ذاته وصفاته ثابت؛ سواءٌ كانت هذه المخلوقات موجودة، أو لم تكن؛ فيلزم من وجود المخلوق وجود خالقه، ولا يلزم من

_ 1 انظر ص 301 من هذا الكتاب. 2 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 3 الدليل في اللغة: هو المرشد، وما به الإرشاد. وفي الاصطلاح: هو الذي يلزم من العلم به العلم بشيء آخر. انظر: التعريفات ص 140. 4 في ((م)) ، و ((ط)) : يدلّ. 5 في ((م)) ، و ((ط)) : يدلّ.

عدمه عدم خالقه؛ فلهذا كانت المخلوقات كلّها آيات للربّ؛ فما من مخلوق إلا وهو آية له1؛ هو دليل، وبرهان، وعلامة على ذاته وصفاته ووحدانيته. وإذا عُدم كان غيره من المخلوقات [تدلّ] 2 على ما دل عليه، ويجتمع على المعلوم الواحد من الأدلّة ما لا يحصيه إلا الله. كل مخلوق هو علامة على ذاته سبحانه وصفاته ووحدانيته وقد يكون الشيء مستلزماً لدليلٍ معيّن. فإذا عُدم عرف انتفاؤه. وهذا مِمّا يكون لازماً ملزوماً؛ فتكون [الملازمة] 3 من الطرفين؛ فيكون كلّ منهما دليلاً.

_ 1 انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 148، 29-12، 17-24، 74-78، 9142. 2 في ((م)) ، و ((ط)) : يدلّ. 3 في ((ط)) : الزلامة. والملازمة لغة: امتناع انفكاك الشيء عن الشيء. واللزوم، والتلازم بمعناه. والملازمة اصطلاحاً: كون الحكم مقتضياً للآخر، على معنى أنّ الحكم بحيث لو وقع يقتضي وقوع حكم آخر اقتضاءً ضرورياً؛ كالدخان للنار في النهار، والنار للدخان في الليل. انظر: التعريفات للجرجاني ص 294. وقال شيخ الإسلام رحمه الله: " ... معلومٌ أنه إذا كان اللزوم من أحد الطرفين، لزم من وجود الملزوم وجود اللازم، ومن نفي اللازم نفي الملزوم. فكيف إذا كان التلازم من الجانبين؟ فإنّ هذا التلازم يستلزم أربع نتائج؛ فيلزم من ثبوت هذا اللازم ثبوت هذا، ومن نفيه نفيه، ومن ثبوت الملازم الآخر ثبوت ذلك، ومن نفيه نفيه. وهذا هو الذي يُسمّيه المنطقيون: الشرطي المتصل، ويقولون: استثناء عين المقدم ينتج عين التالي، واستثناء نقيض التالي ينتج نقيض المقدّم. فإذا كان التلازم من الجانبين، كان استثناء عين كل من المتلازمين ينتج عين الآخر، واستثناء نقيض كل منهما ينتج نقيض الآخر ... ". درء تعارض العقل والنقل 5268-269.

وإذا قُدّر [انتفاؤه كان دليلاً على] 1 انتفاء الآخر؛ كالأدلّة على الأحكام الشرعيّة؛ فما من حكمٍ إلاَّ جعل الله عليه دليلاً. وإذا قُدِّر انتفاء جميع الأدلة الشرعيّة على حكمٍ، عُلِم أنّه ليس حكماً شرعيّاً2، وكذلك ما تتوفّر الهمم والدواعي على نقله؛ فإنّه إذا نُقل دلّ التواتر على وجوده، وإذا لم يُنقل مع توفّر الهمم والدواعي على نقله لو كان موجوداً، عُلِم أنّه لم يوجد؛ كالأمور الظاهرة التي يشترك فيها الناس؛ مثل موت ملك، وتبدّل ملك، وتبدّل ملك بملك، وبناء مدينة ظاهرة، وحدوث حادث عظيم في المسجد أو البلد؛ فمثل هذه الأمور لا بدّ أن ينقلها الناس إذا وقعت. فإذا لم تنقل نقلاً عامّاً، بل نقلها واحد، عُلِمَ أنّه قد كذب. وهذا مبسوط في غير هذا الموضع3. وقد بسط في غير هذا الموضع: الفرق بين الآية التي هي علامة تدل على نفس المعلوم، وبين القياس الشمولي الذي لا يدلّ [إلاَّ] 4 على قدرٍ كليّ مشترك، لا يدلّ على شيء معين؛ إذ كان لا بدّ فيه من قضية كليّة، وأنّ ذلك القياس لا يفيد العلم بأعيان الأمور الموجودة، ولا يفيد معرفة شيء؛ لا الخالق، ولا نبي من أنبيائه، ولا نحو ذلك. بل إذا قيل: كلّ محدَث فلا بدّ له من [محدِث] 5، دلّ على محدِثٍ مطلق، لا يدلّ على عينه، بخلاف آيات الله؛ فإنّها تدل على عينه.

_ 1 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 2 انظر: درء تعارض العقل والنقل 5268-271. 3 انظر: درء تعارض العقل والنقل 612-13، 271. 4 في ((ط)) : إلى. 5 رسمت في ((خ)) : محدل. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

وبيَّنَّا أنّ القرآن ذكر الاستدلال بآيات الله. وقد يستدل بالقياس الشمولي، والتمثيلي، لكن دلالة الآيات أكمل وأتمّ1. وتبيَّن غلط من عظَّم دلالة القياس الشمولي المنطقي، وأنّهم من أبعد الناس عن العلم والبيان. وذكرنا أيضاً2 غلط من فضَّل الشمولي [على] 3 التمثيلي، وأنّها من جنس واحد، والتمثيليّ أنفع، وإنَّما الآيات تكون أحسن. ثلاثة أقوال في معنى الآية وقد ذكر أبو الفرج ابن الجوزي ما ذكره [أبو بكر] 4 ابن الأنباري5، وغيره في الآيات آيات القرآن؛ مثل قوله: {قَدْ [كَانَتْ] 6 آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكُصُونَ مُسْتَكْبِرِينَ} 7: ثلاثة أقوال؛ قال: "في معنى الآية ثلاثة [أقوال] 8:

_ 1 قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في موضع آخر: "والفرق بين الآية وبين القياس: أنّ الآية تدلّ على عين المطلوب الذي هي آية وعلامة عليه؛ فكلّ مخلوق فهو دليل وآية على الخالق نفسه". مجموع الفتاوى 148. وانظر المصدر نفسه 147-50، 9142-159. ودرء تعارض العقل والنقل 5268-286. وشرح الأصفهانية 1261. 2 انظر: مجموع الفتاوى 9196-206. 3 في ((ط)) : عن. 4 ما بين المعقوفتين مكرّر في ((خ)) . 5 سبقت ترجمته. 6 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) . 7 سورة المؤمنون، الآيتان 66-67. 8 في ((خ)) : أقول.

القول الأول أحدها: أنّها العلامة؛ فمعنى آية: علامة؛ لانقطاع الكلام الذي قبلها وبعدها1. قال الشاعر2: ألا أبلغ لديك بني تميم ... بآية ما يُحبّون الطعاما3

_ 1 في زاد المسير لابن الجوزي: والذي بعدها. 2 وهو يزيد بن عمرو بن الصعق، أحد بني عمرو بن كلاب. لاحظ مصادر الحاشية التالية. 3 وله بقيّة، هي: أجارتها أُسَيِّدُ ثم غارت ... بذات الضَّرع منه والسَّنَامِ انظر: خزانة الأدب 6520، 523. وانظر أيضاً: الكتاب لسيبويه 1460. والكامل للمبرد ص 98) . وفي خزانة الأدب 6518: ألا من مبلغ عني تميماً ... بآية ما يحبون الطعاما "على أن آية تُضاف في الأغلب إلى الفعلية، مصدّرة بحرف المصدر، كما في البيت؛ فإن (ما) مصدرية تؤوّل مع الفعل بعدها بمصدر مجرور بإضافة آية إليه. وهذا خلاف مذهب سيبويه، فإنّ (ما) زائدة، وآية مضافة إلى الفعل، ولا تؤول بمصدر.. وقال النحاس: ما عند سيبويه لغو، وقال المبرد: (ما) والفعل مصدر. وأنكر ما قال سيبويه". وقال أيضاً في خزانة الأدب 6519-520: "قال ابن السيد فيما كتبه على الكامل: هذا من الغلط، إنما الرواية: بآية ما بهم حُبُّ الطعامِ. وبعده: أجارَتْها أُسَيِّدُ ثم أودت ... بذات الضرع منها والسنامِ وليس أبو العباس المبرد بأول من غلط فيه من النحويين. انتهى. وعليه: لا شاهد فيه، وهذا يُؤيّد قول سيبويه؛ فإنّ (ما) موصولة، وحب الطعام: مبتدأ، والظرف قبله خبر، والجملة صلة الموصول".

وقال النابغة1: توهّمت آيات لها فعرفتها ... لستة أعوام وذا العام سابع2 قال: وهذا اختيار أبي عبيد3"4. قلت5: أما أن الآية هي العلامة في اللغة. فهذا صحيح، وما استشهد به من الشعر يشهد لذلك. وأما تسمية الآية من القرآن آية؛ لأنّها علامة: صحيح، لكن قول القائل: إنها علامة؛ لانقطاع الكلام الذي قبلها وبعدها: ليس بطائل؛ فإنّ هذا المعنى الحدّ والفصل؛ فالآية مفصولة عمّا قبلها، وعمّا بعدها.

_ 1 هو زياد بن معاوية بن ضباب الذبياني الغطفاني المضري، أبو أمامة. شاعر جاهليّ من الطبقة الأولى، من أهل الحجاز. كانت تُضرب له قبة من جلد أحمر بسوق عكاظ، فتقصده الشعراء، فتعرض عليه أشعارها. وكان الأعشى وحسّان بن ثابت، والخنساء ممّن يعرض شعره على النابغة. وهو أحد الأشراف في الجاهلية. انظر: الأعلام للزركلي 354-55. 2 انظر: ديوان النابغة الذبياني ص 82. 3 لعلّه: القاسم بن سلام الهروي الخراساني، أبو عبيد. من كبار العلماء بالحديث والأدب والفقه، من أهل هراة. ولد وتعلّم بها، وكان مؤدباً، ورحل إلى بغداد، فولي القضاء بطرسوس، ورحل إلى مصر، وكان منقطعاً للأمير عبد الله بن طاهر، كلّما ألّف كتاباً أهداه إليه، وأجرى له عشرة آلاف درهم كلّ شهر. من كتبه: الغريب، المصنّف، وفي غريب الحديث ألّفه في نحو أربعين سنة، وهو أول من صنّف في هذا الفنّ، والإيمان ومعالمه، وغيرها من المؤلفات. ولد في سنة 157 ?، وتوفي سنة 224 ?. انظر: سير أعلام النبلاء 10490. وطبقات الحنابلة 1259. والأعلام 5176. 4 زاد المسير 171. 5 القائل هو شيخ الإسلام رحمه الله تعالى.

وليس معنى كونها آية هو هذا، وكيف؟ وآخر الآيات آية؛ مثل آخر سورة الناس، وكذلك آخر آية من السورة، وليس بعدها شيء، وأول الآيات آية، وليس قبلها شيء؛ مثل أول آية من القرآن، ومن السورة، وإذا قُرئت الآية وحدها، كانت [آية] 1، وليس معها غيرها. وقد قام النبيّ صلى الله عليه وسلم بآية يُردّدها حتى أصبح2: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرَ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 3؛ فهي آية في نفسها، لا لكونها منقطعة مما قبلها وما بعدها. وأيضاً: فكونه علامة على هذا الانقطاع: قدر مشترك بين جميع الأشياء التي يتميّز بعضها عن بعض، ولا تسمى آيات. والسورة متميزة عمّا قبلها وما بعدها، وهي آيات كثيرة. وأيضاً فالكلام الذي قبلها منقطع، وما قبلها آية. فليست دلالة الثانية على الانقطاع بأولى من دلالة الأولى عليه.

_ 1 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 2 روى الإمام أحمد في مسنده بسنده عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فقرأ بآية، حتى أصبح، يركع بها، ويسجد بها: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، فلما أصبح، قلت: يا رسول الله! لم تزل تقرأ هذه الآية حتى أصبحتَ، تركع بها؟ قال: "إني سألت ربي عز وجلّ الشفاعة، فأعطانيها، وهي نائلة إن شاء الله لمن لا يشرك بالله شيئاً". (مسند الإمام أحمد بن حنبل - ط الحلبي - 5149. وانظر المصدر نفسه 5170. والحديث أخرجه النسائيّ في سننه 21440، كتاب الزهد، باب ذكر الشفاعة - من حديث أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه، بلفظ: "لكلّ نبيّ دعوة مستجابة، فتعجَّل كلّ نبيّ دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي، فهي نائلة من مات لا يُشرك بالله شيئاً". قد صحّحه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه 2430. 3 سورة المائدة، الآية 118.

وأيضاً: فكيف يكون كونها آية علامةً للتمييز بينها وبين غيرها، والله سمَّاها آياته؛ فقال: {تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالحَقِّ} 1. والصواب: أنَّها آية من آيات الله؛ أي علامة من علاماته، ودلالة من أدلة الله، وبيان من بيانه؛ فإنّ كلّ آية قد بيَّن فيها من أمره وخبره، ما هي دليل عليه، وعلامة عليه؛ فهي آية من آياته؛ وهي أيضاً دالّة على كلام الله المباين لكلام المخلوقين؛ فهي دلالة على الله سبحانه، وعلى ما أرسل بها رسوله. ولمَّا كانت كل آية مفصولة بمقاطع الآي التي يختم بها كلّ آية، صارت كلّ جملة مفصولة بمقاطع الآي: آيةً. صفة قراءة النبي صلى الله عليه وسلم.. ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقف على رؤوس الآي؛ كما نعتت قراءته: الحمد لله رب العالمين، وتقف. الرحمن الرحيم، وتقف. مالك يوم الدين، وتقف2. ويسمّي أصحاب الوقف: وقف السنة؛ لأنّ كل آية لها فصل ومقطع تتميز عن الأخرى3. القول الثاني قال4: "والوجه الثاني5: أنّها سمّيت آية؛ لأنها جماعة حروف من

_ 1 سورة البقرة، الآية 252. 2 رواه الترمذي في جامعه الصحيح 5185، كتاب القراءات، باب فاتحة الكتاب، وقال: هذا حديث غريب. والحديث صححه الألباني في (صحيح سنن الترمذي 313) ، وفي (إرواء الغليل، رقم 343) ، وفي (مشكاة المصابيح، رقم 2205) ، وفي بعض كتبه الأخرى. 3 انظر المكتفى في الوقف والابتداء لأبي عمرو الداني ص 146-147، 157؛ فقد ذكر أنّ هذا الوقف هو وقف السنة. 4 القائل هو أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله. 5 في زاد المسير لابن الجوزي بدون كلمة: (الوجه) ، وإنّما الموجود: والثاني.

القرآن، وطائفة منه. قال [أبو عمرو] 1 الشيباني2: يقال: خرج القوم بآيتهم؛ أي بجماعتهم، وأنشدوا3: خرجنا من النقبين لا حي مثلنا بآياتنا ترجى اللقاح المطافلا) 4. قلت5: هذا فيه نظرٌ؛ فإن قولهم: خرج القوم بآيتهم: قد يراد به بالعلامة التي تجمعهم؛ مثل الراية، واللواء؛ فإنّ العادة أنّ كل قوم لهم أمير، [يكون] 6 له آية يُعرفون [بها] 7، فإذا [أخرج] 8 الأمير آيتهم،

_ 1 في ((خ)) ، و ((م)) ، و ((ط)) : أبو عمر. والتصويب من زاد المسير، ومن مصادر ترجمة أبي عمرو. 2 هو إسحاق بن مرار الشيباني بالولاء، أبو عمرو. لغوي أديب من رمادة الكوفة. سكن بغداد، ومات بها. أخذ عنه جماعة كبار، منهم أحمد بن حنبل رحمه الله الذي كان يلزم مجالسه ويكتب أماليه. من تصانيفه: كتاب اللغات، وكتاب الخيل، والنوادر، وغريب الحديث. ولد سنة 94 ?، وتوفي سنة 206 ?. انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان 165. والأعلام للزركلي 1296. 3 القائل هو: بُرج بن مُسهِر بن الجلاس. أحد بني جذيلة من طي. انظر: لسان العرب 1462. ومعجم الشعراء 61. وخزانة الأدب 6515. وفي خزانة الأدب: خرجنا من النعتين لا حي مثلنا ... بآياتنا نزجى اللقاح المطافلا وذكر محقق خزانة الأدب أنّ الشعر في كتاب التنبيهات ص 308، وأنّ الأشبه من النقبين، وليس من النعتين. 4 زاد المسير لابن الجوزي 171. 5 القائل هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى. 6 في ((م)) ، و ((ط)) : تكون. 7 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 8 في ((خ)) : خرج. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

اجتمعوا إليه. ولهذا سمي ذلك عَلَمَاً. والعلم هي العلامة والآية، ويسمّى راية؛ لأنّه يُرى. فخروجهم بآيتهم: أي بالعلم والآية التي تجمعهم؛ فيستدل [بها] 1 على خروجهم جميعهم؛ فإنّ الأمير المطاع إذا خرج، لم يتخلّف أحدٌ، بخلاف ما إذا خرج بعض امرائه. وإلاَّ، فلفظ الآية: هي العلامة. وهذا معلومٌ بالإضطرار، والإشتراك في اللفظ، لا يَثْبُتُ بأمرٍ محتمل. القول الثالث قال2: "والثالث: أنّها سُمِّيت آية؛ لأنها عَجَبٌ؛ وذلك: أنّ قارئها يستدلّ إذا قرأها على مباينتها لكلام المخلوقين. وهذا كما [تقول] 3: فلانٌ آية من الآيات: أي عجبٌ من العجائب. ذكره ابن الأنباري"4. قلت5: هذا القول هو داخل في معنى كونها آية من آيات الله؛ فإنّ آيات الله كلّها عجيبة؛ فإنها خارجة عن قدرة البشر، و [عمّا] 6 قد يُشَبَّه بها من مقدور البشر. والقرآن كلّه عَجَبٌ؛ تعجّبت به الجنّ؛ كما حكى عنهم تعالى أنّهم

_ 1 في ((م)) ، و ((ط)) : به. 2 أي ابن الجوزي رحمه الله. 3 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. وهي في ((خ)) ، و ((م)) ، و ((ط)) : يقول. وما أُثبت من زاد المسير لابن الجوزي، وهو الأشبه. 4 زاد المسير 172. وبعد ذلك قال ابن الجوزي رحمه الله: "وفي المراد بهذه الآيات أربعة أقوال: إحداها: آيات الكتب التي تتلى. والثاني: معجزات الأنبياء. والثالث: القرآن. والرابع: دلائل الله في مصنوعاته". زاد المسير 172. 5 القائل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. 6 في ((خ)) : عن ما.

قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنَاً عَجَبَاً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدَاً} 1؛ فإنَّه كلام خارج عن المعهود من الكلام، وهو كما في الحديث: لا تنقضي عجائبه، ولا يشبع منه العلماء، ولا يَخْلق عن [كثرة] 2 الردّ3.

_ 1 سورة الجنّ، الآيتان 1-2. 2 في ((خ)) : كثيرة. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 الحديث مرويّ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد قال فيه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ستكون فتن". قلت: وما المخرج منها؟ قال: "كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم. هو الفصل ليس بالهزل، هو الذي من تركه مِنْ جبّار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضلّه الله، فهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الردّ، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم ينته الجنّ إذ سمعته أن قالوا: {إنّا سمعنا قرآناً عجباً} . هو الذي من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أُجر، ومن دعا إليه هُديَ إلى صراط مستقيم. خذها إليك يا أعور". خرجه الدارمي في سننه 2526-527، من كتاب فضائل القرآن، باب فضل من قرأ القرآن. وانظر المسند 191. وأخرجه الترمذي في سننه 5172-173، في كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء في فضل القرآن. وقال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإسناده مجهول، وفي الحارث مقال. وقال ابن كثير رحمه الله في فضائل القرآن ص 11-12: "الحديث مشهور من رواية الحارث الأعور. وقد تكلموا فيه، بل قد كذّبه بعضهم من جهة رأيه واعتقاده، أما أنه تعمد الكذب في الحديث، فلا" والله أعلم. وقصارى هذا الحديث أن يكون من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد وهم بعضهم في رفعه. وهو كلام حسن صحيح، على أنّه قد روي له شاهد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

وكلّ آية لله خرجت عن المعتاد، فهي عجب؛ كما قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الكَهفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبَاً} 1. فالآيات: العلامات والدلالة. ومنها: مألوف معتاد، ومنها: خارج عن المألوف المعتاد. آيات القرآن.. وآيات القرآن من هذا الباب؛ فالقرآن عجب، لا لأنّ مسمّى الآية هو مسمّى العجب، بل مسمّى الآية أعمّ، [ولهذا] 2 قال: {كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبَاً} . معنى الآية في العرف ولكنّ لفظ الآية قد يُخصّ في العرف بما يحدثه الله، و [أنّها] 3 غير المعتاد دائماً؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله، و [إنهما] 4 لا تُخسفان لموت أحدٍ، ولا لحياته، ولكنّهما آيتان من آيات الله يُخوِّف بهما عباده"5. وقد قال تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفَاً} 6. وفي الحديث الصحيح: لمّا دخلت أسماء على عائشة وهي في

_ 1 سورة الكهف، الآية 9. 2 في ((خ)) رسمت: والهذا. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 في ((خ)) : أنهما. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 في ((خ)) : إنها. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 رواه البخاري في صحيحه 1353، كتاب صلاة الكسوف، باب صفة الشمس والقمر بحسبان، و 1356، كتاب صلاة الكسوف، باب قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: يُخوّف الله عباده بالكسوف. ومسلم في صحيحه 2618، كتاب الكسوف، باب صلاة الكسوف؛ أخرجاه مع اختلاف في الألفاظ يسير. 6 سورة الإسراء، الآية 59.

الصلاة، فسألتها فقالت: سبحان الله، فقالت آية؟ فأشارت أي نعم1. صلاة الكسوف وتُسمّى صلاة الكسوف صلاة الآيات2، وهي مشروعة في أحد القولين في مذهب أحمد، في جميع الآيات3 التي يحصل بها

_ 1 رواه البخاري في صحيحه 1358، كتاب صلاة الكسوف، باب صلاة النساء مع الرجال في الكسوف. ومسلم في صحيحه 2624، كتاب الكسوف، باب ما عرض على النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار. 2 لقوله صلى الله عليه وسلم: "هذه الآيات التي يُرسل الله لا تكون لموت أحدٍ ولا لحياته، ولكن يُخوّف الله بها عباده، فإذا رأيتم شيئاً من ذلك فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره". أخرجه البخاري في صحيحه 1360، كتاب الكسوف، باب الذكر في الكسوف. 3 قال ابن قدامة رحمه الله: "قال أصحابنا: يُصلّى للزلزلة كصلاة الكسوف، نصّ عليه، وهو مذهب إسحاق، وأبي ثور. قال القاضي: ولا يصلى للرجفة، والريح الشديدة، والظلمة، ونحوها. وقال الآمدي: يصلّى لذلك، ولرمي الكواكب والصواعق، وكثرة المطر، وحكاه عن ابن أبي موسى. وقال أصحاب الرأي: الصلاة لسائر الآيات حسنة؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم علّل الكسوف بأنّه آية من آيات الله تعالى يُخوّف بها عباده. وصلّى ابن عباس للزلزلة بالبصرة؛ رواه سعيد. وقال مالك والشافعي: لا يُصلّى لشيء من الآيات سوى الكسوف؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يصلّ لغيره. وقد كان في عصره بعض هذه الآيات، وكذلك خلفاؤه. ووجه الصلاة للزلزلة: فعل ابن عباس. وغيرها لا يصلّى له؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يُصلّ لها، ولا أحد من الصحابة، والله أعلم". المغني 3332-333. وانظر فتح الباري 1606. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في موضع آخر - فيما نقله عنه ابن قاسم: "يُصلّى لكلّ آية؛ كما دلّ على ذلك السنن والآثار، وقاله المحققون من أصحاب أحمد وغيرهم. ولولا أنّ ذلك يكون لشرّ وعذاب لم يصحّ التخويف بذلك. وهذه صلاة رهبة وخوف؛ كما أنّ صلاة الاستسقاء صلاة رغبة ورجاء. وقد أمر الله عباده أن يدعوه خوفاً وطمعاً، وقال عليه الصلاة والسلام: "إذا رأيتم من هذه الأفزاع شيئاً فافزعوا إلى الصلاة". حاشية على الروض المربع لابن قاسم 2533-534. وانظر مجموع الفتاوى 24264.

التخويف1؛ كانتثار الكواكب، والظلمة الشديدة، وتُصلّى للزلزلة، نصّ عليه2، كما جاء الأثر بذلك3. فهذه الآيات أخصّ من مطلق الآيات، وقد قال تعالى: {وَمَا تَأْتِيهِمِ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} 4، وقال صلى الله عليه وسلم: "ثلاث آيات يتعلمهنّ [من القرآن] 5 خيرٌ له من ثلاث خلفات سِمانٍ"6.

_ 1 قال شيخ الإسلام رحمه الله عن الشمس والقمر: وقوله: "يُخوّف الله بهما عباده" كقوله: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً} [سورة الإسراء، الآية 59] . ولهذا كانت الصلوات مشروعة عند الآيات عموماً، مثل تناثر الكواكب، والزلزلة، وغير ذلك. والتخويف إنما يكون بما هو سبب للشر المخوف؛ كالزلزلة والريح العاصف، وإلا فما وجوده كعدمه لا يحصل به تخويف. فعلم أن الكسوف سبب للشر، ثم قد يكون عنه شر. ثم القول فيه كالقول في سائر الأسباب: هل هو سبب؟ كما عليه جمهور الأمة، أو هو مجرد اقتران عادة كما يقوله الجهمية. وهو صلى الله عليه وسلم أخبر عند أسباب الشر بما يدفعها من العبادات التي تقوي ما انعقد سببه من الخير، وتدفع أو تضعف ما انعقد سببه من الشر كما قال: "إن الدعاء والبلاء ليلتقيان فيعتلجان بين السماء والأرض". والفلاسفة تعترف بهذا، لكن هل ذلك بناء على أن الله يدفع ذلك بقدرته وحكمته، أو بناء على أن القوى النفسانية تؤثر؟ هذا مبني على أصولهم في هذا الباب". منهاج السنة النبوية 5445- 446. 2 نقل عبد الله بن أحمد بن حنبل أنّ أباه إذا كانت ريح، أو ظلمة، أو أمر يفزع الناس منه، فزع إلى الصلاة. انظر مسائل الإمام أحمد برواية ابنه عبد الله 2447، تحقيق د علي بن سليمان المهنا، ط الأولى، مكتبة الدار. وانظر فتح الباري لابن حجر 1606. 3 لعله يُشير إلى الحديث الذي تقدّم ذكره قريباً في ح (5) من الصفحة السابقة. 4 سورة الأنعام، الآية 4. 5 ما بين المعقوفتين ساقط من ((م)) ، و ((ط)) . 6 الحديث مروي عن أبي هريرة رضي الله عنه، بلفظ: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيُحبّ أحدكم إذا رجع إلى أهله أن يجد فيه ثلاث خلفات عظام سمان؟ " قلنا: نعم. قال: "فثلاث آيات يقرأ بهنّ أحدكم في صلاته خير له من ثلاث خلفات عظام سمان". الحديث رواه مسلم في صحيحه 1552، كتاب صلاة المسافرين، باب فضل قراءة القرآن في الصلاة وتعلمه. والدارمي في سننه 2523، كتاب فضائل القرآن، باب فضل من قرأ القرآن. وابن ماجه في سننه 21243، كتاب الأدب، باب ثواب القرآن. وأحمد في مسنده 2397، 466، 497.

فصل الدليل ينقسم إلى قسمين

فصل الدليل ينقسم إلى قسمين: 1- ما يدل بنفسه 2- ما يدل بدلالة الدال به والدليل الذي هو الآية والعلامة ينقسم إلى ما يدلّ بنفسه، وإلى ما يدلّ بدلالة الدالّ به؛ فيكون الدليل في الحقيقة هو الدالّ به الذي قصد أن يدلّ به. وقد جعل ذلك علامةً وآيةً ودليلاً. والذي يدلّ بنفسه1 يُعلَم أنّه يدلّ بنفسه، وإن لم يُعلم أنّ أحداً جعله دليلاً، وإن كان في نفس الأمر كلّ مخلوقٍ قد جعله الله آية ودلالة. وهو سبحانه عليمٌ مريدٌ، فلا يمكن أن يُقال: لم يرد بالمخلوقات أن تكون أدلة له، ولا أنّها ليست دليلاً يجعلها أدلة، كما قد يطلقه طائفة من النّظّار. ولكن يستدلّ بها مع عدم النظر في كونها جعلت أدلة؛ كما قد يطلقه؛ إذ كان فيها مقاصد كثيرة غير الدلالة. الأدلة العقلية والأدلة الوضعية والذي جعلها دليلاً؛ وهو الله، جعل ذاتها يستدلّ بها، مع قطع النظر عن [كونها] 2 هي دليلاً؛ فما من مخلوقٍ، إلا ويمكن الاستدلال به على

_ 1 هذا القسم الأول، ويذكره هنا بالتفصيل. وسيأتي ذكره للقسم الثاني لاحقاً في بداية الفصل، ص 916. 2 في ((خ)) : كونه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

الخالق، والمحدَث نفسه يُعلم بصريح العقل أنّ له محدِثاً. وهذه الأدلة التي [تدلّ] 1 بنفسها قد تُسمّى الأدلة العقلية، ويسمّى النوع الآخر2 الأدلة الوضعية؛ لكونها إنّما دلّت بوضع واضع. والتحقيق: أنّ كلاهما عقلي، إذا نظر فيه العقل علم مدلوله3. لكنّ هذه تدلّ بنفسها، وتلك تدلّ بقصد الدالّ بها؛ فيعلم بها قصده. وقصده هو الدالّ بها؛ كالكلام؛ فإنّه يدلّ بقصد المتكلم به، وإرادته، وهو يدلّ على مراده، وهو يدلنا بالكلام على ما أراد، ثم يستدلّ بإرادته على لوازمها؛ فإن اللازم أبداً مدلولٌ عليه بملزومه. والآيات التي [تدلّ] 4 بنفسها مجرّدة نوعان؛ منها: ما هو ملزومٌ مدلولٌ عليه بذاته، لا يمكن وجود ذاته دون وجود لازمه المدلول عليه؛ مثل دلالة المخلوقات على الخالق.

_ 1 في ((خ)) : يدلّ. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 الذي يدلّ بدلالة الدالّ به. وقد سبق تقسيم شيخ الإسلام رحمه الله هذا للأدلة إلى عقلية، ووضعية. راجع ص 267، 393-397 من هذا الكتاب. 3 وقد شرح شيخ الإسلام رحمه الله هذه العبارة في موضع آخر، فقال: "تدبّرت عامّة ما يذكره المتفلسفة والمتكلمة، والدلائل العقلية، فوجدت دلائل الكتاب والسنة تأتي بخلاصته الصافية عن الكدر، وتأتي بأشياء لم يهتدوا لها، وتحذف ما وقع منهم من الشبهات والأباطيل مع كثرتها واضطرابها.... - إلى أن قال رحمه الله -: كلّ علم عقليّ أمر الشرع به، أو دلّ عليه، فهو شرعيّ أيضاً؛ إمّا باعتبار الأمر، أو الدلالة، أو باعتبارهما جميعاً". مجموع الفتاوى 19232-233. وانظر: المصدر نفسه 246، 61،، 16251-253، 260-264،، 19228-234. ودرء تعارض العقل والنقل 5270-271. 4 في ((خ)) : يدلّ. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

ومنها: ما هو مستلزم له مدّة طويلة، أو قصيرة؛ [فتدلّ] 1 عليه تلك المدة؛ مثل نجوم [السموات] 2؛ فإنّه يستدلّ بها على الجهات، والأمكنة، وعلى غيرها من النجوم، وعلى الزمان ماضيه وغابره، ما دام العالم على هذه الصورة؛ قال تعالى: {وَأَلْقَى في الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارَاً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} 3، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا في ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} 4. ثم قال: {وَهُوَ الَّذِي [أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ] 5 فَمُسْتَقَرّ وَمُسْتَوْدَع قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} 6، ثم قال: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرَاً} ، إلى قوله: {إِنَّ في ذَلِكُمْ [لآيَاتٍ] 7 لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 8، وقوله: {وَأَلْقَى في الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارَاً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَعَلامَاتٍ} 9؛ هي علامات ألقاها في الأرض، وهذا قول الأكثرين10؛ قالت طائفة: هي معالم الطرق يُستدلّ بها بالنهار،

_ 1 في ((خ)) : فيدلّ. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 في ((خ)) : السّمات. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 سورة النحل، الآيتان 15 16. 4 سورة الأنعام، الآية 97. 5 في ((خ)) : أنزل من السماء ماءً. وهو خطأ، والصواب ما أُثبت في ((م)) ، و ((ط)) . 6 سورة الأنعام، الآية 98. 7 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) . 8 سورة الأنعام، الآية 99. 9 سورة النحل، الآيتان 15 16. 10 انظر: تفسير الطبري 891.

ويستدلّ بالنجم بالليل؛ وقالت طائفة: هي الجبال، وهي أيضاً مما يُستدلّ به1، ولهذا سمّاها الله أعلاماً في قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ الجَوَارِ في البَحْرِ كَالأَعْلام} 2، {فَبأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} 3؛ أي كالجبال. والأعلام جمع عَلَم، والعَلَم: ما يعلم به كالعلامة. [ومنه] 4: أعلام الطرق المنصوبة5، ومنه: يُقال لدلائل النبوة: أعلام النبوة، ويقال للراية المرفوعة: إنّها علم6، وأنّها

_ 1 قال أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله عند تفسيره لهذه الآيات: قوله تعالى: {وَعَلامَاتٍ} : فيها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها معالم الطريق بالنهار، وبالنجم هم يهتدون بالليل؛ رواه العوفي عن ابن عباس. والثاني: أنها النجوم أيضاً؛ منها ما يكون علامة لا يُهتدى به، ومنها ما يُهتدى به؛ قاله مجاهد، وقتادة، والنخعي. والثالث: الجبال؛ قاله ابن السائب، ومقاتل. زاد المسير لابن الجوزي 4436. وانظر: تفسير الطبري 891-92. وتفسير القرطبي 1061. 2 سورة الشورى، الآية 32. 3 لعلّ الشيخ رحمه الله أراد ذكر الآية التي في سورة الرحمن؛ وهي قوله تعالى: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [سورة الرحمن، الآيتان 24-25] . 4 ما بين المعقوفتين ساقط من ((ط)) . 5 قال الأزهري رحمه الله: "ويقال لما يُبنى في جواد الطريق؛ من المنار التي يستدل بها على الطريق أعلام، واحدها علمٌ. والعَلَم: الراية التي إليها يجتمع الجند. والعلم: علم الثوب ورقمه في أطرافه. والمعلم: ما جعل علامة وعلماً للطرق والحدود؛ مثل أعلام الحرم، ومعالمه المضروبة عليه". تهذيب اللغة للأزهري 2418-419. وانظر: لسان العرب لابن منظور 12419. 6 الراية: العلم، لا تهمزه العرب، والجمع رايات. ويقال رييت الراية: أي ركزتها. لسان العرب 14351-352. وقال أيضاً: والعلم: الراية التي تجتمع إليها الجند. وقيل: هو الذي يقعد على الرمح. لسان العرب 12420.

جُعلت علامة لصاحبها وأتباعه. والعالَم [بالفتح] 1 مثل الخاتَم2: ما يعلم به؛ كما أن الخاتم ما يختم به، وهو بمعنى العالَم3. ويسمّى كل صنفٍ من المخلوقات عالَمَاً4؛ لأنّه عَلَمٌ وبرهان على الخالق تعالى، بخلاف العالِم بالكسر؛ فإنه الذي يَعْلَم5؛ كالخاتِم بالكسر فإنّه الذي يختم6؛ قال تعالى: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وخاتِمَ7 النَّبِيِّين} 8؛ لأنّه ختمهم؛ كما يُسمّى الماحي، والحاشر، والعاقب9. وقد قُرِىء: {وَخَاتمَ} 10؛ أي خُتِمُوا به.

_ 1 في ((ط)) : بالفت. 2 أي على وزنه. 3 انظر: تهذيب اللغة 7313. ولسان العرب 12163. والمفردات للراغب ص 581. 4 انظر: تهذيب اللغة 2416. ولسان العرب 12420-421. والمفردات للراغب ص 582. والقاموس المحيط ص 1472. 5 العالِم: هو الذي يعمل بما يعلم. انظر: تهذيب اللغة 7416. 6 انظر: تهذيب اللغة 7315-316. ولسان العرب 12163. 7 وهي قراءة الجميع ما عدا عاصم. انظر: الغاية في القراءات العشر للحافظ النيسابوري ص 239. وزاد المسير 6393) . ومعنى (خاتِم) بالكسر: أنّه ختم النّبيِّين. 8 سورة الأحزاب، الآية 40. 9 عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ لي أسماء، أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يُحشر الناس على قَدَمَيَّ، وأنا العاقب الذي ليس بعده أحد"، وقد سماه الله رؤوفاً رحيماً. رواه الإمام مسلم في صحيحه واللفظ له 41828، كتاب الفضائل، باب في أسمائه صلى الله عليه وسلم. وهو عند الإمام البخاري في صحيحه 6404. 10 وهي قراءة عاصم وحده. انظر: الغاية في القراءات العشر للحافظ النيسابوري ص 239. وزاد المسير لابن الجوزي 6393. ومعنى (خاتَم) بالفتح: آخر النبيِّين.

فالجبال: أعلامٌ1، وهي علاماتٌ لمن في البّر والبحر، يُستدلّ بها على ما يُقاربها من الأمكنة؛ فإنّه يلزم من وجودها وجوده، وهي لا تزال دالّة ما دامت موجودة، ومدلولها موجوداً، وهي أثبت من غيرها؛ فقد يكون عندها قرية وسكّان؛ فيكون علماً عليهم، ثم قد [تخرب] 2 القرية، ويذهب السكّان؛ فتزول الدلالة لزوال الملزوم. وهذا كلّه ممَّا يُبيِّن أنّ الدليل قد يكون معيناً، بل الآيات كلّها معيّنة، و [أنّه] 3 يكون مطابقاً ملازماً لمدلوله، ليس أحدهما أعمّ من الآخر؛ كالثريا4 مع الدبران، وكالجدي مع بنات نعش5، ونحو ذلك.

_ 1 انظر: تهذيب اللغة للأزهري 2418. 2 في ((خ)) : يخرب. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 في ((م)) ، و ((ط)) : أن. 4 الثريا: هي المنزلة الأولى من منازل القمر الثماني والعشرين التي يتخذها القمر محطات له أثناء دورانه حول الأرض. وتتألف مجموعة الثريا من مئات النجوم، غير أن العدد الذي من الممكن مشاهدته بالعين المجردة قد لا يتعدى تسع نجوم، منها ست واضحات، وثلاث لا تُرى إلا بصعوبة. وإذا شوهدت الثريا من خلال المرقب ظهرت نجومها متفرقة غير متراصة". جريدة الجزيرة، العدد 8395، شهر يونيو عام 1996 م. 5 وتسمّى هذه بكواكب البابانيت، وهي التي لا ينزل بها شمس ولا قمر، إنّما يُهتدى بها في البرّ والبحر، وهي شامية، ومهبّ الشمال منها، أوّلها القطب، وهو كوكب لا يزول، والجدي والفرقدان، وهو بين القطب، وفيه بنات نعش الصغرى". لسان العرب 1346. وقد ذكر الشيخ رحمه الله الاستدلال بالكواكب على جهة الكعبة، وغيرها. انظر: الرد على المنطقيين ص 163. والجدي: كوكب إلى جنب القطب، تعرف به القبلة، ويقال له جدي الفرقد. وبنات نعش الكبرى: هي مجموع سبعة كواكب شديدة اللمعان، على صورة علامة ضخمة للاستفهام؟ نُشاهدها جهة القطب الشمالي، ويقربها سبعة أخرى، تُسمّى بنات نعش الصغرى التي منها النجمة القطبية. والثريا: هي أول نجوم شدة الصيف، وبعدها بثلاثة عشر يوماً يظهر الدبران، وهو نجم أحمر مضيء.

فتبيَّن غلط من ذكر أنّه يحصر الأدلّة1. فيقال: إما أن يُستدلّ بالعام على الخاص، أو بالخاصّ على العام، أو

_ 1 وقد ردّ شيخ الإسلام رحمه الله على المنطقيين، وبيَّن أن حصرهم العلم على القياس قولٌ بغير علم؛ فقال رحمه الله: "قولهم: إنّه لا يعلم شيء من التصديقات إلا بالقياس الذي ذكروا صورته ومادّته: قضية سلبية نافية، ليست معلومة بالبديهة، ولم يذكروا على هذا السلب دليلاً أصلاً؛ فصاروا مدّعين ما لم يُبيِّنوه، بل قائلين بغير علم؛ إذ العلم بهذا السلب متعذّر على أصلهم. فمن أين لهم أنه لا يمكن أحداً من بني آدم أن يعلم شيئاً من التصديقات - التي ليست عندهم بديهية - إلا بواسطة القياس المنطقي الشمولي الذي وضعوا مادّته وصورته". الرد على المنطقيين ص 88. ومما قاله شيخ الإسلام رحمه الله في ردّه على حصرهم العلم في الدليل والقياس: "فنقول هذا الذي قالوه إما أن يكون باطلاً، وإما أن يكون تطويلاً يُبعد عن الطريق على الطالب المستدلّ، فلا يخلو عن خطأ يصدّ عن الحقّ، أو طريق طويل يتعب صاحبه حتى يصل إلى الحق، مع إمكان وصوله بطريق قريب، كما كان يمثله بعض سلفنا، بمنزلة من قيل له: أين أذنك؟ فرفع يده فوق رأسه رفعاً شديداً، ثم أدارها إلى أذنه اليسرى، وقد كان يمكنه إلى اليمنى، أو اليسرى من طريق مستقيم. وما أشبه هؤلاء بقول القائل: أقام يعمل أياماً رَوِيَّتَه ... وشَبَّه الماء بعد الجهد بالماء وقول الآخر: وإني وإني ثمّ إني وإنّني ... إذا انقطعت نعلي جعلتُ لها شِسعاً وما أحسن ما وصف الله به كتابه بقوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء 9] . فأقوم الطرق إلى أشرف المطالب: ما بعث الله به رسوله. وأما طريق هؤلاء: فهي مع ضلالهم في البعض، واعوجاج طريقهم، وطولها في البعض الأخرى إنّما يوصلهم إلى أمر لا يُنجي من عذاب الله، فضلاً عن أن يوجب لهم السعادة، فضلاً عن حصول الكمال للأنفس البشرية بطريقهم) . الرد على المنطقيين ص162. وانظر المصدر نفسه ص 316.

بأحد الخاصين على الآخر. والأول هو القياس الشمولي1، والثاني هو الاستقراء2، والثالث هو التمثيل3.

_ 1 وقد وضّح شيخ الإسلام رحمه الله المراد بالقياس الشمولي؛ فقال أولاً موضّحاً معنى القياس: "والقياس في اللغة تقدير الشيء بغيره، وهذا يتناول تقدير الشيء المعين بنظيره المعين، وتقديره بالأمر الكلي المتناول له ولأمثاله؛ فإنّ الكلي هو مثال في الذهن لجزئياته. ولهذا كان مطابقاً موافقاً له". ثمّ ذكر رحمه الله حقيقة القياس الشمولي؛ فقال: إنّه "انتقال الذهن من المعين إلى المعنى العام المشترك الكلي المتناول له ولغيره، والحكم عليه بما يلزم المشترك الكلي بأن ينتقل من ذلك الكلي اللازم إلى الملزوم الأول؛ وهو المعين؛ فهو انتقال من خاصّ إلى عامّ، ثم انتقال من ذلك العام إلى الخاص؛ من جزئي إلى كلي، ومن ذلك الكلي إلى الجزئي الأول، فيحكم عليه بذلك الكلي. ولهذا كان الدليل أخص من مدلوله الذي هو الحكم..) . الرد على المنطقيين ص 119. 2 وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعريف أهل المنطق للاستقراء؛ فقال: "قالوا: والاستدلال بالجزئيات على الكلي هو الاستقراء. فإن كان تاماً، فهو الاستقراء التام؛ وهو يُفيد اليقين. وإن كان ناقصاً لم يفد اليقين. فالأول: هو استقراء جميع الجزئيات، والحكم عليه بما وجد في جزئياته. والثاني: استقراء أكثرها، وقد يكذب؛ كقول القائل: الحيوان إذا أكل حرّك فكّه الأسفل؛ لأنه استقريناها فوجدناها هكذا، فيقال له: التمساح يحرّك الأعلى". الرد على المنطقيين ص 159-160. وانظر أيضاً المصدر نفسه ص 6، 201، 208. 3 وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله حقيقة قياس التمثيل؛ فقال: "وأما قياس التمثيل: فهو انتقال الذهن من حكم معين لاشتراكهما في ذلك المعنى المشترك الكلي؛ لأن ذلك الحكم يلزم ذلك المشترك الكلي، ثم العلم بذلك الملزوم لا بُدّ له من سبب إذا لم يكن بيّنا،.... فهنا يتصور المعينين أولاً، وهما الأصل والفرع، ثم ينتقل إلى لازمهما؛ وهو المشترك، ثم إلى لازم اللازم، وهو الحكم. ولا بُدّ أن يعرف أن الحكم لازم المشترك، وهو الذي يُسمّى هناك قضية كبرى، ثم ينتقل إلى إثبات هذا للملزوم الأول المعين". الرد على المنطقيين ص 121.

وقد بيَّنا ما في هذا الكلام من الغلط؛ في حصره، وفي حكم أقسامه؛ فإنّ هؤلاء المقسمين للأمور العامة كثيراً ما يغلطون في هذا وهذا؛ إذ كان المقسم يجب أن يستوفي جميع الأقسام، ولا يُدخل فيها ما ليس منها؛ كالحادّ1. وهم يغلطون فيها كثيراً؛ لعدم إحاطتهم بأقسام المقسوم؛ كما يقسّمون أقسام الموجودات، أو أقسام مدارك العلم، أو أقسام العلوم، أو غير ذلك، وليس معهم دليل على الحصر، إلاَّ عدم العلم. وحصر الأقسام في المقسوم هو من الاستقراء. ثمّ إذا حكموا على تلك الأقسام بأحكام فقد يغلطون أيضاً؛ كما قد ذُكِر هذا في غير هذا الموضع2؛ مثل غلط من حصر الأدلة في هذه الأنواع؛ من أهل المنطق، ومن تبعهم.

_ 1 الحادّ: هو الذي يقول بالحدّ، ويدّعيه. وقد ردّ شيخ الإسلام رحمه الله على قول أهل المنطق: "أنّ التصوّرات غير البديهية لا تنال إلا بالحدّ"، وناقشهم مناقشة طويلة استغرقت من كتابه الردّ على المنطقيين صفحات طويلة (من ص 7-52) ، ومما قاله رحمه الله عن صناعة الحدّ: "هذه صناعة وضعية اصطلاحية، ليست من الأمور الحقيقية العلمية، وهي مع ذلك مخالفة لصريح العقل، ولما عليه الوجود في مواضع، فتكون باطلة، ليست من الأوضاع المجردة؛ كوضع أسماء الأعلام، فإنّ تلك فيها منفعة، وهي لا تخالف عقلاً ولا وجوداً. وأما وضعهم فمخالف لصريح العقل والوجود، ولو كان وضعاً مجرداً لم يكن ميزاناً للعلوم والحقائق؛ فإنّ الأمور الحقيقية العلمية لا تختلف باختلاف الأوضاع والاصطلاحات؛ كالمعرفة بصفات الأشياء، وحقائقها؛ فالعلم بأنّ الشيء حيّ، أو عالم، أو قادر، أو مريد، أو متحرك، أو ساكن، أو حسّاس، أو غير حسّاس ليس هو من الصناعات الوضعية، بل هو من الأمور الحقيقية الفطرية التي فطر الله تعالى عباده عليها؛ كما فطرهم على أنواع الإرادات الصحيحة، والحركات المستقيمة ... ". الرد على المنطقيين ص 26. 2 لاحظ مصادر الحاشية التالية.

وقد بسط هذا في مواضع1. وذلك: مثل قولهم: الدليل إما أن يستدل بالعام على الخاص، أو بالخاص على العام، أو بأحد الخاصين على الآخر؛ فإنّ الدليل أولاً لا يكون قطّ أعمّ من المدلول عليه؛ إمّا مساوياً له، وإمّا أخصّ منه؛ فإنّ الدليل ملزومٌ للمدلول عليه، والملزوم حيث تحقّق، [تحقّق] 2 اللازم، وإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم؛ فحيث تحقّق الدليل، تحقّق المدلول عليه3. فإذا

_ 1 ذكر شيخ الإسلام رحمه الله بطلان حصر الأدلة في القياس، والاستقراء، والتمثيل، في مواضع عديدة من كتبه، وفصّل ذلك في كتابه القيم: ((الرد على المنطقيين)) ، وانظر فيه على سبيل المثال المواضع التالية: ص 6، 88، 116-120، 159-165، 200-214، 233-235، 245، 246، 296-298، 316-317، 348-364. ومما قاله رحمه الله تعالى: "إنّ ما ذكروه من حصر الدليل في القياس، والاستقراء، والتمثيل: حصرٌ لا دليل عليه، بل هو باطل. وقولهم أيضاً إنّ العلم المطلوب لا يحصل إلا بمقدمتين لا يزيد ولا ينقص: قولٌ لا دليل عليه، بل هو باطل. واستدلالهم على الحصر بقولهم: إما أن يستدلّ بالكلي على الجزئي، أو الجزئي على الكلي، أو بأحد الجزئين على الآخر، والأول هو القياس، والثاني هو الاستقراء، والثالث هو التمثيل. يُقال: لم تقيموا دليلاً على انحصار الاستدلال في هذه الثلاثة، فإنكم إذا عنيتم بالاستدلال بجزئيّ على جزئي قياس التمثيل، لم يكن ما ذكرتموه حاصراً، وقد بقي الاستدلال بالكلي على الكلي الملازم له، وهو المطابق له في العموم والخصوص، وكذلك الاستدلال بالجزئي على الجزئي الملازم له، بحيث يلزم من وجود أحدهما وجود الآخر، ومن عدمه عدمه، فإنّ هذا ليس ممّا سمّيتموه قياساً، ولا استقراء، ولا تمثيلاً، وهذه هي الآيات..". الرد على المنطقيين ص162-163. 2 ما بين المعقوفتين ساقط من ((ط)) . 3 وقال شيخ الإسلام رحمه الله في موضع آخر في توضيح الدليل: "فليس من ضرورة الدليل أن يكون أعمّ أو أخصّ، بل لا بُدّ في الدليل من أن يكون ملزوماً للحكم، والملزوم قد يكون أخصّ من اللازم، وقد يكون مساوياً له، ولا يجوز أن يكون أعمّ منه، لكن قد يكون أعمّ من المحكوم عليه الموصوف الذي هو موضوع النتيجة المخبر عنه". الرد على المنطقيين ص 348.

كان مساوياً له، أو أخصّ، كان حيث تحقّق المدلول؛ كما أنّه حيث تحقق ما هو ناطق النطق الذي يختص الإنسان، تحقّق الإنسان، وتحقّق أيضاً ما هو أعمّ من الإنسان؛ وهو ثبوت حيوان، وجسم حسّاس [نام] 1 متحرّك بالإرادة؛ بمعنى أنّه تحقّق مطلق هذا الجنس، وإلاَّ فلم يوجد شيء أعمّ من الإنسان بمجرّد وجوده، لكن وجد من صفاته ما يشبّه به غيره، ويصحّ إطلاقه عليه، وعلى غيره؛ وهو مسمّى الجسم، والحيوان، ونحو ذلك. وكذلك إذا وجد آية، [أو خبر] 2 يدلّ على الإيجاب، أو التحريم، لزم ثبوت الإيجاب أو التحريم. وقد ثبت الإيجاب والتحريم بآية أخرى، أو خبر آخر، فلهذا قيل: الدليل يجب طرده، ولا يجب عكسه3. و [إذا] 4 كان الدليل لا يكون أعمّ من المدلول عليه، فقولهم: إمّا أن يستدل بالعام على الخاص: إنّما أرادوا به القياس الشمولي5 الذي هو مقدمتان: صغرى، وكبرى6؛ كقولنا: النبيذ المتنازع فيه مسكر، وكل

_ 1 في ((خ)) : يأتى. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 في ((خ)) : احبر. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 سبق توضيح هذه القاعدة ص 301 من هذا الكتاب. وانظر إضافة لما سبق: الرد على المنطقيين ص 11، 17، 209. 4 في ((م)) ، و ((ط)) : إذ. 5 سبقت الإشارة إلى ذلك قريباً. انظر ص 873 من هذا الكتاب. وانظر أيضاً: الرد على المنطقيين ص 6، 159. 6 وقد أبطل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قولهم هذا بأنّ الاستدلال لا بُدّ فيه من مقدّمتين، وقرّر رحمه الله أنّ الاستدلال بمقدمتين لا يلتزمه إلا أهل المنطق. انظر: الرد على المنطقيين ص 167-175، 187-194.

مسكر حرام، أو كل مسكر خمر؛ كما ثبت في صحيح مسلم عن ابن عمر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام"1؛ بيَّن أنّ المسكر موصوف بأنّه خمر، وبأنّه حرام، ولم يقصد القياس الشمولي؛ وهو أن يستدلّ على أن المسكر حرام؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم أجلّ من هذا شرعاً وعقلاً؛ فإنّه بكلامه يثبت الأحكام، وغيره إذا قال: كل مسكر خمر أو حرام، احتاج أن يستدلّ عليه، وأما هو فيستدلّ بنفس كلامه. الدليل قد يكون أكثر من مقدمة والنظم الشمولي المنطقي لا يوجد في كلام فصيح، بل هو طويل لا يحتاج إليه؛ كما قد بسط في مواضع2، وبُيِّن أن الدليل قد يكون مقدمة واحدة، وقد يكون مقدمتين، وقد يكون ثلاث مقدمات، وأربع، وأكثر؛ بحسب ما يحتاج إليه المستدلّ الطالب لدلالة نفسه، أو الطالب ليدلّ غيره3؛ فإنّه قد لا يحتاج إلاَّ إلى مقدمة واحدة؛ مثل من عرف أنّ الخمر حرام، لكن لم يعرف أنّ كل مسكر هو خمر. فإذا عرف بالنصّ أنّ كلّ مسكر

_ 1 رواه الإمام مسلم في صحيحه 31587، كتاب الأشربة، باب بيان أنّ كلّ مسكر خمر، وأنّ كلّ خمر حرام. 2 انظر ردّ شيخ الإسلام رحمه الله على قولهم: "بأنّه لا بُدّ في كلّ علم نظري من مقدّمتين"، وكذلك ردّه على تمثيلهم: "كلّ مسكر خمر، وكلّ خمر حرام، فكل مسكر حرام" في: الردّ على المنطقيين ص 110-116، 161-162، 190، 191، 245-246. وكذلك في نقض المنطق ص 200-209. وانظر كلام شيخ الإسلام رحمه الله عن القياس، وقوله عنه أنّه إما كلام باطل، أو طريق طويل لا يخلو من الخطأ، في: الردّ على المنطقيين ص 162، 316، ومجموع الفتاوى 924، 28-34. 3 وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله اختلاف حال الناس في عدد المقدمات المحتاج إليها، وضرب أمثلة للاستدلال بمقدمة، أو بمقدمتين، أو بمقدمات، في: الرد على المنطقيين ص 168-169.

خمر، عرف أنّ كل مسكر حرام، وكان علمه موقوفاً على مقدّمة واحدة، بخلاف من لم يكن عرف بعد أنّ الخمر حرام؛ فيحتاج إلى مقدمة ثانية. ثم إن كان عرف أنّ محمداً رسولُ الله بنصوصه المتواترة، [كفاه ذلك] 1. وإن كان لم يقرّ بنبوته، احتاج إلى مقدمة ثالثة؛ وهو الإيمان بأنّه رسول الله، لا يقول على الله إلا الحق، ويذكر له من دلائل النبوة وأعلامها ما يعرف به ذلك؛ فيهتدي إن كان طالب علم، و [تقوم] 2 عليه الحجة إن لم يكن. كذلك: فقول هؤلاء3 في مثل هذا4: أنَّا استدللنا بالعام على الخاص: [لبسٌ] 5 عظيم؛ فإن المدلول عليه؛ وهو [تحريم] 6 النبيذ المتنازع فيه مثلاً، وإن كان أخصّ من تحريم المسكر والخمر. فالدليل ليس هو القضية العامة، بل [هي] 7 الدليل: أنّ النبيذ المتنازع فيه مسكرٌ؛ وهو إحدى المقدمتين، وهذه قضية خاصة أخصّ من مسمى المسكر؛ فإنّ المسكر يتناول المتفق على تحريمه، والمتنازع فيه؛ وهذا هو الحد الأوسط8، وهو المتكرر في المقدمتين الذي هو محمول

_ 1 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) . وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 2 في ((خ)) : يقوم. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 أي أهل المنطق. 4 في قياسهم النبيذ على الخمر بجامع الإسكار بين الاثنين. 5 في ((ط)) : ليس. 6 في ((ط)) : يحريم. 7 ما بين المعقوفتين ليس في ((م)) ، و ((ط)) . 8 قال شيخ الإسلام رحمه الله يوضّح هذا: "وذلك أنّ قياس الشمول مؤلف من الحدود الثلاثة؛ الأصغر، والأوسط، والأكبر. والحدّ الأوسط فيه هو الذي يُسمّى في قياس التمثيل علة ومناطاً وجامعاً ومشتركاً ووضعاً ومقتضياً، ونحو ذلك من العبارات. فإذا قال في مسألة النبيذ: كلّ نبيذ مسكر، وكل مسكر حرام، فلا بُدّ له من إثبات المقدمة الكبرى، وحينئذ يتمّ البرهان. وحينئذ فيمكنه أن يقول: النبيذ مسكر، فيكون حراماً قياساً على خمر العنب بجامع ما يشتركان فيه من الإسكار؛ فإنّ الإسكار هو مناط التحريم في الأصل، وهو موجود في الفرع...." إلى آخر ما قال رحمه الله في هذه المسألة. انظر الرد على المنطقيين ص 116-117.

في الصغرى، موضوع في الكبرى؛ فالاستدلال وقع [بإسكاره] 1 على أنّه خمرٌ، ومحرم. ومسكر النبيذ المتنازع فيه أخصّ من مسمّى المسكر، والخمر. والمقدّمة الثانية: الكبرى؛ وهي قولنا: وكلّ مسكر خمر: ليست هي الدليل، بل لا بدّ من الصغرى معها، وهي خاصة. فالمدلول عليه إن كان تحريم النبيذ المتنازع فيه، فهذا إنما يدل على تحريمه: أنّه مسكر، وليس [إسكاره] 2 أعمّ منه، بل يلزم من ثبوت [إسكاره] 3، ثبوته؛ فإنّ ثبوت الموصوف بدون الصفة ممتنع؛ [فإسكاره] 4 دلّ على تحريمه، وليس تحريمه أعمّ من [إسكاره] 5، بل جنس [الإسكار] 6 والحرام أعمّ من هذا المسكر، [وهذا] 7 المحرم. لكن هذا العام ليس هو الدليل بدون الخاص، بل قوله: كل مسكر حرام: يدلّ على تحريم كلّ مسكرٍ مطلقاً، من غير تعيين؛ فيكون [الإسكار] 8 مستلزماً للتحريم، والمسكر أخص من الحرام.

_ 1 في ((خ)) : بسكره. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 في ((خ)) : سكره. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 في ((خ)) : سكره. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 في ((خ)) : فسكره. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 في ((خ)) : سكره. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 6 في ((خ)) : السكر. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 7 في ((م)) ، و ((ط)) : فهذا. 8 في ((خ)) : السكر. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

aوهذا استدلال بالخاصّ على العام؛ فوجود المسكر أخصّ من وجود الحرام، حيث كان [سكر] 1 كان الحرام موجوداً، وليس إذا كان الحرام موجوداً يجب وجود المسكر؛ لأنّ المحرّمات كثيرة؛ كالدم، والميتة، ولحم الخنزير2. فالحد الأوسط؛ وهو المسكر دلّ على ثبوت الأعم؛ وهو التحريم، من الأخص في الأخص؛ وهو النبيذ المتنازع فيه. فالمدلول عليه التحريم، وهو أعمّ من المسكر؛ فهو استدلال بالخاصّ على العام، لكن المعنى العامّ الكلّي لا يوجد في الخارج عامّاً كليّاً، بل معيّناً؛ فهو استدلال على نوع من أنواعه؛ وهو التحريم الثابت في النبيذ المتنازع فيه، وهذا أخص من مطلق التحريم؛ كما أنّ مسكره أخص من مطلق المسكر. ومن هنا ظنّوا أنّهم استدلوا بالعامّ على الخاص؛ حيث استدلّوا بتحريم كلّ مسكر على تحريم هذا المسكر. وليس الأمر كذلك، بل الذي دلّ على تحريم هذا المسكر ليس هو مجرد القضية العامة الكلية، بل لا بُدّ معها من قضية أخص منها جزئية؛ مثل قولنا: هذا النبيذ مسكر. وبهذا الخاص يعلم ثبوت ذلك لا بمجرد [العامّ] 3. والدليل هنا ليس هو أعم من المدلول عليه، ولا يمكن ذلك قط. وأما قولهم: إن الاستدلال بالخاص على العام، هو الاستقراء4. فمجرد الخاصّ إن لم يستلزم العامّ، لا يدل عليه. والمستقرئ إن لم يحصر

_ 1 في ((م)) ، و ((ط)) : مسكر. 2 قال تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} . [البقرة، 173] . 3 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 4 تقدمت الإشارة إلى ذلك قريباً. انظر ص 894 من هذا الكتاب.

الإفراد، لا يعلم أنّ ذلك المعنى شامل لها. فما استدل بخاص على عام، [بل بعام] 1 مثله مطابق له. وقولهم في قياس التمثيل: إنّه استدلال بخاصّ على خاصّ2، ليس كذلك؛ فإنّ مجرّد ثبوت الحكم في صورة، لا يستلزم ثبوته في أخرى، إن لم يكن بينهما قدر مشترك، ولا يثبت بذلك حتى يقوم دليل على أنّ ذلك المشترك مستلزم للحكم. والمشترك3: هو الذي يُسمّى في قياس التمثيل: الجامع4، والوصف5، والعلة6، والمناط7، ونحو ذلك. فإن لم يقم دليل على أن الحكم متعلق به، لازم له، لم يصح الاستدلال.

_ 1 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 2 تقدمت الإشارة إلى ذلك قريباً. انظر ص 894-895 من هذا الكتاب. 3 المشترك: عبارة عن لفظ واحد، يدلّ على أشياء فوق واحد، باعتبار جهة واحدة؛ كلفظ العين، ونحوه. انظر: المبين في شرح ألفاظ الحكماء والمتكلمين للآمدي ص 51. 4 الجامع: اسم من أسماء المشترك، وهو معنى واحد، يدلّ على اتّحاد العلة في أشياء مشتركة. انظر: تسهيل المنطق للشيخ عبد الكريم مراد ص 55. 5 الوصف: عبارة عما دلّ على الذات باعتبار معنى هو المقصود من جوهر حروفه؛ أي يدلّ على الذات بصفة؛ كأحمر؛ فإنّه بجوهر حروفه يدلّ على معنى مقصود؛ وهو الحمرة. فالوصف والصفة مصدران؛ كالوعد والعدة. والمتكلمون فرقوا بينهما؛ فقالوا: الوصف يقوم بالواصف، والصفة تقوم بالموصوف، وقيل: الوصف هو القائم بالفاعل. التعريفات للجرجاني ص 252. 6 العلة قد تُطلق، ويُراد بها العلة الفاعلية، والعلة المادية، والعلة الصورية، والعلة الغائية. وقد تقدّمت التعاريف لهذه في ص 434 من هذا الكتاب. وانظر: المبين في شرح ألفاظ الحكماء والمتكلمين لللآمدي ص 122-123. 7 هو الوصف المعلّل للحكم. مثال ذلك: تحريم شرب الخمر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر خمر، وكل خمر حرام"؛ فنستنبط المناط بالرأي والنظر؛ فنقول: حرمت الخمر لكونها مسكراً، والإسكار هو العلّة، فيُقاس على هذه العلة، ويُطلق الوصف المعلّل للحرمة، وهو ما يُعرف بالمناط. انظر: المستصفى في علم الأصول للغزالي 2233.

وهذا1 المشترك في قياس التمثيل هو الحدّ الأوسط في قياس الشمول بعينه. فالمعنى في القياسين: واحدٌ2، ولكنّ التأليف والنظم متنوّع إذا أراد أن يثبت تحريم النبيذ بقياس الشمول، [قال] 3: هذا هو حرام؛ لأنّه شراب مسكر؛ فيكون حراماً، قياساً على المسكر من العنب. فالدليل هو المسكر، وهو المشترك، وهو الحد الأوسط. ثم لا يكفي ذلك حتى يُبيّن أنّ العلة في الأصل، هي المشترك؛ فيقول: وعصير العنب حَرُمَ؛ لكونه مسكراً. وهذا الوصف موجود في الفرع الذي هو صورة النزاع، فيجب اشتراكهما في التحريم. وقوله: إنّه [حَرُمَ] 4؛ لكونه مسكراً: هي المقدمة الكبرى في قياس الشمول؛ وهي قولنا: كلّ مسكر حرام؛ فثبت أنّ علة التحريم هي [السكر] 5؛ إما بالنص؛ وهو قوله: "كلّ مسكر حرام"؛ وإما بدلالة القرآن؛ وهو أنّه يُوقع العداوة والبغضاء، ويصدّ عن ذكر الله، وعن

_ 1 في ((ط)) : وهذا ومنه. و (ومنه) زائدة. 2 انظر كلام المؤلف رحمه الله تعالى في حقيقة قياس التمثيل، والموازنة بينه وبين قياس الشمول، وبيان أنّهما متلازمان، وأنّه يمكن جعل قياس الشمول قياس تمثيل، وأنّ قياس الشمول مبناه على قياس التمثيل. انظر: الرد على المنطقيين ص 116-117، 120-121، 220، 245-246، 317، 353، 364. 3 في ((ط)) : قاف. 4 في ((م)) ، و ((ط)) : حرام. 5 في ((خ)) : المسكر. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

الصلاة؛ وإما بالمناسبة؛ وإما بالدوران1؛ وإما [بالسبر] 2 والتقسيم3؛ كما قد عُرِف في موضعه4، وهو نظير ما يُستدلّ به على ثبوت القضيّة الكبرى. ثمّ الدليل قد يكون قطعياً، وقد يكون ظنيّاً؛ لخصوص المادّة، لا تعلّق لذلك بصورة القياس. فمن جعل قياس الشمول هو القطعي، دون قياس التمثيل [فقد] 5 غلط؛ كما أنّ من جعل مسمّى القياس هو التمثيل، دون الشمول، فلم يفهم معناه.

_ 1 وهو قياس الدور، وهو عبارة عن أخذ النتيجة، مع عكس إحدى مقدّمتي قياسها، لاستنتاج عين المقدمة الأخرى؛ كما لو قيل: كلّ إنسان ناطق، وكلّ ناطق ضاحك، فكلّ إنسان ضاحك. ثمّ عكس الأمر، وأخذت النتيجة، وهي: كل إنسان ضاحك، وجعلت مقدّمة أولى، وعكست المقدمة الصغرى، فصارت كلّ ضاحك ناطق، فيلزم عنه: كل إنسان ناطق؛ وهو عين المقدمة الكبرى.... إلخ. انظر: المبين في شرح ألفاظ الحكماء والمتكلمين للآمدي ص 68-71؛ فقد أطال النفس في بيان ذلك جداً. وانظر الرد على المنطقيين لابن تيمية ص 235. 2 في ((خ)) : بالسير. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 السبر والتقسيم: هو حصر الأوصاف في الأصل، وإلغاء البعض، ليتعيَّن الباقي للعِلِيَّة؛ كما يُقال: علة حرمة الخمر: إما الإسكار، أو كونه ماء العنب، أو المجموع. وغير الماء، وغير الإسكار لا يكون علة بالطريق الذي يُفيد إبطال علة الوصف؛ فتعيَّن الإسكار للعلّة. انظر: التعريفات للجرجاني ص 116-117. والرد على المنطقيين لابن تيمية ص 210. 4 انظر: الردّ على المنطقيين ص 117. 5 في ((ط)) : فقط.

والذي عليه جمهور العلماء أنّ كلاً منهما قياس، قد يكون قطعيّاً، وقد يكون ظنيّاً1. وطائفة يقولون: اسم القياس لا يستعمل إلا في الشمول؛ كما يقوله ابن حزم، ومن يقوله من المنطقيين. وطائفة2 يقولون: لا يستعمل حقيقة إلا في التمثيل، ومن هؤلاء من يقول: ليس في العقليات قياس. وهذا مبسوطٌ في مواضع3،

_ 1 ذكر شيخ الإسلام رحمه الله تنازع الناس في مسمى القياس؛ فقال: "وقد تنازع الناس في مسمّى القياس؛ فقالت طائفة من أهل الأصول: هو حقيقة في قياس التمثيل، مجاز في قياس الشمول؛ كأبي حامد الغزالي، وأبي محمد المقدسي، وغيرهما. وقالت طائفة: بل هو بالعكس: حقيقة في الشمول، مجاز في التمثيل؛ كابن حزم، وغيره. وقال جمهور العلماء: بل هو حققيقة فيهما، والقياس العقلي يتناولهما جميعاً. وهذا قول أكثر من تكلّم في أصول الدين وأصول الفقه وأنواع العلوم العقلية. وهو الصواب، وهو قول الجمهور من أتباع الأئمة الأربعة". الرد على المنطقيين ص 118-119. وانظر: المصدر نفسه ص 6، 364. ومجموع الفتاوى 9259. 2 وهو قول طائفة من أهل الأصول؛ كأبي حامد الغزالي، وأبي محمد المقدسي، وغيرهما؛ كما نصّ على ذلك شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه الرد على المنطقيين ص 118. وانظر: المستصفى في علم الأصول للغزالي 2324-325. 3 وقد ردّ شيخ الإسلام رحمه الله على من قال لا قياس في العقليات، وإنما هو في الشرعيات؛ فقال رحمه الله: "ومن قال من متأخري أهل الكلام والرأي؛ كأبي المعالي، وأبي حامد، والرازي، وأبي محمد المقدسي، وغيرهم: إنّ العقليات ليس فيها قياس، وإنما القياس في الشرعيات، ولكن الاعتماد في العقليات على الدليل، والدالّ على ذلك مطلقاً. فقولهم مخالف لقول جمهور نظّار المسلمين، وبل وسائر العقلاء؛ فإنّ القياس يستدلّ به في العقليات، كما يستدلّ به في الشرعيات؛ فإنه إذا ثبت أنّ الوصف المشترك مستلزم للحكم، كان هذا دليلاً في جميع العلوم. وكذلك إذا ثبت أنّه ليس بين الفرع والأصل فرق مؤثر، كان هذا دليلاً في جميع العلوم، وحيث لا يستدلّ بالقياس التمثيلي، لا يستدلّ بالقياس الشمولي. وأبو المعالي ومن قبله من نظار المتكلمين لا يسلكون طريقة المنطقيين، ولا يرضونها، بل يستدلون بالأدلة المستلزمة عندهم لمدلولاتها من غير اعتبار ذلك".... وقد أطال شيخ الإسلام رحمه الله النفس في تقرير ذلك، انظر: الرد على المنطقيين ص 118، 113.

والمقصود [هنا] 1: التنبيهٌ على جنس الأدلة. وأيضاً: فالدليل قد يكون مطابقاً للمدلول عليه، ملازماً له، ليس أعمّ منه، ولا أخصّ منه؛ كالكواكب التي في السماء المتلازمة التي يستدلّ بكلّ منها على الآخر؛ وكالناطقيّة، والإنسانية التي يُستدلّ بثبوت كلّ منهما على ثبوت الآخر. وهذا خارج عن تقسيمهم؛ فإنّ هذا ليس استدلالاً بعامّ على خاصّ، ولا بخاصّ على عامّ، ولا بخاصّ على نظيره بطريق التمثيل، بل هو استدلال بأحد المتلازمين على الآخر، قد [يكونان] 2 عامَّين وخاصَّين؛ فالكواكب خاصة، [والعام] 3 [كالاستدلال] 4 بالحيوانية على الحس والحركة، إلا أنّه استدلال بعام على عامّ ملازم له. وكذلك الاستدلال بكونه جسماً على وجود جنس العرض، والاستدلال بوجود جنس العرض على وجود جنس الجسم: هو استدلال بأحد العامين المتلازمين على الآخر.

_ 1 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 2 في ((خ)) : يكونا. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 في ((خ)) : والاستدلال. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

والمقصود هنا1: أنّ هذه المعيّنات؛ كالنجوم، والجبال، والطرق، وأعلام الطرق: كلّها آيات، وأعلام، وعلامات على ما هو لا زم لها في العادة. وكذلك قد يستدلّ على منزل الشخص بما هو ملازم؛ من دور الجيران، والباب، وغير ذلك، وشجرة هناك، وغير ذلك من العلامات التي يذكرها الناس يستدلّون بها، ويدلّون غيرهم بها. وسُمِّيَت الجبال أعلاماً؛ لأنّها مرتفعة عالية، والعالي يظهر، ويُعلم، ويُعرف قبل الشيء المنخفض، ولهذا يوصف العالي بالظهور؛ كقوله: { [فَمَا اسْتَطَاعُوا] 2 أَنْ يَظْهَرُوهُ} 3، ويقال ظهر الخطيب على المنبر. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "وأنت الظاهر فليس فوقك شيء" 4؛

_ 1 وقد أشار شيخ الإسلام رحمه الله إلى مثل هذا الموضوع - وهو الاستدلال بالكلي على الكلي، وبالجزئي على الجزئي الملازم له - ومثّل لذلك بأمثلة، منها: الاستدلال بطلوع الشمس، على النهار، ومنها الاستدلال بالكواكب على جهة الكعبة وغيرها، وكذلك الاستدلال بالأمكنة على المواقيت والأمكنة، وأيضاً الاستدلال بالجبال والأنهار، والاستدلال بالكعبة على جهات الأرض، والاستدلال بالأبنية والأشجار ... ثمّ قال رحمه الله تعالى: "فهذا وأمثاله استدلال بأحد المتلازمين على الآخر، وكلاهما معين جزئي، وليس هو من قياس التمثيل". انظر: الرد على المنطقيين ص 163-165. 2 وهي قراءة الجمهور. انظر: الغاية في القرءات العشر للحافظ النيسابوري ص 200. 3 سورة الكهف، الآية 97. قال ابن الجوزي رحمه الله في تفسير قوله: {أَنْ يَظْهَرُوهُ} : أي يعلوه؛ يقال: ظهر فلان فوق البيت؛ إذا علاه. والمعنى: ما قدروا أن يعلوه لارتفاعه وإملاسه. زاد المسير لابن الجوزي 5194. 4 جزء من حديث رواه الإمام مسلم في صحيحه 42084، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع. وأحمد في مسنده 2381. وأبو داود في سننه 4426، كتاب الأدب، باب ما يقول عند النوم. والترمذي في جامعه 5472، كتاب الدعاء، باب ما جاء في الدعاء إذا أوى إلى فراشه. وابن ماجه في سننه 21259-1260، 1274-1275، كتاب الدعاء، باب دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فأدخل معنى العلو في اسمه الظاهر؛ لأنّ الظاهر يعلو، والعالي يظهر. وكذلك العالي يُعرف قبل غيره، ومنه قيل: عُرف الديك: أصله فُعل؛ بمعنى مفعول؛ أي معروف؛ كما يقال: كُره؛ بمعنى مكروه، ومنه الأعراف؛ وهي: أمكنة عالية بين الجنّة والنار1. وقد قيل في قوله: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ} 2: إن العلامات هي النجوم؛ منها: ما يكون علامة لا يهتدي به، ومنها: ما يهتدى به3. وقول الأكثرين أصحّ4؛ فإنّ العلامات كلّها

_ 1 قال تعالى: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلّاً بِسِيمَاهُمْ..} [الأعراف، 46] . والأعراف في اللغة: المكان المشرف. قال ابن عباس رضي الله عنهما: "الأعراف سورٌ له عرفٌ كعرف الديك. تفسير القرطبي 7135. وقد ذكر القرطبي رحمه الله عشرة أقوال للعلماء في المراد بأصحاب الأعراف. انظر: تفسير القرطبي 7135-136. 2 سورة النحل، الآية 16. 3 وذكر ابن الجوزي في تفسير قوله تعالى: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [سورة النحل 16] أنّ المراد بالنجم أربعة أقوال: أحدها: أنّه الثريا، والفرقدان، وبنات نعش، والجدي؛ قاله السدي. والثاني: أنّه الجدي، والفرقدان؛ قاله ابن السائب. والثالث: أنّه الجدي وحده، لأنّه أثبت النجوم كلها في مركزه؛ ذكره الماوردي. والرابع: أنّه اسم جنس، والمراد جميع النجوم. زاد المسير 4436. وانظر تفسير القرطبي 1061. 4 قال أبو جعفر النحاس رحمه الله: والذي عليه أهل التفسير، وأهل اللغة سواء أنّ النجم هاهنا بمعنى النجوم. معاني القرآن الكريم لأبي جعفر النحاس 461. وعليه تحمل القراءات: (وبالنُّجْم) ، و (وبالنُّجُم) ، و (بالنُّجوم) ؛ فيكون (النجم) اسم جنس، ويُراد به جميع النجوم. انظر زاد المسير لابن الجوزي 4436.

يهتدى بها1، ولأنّه قد قال: {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارَاً وَسُبُلاً [لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ] 2 وَعَلامَاتٍ} 3. [فهذا] 4 كلّه ممَّا ألقاه في الأرض، وهو منصوب ب (ألقى) ، أو بفعل من جنسه؛ كما قال بعضهم؛ أي وجعل في الأرض أنهاراً؛ لأن الإلقاء من جنس الجعل5. وبسط ما في هذا من إعراب و [معان] 6 له مقام آخر. لفظ العلامات والمقصود هنا: ذكرُ العلامات. والعلامات يدخل فيها ما تقدم من الرواسي والسبل؛ فإنّ كونها رواسي وسبلاً يسلكها الناس، غير كونها علامات. والعطف قد يكون لتغاير الصفات مع اتحاد الذات؛ كقوله: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} 7، وأمثاله. فكيف إذا كانت العلامات تتناول هذا وغيره؟؛ فإنّ الجبال أعلام، وهي علامات؛ وكذلك الطرق يستدلّ بها السالك فيها. ولهذا يسمّى الطريق إماماً؛ لأنّ السالك يأتمّ به. وكذلك يسمّون ما يستدلّ به المستدل طريقاً ومسلكاً. ويقال: لأصحاب هذا القول

_ 1 انظر جامع البيان للطبري 1491. 2 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) . 3 سورة النحل، الآيتان 15-16. 4 في ((م)) ، و ((ط)) : وهذا. 5 انظر: معاني القرآن الكريم لأبي جعفر النحاس 461. 6 في ((خ)) : معاني. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 7 سورة الأعلى، الآيتان 2-3.

عدّة طرق، ومسالك؛ حتى [أطلقوا] 1 [على] 2 ما يُصنّف من الاحتجاج على مسائل النزاع: طريقة؛ لأنّه فيه أدلة المصنّف على موارد النزاع. ومن هذا الباب الاستدلال على المرض بعلامات له، والاستدلال بالأصوات؛ فإن كانت كلاماً، كانت الدلالة قصديّة إراديّة، قصد المتكلم أن يدلّ بها، وهي دلالة وضعية عقلية؛ وإن كانت غير كلام، كانت الدلالة عقليّة طبعيّة؛ كما يستدل بالأصوات التي هي بكاء، وانتحاب، وضحك، وقهقهة، ونحنحة، وتنخّم، ونحو ذلك، على أحوال المصوت3. ومن الدلائل: الشعائر؛ مثل شعائر الإسلام الظاهرة، التي [تدلّ] 4 على أن الدار دار الإسلام؛ كالأذان، والجُمَع، والأعياد. وفي الصحيحين: عن أنس - رضي الله عنه قال -: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا قوما لم يغز حتى يصبح، فإن سمع أذاناً أمسك، وإن لم يسمع أذاناً أغار بعدما يصبح". هذا لفظ البخاري5، ولفظ مسلم6: "كان يغير

_ 1 في ((خ)) كتب: صنّفوا. وجُعل عليها علامة. وفي الهامش كتب: لعله سمّوا. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 3 سبق نحو هذا الكلام في ص 649 من هذا الكتاب. 4 في ((خ)) : يدلّ. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 انظر صحيح البخاري 1221، كتاب الأذان، باب ما يحقن بالأذان من الدماء. وانظر أيضاً سنن أبي داود 398، كتاب الجهاد، باب في دعاء المشركين. 6 انظر صحيح مسلم 1288، كتاب الصلاة، باب الإمساك عن الإغارة على قوم في دار الكفر إذا سمع فيهم الأذان. وفي آخره: فنظروا فإذا هو راعي معزى. وانظر: مسند الإمام أحمد بن حنبل 3263.

إذا طلع الفجر، وكان يستمع الأذان؛ فإن سمع أذاناً أمسك، وإلا أغار. فسمع رجلا يقول: الله أكبر الله أكبر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "على الفطرة". ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله. فقال: "خرجت من النار". وعن عصام المزني1، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث السرية يقول: "إذا رأيتم مسجداً، أو سمعتم منادياً، فلا تقتلوا أحداً". رواه أبو داود2، والترمذي3، وابن ماجه4. ومن هذا النوع: دلائل الجهات. ومنه: دلائل القبلة؛ يستدل عليها بالنجوم، والشمس، والقمر، والرياح، والطرق، وغير ذلك من الدلائل؛ كما قد ذكر الناس ما ذكروه من دلائل القبلة.

_ 1 ذكر البخاري أنّ له صحبة، وأورده ابن حجر في الإصابة - في القسم الأول - وذكر حديثه الذي رواه الترمذي، والنسائي - في الكبرى - وغيرهما. الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 2480-481. 2 سنن أبي داود 398-99، كتاب الجهاد، باب في دعاء المشركين، وفيه: (مؤذناً) بدل: (منادياً) . 3 سنن الترمذي 4120، كتاب السير، باب ما جاء في الدعوة قبل القتال، وقال: هذا حديث غريب، وفيه: (مؤذناً) بدل: (منادياً) . وفي نسخة أخرى للترمذي قال: (حسن غريب) . انظر: هامش سنن أبي داود 399. 4 لم أجده عند ابن ماجه - بعد البحث - وإنما وجدته عند الدارمي في سننه 2287، كتاب السير، باب الإغارة على العدو. وقد أورد مجد الدين ابن تيمية - جدّ المؤلف رحمهما الله - في المنتقى 2770-771 هذه الأحاديث الثلاثة بنصها في كتاب الجهاد والسير، باب الكف وقت الإغارة عمّن عنده شعار الإسلام، وقال عن الأخير: رواه الخمسة إلا النسائي. ويعني بقوله (إلا النسائي) ؛ أي في سننه، وإلا فقد رواه في السنن الكبرى؛ كما أشار إلى ذلك الحافظ ابن حجر في الإصابة (2481) ، والحافظ المنذري في الترغيب والترهيب، وقال: حسن غريب.

فصل القسم الثاني الدلالة القصدية

فصل القسم الثاني الدلالة القصدية والنوع الثاني1: ما يدلّ بقصد الدالّ به؛ كالكلام، وكالعقد باليد، والإشارة بها، أو بالعين، أو الحاجب، أو غير ذلك من الأعضاء - وقد يُسمّى ذلك رمزاً، ووحياً، وكذلك الخطّ خط الكتابة، بخلاف الاستدلال بآثار خطى الإنسان؛ فإن هذا من النوع الأول، وكذلك القيافة2؛ [و] 3 هي من النوع الأول؛ وهو الاستدلال بالشبه على النسب، وكذلك القايف: قد يعرف بالأثر: من هو الواطىء، وأين ذهب؟ ومن هذا النوع: [الأميال] 4

_ 1 تقدّم النوع الأول في أول الفصل السابق، ص 886. 2 القيافة: علم معرفة الآثار، والقائف: من يعرف الآثار ويتتبعها، ويعرفها، ويعرف شبه الرجل بأخيه وأبيه، وجمعه قافة؛ يقال: قاف الرجل أثرَ الرجلِ: إذا تتبعه عن طريق آثاره. وفلان يقوف الأثر ويقتافه، مثل قفا الأثر واقتفاه. انظر: القاموس المحيط للفيروزأبادي ص 1095. ولسان العرب 9293. 3 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 4 في ((خ)) : الأمثال. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . والأميال: جمع ميل. والميل - بالكسر - عند العرب: مقدار مدّ البصر من الأرض. ويُقال للأعلام المبنية في طريق مكة أميال؛ لأنها بُنِيت على مقادير مدى البصر من الميل إلى الميل. المصباح المنير 2588. والأميال التي يعنيها شيخ الإسلام رحمه الله هي أنصاب الحرم؛ وهي العلامات التي تُفرّق بين الحلّ والحرم. وذكر الأزرقي أنّ إبراهيم عليه السلام أول من نصب أنصاب الحرم، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح تميمَ بن أسد الخزاعي، فجدّدها، ثم ما زال الخلفاء والولاة يُجدّدونها كلما تهدّمت. انظر: تاريخ مكة للأزرقي 2128-129.

التي جعلت علامات على حدود الحرم، و [الأميال] 1 التي تجعل في الطرقات؛ فإنّه قصد بها الدلالة على الطريق؛ أي قصد الناس بها ذلك. الدلالة القصدية نوعان: النوع الأول: وهذا النوع قسمان: منه ما يكون بالاتفاق والمواطأة بين اثنين فصاعداً؛ كما يتفق الرجل مع وكيله على علامة لمن يرسله إليه؛ مثل وضع خنصره في خنصره2؛ ومثل وضع يده على ترقوته؛ كما روي أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم جعل ذلك علامة مع بعض الناس3؛ وكما يجعل الملوك وغيرهم لهم علامات عند بعض الناس: من جاء بها، عرفوا أنّه مرسل من جهته.

_ 1 في ((خ)) : الأمثال. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 الخنصر: صغرى الأصابع. انظر: تهذيب اللغة 7660. وقد سبق بحث مثل هذا الموضوع في ص 463 من كتاب النبوات. 3 لم أقف أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع يده على ترقوته علامة مع بعض الناس فيما اطلعت عليه من كتب الحديث، ولكن ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل عمامته إلى سعد بن عبادة كدليل على صدق مخبره بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا أرسل نعليه مع أبي هريرة ليبشر الناس، فكانت علامة على أنه مرسل من النبي صلى الله عليه وسلم. انظر: ص 769-770. وقد رُوي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد أمر بقتل عبد الله بن سعد بن أبي السرح، لمّا ارتدّ مشركاً، فلما فتح النبيّ صلى الله عليه وسلم مكة فرّ عبد الله إلى عثمان بن عفان - وكان أخاه من الرضاعة - فغيّبه عثمان، حتى أتى به رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بعد أن اطمأنّ الناس وأهل مكة، فاستأمن له، فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلاً، ثم قال: نعم. فلما انصرف عثمان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن حوله: ما صَمَتُّ إلا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه. فقال رجل من الأنصار: فهلا أومأتَ إليَّ يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنّ النبيَّ لا ينبغي أن يكون له خائنة الأعين". انظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر 2379. والسيرة النبوية لابن هشام 3409. والإصابة في تمييز الصحابة 2317. ومما يُفهم من هذا الحديث أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يستخدم الإشارة مع غيره إذا كان حاضراً.

ومن هذا الباب: شعائر الناس في الحرب؛ كلّ طائفة يُعرف أصحابها بشعارها. ولهذا قال الفقهاء: ويُجعل لكلّ طائفة شعار يتداعون به؛ كما كان للمهاجرين شعار1، وللأنصار شعار. ومن هذا الباب: الأعلام والرايات للمقدّمين؛ فإنّ الراية تُرى، فيُعلم صاحبها، [وكذلك العلم يُعلم، فيُعلم صاحبه. وقد تميّز راية عن راية لما يختص به صاحبها] 2، ويُسمّى ذلك رنكاً3، [وقد يكون ذلك اسم الشخص] 4، وقد يكون غير ذلك، لكن قد اتفق مع غيره على أنّ هذا علامة وآية له، فمتى [رُؤي] 5 استدلّ به على أنّه هو المضاف إليه ذلك العلم، ويجعل هذا على الدور، والثياب، والدوابّ. ومنه: الوسم6 الذي يعلم به إبل الصدقة، وإبل الجزية؛ فإنّ الوسم علامة مقصودة للواسم.

_ 1 الشعار: علامة القوم في الحرب، وهو ما يُنادَوْن به ليعرف بعضهم بعضاً. المصباح المنير ص 312. وقد روى أبو داود في سننه 373، كتاب الجهاد، باب في الرجل يُنادي بالشعار: أنّ شعار المهاجرين كان: عبد الله، وشعار الأنصار كان: عبد الرحمن. قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وكان من شعار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معه في الحروب: يا بني عبد الرحمن، يا بني عبد الله، يا بني عبيد الله، كما قالوا ذلك يوم بدر وحنين والفتح والطائف، فكان شعار المهاجرين: يا بني عبد الرحمن، وشعار الخزرج: يا بني عبد الله، وشعار الأوس: يا بني عبيد الله". مجموع الفتاوى 1379-380. 2 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 3 هكذا في ((خ)) ، و ((م)) ، و ((ط)) . ولم يتبيّن لي المراد. 4 ما بين المعقوفتين مكرّر في ((خ)) . 5 في ((خ)) : رأى. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 6 الوسم: أثر الكيّ، والجمع وسوم؛ تقول: بعير موسوم: أي قد وُسِم بسمةٍ يُعرف بها؛ إما كيّة، أو قطع في أذنه، أو قرحة تكون علامة له. والميسم: المكواة، أو الشيء الذي يُوسم به الدوابّ، والجمع: المواسم. انظر: تهذيب اللغة للأزهري 13114. ولسان العرب لابن منظور 12636.

لفظ السيما وأما السيما: فهي علامة بنفسها، لم يقصدها؛ مثل سيما المؤمنين، وسيما المنافقين؛ قال تعالى في المؤمنين: {سِيمَاهُمْ في وُجُوهِهم مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} 1، وقال في المنافقين: { [فَلَعَرَفْتَهُمْ] 2 بِسِيمَاهُمْ} 3، وقال: {عُتُلّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيم} 4؛ قيل: له زنمة من الشر يعرف بها5. ومنه: سيما المؤمنين يوم القيامة؛ التي بها يعرفهم نبيهم؛ وهو أنَّهم [غُرّ] 6 مُحَجَّلون من آثار الوضوء7؛ فهذه علامة وآية، لكنّها من النوع الأول، لم يقصد المسلمون أن يتوضؤوا ليُعرفوا بالوضوء، لكن من اللوازم لهم الوضوء للصلاة، وقد جعل الله أثرَ ذلك نوراً في وجوههم وأيديهم، [وليس هذا لغيرهم؛ فإنّ هذا الوضوء] 8 لم يكن لغيرهم. والحديث الذي

_ 1 سورة الفتح، الآية 29. 2 في ((خ)) : فلتعرفهم. 3 سورة محمد، الآية 30. 4 سورة القلم، الآية 13. 5 وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما؛ رواه عنه سعيد بن جبير. انظر: زاد المسير لابن الجوزي 8333. 6 في ((خ)) : غير. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 7 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنّ أمتي يُدعون يوم القيامة غُرّاً محجّلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يُطيل غرّته، فليفعل". رواه الإمام البخاري في صحيحه 163، كتاب الوضوء، باب فضل الوضوء، والغر المحجلون من آثار الوضوء. 8 في ((خ)) : وليس هذا لغيرهم، فإنّ هذا لغيرهم، فإنّ هذا الوضوء. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

يُروى: "هذا وضوئي ووضوء النبيّين من قبلي" 1: ضعيفٌ2، بخلاف الصلاة في المواقيت الخمس؛ فإنّ الأنبياء كانوا يصلون في هذه المواقيت؛ كما قال: "هذا وقتك ووقت الأنبياء قبلك"3. والوسم والسيما: من الوسم؛ متفقان في الاشتقاق الأوسط؛ فإنّ أصل سيما: سُوما. فلما سكنت الواو، انكسر ما قبلها، قُلبت ياءً؛ مثل: ميقات، وميعاد، ونحو ذلك.

_ 1 والحديث أخرجه ابن ماجه في سننه 1146، كتاب الطهارة وسننها، باب ما جاء في الوضوء مرة، ومرتين، وثلاثاً. والإمام أحمد في مسنده 298 ط الحلبي. وفيه قول الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن توضّأ ثلاثاً ثلاثاً: "هذا وضوئي ووضوء المرسلين من قبلي". 2 وهو كما قال؛ لأنّ في إسناده زيد بن الحَوَاري، أبو الحواري العَمِّي البصري، قاضي هراة. ضعّفه ابن معين، وأبو حاتم، وأبو زرعة، والنسائي، وابن عدي. وتؤول أقوال النقاد إلى تضعيفه. انظر: ميزان الاعتدال للذهبي 2102. تهذيب التهذيب لابن حجر 3407-409. وتقريب التهذيب له ص 223. 3 هذا جزء من حديث أخرجه أبو داود في سننه 1274-278، كتاب الصلاة، باب ما جاء في المواقيت. والترمذي في سننه 1278-281، في أول كتاب الصلاة، باب ما جاء في مواقيت الصلاة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال أبو عيسى الترمذي: وحديث ابن عباس حديث حسن صحيح. وصحّحه أيضاً أحمد شاكر في تعليقه على سنن الترمذي 1280، بيد أنّه شرح الحديث بشرح مغاير لما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ إذ قال: "وقت الأنبياء قبلك: أي كانت صلاتهم واسعة الوقت، وذات طرفين؛ مثل هذا، وإلا فلم تكن هذه الصلوات على هذا الميقات إلا لهذه الأمة خاصة، وإن كان غيرهم قد شاركهم في بعضها". والمعنى الذي ذكره شيخ الإسلام رحمه الله أقرب؛ لأنّه الظاهر المتبادر إلى الذهن، أما المعنى الذي ذكره أحمد شاكر رحمه الله فهو بعيد، ولا يُؤيّده لفظ الحديث.

والاسم أيضاً من هذا الباب، وهو علم على المسمّى، ودليلٌ عليه، وآية عليه. وهذا المعنى ظاهرٌ فيه؛ فلذلك قال الكوفيون: [إنّه] 1 مشتق من الوسم، والسمة؛ وهي: العلامة. وقال البصريون: بل هو مشتق من السموّ؛ فإنه يقال في تصغيره: [سمي] 2، لا وُسَيْم، وفي جمعه: أسماء، لا أوسام، وفي تصريفه: سميت، لا [وسمت] 3. وكلا القولين حقّ، لكنّ قول البصريين أتمّ؛ فإنّه مشتق منه على قولهم في الاشتقاق الأصغر؛ وهو: اتفاق اللفظين في الحروف وتأليفها، وعلى قول الكوفيين: هو مشتق منه من الاشتقاق الأوسط؛ وهو: اتفاق اللفظين في الحروف، لا في ترتيبها؛ كما قلنا في الوسم، والسيما. والسموّ: هو العلوّ، والسامي: هو العالي، والعلوّ مستلزم للظهور كما تقدم4؛ فالعالي ظاهرٌ، والظاهر عالٍ؛ فكان الاسم بعلوّه يظهر، فيدلّ على المسمّى؛ لأنّه يظهر باللسان والخطّ، ويظهر للسمع المسمّى، فيُعرف بالقلب. وقد تقدم5 أنّهم يُسمّون الجبال أعلاماً، لما فيها من الظهور. ودلالة الاسم على مُسمّاه دلالة قصدية؛ فإنّ المسمّى يُسمّى بالاسم، ليُعرف به المسمّى، وليدلّ عليه؛ تارة يقصد به الدلالة على مجرد نفسه؛ كالأسماء الأعلام للأشخاص، وتارة يقصد به الدلالة على ما في اللفظ من المعنى؛ كالأسماء المشتقة؛ مثل: العالم، والحيّ، والقادر.

_ 1 في ((خ)) : له. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 في ((خ)) : شيء. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 في ((خ)) : اسمت. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 انظر ص 910 من هذا الكتاب. 5 انظر ص 910 من هذا الكتاب.

ومن هذا الباب: تسمية المعبودين آلهة؛ سمّوها بما لا [تستحقّه] 1؛ كما يُسمّى الجاهل عالماً، والعاجز قادراً، والكذَّاب نبيّاً؛ فلهذا قال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهًا مِنْ سُلْطَان} 2 النوع الثاني من الدلالة القصدية والنوع الثاني من هذه الدلالة القصدية3: أن يقصد الدالّ الدلالة من غير مواطأة مع المستدلين على أنّه دليل، لكن هم يعلمون أَنْ قَصَدَ الدلالة؛ لعلمهم بأحواله؛ مثل: ما يرسل الرجل شيئاً من ملابسه المختصّ به مع شخص، فيعلمون أنّه أرسلها علامة على أنه أرسله. قال سعيد بن جبير: عن ابن عباس: {إِنَّ في ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} 4: قال: العلامة تكون بين الرجل وأهله. راوه ابن المنذر5: حدثنا موسى بن هارون، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا وكيع، عن سفيان، عن سماك، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. ورواه ابن أبي حاتم6: ثنا أبو سعيد؛ ابن يحيى بن سعيد القطان، ثنا أبو أسامة، حدثني سفيان، عن سماك، عن سعيد ابن جبير، عن ابن عباس: {إِنَّ في ذَلِكَ لآيَة} : قال: علامة، ألم تر إلى الرجل إذا أراد أن يرسل إلى أهله في حاجة، أرسل بخاتمه، أو بثوبه، فعرفوا أنّه حق7؛

_ 1 في ((خ)) : يستحقّه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 سورة النجم، الآية 23. 3 تقدّم ذكر النوع الأول من هذه الدلالة في ص 916 من هذا الكتاب. 4 سورة الحجر، الآية 77. 5 انظر الدر المنثور للسيوطي 4103. وكذا انظر تفسير الطبري 1447. 6 لم أقف عليه في الموجود بين أيدينا من تفسير ابن أبي حاتم. وانظر: تفسير الطبري 1447. والدر المنثور للسيوطي 4103. 7 انظر: تفسير الطبري 1447.

فتارة يرسل خاتمه معه، فيعلمون أنه أرسله، ليعلموا أنه أرسله؛ إذ كانوا قد علموا [أنّ] 1 الخاتم معه، وأنّه ليس في إرساله مع ذلك الشخص الذي لا يعرفونه مقصود له، إلا أن يكون علامة على أنّه أرسله إليهم، فيصدقونه فيما أخبر عنه؛ وتارة يرسل معه عمامته، أو نعليه، وقد علموا أنه لا يخلع عمامته ويبعثها مع ذلك الشخص، إلا لتكون علامة على صدقه؛ كما فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم في غزاة الفتح: لمّا كانت راية الخزرج مع [سعد] 2 بن عبادة3، وكان فيه حِدّة، وقال: لا قريش بعد اليوم، اليوم يوم الملحمة، اليوم يستحل الحرمة. قيل للنبي صلى الله عليه وسلم إنّه يُخاف منه أن يضع السيف في أهل مكة، فقال: "قولوا له يُعطي الراية لابنه قيس". فقال: إنّه لا يقبل منه. فقال: "هذه عمامتي، قولوا له: قد أَمَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك"4. فلمّا رأى عمامته مع من جاء بها، [علم أنه] 5 ليس له في إعطائه عمامته مقصود إلا أن تكون علامة، ولم يكن قبل ذلك قد واطأه على ذلك.

_ 1 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 2 في ((ط)) : سعيد. 3 هو سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة بن حرام بن خزيمة بن ثعلبة بن طريف بن الخزرج، سيّد الخزرج. يكنى أبا ثابت. من كبار الصحابة. مات في الشام سنة خمس عشرة، وقيل: ست عشرة. انظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر 235-41. والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 230. 4 ذكر الخبر بطوله ابن عبد البر في كتابه: الاستيعاب في معرفة الأصحاب 238-40، وعزاه إلى ابن إسحاق في مغازيه. وانظر: السيرة النبوية لابن هشام 3406-407. 5 في ((خ)) : علم شخص أنه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

وكذلك لما أعطى أبا هريرة نعليه ليخرج فيبشر الناس بما ذكره له1، فإنّهم إذا رأوا معه نعليه، علموا أنّه لم يعطه [النعلين] 2 إلا علامة. وكذلك قد يكون بين الشخص وبين غيره سر لم يطلع عليه المرسَل، فيقول له: أعطني علامة. فيقول: قل له: بعلامة ما تكلمتَ أنت وهو في كذا وكذا، أو ما فعلت أنت وهو كذا وكذا؛ فيعلم المرسَل إليه أنَ المرسِل هو أعلم هذا الرسول بهذا الأمر؛ إذ كان غيره لم يعلمه، ويعلم أنه ليس له في إعلامه به مقصود إلا أن يكون علامة له على تصديقه. ثم أكثر هذه الآيات التي هي علامات للناس يرسلونها مع من يرسلونه ليعرف صدقه: هي قطيعة عند المستدلّ بها المرسَل إليه؛ من الأهل، والأصدقاء، والوكلاء، والنواب، وغيرهم: يأتيهم الرجل بعلامة وهي مستدلة [بصاحبهم] 3؛ فيعلمون قطعاً أنّ هذا جاء من عنده، ويعلمون قطعاً أنّه لم يرسله بتلك العلامة إلا ليعلموا صدقه. لا يخطر لسعد بن عبادة حين رأى عمامة النبيّ صلى الله عليه وسلم معهم أنهم أخذوها بغير قصده؛ بأن [تكون] 4 [وقعت] 5 منه، ونحو ذلك. بل قد عُلِم أنّها كانت على رأسه، وهو راكب في الجيش، وقد أرسلها مع هذا.

_ 1 وقد أعطاه عليه الصلاة والسلام نعليه، وقال له: "اذهب بنعليَّ هاتين، فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه، فبشّره بالجنّة".. الحديث، وهو طويل، أخرجه الإمام مسلم بطوله في صحيحه 159-61، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً. 2 في ((خ)) النعلان. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 في ((م)) ، و ((ط)) : على حبهم. 4 في ((خ)) : يكون. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 في ((م)) ، و ((ط)) : سقطت.

وكذلك خاتم الشخص الذي يعلمون أنه لا ينزع خاتمه من يده، ويعطيها لغيره، ليعبث بها عنه، وهو لا يختم بها شيئاً إلا لذلك. وقد يقع في مثل ذلك احتمالات، فيستعمل المستدلّون التقسيم؛ فإنّ الاستدلال مداره على أنّه أرسله بالعلامة، وأنّه إنّما أرسله بها ليبيّن صدقه؛ فقد يعرض في المقدمة الأولى أنّه أخذها بغير اختياره، أو أنّ الخاتم سقط منه، أو إن كان مسافراً أنّه قُتِل، أو مات؛ فقد يقع مثل ذلك، وقد يؤخذ خاتم الرجل بغير أمره، ويُختَم به كتابُه؛ كما حُكِي أنّ مروان1 فعل مثل ذلك بعثمان2. والمقدّمة الثانية: أنه قد يرسله بالخاتم ليختم به شيئا، أو ليصلحه، ونحو ذلك. [فإذا عرض مثل هذا الاحتمال وقوي توقفوا] 3، وإن عرفوا انتفاء ذلك؛ مثل: أن يكون قد ذهب من عندهم قريباً، وليس له ما يختم به، ونحو ذلك، قطعوا بأنّه أرسله علامة، ثمّ بعد هذا قد يعلمون أنّه أرسله، لكن قد [يَكْذِبُ] 4 عليه، ولكن العهدة في هذا على المرسِل؛ فإنّ إرسال العلامة هو إعلام منه لهم بأني أرسلته إليكم. فهذا الفعل هو مثل هذا القول، يجري مجرى إعلامهم وإخبارهم بأنّه أرسله، وتصديقه في قوله: هو أرسلني. والإخبار تارة يكون بالقول، وتارة يكون بالعمل؛ كما يُعلم الرجلُ غيرَه بالإشارة بيده، ورأسه، وعينه، وغير ذلك، وإن لم يتقدّم بينهما

_ 1 ابن الحكم. 2 انظر: البداية والنهاية لابن كثير 7182، 188. ومنهاج السنة النبوية لابن تيمية 6244-245، 248-249. 3 ما بين المعقوفتين مكرّر في ((خ)) . 4 في ((خ)) : يكذبون. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

مواضعة، لكن يعلم قصده ضرورة؛ مثل أن يسأله عن شيء: هل كان؟ فيرفع رأسه، أو يخفضه، أو يشير بيده، أو يكون قائماً؛ فيشير إليه: اجلس، أو قاعداً مطلوباً؛ فيشير إليه: أن اهرب، فقد جاء عدوك، أو نحو ذلك من الإشارات التي هي أعمال بالأعضاء؛ وهي تدلّ دلالة ضرورية، تُعلم من قصد الدالّ، كما يدلّ القول، وقد [تكون] 1 أقوى من دلالة القول، لكن دلالة القول أعمّ وأوسع؛ فإنّه يدلّ على الأمور الغائبة، وعلى الأمور المعضلة. وهذه الأدلة العيانية هي أقوى من وجه، ولكن ليس فيها من السعة للمعاني الكثيرة ما في الأقوال.

_ 1 في ((خ)) : يكون. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

فصل الدليل مستلزم للمدلول

فصل الدليل مستلزم للمدلول [وخاصة] 1 الدليل أن يكون مستلزماً للمدلول2. فكلّ ما استلزم شيئاً كان دليلاً عليه، ولا يكون دليلاً إلا إذا كان مستلزماً [له] 3. ثمّ دلالة الدليل [تعلم] 4، كما يُعلم لزوم اللازم للملزوم. وهذا لا بُدّ أن يُعلم بالضرورة، أو بدليل ينتهي إلى الضرورة. وعلى هذا: فآيات الأنبياء هي أدلة صدقهم، وبراهين صدقهم، وهي ما يستلزم صدقهم، ويمتنع وجوده بدون صدقهم؛ فلا يمكن أن يكون ما يدل على النبوّة موجوداً بدون النبوة. ثمّ كونه مستلزماً للنبوة، ودليلاً عليها، يُعلم بالضرورة، أو بما ينتهي إلى الضرورة. فآيات الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه لا تُحَدّ بحدود يدخل فيها غير آياتهم؛ كحدّ بعضهم كالمعتزلة وغيرهم بأنّها5 خرق العادة، ولم يعرف مسمّى هذه العبارة، بل ظنّ أن خوارق السحرة، والكهان، والصالحين:

_ 1 في ((ط)) : خاصة. 2 انظر الكلام على هذه المسألة في: الردّ على المنطقيين ص 296، 348-350. 3 ما بين المعقوفتين ساقط من ((ط)) . 4 في ((خ)) : يعلم. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 أي آيات الأنبياء ومعجزاتهم صلوات الله وسلامه عليهم.

خرقٌ للعادة؛ فكذّبها1؛ وحدّ بعضهم2 بأنّها3 الخارق للعادة، إذا لم يُعارضه أحد. وجعل4 هذا فصلاً احترز به عن تلك الأمور؛ فقال5: المعجزة هي الخارق المقرون بالتحدي بالمثل، مع عدم المعارضة. وجوَّزَ أن يأتي غير الأنبياء بمثل ما أتوا به6 سواء مع المعارضة. [وجعل] 7 ما يأتي به الساحر والكاهن معجزات، مع عدم المعارضة. وحقيقة المعجز هذا ما لم يعارض، ولا حاجة إلى كونه خارقاً للعادة، بل الأمور المعتادة إذا لم تُعارض كانت آية. وهذا باطلٌ قطعاً. ثمّ مسيلمة، والأسود العنسي، وغيرهما، لم يُعارَضوا8.

_ 1 انظر: المغني في أبواب العدل والتوحيد لعبد الجبار المعتزلي 15189. وقد سبق الكلام عن المعتزلة، وموقفهم من معجزات الأنبياء في أول الكتاب ص 147-149. 2 وهم الأشاعرة، وسيأتي استشهاد شيخ الإسلام بكلام رأسٍ كبير من رؤوسهم؛ وهو الباقلاني. 3 أي آيات الأنبياء ومعجزاتهم عليهم الصلاة والسلام. 4 الجاعل هو الباقلاني، وقد ذكره هاهنا لأنّه - أي شيخ الإسلام - أفرد كتابه النبوات للردّ عليه كما مرّ معنا. 5 انظر أقوال أبي بكر الباقلاني في كتابه البيان ص 47-48، 91-96. وقد تقدّم نقل بعض أقواله التي تشبه هذه الأقوال في ص 152-153، 580 من هذا الكتاب. وتقدّمت مناقشة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لهم من أقوالهم، وردّ عليهم. انظر النبوات ص 586-590. 6 يعني الأنبياء. 7 في ((ط)) : وجلع. 8 انظر ما سبق من كتاب النبوات ص 192-193، 272-273، 598-599.

[ثمّ يُقال: ما يعني بعدم المعارضة] 1 في ذلك المكان والزمان؛ فالسحرة والكهان لا يُعارَضون، والعنسي، ومسيلمة لم يعارَضا في مكانهم، ووقت [إغوائهم] 2. وإن قال: لا يُعارَض البتة. فمن أين يعلم هذا العدم؟ فإن قيل: فما آيات الأنبياء؟ قيل: هي آيات الأنبياء التي [يُعلم] 3 أنّها مختصة بالأنبياء، وأنّها مستلزمة لصدقهم، ولا تكون إلا مع صدقهم، وهي لا بُدّ أن تكون خارقةً للعادة، خارجةً عن قدرة الإنس والجن، ولا يمكن أحداً أن يعارضها. لكن كونها خارقة للعادة، ولا تمكن معارضتها: هو من لوازمها ليس هو حداً مطابقاً لها. والعلم بأنها مستلزمة لصدقهم قد يكون ضرورياً؛ كانشقاق القمر، وجعل العصا حية، وخروج الناقة. فمجرد العلم بهذه الآيات يُوجب علماً ضرورياً بأنّ الله جعلها آيةً لصدق هذا الذي استدلّ بها، وذلك يستلزم أنّها خارقة للعادة، وأنّه لا يمكن معارضتها. فهذا4 من جملة صفاتها، لا أنّ هذا وحده كافٍ فيها. وهذا إذا قال مَنْ قال: إنّ فلاناً أرسلني إليكم؛ فإنّه يأتي بما يعلم أنّه علامة. والعلامة، والدليل، والآية، حدّها: أنّها تدلّ على المطلوب. وآيات الأنبياء تدلّ على صدقهم. وهذا لا يكون إلا مع كونها مستلزمةً

_ 1 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 2 في ((خ)) : اغواهم. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 في ((م)) ، و ((ط)) : تعلم. 4 أي خرق العادة وعدم المعارضة.

لصدقهم؛ فيمتنع أن تكون معتادة لغيرهم، ويمتنع أن يأتي من يعارضهم بمثلها، ولا يمتنع أن يأتي نبي آخر بمثلها، ولا أن يأتي من يصدّقهم بمثلها؛ فإنّ تصديقه لهم يتضمن صدقهم، فلم يأت إلا مع صدقهم. وقد تكون الآيات تدلّ على جنس الصدق؛ وهو صدق صاحبها؛ فيلزم صدقه إذا قال: أنا نبي، ولكن يمتنع أن يكون لكاذب. فهذا ونحوه مما ينكشف به حقيقة هذا الباب1، وهو من أهم الأمور. وإذا فُسِّر خرق العادة: بأنها خرق لعادات غير الأنبياء؛ أي لا يكون لغير جنسهم، وجنس من صدَّقهم، وفسَّر عدم المعارضة: بأنّه لا يقدر أن يأتي بها من ليس بنبيّ، أو متبع لنبي، كان المعنى واحداً، واتَّحدت التفاسير الثلاثة2.

_ 1 وهو الفرق بين النبيّ والمتنبي، والصادق من الكاذب، وآيات الأنبياء من خوارق السحرة والكهان. وقد صرّح المؤلف بوجوب معرفة الفروق بين آيات الأنبياء وخوارق غيرهم؛ فقال رحمه الله تعالى: "فينبغي أن يُتدبّر هذا الموضوع، وتُعرف الفروق الكثيرة بين آيات الأنبياء وبين ما يشتبه بها؛ كما يُعرف الفرق بين النبيّ والمتنبئ، وبين ما يجيء به النبيّ، وما يجيء به المتنبئ". انظر ص 173 من هذا الكتاب. وقال أيضاً رحمه الله تعالى: "فإنّ الكلام في المعجزات وخصائصها، والفرق بينها وبين غيرها من أشرف العلوم. وأكثر أهل الكلام خلطوا فيه تخليطاً". قاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان وعبادات أهل الشرك والنفاق ص 164. 2 شيخ الإسلام رحمه الله يوجه تعريف كل من المعتزلة والأشاعرة، وحدّهم لآيات الأنبياء، وما يحمله على القول الصحيح، ويُبيّن أنه لو كان مرادهم بالحدود التي حدّوها هو هذا المعنى، لاتحد تعريف المعتزلة والأشاعرة مع تعريف أهل السنة والجماعة، وكانت التفاسير الثلاثة صحيحة. وتفسير ذلك: أنّ المعتزلة حدوا معجزات الأنبياء بأنها خارقة للعادة، وكذبوا بخوارق الأولياء والسحرة والكهان، ونفوا وجودها، وقالوا: إن خرق العادة لا يكون إلا للأنبياء. والأشاعرة: جعلوا المعجزة هي الخارق المقرون بالتحدي بالمثل، مع عدم المعارضة، وجوزوا أن يأتي غير الأنبياء بمثل ما أتوا به ولو لم يدعوا النبوة، فسووا بين خوارق الأنبياء والأولياء والسحرة والكهان. والشيخ رحمه الله يوضح أن خرق العادة وعدم المعارضة هذا من صفات المعجزة، ليس من حدودها. ولو أنّ المعتزلة فسروا خرق العادة بأنها خرق لعادات غير الأنبياء؛ أي لا يكون لغير جنسهم وجنس من صدّقهم. ولو أنّ الأشاعرة فسروا عدم المعارض بأنه لا يقدر أن يأتي بها من ليس بنبيّ، أو متبع لنبيّ، كان المعنى واحداً، واتفق كل من المعتزلة والأشاعرة مع تعريف أهل السنة والجماعة.

فصل الله سبحانه دل عباده بالدلالة العيانية والدلالات المسموعة

فصل الله سبحانه دل عباده بالدلالة العيانية والدلالات المسموعة والله سبحانه دلّ عباده بالدلالات العيانية المشهودة، والدلالات المسموعة1؛ وهي كلامه. لكنّ عامّتهم تعذَّر عليهم أن يسمعوا كلامه منه، فأرسل إليهم بكلامه رسلاً، وأنزل إليهم كتباً. والمخلوق إذا قصد إعلام من يتعذَّر أن يسمع منه، أرسل إليه رسلاً، وكتب إليه كتباً؛ كما يفعل الناس؛ ولاة الأمور، وغيرهم: يُرسلون إلى من بَعُد عنهم رسولاً، ويكتبون إليه كتباً.

_ 1 سبق أن بيّن شيخ الإسلام رحمه الله قبل ذلك أنّ آيات الله الكونية الفعليّة؛ مثل: المعجزات، والقولية؛ مثل القرآن الكريم. انظر ص 792 من هذا الكتاب.

ثم إنّه سبحانه جعل مع الرسل آيات؛ [هنّ] 1 علامات وبراهين؛ هي أفعال يفعلها مع الرسل، يخصُّهم بها، لا [توجد] 2 لغيرهم؛ فيعلم العباد - لاختصاصهم بها - أنّ ذلك إعلام منه للعباد، وإخبار لهم أنّ هؤلاء رسلي؛ كما يُعلّمهم بكلامه المسموع منه، ومن رسوله. ولهذا قد يعلم برسالة رسول بإخبار رسولٍ أخبر عنه3. وقد يُخبر عن إرساله بكلامه، لمن سمع كلامه منه؛ كما أخبر موسى، وغيره بالوحي الذي يوحيه إليهم. تعريف المعجزة عند شيخ الإسلام فآيات الأنبياء هي علامات وبراهين من الله، [تتضمّن] 4 إعلام الله لعباده وإخباره. [فالدليل] 5؛ وهو الآية، والعلامة: لا تدل إلا إذا كان مختصّاً بالمدلول عليه، مستلزماً له؛ إمّا مساوٍ له، وإما أخصّ منه، لا يكون أعمّ منه غير مستلزم له، فلا يتصوّر أن يوجد الدليل بدون المدلول عليه. فالآيات التي أعلم الله بها رسالة رسله، وصدّقهم، لا بُدّ أن تكون مختصةً بهم، مستلزمةً لصدقهم؛ فإنّ الإعلام والإخبار بأنّ هذا رسول، وتصديقه في قوله: إنّ الله أرسلني، لا يُتصوّر أن يوجد لغير رسول.

_ 1 في ((ط)) : هي. 2 في ((م)) ، و ((ط)) : يوجد. 3 ومن ذلك إخبار عيسى عليه الصلاة والسلام بنبوة نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} . [سورة الصف، الآية 6] . 4 في ((خ)) : يتضمّن. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 في ((خ)) : الدليل. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

والآيات التي جعلها الله علامات: هي إعلامٌ بالفعل الذي قد يكون أقوى من القول، فلا يُتصوّر أن تكون آيات الرسل إلا دالّة على صدقهم، ومدلولها أنّهم صادقون، لا يجوز أن توجد بدون صدق الرسل البتة. وكون الرب أراد بها إعلام عباده بصدقهم، وصدَّقهم بها في إخبارهم أنه [أرسلهم] 1، وكونها آية وعلامة على صدقهم: أمرٌ يُعلم؛ كما [تعلم] 2 دلالة سائر الأدلة؛ كما يَعْلَمُ [مِنَ] 3 [الرَّجُلِ أصدقاؤُهُ] 4، ووكلاؤه أنّه [أرسل] 5 هذا بهذه العلامات؛ فتارة يعلم ذلك بالضرورة بعد تصور الأمر، وتارة يحتاج إلى نظر: هل هذه العلامة منه، أو من غيره؟ وهل هو أرسله بها، أو غيره؟ وهل قصد بها الإعلام، [والتصديق، أم لا] 6؟ وهل يعلم من حال الذاكر أنّه أرسله أنّه صادق؟ فقد يُرسل من يعلمون هم صدقه، وأنّه لا يكذب؛ فيعلمون صدقه بمجرّد قوله: هو أرسلني، من غير آية، ولا علامة. ولهذا إذا قال مَنْ صَدَّقه: إنّه رأى رؤيا: صدّقه، وجزم بصدقه من قد خَبَرَ7 صدقه. والرؤ يا جزءٌ من ستةٍ وأربعين جزءاً من النبوّة8.

_ 1 في ((ط)) : أرسلها. 2 في ((خ)) : يعلم. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 4 في ((خ)) : الرجل وأصدقاؤه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 في ((خ)) : أرسله. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 6 في ((خ)) : والتصديق أو لا؟ وتارة يحتاج إلى نظر: هل هذه العلامة منه، أو من غيره؟ وفيها تكرار لجملة سابقة، وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 7 عَرَفَ. 8 يُشير إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رؤيا المؤمن جزءٌ من ستةٍ وأربعين جزءاً من النبوة".. الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 62562، كتاب التعبير، باب رؤيا الصالحين. ومسلم في صحيحه 41773، كتاب الرؤيا. وأحمد في المسند 218، 50، 229. وانظر كلام الحافظ ابن حجر في فتح الباري (12390) على هذا الحديث.

وكذلك لو أخبر بغير ذلك؛ كما أخبر عمران بن حصين1 أنّ الملائكة تسلم عليه2، فلم يشكّ الذين أخبرهم في صدقه، من غير آية. فمن كان يعلم صدق موسى، والمسيح، ومحمد، وغيرهم، وأنّهم لا يكذبون في أخفّ الأمور، فكيف بالكذب على الله؟ إذا أخبرهم أحدهم بما جاءه من الوحي والرسالة، وما غاب من الملائكة؛ فإنّه قد يجزم بصدقه، من غير آية، لا سيما إن كان ما يقوله لهم مما يؤيّد صدقه. ولهذا لم يكن من شرط الإيمان بالأنبياء وجود الآيات، بل قد يعلم صدقهم بدون ذلك؛ كما قد بُيِّن في موضعٍ آخر3. وتارة يحتاجون إلى العلامة، وتارة يعلمون كذبه بأن يذكر عن صاحبهم ما يعلمون هم خلافه، ويصفه بما علموا نقيضه. وقد يظهر لهم من قصده أنّه كذّاب، ملبِّس، طالب أغراض له؛ إمّا مال يعطونه، أو ولاية يولّونه، أو

_ 1 هو عمران بن حصين بن عبيد بن خلف الخزاعي، أبو نجيد. أسلم عام خيبر، وروى أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من فضلاء الصحابة. تحوّل إلى البصرة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وولي قضاءها، وكان يُفقّه أهلها. وكان مجاب الدعوة. ولما حصلت الفتنة اعتزلها. توفي في البصرة سنة 52 ?. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 2508. والأعلام للزركلي 570. 2 ابن الجوزي صفة الصفوة 1681، وابن الأثير في أسد الغابة رقم (796) ص 548. انظر: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان لابن تيمية ص 301. 3 سبق ذلك مراراً في كتب شيخ الإسلام رحمه الله؛ سيما كتابه النبوات؛ فقد ذكر فيه رحمه الله طرقاً كثيرة في الدلالة على صدق الأنبياء، غير طريق المعجزة. وانظر: الجواب الصحيح 56.

امرأة يزوجونه بها، أو غير ذلك من أغراض النفوس؛ فيسألونه عن مقصوده، فإذا عرفوا مقصوده، فقد يعلمون كذبه أو صدقه. ومثل هذا كثيرٌ في عادات الناس؛ فكثيراً ما يجيء الرجل بما يزعم أنّه علامة، وتكون مشتركة1. فيقال له: ما تريد؟ فيذكر مراده، فيعلمون كذبه. فدلائل الصدق والكذب لا تنحصر كدلائل الحب والبغض، هي كثيرة جداً، وهذا يعرفه من جرَّب عادات الناس.

_ 1 يأتي بها النبيّ، وغير النبيّ.

فصل آيات الأنبياء دليل وبرهان

فصل آيات الأنبياء دليل وبرهان فالآيات التي تكون آيات للأنبياء: هي دليلٌ وبُرهان. والله تعالى سمّاها برهاناً في قوله لموسى: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ} 1؛ وهي العصا واليد2. وسماها برهاناً [و] 3آيات في مواضع كثيرة من القرآن4. فحدّها حدّ الدليل والبرهان؛ وهي أن تكون مستلزمة لصدق النبيّ، فلا يتصور أن [توجد] 5 مع انتفاء [صدق] 6 من أخبر أنّ الله أرسله. فليس له إلاَّ حالان: إمّا أن يكون الله أرسله، فيكون صادقاً، أو لا يكون أرسله، فلا يكون صادقاً. فآيات الصدق لا توجد إلا مع أحد النقيضين؛ وهو الصدق، لا [توجد] 7

_ 1 سورة القصص، الآية 32. 2 وهو قول المفسرين جميعاً. انظر: زاد المسير لابن الجوزي 6220-221. 3 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 4 من ذلك: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [سورة النساء، الآية 174] . وقول صالح عليه السلام لقومه كما حكى الله تعالى عنه: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ} [سورة الأعراف، الآية 73] . والأدلة على ذلك كثيرة جداً، أكثر من أن يجمعها محلّ واحد. وقد سبق ذكر كثير منها في هذا الكتاب؛ انظر ص 251. 5 في ((خ)) : يوجد. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 6 في ((خ)) : صدقه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 7 في ((خ)) : يوجد. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

قطّ مع الآخر؛ وهو انتفاء الصدق؛ كسائر الأدلة؛ التي هي: البراهين، والآيات، والعلامة؛ فإنّها لا توجد إلا مع تحقّق المدلول عليه، لا توجد مع عدمه قط؛ إذ كانت مستلزمة له؛ يلزم من وجود الدليل، وجود المدلول عليه؛ فلا يوجد الدليل مع عدم المدلول عليه؛ فلا توجد آياتهم مع عدم صدقهم. فيجب أن يُتصوَّر هذا الموضع؛ فإنّه حقٌ، معلومٌ بعد تصوّره لكل العقلاء بالضرورة، فلا يمكن أحداً كذَّب النبي أن يأتي بمثلها؛ فإنّه لو أتى بمثلها، مع تكذيب النبيّ، لكانت قد وجدت مع قوله: إنّي صادق، ومع قول هذا المكذِّب: إنّه كاذب؛ فلم [تختصّ] 1 بصدقه، ولم تستلزمه؛ فلا يلزم إذا قال: إني صادق، أن يكون صادقاً، وهذا قد أتى بمثل ما أتى به، وقال: إنّه كاذب. ولا يكون إعلاماً من الله لعباده، وإخباراً لهم: بأنّي أرسلته، ولا تصديقاً له؛ كما لو قال رجلٌ: إنّ فلاناً أرسلني، وجاء بعلامةٍ ذكر أنّه خصّه بها؛ مثل أن يقول: العلامة أنه أعطاني خاتمه، فيقول المكذِّب: وأنا أيضاً أعطاني خاتمه الأخرى لأصلحها له، أو لأختم بها كذا، وأنت إنّما أعطاك خاتمه لتصلحها، أو [تختم] 2 بها. فإذا أتى المكذِّب له بمثل ما أتى به، امتنع كونها آية. ولكن لو كان قد [جاءهم] 3 بالخاتم غيره لأمرٍ آخرَ أرسله [له] 4، لم

_ 1 في ((م)) ، و ((ط)) : يختصّ. 2 في ((خ)) : يختم. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 في ((م)) ، و ((ط)) : جاء. 4 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .

يمتنع ذلك، بل قد جرت عادته معهم: بأنّه من أرسله، يُرسل معه خاتمه؛ فقد صار إرسال الخاتم عادة له، يدلّ على صدق من أرسله؛ فهو يُميِّز رسله بالخاتم، لا يخصّ بها واحداً منهم، وهي عادة منه لرسله، ليست لغيرهم؛ لا عادة، ولا غير عادة. فهذا شأن الآيات والعلامات التي يقصد الدالّ بها أن يدلّ بها.

فصل الله تعالى سماها آيات وبراهين ولم يسمها معجزات

فصل الله تعالى سماها آيات وبراهين ولم يسمها معجزات ... فصل الله تعالى سمها آيات وبراهين ولم يسمها معجزات والله تعالى سمّاها آيات وبراهين1، وهو اسمٌ مطابق لمسمّاه، مطّرد لا ينتقض، فلا [تكون] 2 قطّ إلاّ آيات لهم وبراهين. أقوال الناس في تسمية آيات الأنبياء خوارق وأما تسميتها بخرق العادة: فللنّاس في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أنّ ذلك حدّ لها مطّرد منعكس؛ فكلّ خرق [هو] 3 معجزة للنبي، فهو خرق عادة4. والثاني5: أنّ خرق العادة شرطٌ فيها، وليس بحدّ لها، فيجب أن [تكون] 6 خارقة لعادة، ولكن ليس كلّ خارق للعادة يكون آيةً لنبيّ؛

_ 1 قال شيخ الإسلام رحمه الله: "لم يكن لفظ المعجزات موجوداً في الكتاب والسنة، وإنما فيه لفظ الآية والبينة والبرهان ... ". ثم ذكر رحمه الله الأدلة من القرآن الكريم على ذلك. انظر: الجواب الصحيح 5412-419. وسبق أن تكلم شيخ الإسلام رحمه الله عن هذا الموضوع في هذا الكتاب. انظر ص 251، 939. 2 في ((خ)) : يكون. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 في ((خ)) : فهو. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 وهذا قول المعتزلة الذين ينكرون كرامات الأولياء، وخوارق السحرة. انظر هذا الكتاب - النبوات - ص (147-151، 929-932) . 5 وهذا القول هو الذي يؤيّده شيخ الإسلام رحمه الله تعالى. وسبق أن استوفى - رحمه الله - هذا المعنى في هذا الكتاب ص 187. انظر ص 188-199، 249-250، 929-932. 6 في ((خ)) : يكون. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

كأشراط الساعة، بل أن يقع على وجه مخصوص؛ مثل دعوى النبوة، والاستدلال بها، والتحدي بمثلها، مع عجز الناس عن معارضته. والقول الثالث: أنّ كونها خارقة للعادة ليس بحدّ، ولا شرط1. قال القاضي أبو بكر في مناظرته في الكرامات2: ويقال لهم أيضاً: إنّ من الناس من لا يشترط في الآية المعجزة أن تكون خارقة للعادة، ويقول: إنّما [تكون] 3 آية إذا كانت من فعل الله، مع التحدي بمثلها، ودعوى النبوة. فدلالتها على وجه لا يمكن أن يشترك في ادّعائه الصادق والكاذب، فإذا ظهرت على هذا الوجه، كانت آية لمن فُعِلت على يده. قال المجيبون بهذا4، ولهذا لم تكن أشراط الساعة آيةً لأحد، وإن خرقت العادة؛ إذ لم يكن معها دعوى نبوة، ولأنّ موتَ زيد عند قول الرسول: آيتي أن يميت الله زيداً عند دعائي: موتُه. فإذا مات عند دعوته، صار ذلك آية له، وإن كان فعل الموت في الإنسان وغيره من الحيوان معتاداً. قال5: [أو إن] 6 قالوا: لو كان كذلك، لكان من قال: آيتي أن

_ 1 وهذا قول الأشاعرة. انظر: الجواب الصحيح 6400. وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 405، 407. 2 هذا من القسم المفقود من كتاب الباقلاني: البيان. وسبق أن نقل شيخ الإسلام رحمه الله هذا الكلام عن الباقلاني في ص 486. وقد أشار الباقلاني في كتابه البيان إلى أنّه سيفرد باباً في الكرامات. انظر: البيان ص 7، 48. 3 في ((خ)) : يكون. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 وهم الأشاعرة. انظر: أصول الدين للبغدادي ص 170. وانظر ما سبق في كتاب ((النبوات)) ص 593-594، 644. 5 أي الباقلاني. 6 في ((م)) ، و ((ط)) : إن.

[تطلع] 1 الشمس وتغرب، ويأتي الليل والنهار والضياء والظلام، وفَعَلَ ذلك مع دعواه الرسالة، كان آية له، وإن لم يكن المفعول من ذلك خارقاً للعادة. فلمّا لم يكن كذلك، وإن كان [واقعاً] 2 من فعل الله مع دعوى النبوة؛ لكونه غير خارق للعادة، بطل ما قلتموه؟ يقال لهم: قد أجبنا عن هذا حين قلنا: ويكون الواقع من فعل الله مع دعوى النبوة، مما لا يشترك فيه الصادق والكاذب، ويستوي مع ظهوره دعوى المحق والمبطل، وطلوع الشمس وغروبها. ولو قال النبي: آيتي أن يظلّنا السحاب الساعة، و [تزلزل] 3 الأرض، وتحدث الأمطار، بدعوى، فحدث ذلك، لكان آيةً له. وإن كان مثل ذلك قد يحدث في العصر ويُشاهد، فإذا قال المتنبي: [إنّني] 4 مُعَارِضُه، وآيتي في كوني نبيّاً ظهور مثل ذلك، مُنع منه ولم يحدث5.

_ 1 في ((خ)) : يطلع. وما اثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 في ((خ)) : "فاقعا". وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 في ((خ)) : تزلزله. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 في ((خ)) : آيتي. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 يُوجد هذا الكلام بمعناه ومفهومه، لا بنصه ومنطوقه في كتاب البيان للباقلاني ص 47-48. ولفظه هناك؛ قال الباقلاني: "فصل: وأما ما يدل على أنه لا يكون معجزاً إلا إذا فُعل عند احتجاج الرسول به لصدقه وتحديه بمثله، فهو أنه قد ثبت أنه ليس بمعجز لجنسه، وأن الله عز وجل لو ابتدأ بفعله؛ نحو أن يُحيي ميتاً، ويطلع الشمس من مغربها، ويزلزل الأرض، ويظلنا بالسحاب، لا عند دعوى أحد للرسالة. وكون ذلك آية له لم يكن ما يفعله الله سبحانه من ذلك معجزاً، وإن كان من جنس المعجز، فلذلك لا يكون إحياء الأموات يوم القيامة، وإطلاع الشمس من مغربها، وطيّ السموات، وأمثال ذلك من آيات الساعة آية لأحد، وإن كان مثله، وما هو من جنسه لو فعل في وقتنا هذا عند تحدي الرسول، لكان آية له، وحجة لنبوته، فهذا أقوى الأدلة، وأصحها على أن المعجز ليس بمعجز لجنسه ونفسه، ولا بحدوثها، وإنما يصير معجزاً للوجوه التي ذكرناها، ومنها التحدي والاحتجاج". البيان ص 47-48. وانظر: الإرشاد للجويني ص 319، 328، 331. وانظر ما سبق من كتاب ((النبوات)) ص 644.

مناقشة شيخ الإسلام للباقلاني قلت1: هذا الذي ذكروه، هو أيضاً خرق للعادة؛ فإنّ ظهور مثل ذلك على هذا الوجه مّما لم تَجْرِ بِهِ العادة، وهو نفسه القاضي أبو بكر في هذا الكتاب؛ ((كتاب البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات والحيل و [الكهانة] 2 والسحر والنيرنجيّات)) ، قد قال: قيل: هذا باب القول في معنى العادة وانخراقها، والعادة التي إذا انخرقت دلّت على صدق الرسل، والاعتياد للأمر، وتفصيل ذلك وتنزيله3: اعلموا رحمكم الله4 أنّ الكل من سائر الأمم قد شرطوا في صفة [المعجز: أن] 5 يكون خارقا للعادة. وإذا6 كان ذلك واجباً، وجب معرفة هذه العادة، ومعرفة انخراقها7.

_ 1 القائل هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى. 2 في ((خ)) : الكهان. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 الذي في البيان للباقلاني: عنوان: "القول في معنى العادة، وانخراقها، والعادة التي إذا انخرقت دلّت على صدق الرسل والاعتياد للأمر والأمر المعتاد وتفصيل ذلك وتنزيله". ثم عنوان: فصل. انظر: البيان للباقلاني ص 50. 4 في البيان للباقلاني: وفقكم الله. 5 في ((خ)) ، و ((م)) ، و ((ط)) : المعجزات. وما أثبت من البيان للباقلاني. 6 في البيان: فإذا. 7 البيان للباقلاني ص 50. وسبق أن نقل شيخ الإسلام رحمه الله تعالى هذا النص في هذا الكتاب، انظر ص 660.

فقد [حكى] 1 هنا الإجماع، وهناك صرّح بالاختلاف2، وقوَّى ذلك القول. وسبب ذلك: اضطرابهم في معنى العادة وانخراقها؛ فإنّ كلّ قوم يفهمون غير ما يفهمه الآخرون، والله تعالى إنما سماها آيات3. وهذا القول الذي ذكره وقوّاه، وهو: لا يشترط فيها أن تكون خارقة للعادة: هو حقيقة قول القاضي4، وأمثاله؛ من المتكلمين الأشعرية، ومن وافقهم؛ كالقاضي أبي يعلى، وأمثاله؛ فإن المعجزات عندهم لا تختص بجنس من الأجناس المقدورات، بل خاصّتها أنّ النبي يحتجّ بها، ويتحدّى بمثلها، فلا يمكن معارضته؛ فاشترطوا لها5 [وصفين] 6: أن تكون مقترنة بدعوى النبوة، وجعلوا المدلول جزءاً من الدليل، وأنّها لا تعارض. وبالأول: فرّقوا بينها وبين الكرامات. وبه7 وبالثاني: فرّقوا بينها وبين السحر والكهانة.

_ 1 في ((ط)) : حكي. 2 أي في النقل السابق عن الباقلاني، وهو من القسم المفقود من كتابه البيان. انظر ص 49. 3 انظر: الجواب الصحيح 5412. وانظر النبوات ص 251. 4 قال الباقلاني في صفات المعجزات: "والوجه الثاني: أن يكون ذلك الشيء الذي يظهر على أيديهم مما يخرق العادة وينقضها، ومتى لم يكن كذلك لم يكن معجزاً". البيان للباقلاني ص 45. 5 انظر: البيان للباقلاني ص 47-48. والإرشاد للجويني ص 312-313، 319. وأصول الدين للبغدادي ص 170. والمواقف للإيجي ص 339. وشرح المقاصد للتفتازاني 511. 6 في ((خ)) : تصفين. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 7 أي بالشرط الأول.

وصرّحوا بأنّ جميع خوارق السحرة والكهان يجوز أن تكون معجزة لنبيّ، لكن إذا كانت معجزة لم تمكن معارضتها. فلو ادّعى ساحر أو كاهن النبوة، لكان الله يعجزه عن تلك الخوارق1، قد عُلم أنّ غيره من السحرة والكهّان يفعل مثلها، وليس بنبيّ. وما يأتي به الأنبياء من المعجزات جوّزوا أن [يأتي] 2 بمثله الساحر والكاهن، إلا ما منع منه السمع؛ للإجماع3 على أنّ الساحر لا يقلب العصا حية4. وهذا الفرق ليس لما يختص به أحد النوعين، ولا ضابط له. وصرّحوا بأنه لا يستثنى من الخوارق، إلا ما انعقد عليه الإجماع5. وصرّحوا بأن العجائب [الطبيعية] 6؛ مثل جذب حجر المغناطيس الحديدَ: يجوز أن يكون معجزة، لكن بشرط أن لا يعارض7. وكذلك الطلاسم، وكذلك الأمور المعتادة: يجوز أن تكون معجزة بشرط أن يمنع غيره منها، فتكون المعجزة منع المعتاد8. فالخاصة عندهم فيها9: أنّها لا تعارض، وأنها تقترن بدعوى النبوة.

_ (1 انظر: البيان للباقلاني ص 94-96. 2 في ((خ)) : يأتوا. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 انظر: البيان للباقلاني ص 91. والإرشاد للجويني ص 322-323. 4 انظر: البيان للباقلاني ص 91. 5 انظر: البيان للباقلاني ص 91. 6 في ((م)) ، و ((ط)) : الطبعية. 7 انظر: البيان للباقلاني ص 98. 8 انظر: البيان للباقلاني ص 99، 100-101. 9 أي خاصة المعجزة وحقيقتها.

وقد يشترطون أن تكون خارقة للعادة، لكن يكتفون بمنع المعارض1؛ فهو وحده خرق للعادة؛ فلا يشترطون هذا وهذا. وقد اشترط القاضي أبو بكر أن يكون مما يختص الربّ بالقدرة عليه2. ولا حقيقة له؛ فإن جميع الحوادث كذلك عندهم3، وكل ما [خرج] 4 عن محل قدرة العبد، فالرب عندهم مختصّ بفعله؛ كخوارق السحرة والكهان5. وحقيقة الأمر: أنّه لا فرق عندهم بين المعجزات والكرامات، والسحر والكهانة، لكنّ هذه إذا لم تقترن بدعوى النبوة لم [تكن] 6 آية، وإذا اقترنت بها كانت آية، بشرط أن لا تعارض7. حقيقة قول الأشاعرة في النبوة ثمّ إنّه8 لمّا أثبت النبوة، قال: إنّه يجوز على النبي فعل كل شيء من

_ 1 انظر: البيان للباقلاني ص 47-48. 2 انظر: البيان للباقلاني ص 8، 45، 54. وأصول الدين للبغدادي ص 176. 3 انظر: الإرشاد للجويني ص 319، 322. وأصول الدين للبغدادي ص 134، 176. وسبق أن قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى معلقاً على ذلك: "إنّ المتأخرين من الأشعرية؛ كأبي المعالي، والرازي، والآمدي، وغيرهم حذفوا شرط كون المعجزة مما ينفرد الرب بالقدرة عليها، وقالوا: كلّ حادثٍ فهو مقدور للرب". النبوات ص 250-251، 718-732. 4 في ((ط)) : خرجخ. 5 انظر: الإرشاد للجويني ص 319، 322. والبيان للباقلاني ص 88-90. 6 في ((خ)) : يكن. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 7 انظر الإرشاد للجويني ص 322. والبيان للباقلاني ص 91. 8 يعني القاضي أبا بكر الباقلاني.

الكبائر، إلا أن يمنع من ذلك سمع1. كما قال: كلّ ما كان معجزة للأنبياء، يجوز أن يأتي به الساحر، إلا أن يمنع منه سمع2؛ إذ كان في نفس الأمر لا فرق بين فعل وفعل، بل يجوز من الربّ كلّ شيء؛ فيجوز أن يبعث كلّ أحد، ولا يقيم على نبوته دليلاً3. هذا حقيقة قولهم: إنّه يجوز أن يبعث كلّ أحد، وأنّه إذا بعثه لا يُقيم دليلاً على نبوته، بل يُلزِم العباد بتصديقه، بلا دليلٍ يدلهم على صدقه. تعريف الأشاعرة للمعجزة، ورد شيخ الإسلام عليهم بجوابين فإن غاية هذا: تكليف ما لا يطاق، وهم يجوّزونه4. وهذا الذي قالوه: باطلٌ من وجوه متعددة، قد بُسطت في غير هذا الموضع5.

_ 1 سبق هذا الكلام. انظر: النبوات ص 573-574، 732. والمواقف للإيجي ص 358-359. 2 انظر: البيان للباقلاني ص 91. والإرشاد للجويني ص 322، 323، 328. 3 سبق الكلام في ذلك. انظر ما سبق في هذا الكتاب ص 573-575. 4 أي الأشاعرة. وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 573-574. وانظر أيضاً: الإنصاف للباقلاني ص 74-77. والإرشاد للجويني ص 226- 228، 280، 326-327. والاقتصاد في الاعتقاد للغزالي ص 112-114. وقواعد العقائد له ص 203-204. ومعالم أصول الدين للرازي ص 85-86. وقال الإيجي: (تكليف ما لا يُطاق جائز عندنا لما قدمنا ... من أنه لا يجب عليه شيء، ولا يقبح منه شيء، إذ يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا معقب لحكمه) . المواقف للإيجي ص 330-331. 5 انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 8295-302، 348، 472-474. ودرء تعارض العقل والنقل 163-65. وجامع الرسائل 1123-124.

منها: أنّهم جعلوا المدلول عليه؛ وهو إخبار النبي بنبوته، وشهودها، وثبوتها: جزءاً من الدليل؛ قالوا: لأنّها لو كانت معجزة لجنسها، لم تقع إلا معجزة، والخوارق التي تكون أمام الساعة، ليست معجزة لأحد. فعُلِم أن الدليل هو مجموع دعوى النبوة، والخارق1. والجواب عن هذا من وجهين: أحدهما: أنّ تلك من آيات الله تعالى؛ فالخوارق التي لا يقدر عليها العباد: كلّها آيات [لله] 2 تعالى، وهي دالة على ما يظهر دلالتها عليه؛ تارة [تكون] 3 تخويفاً؛ [كما] 4 قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله وإنّهما لا [ينكسفان] 5 لموت أحدٍ، ولا لحياته، ولكنّهما آيتان من آيات الله يُخوّف الله بهما عباده" 6. والتخويف يتضمن: الأمر [بطاعته، والنهي] 7 عن معصيته. وأشراط الساعة آيات على قربها، وعلى جزاء الأعمال، وهو يتضمن الأمر بالطاعة، والنهي عن المعصية8.

_ 1 انظر: البيان للباقلاني ص 47-48. وأصول الدين للبغدادي ص 170، 178. والإرشاد للجويني ص 319. وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 586، 593، 653. والجواب الصحيح 6400. 2 في ((ط)) : الله. 3 في ((خ)) : يكون. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 في ((خ)) : وكما - بزيادة الواو -، وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 في ((م)) ، و ((ط)) : تنكسفان. 6 سبق تخريجه ص 882. 7 في ((خ)) : بالطاعة والأمر والنهي. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 8 سبق نحو هذا الكلام في ص 597، 942.

والثاني: أن يقال: هي آيات على صدق الأنبياء؛ فإنهم أخبروا بها، وهي آية على ما أخبروا به، وعلى صدقهم. عامة معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يتحدى بها وأيضا: فإنّ عامّة معجزات الرسول لم يكن يتحدى بها، ويقول ائتوا بمثلها. والقرآن إنما تحداهم لما قالوا إنه [افتراه] 1، ولم يتحدّاهم به ابتداءً، وسائر المعجزات لم يتحدّ بها، وليس فيما نقل تحدّ إلا بالقرآن2، لكن قد عُلم أنهم لا يأتون بمثل آيات الأنبياء. فهذا لازمٌ لها، لكن ليس من شرط ذلك أن يقارن خبره. آيات الأنبياء منها ما يكون قبل ولادتهم ومنها ما يكون بعد موتهم وأيضا: فمن آيات الأنبياء ما كان قبل ولادتهم، وقبل أنبيائهم، وما يكون بعد موتهم3؛ فإن الآية [هي] 4 دليل على صدق الخبر بأنّه رسول الله، وهذا الدليل لا يختص؛ لا بمكان، ولا زمان، ولا يكون هذا الدليل إلا من جنسٍ لا يقدر عليه الإنس كلهم، ولا الجنّ، فلا بُدّ أن يكون جنسه معجزاً أعجز الإنس والجنّ. وأما قولهم: خاصّة المعجز عدم المعارضة5: فهذا باطلٌ، وإن كان عدم المعارضة لازماً له، فإنّ هذا العدم لا يعلم، إذ يمكن أن يعارضه من ليس هناك إذا كان مما يعلم أنّه معتاد؛ مثل خوارق السحرة، والكهان؛ فإنّه

_ 1 في ((خ)) : افترا. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 سبق مثل ذلك في هذا الكتاب. انظر ص 652، 725. 3 ولشيخ الإسلام رحمه الله تعالى كلام حول هذا الموضوع. انظر الجواب الصحيح 6380. 4 ما بين المعقوفتين ليس في ((م)) ، و ((ط)) . 5 انظر: البيان للباقلاني ص 19-20. والإرشاد للجويني ص 312-313، 319. وأصول الدين للبغدادي ص170. وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 588، 591.

وإن لم [يمكن] 1 أن يُعارض في هذا الموضع، ففي السحرة والكهان من يفعل مثلها، مع أنه ليس بنبي. تعريف الأشاعرة لدليل النبوة ودليل النبوة يمتنع ثبوته بدون النبوة، وإذا قالوا: الدليل هو: مجموع الدعوى، والدليل2: تَبين [خطؤهم] 3، وأنّ القوم لم يعرفوا دلائل النبوة، ولا أقاموا دليلاً على نبوّة الأنبياء، كما لم يقيموا دليلاً على وجود الرب؛ فليس في كتبهم ما يدل على الربّ تعالى، ولا على رسوله، مع أنّ هذا هو المقصود من أصول الدين4. الأشاعرة لم يقيموا دليلاً على ثبوت الأنبياء ووجود الرب تعالى وأيضاً: فمسيلمة، والعنسي: لم يكن عندهما من يعارضهما. وأيضاً: فالمعارض إن اعتبروه في المدعوين، وهذا مقتضى في خرق العادة، وأن العادات تختلف، فلكل قوم عادة. قالوا5: فالمعتبر خرق عادة من أُرسِل إليهم. وعلى هذا: فإذا أرسل إلى بني إسرائيل، ففعل ما لم يقدروا عليه، كان آية، وإن كان ذلك مما يقدر عليه العرب، ويقدر عليه السحرة والكهان. وصرحوا بأنّ السحر الذي قال الله فيه: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} 6: يجوز أن يكون من معجزات الأنبياء إذا لم

_ 1 في ((م)) ، و ((ط)) : يكن. 2 انظر ما سبق في هذا الكتاب ص 593، 653، 949-950. وانظر الجواب الصحيح 6500. 3 في ((م)) ، و ((ط)) : خطأهم. 4 يقصد شيخ الإسلام رحمه الله بهذا الكلام الأشاعرة. وقد سبق نحو هذا الكلام في ص 611، 754-756 من هذا الكتاب. 5 انظر: البيان للباقلاني ص 52-55. 6 سورة البقرة، الآية 102.

يعارض1، وقد قال الرازي: إنّ السمعيات لا يُحتجّ بها؛ لأنّ دلالتها مشروطة بعدم المعارض العقلي، وذلك غير معلوم2. وكذلك يقال في معجزات هؤلاء أنّ خاصتها عدم المعارضة. فإن اعتبروا أنّ أحداً من الخلق لا يُعارض، فهذا لا يُعلم. وإن اكتفوا بأن لا يعارض في ذلك المكان والزمان، فكثير من الصناعات، والعجائب، والعلوم من هذا الباب. وهم لا ينكرون هذا، بل يقولون: المعجز هو هذا، مع دعوى النبوة. وقد تبيَّن أنَّ الشيء في نفسه إذا لم يكن دليلاً، لم يصر دليلاً باستدلال المستدلّ به، بل هو في نفسه دليل، وإن لم يستدل به؛ [إذ] 3 كان الدليل هو المستلزم للمدلول؛ فدليل صدق النبيّ هو يدلّ على أنّه نبيّ، وأنّ الخبر بنبوته صدق، وإن كان هو لا يستدلّ بذلك، ولا يتحدى بمثلها، وقد لا يخبره بنبوة نفسه، ويكون له دلائل تدلّ على نبوته؛ كما كانت قبل أن يولد، وفي الأمكنة البعيدة. فتبين أنّ قول هؤلاء [هو] 4: أنّه لا يُعلم ما يُستدلّ به على نبوة الأنبياء5.

_ 1 سبق هذا الكلام في هذا الكتاب ص 156، 586-588. وانظر: البيان للباقلاني ص 94-96. والإرشاد للجويني ص 327-328. 2 سبق نقل ذلك عن الرازي في هذا الكتاب ص 652. 3 في ((ط)) : إذا. 4 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 5 من أصول الأشاعرة في النبوات.

وهذا إذا انضمّ إلى أصلهم؛ وهو: أنّ الرب يجوز عليه فعل كلّ شيء1، صارا شاهدين: بانّه على أصلهم لا دليل على النبوة؛ [إذ] 2 كان عندهم لا فرق بين فعل من الرب وفعل. وعندهم: لا فرق بين جنس وجنس في اختصاصه بالأنبياء به، فليس في أجناس المعقولات ما يكون آيةً تختص بالأنبياء، فيستلزم نبوتهم. بل ما كان لهم قد يكون [عند غيرهم] 3، حتى للسحرة والكهان، وهم أعداؤهم. فَرّقوا بعدم المعارضة، وهذا فرق غير معلوم، وهو مجرد دعوى. الفرق بين النبي والساحر عند الأشاعرة قالوا: لو ادّعى الساحر والكاهن النبوّة، لكان الله يُنسيه الكهانة والسحر، ولكان له من يعارضه4؛ لأنّ السحر والكهانه هي معجزة عندهم. وفي هذه الأقوال من الفساد عقلاً وشرعاً، ومن المناقضة لدين الإسلام، وللحق ما يطول وصفه. ولا ريب أنّ قول من أنكر وجود هذه الخوارق5 أقلّ فساداً من هذا. ولهذا يشنع عليهم ابن حزم وغيره بالشناعات العظيمة6.

_ 1 سبق توضيح هذا الأصل عند الأشاعرة، وأنّهم به قد نفوا الحكمة عن الله تعالى، وجوّزوا عليه فعل كلّ قبيح. انظر ص 152، 268، 335، 566 من هذا الكتاب. 2 في ((خ)) : ان. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 في ((خ)) : عندهم. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 سبق ذكر ذلك مراراً. وانظر: البيان للباقلاني ص 94-95. 5 وهم المعتزلة، وابن حزم؛ فقد أنكروا الخوارق للأولياء وللسحرة على السواء. 6 سبقت الإشارة إلى ذلك في ص 266. وقد ردّ ابن حزم رحمه الله على الأشاعرة في تفريقهم بين المعجزات والسحر، وأطال في ذلك. انظر: الفصل له 52-9.

الفرق بين المعجزات والسحر عند الأشاعرة ولهذا يقيم أكابر فضلائهم مدة يطلبون الفرق بين المعجزات والسحر، فلا يجدون فرقاً؛ إذ لا فرق عندهم في نفس الأمر1.

_ 1 الفروق التي ذكرها الأشاعرة بين المعجزات وخوارق السحرة فروق ضعيفة، لا تميّز بين المعجزة والسحر. ويمكن أن نذكر ها هنا بعض أقوال أئمة الأشاعرة التي توضّح بعضاً من هذه الفروق التي ذكروها. وقد أورد الباقلاني سؤالاً، وهو: "ما الفصل بين السحر والمعجز؟ ". ثمّ أجاب بقوله: "إنّ من حق المعجز أن لا يكون معجزاً حتى يكون واقعاً من فعل الله سبحانه وتعالى على حد خرق عادة البشر، مع تحدي الرسول عليه السلام بالإتيان بمثله، وتقريع مخالفه بتعذر مثله عليه. فمتى وجد الشيء الذي ينفرد الله سبحانه بالقدرة عليه على حد العادة، على غير تحدي نبيّ به، واحتجاج لنبوته بظهوره، لم يكن معجزاً ... فإذا كان ذلك ... كذلك، خرج السحر عن أن يكون معجزاً مشبهاً لآيات الرسل، وإن كان ما يظهر عند فعل الساحر من جنس بعض معجزات الرسل، وما يفعله الله تعالى عند تحديهم به. غير أنّ الساحر إذا احتج بالسحر، وادّعى به النبوة، أبطله الله عليه بوجهين" ... ثمّ ذكر هذين الوجهين، وهما: أن يُنسيه الله عمل السحر. والوجه الثاني: أن يوجد من السحرة من يعارضون هذا الساحر المدعي للنبوة. انظر البيان للباقلاني ص 94-95. إذاً: الفرق بين المعجز والسحر عنده: هو التحدي فقط، وإلا فالجنس واحد. وقال أيضاً: "ويجب في الجملة أن لا نستثني في السحر شيئاً لا يفعل عنده، إلا ما ورد الإجماع والتوقيف على أنه لا يكون بضرب من السحر". البيان ص 91. أما الجويني: فيرى أنّ كلّ ما خرق للنبي من الآيات الكبرى، يقع للولي، ولا فرق بين المعجزة والكرامة إلا دعوى النبوة. انظر: الإرشاد للجويني ص 317. ثم يقول عن السحر: "ولا يمتنع عقلاً أن يفعل الرب تعالى عند ارتياد الساحر ما يستأثر بالاقتدار عليه، فإنّ كلّ ما هو مقدور للعبد، فهو واقع بقدرة الله تعالى عندنا. والدليل على جواز ذلك [يعني السحر] كالدليل على جواز الكرامة، ووجه الميز هاهنا بين السحر والمعجزة؛ كوجه الميز في الكرامة، فلا وجه إلى إعادته". الإرشاد للجويني ص 322. وقال أيضاً: "وجنس المعجزة يقع من غير دعوى، وإنما الممتنع وقوعه على حسب دعوى الكاذب". الإرشاد للجويني ص 328. وقال أيضاً: "إنّ المعجز لا تدلّ لعينها، وإنما لتعلقها بدعوى النبي والرسالة، ونزولها منزلة التصديق بالقول". الإرشاد للجويني ص 319. فالجويني: يجعل الفرق بين المعجزة والكرامة هو التحدي فقط، وإلا فبإمكان الولي أن يكون له مثل معراج الرسول، وعصا موسى، وناقة صالح، ونار إبراهيم عليه السلام. ثمّ يجعل الفرق بين المعجز والسحر مثل الفرق بين المعجزة والكرامة، ويزعم أنّ بإمكان الساحر أن يأتي بجنس المعجز إذا لم يدّع النبوة. ويذكر الشهرستاني الفرق بين المعجزة والسحر؛ فيقول: "إذا لم يدّع الكاذب النبوة، فلا محذور ولا مانع من ظهور الخوارق". نهاية الإقدام للشهرستاني ص 434. ويقول الإيجي: "إنّا بيّنّا أن لا مؤثر في الوجود إلا الله. والسحر ونحوه - إلا إن لم يبلغ حد الإعجاز؛ كفلق البحر، وإحياء الموتى، كما هو مذهب جميع العقلاء - فظاهرٌ، وإن بلغ. فأما دون دعوى النبوة والتحدي فظاهرٌ أيضاً، أو معه، فلا بُدّ من ألا يخلقه الله على يده، أو أن يقدر غيره على معارضته، وإلا كان تصديقاً للكاذب، وأنه محال". المواقف في علم الكلام للإيجي ص 346. وقال المازري عن مذهب الأشعري، وأن الخوارق تقع على أيدي السحرة، مما ليس بمقدور الخلق: "ومذهب الأشعري: أنه يجوز أن يقع به أكثر من ذلك، قال: وهذا هو الصحيح عقلاً؛ لأنه لا فاعل إلا الله تعالى. وما يقع من ذلك فهو عادة أجراها الله تعالى، ولا تفترق الأفعال في ذلك، وليس بعضها بأولى من بعض..... فإن قيل: إذا جوزت الأشعرية خرق العادة على يد الساحر، فبماذا يتميّز عن النبيّ؟ فالجواب: أن العادة تنخرق على يد النبي والولي والساحر، لكن النبيّ يتحدّى بها الخلق". شرح النووي على صحيح مسلم 14175. وقال القرطبي: "قال علماؤنا: لا ينكر أن يظهر على يد الساحر خرق العادات، مما ليس في مقدور البشر،.... وإنما يخلق الله تعالى هذه الأشياء ويحدثها عند وجود السحر، كما يخلق الشبع عند الأكل، والري عند شرب الماء". الجامع في أحكام القرآن للقرطبي 233. وقال ملا علي القاري: "كل ما جاز أن يكون معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي، لا فارق بينهما إلا التحدي". شرح الفقه الأكبر ص 79. وكلامهم في ذلك كثير، وكلّها فروق هزيلة كما تبيّن. وانظر حول هذا الموضوع أيضاً: شرح المقاصد للتفتازاني 511، 72-74. وجوهرة التوحيد للصاوي ص 98. وحاشية الأمير على شرح عبد السلام على الجوهرة ص 154. وهكذا نرى الأشاعرة يجعلون جنس الخارق واحد للمعجزة والكرامة والسحر، إلا أنّ الفرق بين المعجزة والكرامة هو دعوى النبوة والتحدي، والفرق بين الكرامة والسحر هو أنّ الكرامة تظهر على الرجل الصالح، والسحر يظهر على الرجل الفاسق، والفرق بين المعجزة والسحر هو كالفرق بين المعجزة والكرامة. وهذه الفروق ضعيفة، وغير مقبولة؛ لأنّها لا تميّز بين النبيّ والولي والساحر. وقد سبقت ردود شيخ الإسلام رحمه الله (في هذا الكتاب ص 727-728) على من فرّق هذه الفروق. وسيأتي مزيد توضيح، ونقد لطريقة الأشعرية في فروقهم هذه، وبيان عدم جدواها في التمييز بين النبيّ والمتنبي، مما فيه غنية عن ذكره هنا.

قول شيخ الإسلام في آيات الأنبياء والتحقيق: أنّ آيات الأنبياء مستلزمة للنبوّة، ولصدق الخبر بالنبوّة، فلا يوجد إلا مع الشهادة للرسول بأنّه رسول، لا يوجد مع التكذيب بذلك، ولا مع عدم ذلك البتة، وليست من جنس ما يقدر عليه؛ لا الإنس، ولا الجنّ؛ فإنّ ما يقدر عليه الإنس والجنّ يفعلونه، فلا يكون مختصاً بالأنبياء. ومعنى كونها خارقةً للعادة: أنّها لا توجد إلاّ للنبوّة؛ لا مرّة، ولا أقلّ، ولا أكثر. فالعادة هنا تثبتُ بمرّة. والقاضي أبو بكر يقول: إنّ ما فعل مرّات يسيرة لا يكون معتاداً1.

_ 1 انظر: البيان للباقلاني ص 50-51. والإرشاد للجويني ص 310-311. وقد ذكر الباقلاني معنى الاعتياد، حين عرّف العادة بقوله: "العادة على الحقيقة: إنّما هي تكرّر علم العالم ووجوه الشيء المعتاد على طريقة واحدة؛ إما بتجدد صفته وتكررها، أو ببقائه على حالة واحدة". البيان للباقلاني ص 50. وسيأتي تعريف العادة عند شيخ الإسلام رحمه الله. انظر ص 1061، 1173 من هذا الكتاب.

وفي كلامه في هذا الباب1 من الاضطراب ما يطول وصفه. وهو رأس هؤلاء الذين اتبعوه؛ كالقاضي أبي يعلى، وأبي المعالي، والرازي، والآمدي، وغيرهم. وما يأتي به السحرة والكهان، يمتنع أن يكون آيةً لنبيّ، بل هو آية على الكفر، فكيف يكون آيةً للنبوّة، وهو مقدور للشياطين؟. وآيات الأنبياء لا يقدر عليها جنّ ولا إنس، وآيات الأنبياء آيات لجنسها، فحيث كانت آيةً لله، تدلّ على مثل ما أخبرت به الأنبياء، وإن شئتَ قلت2: هي أيات لله، يُدلّ بها على صدق الأنبياء تارة، وعلى غير ذلك تارة. وما يكون للسحرة والكهان، لا يكون من آيات الأنبياء، بل آيات الأنبياء مختصة بهم. الفرق بين المعجزات والكرامات وأما كرامات الأولياء3: فهي أيضاً من آيات الأنبياء؛ فإنّها إنّما تكون

_ 1 يقصد: باب إثبات صدق النبيّ، والفرق بين خوارقه وخوارق السحرة والكهّان. 2 الشيخ رحمه الله يُعرّف هنا المعجزة، أو آية النبيّ اصطلاحاً. 3 يُريد شيخ الإسلام رحمه الله أن يذكر الفرق بين المعجزات والكرامات. وقد سبق صنيعه هذا مراراً فيما مضى. انظر ص 604، 724 من هذا الكتاب. والأشاعرة لا يُفرّقون بين المعجزة والكرامة إلا بالتحدّي، ويجعلون كلّ ما خُرق للنبيّ لا يمتنع أن يكون للولي. يقول الجويني: "صار بعض أصحابنا إلى أنّ ما وقع معجزة لنبيّ لا يجوز وقوعه كرامة لوليّ؛ فيمتنع عند هؤلاء أن ينفلق البحر، وتنقلب العصا ثعباناً، ويحيي الموتى كرامة لولي، إلى غير ذلك من آيات الأنبياء. وهذه الطريقة غير سديدة أيضاً. والمرضي عندنا: تجويز جملة خوارق العوائد في معارض الكرامات". الإرشاد للجويني ص 317. وقال أيضاً: "فإن قيل: ما دليلكم على تجويزها؟ قلنا: ما من أمر يخرق العوائد، إلا وهو مقدور للربّ تعالى ابتداءً، ولا يمتنع وقوع شيء لتقبيح عقل، لما مهّدناه فيما سبق، وليس في وقوع الكرامة ما يقدح في المعجزة؛ فإنّ المعجزة لا تدلّ لعينها، وإنّما تدلّ لتعلّقها بدعوى النبيّ الرسالة، ونزولها منزلة التصديق بالقول.....". ثمّ قال: "فإن قيل: فما الفرق بين الكرامة والمعجزة؟ قلنا: لا يفترقان في جواز العقل، إلا بوقوع المعجزة على حسب دعوى النبوة". الإرشاد للجويني ص 317-318. وقال الباقلاني: "ولذلك أيضاً أجزنا فعل أمثالها [أي المعجزات] ، وما هو من جنس كثير منها، على أيدي الأولياء والصالحين، على وجه الكرامة لهم". البيان للباقلاني ص 48. والفرق عنده: أنّ المعجزة لا تكون، حتى يُتحدّى بها. وهذه أيضاً فروق ضعيفة بين المعجزة والكرامة. وقد انتقدها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وأوضح القول الحقّ في هذا الموضوع من هذا الكتاب.

لمن [يشهد] 1 لهم بالرسالة، فهي دليل على صدق الشاهد لهم بالنبوّة. وأيضاً: فإنّ كرامات الأولياء معتادةٌ من الصالحين، ومعجزات الأنبياء فوق ذلك؛ فانشقاق القمر، والإتيان بالقرآن، وانقلاب العصا حيّة، وخروج الدابة من صخرة2، لم يكن مثله للأولياء؛ وكذلك خلق الطير من

_ 1 في ((م)) ، و ((ط)) : تشهد. 2 قال تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة الأعراف، الآية 73] . وقال تعالى يحكي عن قوم صالح وقولهم لنبيّهم: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ. مَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ. وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عظيم. فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ} [سورة الشعراء، الآيات 153-157] . قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: "وقد احتجّ ملأهم، وطلبوا منه أن يُخرج لهم الآن من هذه الصخرة ناقة عشراء، وأشاروا إلى صخرة عندهم من صفتها كذا وكذا، فعند ذلك أخذ عليهم نبيّ الله صالح العهود والمواثيق لئن أجابهم إلى ما سألوا ليؤمنن به وليتبعنه، فأعطوه ذلك، فقام نبيّ الله صالح عليه السلام فصلّى ثمّ دعا الله عز وجل أن يُجيبهم إلى سؤالهم، فانفطرت تلك الصخرة التي أشاروا إليها عن ناقة عشراء على الصفة التي وصفوها، فآمن بعضهم، وكفر أكثرهم". تفسير ابن كثير 3344.

الطين، ولكنّ آياتِهم صغارٌ، وكبارٌ؛ كما قال الله تعالى: {فَأَرَاهُ الآيَةَ الكُبْرَى} 1؛ فلله تعالى آية كبيرة وصغيرة، وقال عن نبيّه محمّد: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى} 2، فالآيات الكبرى مختصة بهم. الآيات قسمان: كبرى وصغرى الآيات الكبرى مختصة بالأنبياء الآيات الصغرى قد تكون للصالحين وأما الآيات الصغرى: فقد [تكون] 3 للصالحين؛ مثل تكثير الطعام، فهذا قد وجد لغير واحدٍ من الصالحين4، لكن لم يوجد كما وجد للنبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه أطعم الجيش من شيء يسير5. فقد يوجد لغيرهم من جنس ما وجد لهم، لكن لا يماثلون في قدره؛ فهم مختصون إمّا بجنس الآيات فلا يكون لمثلهم؛ كالاتيان بالقرآن، وانشقاق القمر، وقلب العصا حية، وانفلاق البحر، وأن يخلق من الطين كهيئة الطير؛ وإمّا بقدرها، وكيفيتها؛ كنار الخليل6؛ فإنّ أبا مسلم [الخولاني] 7، وغيره صارت النار عليهم برداً وسلاماً8، لكن

_ 1 سورة النازعات، الآية 20. 2 سورة النجم، الآية 18. 3 في ((خ)) : يكون. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 تقدم بيان ذلك في ص 162. 5 سبق نحو هذا الكلام في ص 162، 498. 6 قال تعالى: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [سورة الأنبياء، الآية 69] . 7 في ((ط)) : الحولاني. 8 تقدم تفصيل ذلك في ص 161-162.

لم تكن مثل نار إبراهيم في عظمتها كما وصفوها1، فهو مشاركٌ للخليل في جنس الآية؛ كما هو مشارك في جنس الإيمان محبة الله وتوحيده. ومعلومٌ أنّ الذي امتاز به الخليل من هذا، لا يماثله فيه أبو مسلم، وأمثاله. وكذلك الطيران في الهواء؛ فإنّ الجن لا تزال تحمل ناساً، وتطير بهم من مكان إلى مكان؛ كالعفريت الذي قال لسليمان: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} 2، لكن قول الذي عنده علم من الكتاب: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} 3: لا يقدر عليه العفريت. ومسرى النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ليريه الله من آياته الكبرى4: أمرٌ اختص به، بخلاف من يُحمل من مكان إلى مكان، لا ليريه الله من آياته الكبرى5، أمرٌ اختصّ به، ولا يعرج إلى السماء. فهؤلاء كثيرون، وهذا مبسوطٌ في غير هذا الموضع6.

_ 1 يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: "لما دحضت حجتهم، وبان عجزهم، وظهر الحقّ، واندفع الباطل عدلوا إلى استعمال جاه ملكهم، فقالوا: حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين. فجمعوا حطباً كثيراً جداً. قال السدي: حتى إن كانت المرأة تمرض، فتنذر إن عوفيت أن تحمل حطباً لحريق إبراهيم، ثم جعلوه في هوة من الأرض وأضرموها ناراً، فكان لها شرر عظيم، ولهب مرتفع، لم توقد نار قط مثلها. وجعلوا إبراهيم عليه السلام في كفة المنجنيق بإشارة رجل من أعراب فارس من الأكراد....". تفسير ابن كثير 3183. 2 سورة النمل، الآية 39. 3 سورة النمل، الآية 40. 4 قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} . [الإسراء 1] . 5 انظر: صحيح البخاري 41748. 6 انظر ما سبق في هذا الكتاب من ص 164-169.

نقد شيخ الإسلام للأشاعرة في النبوات والمقصود هنا: أنّ هؤلاء حقيقة قولهم: أنّه ليس للنبوة آية تختص بها؛ كما أنّ حقيقة قولهم: أنّ الله لا يقدر أن يأتي بآية تختص بها، وإنه لو كان قادراً على ذلك، لم يلزم أن يفعله، بل ولم يفعله. فهذان أمران متعلقان بالرب؛ إذ هو عندهم لا يقدر أن يفعل شيئاً لشيء1. والآية إنما تكون آية: إذا فعلها [ليدلّ] 2. ولو قُدِّر أنه قادر، فهم يجوّزون عليه فعل كل شيء؛ فيمكن أنه لم يجعل على صدق النبي دليلاً. وأمّا الذي ذكرناه عنهم هنا، فإنّه يقتضي أنّه لا دليل عندهم على نبوّة النبيّ، بل كلّ ما قُدّر دليلاً، فإنّه يمكن وقوعه مع عدم النبوة، فلا يكون دليلاً. فهم هناك3 حقيقة قولهم: إنّا لا نعلم على النبوّة دليلاً. وهنا حقيقة قولهم4: أنّه لا دليل على النبوة.

_ 1 انظر: الإرشاد للجويني ص 319، 326. والمواقف للإيجي ص 330-332. وقد سبق أن أشار المؤلف رحمه الله إلى معتقد الأشعرية هذا أكثر من مرة، في هذا الكتاب. انظر ص 485-505، 533-539، 564-573، 588-589. 2 في ((م)) ، و ((ط)) : لتدلّ. 3 سبق أن أوضح شيخ الإسلام رحمه الله تعالى تناقض الأشعرية في قولهم إنّ الله لا يُنزّه عن فعل ممكن، ولا يقبح منه فعل، ونفيهم للحكمة، وقولهم إنّ الله لا يُظهر الخوارق على يد الكاذب؛ لأنّ ذلك يُفضي إلى القول بعجز الربّ. وسبق كذلك أن قال الشيخ رحمه الله عن الأشاعرة - في هذا الكتاب ص 573-574: "ومن جوّز منهم تكليف ما لا يُطاق مطلقاً، يلزمه أن يأمر الله بتبليغ رسالة لا يعلم ما هي". وانظر ما تقدّم في هذا الكتاب في ص 268-281، 580-583، 587-588. 4 أي في معرض الكلام على النبوة.

ولهذا كان كلامهم في هذا الباب1 منتهاه التعطيل. الغزالي عدل عن طريقة الأشاعرة في الاستدلال بالمعجزات ولهذا عدل الغزالي وغيره عن طريقهم في الاستدلال بالمعجزات2؛ لكون المعجزات على أصلهم3 لا تدلّ على نبوة نبيّ. وليس عندهم في نفس الأمر معجزات، وإنما يقولون: المعجزات عِلمُ الصدق؛ لأنّها في نفس الأمر كذلك4. وهم صادقون في هذا، لكن على أصلهم ليست دليلاً على الصدق، ولا دليلَ على الصدق. فآيات الأنبياء تدلّ على صدقهم دلالة معلومة بالضرورة تارةً، وبالنظر أخرى. وهم قد يقولون: إنّه يحصل العلم الضروري بأنّ الله صدّقه بها؛ وهي الطريقة التي سلكها أبو المعالي، والرازي، وغيرهما5؛ وهي طريقة صحيحة في نفسها، لكن [تناقض] 6 بعض أصولهم.

_ 1 أي في باب إثبات النبوة. وانظر ما سبق في هذا الكتاب في ص 732-733. 2 سبق مثل ذلك في ص 732 من هذا الكتاب. 3 وهو قولهم بنفي الحكمة، وأنّ الله لا يفعل شيئاً لأجل شيء. 4 الأشاعرة ينفون التعليل في أفعال الله تعالى، ويُجوّزون على الله كلّ فعل؛ إذ الله تعالى على أصلهم: لا يفعل شيئاً لأجل شيء، وحينئذٍ فلم يأت بالآيات الخارقة للعادة لأجل تصديق الرسول، ولا عاقب هؤلاء لتكذيبهم له، ولا أنجى هؤلاء ونصرهم لإيمانهم به؛ إذ كان لا يفعل شيئاً لشيء عندهم.. وهم إذا جوّزوا على الربّ تعالى كلّ فعل، جاز أن يُظهر الخوارق على يد الكاذب. انظر: الجواب الصحيح 6394. 5 سبق مثل ذلك في ص 275، 276، 580-581 من هذا الكتاب. وانظر: الجواب الصحيح 6398-399. وشرح الأصفهانية 2622. 6 في ((خ)) : يناقض. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

فالقدح ليس في آيات الأنبياء، لكن في الأقوال الفاسدة التي تناقض ما هو معلوم بالضرورة عقلاً، وما هو أصل الإيمان شرعاً. ومن عرف تناقضهم في الاستدلال يعرف أن الآفة في فساد قولهم، لا في جهة صحة الدلالة؛ فقد يظهر بلسانه ما ليس في قلبه؛ كالمنافقين الذين يقولون: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} 1. قول الإمام أحمد في علماء الكلام ولقد صدق الإمام أحمد في قوله: علماء الكلام زنادقة2. وطريقة القرآن فيها الهدى، والنور، والشفاء؛ سماها آيات، وبراهين. فآيات الأنبياء مستلزمة لصدقهم، وصدق من صدّقهم، وشهد لهم بالنبوة. الأنبياء قد يتماثلون في الآيات والآيات التي يبعث الله بها أنبياء، قد يكون مثلها لأنبياء أُخَر؛ مثل إحياء الموتى؛ فقد كان لغير واحد من الأنبياء3. وقد يكون إحياء الموتى على يد اتباع الأنبياء؛ كما قد وقع لطائفة من

_ 1 سورة المنافقون، الآية 1. 2 انظر: تلبيس إبليس لابن الجوزي ص 83. وصون المنطق والكلام للسيوطي ص 128. وقال الإمام أحمد رحمه الله في أهل الكلام أيضاً: "لا تجالسوا أهل الكلام وإن ذبّوا عن السنّة". رواه ابن الجوزي في مناقب الإمام أحمد ص 205. وقال أيضاً - رحمه الله -: "لا يُفلح صاحب كلامٍ أبداً، ولا تكاد ترى أحداً نظر في الكلام إلا وفي قلبه دغل". جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 295. 3 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ولا يمتنع أن يأتي نبيّ بنظير آية نبيّ، كما أتى المسيح بإحياء الموتى، وقد وقع إحياء الموتى على يد غيره..". الجواب الصحيح 5434.

هذه الأمة1، ومن اتباع عيسى2؛ فإن هؤلاء يقولون: نحن إنّما أحيى الله الموتى على أيدينا؛ [لاتّباع محمد، أو المسيح، فبإيماننا بهم، وتصديقنا لهم أحيى الله الموتى على أيدينا] 3، فكان إحياء الموتى مستلزماً [لصدق] 4 عيسى، و [محمّدٍ] 5، لم يكن قطّ مع تكذيبهما، فصار آية لنبوّتهم، وهو أيضاً آية لنبوّة موسى، وغيره من أنبياء بني [إسرائيل] 6 الذين أحيي الله الموتى على أيديهم.

_ 1 ذكر العلامة ابن كثير رحمه الله تعالى كثيراً من القصص عن إحياء الموتى في أمة محمد صلى الله عليه وسلم. انظر: البداية والنهاية 6161-166. وانظر ما تقدم في هذا الكتاب ص 162، 593، 594. 2 أما إحياء الموتى للحواريين أتباع عيسى عليه السلام: فهي مسألة لم أجد فيها نصاً واضحاً، وإن كان يُوجد في الإنجيل المحرّف كلام ينسبونه لعيسى عليه السلام موجّهٌ للحواريين، يقول فيه: "وفيما أنتم ذاهبون أكرزوا قائلين: إنّه قد اقترب ملكوت السموات، اشفوا مرضى، طهروا بُرصاً، أقيموا موتى، أخرجوا شياطين". إنجيل متى، الإصحاح العاشر، الفقرة 7 إلى 10. ولشيخ الإسلام رحمه الله كلام، كأنّه يُضعّف فيه الخبر الذي ذُكر آنفاً، ويُقلّل من مقدرة الحواريين على ما نسبه إليهم النصارى، يقول فيه رحمه الله تعالى: "فيزعمون أنّ الحواريين، أو هؤلاء [أي أهل المجامع] جرت على أيديهم خوارق، وقد يذكرون أنّ منهم من جرى إحياء الموتى على يديه. وهذا إذا كان صحيحاً، مع أنّ صاحبه لم يذكر أنّه نبيّ، لا يدلّ على عصمته؛ فإنّ أولياء الله؛ من الصحابة، والتابعين بعدهم بإحسان، وسائر أولياء الله من هذه الأمة وغيرها لهم من خوارق العادات ما يطول وصفه، وليس فيهم معصوم يجب قبول كلّ ما يقول، بل يجوز الغلط على كلّ واحد منهم، وكلّ أحد يؤخذ من قوله ويُترك إلا الأنبياء عليهم السلام". الجواب الصحيح 6399-400. وانظر المصدر نفسه 417-18. 3 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 4 في ((م)) ، و ((ط)) : لتصديقه. 5 في ((م)) ، و ((ط)) : محمداً. 6 في ((ط)) : إسلأائيل.

وليس مدلول الآيات هو مجرّد دعواه أنّ الله أرسلني، وإخباره عن نفسه بذلك؛ لأن ذلك معلوم بالحسّ لمن سمعه، وبالتواتر لمن لم يسمعه، بل صدّقه في هذا الخبر؛ وهو ثبوت نبوته. الآية مستلزمة لصدق النبي وثبوت نبوته فالآية مستلزمة لصدقه، وثبوت نبوته. ومن أخبر غيره عن إرسال الله له، وأتى هذا المخبر بآية، كانت أيضاً آية على صدق هذا المخبر، وثبوت نبوّة النبيّ؛ فإنّ من أخبر عن نبوّة نبيّ من الأنبياء، وأتى بآيةٍ على صدقه في خبره، كانت تلك آية ودليلاً على نبوّة النبيّ، وأنّ إخبار المخبر بنبوته صدق. بل [كون] 1 غيره هو المخبر، الآتي بالعلامة أبلغ. ولهذا كانت من أعظم آيات النبي: إخبار غيره من الأنبياء بنبوّته. فإن قال آخر: إنّه كذب، وأتى بمثل تلك الآية، بطلت الدلالة المعينة، ولا يلزم من بطلان دليل معين، بطلان سائر الأدلة؛ فإنّ الدليل يجب طرده، ولا يجب عكسه2. ولو جاء من قال: إنّ فلانا أرسلني، ومعه شخص، فصدّقه، وقال: إنّه أمرني أن أخبركم بأنّه رسوله بعلامة كيت وكيت، لكان ذلك أبلغ. وكلّ من عَلِمَ صِدْقَ النبيّ، فقد صدقه أنّه [..................] 3 أن يعلم الناس أنّ الله يشهد له بالنبوة، ويحكم بينه وبين منازعيه بتصديقه وتكذيبهم، وذلك بآياته وعلاماته يُبيّن بها أنّه مصدّق للرسول. وقد يُصدقه بكلامه الذي قد بَيَّن أنّه كلامه؛ فكونه في نفسه آية وعلامة؛

_ 1 ما بين المعقوفتين مكرّر في ((خ)) . 2 تقدّم التنويه بذلك في ص 307 من هذا الكتاب. 3 في ((خ)) بياض بقدر سطرين. وكذا في ((م)) ، و ((ط)) كما أُشير إلى ذلك في الهامش.

إذ كان لا يُمكن الجن [والإنس] 1 أن ياتوا بمثله، فهو من أعظم الآيات. وبغير ذلك؛ فالآيات كلّها شهادة بالنبوة، وإخبارٌ بها، وتصديق للمخبر؛ فهي تستلزم ثبوت النبوّة في نفسها، وأنّ صاحب الآيات قد نبأه الله، وأوحى إليه؛ كما أوحى إلى غيره من الأنبياء، وتستلزم أيضاً: صدق الإخبار بأنّه نبيّ؛ فهو إذا قال: إنّي نبيّ، كان صادقاً، وكذلك كل من أخبر بنبوته، فإنّه يكون صادقاً. وثبوت الشيء، وصدق من أخبر به: متلازمان؛ فكلّ حقّ ثابت، إذا أخبر به مخبرٌ، فهو صادق، وكلّ خبرٍ صادق، فقد تحقق مخبره. [فالخبر] 2 الصادق هو ومخبره متلازمان؛ يلزم من صدق الخبر، تحقق مخبره. ومن تحقق الشيء، صدّق المخبر به؛ بخلاف الكذّاب، فإنّه ومخبره ليسا متلازمين، بل الخبر الكذب يوجد مع انتفاء مخبره، والمخبر به يتحقق على صفة خلاف ما في الخبر الكاذب3. فلهذا كانت الآيات، والعلامات، والدلائل، ونحو هذا كما تدلّ على المدلول، وأنّه حقّ ثابت، فهي أيضاً تدلّ على صدق من أخبر به كائناً من كان. فمن قال: إنّي ابن فلان، وقامت بيّنة بنسبه، فهي تثبت صدقه، وصدق كلّ من قال: هو ابن فلان.

_ 1 في ((ط)) : والان. 2 في ((ط)) : كالخبر. 3 انظر كلام شيخ الإسلام - رحمه الله - حول هذا الموضوع في شرح الأصفهانية 2592-597.

وكذلك البينة التي تشهد برؤية الهلال، وهي تشهد بصدق كلّ من أخبر بطلوعه. وكذلك كلّ دليلٍ دلّ على مدلول، فهو دليل على صدق كلّ من أخبر بذلك المدلول عليه. وكذلك إذا قال الصادق: إنّ الله أرسلني، فهذا خبرٌ منه عن إرسال الله؛ فالآية الدالة على صدقه، تدلّ على صدق كلّ من قال: إنّ الله أرسله. فالآيات الدالة على صدق محمّد، إذا قال ما أمره الله به في قوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعَاً} 1، هي دالة على صدق كلّ من قال: أشهد أنّ محمّداً رسول الله. فجميع آياته، وآيات الأنبياء الذين أخبروا بنبوّته؛ كموسى، والمسيح [عليهما السلام] ، وأنبياء بني إسرائيل، وغيرهم: كلّها آيات، ومعجزات [تُبيِّن] 2 صدق كل واحد من المؤمنين به، الذين يقول أحدهم: أشهد أن محمدا رسول الله؛ سواء قالها مجرّدة، أو قالها في صلاته، أو عقب طهارته، أو متى ما قالها. ليست آيات النبوّة دالّة على أنّه وحده هو الصادق في قوله: إنّي رسول الله إليكم جميعاً، بل الآيات تصدّقه، وتصدّق كلّ من شهد له بالرسالة. وهكذا سائر الأدلة الدالّة على مدلول؛ فإنّها تدلّ على صدق من أخبر بذلك المدلول عليه من جميع الخلق.

_ 1 سورة الأعراف، الآية 158. 2 في ((خ)) : يبين. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

وقد عرف أن الدليل لا بدّ أن [يكون] 1 مختصّاً بالمدلول عليه، مستلزماً له. فآيات الأنبياء، وسائر أنواع الآيات والأدلة، لا تكون مع نقيض المدلول عليه؛ أي مع عدمه؛ فإنّها إذا كانت مع وجوده وعدمه، لم تكن دالَّةً [لا] 2 على وجوده، ولا على عدمه، [ولم يكن الاستدلال به على وجوده، ولا على عدمه] 3، ولم يكن الاستدلال به على وجوده أولى به من الاستدلال على عدمه؛ كالأمور المعتادة التي توجد مع الصادق والكاذب؛ كطلوع الشمس، وغروبها؛ فإنّ هذه لا تدلّ على صدق أحد، ولا كذبه. وكذلك خوارق السحرة والكهان، هي معتادة، مع صدق أحدهم، ومع كذبه؛ فلا تدلّ على الصدق، [ولا على الكذب، والاستدلال بها على صدقه؛ كالاستدلال بها على كذبه، وهي على الكذب أدلّ] 4؛ [إذ] 5 كان كذبهم أكثر من صدقهم؛ كالذين يُخبرون بكلمة صدق، وعشرة كذب؛ قال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِين تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَ [أَكْثَرُهُمْ] 6 كَاذِبُونَ} 7، فكيف إذا كان مع الصدق مائة كذبة؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمّا سُئِل عن الكُهَّان؛ كما روى البخاري في صحيحه عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: سأل ناسٌ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الكُهَّان،

_ 1 في ((خ)) : تكون. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 ما بين المعقوفتين ليس في ((م)) ، و ((ط)) . 3 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 4 ما بين المعقوفتين مؤخّر في ((ط)) إلى ما بعد الآية الكريمة. 5 في ((خ)) : إذا. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 6 في ((خ)) : كثرهم. 7 سورة الشعراء، الآيات 221-223.

فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليسوا بشيء". قالوا: يا رسول الله فإنّهم يحدّثون أحياناً بشيء يكون حقّاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تلك الكلمة من الحقّ يحفظها الجنيّ، فيقرها في أذن وليّه قرّ الدجاجة، فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة"1. فيلزم من هذا: أنّ آيات الأنبياء لا يكون مثلها لمن يكذّبهم، وهو الذي يخبر بكذبهم. والناس فيهم رجلان: إمّا مصدّق، وإمّا مكذّب. فالمكذّب لهم يمتنع أن يأتي بمثل آياتهم. ومتى كذب مكذب لمدعي النبوة، وأتى بمثل آيته سواء، دلّ على أنّ تلك ليست من آيات الأنبياء، ولا تدلّ على صدق النبيّ، لكن لا يلزم أن يدلّ على كذبه؛ فإنَّ الدليل المعيَّن إذا بطل، لا يستلزم انتفاء المدلول عليه؛ فقد تكون له آيات أخر تدل على نبوّته. وصدق الصادق، وكذب الكاذب يُعرف بوجوهٍ كثيرةٍ جداً2. وكذلك النبوّة: لها آثار مستلزمة لها، بدون إخبار النبيّ بأنّه نبيّ. وكذب المتنبي الذي يُزيّن له الشيطان أن يقول: إنّه نبيّ، له آثار [تستلزم] 3 انتفاء النبوة، وأنّه كاذبٌ؛ إمّا عمداً، وإمّا أنّ الشيطان قد لبّس عليه.

_ 1 أخرجه الإمام البخاري في صحيحه 52294، كتاب الأدب، باب قول الرجل للشيء: ليس بشيء، وهو ينوي أنه ليس بحقّ، بنفس اللفظ. وهو بلفظ مقارب في صحيح البخاري أيضاً 52173، كتاب الطب، باب الكهانة. ومسلم في صحيحه 41750، كتاب السلام، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان. 2 سبق ذكر كثيرٍ من هذه الوجوه في ص 224-225، 588-631، 649 من هذا الكتاب. وسيأتي في آخر الكتاب وجوه أخرى. 3 في ((خ)) : يستلزم. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

فإنّ الخبر عند كثيرٍ من النّاس ينقسم إلى صدقٍ وكذبٍ؛ فالمطابق هو الصدق، والمخالف هو الكذب1. أثبت بعضهم واسطة بين الصدق والكذب وأثبت بعضهم واسطةً بين الصدق والكذب؛ وهو ما لم يتعمّده الإنسان 2؛ قال 3: فهذا ليس بصدق؛ [لأنّه] 4 غير مطابق، وليس بكذب؛ لأنّ صاحبه لم يتعمّد الكذب، بل أخطأ. وليس كلّ من أخطأ يُقال: إنّه كاذب؛ كالناسي في الصلاة، إذا قال: صلّيتُ أربعاً، ولم يُصلّ إلاَّ ثلاثاً؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له ذو اليدين: أقُصِرَت الصلاة، أم نسيتَ؟ [فقال: "لم أنس، ولم تقتصر". فقال: بلى قد نسيت] 5. فقال: "أكما يقول ذو اليدين؟ " قالوا: نعم6. كل من تكلم بلا علم فهو كاذب والذي يدل عليه القرآن: أنّ كل من تكلّم بلا علم، فأخطا، فهو كاذب؛ كالذين حرّموا، وحلّلوا، وأوجبوا، وإن كان الشيطان قد زيَّن لهم ذلك، وأوهمهم أنّه حقّ، ولهذا [قال] 7: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ

_ 1 قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "والخبر تارة يكون مطابقاً لمخبره؛ كالصدق المعلوم أنه صدق، وتارة لا يكون مطابقاً لمخبره؛ كالكذب المعلوم أنه كذب، وغير المطابق مع التعمد كذب ومع اعتقاد أنه صدق إن لم يكن معذوراً كالمفتي بلا اجتهاد يسوغ". الجواب الصحيح 6452. 2 ولشيخ الإسلام رحمه الله تعالى كلام عن هذا المعنى في الجواب الصحيح 6453-454. 3 يعني شيخ الإسلام رحمه الله به من يُقسّم ذاك التقسيم، فإنّه يُعلّل بهذا التعليل. وقد ذكر شيخ الإسلام نحو هذا الكلام في الجواب الصحيح 6453-454. 4 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 5 ما بين المعقوفتين مكرّر في ((خ)) . 6 أخرجه مسلم في صحيحه 1403، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له. 7 في ((م)) ، و ((ط)) : قال: قل.

الشَّيَاطِين تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} 1، وهي تنزل على من يُظَنّ أنّه يصدّقها؛ قال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانَاً فَهُوَ لَهُ قَرِين وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} 2، وقال تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطانُ لَما قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَق وَوَعَدْتُكُم فَأَخْلَفْتُكُمْ} 3. كل من أخبر بخبر غير مطابق فهو كاذب وكذلك الذي يدلّ عليه الشرع: أنّ كلّ من أخبر بخبر ليس له أن يُخبر به، وهو غير مطابق، فإنّه يُسمّى كاذباً، وإن كان لم يتعمّد الكذب4؛ كقول النبيّ صلى الله عليه وسلم لما قيل له: إنّ أبا السنابل5 قال: ما أنت بناكحة، حتى [تمرّ] 6 عليك أربعةُ أشهر وعشرٌ. فقال: "كذب أبو السنابل"7.

_ 1 سورة الشعراء، الآيتان 221-222. 2 سورة الزخرف، الآيتان 36-37. 3 سورة إبراهيم، الآية 22. 4 الكذب قد تستعمله العرب في موضع الخطأ. انظر: لسان العرب 1709. فيُقال كَذَبَ بمعنى أخطأ. وانظر: الجواب الصحيح 6452-456. قال ابن الأثير: (وقد استعملت العرب الكذب في موضع الخطأ، قال الأخطل: كذبتك عينُك أم رأيت بواسط ... غلس الظلام من الرباب خيالا وقال ذو الرمة: ما في سمعه كذب". النهاية في غريب الحديث 4159. 5 أبو السنابل: هو ابن بَعْكَك بن الحجاج بن الحارث بن بساق بن عبد الدار القرشيّ، واسمه عمرو، وقيل: حبه. أسلم يوم الفتح، وهو من المؤلفة قلوبهم، وسكن الكوفة. قيل إنّه أقام بمكة حتى مات، وكان شاعراً. انظر: أسد الغابة 5156-157. وتهذيب التهذيب 12121. 6 في ((م)) ، و ((ط)) : يمرّ. 7 وأصل هذا الحديث، هو: أن سُبيعة بنت الحارث الأسلمية - صحابية - كانت امرأة سعد بن خولة، فتوفي بمكة في حجة الوداع، وهي حامل. فوضعت بعد وفاة زوجها بخمس عشرة ليلة، فدخل عليها أبو السنابل، فقال: كأنّك تحدّثين نفسك بالباءة؟ ما لك ذلك حتى ينقضي أبعد الأجلين. فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته بما قال أبو السنابل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كذب أبو السنابل. إذا أتاك أحدٌ ترضينه فأتيني به". وهذا الحديث رواه الإمام أحمد بلفظه في مسنده 1447، 4304-305، 6310. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 52: (رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح) . إلاّ أنّ محقق مسند الإمام أحمد - طبعة مؤسسة الرسالة - ضعّف إسناد الحديث من هذا الطريق؛ فقال: إسناده ضعيف. المسند 7305-306. وانظر: الفتح الرباني 1743. والحديث مخرّج في الصحيحين، بلفظ ليس فيه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "كذب أبو السنابل". انظر: صحيح البخاري 41466-1467، كتاب المغازي، باب فضل من شهد بدراً. وصحيح مسلم 21122، كتاب الطلاق، باب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها وغيرها بوضع الحمل. وفي ترجمة أبي السنابل بن بعكك في الإصابة 496، ذكر الحافظ ابن حجر أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لسُبيعة حين أتته: "بلى، ورغم أنف أبي السنابل".

ولما قيل له: إنّ عامر بن الأكوع حبِط عمله؛ لأنّه قتل نفسه، فقال: ((كذب من قالها، إنّ له لأجرين، إنّه جاهد مجاهد"1. ولما قال [سعد] 2 بن عبادة في يوم الفتح: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة. وحكاه أبو سفيان لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كذب سعد، ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة"3.

_ 1 الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 41537-1538، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر. ومسلم في صحيحه 31427-1430، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة خيبر، و 31440-1441، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة ذي قرد وغيرها. 2 في ((خ)) : سعيد. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 أخرجه البخاري 41559-1560، كتاب المغازي، باب: أين ركز النبيّ صلى الله عليه وسلم الراية يوم الفتح.

وكذلك قال عبادة بن الصامت، لما قيل له: إنّ أبا محمد1 يقول: الوتر واجب. فقال: كذب أبو محمد2. وكذلك ابن عباس لما قيل له: إن نوفاً3 يقول: إنّ موسى [عليه السلام] نبيّ إسرائيل، ليس هو موسى الخضر. فقال: كذب نوف4.

_ 1 قال ابن حجر - رحمه الله - عنه: "أبو محمد الأنصاري، صحابي، قيل: اسمه مسعود بن زيد، أو ابن أوس، وقيل: اسمه قيس بن عَبَاية. فأمّا مسعود: فشهد بدراً، وفتح مصر. قيل: مات في خلافة عمر، وقيل: بعد ذلك. وهو صاحب حديث الوتر، وردّ ذلك عبادة بن الصامت". تقريب التهذيب 1463. 2 أخرجه أبو داود في سننه 2130-131، كتاب الصلاة، باب فيمن لم يوتر. والدارمي في سننه 1446-447، باب في الوتر. ومالك في الموطأ 1123، كتاب صلاة الليل، باب الأمر بالوتر. وقد صحّحه الألباني انظر: صحيح الجامع الصغير 1617. ومشكاة المصابيح 1180. وقال ابن الأثير رحمه الله: "كذب أبو محمد: أي أخطأ، سماه كذباً لأنه يشبهه في كونه ضد الصواب، كما أن الكذب ضد الصدق وإن افترقا من حيث النية والقصد؛ لأن الكاذب يعلم أن ما يقوله كذب، والمخطئ لا يعلم. وهذا الرجل ليس بمخبر، وإنما قاله باجتهاد إلى أن الوتر واجب، والاجتهاد لا يدخله الكذب، وإنما يدخله الخطأ". النهاية في غريب الحديث 4159. 3 نوف بن فضالة الحميري البِكَالي، ابن امرأة كعب الأحبار. شامي مستور. قال ابن حجر رحمه الله: وإنّما كذّب ابن عباس ما رواه عن أهل الكتاب. من الثانية. مات بعد التسعين". تقريب التهذيب لابن حجر 1255. وانظر: البداية والنهاية 1276. 4 أخرجه البخاري في صحيحه 41752، كتاب التفسير، باب {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} . ومسلم في صحيحه 41847- 1850، كتاب الفضائل، باب من فضائل الخضر عليه السلام. وأحمد في المسند 3244،، 5117-119.

وأيضاً: من أخبر الناس خبراً، طلب أن يصدّقوه فيه، وقد نُهوا عن تصديقه إلا ببينة، فإنّه أيضاً كاذب؛ كما قال تعالى في القرآن: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بَأرْبَعَةِ شُهَدَاءَ [فَإِذْ] 1 لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهدَاءِ فَأوْلَئِكَ عِندَ اللهِ هُمُ الكَاذِبُون} 2. وقال في القاذفين: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدَاً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ إِلاَّ الَّذين تَابُوا مِنْ بَعْد ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 3. وكذلك: إنَّ القاذف، وإن كان قد رأى الفاحشة بعينه، لكنه إذا أخبر بها الناس، فهو يطلب منهم أن يصدّقوه بمجرد خبره، وليس لهم ذلك، بل ليس لهم أن يصدّقوه حتى يأتي بأربعة شهداء، وهو لا يخبر الناس ليكذّبوه، بل يخبرهم ليعتقدوا ثبوت ما أخبرهم به، ويعتقدوا أن المقذوف قد فعل الفاحشة، وهم ليس لهم أن يقولوا ذلك إلا بأربعة شهداء، فإذا لم يأت بأربعة شهداء، فهو عند الله كاذبٌ؛ لأنّه أخبر الناس بأنّ هذا فعل الفاحشة، وقال خبراً طلب به تصديقهم، وإن يظهر أنّ هذا فعلها. فحقيقة خبره أنّ هذا فعل فاحشةً ظاهرةً يرتب عليها هذا. بل إن كان فعل شيئاً، فقد فعله سراً، لم يُعلم به الناس. الذنب إذا كتم لم يضر إلا صاحبه وقد علم أن الذنب إذا كُتِمَ لم يضرّ إلا صاحبه، ولكن إذا أُعلن، فلم يُنكر، ضرّ الناس4. وهذا لم يُعلنه.

_ 1 في ((م)) ، و ((ط)) : فإذا. 2 سورة النور، الآية 13. 3 سورة النور، الآيتان 4-5. 4 هذه المسألة تبحث في إظهار المنكر، أو إخفائه. وقد بحثها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى 14465،، 15302-304،، 34180. وانظر جامع العلوم ولحكم 2292-293.

وأكثر المسلمين إذا فعل أحدهم فاحشةً باطنةً، تاب منها ومن إعلانها. [يتشبه] 1 النّاس بعضهم ببعض في ذلك. فلهذا نهى الله عن فعلها، وعن التكلّم بها؛ صدقاً، وغير صدق؛ فإنّها إذا فُعِلَتْ، وكُتِمَتْ، خَفَّ أَمْرُهَا، وإذا أُظْهِرَتْ، كان فيها مفاسد كثيرة؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من ابتُلي من هذه القاذورات بشيء، فليستتر بستر الله؛ فإنَّ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عليه كتاب الله" 2، وقال: "كلّ أمتي معافى، إلا المجاهرين، وإنّ من المجاهرة أن يبيت الرجل على الذنب قد ستره الله، فيُصبح يقول: يا فلان فعلتُ البارحة كذا، وكذا"3. فقد نهى الله تعالى صاحبها أن يظهرها ويعلنها، فكيف القاذف؟. بخلاف ما إذا أقرّ بها عند ولي أمر، ليقيم عليه الحد، أو يشهد بها نصاب تامّ لإقامة الحدّ4، فذاك فيه منفعة وصلاح. وقد يُخبر بها بعض الناس سراً؛ لمن يعلمه كيف يتوب؟ ويستفتيه، ويستشيره فيما يفعل؟ فعلى ذلك المفتي والمشير أن يكتم عليه ذلك، ولا يشيع الفاحشة. وبسط هذا له موضع آخر5.

_ 1 في ((خ)) : يشبه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 أخرجه الإمام مالك في الموطأ 1-2825، كتاب الحدود، باب ما جاء فيمن اعترف على نفسه بالزنا، مع اختلافٍ يسير. 3 أخرجه البخاري في صحيحه 52254، كتاب الآداب، باب ستر المؤمن على نفسه. ومسلم في صحيحه 42291، كتاب الزهد والرقائق، باب النهي عن هتك الإنسان ستر نفسه. 4 انظر بعض من اعترف على نفسه وأقرّ بما فعل، في صحيح مسلم 31318-1325، كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنى. 5 انظر: مجموع الفتاوى 34180.

الناس فيمن قال إني رسول قسمان: إما مصدق وإما غير مصدق والمقصود هنا: أنّ الناس [في من] 1 قال: [إني] 2 رسول: قسمان: إمّا مصدّق، وإمّا غير مصدّق. فمن ليس بمصدق: لا يمكنه أن يأتي بمثل آيات الأنبياء؛ سواء قال: إنّه كاذب، أو توقّف في التصديق والتكذيب. وكذلك المؤمنون؛ أتباع الأنبياء: إذا أتوا بآية، كانت دليلاً على نبوّة النبيّ الذي اتبعوه، فلا يمكن من لا يصدّق النبي أن يعارضهم. ومتى عارضهم، لم يكن من آيات الأنبياء. ولهذا كان أبو مسلم، لمّا قال له الأسود العنسي: أتشهد أنّي رسول الله؟ قال: ما أسمع. قال: أتشهد أن محمّداً رسول؟ قال: نعم. فألقاه في النار، فصارت عليه برداً وسلاماً3. فكرامات الصالحين هي مستلزمة لصدقهم في قولهم: إنّ محمّداً رسولٌ، ولثبوت نبوته. فهي من جملة آيات الأنبياء. وآياتهم4، وما خصهم الله به، لا يكون لغير الأنبياء5. وإذا قال القائل: معجزات الأنبياء، وآياتهم، وما خصّهم الله به: فهذا كلامٌ مجملٌ؛ فإنّه لا ريب أنّ الله خصّ الأنبياء بخصائص، لا توجد لغيرهم.

_ 1 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 2 في ((ط)) : إن. 3 القصة أخرجها أبو نعيم في الحلية2128، وابن الجوزي في صفة الصفوة 4208. وانظر البداية والنهاية لابن كثير 6272-273. 4 يعني الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. 5 انظر ما تقدم في هذا الكتاب: ص 162. وما سيأتي في نهاية هذا الفصل، ص 987. وانظر كذلك البداية والنهاية 6161.

بعض الآيات التي يختص بها كل نبي عن غيره من الأنبياء ولا ريب أنّ من آياتهم، ما لا يقدر أن يأتي به غير الأنبياء. بل النبيّ الواحد له آيات، لم يأت بها غيره من الأنبياء؛ كالعصا، واليد لموسى [عليه السلام] ، وفرق البحر؛ فإنّ هذا لم يكن لغير موسى1؛ وكانشقاق القمر، والقرآن، وتفجير الماء من بين الأصابع، وغير ذلك2 من الآيات التي لم تكن لغير محمّد [عليه الصلاة والسلام] من الأنبياء؛ وكالناقة التي لصالح [عليه السلام] ؛ فإنّ تلك الآية لم تكن مثلها لغيره؛ وهو خروج ناقة من الأرض3. بعض الآيات التي اشترك فيها كثير من الأنبياء بخلاف إحياء الموتى: فإنّه اشترك فيه [كثيرٌ] 4 من الأنبياء، بل ومن الصالحين5.

_ 1 انظر ما تقدّم ص 195، 636 من هذا الكتاب. 2 انظر ص 632 من هذا الكتاب. 3 سبق الكلام عن ذلك في ص 636 من هذا الكتاب. 4 في ((م)) ، و ((ط)) : كثيراً. 5 انظر بعض القصص في إحياء الله الموتى على يد بعض الصالحين، في البداية والنهاية 6161-166، 295-297. وقال شيخ الإسلام رحمه الله في الجواب الصحيح 417: "فإنّ أعظم آيات المسيح عليه السلام: إحياء الموتى، وهذه الآية قد شاركه فيها غيره من الأنبياء؛ كإلياس، وغيره". وقال أيضاً في الجواب الصحيح: "فمن ذلك: أن كتاب سفر الملوك يخبر أن إلياس أحيا ابن الأرملة، وأن اليسع أحيا ابن الإسرائيلية، وأن حزقيال أحيا بشراً كثيراً، ولم يكن أحد ممن ذكرنا بإحيائه الموتى إلهاً". الجواب الصحيح 4120-121. وعن إحياء اليسع لابن الإسرائيلية، انظر: العهد القديم، سفر الملوك الثاني، الإصحاح الرابع، فقرة 21-37، ص 588-589. وانظر كذلك إحياء الموتى لموسى عليه السلام. في الجواب الصحيح 418.

وملك سليمان [عليه السلام] ، لم يكن لغيره؛ كما قال: {رَبِّ اغْفِرْ لي وَهَبْ لي مُلْكَاً لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} 1؛ فطاعة الجن والطير، وتسخير الريح تحمله من مكان إلى مكان؛ له، ولمن معه. [لم] 2 يكن مثل هذه الآية لغير سليمان. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: " ما من نبيّ من الأنبياء، إلا وقد أُوتي من الآيات ما أمن على مثله البشر، وإنّما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة"3. وهو من حين أتى بالقرآن، وهو بمكة يقرأ على الناس: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرَاً} 4.

_ 1 سورة ص، الآية 35. 2 في ((ط)) : ولم. 3 الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 41905، كتاب فضائل القرآن، باب كيف نزل الوحي، وأول ما أُنزل. ومسلم في صحيحه 1134، 152، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس، ونسخ الملل بملته. وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله عند هذا الحديث: "والمعنى أنّ كلّ نبيّ أوتي من خوارق المعجزات ما يقتضي إيمان من رأى ذلك من أولي البصائر والنهى، لا من أهل العناد والشقاء، وإنّما كان الذي أوتيته؛ أي جلّه وأعظمه وأبهره القرآن الذي أوحاه الله إليّ، فإنّه لا يبيد ولا يذهب، كما ذهبت معجزات الأنبياء، وانقضت أيامهم، فلا تُشاهد، بل يُخبر عنها بالتواتر والآحاد، بخلاف القرآن العظيم الذي أوحاه الله إليه؛ فإنّه معجزة متواترة عنه، مستمرة، دائمة البقاء بعده، مسموعة لكل من ألقى السمع وهو شهيد". البداية والنهاية 6262-263. 4 سورة الإسراء، الآية 88.

فقد ظهر أنّ من آيات الأنبياء ما يختصّ به النبيّ، ومنها [ما] 1 يأتي به عددٌ من الأنبياء، ومنها ما يشترك فيه الأنبياء كلّهم ويختصّون به؛ وهو الإخبار عن الله بغيبه الذي لا يعلمه إلا الله؛ قال: {عَالِمُ الغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدَاً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدَاً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِم وَأَحْصَى كُل شَيْءٍ عَدَدَاً} 2. لكن ما يظهر على المؤمنين بهم من الآيات؛ بسبب الإيمان بهم: فيه قولان: كرامات الأولياء: هل هي من آيات الأنبياء أم لا فيه قولان: قال طائفة3: ليس ذلك من آياتهم. وهذا قول من يقول: من شرط المعجزة أن [يقارن] 4 دعوى النبوة، لا يتقدّم عليها، ولا يتأخّر عنها؛ كما قاله هؤلاء5 الذين يجعلون خاصّة المعجزة: التحدّي بالمثل، وعدم المعارضة، ولا يكون إلا مع الدعوى، كما تقدم. وهو قولٌ قد عرف فساده من وجوه. والقول الثاني: وهو القول الصحيح: أنّ آيات الأولياء هي من جملة آيات الأنبياء6؛ فإنّها مستلزمة لنبوّتهم، ولصدق الخبر بنبوّتهم؛ فإنه لولا

_ 1 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 2 سورة الجن، الآيات 26-28. 3 وهم المعتزلة الذين نفوا كرامات الأولياء. وانظر: شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار ص 569-570. 4 في ((م)) ، و ((ط)) : تقارن. 5 وهم الأشاعرة. وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 152-153، 586. 6 قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "ذكر غير واحد من العلماء أنّ كرامات الأولياء معجزات للأنبياء؛ لأنّ الوليّ إنّما نال ذلك ببركة متابعته لنبيّه وثواب إيمانه". البداية والنهاية 6163.

ذلك، لما كان هؤلاء أولياء، ولم [يكن] 1 لهم كرامات. لكن يحتاج أن يفرق بين كرامات الأولياء، وبين خوارق السحرة والكهّان، وما يكون للكفّار، والفسّاق، وأهل الضلال والغي بإعانة الشياطين لهم؛ كما يُفرّق بين ذلك، وبين آيات الأنبياء. والفروق بين ذلك كثيرة، كما قد بُسِط في غير هذا الموضع2.

_ 1 في ((م)) ، و ((ط)) : تكن. 2 تقدّمت فروق كثيرة في ثنايا هذا الكتاب، انظر في ذلك على سبيل المثال: ص 118-120، 558-559. وانظر كذلك من كتب شيخ الإسلام: الجواب الصحيح 186، 5196، 6297-301. وشرح الأصفهانية 2472-477. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 49.

فصل فقد تبيّن أن من آيات الأنبياء ما يظهر مثله على أتباعهم، ويكون ما يظهر على أتباعهم: من آياتهم؛ فإنّ ذلك مختصّ بمن يشهد بنبوتهم؛ فهو مستلزم له: لا [تكون] 1 تلك الآيات إلاّ لمن أخبر بنبوتهم، [وإذا لم يخبر بنبوتهم] 2، لم تكن له تلك الآيات. وهذا حد الدليل؛ وهو: أن يكون مستلزماً للمدلول عليه؛ فإذا وُجد الدليل، وجد المدلول عليه، وإذا عُدم المدلول عليه، عُدِم الدليل. ولهذا من السلف من يأتي بالآيات دلالة على صحة الإسلام، وصدق الرسول3؛ كما ذُكِر أنّ خالد بن الوليد شرب السم لما طُلب منه آية، ولم يضرّه4.

_ 1 في ((خ)) : يكون. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 ما بين المعقوفتين مكرّرٌ في ((خ)) . 3 أي يتحدّى بالكرامة، أو يُظهرها. وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى كثيراً من الأمثلة على الكرامات التي وقعت لذلك. انظر ما سبق في هذا الكتاب ص 160-162. 4 تقدّمت كرامة خالد بن الوليد رضي الله عنه في شربه السمّ، ولم يضره، في ص161 من هذا الكتاب.

فصل خوارق الكهان والسحرة ليست من خوارق العادات وإنما من العجائب الغريبة

فصل خوارق الكهان والسحرة ليست من خوارق العادات وإنما من العجائب الغريبة ... فصل في معنى خرق العادة، وأن الإعتبار أن تكون خارقة لعادة غير الأنبياء مطلقا؛ بحيث [تختص] 1 بالأنبياء، فلا [توجد] 2 إلا مع الإخبار بنبوتهم. خوارق الكهان والسحرة ليست من خوارق العادات وإنما من العجائب الغريبة وأما إخبار الكهان ببعض الأمور الغائبة؛ لإخبار الشياطين لهم بذلك، وسحر السحرة؛ بحيث يموت الإنسان من السحر، أو [يمرض] 3، [ويُمنع] 4 من النكاح، ونحو ذلك مما هو بإعانة الشياطين: فهذا أمرٌ موجودٌ في العالم، كثيرٌ، معتادٌ، يعرفه الناس، ليس هذا من خرق العادة، بل هو من العجائب الغريبة التي يختص بها بعض الناس؛ كما يختصّ قوم بخفة اليد، [والشعبذة] 5؛ وقومٌ بالسباحة الغريبة، حتى يضطجع أحدهم على الماء6؛ وكما يختص قومٌ بالقيافة7، حتى يُباينوا بها غيرهم؛ وكما

_ 1 في ((خ)) : يختص. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 في ((خ)) : يوجد. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 في ((خ)) : بمرض. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 في ((خ)) : يمتنع. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 في ((ط)) : والشعوذة. والشعوذة، والشعبدة: اسمان مترادفان للعبٍ يُري الإنسان منه ما ليس له حقيقة؛ كالسحر. المصباح المنير ص 314. 6 انظر: البيان للباقلاني ص 22. 7 القيافة: هي معرفة الآثار. تقدم التعريف بها.

يختص قومٌ بالعيافة1، ونحو ذلك مما هو موجود. مكذبوا الرسل يجعلون آيات الرسل من جنس السحر ولهذا كان [مكذّبوا] 2 الرسل يجعلون آياتهم من جنس السحر، وهذا مستقرٌ في نفوسهم: أنّ الساحر ليس برسولٍ، ولا نبيّ؛ كما في قصة موسى لما قالوا: {إِنَّ [هَذَا] 3 لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُون} 4، قال تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُون} 5؛ وهذا لحيرتهم، وضلالتهم؛ تارةً يُنسبون إلى الجنون، وعدم العقل؛ وتارة إلى الحذق، والخبرة التي [يُنال] 6 بها السحر؛ فإنّ السحر لا يقدر عليه، ولا يُحسنه كلّ أحد، لكن العجائب، والخوارق المقدورة للناس7؛ منها ما سببه من الناس بحذقهم في ذلك الفنّ؛ كما يحذق الرجل

_ 1 العيافة: زجر الطير، والتفاؤل بأسمائها، وأصواتها، وممرّها، وهو من عادة العرب كثيراً. لسان العرب 9261. وجاء في الحديث: أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ العيافة، والطرق، والطيرة من الجبت". قال عوف: العيافة: زجر الطير. والطرق: الخط في الأرض. والجبت قال الحسن: إنّه الشيطان. مسند الإمام أحمد 560. وانظر تيسير العزيز الحميد 398-400. 2 في ((م)) ، و ((ط)) : مكذبو. 3 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 4 سورة الأعراف، الآيتان 109-110. 5 سورة الذاريات، الآية 52. 6 في ((خ)) : نال. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 7 انظر الكلام على الشعوذة والعجائب التي يتقنها بعض الناس، ويبرزوا فيها في: البيان للباقلاني ص 22-27. والأصول الخمسة لعبد الجبار ص 572-573. والفصل لابن حزم 54-5. والمواقف للإيجي ص 345. وشرح المقاصد 3347-348. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 368. وتفسير ابن كثير 1146

في صناعة من الصناعات؛ وكما يحذق الشاعر، والخطيب [في] 1 شعره، وخطابته، وعلمه؛ وكما يحذق بعض الناس في رمي النشاب2، وعمل الرمح، وركوب الخيل. فهذه كلّها قد يأتي الشخص منها بما لا يقدر عليه أهل البلد، بل أهل الإقليم، لكنها مع ذلك مقدورة، مكتسبة، معتادة بدون النبوة، قد فعل مثلها ناس آخرون قبلهم، أو في مكان أخر؛ فليست هي خارقة لعادة غير الأنبياء مطلقاً، بل [توجد] 3 معتادة لطائفة من الناس، وهم لا يقولون إنّهم أنبياء، ولا يخبر أحد عنهم بأنهم أنبياء. سبب الغلط في آيات الأنبياء ومن هنا دخل الغلط على كثير من الناس؛ فإنّهم لما رأوا آيات الأنبياء خارقة للعادة، لم يعتد الناس مثلها، أخذوا مسمّى خرق العادة4، ولم يميّزوا بين ما يختص به الأنبياء، ومن أخبر بنبوتهم، وبين ما يوجد معتاداً لغيرهم. لم يسم الله آيات الأنبياء معجزات وإنما آيات وبراهين واضطربوا في مسمّى هذا الاسم؛ كما اضطربوا في مسمّى المعجزات، ولهذا لم يُسمّها الله في كتابه، إلا آيات، وبراهين؛ فإنّ ذلك اسمٌ يدلّ على مقصودها، ويختصّ بها، لا يقع على غيرها؛ لم يُسمّها معجزة، ولا خرق عادة، وإن كان ذلك من بعض صفاتها؛ فهي لا تكون آيةً وبرهاناً حتى تكون قد خرقت العادة، وعجز الناس عن الإتيان بمثلها. لكن هذا بعض صفاتها، وشرط فيها، وهو من لوازمها.

_ 1 في ((خ)) : وفي - بزيادة الواو، وليست في ((م)) ، و ((ط)) . 2 سبق التعريف به في ص 714. 3 في ((خ)) : يوجد. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 المقصود بخرق العادة: أن يكون خارقاً لعادة الجنّ والإنس، فلا يأتي بمثله إلا الأنبياء.

لكن شرط الشيء، ولازمه قد يكون أعمّ منه1. وهؤلاء جعلوا مسمّى المعجزة وخرق العادة، هو: الحدّ المطابق لها طرداً وعكساً2.كما أن بعض النّاس يجعل اسمها أنّها عجائب. وآيات الأنبياء إذا وصفت بذلك، فينبغي أن يُقيّد بما يختصّ بها؛ فيقال: العجائب التي أتت بها الأنبياء، وخوارق العادات، والمعجزات التي ظهرت على أيديهم، أو التي لا يقدر عليها البشر، أو لا يقدر عليها أحد بحيلة واكتساب؛ كما يقدرون على السحر والكهانة، فبذلك تتميّز آياتهم عما ليس من آياتهم. وإلاّ فلفظ العجائب قد يدخل فيه بعض الناس الشعبذة3 ونحوها.

_ 1 سبق مثل هذا الكلام في ص 932 من هذا الكتاب. وقد أورد شيخ الإسلام رحمه الله فصلاً عن هذا الموضوع قبل هذا الفصل، فليُراجع. 2 الطرد: ما يُوجب الحكم لوجود العلة، وهو التلازم في الثبوت. والعكس في اصطلاح الفقهاء: عبارة عن تعليق نقيض الحكم المذكور بنقيض علته المذكورة، رداً إلى أصل آخر؛ كقولنا: ما يلزم بالنذر يلزم بالشروع؛ كالحج. وعكسه: ما لم يلزم بالنذر لم يلزم بالشروع. فيكون العكس على هذا ضدّ الطرد، وهو التلازم في الانتفاء؛ بمعنى: كل ما لم يصدق الحد، لم يصدق المحدود. انظر: التعريفات للجرجاني ص 183، 198. وانظر ما سبق في ص 307 من هذا الكتاب. والمعتزلة هم الذين جعلوا خرق العادة حدّاً للمعجزة مطّرد منعكس؛ فكلّ خرق فهو معجزة للنبي. ولهذا أنكروا الخوارق التي تقع لغير الأنبياء؛ كخوارق السحرة، والكهان، وكرامات الأولياء. انظر: المغني للقاضي عبد الجبار 15218. وانظر كلام المؤلف رحمه الله فيما مضى ص 147-152 من هذا الكتاب. 3 سبق التعريف بها قريباً.

معنى التعجب والتعجب في اللغة يكون من أمرٍ خرج عن نظائره1. وما خرج عن نظائره فقد خرق تلك العادة المعيّنة في نظائره، فهو أيضاً خارق للعادة. آيات الأنبياء لا نظير لها لغيرهم وهذا شرطٌ في آيات الأنبياء؛ أن لا يكون لها نظير لغير الأنبياء، ومَنْ يُصدقهم. فاذا وجد نظيرها من كل وجه لغير الأنبياء، ومن شهد لهم بالنبوة، لم تكن تلك من آياتهم، بل كانت مشتركة بين من يخبر بنبوتهم، ومن لا يخبر بنبوتهم، كما يشترك هؤلاء وهؤلاء في الطبّ والصناعات. السحر والكهانة من إعانة الشياطين لبني آدم وأمّا السحر والكهانة: فهو من إعانة الشياطين لبني آدم، فإنّ الكاهن [تُخْبِره] 2 الجن، وكذلك الساحر إنما يُقتل، ويُمرِض، ويَصْعَدُ في الهواء، ونحو ذلك، بإعانة الشياطين له؛ فأمورهم خارجة عما اعتاده الإنس بإعانة الشياطين لهم، قال تعالى: {وَيَوْمَ [يَحْشُرُهُمْ] 3 جَمِيعَاً يَا مَعْشَرَ الجِنِّ قَد اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنْسِ وَقَال أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا [الَّذِي] 4 أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النارُ مَثْوَاكُمْ خالِدِينَ [فِيهَا] 5 إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ} 6؛ فالجن والإنس قد استمتع بعضهم ببعض, فاستخدم هؤلاء هؤلاء، وهؤلاء هؤلاء في أمور كثيرة، كُلّ منهم فعل للآخر ما هو غرضه، ليعينه على

_ 1 قال الزجاج: أصل العجب في اللغة: أن الإنسان إذا رأى ما ينكره ويقلّ مثله، قال: عجبت من كذا. وقال ابن الأعرابي: العجب: النظر إلى شيء غير مألوف، ولا معتاد. انظر تهذيب اللغة 1386. 2 في ((م)) ، و ((ط)) : يخبره. 3 في ((م)) : نحشرهم - بالنون، وهي قراءة الجميع، عدا حفص. انظر: سراج القارئ المبتدي ص 216. 4 في ((ط)) : ادلذي. 5 في ((ط)) : طفيها. 6 سورة الأنعام، الآية 128.

غرضِهِ. والسحر والكهانة من هذا الباب1. وكذلك ما يُوجد لعباد الكفار من المشركين وأهل الكتاب، ولعباد المنافقين والملحدين من المظهرين للإسلام والمبتدعين منهم، كلّها بإعانة الجنّ والشياطين. الشياطين تظهر عند كل قوم بما لا ينكرونه لكن الشياطين تظهر عند كل قوم بما لا ينكرونه؛ فإذا كان القوم كفاراً لا ينكرون السحر والكهانة؛ كما كانت العرب؛ وكالهند، والترك، والمشركين، ظهروا بهذا الوصف؛ لأن هذا معظّمٌ عند تلك الأمة، وإن كان هذا مذموماً عند أولئك، كما قد ظهر ذم هؤلاء عند أهل الملل؛ من المسلمين، واليهود، والنصارى، أظهرته الشياطين فيمن يُظهر العبادة، ولا يكون مخلصاً لله في عبادته متبعاً للأنبياء، بل يكون فيه شركٌ، ونفاقٌ، وبدعةٌ، فتظهر له هذه الأمور التي ظهرت للكهان والسحرة، حتى يظنّ أولئك أنّ هذه من كرامات الصالحين، وأنّ ما هو عليه هذا الشخص من العادة هو طريق أولياء الله، وإن كان مخالفاً لطريق الأنبياء، حتى يعتقد من يعتقد أنّ لله طريقاً يسلكها إليه أولياؤه، غير الإيمان بالأنبياء وتصديقهم، وقد يعتقد بعض هؤلاء أنّ في هؤلاء من هو أفضل من الأنبياء. أصحاب الأحوال الشيطانية عارضوا الأنبياء وحقيقة الأمر: أن هؤلاء عارضوا الأنبياء، كما كانت تعارضهم السحرة والكهان؛ كما عارضت السحرة لموسى، وكما كان كثيرٌ من المنافقين يتحاكمون إلى بعض الكهان، دون النبي صلى الله عليه وسلم، ويجعلونه نظير النبيّ2.

_ 1 أي من مقدورات الجن والإنس. 2 انظر: تفسير الطبري 5152-155. وتفسير ابن كثير 1519.

الكهانة عند العرب وكان في العرب عدّة من هؤلاء1، وكان بالمدينة منهم أبو برزة الأسلمي2 قبل أن يُسلم كان كاهناً،

_ 1 قال الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ رحمه الله: "اعلم أن الكهان الذين يأخذون عن مسترقي السمع موجودون إلى اليوم، لكنهم قليل بالنسبة لما كانوا عليه في الجاهلية؛ لأن الله تعالى حرس السماء بالشهب، ولم يبق من استراقهم إلا ما يخطفه الأعلى، فيلقيه إلى الأسفل قبل أن يصيبه الشهاب. وأما ما يُخبر به الجني مواليه من الإنس بما غاب عن غيره، مما لا يطّلع عليه الإنسان غالباً، فكثير جداً في أناس ينتسبون إلى الولاية والكشف، وهم من الكهان إخوان الشياطين، لا من الأولياء". تيسير العزيز الحميد ص 405. وقد ذكر القاضي عياض رحمه الله أنّ الكهانة كانت في العرب على ثلاثة أضرب: "أحدها: أن يكون للإنسان ولي من الجن، يخبره بما يسترقه من السماء. وهذا القسم بطل من حين بعث الله نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم. والثاني: أن يُخبره بما يطرأ، أو يكون في أقطار الأرض، وما خفي مما قرب أو بعد. وهذا لا يبعد وجوده. ونفت المعتزلة وبعض المتكلمين هذين الضربين، وأحالوهما. ولا استحالة في ذلك، ولا بُعد في وجوده، لكنهم يصدقون ويكذبون، والنهي عن تصديقهم والسماع منهم عام. والثالث: المنجمون. وهذا الضرب يخلق الله فيه لبعض الناس قوة ما، لكن الكذب فيه أغلب. ومن هذا الفن العرافة، وصاحبها عراف؛ وهو: الذي يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدعي معرفتها بها. وقد يعتضد بعض هذا الفن ببعض في ذلك، بالزجر، والطرق، والنجوم، وأسباب معتادة. وهذه الأضرب كلها تسمى كهانة. وقد أكذبهم كلهم الشرع، ونهى عن تصديقهم وإتيانهم. والله أعلم". شرح النووي على مسلم (14223) . 2 هو نضلة بن عبيد، أبو برزة الأسلمي. صحابي مشهور بكنيته. أسلم قبل الفتح، وغزا سبع غزوات، ثم نزل البصرة، وغزا خراسان، ومات بها بعد سنة خمس وستين على الصحيح. انظر: حلية الأولياء 232-33. وتقريب التهذيب 2247. وانظر: سير أعلام النبلاء 340. والأعلام 833.

وقد قيل: [إنّه] 1 الذي أنزل الله تعالى فيه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيْدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكُفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدَاً} 2. وقد ذكر قصته غير واحد من المفسرين3. ولما كان الذين يعارضون آيات الأنبياء من السحرة والكهان لا يأتون بمثل آياتهم، بل يكون بينهما شَبهٌ كشَبه الشعر بالقرآن؛ ولهذا قالوا في النبيّ: إنّه ساحرٌ، وكاهنٌ، وشاعرٌ مجنون، قال تعالى: {انْظُر كَيف ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} 4؛ فجعلوا له مثلاً لا يُماثله، بل بينهما شَبَهٌ، مع وجود الفارق المبين.

_ 1 في ((م)) ، و ((ط)) : إن. 2 سورة النساء، الآية 60. 3 ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله أن الطبراني روى بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان أبو برزة الأسلمي كاهناً يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه، فتنافر إليه ناس من المشركين، فأنزل الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} - إلى قوله: - {إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} ... ". تفسير ابن كثير 1519. وقال الهيثمي عن رجال هذا الخبر: رجاله رجال الصحيح. مجمع الزوائد 76. وقد ذكر خبر هذه المنافرة: الطبري - مطوّلاً - انظر تفسيره 5154. وانظر: زاد المسير لابن الجوزي 2119-120. وأسباب النزول للواحدي ص 119-121. والدر المنثور للسيوطي 2178. وفي أسباب النزول للواحدي، وزاد المسير لابن الجوزي: "أبو برده بدل أبي برزة"، وفي تفسير الطبري، وابن كثير، والدر المنثور: (أبو برزة) . 4 سورة الفرقان، الآية 9.

وهذا هو القياس الفاسد؛ فلمّا كان الشعر كلاماً له فواصل ومقاطع، والقرآن آيات له فواصل ومقاطع، قالوا: شاعر. ولكن شتّان1. وكذلك الكاهن؛ يخبر ببعض المغيّبات، ولكن يكذب كثيراً، وهو يخبر بذلك عن الشياطين، وعليه من آثارهم ما يدلّ على أنّه أفّاكٌ أثيم؛ كما قال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِين تَنَزَّلُ عَلَى كُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُون} ، [ثم] 2 قال: {وَالشُّعَرَاءُ [يَتَّبِعُهُمُ الغَاوُونَ] 3 أَلَمْ تَرَ أَنَهُم في كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} 4. فذكر سبحانه الفرق بين النبيّ، وبين الكاهن والشاعر. وكذلك الساحر؛ لما كان يتصرّف في العقول النفوس بما يُغيّرها، وكان من سمع القرآن وكلام الرسول خضع له عقله ولبه، وانقادت له نفسه وقلبه، صاروا يقولون: ساحرٌ، وشتّان. وكذلك مجنون؛ لما كان المجنون يُخالف عادات الكفار وغيرهم، لكن بما فيه [فسادٌ لا صلاح - والأنبياء جاؤوا بما يُخالف عادات الكفّار، لكن بما فيه] 5 صلاحٌ لا فساد، قالوا: مجنون، قال تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُون أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُون} 6. فتارةً يصفونه بغاية الحذق، والخبرة، والمعرفة؛ فيقولون: ساحر، وتارةً بغاية الجهل، والغباوة، والحمق؛ فيقولون: مجنون.

_ 1 سبق مثل ذلك. انظر ص 220-221 من هذا الكتاب. 2 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 3 في ((ط)) : يتبعه غاوون. 4 سورة الشعراء، الآيات 221-226. 5 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 6 سورة الذاريات، الآيتان 52-53.

وقد ضلوا في هذا، وهذا؛ كما قال تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} 1؛ فهم بمنزلة السائر في الطريق، وقد ضلّ عنها، يأخذ يميناً وشمالاً، ولا يهتدي إلى السبيل التي تُسلك. والسبيل التي يجب سلوكها: قولُ الصدق، والعملُ بالعدل. الأنبياء تعينهم الملائكة والسحرة تعينهم الشياطين والكهانة والسحر يناقض النبوة؛ فإن هؤلاء2 تُعينهم الشياطين؛ تُخبرهم، وتعاونهم بتصرفات خارقة، ومقصودهم: الكفر، والفسوق، والعصيان. والأنبياءُ تُعينهم الملائكة؛ هم الذين يأتونهم، فيخبرونهم بالغيب، ويعاونونهم بتصرّفات خارقة؛ كما كانت الملائكة تُعين النبيّ صلى الله عليه وسلم في مغازيه مثل يوم بدر أمدّه الله بألف من الملائكة3، ويوم حنين4 قال: {وَيَومَ

_ 1 سورة الفرقان، الآية 9. 2 الكهّان، والسحرة. 3 قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [سورة النساء، الآية 123] . وفي صحيح مسلم: من حديث عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً. فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مدّ يديه فجعل يهتف بربه: "اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض"، فما زال يهتف بربه، مادّاً يديه، مستقبل القبلة، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه، فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك، فإنّه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجلّ: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [سورة الأنفال 9] ، فأمده الله بالملائكة". صحيح مسلم 31383-1384، كتاب الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر، وإباحة الغنائم. 4 قال شيخ الإسلام رحمه الله عن هاتين الغزاتين: "إنهما غزاتان بينهما نحو ست سنين؛ كانت بدر في السنة الثانية من الهجرة، وكانت حنين في السنة الثامنة بعد فتح مكة. وإن بدراً مكان بين مكة والمدينة شامي مكة، ويماني المدينة. وحنين: واد قريب من الطائف شرقي مكة. وإنما قرن بينهما في الاسم؛ لأنّ الله أنزل فيهما الملائكة، وأيّد بهما نبيه والمؤمنين، حتى غلبوا عدوهم، مع قوة العدو في بدر، ومع هزيمة أكثر المسلمين أولاً بحنين. وامتن الله بذلك في كتابه".. ثم ذكر الآيات في ذلك؛ التي في النساء، الآية 123، والتي في التوبة 25-26.. الجواب الصحيح 6335-336.

حُنَينٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئَاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودَاً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الكَافِرِينَ ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1، وقال تعالى: {إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا في الغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ [لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا] 2 فَانْزَلَ اللهُ سَكينَته عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنودٍ لَمْ تَرَوْهَا} 3، وقال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى المَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي في قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} 4. وقد بيَّن سبحانه أنّ الذي جاء بالقرآن مَلَكٌ كَرِيمٌ، ليس بشيطان، فقال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي العَرْشِ مَكِين مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِين وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنون وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ المُبِين وَمَا هُوَ عَلَى الغَيْبِ [بِضَنِين] 5 وَمَا

_ 1 سورة التوبة، الآيات 25-27. 2 ما بين المعقوفتين ساقطٌ من ((خ)) . 3 سورة التوبة، الآية 40. 4 سورة الأنفال، الآية 12. 5 في ((م)) ، و ((ط)) : بظنين - بالظاء - والمصاحف العثمانية مجمعة على رسمه بالضاد. ولم ترسم بالظاء إلا في مصحف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. انظر: سراج القارئ المبتدي ص 381.

هُو بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيم فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} 1. ولمّا كانت الأنبياء مؤيدة بالملائكة، والسحرة والكهان تقترن بهم الشياطين، كان من الفروق التي بينهم: الفروق التي بين الملائكة والشياطين. النبوة عند المتفلسفة والمتفلسفة الذين لم يعرفوا الملائكة والجن؛ كابن سينا وأمثاله، ظنّوا أنّ هذه الخوارق من قوى النفس، قالوا: والفرق بين النبيّ والساحر: أنّ النبيّ يأمر بالخير، والساحر يأمر بالشر2. وجعلوا ما يحصل [للممرور] 3 من هذا الجنس؛ إذ لم يعرفوا صرع الجنّ للإنسان، وأنّ الجني يتكلم على لسان الإنسان، كما قد عرف ذلك الخاصة [والعامة] 4، وعرفه علماء الأمة وأئمتها؛ كما قد بسط في غير هذا الموضع5.

_ 1 سورة التكوير، الآيات 19-26. 2 انظر: كتاب الصفدية 1143. وشرح الأصفهانية 2504. والرد على المنطقيين ص 322. وقد سبق أن تكلم شيخ الإسلام رحمه الله في هذا الكتاب عن موقف الفلاسفة من النبوة. انظر ص 609-612، 730-735، 834-844، 856. 3 في ((ط)) : للمرورن. وقد تقدم التعريف به ص 836. 4 في ((ط)) : (والعام ة) . 5 بل إنّ شيخ الإسلام رحمه الله تعالى يُقرّر هذه القضية، ويردّ على من يُنكر دخول الجنّ في الإنسان في مواضع عديدة من كتبه، فمن ذلك قوله: "وجود الجنّ ثابت، بكتاب الله وسنة رسوله، واتفاق سلف الأمة وأئمتها. وكذلك دخول الجني في بدن الإنسان ثابتٌ باتفاق أئمة أهل السنة والجماعة؛ قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ ... } . وفي الصحيح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إنّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم". وقال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل: قلت لأبي إنّ أقواماً يقولون: إنّ الجني لا يدخل في بدن المصروع. فقال: يا بنيّ يكذبون، هذا يتكلّم على لسانه. وهذا الذي قاله أمرٌ مشهور؛ فإنّه يصرع الرجل فيتكلم بلسان لا يعرف معناه، ويضرب على بدنه ضرباً عظيماً، لو ضُرب به جمل لأثّر به أثراً عظيماً. والمصروع مع هذا لا يحسّ بالضرب، ولا بالكلام الذي يقوله. وقد يجر المصروع، وغير المصروع، ويجر البساط الذي يجلس عليه ويُحول الآلات، وينقل من مكان إلى مكان، ويجري غير ذلك من الأمور من شاهدها أفادته علماً ضرورياً بأن الناطق على لسان الإنسي والمحرّك لهذه الأجسام جنس آخر غير الإنسان. وليس في أئمة المسلمين من يُنكر دخول الجني في بدن المصروع وغيره، ومن أنكر ذلك وادّعى أنّ الشرع يكذب ذلك، فقد كذب على الشرع، وليس في الأدلة الشرعية ما يُنافي ذلك". مجموع الفتاوى 24276-277. ويقول رحمه الله عن صرع الجنّ للإنس: (وهذا أمر قد باشرناه نحن وغيرنا غير مرة، ولنا في ذلك من العلوم الحسيات رؤية وسماعاً ما لا يمكن معه الشك) . كتاب الصفدية 1181. أمّا من يُنكر ذلك، فقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أنّهم طائفة من المعتزلة، فقال رحمه الله: " ... ولهذا أنكر طائفة من المعتزلة كالجبائي، وأبي بكر الرازي، وغيرهما دخول الجنّ في بدن المصروع، ولم ينكروا وجود الجنّ؛ إذ لم يكن ظهور هذا في المنقول عن الرسول كظهور هذا، وإن كانوا مخطئين في ذلك. ولهذا ذكر الأشعري في مقالات أهل السنة والجماعة أنهم يقولون إن الجني يدخل في بدن المصروع؛ كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} ... " مجموع الفتاوى 1912. وممن أنكر صرع الجنّ للإنس: ابن حزم. انظر كتابه الفصل في الملل والأهواء والنحل 59. والأصول والفروع له ص 135-137) . وانظر عن أسباب صرع الجن في مجموع الفتاوى 1382. ولشيخ الإسلام رحمه الله رسالة اسمها: (إيضاح الدلالة في عموم الرسالة) يتكلّم فيها عن الجنّ وإبطال أحوالهم، وكيفية دفعهم. ويتحدث فيها الشيخ رحمه الله عن تجاربه في إخراج الجن من بدن الإنسان مرات كثيرة يطول وصفها بحضرة خلق كثيرين. انظر: مجموع الفتاوى 199-56. وانظر 11293، و24276-282 وكتاب الصفدية 16-7. ويُحدّثنا الإمام ابن القيم عن مشاهداته لشيخه - رحمهما الله، فيقول: "شاهدت شيخنا يرسل إلى المصروع من يُخاطب الروح التي فيه ويقول: قال لك الشيخ اخرجي، فإن هذا لا يحل لك، فيفيق المصروع ولا يحس بألم. وقد شاهدنا نحن وغيرنا منه ذلك مراراً. وكان كثيراً ما يقرأ في أذن المصروع: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون، الآية 115] . وحدثني أنه قرأها مرة في أذن المصروع، فقالت الروح: نعم. ومدّ بها صوته. قال: فأخذت له عصا، وضربته بها في عروق عنقه، حتى كلّت يداي من الضرب، ولم يشك الحاضرون أنه يموت لذلك الضرب، ففي أثناء الضرب قالت: أنا أحبه، فقلت لها: هو لا يُحبّك. قالت: أنا أُريد أن أحُجّ به، فقلت لها: هو لا يُريد أن يحجّ معك. فقالت: أنا أدعه كرامة لك. قال: قلت: لا، ولكن طاعة لله ولرسوله. قالت: فأنا أخرج منه. قال: فقعد المصروع يلتفت يميناً وشمالاً، وقال: ما جاء بي إلى حضرة الشيخ؟ قالوا له: وهذا الضرب كله؟ فقال: وعلى أي شيء يضربني الشيخ ولم أُذنب. ولم يشعر بأنه وقع به ضرب البتة. وكان يُعالج بآية الكرسيّ، وكان يأمر بكثرة قراءتها المصروع ومن يعالجه بها، وبقراءة المعوذتين. وبالجملة: فهذا النوع من الصرع وعلاجه لا يُنكره إلا قليل الحظ من العلم والعقل والمعرفة ... ". زاد المعاد 468-69. ولسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله رسالة مطبوعة، اسمها: (إيضاح الحق في دخول الجني في الإنسي، والرد على من أنكر ذلك) .

أصول الجهمية والجهمية المجبرة الذين قالوا: إنّ الله قد يفعل كل ممكن مقدور1،

_ 1 سبقت إشارة الشيخ رحمه الله إلى ذلك مراراً عديدة انظر ما سبق ص 153، 268، 335، 566، 956، 1065، وما سيأتي ص 1125-1164. وانظر: المواقف للإيجي ص 323-324، 328، 330-332.

لا يُنزّهونه عن فعل شيء، ويقولون: إنه يفعل بلا سبب، ولا حكمة، وهو الخالق لجميع الحوادث؛ لم يُفرّقوا بين ما تأتي به الملائكة، ولا ما تأتي به [الشياطين، بل] 1 الجميع يُضيفونه إلى الله على حدٍّ واحد، ليس في ذلك حسن ولا قبيح عندهم2، حتى يأتي الرسول. فقبل ثبوت الرسالة لا يميزون بين شيء من الخير والشر، والحسن والقبيح. فلهذا لم يُفرّقوا بين آيات الأنبياء، وخوارق السحرة والكهان، بل قالوا: ما [تأتي] 3 به السحرة والكهان يجوز أن يكون من آيات الأنبياء، وما يأتي به الأنبياء يجوز أن يظهر على أيدي السحرة والكهان4. لكن إن دلّ على انتفاء ذلك نصّ أو إجماع، نفوه، مع أنّه جائز عندهم أن يفعله الله، لكن بالخبر علموا أنه لم يفعله.

_ 1 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 2 قال الجويني: "ما من أمر يخرق العوائد إلا وهو مقدور للرب تعالى ابتداء، ولا يمنع وقوع شيء لتقبيح عقل ... فإنّ المعجزة لا تدلّ لعينها، وإنما تدلّ لتعلقها بدعوى النبي الرسالة". الإرشاد ص 319. وقال أيضاً: "ولا يمتنع عقلاً أن يفعل الرب تعالى عند ارتياد الساحر ما يستأثر بالاقتدار عليه، فإن كل ما هو مقدور للعبد، فهو واقع بقدرة الله تعالى عندنا". الإرشاد ص 322. 3 في ((م)) ، و ((ط)) : (يأتي) . 4 قال الباقلاني: "إنّ المعجز ليس بمعجز لجنسه ونفسه، ولا لحدوثها، وإنما يصير معجزاً للوجوه ... ومنها التحدي والاحتجاج". البيان للباقلاني ص 48. وانظر المصدر نفسه ص 91، 94-96. وقال الجويني: "وجنس المعجز يقع من غير دعوى، وإنما الممتنع وقوعه على حسب دعوى الكاذب، فاعلموا ذلك". الإرشاد للجويني ص 328. وانظر المصدر نفسه 324، 326.

فهؤلاء1 لما رأوا ما جاءت به الأنبياء، وعلموا أنّ آياتهم تدلّ على صدقهم، وعلموا ذلك؛ إمّا بضرورة، وإمّا بنظر، واحتاجوا إلى بيان دلائل النبوة على أصلهم، كان غاية ما [قالوه] 2: إنّه كلّ شيء يُمكن أن يكون آية للنبي، بشرط أن يقترن بدعواه، وبشرط أن يتحدى بالإتيان بالمثل فلا يعارض3. معنى التحدي ومعنى التحدي بالمثل: أن يقول لمن دعاهم: ائتوا بمثله4. وزعموا أنّه إذا كان هناك سحرة وكهان، وكانت معجزته من جنس ما يظهر على أيديهم من السحر والكهانة، فإن الله لا بُد أن يمنعهم عن مثل ما كانوا يفعلونه، وأنّ من ادّعى منهم النبوة، فإنّه يمنعه من تلك الخوارق، أو يُقيض له من يعارضه بمثلها5. فهذا غاية تحقيقهم، وفيه من الفساد ما يطول وصفه. طاعة الجن لسليمان طاعة ملكية وطاعة الجنّ والشياطين لسليمان صلوات الله عليه، لم [تكن] 6 من جنس معاونتهم للسحرة، والكهّان، والكفار، وأهل الضلال والغي، ولم تكن الآية، والمعجزة، والكرامة التي أكرمه الله بها، هي ما كانوا يعتادونه مع الإنس؛ فإن ذلك إنّما كان يكون في أمور معتادة؛ مثل إخبارهم أحياناً ببعض [الغائبات] 7؛ ومثل إمراضهم، وقتلهم لبعض الإنس؛ كما أنّ

_ 1 أي الأشعرية المجبرة. 2 في ((م)) ، و ((ط)) : (قالوا) . 3 انظر: البيان للباقلاني 96، 98-101. والإرشاد للجويني ص 319، 328. 4 انظر: الإرشاد للجويني ص 313. 5 انظر: البيان للباقلاني ص 94-95. والإرشاد للجويني ص 312، 327. 6 في ((خ)) : (يكن) . وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 7 في ((ط)) : (احغائبات) .

[الإنسيّ] 1 قد يمرض ويقتل غيره. ثم هم إنّما يعاونون الإنس على الإثم والعدوان، [إذا كانت الإنس2 من أهل الإثم والعدوان] 3، يفعلون ما [يهواه] 4 الشياطين، فتفعل الشياطين بعض ما يهوونه، قال تعالى: {وَيَوْمَ [نَحْشُرُهُمْ] 5 جَمِيعَاً يَا مَعْشَرَ الجِنِّ قَد اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنْسِ وَقَال أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} 6 وأما التسخير الذي سخّروه لسليمان، فلم يكن لغيره من الأنبياء، فضلاً عن من ليس بنبيّ، وقد سأل ربّه مُلْكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعده، فقال: {رَبِّ اغْفِر لي وَهَبْ لي مُلْكَاً لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّاب} 7. قال تعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءَ حَيثُ أَصَاب وَالشَّيَاطِين كُلّ بَنَّاء وَغَوَّاص وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ في الأَصْفَاد هَذَا عَطَاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِك بِغَيرِ حِسَاب} 8. وقال تعالى: {وَلِسُلَيْمَان الرِّيح عَاصِفَة تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الأَرْض التي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِين وَمِنَ الشَّيَاطِين مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دونَ ذلك وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِين} 9.

_ 1 في ((م)) ، و ((ط)) : (الإنس) . 2 في ((م)) : (الإنسي) . 3 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 4 في ((م)) ، و ((ط)) : (تهواه) . 5 كذا في ((خ)) ، و ((م)) ، و ((ط)) : نحشرهم - بالنون، وهي قراءة الجميع، عدا حفص. انظر سراج القارئ المبتدي ص 216) . 6 سورة الأنعام، الآية 128. 7 سورة ص، الآية 35. 8 سورة ص، الآيات 36-39. 9 سورة الأنبياء، الآيتان 81-82.

وقال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيح غُدُوها شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَين القِطْر وَمِنَ الجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْن يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزغ مِنْهُم عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِير يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالجَوَاب وَقُدُورٍ رَاسِيَات اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرَاً وقَلِيل مِن عِبَادِيَ الشَّكُور فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ المَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّة الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجِنُّ أَنْ لَو كَانُوا يَعْلَمُون الغَيْبَ مَا لَبِثُوا في العَذَابِ المُهِين} 1. وكذلك ما ذكره من قول العفريت له: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} 2. فهذه الطاعة من التسخير: بغير اختيارهم في مثل هذه الأعمال الظاهرة العظيمة، ليس مما فعلته بأحد من الإنس، وكان ذلك بغير أن يفعل شيئاً، مما يهوونه؛ من العزائم، والأقسام، والطلاسم الشركية3؛ كما يزعم الكفار أنّ سليمان سخّرهم بهذا، فنزّهه الله من ذلك4، بقوله: {وَاتَّبَعُوا مَا

_ 1 سورة سبأ، الآيات 12-14. 2 سورة النمل، الآية 39. 3 تقدّم التعريف بها، انظر ص 270 من هذا الكتاب. 4 روى الطبري رحمه الله بسنده إلى ابن إسحاق قال: "عمدت الشياطين حين عرفت موت سليمان بن داود عليهما السلام، فكتبوا أصناف السحر....، ثم دفنوه تحت كرسيه، فاستخرجته بعد ذلك بقايا بني إسرائيل حين أحدثوا ما أحدثوا، فلما عثروا عليه قالوا: ما كان سليمان بن داود إلا بهذا. فأفشوا السحر في الناس، وتعلّموه، وعلّموه، فليس في أحد أكثر منه في اليهود. فلما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما نزل عليه من الله سليمانَ بن داود، وعدّه فيمن عدّه من المرسلين، قال من كان بالمدينة من يهود: ألا تعجبون لمحمد - صلى الله عليه وسلم - يزعم أن سليمان بن داود كان نبياً، والله ما كان إلا ساحراً. فأنزل الله في ذلك من قولهم على محمد صلى الله عليه وسلم: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ... } الآية. تفسير الطبري 1446. وانظر: أسباب النزول للواحدي ص 21-22. وتفسير ابن كثير 1132-136. وقد فصّل شيخ الإسلام رحمه الله القول في هذه المسألة في موضع آخر، بعد أن ذكر الطلاسم الشركية، والعزائم، والأقسام التي يستخدمها الجنّ، فقال: "والذين يستخدمون الجن بهذه الأمور يزعم كثير منهم أن سليمان كان يستخدم الجنّ بها، فإنّه قد ذكر غير واحد من علماء السلف أن سليمان لما مات كتبت الشياطين كتبَ سحر وكفر وجعلتها تحت كرسيه، وقالوا: كان سليمان يستخدم الجنّ بهذه، فطعن طائفة من أهل الكتاب في سليمان بهذا، وآخرون قالوا: لولا أن هذا حق جائز لما فعله سليمان. فضلّ الفريقان؛ هؤلاء بقدحهم في سليمان، وهؤلاء باتباعهم السحر، فأنزل الله تعالى في ذلك قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ..} إلى قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} . بيَّن سبحانه أن هذا لا يضرّ ولا ينفع، إذ كان النفع هو الخير الخالص أو الراجح، والضرر هو الشر الخالص أو الراجح، وشر هذا إما خالص، وإما راجح) . مجموع الفتاوى 1942.

تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَان وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} 1. طاعة الجن لنبينا طاعة نبوية وأما طاعة الجنّ لنبيِّنا وغيره من الرسل؛ [كموسى] 2: فهذا نوعٌ

_ 1 سورة البقرة، الآية 102. 2 ما بين المعقوفتين مكرّر في ((خ)) . وشيخ الإسلام رحمه الله تعالى إذ يقرن هنا بين موسى عليه السلام، ونبيّنا صلى الله عليه وسلم بطاعة الجنّ لهم، لكأنه يُشير إلى قوله تعالى حكاية عن الجنّ: {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} [سورة الأحقاف، الآية 30] . وإلى قوله: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} [سورة الجن، الآيتان 1-2، وإلى لآخر السورة] . أما عن سبب عدم ذكر المسيح عليه السلام، مع أنه من أنبياء بني إسرائيل، فقد ذكر ذلك الحافظ ابن كثير رحمه الله عند تفسير قوله تعالى: {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} : "ولم يذكروا عيسى لأنّ عيسى عليه السلام أُنزل عليه الإنجيل فيه مواعظ وترقيقات وقليل من التحريم والتحليل، وهو في الحقيقة كالمتمم لشريعة التوراة. فالعمدة هو التوراة. فلهذا قالوا: أُنزل من بعد موسى". تفسير ابن كثير 4170.

آخر؛ فإنّ هذا طاعتهم فيما أمرهم الله به من عبادته وطاعته؛ كطاعة الإنس لنبيِّنا، حيث أرسل إلى الطائفتين، فدعاهم إلى عبادة الله وحده وطاعته، ونهاهم عن معصيته التي بها يستحقون العذاب في الآخرة، وكذلك الرسل دعوهم إلى ذلك، وسليمان منهم، لكن هذا إنما ينتفع به منهم من آمن طوعاً، ومن لم يؤمن، فإنّه يكون بحسب شريعة ذلك الرسول: هَلْ يُترك حتى يكون الله هو الذي ينتقم منه، أَوْ يُجَاهَد؟. وسليمان كان على شريعة التوراة1، واستخدامه لمن لم يؤمن منهم، هو مثل استخدام الأسير الكافر. حال نبينا مع الجن والإنس أكمل من حال سليمان وغيره فحال نبيِّنا مع الجنّ والإنس: أكمل من حال سليمان وغيره؛ فإنّ طاعتهم لسليمان كانت طاعة ملكية فيما يشاء، وأما طاعتهم لمحمّد فطاعة نبوة ورسالة فيما يأمرهم به؛ من عبادة الله، وطاعة الله، واجتناب معصية الله؛ فإنّ سليمان صلى الله عليه وسلم كان نبياً مَلِكاً، ومحمد كان عبداً رسولاً، مثل إبراهيم2

_ 1 تقدّمت إشارة شيخ الإسلام رحمه الله إلى ذلك في ص 919 من هذا الكتاب. 2 سبق بيان ذلك فيما مضى، انظر ص 132، 636 من هذا الكتاب. وقد أشار شيخ الإسلام رحمه الله إلى هذه الحقيقة في موضع آخر من كتبه، فقال: "فإنّ نبينا صلى الله عليه وسلم كان يتصرّف في الجنّ كتصرفه في الإنس تصرّف عبد رسول يأمرهم بعبادة الله وطاعته، لا يتصرف لأمر يرجع إليه، وهو التصرف الملكي؛ فإنه كان عبداً رسولاً، وسليمان نبي ملك، والعبد الرسول أفضل من النبيّ الملك؛ كما أنّ السابقين المقربين أفضل من عموم الأبرار أصحاب اليمين". مجموع الفتاوى 1951. وانظر المصدر نفسه 1389. وقال أبو نعيم الحافظ الأصبهاني: "فإن قيل: فإن سليمان كانت تأتيه الجنّ، وإنها كانت تعتاص عليه حتى يصفدها ويقيدها. قيل: فإن: محمداً صلى الله عليه وسلم كانت تأتيه الجن راغبة إليه، طائعة له، معظمة لشأنه، ومصدقة له، مؤمنة به، متبعة لأمره، متضرعة له، مستمدين منه، ومستمنحين له زادهم ومأكلهم. فجعل كل روثة يصيبونها تعود علفاً لدوابهم، وكل عظم يعود طعاماً لهم، وصرفت لنبوته أشراف الجن وعظماؤهم التسعة الذين وصفهم الله تعالى، فقال: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ} [الأحقاف 29] ، وقوله: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} إلى قوله: {لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً} [الجن 1-7] . وأقبلت إليه صلى الله عليه وسلم الألوف منهم مبايعين له على الصوم والصلاة والنصح للمسلمين، واعتذروا بأنهم قالوا على الله شططاً. فسبحان من سخّرها لنبوته صلى الله عليه وسلم بعد أن كانت شراراً تزعم أن لله ولداً، فلقد شمل مبعثه من الجن والإنس ما لا يحصى. هذا أفضل مما أُعطي سليمان عليه السلام". دلائل النبوة لأبي نعيم 2762.

[عليهم السلام] 1. وموسى وسليمان، مثل داود ويوسف عليهم السلام، وغيرهما، مع أنّ داود وسليمان ويوسف [عليهم السلام] 2 هم رسلٌ أيضاً دعوا إلى توحيد الله وعبادته3؛ كما أخبر الله أنّ يوسف دعا أهل مصر4، لكن بغير معاداة

_ 1 ما بين المعقوفتين من ((ط)) . 2 ما بين المعقوفتين من ((ط)) . 3 قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسُ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورَاً. وَرُسُلاً قَد قَصَصْنَاهُم عَلَيْكَ مِن قَبْل وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمَاً} . [سورة النساء 163-164] ، وانظر ص 686 من هذا الكتاب. 4 قال تعالى يحكي قول مؤمن آل فرعون: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ في شَكّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً} ، [سورة غافر، الآية 34] . وقال تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} . [سورة يوسف، الآيات 54-56]

لمن لم يؤمن، ولا إظهار مناوأة بالذم والعيب والطعن لما هم عليه؛ كما كان نبيُّنا أول ما أُنزل عليه الوحي، وكانت قريش إذ ذاك تُقرّه، ولا يُنْكَرُ عليه1، إلى أن أظهر عيبَ آلهتهم ودينهم، وعيبَ ما [كان] 2 عليه آباؤهم، وسَفَّهَ أحلامهم، فهنالك عادوه وآذوه، وكان ذلك جهاداً باللسان قبل أن يؤمر بجهاد اليد3، قال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا في كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً فَلا تُطِعِ الكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادَاً كَبِيراً} 4. وكذلك موسى مع فرعون: أمره أن يؤمن بالله، وأن يُرسِل معه [بني] 5 إسرائيل، وإن كره ذلك6، وجاهد فرعون بإلزامه بذلك بالآيات التي كان الله يعاقبهم بها، إلى أن أهلكه الله وقومه على يديه.

_ 1 قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: "ودخل الناس في الدين واحداً بعد واحد، وقريش لا تنكر ذلك، حتى بادأهم بعيب دينهم وسب آلهتهم، وأنها لا تضر ولا تنفع، فحينئذ شمّروا له ولأصحابه عن ساق العداوة، فحمى الله رسوله بعمه أبي طالب ... ". زاد المعاد 321-22. وانظر: تهذيب سيرة ابن هشام ص 65. 2 في ((م)) ، و ((ط)) : كانت. 3 قال تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ} [سورة الحجر، 94-95] . 4 سورة الفرقان، الآيتان 51-52. 5 في ((ط)) : (نبي) . 6 قال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائيلَ} [سورة الأعراف، الآيتان 104 - 105] .

فصل الذين سموا آيات الأنبياء خوارق لا بد أن يخصوا ذلك بالأنبياء دون غيرهم

فصل الذين سموا آيات الأنبياء خوارق لا بدّ أن يخصوا ذلك بالأنبياء دون غيرهم.. فالذين سمّوا هذه الآيات: خوارق للعادات، وعجائب، ومعجزات، إذا جعلوا ذلك شرطاً فيها، وصفة لازمة لها، بحيث لا تكون الآيات إلا كذلك، فهذا صحيح1، وإن كانت هذه الأمور قد تجعل أمراً عاماً؛ [فتكون] 2 متناولة لآيات الأنبياء، وغيرها؛ كالحيوان3 الذي ينقسم إلى إنسان، وغير إنسان. وأما إذا جعلوا ذلك حدّاً لها، وضابطاً، فلا بُدّ أن يُقيّدوا كلامهم؛ مثل أن يقولوا: خوارق [العادات] 4 التي تختص الأنبياء، أو يقولوا: خوارق عادات الناس كلّهم غير الأنبياء؛ فإن آياتهم لا بد أن تخرق عادة كلّ أمة من الأمم، وكل طائفة من الطوائف، لا تختص آياتهم يخرق عادة بلد معين، ولا من أرسلوا إليه، بل تخرق عادة جميع الخلق إلا الأنبياء؛ فإنها إذا كانت

_ 1 سبق أن أوضح شيخ الإسلام رحمه الله أقوال الناس في مسمّى خرق العادة، ومن يشترطه، ممن لا يشترطه. انظر ص 990 من هذا الكتاب. 2 في ((خ)) : فيكون. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 الحيوان: كلّ ذي روح، ناطقاً كان أو غير ناطق، مأخوذ من الحياة، يستوي فيه الواحد والجمع، لأنه مصدر في الأصل. المصباح المنير ص 160. 4 في ((م)) ، و ((ط)) : للعادات.

معتادة للأنبياء؛ مثل الخبر الصادق بغيب الله تعالى الذي لا يُعرف إلا من جهتهم. فما كان معتاداً للأنبياء دون غيرهم فهو من أعظم آياتهم وبراهينهم، وإن كان معتاداً لهم، فإن الدليل هو: ما يستلزم المدلول عليه. فإذا لم يكن ذلك معتاداً إلا لنبيّ، كان مستلزماً للنبوة، وكان من أتى به لا يكون إلاّ نبياً، وهو المطلوب. بل لو كان مستلزماً للصدق، ولا يأتي به إلا صادق، لكان المخبر عن نبوة نبيّ؛ إمّا نبوةُ نفسه، أو نبوةٌ غيرها. وإذا كان كاذباً، لم يحصل له مثل ذلك الدليل الذي [هو] 1 مستلزم للصدق. ولا يحصل أيضاً لمن كذّب بنبوة نبيّ صادق؛ إذ هو أيضاً كاذب، وإنما يحصل لمن أخبر بنبوّة نبيّ صادق. وحينئذٍ فيكون ذلك الدليل مستلزماً للخبر الصادق بنبوّة النبي، وهذا هو المطلوب؛ فإن مدلول الآيات سواء سميت معجزات، أو غيرها، والخبر الصادق بنبوة النبي، ومدلولها: إخبار الله، وشهادته بأنه نبي، وأنّ الله أرسله؛ فقول الله: {محمّد رسول الله} 2، وقوله: {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} 3، وقول كل مؤمن: إنه رسول الله4؛ كلّ ذلك خبرٌ عن

_ 1 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 2 سورة محمد، الآية 29. 3 في سورة الأعراف، الآية 158: {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} . 4 نطق المؤمن بأنّ محمّداً رسول الله في مواطن كثيرة، منها على سبيل المثال: في الأذان، وبعد الانتهاء منه، وبعد الوضوء، وعند الدخول إلى المسجد، وفي التشهد الأول والثاني من الصلاة، وبعد الخروج من المسجد. وفي أماكن كثيرة، ليس هذا مكان حصرها. وقد جمع الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى المواضع التي يُصلّى فيها على رسول الله، ويُذكر في كتاب مستقلّ، اسمه: جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام (مطبوع) . وقال الشاعر: لو لم يقل إني رسول لكا ن شاهد في هديه ينطق. زاد المعاد 4245.

رسالته، وهذا هو مدلول الآيات. وقد يكون مدلول الآيات نفس النبوة، التي هي مخبر هذا الخبر، ويكون الدليل مثل خبر من الأخبار، وهذا من جنس الأول1. فما دلّ على نفس النبوة، دلّ على صدق المخبر بها، وما دلّ على صدق المخبر بها، دلّ عليها2. وأمّا نفس إخبار الربّ بالنبوة، وإعلامه بها، وشهادته بها؛ قولاً، وعملاً، فهو إخبارٌ منه بها، وهو الصادق في خبره؛ فإخباره هو دليلٌ عليها؛ فإنّه لا يقول إلا الحق، ولا يُخبر إلا بالصدق. وأيضاً: فهو الذي أنشأ الرسالة، وإرساله بكلامه قد يكون إنشاءً للرسالة، وقد يكون إخباراً عن إرساله؛ كالذي يرسل رسولاً من البشر، قد يرسله والناس يسمعون، فيقول له: اذهب إلى فلان فقل له كذا وكذا. وقد يرسله بينه وبينه، ثم يقول للناس: إني قد أرسلته، ويرسله بعلامات وآيات، يعرف بها المرسَل إليه صدقَه.

_ 1 أي الخبر الصادق بنبوة النبيّ، الذي هو المدلول للآيات. 2 أي نفس النبوة. والمقصود التلازم بين النبوة، وصدق النبيّ.

وكذلك: إذا وُصفت1 بأنّها معجزات، فلا بد أن يعجز كلّ من ليس بنبيّ، ولم يشهد للنبيّ بالنبوة؛ فيعجز جميع المكذبين للرسول، والشاكّين في نبوته من الجنّ والإنس. وكذلك: إذا قيل: هي عجائب، والعجب2: ما خرج عن نظيره، فلم يكن له نظير، فلا بُد أن يكون من العجائب التي لا نظير لها أصلاً عند غير الأنبياء؛ لا من الجن، ولا من الإنس. [أما إذا] 3 كان [ليست] 4 لها نظير في شيء آخر، فهذا يؤيّد أنها من خصائص الأنبياء، ومن آياتهم. الفرق بين النبي والمتنبئ فهذا الموضع من فهمه فهماً جيّداً، تبيَّن له الفرقان في هذا النوع5؛ فإنّ كثيراً من الناس6 يصفها بأنها خوارق، ومعجزات، وعجائب، ونحو

_ 1 أي الآية والعلامة والبينة والبرهان. وقد سبق أن ذكر المؤلف رحمه الله أن التسمية بالمعجزات حادثة، ولم تعرف في الكتاب والسنة بهذا الاسم. انظر ص 942 من هذا الكتاب. 2 سبق توضيح العجب. انظر ص 994 من هذا الكتاب. 3 في ((م)) ، و ((ط)) : فإذا. 4 في ((م)) ، و ((ط)) : ليس. 5 أي من الفرق بين النبي والمتنبئ، وبين الصادق والكاذب. فالشيخ رحمه الله يؤكّد أنّ ما يخصّ الأنبياء من خوارق ومعجزات وعجائب، لا بُدّ أن يكون خارقاً ومعجزاً لغيرهم، فلا يستطيع الجنّ والإنس أن يأتوا بمثله. هذا هو الفرق الذي يُعرف به الأنبياء، وتُعلم به معجزاتهم. 6 وهم الأشاعرة، حيث جعلوا جنس ما يأتي به النبيّ والوليّ والساحر واحداً، إلاّ أنّ النبيّ يدّعي به النبوة ولا يعارض، والولي والساحر لا يدّعيان النبوة بذلك الخارق. والفرق بين الولي والساحر أنّ السحر لا يظهر إلا على فاسق، والكرامة لا تظهر على فاسق. وقد سبق بيان ذلك مراراً. انظر ص 956-958 من هذا الكتاب. وانظر: البيان للباقلاني ص 47-49. والإرشاد للجويني ص 319، 322-323، 328.

ذلك، ولا يحقق الفرق بين من يجب أن يخرق عادته ومعجزه، ومن لا [يجب] 1 أن [تكون] 2 في حقه كذلك. فالواجب أن يخرق عادة كل من لم يُقرّ بنبوة الأنبياء؛ فلا يكون لمكذّب بنبوته و [ليست] 3 لشاك. وقولنا: يخرق عادتهم، هو من باب العادة التي تثبت بمرّة، ليس من شرط فسادها أن تقع غير مرّة، مع انتفاء الشهادة بالنبوة. بل متى وقعت مرّة واحدة مع انتفاء الشهادة بالنبوة، لم [تكن] 4 مختصة بشهادة النبوة، ولا بالنبوة، فلا يجب أن تكون آية. وقولنا: ولا يجب أن تخرق عادات الأنبياء، ولم [نقل] 5: ولا يجوز أن تخرق عادات الأنبياء. بل قد تكون خارقة أيضاً لعادات الأنبياء. أنواع آيات الأنبياء وقد خُصّ بها نبي واحد؛ مثل أكثر آيات الأنبياء6؛ فإنّ كلّ نبيّ خُصّ بايات، لكن لا يجب في آيات الأنبياء أن تكون مختصة بنبيّ7، بل ولا يجب أن يختص ظهورها على يد النبي، بل متى اختصت به، وهي من

_ 1 في ((ط)) : يحب - بالحاء المهملة. 2 في ((م)) ، و ((ط)) : يكون. 3 في ((م)) ، و ((ط)) : لا. 4 في ((خ)) : (يكن) . وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 في ((خ)) : (يقل) . وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 6 فإبراهيم عليه السلام خُصّ بالنار، وصالح خصّ بالناقة، وموسى بالعصا واليد، ونبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم خُصّ بالقرآن الكريم ... والأمثلة على ذلك كثيرة. 7 فمثلاً إحياء الموتى: اشترك فيه أكثر من نبيّ. كما سبق بيانه في ص 594-611، 733 من هذا الكتاب. وانظر: الجواب الصحيح 3351، 417، 5434.

خصائصه، كانت آية له سواء وجدت قبل ولادته، أو بعد موته، أو على يد أحد من الشاهدين له بالنبوة1، فكل هذه من آيات الأنبياء. الرد على من قال من شرط آيات الأنبياء أن تقارن دعوى النبوة والذين قالوا: من شرط الآيات أن تقارن دعوى النبوة2: غلطوا غلطاً عظيماً، وسبب غلطهم: أنّهم لم يعرفوا ما يخص بالآيات، ولم يضبطوا خارق العادة بضابط يميّز بينها وبين غيرها، بل جعلوا ما للسحرة والكهّان، هو أيضاً من آيات الأنبياء، إذا اقترن بدعوى النبوة، ولم يُعارضه معارض. وجعلوا عدم المعارض هو الفارق بين النبيّ وغيره، وجعلوا دعواه النبوة جزءاً من الآية3، فقالوا: هذا [الخارق] 4 إن وجد مع دعوى

_ 1 هذه تُعدّ من الكرامات التي للأولياء. وقد سبق أن أوضح المؤلف رحمه الله أنّ كلّ كرامة حصلت لوليّ تابع لنبيّ، فهي معجزة لذلك النبيّ، لأنّ ذلك ما حصل له إلا باتباعه لذلك النبيّ. ويجب أن نوضّح هنا: أنّ الأولياء لا يحصل على يديهم إلا آيات الأنبياء الصغرى. أما الكبرى فلا؛ مثل معراج الرسول صلى الله عليه وسلم، والقرآن الكريم. ولكن الصغرى؛ مثل جنس تكثير الطعام والشراب فتحصل، لكن ليس بالمقدار والكيفية التي حصلت للنبيّ. وانظر ما سبق من كلام المؤلف رحمه الله ص 987 من هذا الكتاب. 2 يقصد هنا الأشاعرة، كما هو واضح من تعليل المؤلف - رحمه الله - فيما بعد، وإلا فالمعتزلة يشترطون أنّ الخارق يقارن دعوى النبوة. وقد تقدم ذلك. انظر ص 987 من هذا الكتاب. وانظر: شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار ص 569. والإرشاد للجويني ص 314، 320. والبيان للباقلاني ص 46-47. وأصول الدين للبغدادي ص 171. 3 يقول الجويني: "المعجزة لا تدلّ لعينها، وإنما تدلّ لتعلقها بدعوى النبي والرسالة". الإرشاد ص 319. وانظر البيان للباقلاني ص 47-49. 4 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .

النبوة، كان معجزة، وإن وجد بدون دعوى النبوة، لم يكن معجزة1، فاحتاجوا لذلك أن يجعلوه مقارناً للدعوى. قالوا: والدليل على [ذلك: أنّ مثل] 2 آيات الأنبياء يأتي في آخر الزمان، إذا [جاءت] 3 أشراط الساعة، ومع ذلك ليس هو من آياتهم4. وكذلك قالوا في كرامات الأولياء5. أشراط الساعة من آيات الأنبياء وليس الأمر كذلك، بل أشراط الساعة هي من آيات الأنبياء6، من وجوه؛ منها: أنهم أخبروا بها قبل وقوعها، فإذا جاءت كما أخبروا، كان ذلك من آياتهم. ومنها: أنهم أخبروا بالساعة، فهذه الأشراط مصدّقة لخبرهم بالساعة، وكلّ من آمن بالساعة آمن بالأنبياء، وكلّ من كذب الأنبياء كذّب الساعة، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوَّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ

_ 1 انظر: البيان للباقلاني ص 47-49. والإرشاد للجويني ص 324، 331. 2 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 3 في ((ط)) : جاتئت. 4 وعلل التفتازاني ذلك بقوله: "لأنّ ما يقع في الآخرة من الخوارق ليست بمعجزة، ولأنّ ما يظهر عند ظهور أشراط الساعة وانتهاء التكاليف لا يشهد بصدق الدعوى، لكونه زمان نقض العادات وتغير الرسوم". شرح المقاصد للتفتازاني 513. وانظر: البيان للباقلاني ص 47-48. وأصول الدين للبغدادي ص 170. 5 انظر: الإرشاد للجويني ص 319. وأصول الدين للبغدادي ص 174-175. 6 سبق أن أوضح شيخ الإسلام ذلك في ص 597 من هذا الكتاب. وانظر عن إخباره صلى الله عليه وسلم بالكثير من الغيوب الماضية والحاضرة والمستقبلة، ودلالة ذلك على نبوته، في الجواب الصحيح 680-158.

إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَولِ غُرُورَاً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلتَصْغَى إِليهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَليَرْضَوْهُ وَليَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} 1. وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلتُنْذِرَ أُمَّ القُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤمِنُونَ بِهِ} 2. فكلّ من آمن بالآخرة فقد آمن بالقرآن، فإذا جاءت أشراط الساعة، كانت دليلاً على صدق [خبرهم أنّ الساعة حقّ، وأنّ القرآن حقّ، وكان هذا من الآيات الدالة على صدق ما جاء به الرسول] 3؛ من القرآن، وهو المطلوب. كل ما يكون خرق عادة لجميع الناس فهو من آيات الأنبياء فلا يوجد خرق عادة لجميع الناس، إلا وهو من آيات الأنبياء4. وكذلك الذي يقتله الدجال، ثم يحييه، [فيقوم] 5، فيقول: أنت الأعور الكذّاب الذي أخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما ازددت فيك إلا بصيرة. فيريد الدجال أن يقتله، فلا يقدر على ذلك. الرجل الذي يقتله الدجال ثم يحييه من آيات الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا الرجل بعد أن قتل وقام، يقول للدجال: أنت الأعور الكذّاب، الذي أخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما ازددت فيك بهذا القتل إلا بصيرة. ثم يريد الدجال أن يقتله، فلا يقدر عليه6.

_ 1 سورة الأنعام، الآية 111-113. 2 سورة الأنعام، الآية 92. 3 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 4 هذه قاعدة وضابط في معرفة خصائص معجزات الأنبياء. 5 في ((ط)) : فيقول. 6 رواه الإمام البخاري في صحيحه 62608-2609، كتاب الفتن، باب لا يدخل الدجال المدينة. والإمام مسلم في صحيحه 42256، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب صفة الدجال وتحريم المدينة عليه، وقتله المؤمن وإحيائه.

فعجزه عن قتله ثانياً، مع تكذيب الرجل له بعد أن قتله، وشهادته للرسول محمّد بالرسالة، هو من خوارق العادات، التي لا توجد إلاّ لمن شهد للأنبياء بالرسالة. وهذا الرجل هو من خيار أهل الأرض المسلمين. فهذا الخارق الذي جرى فيه، هو من خصائص من شهد لمحمّد بالنبوة؛ فهو من اعلام النبوة، ودلائلها. وكونه قُتِل أوّلاً أبلغ في الدلالة؛ فإنّ ذلك لم يزغه، ولم يُؤثّر فيه، وعلم أنّه لا يُسلّط عليه مرة ثانية، فكان هذا اليقين والإيمان، مع عجزه عنه، هو من خوارق الآيات. ومعلومٌ أنّ قتله ممكنٌ في العادة، فعجزه عن قتله ثانياً، هو الخارق للعادة. ودلّ ذلك على أن إحياء الله له، لم يكن معجزة للدجال، ولا ليبين بها صدقه، لكن أحياه ليكذّب الدجال، وليبين أنّ محمّداً رسول الله، وأنّ الدجّال كذّاب، وأنّه هو الأعور الكذاب، الذي أنذر به النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال: "ما من نبي إلاَّ وقد أنذر أمته الأعور الدجال، وسأقول لكم فيه قولاً لم يقله نبي لأمته: إنّه أعور، وإنّ الله ليس بأعور، مكتوب بين عينيه: كافر [ك ف ر] 1، يقرأه كلّ مؤمن؛ قارىء، وغير قارىء"2.

_ 1 ما بين المعقوفتين ليس في ((م)) ، ولا ((ط)) . 2 رواه البخاري في صحيحه 62607-2608، كتاب الفتن، باب ذكر الدجال، مع اختلاف يسير. ومسلم في صحيحه 42245، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر ابن صياد، و 42247-2248، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر الدجال وصفته وما معه.

وفي بعض الأحاديث الصحيحة: "واعلموا أنّ أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت"1. فذكر لهم آيات ظاهرة يشترك فيها الناس، تبيّن لهم كذبه، فيما يدعيه من الربوبية؛ إذ كان كثير من الناس يجوّزون ظهور الإله في البشر؛ النصارى2 وغير النصارى3. وما يأتي به الدجال، إنّما يحار فيه، ويراه معارضاً لآيات الأنبياء: من لم يحكّم الفرقان. من أنكر خوارق الدجال وقال إنما هي خيال فقومٌ يكذّبون أن يأتي بعجيب، ويقولون: ما معه إلا التمويه4؛ كما

_ 1 رواه الإمام مسلم في صحيحه 42245، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر ابن صياد. والترمذي في جامعه 4508، كتاب الفتن، باب ما جاء في الدجال. 2 كما قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [سورة التوبة، الآية 30] . 3 مثل ملاحدة الصوفية الذين يقولون بالحلول والاتحاد؛ كقول ابن الفارض في ديوانه: لها صلواتي بالمقام أقيمها ... وأشهد فيها أنها لي صلّت كلانا مصلّ واحد ساجد ... إلى حقيقته بالجمع في كلّ سجدة وما كان لي صلى سواي ولم تكن ... صلاتي لغيري في أدى كلّ ركعة ديوان ابن الفارض ص 34. وهم أخبث من النصارى واليهود كما صرّح بذلك شيخ الإسلام رحمه الله؛ لأنّ اليهود قالوا بالحلول الخاص، وهؤلاء قالوا بالحلول المطلق. انظر: جامع الرسائل والمسائل 193، 94. والجواب الصحيح 4315، 497-500. 4 التمويه: هو التلبيس. ومنه قيل للمخادع: مموه. وقد موّه فلان باطله: إذا زيّنه وأراه في صورة الحقّ. والمموهة هي التي يكون ظاهرها مخالفاً لباطنها. تهذيب اللغة 6474. ولسان العرب 13544. والتعريفات ص 297.

قالوا في السحر والكهانة؛ مثل كثيرٍ من المعتزلة، والظاهرية؛ كابن حزم1. وقومٌ2 يقولون: لما ادعى الإلهية، كانت الدعوى معلومة البطلان، فلم يظهر الخارق؛ كما يقول ذلك القاضي أبو بكر3، وطائفة. ويدّعون أن

_ 1 ونقل ابن كثير رحمه الله عن ابن حزم والطحاوي وغيرهما: (أن الدجال ممخرق مموه لا حقيقة لما يُبدي للناس من الأمور التي تشاهد في زمانه، بل كلها خيالات عند هؤلاء. وقال الشيخ أبو علي الجبائي شيخ المعتزلة: لا يجوز أن يكون كذلك حقيقة لئلا يشتبه خارق الساحر بخارق النبيّ) . النهاية في الفتن والملاحم 1164. وممن أنكر حقيقة خوارق الدجال: الماوردي انظر كتابه أعلام النبوة ص 62. ومن المتأخرين الذين أنكروا حقيقة خوارق الدجال: الشيخ محمد رشيد رضا. انظر تفسيره تفسير المنار 9490. وقد ردّ على من أنكر حقيقة هذه الخوارق كثيرٌ من العلماء: منهم القاضي عياض، والنووي، وابن كثير، وابن حجر رحمهم الله تعالى. انظر: النهاية في الفتن والملاحم 1164-165. وفتح الباري 13103-105. وشرح النووي على مسلم 1858-59. 2 وهم الأشعرية. انظر: أصول الدين للبغدادي ص 170، 174. 3 انظر: البيان للباقلاني ص 104 - 105. وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "والدجال لما ادعى الإلهية لم يكن ما يظهر على يديه من الخوارق دليلاً عليها؛ لأن دعوى الإلهية ممتنعة، فلا يكون في ظهور العجائب ما يدلّ على الأمر الممتنع". الجواب الصحيح 3351. وقال أيضاً: "ولهذا أعظم الفتن فتنة الدجال الكذاب، لما اقترن بدعواه الإلهية بعض الخوارق، كان منها ما يدلّ على كذبه من وجوه، منها: دعواه الإلهية وهو أعور، والله ليس بأعور، مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كلّ مؤمن قارئ وغير قارئ، والله تعالى لا يراه أحد حتى يموت، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذه العلامات الثلاث في الأحاديث الصحيحة، فأما تأييد الكذاب ونصره وإظهار دعوته دائماً، فهذا لم يقع قط. فمن يستدلّ على ما يفعله الرب سبحانه بالعادة والسنة فهذا هو الواقع، ومن يستدلّ على ذلك بالحكمة، فحكمته تناقض أن يفعل ذلك؛ إذ الحكيم لا يفعل هذا، وقد قال تعالى: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [سورة الفتح، الآيتان 22-23] . فأخبر أن سنة الله التي لا تبديل لها: نصر المؤمنين على الكافرين، والإيمان المستلزم لذلك يتضمّن طاعة الله ورسوله، فإذا نقض الإيمان بالمعاصي كان الأمر بحسبه كما جرى يوم أحد ... ) . الجواب الصحيح 6419-420. وانظر: المصدر نفسه 5187، ومجموع الفتاوى 2045، وشرح الأصفهانية 2477، 608.

النصارى اعتقدت في المسيح الإلهية؛ لكونه أتى بالخوارق، مع إقراره بالعبودية. فكيف بمن يدّعي الإلهية؟ ولكن هذا الخارق الذي يُظهره الله في هذا الرجل الصالح الذي طلب منه الدجّال أن يؤمن به، فلم يفعل، بل كذّبه، وقال: أنت الأعور الدجال الذي أخبرنا به النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقتله، ثمّ أحياه الله، فقال له: أنت الأعور الدجّال، فكذّبه قبل أن قُتِل، وبعد ما أحياه الله، وأراد الدجال قتله ثانية، فلم يُمكّن. فعجزه عن قتله ثانياً: من أعظم الخوارق، مع تكذيبه. وأما إحياؤه، مع تكذيبه له أولاً، وعجزه ثانياً عن قتله، فليس بخارق. فهذا إحياء معين، معه دلائل معدودة، تُبيّن أنّه من الآيات الدالة على صدق الرسول، لا على صدق الدجال، وتُبيّن بذلك أنّ الآيات جميعها تدلّ على صدق الأنبياء؛ فإنّ آيات الله مرة أو مرتين أو ثلاثاً، لا يشترط في ذلك تكرار، بل شرطها: أن لا يكون لها نظير في العالم لغير الأنبياء، ومن يشهد بالنبوة، ولم يوجد لغيرهم، كان [هذا] 1 دليلاً على أنّها مختصة بالأنبياء.

_ 1 في ((ط)) : ذها.

ومن أطلق خرق العادة1، ولم يفسّره ويبينه، فلم يعرف خاصتها، بل ظن أن ما وجد من السحر والكهانة خرق عادة، أو ظن أنّ خرق [العادة] 2 أن لا يعارضها معارض من المرسل إليهم. خوارق المتنبئين من جنس خوارق السحرة وكثير من المتنبئين الكذّابين أتوا بخوارق من جنس خوارق السحرة والكهّان، ولم يكن من أولئك القوم من أتى بمثلها، لكن قد عُلم أن في العالم مثلها، في غير ذلك المكان، أو في غير ذلك الزمان، وإنّما الخارق كما قال في القرآن: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرَاً} 3. التحدي بالقرآن الكريم ولهذا قال في آيات التحدي: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفتريَات وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 4، وقال في تلك الآية: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} 5. فلم يكتف بعجز المدعوين، بل أمرهم أن يدعوا إلى معاونتهم كلّ من استطاعوا أن يدعوه من دون الله. وهذا تعجيز لجميع الخلق؛ الإنس، والجنّ، والملائكة. وقال في البقرة: {وَإِنْ كُنْتُمْ في رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 6؛ أي: ادعوا كلّ

_ 1 وهم الأشاعرة الذين يجعلون جنس الخارق ليس هو المعجزة، وإنما المعجز هو دعوى النبوة، وعدم المعارضة، كما سبق بيانه ص 152-153، 586-587 من هذا الكتاب. 2 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 3 سورة الإسراء، الآية 88. 4 سورة هود، الآية 13. 5 سورة هود، الآية 14. 6 سورة البقرة، الآية 23.

من يشهد لكم، فيوافقكم على أنّ هذا ليس من عند الله؛ ادعوا كل من لم يُقرّ بأنّ هذا منزّل من الله، فهذا تعجيزٌ لكل من لم يؤمن به. ومن آمن به، وبقي في ريب، [بل] 1 قد عُلم أنّه من عند الله. وهذا التحدي في البقرة، وهي مدنية بعد يونس وهود. ولهذا قال: {وَإِنْ كُنْتُم في رَيْب} ، وهناك2 قال: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} ؛ فهذا3 تحدّي لكل مرتاب، وذاك4 تحدي لكلّ مثل مكذب. ولهذا قيل في ذاك5: {مَن اسْتَطَعْتُمْ} فإنه أبلغ، وقيل في هذا6: {شُهَدَاءَكُم} . وقد قال بعض المفسرين7: {شُهَدَاءَكُم} : آلهتكم، وقال بعضهم8: من يشهد أنّ الذي جئتم به مثل القرآن. والصواب: أن شهداءهم الذين يشهدون لهم؛ كما ذكره ابن اسحق9

_ 1 في ((م)) ، و ((ط)) : قل. 2 أي في سورة يونس، الآية 38، وسورة هود، الآية 13. 3 الذي في سورة البقرة الآية 23. 4 الذي في سورة يونس 38، وهود 13. 5 في سورة يونس، وسورة هود. 6 في سورة البقرة. 7 انظر: زاد المسير لابن الجوزي 151. وتفسير ابن كثير 159. 8 انظر: تفسير الطبري 1167. وزاد المسير لابن الجوزي 151. وتفسير ابن كثير 159. 9 هو محمد بن إسحاق بن يسار، أبو بكر المطلبي بالولاء، المدني. من أقدم مؤرخي العرب من أهل المدينة. له السيرة النبوية، هذبها ابن هشام، زار الاسكندرية، وسكن بغداد، ومات بها. قال ابن حبان: "لم يكن أحد بالمدينة يقارب ابن إسحاق في علمه، أو يوازيه في جمعه، وهو من أحسن الناس سياقاً للأخبار". وكان جده يسار من سبي عين التمر. وقال عنه ابن حجر: "نزيل العراق، إمام المغازي، صدوق يدلس، ورمي بالتشيع والقدر، من صغار الخامسة، مات سنة خمسين ومائة، ويقال بعدها". انظر: تقريب التهذيب لابن حجر 254. والأعلام للزركلي 628.

بإسناده المعروف عن ابن عباس، قال: {شُهَدَاءَكُم} : من استطعتم من أعوانكم على ما أنتم عليه1. وقال السدي2، عن أبي مالك: {شُهَدَاءَكُم من دون الله} : أي شركاءكم3؛ فإنّ هؤلاء هم الذي يُتصوّر منهم المعارضة إذا كانوا في ريب منه. أمّا من أيقن أنه من عند الله، فإنه يمتنع أن يقصد معارضته؛ لعلمه بأنّ الخلق عاجزون عن ذلك. والله تعالى شهد لمحمد بما أظهره من الآيات، فادعوا من يشهد لكم. وهؤلاء يشهدون من دون الله، لا يشهدون بما شهد الله به، فتكون شهادتهم [مضادة] 4 لشهادة الله؛ كما قال: {لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ} 5.

_ 1 انظر: تفسير الطبري 1166. وزاد المسير 151. وتفسير ابن كثير 159. 2 هو إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة السدي الكبير، أبو محمد القرشي الكوفي. له أقوال في تفسير القرآن، اختلف في توثيقه، وقال الحافظ ابن حجر: صدوق يهم، ورمي بالتشيع من الرابعة، تابعي حجازي الأصل، سكن الكوفة، مات سنة 128 ?. انظر: تقريب التهذيب 196، وتهذيب التهذيب 1213، وسير أعلام النبلاء 5264-265، والأعلام 1317، والتفسير والمفسرون 179. 3 انظر: تفسير ابن كثير 159. 4 في ((خ)) : بأربعة. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 سورة النساء، الآية 166.

وقال: {قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدَاً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتَاب} 1. كما قال: {شَهِدَ اللهُ أنَّه لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالملائِكَةُ وَأُوْلُوا العِلْمِ} 2. وقد قلنا: يجوز أن تكون آياتهم خارقة لعادة جميع الخلق، إلاَّ للنبيّ، لكن لا يجب هذا فيها3. اعتراض وجواب المؤلف عليه فإن قيل: قد ذكرتم أن آيات الأنبياء هي الخوارق التي تخرق عادة جميع الثقلين، فلا تكون لغير الأنبياء، ولغير من شهد لهم بالنبوة. وهذا كلامٌ صحيحٌ فصلتم به بين آيات الأنبياء، وغيرهم بفصلٍ مطّرد منعكس4، بخلاف من قال: هي خرق العادة5، ولم يُميّز بينها وبين غيرها، وتكلّم في خرق العادة بكلامٍ متناقضٍ؛ تارة يمنع وجود السحر والكهانة، وتارة يجعل هذا الجنس من الآيات، ولكن الفرق عدم المعارضة. لكن لم يذكروا الفرق في نفس الأمر، ونفس كونها معجزة، وخارقاً، وآية: لماذا كان؟ وما هو الوصف الذي امتازت به، حتى صارت آية ودليلا دون غيرها؟ فذكرتم الدليل، لكن لم تذكروا الحقيقة التي بها صار الدليل دليلاً. قيل: لا بُد أن تكون مما يعجز عنها الإنس والجن؛ فإنّ هذين الثقلين بُعث إليهم الرسل؛ كما قال تعالى: {يَا مَعْشَرَ الجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا

_ 1 سورة الرعد، الآية 43. 2 سورة آل عمران، الآية 18. 3 تقدم ذلك مراراً، في أول هذا الكتاب، وانظر ص 992 منه. 4 سبق ذلك. انظر ص 301 من هذا الكتاب. 5 وهم الأشاعرة، كما سبق بيانه في ص 151-153.

وَغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} 1. وقال تعالى: { [وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا] 2 أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ العَذَابِ عَلَى الكَافِرِينَ} 3. والإنس والجنّ منهم من آمن بالرسل، ومنهم من كذّبهم، فلا بُد أن يكون مما لا يقدر عليها جنس الإنس والجنّ. ثمّ الكرامات [يخص] 4 بها المؤمنين من الطائفتين5، وأمّا آيات الأنبياء التي بها تثبت نبوتهم، وبها وجب على الناس الإيمان بهم، فهي أمرٌ [يخص] 6 الأنبياء، لا يكون للأولياء، ولا لغيرهم، بل يكون من المعجزات الخارقة للعادات الناقضة لعادات جميع الإنس والجن غير الأنبياء. فما كان الإنس أو الجن يقدرون عليه، فلا يكون وحده آية للنبي. أمّا ما تقدر عليه الملائكة: فذاك قد يكون من آياتهم؛ لأنهم لم يرسلوا إلى الملائكة7، والملائكة لا تفعل شيئا إلا بإذن الله؛ فما تفعله الملائكة معهم، فهو بإذن الله، وهو ما خص به الأنبياء بخلاف الإنس والجن.

_ 1 سورة الأنعام، الآية 130. 2 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 3 سورة الزمر، الآية 71. 4 في ((خ)) : يختص. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 أي من الإنس والجنّ. 6 في ((خ)) : يختص. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 7 انظر كلام شيخ الإسلام رحمه الله المتقدم في هذا الكتاب، ص 171. وانظر: البيان للباقلاني ص 102، 105.

كل ما استلزم نبوة الأنبياء فهو آية لهم وخاصتها التي تمتاز بها عن غيرها: أن يكون آيةً، ودليلاً على نبوتهم؛ فكلّ ما استلزم نبوّتهم، فهو آية لهم، وما لا يستلزم نبوتهم، فليس بآية1، وليست مختصة بجنس من الموجودات، بل تكون في جنس العلم، والإخبار بغيب الرب الذي اختص به، و [تكون] 2 في جنس القدرة، والتصرف، والتأثير في العالم3، وهي مقدورة للرب، فله سبحانه أن يجعلها في أي جنس كان من المقدورات. تنوع آيات الأنبياء ولهذا تنوعت آيات الأنبياء، بل النبيّ الواحد تتنوع آياته، فليس القرآن الذي هو قول الله وكلامه من جنس انشقاق القمر، ولا هذا وهذا من جنس تكثير الطعام، والشراب؛ كنبع الماء من بين الأصابع. وهذا كما أنّ آيات الرب الدالّة على قدرته، ومشيئته، وحكمته، وأمره، ونهيه، لا تختص بنوعٍ، فكذلك آيات أنبيائه. فهذا مما ينبغي أن يعرف. ولكن خاصتها أنها لا تكون إلا مستلزمة لصدق النبي، وصدق الخبر بأنه نبي4، فلا تكون لمن يكذّبه قط. كرامات الأولياء من آيات الأنبياء الصغرى ولا يقدر أحدٌ من مكذبي الرسل أن يأتي بمثل آيات الأنبياء، وأمّا

_ 1 هذا ضابط به تميّز الآية من غيرها. 2 في ((خ)) : (يكون) . وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 أشار الشيخ رحمه الله تعالى إلى أنواع المعجزات. انظر ما سبق ص 171. وانظر: مجموع الفتاوى 11298-299، 323-324. وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله آيات الرسول صلى الله عليه وسلم المتعلقة بالقدرة والفعل والتأثير، وذكر لها أنواعاً كثيرة، مؤيداً ذلك بكثرة الأمثلة. وقد أطال النفس في سرد ذلك وتوضيحه. انظر الجواب الصحيح 6159-323. وانظر أيضاً قاعدة في المعجزات والكرامات ص 9-21. 4 من خاصة المعجزة.

مصدّقوهم1 فهم معترفون بأن ما يأتون به هو من آيات الأنبياء، مع أنه لا تصل آيات الأتباع إلى مثل آيات المتبوع مطلقاً2، وإن كانوا قد يشاركونه في بعضها؛ كإحياء الموتى، وتكثير الطعام، والشراب3؛ فلا يشركونه في القرآن، وفلق البحر، وانشقاق القمر4؛ لأن الله فضل الأنبياء على غيرهم، وفضل بعض النبيين على بعض. فلا بُد أن يمتاز الفاضل بما لا يقدر المفضول على مثله؛ إذ لو أتى بمثل ما أتى، لكان مثله، لا دونه.

_ 1 أي مصدّقوا أتباع الأنبياء، وهم الأولياء. 2 كما مرّ معنا أنّ كرامات الأولياء هي من آيات الأنبياء الصغرى، لا يصلون إلى الكبرى، وحتى الصغرى تكون من جنس آيات الأنبياء، لكن ليس بالقدر والكيفية. انظر ص 151، 857-860 من هذا الكتاب. وانظر ما سيأتي ص 1219. 3 مرّ معنا فيما سبق. انظر ص 150-151. 4 لأنها من آيات الله الكبرى التي يختص بها الأنبياء.

فصل مسمى العادة

فصل مسمى العادة وكثيرٌ من هؤلاء1 مضطربون في مسمّى العادة التي [تخرق] 2. والتحقيق: أنّ العادة أمرٌ إضافي؛ فقد يعتاد قومٌ ما لم يعتده غيرهم. [فهذه إذا خرقت] 3، فليست لصدق النبي لا توجد بدون صدقه. والرب تعالى في الحقيقة لا ينقض عادته التي هي سنته، التي قال فيها: {سُنَّةَ اللهِ الَّتي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً} 4، وقال: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلاً} 5؛ وهي التسوية بين المتماثلين، والتفريق بين المختلفين؛ فهو سبحانه إذا ميَّز بعض المخلوقات بصفات يمتاز بها عن غيره، ويختصه بها، قرن بذلك من الأمور ما يمتاز به عن غيره، ويختص به. ولا ريب أنّ النبوّة يمتاز بها الأنبياء، ويختصون بها، والله تعالى يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس6، وهو أعلم حيث يجعل

_ 1 أي الأشاعرة. انظر: الجواب الصحيح 6503-504. 2 في ((خ)) : (يخرق) . وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 4 سورة الفتح، الآية 23. 5 سورة فاطر، الآية 43. 6 قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [سورة الحج، الآية 75] .

رسالته1. فمن خصه بذلك، كان له من الخصائص التي لا تكون لغيره، ما يناسب ذلك؛ فيُستَدل بتلك الخصائص على أنّه من أهل الاختصاص بالنبوة. وتلك سنته وعادته في أمثاله؛ يُميّزهم بخصائص يمتازون بها عن غيرهم، ويعلم أن أصحابها من ذلك الصنف المخصوص الذين هم الأنبياء مثلاً. سنة الله وعادته ولم [تكن] 2 له سبحانه عادة؛ بأن يجعل مثل آيات الأنبياء لغيرهم، حتى يقال: إنه خرق عادته ونقضها، بل عادته وسنته المطردة3 أنّ تلك

_ 1 قال تعالى: {.. اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ..} [سورة الأنعام، الآية 124] . فالنبوة هبةٌ من الله، يهبها الله من يشاء من عباده. فهو تعالى كما أخبر عن نفسه: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [سورة البقرة، الآية 105] . وهو جلّ وعلا يخلق ما يشاء ويختار، ويصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس؛ كما أخبر عن نفسه. وللشيخ رحمه الله كلام جيد في هذا الموضوع، وفي الردّ على المعتزلة الذين أوجبوا على الله الرسالة بزعمهم أنّ البعثة متى حسنت وجبت. انظر: مجموع الفتاوى872-73. ومنهاج السنة النبوية 1452. 2 في ((خ)) : (يكن) . وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 ولشيخ الإسلام رحمه الله في موضع آخر كلام جيد يُوضّح معنى السنة هاهنا، يقول فيه: "والسنة هي العادة، فهذه عادة الله المعلومة، فإذا نصر من ادّعى النبوّة وأتباعه على من خالفه إما ظاهراً وباطناً، وإما باطناً نصراً مستقراً، كان ذلك دليلاً على أنه نبي صادق؛ إذ كانت سنة الله وعادته نصر المؤمنين بالأنبياء الصادقين على الكافرين والمنافقين، كما أن سنته تأييدهم بالآيات البينات، وهذه منها. ومن ادّعى النبوة وهو كاذب، فهو من أكفر الكفّار، وأظلم الظالمين..". الجواب الصحيح 6421. وانظر عن معنى السنة في القرآن: مجموع الفتاوى 1319-23.

الآيات لا تكون إلا مع النبوة، والإخبار بها، لا مع التكذيب بها، أو الشك فيها. كما أنّ سنته وعادته: [أنّ محبته، ورضاه، وثوابه لا يكون إلا لمن عبده وأطاعه، وأنّ سنته وعادته] 1 أن يجعل العاقبة للمتقين2، وسنّته وعادته أن ينصر رسله، والذين آمنوا3؛ كما قال تعالى: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيَّاً وَلا نَصِيرَاً سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً} 4. وكلّ ما يُظنّ أنّه خرقه من العادات، فله أسباب انخرقت فيها تلك العادات. فعادته وسنته لا تتبدل؛ إذ أفعاله جارية على وجه الحكمة والعدل. هذا قول الجمهور5.

_ 1 ما بين المعقوفتين مكرر في ((خ)) . 2 قال تعالى: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [سورة الأعراف، الآية 128] . وقال تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [سورة هود، الآية 49] . وقال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [سورة طه، الآية 123] . وقال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [سورة القصص، الآية 83] . 3 قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [سورة غافر، الآية 51] . وقال تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة يونس، الآية 103] . وقال تعالى: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} [سورة الإسراء، الآية 77] . 4 سورة الفتح، الآيتان 22-23. 5 انظر الجواب الصحيح 6400-404، 418-425. وانظر ص 548، 1030-1031 من هذا الكتاب.

الذين ينفون الحكمة يجوزون عليه فعل كل ممكن وأما من لا يثبت سبباً، ولا حكمة، ولا عدلاً1: فإنَّهم يقولون: إنه يخرق عادات، لا لسبب، ولا لحكمة. ويجوّزون أن يقلب الجبل ياقوتاً، والبحر لبناً، والحجارة آدميين2، ونحو ذلك، مع بقاء العالم على حاله. ثمّ يقولون مع هذا: ولكن نعلم بالضرورة أنه لم يفعل ذلك3. و [يقولون] 4: العقل هو علوم ضرورية؛كالعلوم بجارى العادات5. وهذا تناقضٌ بيِّنٌ؛ فإنّهم إذا جوّزوا هذا، ولم يعلموا فرقاً بين ما يقع منه، وما لا يقع، كان الجزم بوقوع هذا دون هذا جهلاً. وغاية ما عندهم أن قالوا: يُخلق في قلوبنا علمٌ ضروري بأنّ هذا لم يقع، ويُخلق في قلوبنا علمٌ ضروري بأنّ الله خرق العادة لتصديق هذا النبيّ6.

_ 1 وهم الأشاعرة، والجهمية، والفلاسفة، كما سبق بيانه. انظر ص 503-504، 533-535 من هذا الكتاب. 2 انظر: الإرشاد للجويني ص 306، 319، 326. والمواقف للإيجي ص 345-346. 3 انظر: شرح المقاصد 515-19. وانظر ما تقدم ص 113-120، وانظر: الجواب الصحيح 6393-400، 500-505. 4 في ((ط)) : (يقولن) . 5 انظر: التعريفات للجرجاني ص 197. وانظر: الجواب الصحيح 6400. 6 انظر: الإرشاد للجويني ص 324-326. وانظر: الجواب الصحيح 6399-400. وقد قال القاضي عبد الجبار المعتزلي عن هؤلاء الأشاعرة: "فلو جوّزنا أن يكون هذا المعجز من جهة من يصدّق الكاذب، لا يمكننا أن نعلم صدق من ظهر عليه. ولهذا قلنا: إنّ هؤلاء المجبرة لا يمكنهم أن يعرفوا النبوات لتجويرزهم القبائح على الله تعالى". شرح الأصول الخمسة ص 571.

تعليق المؤلف على كلامهم فيُقال: إذا كان قد جعل الله في قلوبكم علماً ضرورياً كما جعله في قلوب أمثالكم، فأنتم صادقون فيما تخبرون به عن أنفسكم من العلم الضروريّ، لكن خطأكم: اعتقادكم أن العادات قد [ينقضها] 1 الله بلا سبب، ولا لحكمة. فهذا ليس معلوماً لكم بالضرورة. وخطأكم من حيث جوّزتم أن يكون شيئان متساويين من كل وجه، ثم يعلم بضرورةٍ، أو نظرٍ ثبوت أحدهما، وانتفاء الآخر. فإن هذا تفريقٌ بين المتماثلين، وهذا قدحٌ في البديهيّات2؛ فإنّ أصل العلوم العقلية النظرية: اعتبار الشيء بمثله، وإن حكمه حكم مثله3. فإذا جوّزتم أن يكون الشيئان متماثلين من كل وجه، وأنّ العقل يجزم بثبوت أحدهما وانتفاء الآخر، كان هذا قدحاً في أصل كلّ علم وعقل. وإذا قلتم: إنّ العادات جميعها سواء، وإنّ الله يفعل ما يفعل بلا سبب، ولا حكمة، بل محض المشيئة مع القدرة رجَّحت هذا على هذا، وقلتم: لا فرق بين قلب الجبال يواقيت، والبحار لبناً، وبين غير ذلك من العادات، وجوّزتم أن يجعل الله الحجارة آدميين علماء، من غير سبب تُغيَّر به المخلوقات، كان هذا قدحاً في العقل؛ فلا أنتم عرفتم سنة الله المعتادة في خلقه، ولا عرفتم خاصّة العقل4؛ وهو التسوية بين المتماثلين؛ فإنّه سبحانه قطّ لم يخرق عادة، إلا لسبب يناسب ذلك؛ مثل:

_ 1 في ((م)) ، و ((ط)) : ينقضه. 2 انظر الكلام على دعوى الضرورة عند الأشاعرة، ورد شيخ الإسلام رحمه الله عليهم في: الجواب الصحيح 6398، 500. 3 انظر: مجموع الفتاوى 1969-71. وانظر ما سبق ص 592 من هذا الكتاب. 4 انظر ما تقدّم ص 279-282، 662-669 من هذا الكتاب.

[فلق] 1 البحر لموسى، وغير ذلك من الآيات التي بعث بها2؛ فإنّ ذلك خلقه ليكون آيةً وعلامةً؛ وكان ذلك بسبب نبوّة موسى، وانجائه قومه، وبسبب تكذيب فرعون. [ومن جوّز] 3 أنّ ذلك البحر، أو غيره ينفلق لموسى، من غير أن يكون هناك سبب إلهي يناسب ذلك، فهو مصابٌ في عقله. اضطراب الأشاعرة في التفريق بين آيات الأنبياء وخوارق غيرهم ولهذا اضطرب أصحاب هذا القول4، ولم يكن عندهم ما يفرّقون بين دلائل النبوة وغيرها، وكانت آيات الأنبياء والعلم بأنها آيات [إنْ حقَّقوها على وجهها] 5، فسدت أصولهم6، وإن طردوا أصولهم، كذّبوا العقل والسمع، ولم يمكنهم؛ لا تصديق الأنبياء، ولا العلم بغير ذلك من أفعال الله تعالى التي يفعلها بأسباب وحكم، كما قد بُسِط هذا في موضع آخر7.

_ 1 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 2 انظر هذا المعنى من كلام شيخ الإسلام رحمه الله، وقوله أنّ المعجزات إنما تقع لسبب وحكمة، لا تحصل بغير سبب، في: الجواب الصحيح 6401-404. 3 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 4 وهم الأشاعرة. 5 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 6 من هذه الأصول: نفي الحكمة والتعليل عن أفعال الله، والقول بتكليف ما لا يُطاق، ونفي التحسين والتقبيح العقليين، وغير ذلك، مما سبق نقضه، من خلال كلام المؤلف رحمه الله تعالى في معرض رده على المخالفين. 7 انظر: الجواب الصحيح 6393-404. وشرح الأصفهانية 2471-491، 608-624. ومجموع الفتاوى 881-158. ودرء تعارض العقل والنقل 940-44، 52. وانظر ما سبق من كتاب النبوات، حيث تكلم الشيخ رحمه الله عن هذا الموضوع بالتفصيل في الصفحات: 151-156، 267، 272-282، 501-505، 564-574، 580-590، 549-554، 929-933.

فصل اشتقاق كلمة النبي

فصل اشتقاق كلمة النبي ... فصل ودليل الشيء مشروط بتصور المدلول عليه، فلا يعرف آيات الأنبياء إلا من عرف ما اختُصّ به الأنبياء، وامتازوا به عما [سواهم] 1. اشتقاق كلمة النبي والنبوة مشتقّة من الإنباء. والنبيّ فعيلٌ، وفعيل قد يكون بمعنى فاعل؛ أي منبي، وبمعنى مفعول؛ أي منبأ2. وهما هنا متلازمان؛ فالنبي الذي [ينبىء] 3 بما أنبأه الله به، والنبي الذي نبّأه الله، وهو [منبأ] 4 بما أنبأه الله به. عصمة الأنبياء وما أنبأه الله به لا يكون كذباً، وما أنبأ به النبي عن الله [لا يكون] 5 يطابق كذباً؛ لا خطأً، ولا عمداً، فلا بُدّ أن يكون صادقاً فيما يخبر به عن الله؛ يُطابق خَبَرَهُ مَخْبَرَهُ، لا تكون فيه مخالفة؛ لا عمداً، ولا خطأً.

_ 1 في ((خ)) : سماهم. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 سبق أن ذكر شيخ الإسلام رحمه الله مسألة اشتقاق كلمة (النبيّ) ، ورجّح فيها - رحمه الله - أنّها فعيل بمعنى مفعول. انظر: ص 825-827 من هذا الكتاب. وانظر: مجموع الفتاوى 10190. 3 في ((خ)) : ينبأ. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 في ((خ)) : نبياً. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 في ((خ)) شُطب على (لا يكون) للدلالة على حذفها، كما عرف من منهج الناسخ ولا يستقيم ذلك.

وهذا معنى قول من قال: هم معصومون فيما يبلغونه عن الله1.

_ 1 من خصائص الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين: أنّهم معصومون فيما يُخبرون به عن الله تعالى. وأما العصمة في غير ما يتعلّق بتبليغ الرسالة، فللناس نزاع في ذلك. والذي عليه جمهور أهل العلم: عصمة الأنبياء عن الكبائر دون الصغائر، وأنّهم معصومون من الإقرار على الذنوب مطلقاً، وأنّهم إن وقع منهم زلاّت من جنس ذلك، فإنهم يتداركونها بالتوبة والإنابة، ثم يرتقون إلى منزلة أعلى من المنزلة التي كانوا عليها قبل الذنب. يقول شيخ الإسلام رحمه الله موضحاً مسألة عصمة الأنبياء: "فإنّ القول بأن الأنبياء معصومون عن الكبائر دون الصغائر: هو قول أكثر علماء الإسلام، وجميع الطوائف، حتى إنه قول أكثر أهل الكلام؛ كما ذكر أبو الحسن الآمدي أنّ هذا قول أكثر الأشعرية، وهو أيضاً قول أكثر أهل التفسير والحديث والفقهاء، بل لم ينقل عن السلف والأئمة والصحابة والتابعين وتابعيهم إلا ما يُوافق هذا القول". مجموع الفتاوى 4319. وقال أيضاً عن أهل السنة: هم متفقون على أنهم لا يقرون على خطأ في الدين أصلاً، ولا على فسوق، ولا كذب. ففي الجملة: كل ما يقدح في نبوتهم وتبليغهم عن الله، فهم متفقون على تنزيههم عنه. وعامة الجمهور الذين يُجوّزون عليهم الصغائر يقولون إنهم معصومون من الإقرار عليها، فلا يصدر عنهم ما يضرّهم. كما جاء في الأثر: كان داود بعد التوبة خيراً منه قبل الخطيئة، والله {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [سورة البقرة، الآية 222] ، وإنّ العبد ليفعل السيئة، فيدخل بها الجنة) . منهاج السنة 1472. وقال أيضاً رحمه الله: " ... أن يقال: إنّ الله سبحانه وتعالى لم يذكر من نبي من لأنبياء ذنباً، إلا ذكر توبته منه. ولهذا كان الناس في عصمة الأنبياء على قولين: إما أن يقولوا بالعصمة من فعلها، وإما أن يقولوا بالعصمة من الإقرار عليه، لا سيما فيما يتعلق بتبليغ الرسالة، فإنّ الأمة متفقة على أنّ ذلك معصوم أن يقرّ فيه على خطأ، فإنّ ذلك يناقض مقصود الرسالة ومدلول المعجزة ... ". إلى أن قال رحمه الله: "واعلم أنّ المنحرفين في مسألة العصمة على طرفي نقيض، كلاهما مخالف لكتاب الله من بعض الوجوه؛ قومٌ أفرطوا في دعوى امتناع الذنوب حتى حرّفوا نصوص القرآن المخبرة بما وقع منهم من التوبة من الذنوب، ومغفرة الله لهم، ورفع درجاتهم بذلك. وقومٌ أفرطوا في أن ذكروا عنهم ما دلّ القرآن على براءتهم منه، وأضافوا إليهم ذنوباً وعيوباً نزههم الله عنها، وهؤلاء مخالفون للقرآن، وهؤلاء مخالفون للقرآن. ومن اتبع القرآن على ما هو عليه من غير تحريف كان من الأمة الوسط، مهتدياً إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين..". مجموع الفتاوى 15147-150. وانظر المصدر نفسه 4319-321،، 10289 _ 295. ومنهاج السنة النبوية 1470-474. والجواب الصحيح 6298-299. وأضواء البيان 4522، 538.

لكن لفظ الصادق، وأنّ النبيّ صادق مصدوق: نطق به القرآن1، وهو مدلول الآيات والبراهين. ولفظ العصمة في القرآن، جاء في قوله: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} 2؛ أي من أذاهم3. فمعنى هذا اللفظ في القرآن: هو الذي يحفظه الله عن الكذب خطأً وعمداً.

_ 1 ومن الآيات التي ورد بها صفة الصدق للأنبياء: قوله تعالى: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [سورة يس، الآية 52] ، وقوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً} [سورة مريم، الآية 41] ، وقوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً} [سورة مريم، الآية 54] ، وقوله تعالى: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ..} [سورة يوسف، الآية 46، وقوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً} [سورة مريم، الآية 56] ، وقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} [سورة البقرة، الآية 101] . وقد تكلم الشيخ رحمه الله عن عاقبة النبي ومتبعيه، وحال مكذبيه، وأن النصر والسعادة وحسن العاقبة للرسول ولمن آمن به، والبلاء والعذاب، وسوء العاقبة لمن كذبهم وخالفهم. انظر: شرح الأصفهانية 2496-500. والجواب الصحيح 6387-393. 2 سورة المائدة، الآية 67. 3 انظر: تفسير الطبري 4309. وتفسير البغوي 252.

التعبير عن حقائق الإيمان بعبارات القرآن أولى من غيرها والتعبير عن حقائق الإيمان بعبارات القرآن، أولى من التعبير عنها بغيرها؛ فإن ألفاظ القرآن يجب الإيمان بها، وهي تنزيل من حكيم حميد. والأمة متفقة عليها، ويجب الإقرار بمضمونها قبل أن تفهم، وفيها من الحكم والمعاني ما لا تنقضي عجائبه. والألفاظ المحدثة فيها إجمال واشتباه ونزاع. ثمّ قد يُجعل اللفظ حجة بمجرده، وليس هو قول الرسول الصادق المصدوق، وقد يُضطرب في معناه. وهذا أمرٌ يعرفه من جرّبه من كلام الناس. فالاعتصام بحبل الله يكون بالاعتصام بالقرآن والإسلام1،

_ 1 شيخ الإسلام رحمه الله هنا يقعّد قاعدة مهمة في اتخاذ القرآن الكريم إماماً، وقائداً؛ فهو كلام الله تعالى، المتعبّد بتلاوته، وكل حرف يقرأ فيه بعشر حسنات، فهو كلام العليم الخبير، الذي يعلم ما في الصدور. وله - رحمه الله - كلام طيب حول هذا المعنى في مناظرته حول العقيدة الواسطية 4165. وله رحمه الله أيضاً كلام نفيس في موضع آخر، يحضّ فيه على التمسك بالقرآن الكريم، والاعتصام به، ويُبيّن أن السلف رحمهم الله لما اعتصموا به لم يضلّوا.. يقول رحمه الله: "وكان من أعظم ما أنعم الله به عليهم: اعتصامهم بالكتاب والسنة، فكان من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان: أنه لا يُقبل من أحد قط أن يعارض القرآن لا برأيه، ولا ذوقه، ولا معقوله، ولا قياسه، ولا وجده؛ فإنهم ثبت عنهم بالبراهين القطعيات، والآيات البينات أن الرسول جاء بالهدي ودين الحق، وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم، فيه نبأ من قبلهم، وخبر ما بعدهم، وحكم ما بينهم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، هو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، فلا يستطيع أن يزيغه إلى هواه، ولا يُحرّف به لسانه، ولا يخلق عن كثرة الترداد، فإذا ردّد مرة بعد مرة، لم يخلق، ولم يمل كغيره من الكلام، ولا تنقضي عجائبه، ولا تشبع منه العلماء، من قال به صدق، ومن عمل به أُجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم. فكان القرآن هو الإمام الذي يُقتدى به، ولهذا لا يُوجد في كلام أحد من السلف أنه عارض القرآن بعقل ورأي وقياس، ولا بذوق ووجد ومكاشفة، ولا قال قط قد تعارض في هذا العقل والنقل ... ". مجموع الفتاوى1328-29.

كما قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعَاً} 1. ومتى ذكرت ألفاظ القرآن والحديث، وبُيِّن معناها بياناً شافياً، [فإنّها] 2 لا [تنتظم] 3 جميع ما يقوله الناس من المعاني الصحيحة، وفيها زيادات عظيمة لا توجد في كلام الناس، وهي محفوظة مما دخل في كلام الناس من الباطل؛ كما قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 4، وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 5، وقال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} 6، وقال: {تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ الحَكِيم} 7. وفيه من دلائل الربوبية، والنبوة، والمعاد ما لا يوجد في كلام أحدٍ من العباد؛ ففيه أصول الدين المفيدة لليقين8؛

_ 1 سورة آل عمران، الآية 103. 2 في ((خ)) : إنها. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 في ((م)) ، و ((ط)) : تنظم. 4 سورة الحجر، الآية 9. 5 سورة فصلت، الآيتان 41-42. 6 سورة هود، الآية 1. 7 سورة لقمان، الآية 2. 8 كثيراً ما يذكر شيخ الإسلام رحمه الله هذه الأصول في مواضع عديدة من كتبه، من ذلك قوله موضّحاً هذه الأصول: "الأصل الأول: يتضمن إثبات الصفات، والتوحيد، والقدر، وذكر أيام الله في أوليائه وأعدائه، وهي القصص التي قصها على عباده، والأمثال التي ضربها لهم. والأصل الثاني يتضمن تفصيل الشرائع، والأمر والنهي، والإباحة، وبيان ما يجبه الله وما يكرهه. والأصل الثالث: يتضمن الإيمان باليوم الآخر، والجنة والنار، والثواب والعقاب. وعلى هذه الأصول الثلاثة مدار الخلق، والأمر، والسعادة، والفلاح، موقوفة عليها، ولا سبيل إلى معرفتها إلا من جهة الرسل؛ فإن العقل لا يهتدي إلى تفاصيلها ومعرفة حقائقها، وإن كان يُدرك وجه الضرورة إليها من حيث الجملة..". مجموع الفتاوى 1996. وقال في موضع آخر: "أصول الدين إما أن تكون مسائل يجب اعتقادها، ويجب أن تذكر قولاً، أو تعمل عملاً؛ كمسائل التوحيد، والصفات، والقدر، والنبوة، والمعاد، أو دلائل هذه المسائل..". درء تعارض العقل والنقل 121. وانظر: مجموع الفتاوى 3294-296،، 1996-97. وشرح الأصفهانية 2629.

وهو أصول دين الله ورسوله، لا أصول دين محدث، ورأي مبتدع. وقد يكون معصوماً على لغة القرآن: بمعنى أن الله عصمه من الشياطين؛ شياطين الإنس والجن، وأن يُغيّروا ما بُعث به، أو يمنعوه عن تبليغه؛ فلا يكتم، ولا يكذب؛ كما قال تعالى: {عَالِمِ الغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدَاً إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدَاً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدَاً} 1؛ فهو يسلك الوحي من بين يدي الرسول ومن خلفه. وهذا في معنى عصمته من الناس؛ فهو المؤيّد، المعصوم بما يحفظه الله من الإنس والجن، حتى [يبلغ] 2 رسالات ربّه كما أمر، فلا يكون فيها كذب ولا كتمان. لفظ النبي يتضمن معنى الإعلام والإخبار ولفظ الإنباء: يتضمَّن معنى الإعلام والإخبار3، لكنّه في عامّة موارد استعماله أخصّ من مطلق الإخبار؛ فهو يستعمل في الإخبار بالأمور الغائبة المختصة، دون المشاهدة المشتركة:

_ 1 سورة الجنّ، الآيات 26-28. 2 في ((خ)) : تبلغ. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 سيأتي توضيح ذلك.

كما قال: {وَأُنَبِّئُكُمْ [بِمَا] 1 تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ في بُيُوتِكُمْ} 2. وقال: {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ العَلِيمُ الخَبِيرُ} 3. وقال: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} 4. وقال: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَأِ العَظِيمِ الَّذِي هُمْ فيه مُخْتَلِفُونَ} 5. وقال: {وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ في الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلاَّ [قَلِيلاً] 6} 7. وقال: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} 8. وقال: {لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرّ} 9. وقال: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 10، إلى قوله: {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} 11. وقوله: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا [لَنْ نُؤْمِنَ

_ 1 في ((خ)) : مما. 2 سورة آل عمران، الآية 49. 3 سورة التحريم، الآية 3. 4 سورة ص، الآيتان 67-68. 5 سورة النبأ، الآيات 1-3. 6 في ((خ)) : قيليلا. 7 سورة الأحزاب، الآية 20. 8 سورة ص، الآية 88. 9 سورة الأنعام، الآية 67. 10 سورة البقرة، الآية 31. 11 سورة البقرة، الآية 33.

لَكُمْ] 1 قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 2؛ فهذا في خطاب المنافقين، ولم يقل: والمؤمنون؛ لأنهم لم يكونوا يُطلِعون المؤمنين على ما في بطونهم. [وهذا] 3 بخلاف قوله: {يَؤْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} 4؛ فإنها أمور مشهودة، يعرفها الناس، لكن العجب كون الأرض [تُخبر] 5 بذلك، فالعجب في المخبر، لا في الخبر؛ كشهادة الأعضاء6. وقال: {قُلْ آلذَّكَرَينِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَم مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 78. وجمع النبي: أنبياء؛ مثل وليّ وأولياء، ووصيّ وأوصياء، وقويّ

_ 1 ما بين المعقوفتين ساقط من ((م)) ، و ((ط)) . 2 سورة التوبة، الآية 94. 3 في ((خ)) : (قال وهذا) . وكتب الناسخ على (قال) علامة، ولعلها للدلالة على الحذف. 4 سورة الزلزلة، الآيتان 4-5. 5 في ((خ)) : يخبر. وما أثبت من ((م)) ، و "ط. 6 قال تعالى: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [سورة فصلت، الآيتان 20-21] . 7 سورة الأنعام، الآية 143. 8 وقع في ((خ)) تكرار لبعض ما سبق؛ فقد كُتب بعد قوله: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} : وقال: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ} ، وقال: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} إلى قوله: {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} . ثم قال بعد هذا الكلام: (وجمع النبي أنبياء..) .

وأقوياء. ويُشبهه حبيب وأحبّاء1؛ كما قال تعالى: {وَقَالَت اليَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} 2. ف (فعيل) : إذا كان معتلاً، أو مضاعفاً، جمع على أفعلاء، بخلاف حكيم وحكماء، وعليم وعلماء. معنى النبي في اللغة وهو من النَّبَأ. وأصله الهمزة3، وقد قُرىء به، وهي قراءة نافع، يقرأ النبيء4، لكن لما كثر استعماله ليّنت همزته، كما فعل مثل ذلك في: الذريّة، وفي البرية5. وقد قيل: هو من النَّبْوَةِ؛ وهو العلوّ؛ فمعنى النبي: المُعَلّى، الرفيع المنزلة6.

_ 1 انظر: القاموس المحيط للفيروزأبادي ص 67. 2 سورة المائدة، الآية 18. 3 انظر: لسان العرب 1162. ومفردات القرآن للراغب الأصفهاني ص 790. 4 وهذا مما انفرد به نافع، وباقي القراء بخلافه. انظر: سراج القارئ المبتدي للقاصح العذري ص 151. وانظر أيضاً لسان العرب 1163. 5 قال ابن بري: "ويجوز فيه تحقيق الهمز وتخفيفه، يُقال: نَبَأَ، ونَبَّأَ، وأنبَأَ. قال سيبويه: ليس أحد من العرب إلا ويقول: تنبَّأ مسيلمة بالهمز، غير أنهم تركوا الهمز في النبي، كما تركوه في الذرية والبرية والخابية، إلا أهل مكة، فإنهم يهمزون هذه الأحرف ولا يهمزون غيرها، ويُخالفون العرب في ذلك، قال: والهمز في النبيء لغة رديئة، يعني لقلة استعمالها، لا لأن القياس يمنع من ذلك. وقال الزجاج: القراءة المجمع عليها في النبيين والأنبياء: طرح الهمز. وقد همز جماعة من أهل المدينة جميع ما في القرآن من هذا، واشتقاقه من نَبَأَ وأَنبَأَ؛ أي أخبر، والأجود ترك الهمز". لسان العرب 1162-163. وانظر: مفردات القرآن للراغب الأصفهاني ص 790. 6 انظر: لسان العرب 1163. ومفردات القرآن للراغب ص 790. والقاموس المحيط ص 67.

والتحقيق: أنّ هذا المعنى داخلٌ في الأول، فمن أنبأه الله، وجعله مُنْبِئَاً عنه، فلا يكون إلا رفيع القدر عليّاً. وأما لفظ العلو والرفعة: فلا يدل على خصوص النبوة؛ إذ كان هذا يوصف به من ليس بنبي، بل يوصف بأنه الأعلى؛ كما قال: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} 1. هل لفظ النبي مهموز أم لا؟ وقراءة الهمز2 قاطعةٌ بأنّه مهموز. وما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "أنا نبي الله ولست بنبيء الله": فما رأيت له إسناداً؛ لا مسنداً، ولا مرسلاً3، ولا رأيته في شيء من كتب الحديث، ولا [السير] 4 المعروفة، ومثل هذا لا يعتمد عليه. واللفظان5 مشتركان في الاشتقاق الأكبر؛ فكلاهما فيه النون والباء، وفي هذا الهمزة، وفي هذا [الحرف] 6 المعتل. لكنّ الهمزة أشرف، فإنّها أقوى، قال سيبويه: هي نبوّة من الحلق، تشبه التهوّع، فالمعنى الذي يدلّ عليه، ويُمكن أن تلين، [فتصير] 7 حرفاً معتلاً، فيُعبّر عنه باللفظين، بخلاف المعتل؛ فإنّه لا يُجعل همزة.

_ 1 سورة آل عمران، الآية 139. 2 وهي قراءة نافع التي سبقت الإشارة إليها قريباً. 3 ذكره ابن منظور نقلاً عن سيبويه. انظر: لسان العرب 1162. ومفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني ص 790. والنهاية في غريب الحديث 53. وشرح الأصول الخمسة لعبد الجبار المعتزلي ص 567. 4 في ((خ)) : اليسير. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 النبيّ، والنبيء. 6 في ((خ)) : الخرق. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 7 في ((خ)) : فيصير. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

فلو كان أصله نبيّ؛ مثل: عليّ [و] 1 ولي، لم يجز أن يقال بالهمز؛ كما لا يُقال: عليء، ووصيء، ووليء - بالهمز -. وإذا كان أصله الهمز، جاز تليين الهمزة، وإن لم يكثر استعماله؛ كما في لفظ: خبيء وخبيئة. وأيضاً: فإنّ تصريفه: أنبأ ونبَّأ، يُنبىء وينبِّىء بالهمزة، ولم يُستعمل فيه نَبَا يَنْبُو، وإنّما يُقال: النبوة، [و] 2 في فلان نبوة عنَّا: أي مجانبة. فيجب القطع بأنّ النبيّ مأخوذٌ من الإنباء، لا من النَّبْوَة3. والله أعلم.

_ 1 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 2 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 3 شيخ الإسلام رحمه الله تعالى يُوضّح هنا الأصل اللغوي لمعنى النبوة. والنبي في اللغة: مشتق من واحد من ثلاثة أمور: أولاً- مشتق من النبأ، وهو الخبر، والجمع أنباء، قال تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ} ، وقال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} . ثانياً- من النَّبْوة، أو النباوة، وهي الارتفاع عن الأرض؛ أي أنّه أشرف على سائر الخلق، فاصله غير مهموز. ثالثاً- مأخوذ من النبيء، وهو الطريق الواضح. انظر: لسان العرب 1162-164. والقاموس المحيط ص 67. ومفردات ألفاظ القرآن للأصفهاني ص 788-790. وشيخ الإسلام رحمه الله أشار هنا إلى المعنى الأول، والثاني، ورجّح أن النبيّ مشتق من النبأ؛ الذي هو الخبر، وليس من النبوة الذي هو الارتفاع. وعلل ذلك بأنّ من أنبأه الله، وجعله منبأ عنه، فلا يكون إلا رفيع القدر عليّاً، بخلاف لفظ العلوّ والرفعة، فلا يدلّ على خصوص النبوة، إذ كان هذا يُوصف به من ليس بنبي.

فصل دلالة المعجزة على نبوة النبي

فصل دلالة المعجزة على نبوة النبي قد تقدّم1 أنّ للناس في وجه دلالة المعجزات؛ وهي آيات الأنبياء، على نبوتهم طرقاً متعددة: منهم من قال: دلالتها على التصديق تعلم بالضرورة2. ومنهم من قال: تعلم بالنظر والاستدلال3. وكلا القولين صحيح؛ فإنّ كثيراً من العلوم في هذا الباب؛ كدلالة الأخبار المتواترة، فإنّه قد يحصل بالخبر علم ضروري، وقد يحصل العلم بالاستدلال. وطائفة منهم الكعبي4، وأبو الحسين البصري5، وأبو الخطاب6: أنَّه نظريّ.

_ 1 انظر: ما تقدّم ص 580-583، 821-822 من هذا الكتاب. 2 انظر: ص 580-583 من هذا الكتاب. 3 انظر: الجواب الصحيح 6397-400، 505. 4 هو أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي، من بني كعب، البلخي الخراساني، أحد أئمة المعتزلة. كان رأس طائفة منهم تسمى الكعبية - إليه تنتسب، له آراء ومقالات في الكلام انفرد بها، وله مؤلفات؛ منها التفسير، وتأييد مقالة أبي الهذيل. ولد في سنة 273، وتوفي سنة 319 ?. انظر: الفرق بين الفرق ص 181-182. والملل والنحل 176-78. وسير أعلام النبلاء. والأعلام 465-66. 5 سبقت ترجمته. 6 سبقت ترجمته.

والتحقيق: أن كلا القولين حق؛ فإنّه يحصل بها علم ضروري، والأدلة النظرية توافق ذلك. وكذلك كثيرٌ من الأدلة - والعلامات، والآيات: من الناس من يعرف استلزامها للوازمها بالضرورة، ويكون اللزوم عنده بيِّناً، لا يحتاج فيه إلى وسط ودليل. ومنهم من يفتقر إلى دليل، ووسط يبيِّن له أنّ هذا الدليل مستلزمٌ لهذا الحكم، وهذا الحكم لازم له. ومن تأمل معارف الناس وجد أكثرها من هذا الضرب؛ فقد يجيء المخبر إليهم بخبر، فيعرف كثير منهم صدقه أو كذبه بالضرورة، لأمور تقترن بخبره. وآخرون يشكّون في هذا. ثمّ قد [يتبين] 1 لبعضهم بأدلة، وقد لا يتبيَّن. كثير من الناس يعلم صدق النبي بلا آية وكثيرٌ من الناس يعلم صدق المخبر بلا آية البتة2، بل إذا أخبره، وهو

_ 1 في ((خ)) : تبين. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 مثل خديجة رضي الله عنها، وأبي بكر رضي الله عنه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "قلت: وإيمان خديجة وأبي بكر وغيرهما من السابقين الأولين، كان قبل انشقاق القمر، وقبل إخباره بالغيوب، وقبل تحدّيه بالقرآن، لكن كان بعد سماعهم القرآن الذي هو نفسه آية مستلزمة لصدقه. ونفس كلامه وإخباره بأني رسول الله، مع ما يعرف من أحواله، مستلزم لصدقه، إلى غير ذلك من آيات الصدق وبراهينه. بل خديجة قالت له: كلا والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكلّ، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق. فكانت عارفة بأحواله التي تستلزم نفي كذبه وفجوره وتلاعب الشيطان به. وأبو بكر كان من أعقل الناس وأخيرهم، وكان معظماً في قريش لعلمه وإحسانه وعقله، فلما تبين له حاله، علم علماً ضرورياً أنه نبي صادق، وكان أكمل أهل الأرض يقيناً علماً وحالاً.." الجواب الصحيح 6511-512. وانظر: شرح الأصفهانية 2479-486. وكتاب الصفدية 1225. والحديث سبق تخريجه ص 234.

خبير بحاله، أو بحال ذلك [المخبَر به] 1، أو بهما، علم بالضرورة: إمّا صدقه، وإمّا كذبه. وموسى بن عمران لما جاء إلى مصر فقال لهارون وغيره: إنّ الله أرسلني، علموا صدقه، قبل أن يُظهر لهم الآيات. ولما قال لهارون: إن الله قد أمرك أن تؤازرني، صدَّقه هارون في هذا، لما يعلم من حاله قديماً، ولما رأى من تغير حاله الدليل على صدقه. المسلك النوعي وكذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم لمَّا ذكر حاله لخديجة، وغيرها، وذهبت به إلى ورقة بن نوفل، وكان عالماً بالكتاب الأول، فذكر له النبيّ صلى الله عليه وسلم ما يأتيه، علم أنّه صادق، وقال: هذا هو النَّاموس2 الذي كان يأتي موسى، يا ليتني فيها جذعاً، يا ليتني أكون حيّاً حين يُخرجك قومك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أو مخرجيّ هم؟ ". قال: نعم، لم يأت أحدٌ بمثل ما جئت به إلاَّ عودي، وإن يُدركني يومك أنصرك نصراً مؤزّراً3. وكذلك النجاشي: لمّا سمع القرآن، قال: إنّ هذا، والذي جاء به موسى، ليخرج من مشكاة واحدة4. المسلك الشخصي وكذلك أبو بكر، وزيد بن حارثة، وغيرهما: علموا صدقه علماً ضرورياً

_ 1 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) . وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 2 سبق معنى الناموس في ص 233 من هذا الكتاب. 3 الحديث رواه البخاري. وقد سبق تخريجه ص 233. 4 الحديث أخرجه الإمام أحمد. وقد سبق تخريجه ص 234.

لمّا أخبرهم بما جاء به، وقرأ عليهم ما أُنزل عليه1. وبقي القرآن الذي قرأه آية، وما يعرفون من صدقه وأمانته، مع غير ذلك من القرائن، يوجب علماً ضروريّاً بأنّه صادق. وخبر الواحد المجهول من آحاد الناس، قد تقترن به قرائن، يُعرف بها صدقه بالضرورة2.

_ 1 يدلّ عليه حديث عمار رضي الله عنه، قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معه إلا خمسة أعبد، وامرأتان، وأبو بكر". أخرجه البخاري 31338، كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذاً خليلاً". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت، وقال أبو بكر صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي - مرتين – "، فما أوذي بعدها. أخرجه البخاري 31339، كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذاً خليلاً ". 2 قال الشيخ رحمه الله تعالى: "إن كثيراً من الناس إذا رأوا الكاذب، وسمعوا كلامه، تبين لهم كذبه تارة بعلم ضروري، وتارة بعلم استدلالي، وتارة بظن قوي. وكذلك النبي الصادق إذا رأوه وسمعوا كلامه، فقد يتبين لهم صدقه بعلم ضروري، أو نظري. وقد يكون أولاً بظن قوي، ثم يقوى الظنّ حتى يصير يقيناً، كما في المعلوم بالأخبار المتواترة والتجارب؛ فإن خبر الأول يفيد نوعاً من الظنّ، ثم يقوى بخبر الثاني، والثالث، حتى يصير يقيناً". الجواب الصحيح 6505. وانظر المصدر نفسه 6471-473. وقال أيضاً: "إن المحققين من كل طائفة على أن خبر الواحد والاثنين والثلاثة قد يقترن به من القرائن ما يحصل معه العلم الضروري بخبر المخبر، بل القرائن وحدها قد تفيد العلم الضروري، كما يعرف الرجل رضا الرجل وغضبه، وحبه وبغضه، وفرحه وحزنه، وغير ذلك مما في نفسه بأمور تظهر على وجهه قد لا يمكنه التعبير عنها.... ولا يقول عاقل من العقلاء أن مجرد خبر الواحد، أو خبر كل واحد يفيد العلم، بل ولا خبر كل خمسة، أو عشرة، بل قد يُخبر ألف، أو أكثر من ألف ويكونون كاذبين إذا كانوا متواطئين. وإذا كان صدق المخبر أو كذبه يعلم بما يقترن به من القرائن، بل في لحن قوله وصفحات وجهه، ويحصل بذلك علم ضروري لا يمكن المرء أن يدفعه عن نفسه، فكيف بدعوى المدّعي أنه رسول الله..". شرح الأصفهانية 2478. وقال رحمه الله أيضاً: "جمهور أهل العلم من جميع الطوائف على أنّ خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول تصديقاً له، أو عملاً به، أنه يوجب العلم. وهذا هو الذي ذكره المصنفون في أصول الفقه.... والمقصود هنا: أن تعدد الطرق مع عدم التشاعر أو الاتفاق في العادة يوجب العلم بمضمون المنقول، لكن هذا ينتفع به كثيراً في علم أحوال الناقلين، وفي مثل هذا يُنتفع برواية المجهول، وسيئ الحفظ، وبالحديث المرسل، ونحو ذلك، ولهذا كان أهل العلم يكتبون مثل هذه الأحاديث، ويقولون إنه يصلح للشواهد والاعتبار ما لا يصلح لغيره..". مجموع الفتاوى 3352، وانظر: المصدر نفسه 2046.

فكيف بمن عرف صدقه وأمانته، وأخبر بمثل هذا الأمر، الذي لا يقوله إلاَّ من هو من أصدق الناس، أو من أكذبهم، وهم يعلمون أنه من الصنف الأول دون الثاني؟. فإذا كان العلم بصدقه بلا آية، قد يكون علماً ضرورياً. فكيف بالعلم بكون الآية علامة على صدقه. وجميع الأدلة لا بُدّ أن تُعرف دلالتها بالضرورة؛ فإنّ الأدلة النظرية لا بُدّ أن [تنتهي] 1 إلى مقدمات [ضرورية] 2. وأكثر الخلق إذا علموا ما جاء به موسى، والمسيح، ومحمد، علموا صدقهم بالضرورة. ولهذا لا يوجد أحدٌ قدح في نبوتهم، إلاَّ أحد رجلين؛ إمّا رجل جاهل، لم يعرف أحوالهم؛ وإما رجل معاند، متبع لهواه.

_ 1 في ((خ)) : ينتهي. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 ما بين المعقوفتين مكرّر في ((خ)) .

وعامّة من كذّبهم في حياتهم، كان معانداً؛ فالرؤساء كذّبوهم لئلا تزول رئاستهم، أو مأكلتهم. والأتباع طاعة لكبرائهم؛ كما أخبر الله بمثل ذلك في غير موضع من القرآن1، لم يكن التكذيب لقيام حجة تدلّ على الكذب؛ فإنه يمتنع قيام دليلٍ يدلّ على الكذب؛ فالمكذّب مفتر، متكلّم بلا علم، ولا دليلٍ قطعاً. وكذلك كلّ من كذّب بشيءٍ من الحقّ، أو صدّق بشيءٍ من الباطل، يمتنع أن يكون عليه دليلٌ صحيح؛ فإن الدليل الصحيح يستلزم مدلوله. فإذا كان المدلول منتفياً، امتنع أن يكون عليه دليل صحيح. [و] 2 كثيرٌ من الناس قد يكون شاكّاً، لعدم طلبه العلم، وإعراضه عنه؛ فالمكذّب متكلّم بلا علمٍ قطعاً، والشاكّ معرضٌ عن طلب العلم، مقصّر، مفرّط. ولو طلب [العلم] 3 تبين له الحقّ إذا كان متمكناً من معرفة أدلة الحق. وأمّا من لم يصل إليه الدليل، ولا يتمكن من الوصول إليه، فهذا عاجز. طريق الحكمة في معرفة صدق لأنبياء وأمّا الذين سلكوا طريق الحكمة4، فلهم أيضاً مسالك؛ مثل أن يقال: إنّ الله سبحانه وتعالى إذا بعث رسولاً أمر الناس بتصديقه وطاعته، فلا بُدّ أن ينصب لهم دليلاً يدلّهم على صدقه؛ فإنّ إرسال رسولٍ بدون علامة وآية تعرف المرسل إليهم أنَّه رسولٌ: قُبْحٌ، وسَفَهٌ في صرائح العقول، وهو نقصٌ في جميع الفطر.

_ 1 قال تعالى عنهم: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} . [سورة الأحزاب، الآية 67] . 2 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 3 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 4 وهم أهل السنة والجماعة. انظر ما سبق ص 501-504، 760-761 من هذا الكتاب.

وهو سبحانه منزّهٌ عن النقائص والعيوب، ولهذا يُنكر على المشركين أنهم يصفونه بما هو عندهم عيبٌ ونقصٌ، لا يرضونه لأنفسهم؛ مثل كون مملوك أحدهم شريكه يساويه؛ فإنّ هذا من النقائص والعيوب التي يُنزّهون أنفسهم عنها، ويعيبون ذلك على من فعله من الناس. فإذا كان هذا عيباً ونقصاً، لا يرضاه الخلق لأنفسهم؛ لمنافاته الحكمة، والعدل؛ فإنّ الحكمة والعدل تقتضي وضع كلّ شيء موضعه الذي يليق به، ويصلح به، فلا تكون العين كالرجل، ولا الإمام الذي يُؤتمّ به في الدين والدنيا في آخر المراتب، والسفلة من أتباعه في أعلى المراتب. فكذلك المالك لا يكون مملوكاً مساوياً له، فإنّ ذلك يُناقض كون أحدهما مالكاً، والآخر مملوكاً، ولهذا جاءت الشريعة بأن المرأة لا تتزوّج عبدها1 لتناقض الأحكام؛ فإنّ الزوج سيّد [المرأة] 2، وحاكمٌ عليها، والمالك سيّد [المملوك] 3 وحاكمٌ عليه، فإذا جُعل مملوكُها زوجَها الذي هو سيِّدها، تناقضت الأحكام. فهذا وأمثاله ممَّا يُبَيِّن أنّ هذه القضية مستقرّة في [فطر] 4 العقلاء. ولهذا قال تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِيمَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} 5؛

_ 1 قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن نكاح المرأة عبدها باطل. انظر المغني لابن قدامة 9574. 2 في ((ط)) : المرة. 3 في ((ط)) : الملوك. 4 في ((ط)) : نظر. 5 سورة الروم، الآية 28.

أي كما يخاف بعضكم بعضاً، {كَذَلِكَ1 نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَومٍ يَعْقِلُونَ بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ الله وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} 2. وكذلك كلّ أحدٍ يعلم بفطرته أنّ الذكر أفضل من الأنثى3. وكانت العرب أشدّ كراهية للبنات من غيرهم، حتى كان منهم من يئد البنات، ويدفن البنت وهي حيّة4، حتى قال تعالى: {وَإِذَا المَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} 5، وقال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدَّاً وَهُوَ كَظِيم يَتَوَارَى مِنَ القَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّه في الترابِ} 6. وكانوا لا يُورِّثون الإناث.

_ 1 في ((ط)) : وقوله: وكذلك. وهو مخالف لما في ((خ)) ، و ((م)) ، ومخالف لسياق الكلام أيضاً. 2 سورة الروم، الآيتان 28-29. 3 ومن الآيات الدالة على تفضيل الرجال على النساء: قوله تعالى يحكي عن امرأة عمران: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [سورة آل عمران، الآية 36] . وقوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ..} [سورة النساء، الآية 34] . 4 قال ابن الجوزي رحمه الله: "قال اللغويون: الموءودة: البنت تدفن وهي حية، وكان هذا من فعل الجاهلية. يقال: وأد ولده، أي دفنه حياً. قال الفرزدق: ومنّا الذي منع الوائدا ... ت فأحيا الوئيد ولم يُوأد زاد المسير لابن الجوزي 940. وانظر بعض القصص عمن دفن بناته وهن أحياء. انظر: تفسير ابن كثير 4477-478. 5 سورة التكوير، الآيتان 8، 9. 6 سورة النحل، الآيتان 58-59.

وقد قالت أم مريم: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} 1. وكان من الكفّار من جعل له الأناث أولاداً وشركاءَ، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالعُزَّى وَمَنَاةَ الثَالِثَةَ الأُخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى تِلْكَ إِذَاً قِسْمَةٌ [ضِيزَى] 2إِنْ هي إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} 3، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ [لَيُسَمُّونَ] 4 المَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى وَمَا لَهُمْ [بِهِ] 5 مِنْ عِلْم إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَنَّ وَإِنَّ الظَنَّ لا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئَاً} 6، وقال تعالى: {وَيَجْعَلُونَ للهِ البَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدَّاً وَهُوَ كَظِيم يَتَوَارَى مِنَ القَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّه في الترابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} 7؛ يعني ساء الحكم حكمهم؛ أي بئس الحكم حكمهم8، كما يقال: بئس ما فعل، وبئس ما حكم، حيث حكموا بأنّ لله البنات، ولهم ما يشتهون. فهذا حكمٌ جائرٌ، [كما أنّ تلك القسمة جائرة عوجاء. فهذا حكمهم بينهم وبين ربهم، وهذا] 9 قسمهم؛ يجعلون لأنفسهم أفضل النوعين، ولربهم أدنى النوعين، وهو10 مثل السوء، ولله المثل الأعلى.

_ 1 سورة آل عمران، الآية 36. 2 رسمت في ((خ)) : طيزى. 3 سورة النجم، الآيات 19-23. 4 في ((خ)) : لا يسمون. 5 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 6 سورة النجم، الآيتان 27-28. 7 سورة النحل، الآيات 57-59. 8 انظر: تفسير الطبري 14124. 9 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 10 في ((خ)) : وهو سبحانه. وأرى أنّها زائدة.

فالواجب أن يكون أفضل الأنواع وأكملها لله، [وما فيها نقص] 1 وعيب، فالمخلوق أحقّ بها من الخالق؛ إذ كان كلّ كمال في المخلوق فهو من خالقه، فيمتنع أن يكون الأنقص خلق الأكمل2. والفلاسفة يقولون بعبارتهم: كلّ كمالٍ في المعلول، فهو من [العلة] 3. قياس الأولى وأيضاً: فالموجود الواجب، أكمل من الممكن، والقديم أكمل من الحديث، والغني أكمل من الفقير؛ فيمتنع اتّصاف الأكمل بالنقائص، واتّصاف الأنقص بالكمالات. إثبات صفة الأكرم والأكبر والأعلى ولهذا يُوصف سبحانه بأنّه: الأكرم4، والأكبر5، والأعلى6، وأنه

_ 1 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو من ((م)) ، و ((ط)) . 2 انظر من كتب شيخ الإسلام: العقيدة التدمرية ص 50، 138-139، 142-144، 151. ودرء تعارض العقل والنقل 129-30،، 6181،، 7154، 322-327، 362-364. ومجموع الفتاوى 3297، 302، 321،، 5201، 250، 919-20، 12344، 347 - 350، 356، 16357، 358، 360، 446. ومنهاج السنة النبوية 1371، 417. وكتاب الصفدية 225، 27. وشرح العقيدة الأصفهانية ص 49. ونقض تأسيس الجهمية - مخطوط - ق 225، - مطبوع - 1321، 328. والفتاوى المصرية 1129. والرد على المنطقيين ص 115-116، 119، 120-123. وجامع الرسائل 1141. 3 في ((خ)) رسمت: المعلولعلة. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 قال تعالى: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} . [سورة العلق، الآية 3] . 5 كما يُقال في الأذان، والصلاة: الله أكبر. وقال تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} . [سورة الحج، الآية 62] . 6 قال تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} . [سورة الأعلى، الآية 1] .

أرحم الراحمين1، وخير الحاكمين2، وخير الغافرين3، وأحسن الخالقين4، فلا يُوصف قطّ، إِلاّ بما يُوجب اختصاصه بالكمالات، والممادح، والمحاسن التي لا يساويه فيها غيره، فضلاً عن أن يكون لغيره النوع الفاضل، وله النوع المفضول. ولهذا عاب الله المشركين؛ بأن {جَعَلُوا للهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبَاً فَقَالُوا هَذَا للهِ [بِزَعْمِهِمْ] 5 وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَان لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَمَا كَانَ للهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} 6، فبئس الحكم حكمهم في هذا؛ كما أنه بئس الحكم حكمهم في جعل الذكور لهم، والإناث له. [وساء: بمعنى بئس؛ كقوله: {سَاءَ مَثَلاً القَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} 7] 8؛ أي بئس مثلاً مثلهم. ولهذا قالوا في قوله: {سَاء ما يحكمون} : بئسما يقضون9. وقال تعالى: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ المَلائِكَةِ إِنَاثَاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ

_ 1 قال تعالى: {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} . [سورة الأعراف، الآية 151] . 2 قال تعالى: {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} . [سورة الأعراف، الآية 87] . 3 قال تعالى: {وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} . [سورة الأعراف، الآية 155] . 4 قال تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} . [سورة المؤمنون، الآية 14] . 5 في ((ط)) : برغمهم. 6 سورة الأنعام، الآية 136. 7 سورة الأعراف، الآية 177. 8 ما بين المعقوفتين ساقط من ((ط)) . 9 قال البغوي في تفسير هذه الآية: بئس ما يقضون لله البنات، ولأنفسهم البنين. تفسير البغوي 373.

قَوْلاً عَظِيمَاً} 1، وقال تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءَاً إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِين أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالبَنِينَ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُه مُسْوَدَّاً وَهُوَ كَظِيم أَوَ مَنْ يُنَشَّأَ في الحِلْيَةِ وَهُوَ في الخِصَامِ غَير مُبِين وَجَعَلُوا المَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثَاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} 2. قياس الأولى فهذه الطريقة - وهو أنّ ما يستحقه المخلوق من الكمال الذي لا نقص فيه، فالخالق أولى به، وما يُنزَّه عنه المخلوق من العيوب المذمومة، فالخالق تعالى أولى بتنزيهه عن كلّ [عيبٍ] 3 وذمّ4، وهو سبحانه القدّوس، السلام، الحميد، المجيد - من أبلغ الطرق البرهانية، وهي مستعملة في القرآن في غير موضع5. فلذلك يقال: الواحد من الناس قادرٌ على إرسال رسول، وعلى أن يرسل نشابة6، وعلامة يعرفه المرسل إليهم بها صدقه. فكيف لا يقدر الرب على ذلك؟. ثمّ إذا أرسله إليهم، وأمرهم بتصديقه وطاعته، ولم يعرّفهم أنّه رسوله، كان هذا من أقبح الأمور.

_ 1 سورة الإسراء، الآية 40. 2 سورة الزخرف، الآيات 15-19. 3 رسمت في ((خ)) : عين. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 وهو قياس الأولى. وقد تقدم توضيحه في ص 779، وتقدمت الإشارة إليه في ص 1092 من هذا الكتاب. 5 انظر ما سبق ص 821-822. 6 سبق التعريف بها في ص 714 من هذا الكتاب.

فكيف يجوز مثل هذا على الله؟. ولو بعثه بعلامة لا تدلّهم على صدقه، كان ذلك عيباً مذموماً؛ فكلّ ما تُرك من لوازم الرسالة؛ إمّا أن يكون لعدم القدرة؛ وإمّا أن يكون للجهل، والسفه، وعدم الحكمة. والربّ أحق بالتنزيه عن هذا، وهذا من المخلوق؛ فإذا أرسل رسولا فلا بُدّ أن يعرّفهم أنّه رسوله، ويبيّن ذلك. وما جعله آيةً، وعلامةً، ودليلاً على صدقه، امتنع أن يوجد بدون الصدق؛ فامتنع أن يكون للكاذب المتنبي؛ فإنّ ذلك يقدح في الدلالة. دلالة الآيات من جهة حكمة الله سبحانه وتعالى فهذا ونحوه ممّا يُعرف به دلالة الآيات من جهة حكمة الرب. فكيف إذا انضمّ إلى ذلك أنّ هذه سنّته وعادته؟ وأنّ هذا مقتضى عدله؟. وكلّ ذلك عند التصوّر التام، يُوجب علماً ضرورياً يصدّق الرسول الصادق، وأنه لا يجوز أن يُسوّى بين الصادق والكاذب؛ فيكون ما يظهره النبيّ من الآيات يظهر مثله على يد الكاذب، إذ لو فعل هذا، لتعذّر على الخلق التمييز بين الصادق والكاذب1. وحينئذٍ: فلا يجوز أن يؤمروا بتصديق الصادق، ولا يُذمّوا على ترك تصديقه وطاعته؛ إذ الأمر بذلك بدون دليله تكليف ما لا يُطاق2. وهذا لا يجوز في عدله وحكمته. ولو قُدِّر أنّه جائزٌ عقلاً، فإنّه غير واقع.

_ 1 انظر: الجواب الصحيح. 2 سبق فيما مضى. انظر ص 573 من هذا الكتاب.

فصل سنة الله وعادته في الكذاب أن ينتقم منه ويظهر كذبه

فصل سنة الله وعادته في الكذاب أن ينتقم منه ويظهر كذبه وقد دلّ القرآن على أنّه سبحانه لا يؤيّد الكذّاب عليه، بل لا بُدّ أن يظهر كذبه، وأن ينتقم منه، فقال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيل لأَخَذْنَا مِنْهُ بِاليَمِين ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوَتِين فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} 1، ذكر هذا [بعد] 2 قوله: {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُون وَمَا لا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيم وَمَا هُو بِقَولِ شَاعِرٍ قليلاً ما تُؤْمِنُون وَلا بِقَولِ كَاهِنٍ قَليلاً مَا تَذَكَّرُون تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ العَالَمِينَ} 3، ثمّ قال: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيل لأَخَذْنَا مِنْهُ [بِاليَمِين] 4 ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوَتِين فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} 5، هذا بتقدير أن يتقوّل بعض الأقاويل، فكيف بمن يتقوَّل الرِّسَالَة كلها. وقوله: {لأَخَذْنَا مِنْهُ بِاليَمِين ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوَتِين} : الوتين6: عرقٌ

_ 1 سورة الحاقة، الآيات 44-47. 2 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 3 سورة الحاقة، الآيات 38-43. 4 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) . 5 سورة الحاقة، الآيات 44-47. 6 قال في اللسان: الوتين: عرق في القلب، إذا انقطع مات صاحبه. وقال ابن سيده: الوتين عرق لاصقٌ بالصلب من باطنه أجمع يسقي العروق كلها بالدم، ويسقي اللحم، وهو نهر الجسد، وقيل: هو عرق أبيض مستبطن الفقار. وقيل: الوتين يستقي من الفؤاد وفيه الدم. وقيل: هو عرق أبيض كأنّه قصبة. انظر: لسان العرب 13441. وقال ابن الجوزي رحمه الله عن الوتين: "وهو عرق يجري في الظهر، حتى يتصل بالقلب، فإذا انقطع بطلت القوى، ومات صاحبه. قال أبو عبيدة: الوتين نياط القلب. وأنشد الشماخ: إذا بلغتني وحملت رحلي عرابة فاشرقي بدم الوتين وقال الزجاج: الوتين عرق أبيض غليظ كأنه قصبة". زاد المسير لابن الجوزي 8355. وانظر: تفسير الطبري 2967. ولسان العرب 13441.

في الباطن، يُقال: هو [نياط] 1 القلب، وإذا قُطِع مات الإنسان عاجلاً، وذلك يتضمّن هلاكه لو تقوّل على الله. وقوله: {لأخذنا منه باليمين} : قيل: لأخذنا بيمينه، كما يُفعل بمن يهان عند القتل، فيُقال: خُذْ بيده، فيُجَرّ بيده2، ثم يُقتل، فهذا هلاك بعزّة وقدرة من الفاعل، وإهانة وتعجيل [هلاك] 3 للمقتول. وقيل: لأخذنا منه باليمين؛ أي: بالقوّة، والقدرة؛ فإن الميامِن أقوى ممَّن يأخذ بشماله4، كما قال: {فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِر} 5، وكما قال: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيد} 6. لكنّه قال: {أخذنا منه} ، ولم يقل: لأخذناه. فهذا يُقوّي القول الأول. وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبَاً فَإِنْ يَشَأ اللهُ يَخْتِم عَلَى قَلْبِكَ} 7.

_ 1 في ((خ)) : يناط. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 انظر: تفسير الطبري 2966. 3 ما بين المعقوفتين مكرّر في ((خ)) . 4 انظر زاد المسير 8355. 5 سورة القمر، الآية 42. 6 سورة البروج، الآية 12. 7 سورة الشورى، الآية 24.

[ثمّ قال] 1: {وَيَمْحُ اللهُ البَاطِلَ وَيُحِقُّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} 2. فقوله: {وَيَمْحُ اللهُ البَاطِلَ} : عطف جملة على جملة. قالوا: وليس من جواب الشرط؛ لأنّه قال: {وَيُحِقُّ الحَقّ} ب الضمّ، وهو معطوف على قوله: {وَيَمْحُ اللهُ البَاطِلَ} . فمحوه للباطل، وإحقاقه الحق: خبرٌ منه، لا بُدّ أن يفعله؛ فقد بيَّن أنّه لا بُدّ أن يمحو الباطل، ويحقّ الحقّ بكلماته؛ فإنّه إذا أنزل كلماته، دلّ بها على أنّه نبيّ صادق؛ إذ كانت آية له، وبيّن بها الحق من الباطل. وهو أيضاً يُحِقّ الحقّ، ويُبطل الباطل بكلماته، [فإنّه إذا أنزل كلماته، دلّ بها على أنّه نبيّ صادق؛ إذ كانت آية له، وبَيَّن بها الحق من الباطل. وهو أيضاً يُحِقّ الحقّ، ويُبطل الباطل بكلماته] 3 التي تكون بها الأشياء؛ فيُحِقّ الحقّ بما يظهره من الآيات، وما ينصر به أهل الحقّ، كما تقدّمت كلمته بذلك، كما قال: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ} 4، وقال: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقَاً وَعَدْلاً} 5، وقال: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ القَانِتِينَ} 6. وقال تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوه} 7، وأمره يتضمّن ما يأمر به،

_ 1 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 2 سورة الشورى، الآية 24. 3 ما بين المعقوفتين مكرّر في ((خ)) ، و ((م)) ، و ((ط)) . 4 سورة الصافات، الآيتان 171-173. 5 سورة الأنعام، الآية 115. 6 سورة التحريم، الآية 12. 7 سورة النحل، الآية 1.

وهو الكائن بكلماته، وقال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئَاً أَنْ يَقُول لَهُ كُنْ فَيَكُون} 1. وكلماته صدقٌ وعدلٌ، والعدل: وضع الأشياء [مواضعها] 2. من عدل الله فمن عدله: أن يجعل الصادق عليه، المبلغ لرسالته، حيث يصلح من كرامته ونصره، وإن يجعل الكاذب عليه، حيث يليق به من إهانته وذلّه. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا العِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُفْتَرِينَ} 3؛ قال أبو قلابة4: هي لكلّ مفترٍ إلى يوم القيامة5. أصناف الكاذبين الذين يعارضون رسل الله أعظم الافتراء على الله ومن أعظم الافتراء عليه: دعوى النبوة والرسالة كذباً، كما قال تعالى:

_ 1 سورة يس، الآية 82. 2 في ((ط)) : مواضها. وسبق أن ذكرت كلاماً طيّباً لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حول هذا المعنى في هامش ص 571. 3 سورة الأعراف، الآية 152. 4 هو عبد الله بن زيد بن عمرو الجرمي البصري، عالم بالقضاء والأحكام، ناسك من أهل البصرة، أرادوه على القضاء، فهرب إلى الشام، فمات فيها، وكان من رجال الحديث الثقات. وقال علي بن المديني: أبو قلابة عربي من جرم، مات بالشام، وأدرك خلافة عمر ابن عبد العزيز، ثم توفي سنة أربع ومئة. انظر: حلية الأولياء 2282. وسير أعلام النبلاء 4468. وتهذيب التهذيب 5224. وشذرات الذهب 1126. والأعلام 488. 5 تلا أبو قلابة هذه الآية، ثم قال: فهو جزاء كل مفتر يكون إلى يوم القيامة أن يذله الله عز وجلّ. انظر: تفسير الطبري 971. ومنهاج السنة 6179.

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبَاً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِليَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيهِ شَيء وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ الله} 1، وذكر في هذا الكلام جميع أصناف الكاذبين الذين يعارضون رسله الصادقين، كما ذكر فيما قبله حال الكاذبين في قوله: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيء قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورَاً وَهُدَى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ في خَوضِهِمْ يَلْعَبُونَ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ القُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} 2 ثم قال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبَاً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِليَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيهِ شَيء} 3 الآية؛ فإنّ الكاذب إمّا أن يقول: إنّ غيري أنزل عليَّ، وإمَّا أن يقول: أنا أصنِّف مثل هذا القرآن. وإذا قال: غيري أنزل علي؛ فأمّا أن يُعيِّنه، فيقول: إنّ الله أنزله عليَّ؛ وأمّا أن يقول: أُوحي، ولا يُعيِّن من أوحاه. فذكر الأصناف الثلاثة، فقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبَاً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِليَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيهِ شَيء} 4: فهذان نوعان من جنس، ثمّ قال: {ومن} ، [و] 5لم يقل: أو قال؛ إذ كان هذا معارضاً لا يدّعي أنّه رسول، فقال: {وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} .

_ 1 سورة الأنعام، الآية 93. 2 سورة الأنعام، الآيتان 91-92. 3 سورة الأنعام، الآية 93. 4 سورة الأنعام، الآية 93. 5 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.

وهؤلاء المعارضون قد تحدّاهم في غير موضع1، وقال: {قُلْ لَئِن اجْتَمَعَت الإِنْسُ وَالجِنُّ عَلَى أَنْ يَأتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لا يَأتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرَاً} 2. والرسول أخبر بهذا خبراً تامّاً في أوّل الأمر، وهذا لا يمكن إلاَّ مع قطعه أنّه على الحق. وإلى الآن لم يوجد أحدٌ أنزلَ مثل ما أنزل الله. وقوله: {وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ} ، ولم يقل: أقدر أن أنزل؛ فإن قوله: {سَأُنْزِلُ} : هو وعدٌ بالفعل، وبه يحصل المقصود؛ بخلاف قوله: أقدر؛ فإنّه لا يحصل به غرض المعارض، وإنّما يحصل إذا فعل. فمن وعد بإنزال مثل ما أنزل، كان من أظلم الناس وأكذبهم؛ إذ كان قد تبيَّن عجز جميع الثقلين؛ الإنس، والجن، عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن. وقوله: {مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّه} : يقتضي أنّ كلّ ما أنزله الله على أوليائه، فهو معجزٌ، لا يقدر عليه إلا الله؛ كالتوراة، والإنجيل، والزبور. وهذا حقٌ3؛ فإنّ في ذلك من أنباء الغيب، ما لا يعلمه إلا الله، وفيه

_ 1 القرآن الكريم هو كلام الله، وهو من أعظم معجزات رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو المعجزة الباقية الخالدة من معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم إلى قرب قيام الساعة. وقد تحدّى الله سبحانه وتعالى به الخلق جميعاً من الجنّ والإنس، والعرب والعجم على أن يأتوا بمثله، قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [سورة الإسراء، الآية 88] . فلما عجزوا تحداهم بعشر سور، فقال سبحانه: {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} ، فلما عجزوا تحداهم بسورة واحدة، قال تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} . وقد تحدث الشيخ رحمه الله عن تحدي الله سبحانه وتعالى للخلق بالقرآن في هذا الكتاب. انظر ص 621-624. 2 سورة الإسراء، الآية 88. 3 سبق توضيح ذلك. انظر ص 624-628 من هذا الكتاب.

أيضاً من تأييد الرسل بذلك، ما لا يقدر على أن يرسل بتلك الرسالة إلا الله؛ فلا يقدر أحدٌ أن ينزل مثل ما أنزل الله على [نبيّه] 1؛ فيكون به مثل الرسول، ولا أن يرسل به غيره2.

_ 1 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 2 من المناسب أن نختم هذا الفصل الذي أفرده شيخ الإسلام رحمه الله لبيان أنّ الله تعالى لا يؤيد الكاذب بما ذكره رحمه الله معلقاً على قول هرقل: "وسألهم عن زيادة أتباعه ودوامهم على اتّباعه، فأخبروه أنهم يزيدون ويدومون، وهذا من علامات الصدق والحق، فإن الكذب والباطل لا بد أن ينكشف في آخر الأمر، فيرجع عنه أصحابه، ويمتنع عنه من لم يدخل فيه. ولهذا أخبرت الأنبياء المتقدمون أن المتنبئ الكذاب لا يدوم إلا مدة يسيرة. وهذا من بعض حجج ملوك النصارى الذين يقال إنهم من ولد قيصر هذا أو غيرهم، حيث رأى رجلاً يسب النبي صلى الله عليه وسلم من رؤوس النصارى ويرميه بالكذب، فجمع علماء النصارى فسألهم عن المتنبئ الكذاب: كم تبقى نبوته؟ فأخبروه بما عندهم من النقل عن الأنبياء: أن الكذاب المفتري لا يبقى إلا كذا أو كذا سنة - مدة قريبة، أو ثلاثين سنة، أو نحوها، وقال لهم: هذا دين محمد له أكثر من خمسمائة سنة أو ستمائة سنة، وهو ظاهر مقبول متبوع، فكيف يكون هذا كذاباً. ثم ضرب عنق ذلك الرجل". شرح الأصفهانية 2485. والغريب أن أحد العلماء استدل على صحة معتقد شيخ الإسلام وسلامة منهجه بهذا المسلك الشخصي الذي ذكره الشيخ رحمه الله عن هدي الأنبياء. انظر كلام هذا العالم في شيخ الإسلام ص 78 من هذا الكتاب.

فصل الاستدلال بالحكمة

فصل الاستدلال بالحكمة والاستدلال بالحكمة1: أن يعرف أولاً حكمته2، ثمّ يعرف أنّ من

_ 1 مسألة الحكمة: من أعظم المسائل التي خاض فيها المبتدعة في تعليل أفعال الله وأحكامه وصفاته. وقد ذكر الشيخ رحمه الله أبياته المعروفة لمن سأله عن القدر، يُشير فيها إلى أنّها أصل حجة أهل الضلال في الخوض في هذه المسائل. يقول: وأصلُ ضلالِ الخلقِ في كلِّ فرقة ... هُو الخوضُ في فعل الإله بعلّةِ فإنّهمو لم يفهموا حكمة له ... فصاروا على نوع من الجاهلية فإنّ جميع الكون أوجب فعله ... مشيئة رب الخلق باري الخليقة مجموع الفتاوى 8246. 2 الحكمة من صفات الله الذاتية؛ مثلها مثل الإرادة والمشيئة والكلام، فيُقال في الإرادة: إنّ الله سبحانه وتعالى لم يزل مريداً بإرادات متعاقبة، فنوع الإرادة قديم، وأما إرادة الشيء المعين فإنما يُريده في وقته. وهو سبحانه يقدّر الأشياء ويكتبها، ثم بعد ذلك يخلقها، فهو إذا قدّرها علم ما سيفعله، وأراد فعله في الوقت المستقبل، لكن لم يرد فعله في تلك الحال، فإذا جاء وقته أراد فعله. فالأول عزم، والثاني قصد. وكذلك الحكمة: صفة ذاتية، لم يزل الله حكيماً، فإن كان الفعل المفضي للحكمة حادث النوع، كانت الحكمة كذلك، وإن قدّر أنه قام به كلام، أو فعل متعلق بمشيئته، وأنه لم يزل كذلك، كانت الحكمة كذلك، فيكون النوع قديماً، وإن كانت آحاده حادثة. وقد أجمع المسلمون على أن الله موصوف بالحكمة، لكن تنازعوا في تفسير ذلك: فقال الأشاعرة والجهمية: الحكمة ترجع إلى علمه بأفعال العباد وإيقاعها على الوجه الذي أراده. ولم يثبتوا إلا العلم والإرادة والقدرة. وهم قد أطلقوا ألفاظها، ولكنهم لا يعنون بها معناها، بل يُطلقونها لأجل مجيئها في القرآن. وهم يثبتون أنه مريد، وينكرون أن تكون له حكمة يريدها، وأنه لم يخلق شيئاً لشيء، وأنكروا الأسباب والطبائع والقوى الموجودة في خلق الله وأمره والحكم المقصودة بذلك. وقال أهل السنة: بل هو حكيم في خلقه وأمره. والحكمة ليست مطلق المشيئة، إذ لو كان كذلك، لكان كلّ مريد حكيماً. ومعلوم أن الإرادة تنقسم إلى محمودة ومذمومة، بل الحكمة تتضمن ما في خلقه وأمره من العواقب المحمودة، والغايات المحبوبة. والله سبحانه حكيم رحيم، وقد أخبر أنه لم يخلق المخلوقات إلا بحكمة، كما قال في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} . والله سبحانه له في كلّ ما يخلقه حكمة يحبها ويرضاها، وهو سبحانه أحسن كلّ شيء خلقه، وأتقن كل ما صنع، فما وقع من الشر الموجود في المخلوقات، فقد وجد لأجل تلك الحكمة المطلوبة المحبوبة المرضية، فهو من الله حسن جميل، وهو سبحانه محمود عليه، وله الحمد عل كل حال، وإن كان شراً بالنسبة إلى بعض الأشخاص. فهو تعالى لم يزل عليماً، فعالاً لما يريد، وأفعاله تعالى وإبداعه لمبتدعاته تابعة لحكمته، التي هي وضع الأشياء مواضعها، وتنزيل الأمور منازلها، فلم يخلق شيئاً عبثاً. فالحكمة فعله بعض الأشياء دون بعض، لاشتمال المفعول على ما يصلح أن يكون مراداً للحكيم. فالله سبحانه وتعالى يفعل لحكمة يحبها ويحصل بها محبوبه، فإنه لا يزال مراده الذي يحبه يحصل بفعله، وهو غني عن كل ما سواه، ورحمته لعبده، وإحسانه إليهم هو مما يُحبّه، وهو سبحانه إذا أمر العباد ونهاهم: أمرهم بما يحبه ويرضاه لهم، وهو يحبهم ويرضى عنهم إذا فعلوه؛ قال تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [سورة الزمر 7] . لكن فرق بين ما يريد هو أن يخلقه لما يحصل من الحكمة التي يحبها، فهذا يفعله سبحانه، ولا بُدّ من وجوده، فإنّه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وبين ما يُريد من العباد أن يفعلوه، ويحبه إذا فعلوه، ويأمرهم به من غير مشيئة منه أن يخلقه؛ فإنّ المشيئة متعلقة بفعله، والأمر متعلق بفعل عبده المأمور، فالإرادة منه تارة تكون بمعنى المشيئة، وتارة تكون بمعنى المحبة. فهو سبحانه محمود على كل حال، له الملك وله الحمد في الدنيا والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون. انظر المصادر الآتية: مجموع الفتاوى 16130، 297، 303،، 1795، 99. ومجموعة الرسائل والمسائل 5242. ومنهاج السنة النبوية 144،، 3168-177، 207-209، 45. وبيان تلبيس الجهمية 1215. وكتاب الصفدية 1147. وشرح الأصفهانية 1365-368. ودرء تعارض العقل والنقل 7476-477.

حكمته أنّه لا يُسوّي بين الصادق بما يظهر به صدقه، وبأن ينصره، ويعزّه، [ويجعل] 1 [له] 2 العاقبة، ويجعل له لسان صدقٍ في العالمين. والكاذب عليه: يُبيّن كذبه، ويخذله، ويذله، ويجعل عاقبته عاقبة سوء، ويجعل له لسان الذمّ واللعنة في العالمين، كما قد وقع. فهذا هو الواقع، لكن المقصود أن نبيّن أنّ ما وقع منه، فهو واجب الوقوع في حكمته، لا يجوز أن يقع منه ضدّ ذلك. فهذا استدلال ببيان أنه يجب أن يقع منه ما يقع، ويمتنع أن يقع منه ضده، وذلك ببيان أنّه حكيم، وأنّ حكمته توجب أن يُبيّن صدق الأنبياء وينصرهم، ويُبيّن كذب الكاذبين ويذلهم. وكذلك يفعل باتباع النبيين، وبأعدائهم؛ كما أخبر بذلك في كتابه3، وبيّن أنّ هذا حقّ عليه، يجب أن يفعله، ويمتنع أن يفعل ضدّه؛ كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُمْ بِالبَيِّنَات فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقَّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} 4، وكما قال: {كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا

_ 1 ما بين المعقوفتين مكرّر في ((خ)) . 2 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 3 قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [سورة غافر، الآية 51] ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [سورة الصافات، الآيات 171-173] ، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [سورة النحل، الآية 116] . 4 سورة الروم، الآية 47.

وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ [قَوِيّ] 1 عَزِيزٌ} 2. وقوله: {لأغلبنّ} : قَسَمٌ أقسم الله عليه، فهو جواب قسم، تقديره: والله لأغلبنّ أنا ورسلي. وهذا يتضمن إخباره بوقوع ذلك، وأنّه كتب على نفسه ذلك، وأمر به نفسه، وأوجبه على نفسه؛ فإنّ صيغة القسم يتضمّن التزام ما [حلف] 3 عليه؛ إمّا [حضّاً] 4 عليه، وأمراً به؛ وإمّا منعاً منه، ونهياً عنه. الوفاء باليمين وكفارته ولهذا كان في شرع من قبلنا يجب الوفاء بذلك، ولا كفارة فيه5. وكذلك كان في أول الإسلام. ولهذا كان أبو بكر لا يحنث في يمين، حتى أنزل الله كفارة اليمين، كما ذكرت ذلك عائشة6. ولهذا أُمِر أيوب أن يأخذ بيده ضغثاً، فيضرب به، ولا يحنث7؛ فإنّ ذلك صار واجباً باليمين كوجوب المنذور الواجب بالنذر، يُحتذى به حذو الواجب بالشرع.

_ 1 في ((م)) ، و ((ط)) : لقويّ. 2 سورة المجادلة، الآية 21. 3 في ((خ)) : خلق. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 في ((خ)) : خصاً. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 قال ابن العربي: "قوله تعالى: {فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} يدلّ على أحد وجهين؛ إما أن يكون أنه لم يكن في شرعهم كفارة، وإنما كان البر والحنث. والثاني: أن يكون صدر منه نذر لا يمين". الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 15140. 6 إذ قالت رضي الله عنها: إنّ أبا بكر رضي الله عنه لم يكن يحنث في يمين قطّ، حتى أنزل الله كفارة اليمين، فقال: "لا أحلف على يمين فرأيتُ غيرها خيراً منها، إلا أتيت الذي هو خير، وكفّرت عن يميني". أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأيمان والنذور، باب قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ... } . 7 قال تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [سورة ص، الآية 44] .

والضرب بالضغث يجوز في [الحدود] 1 إذا كان المضروب لا يحتمل التفريق؛ كما جاء في الحديث2. ولو كان في شرعهم3 كفارة، لأغنت عن الضرب مطلقاً. لكن الإنسان قد يلتزم ما لا يعلم عاقبته، ثم يندم عليه، والرب تعالى عالمٌ بعواقب الأمور، فلا يحلف على أمرٍ ليفعلنّه، إلا وهو يعلم عاقبته. واليمين موجبة4، ولهذا قال تعالى: {كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ} 5. وكَتَبَ: مثل كَتَبَ، في قوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} 6؛ فهي كتابة تتضمن خبراً وإيجاباً.

_ 1 في ((ط)) : الحدوث. 2 وهو ما رواه أبو أمامة بن سهل بن حنيف أنّه أخبره بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار أنه اشتكى رجل منهم حتى أضنى، فعاد جلدة على عظم. فدخلت عليه جارية لبعضهم، فهشّ لها، فوقع عليها، فلما دخل عليه رجال قومه يعودونه أخبرهم بذلك، وقال: استفتوا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني وقعت على جارية دخلت عليّ. فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: ما رأينا بأحد من الناس من الضرّ مثل الذي هو به، لو حملناه إليك لتفسخت عظامه، ما هو إلا جلد على عظم. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا له مائة شمراخ، فيضربوه بها ضربة واحدة". أخرجه أبو داود في سننه 4615-616، كتاب الحدود، باب إقامة الحدّ على المريض. وأحمد في المسند 5222. وابن ماجه في سننه 2859، كتاب الحدود، باب الكبير والمريض يجب عليه الحدّ. وقال محمد فؤاد عبد الباقي في تعليقه على ابن ماجه: "في الزوائد: مدار الإسناد على محمد بن إسحاق وهو مدلّس. وقد رواه بالعنعنة". وقال ابن حجر رحمه الله: "إسناد هذا الحديث حسن، ولكنه اختلف في وصله وإرساله". سبل السلام 424. 3 أي في شرع بني إسرائيل. 4 أي واقعة ومتحققة. 5 سورة المجادلة، الآية 21. 6 سورة الأنعام، الآية 54.

ومنه قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ في الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا} 1. وفي الحديث الصحيح الإلهي: "يا عبادي إني حرَّمتُ الظلم على نفسي وجعلتُهُ بينكم مُحَرَّمَاً فلا تَظَالَمُوا"2. وقد بسط هذا الأصل في مواضع؛ مثل الكلام في مسألة القادر المختار3، ومسألة العدل والظلم4، وغير ذلك5. فإنّ كثيراً من المتكلمين يقول: إن القادر المختار لا يفعل إلا بوصف [الجواز6] 7، فيفعل الفعل في حال تردّده بين أن يفعل، وأن لا يفعل. استطالة الفلاسفة على المتكلمين ومنهم من يقول: يفعله مع رجحان أن يفعل رجحاناً لا ينتهي إلى حدّ الوجوب8.

_ 1 سورة هود، الآية 6. 2 سبق تخريج جزء منه في ص 537. 3 أما هذه المسألة: فقد تطرق لها الشيخ رحمه الله في بيان تلبيس الجهمية 1203-206، وفي رسالة أقوم ما قيل، ضمن مجموعة الرسائل 4-5329، وفي شرح الأصفهانية 2351-355، وفي درء التعارض 1326،، 9166. 4 للشيخ رحمه الله رسالة في معنى كون الربّ عادلاً وفي تنزهه عن الظلم، ضمن جامع الرسائل، المجموعة الأولى ص 119-142. وانظر ص 566 من هذا الكتاب. 5 سبق أن ذكرنا كثيراً من الإحالات على كتب شيخ الإسلام في هذه المسألة، انظر ص 504 من هذا الكتاب. 6 انظر: درء تعارض العقل والنقل 1326،، 4290 إلى آخر الجزء،، 9166، 192-193. وشرح الأصفهانية 1351. 7 في ((م)) ، و ((ط)) : الجوار. 8 انظر: درء تعارض العقل والنقل 363،، 9170-171، 193. وشرح الأصفهانية 1352.

وهو قول محمد بن [الهيصم] 1 الكرامي2، ومحمود الخوارزمي المعتزلي3. وبهذا استطال عليهم الفلاسفة4، فقالوا: الربّ موجب؛ لأنّ الممكن لا يقع حتى يحصل المؤثر التامّ الموجب له5.

_ 1 في ((خ)) ، و ((م)) ، و ((ط)) : الهيضم. وهو خلاف الصواب. 2 سبقت ترجمته. 3 هو أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد الزمخشري الخوارزمي النحوي، صاحب الكشاف في التفسير، والمفصل في النحو. من أئمة المعتزلة، ومن الدعاة إلى مذهبهم. ومن علماء اللغة والتفسير. وكان مجاهراً شديد الإنكار على المتصوفة، أكثر من التشنيع عليهم في الكشاف وغيره. ولد سنة 467 ?، وتوفي سنة 538 ? في الجرجانية من قرى خوارزم. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 20151-156. وشذرات الذهب لابن العماد 4118-121. والأعلام للزركلي 7178. 4 انظر درء تعارض العقل والنقل 9150. 5 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وهؤلاء المتفلسفة أنكروا على الأشعرية نفي الحكمة الغائية، وهم يلزمهم من التناقض ما هو أعظم من ذلك؛ فإنهم إذا أثبتوا الحكمة الغائية كما هو قول جمهور المسلمين، فإنهم يلزمهم أن يثبتوا المشيئة بطريق الأولى والأحرى، فإنّ من فعل المفعول لغاية يُريدها، كان مريداً للمفعول بطريق الأولى والأحرى. فإذا كانوا مع هذا ينكرون الفاعل المختار، ويقولون: إنه علة موجبة للمعلول بلا إرادة، كان هذا في غاية التناقض............ فالعالم بما فيه من تخصيصه ببعض الوجوه دون بعض، دالّ على مشيئة فاعله، وعلى حكمته أيضاً، ورحمته المتضمنة لنفعه وإحسانه إلى خلقه..". درء تعارض العقل والنقل 9111. وانظر: المصدر نفسه 362، 416-418. وبيان تلبيس الجهمية 1171، 214-215. وقال شيخ الإسلام رحمه الله أيضاً: "وينبغي أن يعلم أنّ الذي سلّط هؤلاء الدهرية على الجهمية شيئان؛ أحدهما: ابتداعهم لدلائل ومسائل في أصول الدين تُخالف الكتاب والسنة، ويُخالفون بها المعقولات الصحيحة التي ينسرّ بها خصومهم أو غيرهم. والثاني: مشاركتهم لهم في العقليات الفاسدة من المذاهب والأقيسة، ومشاركتهم لهم في تحريف الكلم عن مواضعه؛ فإنهم لما شاركوهم فيه بعد تأويل نصوص الصفات بالتأويلات المخالفة لما اتفق عليه السلف وأئمتهم، كان هذا حجة لهم في تأويل نصوص المعاد وغيرها". بيان تلبيس الجهمية 1223.

والتحقيق: أنّ الرب يخلق بمشيئته وقدرته، وهو موجب لكلّ ما يخلقه بمشيئته وقدرته، ليس موجباً بمجرّد الذات، ولا موجباً بمعنى أنّ موجبه يقارنه؛ فإنّ هذا ممتنع. فهذان معنيان باطلان. وهو قادرٌ يفعل بمشيئته؛ فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن؛ فما شاءه وجب كونه، وما لم يشأ امتنع كونه1. ولهذا قال كثيرٌ من النظار: إنّ الإرادة موجبة للمراد2. وعلى هذا، فقولنا: يجوز أن يكون، ويجوز أن لا يكون: إنما هو جواز الشيء، بمعنى الشك في أيهما هو الواقع، وإلا ففي نفس الأمر أحدهما هو الواقع، ليس في نفس الأمر [ظنياً] 3 متردّداً بين الوقوع وعدم الوقوع. الإمكان الذهني والإمكان الذهني: قد يُراد به عدم العلم بالامتناع، وقد يُراد به الشك في الواقع. وكلا النوعين عدم علم. الإمكان الخارجي والإمكان الخارجي: يُراد به أن وجوده في الخارج ممكن، لا ممتنع4؛

_ 1 انظر شرح الأصفهانية 1128، 351-353. 2 انظر: درء تعارض العقل والنقل 9193. 3 في ((خ)) كلمة غير واضحة، وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 وقال الشيخ رحمه الله في الفرق بين الإمكان الذهني والإمكان الخارجي أيضاً: "والفرق بينهما أنّ الإمكان الذهني معناه عدم العلم بالامتناع، فليس في ذهنه ما يمنع ذلك. والإمكان الخارجي معناه: العلم بالإمكان في الخارج. والإنسان يُقدّر في نفسه أشياء كثيرة يجوزها، ولا يعلم أنها ممتنعة، ومع هذا فهي ممتنعة في الخارج لأمور أُخر". درء تعارض العقل والنقل 3358-359. وانظر: التدمرية ص 263. وانظر كلاماً مفصّلاً للمؤلف أيضاً عن الفرق بينهما في الجواب الصحيح 6404-405. وقد سبق أيضاً التفريق بينهما من كلام المؤلف في هذا الكتاب، في ص 227.

كولادة النساء، ونبات الأرض. وأما الجزم بالوقوع وعدمه، فيحتاج إلى دليل. وفي نفس الأمر ما ثَمّ إلا ما يقع، أو لا يقع. والواقع لا بدّ من وقوعه، ووقوعه واجب لازم. وما لا يقع فوقوعه ممتنع، لكن واجب بغيره، وممتنع لغيره: وقوع ما قدره الله واجب من جهات وهو واجب من جهات: من جهة علم الرب من وجهين، ومن جهة إرادته من وجهين، ومن جهة كلامه من وجهين، [ومن جهة كتابته من وجهين] 1، ومن جهة رحمته، ومن جهة عدله. أمّا علمه: فما علم أنه سيكون، فلا بد أن يكون، وما علم أنه لا يكون، فلا يكون. وهذا مما يعترف به جميع الطوائف، إلا من ينكر العلم السابق؛ كغلاة القدرية2 الذين تبرأ منهم الصحابة.

_ 1 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 2 قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - عنهم: "وغلاة القدرية يُنكرون علمه المتقدم وكتابته السابقة، ويزعمون أنه أمر ونهي، وهو لا يعلم من يطيعه ممن يعصيه، بل الأمر أنف: أي مستأنف. وهذا القول أول ما حدث في الإسلام بعد انقراض عصر الخلفاء الراشدين، وبعد إمارة معاوية بن أبي سفيان في زمن الفتنة التي كانت بين ابن الزبير وبين بني أمية في أواخر عصر عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وغيرهما من الصحابة. وكان أول من ظهر عنه ذلك بالبصرة معبد الجهني، فلما بلغ الصحابة قول هؤلاء تبرءوا منهم، وأنكروا مقالتهم، كما قال عبد الله بن عمر لما أُخبر عنهم: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برءاء مني. وكذلك كلام ابن عباس، وجابر بن عبد الله، وواثلة بن الأسقع، وغيرهم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وسائر أئمة المسلمين فيهم كثير، حتى قال فيهم الأئمة؛ كمالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وغيرهم: إن المنكرين لعمل الله المتقدم يكفرون. ثم كثر خوض الناس في القدر، فصار جمهورهم يقر بالعلم المتقدم، والكتاب السابق، لكن ينكرون عموم مشيئة الله، وعموم خلقه وقدرته، ويظنون أنه لا معنى لمشيئته إلا أمره؛ فما شاءه فقد أمر به، وما لم يشأه لم يأمر به. فلزمهم أن يقولوا: إنه قد يشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء. وأنكروا أن يكون الله تعالى خالقاً لأفعال العباد، أو قادراً عليها، أو أن يختصّ بعض عباده من النعم بما يقتضي إيمانهم به وطاعتهم له..". مجموع الفتاوى 8450-451. وانظر المصدر نفسه 7384-385، 8228. وانظر ما سبق في هذا الكتاب، ص 665.

ومن جهة أنه يعلم ما في ذلك الفعل من الحكمة: فيدعوه علمه إلى فعله، أو ما فيه من الفساد، فيدعوه إلى تركه. وهذا يعرفه من يقرّ بأنّ العلم داع، ومن يقرّ بالحكمة. ومن جهة إرادته: فإنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. ومن جهة حكمته، وهي الغاية المرادة لنفسها، التي يفعل لأجلها. فإذا كان مريدا للغاية المطلوبة، لزم أن يُريد ما يُوجب حصولها. ومن جهة كلامه: من وجهين؛ من جهة أنه أخبر به، وخبره مطابق لعلمه؛ ومن جهة أنه أوجبه على نفسه، وأقسم ليفعلنّه. وهذا من جهة إيجابه على نفسه، والتزامه أن يفعله. ومن جهة كتابته إياه في اللوح: وهو يكتب ما علم أن سيكون. وقد يكتب إيجابه والتزامه؛ كما قال: {كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} 1، وقال: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} 2.

_ 1 سورة المجادلة، الآية 21. 2 سورة الأنعام، الآية 54.

فهذه عشرة أوجه1 تقتضي الجزم بوقوع ما سيكون، وأنّ ذلك واجبٌ [حتمٌ] 2 لا بُدّ منه، فما في نفس الأمر جوازٌ يستوي فيه الطرفان؛ الوجود، والعدم، وإنّما هذا في ذهن الانسان، لعدم علمه بما هو الواقع. ثمّ من علم بعض تلك الأسباب، علم الواقع؛ فتارة يعلم لأنّه أخبر بعلمه؛ وهو ما أخبرت به الأنبياء بوقوعه؛ كالقيامة [والجزاء] 3؛ وتارة يعلم من جهة المشيئة؛ لأنّه جرت به سنته الشاملة التي لا تتبدّل؛ وتارة يعلم من جهة حكمته، كما قد بسط في غير هذا الموضع4.

_ 1 والخلاصة: أنّ الجزم بوقوع ما قدّره الله سبحانه وتعالى واجب من جهات عشر: من جهة علم الله سبحانه وتعالى من وجهين؛ الأول: ما علمه الله أنه سيكون، فلابُدّ أن يكون. والثاني: ما علم الله سبحانه وتعالى أنه لا يكون، فلا يكون. وكذلك من جهة إرادته سبحانه من وجهين؛ الأول: أنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. والثاني: من جهة حكمته سبحانه، وهي الغاية المرادة لنفسها التي يفعل لأجلها. وكذلك من جهة كلامه، من وجهين؛ الأول: من جهة أنه أخبر به، وخبره مطابق لعلمه. والثاني: من جهة أنه أوجبه على نفسه وأقسم ليفعلنّه. وكذلك من جهة كتابته إياه في اللوح المحفوظ من وجهين؛ الأول: كتابته ما علم أنه سيكون. والثاني: كتابته ما أوجبه على نفسه. وكذلك من جهة رحمته. وكذلك من جهة عدله. فهذه عشرة أوجه. 2 في ((ط)) : حتى. 3 في ((ط)) : الجزاء. 4 انظر: درء تعارض العقل والنقل 362-69،، 9192-196. وبيان تلبيس الجهمية 1197-213.

الحكمة والعدل والرحمة تعلم بالعقل والحكمة، والعدل، والرحمة، والعادة تُعلم بالعقل، كما قد عرف من حكمة الرب، وعدله، وسّنته. ويُستدلّ بذلك على العلم، والخبر، والكتاب؛ كما أن العلم، والخبر، والكتاب [يُعلم] 1 بأخبار الأنبياء، ويُستدلّ بذلك على العدل، والحكمة، والرحمة. الجهمية ينكرون الحكمة والعدل والرحمة والجهمية المجبرة لا تجزم بثبوتٍ، ولا انتفاءٍ، إلا من جهة الخبر، أو العادة؛ إذ كانوا لا يثبتون الحكمة، والعدل، والرحمة في الحقيقة، كما قد بسط في غير موضع2. وحُكِيَ عن الجهم أنّه كان يخرج، فينظر الجَذْمَى3، ثُمّ يقول: أرحم الراحمين يفعل هذا4؟. يقول إنّه يفعل لمحض المشيئة، ولو كان يفعل بالرحمة لما فعل هذا. وهذا من جهله لم يعرف ما في الابتلاء من الحكمة، والرحمة، والمصلحة.

_ 1 في ((م)) ، و ((ط)) : تعلم. 2 قال شيخ الإسلام رحمه الله: "والجهم بن صفوان ومن اتبعه ينكرون حكمته ورحمته، ويقولون: ليس في أفعاله وأوامره لام كي، لا يفعل شيئاً لشيء، ولا يأمر بشيء لشيء. وكثير من المتأخرين من المثبتين للقدر من أهل الكلام ومن وافقهم سلكوا مسلك جهم في كثير من مسائل هذا الباب، وإن خالفوه في بعض ذلك". مجموع الفتاوى 8466-467. وانظر: المصدر نفسه 16130-133، 297-300. ومنهاج السنة 1142-145. وبيان تلبيس الجهمية 1214-217. وشرح الأصفهانية 2356-357. 3 الجُذام من الداء: مرض معروف سُمي بذلك لتجذُّم الأصابع وتقطُّعها. لسان العرب 1287. 4 انظر شفاء العليل لابن القيم رحمه الله ص 202.

والمجبرة المثبتة للقدر متّبعون لجهم1، والقدرية النفاة مناقضون لهم2، كما قد بُسط الكلام على ذلك في غير موضع3. العقلاء يستدلون بصفات الرب على ما يفعله وما زال العقلاء يستدلّون بما علموه من صفات الرب على ما يفعله؛ [كقول] 4 خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم لما قال لها: "لقد خشيت على نفسي"، فقالت: "كلاّ، والله لا يخزيك الله أبداً، إنّك لتصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتُقري الضيف، وتصدق الحديث، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق"5. فاستدلّت بما فيه من مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال على أنّ الله لا يخزيه. ومنه: قوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} 6؛ فإنّ الشيطان إنما ينزل على ما يناسبه، ويطلبه، وهو يريد

_ 1 وهم الأشاعرة. 2 وهم المعتزلة. 3 قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "والجهمي الجبري لا يثبت عدلاً ولا حكمة، ولا توحيد إلهيته، بل توحيد ربوبيته. والمعتزلي لا يثبت توحيد إلهيته، ولا عدلاً، ولا عزة، ولا حكمة، وإن قال إنه يثبت حكمة ما معناها يعود إلى غيره. فتلك لا تكون حكمة. فمن فعل لا لأمر يرجع إليه، بل لغيره، فهذا عند العقلاء قاطبة ليس بحكيم..". مجموع الفتاوى 8211. وانظر: المصدر نفسه 835-57، 89-93، 377-378، 1799-100. 4 في ((ط)) : كقوله. 5 سبق تخريجه ص 233. وانظر تعليق المؤلف رحمه الله على هذا الحديث في: شرح الأصفهانية 2479-486. والجواب الصحيح 6511-512. وكتاب الصفدية 1225. 6 سورة الشعراء، الآيتان 221-222.

الكذب والإثم، فينزل على من يكون كذلك. وبسط هذا له موضع آخر1. الكلام في النبوة فرع على إثبات الحكمة والكلام في النبوة فرعٌ على إثبات الحكمة التي يوجب فعل ما تقتضيه الحكمة، ويمتنع فعل ما [تنفيه2] 3، [فتقول] 4: هو سبحانه وتعالى حكيمٌ، يضع كلّ شيءٍ في موضعه المناسب له، فلا يجوز عليه أن يُسوّي بين جنس [الصادق] 5 والكاذب، والعادل والظالم، والعالم والجاهل، والمصلح والمفسد، بل يُفرّق بين هذه الأنواع بما يناسب الصادق العادل العالم المصلح من الكرامة، وما يناسب الكاذب الظالم الجاهل المفسد من الهوان؛ كما قال تعالى: {أَمْ نَجْعَل الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالمُفْسِدِينَ في الأَرْضِ أَمْ نَجْعَل المُتَّقِينَ كَالفُجَّارِ} 6، وقال: {أَفَنَجْعَل المُسْلِمِينَ كَالمُجْرِمِينَ} 7، وهذا استفهام انكار على من ظن ذلك، وهو يتضمّن تقرير المخاطبين، واعترافهم بأنّ هذا لا يجوز عليه، وأن ذلك بيِّنٌ معروف، يجب اعترافهم به، وإقرارهم به، كما يقال لمن ادّعى أمراً ممتنعاً؛ مثل نعم كثيرة

_ 1 انظر: الجواب الصحيح 6297-302. وشرح الأصفهانية 2474-477. وانظر ما سبق في هذا الكتاب، ص 190-192. 2 قال شيخ الإسلام رحمه الله وهو يناقش من ينفي حكمة الله، ويُجوّز عليه فعل كلّ شيء: "فإما أن يجوز عليه فعل كل شيء، وإما أن يكون متنزهاً عن بعض الأفعال. فإن قيل: إنه يجوز أن يصدر منه فعل القبيح، لم يؤمن منه تصديق المتنبئين الكذابين بالمعجزات، ولم يؤمن أيضاً الخبر المخالف لمخبره، فإن الكذب وتصديق الكاذب قبيح، وتجويز ذلك يُبطل النبوات وأخبار المعاد، وهذان تبطل بهما الملل". بيان تلبيس الجهمية 1162. 3 في ((خ)) : ينفيه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 في ((خ)) : يقول. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 في ((ط)) : الصدق. 6 سورة ص، الآية 28. 7 سورة القلم، الآية 35.

في موضع صغير، فيُقال له: أههنا كانت هذه النعم؛ أي هذا ممتنع [فاعترف] 1 بالحق. وإذا ادّعى على من هو معروف بالصدق والأمانة أنّه نقب داره، وأخذ ماله، قيل له: أهذا فعل هذا؟! . ومنه: قوله: {يَا عِيْسَى بنَ مريم أَأَنْتَ قُلتَ للنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ} 2، وقوله تعالى: {وَيَومَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعَاً ثُمَّ يَقُولُ للمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} 3. ونظائره كثيرة. ظن السوء بالله تعالى وكذلك قوله: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلهم كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا [الصالحاتِ] 4 سَوَاء مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} 5؛ فإنّ هذا استفهام إنكار على من حسب أنه يسوي بين هؤلاء وهؤلاء؛ فبَيَّن أنّ هذا الحساب باطل، وأنَّ التسوية ممتنعة في حقّه، لا يجوز أن يظنّ به، بل من ظنّ ذلك، فقد ظنّ بربّه ظنّ السوء، وذلك ظنّ أهل الجاهلية الذين يظنون بالله ظنّ السوء، فمن جوّز ذلك على الله، فقد ظنّ بربه ظنّ السوء. وقوله تعالى فيما جرى يوم أحد: {وَطَائِفَة قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونُ بِاللهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّة} 6؛ فسَّره ابن عباس وغيره: بأنّهم ظنّوا أن الله لم يقدر ما جرى، وأنّه لا ينصر رسوله7.

_ 1 في ((ط)) " فاعتبرف. 2 سورة المائدة، الآية 119. 3 سورة سبأ، الآية 40. 4 في ((م)) ، و ((ط)) : السيئات. 5 سورة الجاثية، الآية 20. 6 سورة آل عمران، الآية 154. 7 انظر: تفسير الطبري 4141-143. وتفسير ابن كثير 1418. وفتح القدير للشوكاني 1391-392. وتفسير السعدي 1439-440.

فكما أنّ القدر يجب الإيمان به، ويُعلم أن كلّ ما كان، قد سبق به علم الرب، فكذلك يُعلم أنّه لا بُدّ أن ينصر رسله والذين آمنوا. وكما أنه لا يجوز أن يقع خلاف المقدّر، فلا يجوز أن لا ينصر رسله والذين آمنوا. ومثله: قوله [تعالى] 1 فيما أنزله عام الحديبية، لمّا ظنّ ظانون أن الرسول وأتباعه لا يُنصرون، فقال تعالى: {وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ وَالمُنَافِقَاتِ وَالمُشْرِكينَ وَالمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَت مَصِيراً} 2. وهذا يدلّ على أن هذا ظن سوء بالله، لا يجوز أن يظن به أنّه يفعل ذلك. ومن ينفي الحكمة3 يقول: يجوز عليه فعل كل شيء، وليس عنده ظنّ سوء بالله. جوابان لمن يظن بالله ظن السوء وإن قيل: لمّا أخبر أنه ينصره، كان ضدّ ذلك ظن سوء؛ لأنّ خبره لا يقع بخلاف مخبره؟ قيل: عن هذا جوابان: [أحدهما] 4: أنّ هؤلاء5 يلزمهم تجويز إخلاف الوعد عليه؛ لأنّ هذا من باب الأفعال المقدورة، وهم يجوّزون كلّ مقدور، وإذا قيل: إخلاف الوعد قبيح، فهم ليس عندهم شيء قبيحٌ يُنزّهون الرب عنه.

_ 1 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 2 سورة الفتح، الآية 6. 3 المقصود بهم الأشاعرة. وانظر: بيان تلبيس الجهمية 1162. وشرح الأصفهانية 2616-624. وانظر أيضاً: الإرشاد للجويني ص 319، 322. والمواقف للإيجي ص 323، 328، 330، 331. 4 في ((خ)) : إحداهما. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 وهم من ينفي الحكمة؛ من الأشاعرة، والجبرية، والفلاسفة.

الثاني: أنه إذا علم أنّه يفعله ولو بالعلم الضروري، فإنّما ذلك لأنه واقع. ولو قُدِّر أنّ رجلاً ظنّ أنّ الله لا يفعل ما سيفعله ممّا ليس فيه ذم؛ مثل أن يظنّ أنّه يموت بعد شهر، لم يقل إنّ هذا ظنّ سوء، وإنّما يكون ظنّ سوء، إذا كان المظنون عيباً قبيحاً، لا يجوز أن يضاف إلى المظنون به، ومنه قوله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَت الأَبْصَارُ وَبَلَغَت القُلُوبُ الحَنَاجِر وَ [تَظُنُّونَ] 1 بِاللهِ [الظُّنُونَا] 2} 3؛ فهذا ذمّ لمن ظنّ بالله [الظنونا] 4 ومن ذلك: قوله تعالى: {أَفَنَجْعَل المُسْلِمِينَ كَالمُجْرِمِينَ مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} 5 , وهذا يقتضي أن هذا ممتنع عليه. ومن حكم بجوازه، فقد حكم حكماً باطلاً جائراً ممتنعاً، كالَّذين جوّزوا أن تكون له بنات، وهم يكرهون أن تكون لهم بنات، فيجوز على الله ما هو قبيح عندهم؛ قال تعالى: {وَيَجْعَلُونَ [للهِ] 6 البَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدَّاً وَهُوَ كَظِيم يَتَوَارَى مِنَ القَومِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ في التُّرَابِ أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} 7. وممّا يُبيِّن حكمته، أن تقول: أفعاله المحكمة المتقنة دلّت على علمه.

_ 1 في ((م)) ، و ((ط)) : يظنون. 2 في ((م)) ، و ((ط)) رسمت: الظنون. 3 سورة الأحزاب، الآية 10. 4 في ((ط)) : الظنون. 5 سورة القلم، الآية 35-36. 6 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) . 7 سورة النحل، الآيات 57-59.

وهذا مما وقع الاتفاق عليه من هؤلاء؛ فإنّهم يُسلّمون أنّ الإحكام والإتقان يدلّ على علم الفاعل. وهذا أمرٌ ضروريٌ عندهم، وعند غيرهم، وهو من أعظم الأدلة العقلية التي يجب ثبوت مدلولها. معنى الإحكام والإتقان والإحكام والإتقان إنّما هو أن يضع كلّ شيء في محلّه المناسب، لتحصل به الحكمة المقصودة منه؛ مثل الذي يُخيط قميصاً، فيجعل الطوق على قدر العنق، والكُمَّين على قدر اليدين؛ وكذلك الذي يبني الدار، يجعل الحيطان متماثلة ليعتدل السقف؛ والذي يصنع الابريق يُوسِّع ما يدخل منه الماء، ويُضيِّق ما يخرج منه. وحكمة الرب في جميع المخلوقات باهرة، قد بهرت العقلاء، واعترف بها جميع الطوائف. الفلاسفة يثبتون العناية والحكمة الغائية والفلاسفة من أعظم الناس إثباتاً لها، وهم يُثبتون العناية، والحكمة الغائيّة، وإن كان فيهم من قَصَّر في أمر الإرادة والعلم1.

_ 1 قال شيخ الإسلام رحمه الله عن الفلاسفة: "إنهم معترفون بما هو مشهود معلوم من ظهور الحكمة التي في العالم التي يسمونها (العناية) . والفلاسفة من أعلم الناس بهذا، وأكثر الناس كلاماً فيما يوجد في المخلوقات من المنافع والمقاصد والحكم الموافقة للإنسان وغيره، وما يوجد من هذه الحكمة في بدن الإنسان وغيره، سواء كانوا ناظرين في العلم الطبيعي وفروعه، أو علم الهيئة ونحوه من الرياضي، أو العلم الإلهي، وأجل القوم الإلهيون. وقد تقدم ما ذكر في اعترافهم بأن هذه الموافقة ضرورة من قبل فاعل قاصد لذلك مريد. ولا ريب أن الاعتراف بهذا ضروري؛ كالاعتراف بأن المحدَث لا بُدّ له من محدِث، والممكن لا بُدّ له من مرجّح. فكما أن هناك مقدمتين؛ إحداهما: أن هنا حوادث مشهودة، والحادث لا بد له من محدث. والأولى حسية، والثانية عقلية بديهية ضرورية. وكذلك أن هاهنا ممكنات، والممكن لا بُدّ له من مرجّح واجب، فكذلك هاهنا مقدّمتان؛ إحداهما: أن هنا حكماً أو منافع مطلوبة. والثانية: أنه لا بد لذلك من فاعل قاصد مريد. وهما مقدّمتان ضروريتان؛ الأولى حسية، والثانية عقلية؛ فإنّ الإحساس بالانتفاع كالإحساس بالحدوث، وإن كان في تفاصيل ذلك ما يعلم بالقياس أو الخبر. ثم هذه الحكم قد يعلم حدوثها، وقد يعلم إمكانها، كالأسباب". بيان تلبيس الجهمية 1203-204. وقال شيخ الإسلام رحمه الله أيضاً عن الفلاسفة أنهم: "من أكثر الناس نظراً في حكم الموجودات، وقد اعترفوا بما تقدّم من أن هذه الموافقة تعلم ضرورة أنها من قبل فاعل قاصد لذلك مريد، إذ ليس المراد أن تكون هذه الموافقة بالاتفاق، فعلم أن نفيهم بعد ذلك كونه فاعلاً مختاراً، تناقضٌ منهم". بيان تلبيس الجهمية 1182 وانظر: درء تعارض العقل والنقل 9111.

المتكلمون يثبتون الحكمة في مخلوقات الله وكذلك المتكلمون1: كُلُّهم متّفقون على إثبات الحكمة في مخلوقاته، وإن كانوا في الإرادة، وفعله لغاية، متنازعين؛ وذلك مثلما في خلق الإنسان. وأدنى ذلك أنّ العين، والفم، والأذن فيها مياه ورطوبة؛ فماء العين مالح، وماء الفم عذب، وماء الأذن مُرّ. فإنّ العين شحمة، والملوحة تحفظها أن تذوب. وهذه أيضاً حكمة تمليح ماء البحر؛ فإن له سبباً وحكمةً؛ فسببه سبوخة أرضه وملوحتها؛ فهي توجب ملوحة مائه؛ وحكمتها أنّها تمنع نتن الماء بما يموت فيه من الحيتان العظيمة؛ فإنّه لولا ملوحة مائه لأنتن، ولو أنتن لفسد الهواء لملاقاته له، فهلك الناس بفساده، وإذا وقع أحياناً، قتل خلق كثير فإنّه يُفسد الهواء حتى يموت بسبب ذلك خلق كثير. وماء الأذن مُرّ؛ ليمنع دخول الهوام إلى الأذن. وماء الفم عذب؛ ليطيب به ما يأكله.

_ 1 أهل الجدل والمناظرة، والمقصود بهم: الأشاعرة، والمعتزلة، والجهمية.

فلو جعل الله ماء الفم مراً، لفسد الطعام على أكلته، ولو جعل ماء الأذن عذباً، لدخل الذباب في الدماغ. ونظائر هذا كثيرة، فلا يجوز أن يفعل بخلاف [ذلك] 1؛ مثل أن يجعل العينين في القدمين، ويجعل الوجه خشناً غليظاً، كالقدمين؛ فإنّه كان يُفسد مصلحة النظر والمشي. بل من الحكمة أنه جعل العينين في أعلى البدن، في [مقدّمه] 2 ليرى بها ما أمامه، فيدري أين يمشي. وجعل الرجل خشنة تصبر على ما تلاقيه من التراب وغيره. والعين لطيفة يفسدها أدنى شيء، فجعل لها أجفاناً تغطيها، و [أهداباً] 3. إثبات صفة العلم والإرادة والحكمة بالعقل [فتقول] 4: هذا ومثله من مخلوقات الربّ، دلّ على أنه قد أحكم ما خلقه، وأتقنه، ووضع كل شيء بالموضع المناسب له5، وهذا يوجب العلم الضروري أنه عالم؛ فيميز بين هذا وبين هذا، حتى خص هذا بهذا، وهذا بهذا. وهو أيضاً يُوجب [العلم] 6 الضروري بأنّه أراد تخصيص هذا بهذا، وهذا بهذا؛ فدلّ على علمه وإرادته. وهذا ممّا يُسلمونه، فتقول: [ودلّ] 7 أيضاً على أنّه جعل هذا لهذا؛ فجعل ماء العين والبحر ملحاً للحكمة المذكورة، وجعل العين في أعلى البدن، وجعل لها أجفاناً للحكمة المذكورة.

_ 1 مابين المعقوفتين ساقط من ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 2 في ((ط)) : مقدمة. 3 في ((خ)) رسمت: أهذاباً. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 في ((خ)) : فيقول. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 سبق أن ذكر الشيخ رحمه الله هذه الحكم. انظر ص 572-573 من هذا الكتاب. 6 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 7 في ((ط)) : ودم.

وكذلك إذا أنزل المطر، وقت الحاجة إليه، عُلِم أنه أنزله ليحيي به الأرض. وكذلك إذا دعاه الناس مضطرين، فأنزل المطر، عُلِم أنه أنزل ليُحيي الأرض لإجابة دعائهم، فلا يتصوّر أن يعلم أنّه أراد هذا لهذا1، ولا يُتصوّر الإحكام والإتقان، إلا إذا فعل هذا للحكمة المطلوبة. فكان ما عُلم من إحكامه وإتقانه، دليلاً على علمه، وعلى حكمته أيضاً، وأنه يفعل لحكمة. تناقض الفلاسفة الذين يثبتون الأحكام والذين استدلّوا بالإحكام على علمه، ولم يثبتوا الحكمة2، وأنه يفعل هذا لهذا، متناقضون عند عامّة العقلاء. وحذّاقُهم معترفون بتناقضهم؛ فإنّه لا معنى للإحكام إلا الفعل لحكمة مقصودة، فإذا انتفت الحكمة، ولم يكن فعله لحكمة، انتفى الإحكام. وإذا انتفى الإحكام، انتفى دليل العلم. وإذا كان الإحكام معلوماً بالضرورة، [ودلالته على العلم معلومة بالضرورة] 3، عُلم أن حكمته ثابتة بالضرورة، وهو المطلوب. مقتضيات صفة العلم لله وأيضاً فإذا ثبت أنه عالم، فنفس العلم يوجب أنه لا يفعل قبيحاً، ولا يجوز أن يفعل القبيح، إلاّ من هو جاهل، كما قد بسط في غير هذا

_ 1 قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [سورة الشورى، الآية 28] ، وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [سورة الروم، الآيات 48-50] . 2 المقصود بهم الفلاسفة الذين يُثبتون العناية والإحكام (الحكمة الغائية) . انظر: درء تعارض العقل والنقل 9111. وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 1026. 3 ما بين المعقوفتين مكرّر في ((خ)) .

الموضع1، [و] 2 بُيِّن أنّ العالم يعلم ما الذي يصلح أن يفعل، وأنّ فِعلَ هذا، أولى من فعل هذا. وإذا كان مريداً للفعل، وقد علم أن الفعل على هذا الوجه هو الأصلح، امتنع أن يريد الوجه الآخر. والإنسان لا يريد القبيح إلا [لنقص] 3 علمه. أمّا أن يفعل بلا علم، بل لمجرد الشهوة، أو يظنّ خطأ؛ فيظن أن هذا الفعل يصلح، وهو لا يصلح، فإنّما يقع القبيح في فعله لفعله مع الجهل البسيط أو المركب4. والربّ منزه عن هذا وهذا، فيمتنع أن يفعل القبيح. إثبات الإرادة يستلزم إثبات الحكمة وأيضاً فإنه قد ثبت أنه مريد، وأنّ الإرادة تخصص المراد عن غيره، وهذا إنّما يكون إذا كان التخصيص لرجحان المراد؛ إمّا لكونه أحب إلى المريد وأفضل عنده. فأما إذا ساوى غيره من كل وجه امتنع ترجيح الإرادة له، فكان إثبات الإرادة مستلزماً إثبات الحكمة5، [وإلا] 6 لم تكن الإرادة. فقد تبين ثبوت حكمته من جهة علمه، ومن جهة نفس أفعاله المتقنة المحكمة، التي تدل على علمه بالاتفاق. وهذه أصول عظيمة من تصوّرها تصوراً جيداً، انكشف له حقائق هذا الموضع الشريف7.

_ 1 انظر: مجموع الفتاوى 16130-133. وبيان تلبيس الجهمية 1178-184، 203-204. ودرء تعارض العقل والنقل 363،، 9111. 2 ما بين المعقوفتين ساقط من ((ط)) . 3 في ((خ)) : لفعل. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 سبق التعريف بهما. انظر ص 763 من هذا الكتاب. 5 انظر ما سبق في هذا الكتاب، ص 506-507. 6 في ((خ)) رسمت: والم. 7 وهو إثبات حكمة الله سبحانه وتعالى التي نفاها المتكلمون والفلاسفة، وخاضوا في أفعال الله وأحكامه وصفاته بالباطل.

حكمة الله من لوازم ذاته وإذا ثبت أنه حكيم، وأن حكمته لازمة لعلمه، ولازمة لإرادته، وهما لازمان لذاته، كانت حكمته من لوازم ذاته؛ فيمتنع أن يفعل إلا لحكمة وبحكمة، ويمتنع أن يفعل على خلاف الحكمة. ومعلومٌ بصريح العقل أن العلم خير من الجهل، والصدق خير من الكذب، والعدل خير من الظلم، والإصلاح خير من [الإفساد] 1. ولهذا وجب [اتصافه تعالى بالرحمة، والعلم، والصدق] 2، والعدل، والإصلاح، دون نقيض ذلك. وهذا ثابت في خلقه وأمره؛ فكما أنه في خلقه عادلٌ حكيمٌ رحيمٌ، فكذلك هو في أمره وما شرعه من الدين، فإنه لا يكون إلا عدلاً، وحكمةً، ورحمةً، ليس هو كما تقول الجهمية المجبرة، ومن اتبعهم من أهل الكلام والرأي: إنّه يأمر العباد بما لا مصلحة لهم فيه إذا فعلوه، وإن ما أمر به لا يجب أن يفعل على حكمة، وينكرون تعليل الأحكام، أو يقولون إن علل الشرع أمارات محضة3. فهذا كله باطلٌ، كما قد بسط في مواضع4. البراهين اليقينية على أن الله لا يفعل خلاف الحكمة والعدل ولا يسوي بين الصادق والكاذب بل ما يأمر به مصلحة لا مفسدة، وحسن لا قبيح، وخير لا فساد، وحكمة وعدل ورحمة، والحمد لله رب العالمين؛ فإذا قُدّر رجلان ادعيا على الرب الرسالة، أو توليا على الناس، أو كانا من عرض الناس؛ أحدهما

_ 1 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) . 2 في ((خ)) : وجب اتصاف الرحمة بالعلم والصدق. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 انظر: الإنصاف للباقلاني ص 74-75. والمواقف للإيجي ص 314-315، 323. وشرح جوهرة التوحيد للبيجوري ص 108. 4 انظر: شرح الأصفهانية 2618. ومجموع الفتاوى 8433-434، 466-468 ومنهاج السنة 388-90، 177. وانظر ما سبق في هذا الكتاب، ص 408-409.

عالم صادق عادل مصلح، والآخر جاهل ظالم كاذب مفسد، ثم قُدِّر أنّ ذلك العالم العادل عوقب في الدنيا والآخرة، فأُذلّ في الدنيا، وقُهر، وأُهلك، وجُعل في الآخرة في جهنم، وذلك الظالم الكاذب الجاهل، أُكرم في الدنيا والآخرة، [و] 1 جُعل في الدرجات العلى، كان معلوماً بالاضطرار أنّ هذا نقيض الحكمة والعدل، وهو أعظم سفهاً وظلماً من تعذيب ماء البحر وماء العين2؛ فإن هذا غايته موت شخص أو النوع، وهذا أقل فساداً من إهلاك خيار الخلق وتعذيبهم، وإكرام شرار الخلق وإهانتهم. الأشاعرة يجوزون على الله عقلاً أن يسوي بين الصادق والكاذب.. وأن يعذب المؤمنين ولكن بالسمع لا بالعقل وإذا كان هذا أعظم مناقضة للحكمة والعدل من غيره، وتبيَّن بالبراهين اليقينية أن الربّ لا يجوز عليه خلاف الحكمة والعدل، عُلم بالاضطرار أن الرب سبحانه لا يسوي بين هؤلاء وهؤلاء، فضلاً عن أن يفضّل الأشرار على الأخيار، وهو سبحانه أنكر التسوية؛ فقال: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلهم كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالحاتِ سَوَاء مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ [مَا يَحْكُمُونَ] 3} 4، وقال تعالى: {أَفَنَجْعَل المُسْلِمِينَ كَالمُجْرِمِينَ مَالَكُمْ كَيْفَ [تَحْكُمُونَ] 5} 6. وقد جعل7 من جوّز أن الله لا ينصر رسوله والمؤمنين في الدنيا والآخرة، ويعذبهم في الآخرة في جهنم، وأن الفراعنة8 يكرمهم في الدنيا

_ 1 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 2 أي يصير ماء البحر وماء العين عذبا صالحا للشرب. 3 في ((خ)) : ما كانوا يعملون. 4 سورة الجاثية، الآية 21. 5 في ((ط)) : يحكمون. 6 سورة القلم، الآية 35-36. 7 أي الجبري. 8 فرعون: اسم أعجمي. وقد استخدم في اللغة العربية، فقيل: تفرعن فلان: إذا تعاطى فعل فِرعون؛ كما يُقال: أبلس إبليس. ومنه قيل للطغاة: الفراعنة والأبالسة. انظر: المفردات للراغب الأصفهاني ص 362. والمصباح المنير ص 470.

والآخرة، والمنازع عنده لا فرق بين هذا وهذا بالنسبة إلى الرب وإلى إرادته وحكمته وعلمه، بل إنما عُلم وقوع أحدهما بمجرد الخبر1، لا لامتناع أحدهما، ووجوب الآخر.

_ 1 بمعنى أن الأشعري يقول: علمت أن الله لا يُعذّب المؤمنين وينعم الكافرين بمجرد خبر النبي الصادق؛ وهي الدلالة السمعية المجردة. أما عقلاً: فيجوز أن يفعل الله كلّ مقدور، فيعذب هؤلاء وينعم هؤلاء، ويُسوي بين الصادق والكاذب، لكن بالدلالة الخبرية السمعية علمت أنه لا يفعل. انظر: اللمع للأشعري ص 71. والتمهيد للباقلاني ص 385. وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 566-568. ولشيخ الإسلام رحمه الله كلام حول هذا الموضوع، يقول فيه: "وأما مثبتة الصفات كابن كلاب والأشعري وغيرهما ممن يثبت الصفات ولا يثبت إلا واحداً معيّناً؛ فلا يُثبت إلا إرادة واحدة تتعلق بكل حادث، وسمعاً واحداً معيناً متعلقاً بكل مسموع، وبصراً واحداً معيناً متعلقاً بكلّ مرئي، وكلاماً واحداً بالعين يجمع جميع أنواع الكلام، كما قد عُرف من مذهب هؤلاء. فهؤلاء يقولون: جميع الحادثات صادرة عن تلك الإرادة الواحدة العين المفردة التي ترجح أحد المتماثلين لا بمرجح، وهي المحبة والرضا وغير ذلك. وهؤلاء إذا شهدوا هذا لم يبق عندهم فرق بين جميع الحوادث في الحسن والقبح إلا من حيث موافقتها للإنسان، ومخالفة بعضها له. فما وافق مراده ومحبوبه كان حسناً عنده، وما خالف ذلك كان قبيحاً عنده، فلا يكون في نفس الأمر حسنة يحبها الله، ولا سيئة يكرهها، إلا بمعنى أن الحسنة هي ما قرن بها لذة صاحبها، والسيئة ما قرن بها ألم صاحبها، من غير فرق يعود إليه، ولا إلى الأفعال أصلاً. ولهذا كان هؤلاء لا يثبتون حسناً ولا قبيحاً، لا بمعنى الملائم للطبع والمنافي له. والحسن والقبح الشرعي هو ما دلّ صاحبه على أنه قد يحصل لمن فعله لذة، أو حصول ألم له. ولهذا يجوز عندهم أن يأمر الله بكل شيء، حتى الكفر والفسوق والعصيان، وينهى عن كلّ شيء، حتى الإيمان والتوحيد. ويجوز نسخ كل ما أمر به بكل ما نهى عنه. ولم يبق عندهم في الوجود خير ولا شر، ولا حسن ولا قبيح إلا بهذا الاعتبار، فما في الوجود ضر ولا نفع. والنفع والضر أمران إضافيان، فربما نفع هذا ما ضرّ هذا". مجموع الفتاوى 8342-344. وانظر: المصدر نفسه 8337-355.

والخبر إنما هو خبر الأنبياء، وذلك موقوف على العلم بصدقهم، وهو يستلزم صدقهم. وعلى أصله1 يمتنع العلم بصدقهم؛ فإنه يجوّز أن يسوي الله بين الصادق والكاذب على أصله؛ إذ كان يجوز عليه عنده كل مقدور. وعنده لا يجوز أن يفعل فعلاً لحكمة، فلا يجوز على أصله أن يخلق الله آية ليدل بها على صدقهم2. وإذا قال3: تجويز ذلك يقتضي أنه لا يقدر على خلق ما به يبين صدق الصادق، فلذلك منعت من ذلك لأنه يفضي إلى تعجيزه. قيل له: إنّما يفضي إلى عجزه إذا كان خلق دليل الصدق ممكناً. وعلى أصلك لا يمكن إقامة الدليل على [إمكانه] 4؛ فإنّ الدليل يستلزم المدلول، ويمتنع ثبوته مع عدمه، وأيّ شيء قدّرتَه، جاز أن يخلقه على أصلك على يد الكاذب، وأنت لا تنزهه عن فعل ممكن5.

_ 1 انظر: منهاج السنة النبوية 386-91. 2 الأشاعرة ينفون أن يفعل الله شيئاً لأجل شيء، لأنهم ينفون حكمة الله سبحانه وتعالى. وانظر ما سبق في هذا الكتاب، ص 653-654. وانظر: الإرشاد للجويني ص 326. والمواقف للإيجي ص 231. 3 انظر: الإرشاد للجويني ص 326-327. والمواقف للإيجي ص 242. وانظر اعتراض المعتزلة على الأشاعرة في شرح الأصول الخمسة لعبد الجبار ص 564-571. وقد رد عليهم شيخ الإسلام رحمه الله فيما مضى. وانظر له: الجواب الصحيح 6393 - 401. وشرح الأصفهانية 2616- 624. 4 في ((ط)) : إمكان. 5 انظر ما سبق ص 245-248 من هذا الكتاب.

وإذا قلتَ: أُنزّهه عن فعل ممكن يستلزم عجزه، كان هذا تناقضاً؛ فإن فعل الممكن لا يستلزم العجز، بل امتناع الممكن يستلزم العجز. وبيان ذلك أن يقال: ما خلقه على يد الصادق هو قادرٌ على أن يخلقه على يد الكاذب أم لا؟ . فإن قلتَ: ليس بقادر، فقد أثبتَّ عجزه. وإن قلتَ: هو قادر على ذلك، فالمقدور عندك لا يُنزه عن شيء منه. وإن قلتَ: هذا المقدور أنزّهه عنه، لئلاّ يلزم عجزه، كان حقيقة قولك: أُثبت عجزه [لئلاّ أنفي] 1 عجزه؛ فجعلته عاجزاً لئلا [تجعله] 2 عاجزاً، فجمعتَ بين النقيضين؛ بين إثبات العجز ونفيه. وإنما لزمه هذا؛ لأنه لا ينزه الرب عن فعل مقدور، فاستوت المقدورات كلها في الجواز عليه عنده، ولم يحكم بثبوت مقدور إلا بالعادة، أو الخبر3. والعادة يجوز انتقاضها عنده4، والخبر موقوف على العلم بصدق المخبر، ولا طريق له إلى ذلك. فتبيَّن أنّ كلّ من لم يُنزّه الرب عن السوء والسفه، ويصفه بالحكمة والعدل، لم يمكنه أن يعلم نبوة نبيّ، ولا المعاد، ولا صدق الرب في شيء من الأخبار.

_ 1 في ((م)) ، و ((ط)) : لأنفي. 2 في ((خ)) : يجعله. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 قد تقدمت هذه المناظرة بين شيخ الإسلام رحمه الله والأشاعرة في ص 588 من هذا الكتاب. 4 الأشاعرة يُجوّزون أن يأتي الساحر والكاهن بمثل آيات الأنبياء، إلا أنه لا يدّعي النبوة، فيجوزون خرق العادات لغير الأنبياء. انظر: البيان للباقلاني ص 94-95. وانظر ما سبق في هذا الكتاب، ص 259-267، 581، 586، 990، 1030-1033، 1066.

الطريقة الأولى عند الأشاعرة في دلالة المعجزة فهذه طريقة من يجعل وجه دلالة المعجز على صدق الأنبياء، لئلا يلزم العجز1. الطريقة الثانية وأما الطريق الثانية، وهي أجود، وهي التي اختارها [أبو] 2 المعالي3 وأمثاله. فهو أن دلالة المعجز على التصديق معلوم بالاضطرار. وهذه طريقة صحيحة لمن اعتقد أنّه يفعل لحكمة. وأما إذا قيل: إنه لا يفعل لحكمة، انتفى العلم الاضطراري. والأمثلة التي يذكرونها كالملك الذي [جعل] 4 آية لرسوله أمراً خارجاً عن عادته، إنّما دلت للعلم بأنّ الملك يفعل شيئاً لشيءٍ، فإذا نفوا هذا بطلت الدلالة5. دليل القدرة في إثبات النبوة وكذلك دليل القدرة6: هو دليل صحيح، لكن مع إثبات الحكمة؛ فإنّه سبحانه [وتعالى] 7 قادر على أن يميز بين الصادق والكاذب؛ إذ كان

_ 1 وهي الطريقة الأولى عند الأشاعرة؛ طريقة أبي الحسن الأشعري في دلالة المعجزة. انظر ما سبق، ص 580-581. 2 في ((ط)) : أو. 3 انظر: الإرشاد للجويني ص 313، 325-330، 585، 642. 4 في ((خ)) : جعله. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 انظر نقد شيخ الإسلام رحمه الله لهذه الطريقة - الثانية - عند الأشاعرة، ومخالفتها لأصولهم، في: الجواب الصحيح 6397-399. وشرح الأصفهانية 2623-624. وانظر ما سبق في هذا الكتاب، ص 278-280، 581-583، 592، 821-822، 1064-1065. 6 انظر كلام شيخ الإسلام رحمه الله عن دليل الضرورة والقدرة في إثبات النبوة، في درء تعارض العقل والنقل 94-045، 52-53. 7 في ((خ)) رسمت: جعل. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

قادراً على أن يهدي عباده إلى ما هو أدقّ من هذا، فهداهم إلى أسهل1. [لكن] 2 هذا3 يستلزم إثبات حكمته ورحمته، فمن لم يثبت له حكمة ورحمة، امتنع عليه العلم بشيء من أفعاله الغائبة. صفة الكلام لله والكلام النفسي عند الأشاعرة وأيضاً: فآيات الأنبياء تصديق بالفعل، فهي تدلّ إذا عُلم أنّ من صدّقه الرب فهو صادق، وذلك يتضمن تنزيهه عن الكذب. وعلى أصلهم لا يعلم ذلك، فإنّ ما يخلقه من الحروف والأصوات عندهم هو مخلوق من المخلوقات، فيجوز أن يتكلم كلاماً يدلّ على شيء، وقد أراد به شيئاً آخر؛ فإنّ هذا من باب المفعولات عندهم. والكلام النفسي4 لا سبيل لأحدٍ إلى العلم به. فعلى أصلهم: يجوز

_ 1 أي: إلى أسهل الطرق وأوضحها في ثبوت النبوة؛ لأنه كلما كان الناس إلى الشيء أحوج، فإن الله ييسره لهم منة منه وفضلاً. 2 في ((ط)) : فكن. 3 إشارة إلى دليل القدرة. 4 الكلام من صفات الله الثابتة على ما يليق بجلاله سبحانه، وهو صفة ذاتية باعتبار نوع الكلام، وصفة فعل لتعلقه بمشيئة الله باعتبار أفراد الكلام. وقد ذهبت الكلابية والأشعرية إلى أنّ الله متكلم بكلام قائم بذاته أزلاً وأبداً، لا يتعلق بمشيئته وقدرته، إن عُبّر عنه بالعربية كان قرآناً، وإن عُبّر عنه بالعبرانية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلاً. ونفوا أن يكون الله متكلماً بحرف وصوت زاعمين أن كلامه سبحانه نفسي. أما القرآن الكريم: فقد صرّحوا بأنه مخلوق محدث ليس كلام الله، بل هو عبارة عن كلام الله. وانظر مذهب الأشاعرة والكلابية في كلام لله والقرآن في: الإرشاد للجويني ص 99. وأصول الدين للبغدادي ص 106-108. والمواقف للإيجي ص 293، 294. والبرهان للسكسكي ص 37. وتحفة المريد شرح جوهرة التوحيد للباجوري ص 94. وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "والصواب الذي عليه سلف الأمة كالإمام أحمد، والبخاري صاحب الصحيح في كتاب خلق أفعال العباد، وغيره، وسائر الأئمة قبلهم وبعدهم: اتباع النصوص الثابتة، وإجماع سلف الأمة؛ وهو أن القرآن جميعه كلام الله حروفه ومعانيه، ليس شيء من ذلك كلاماً لغيره، ولكن أنزله على رسوله". مجموع الفتاوى 12243-244. وانظر: المصدر نفسه 1269-70، 162-174، 17165-166. وشرح الأصفهانية2340-342. ودرء تعارض العقل والنقل 1268. ومختصر الصواعق 2512-513. وشرح الطحاوية ص 180.

الكذب في الكلام المخلوق العربي، وهو الذي يستدلّ به الناس، فلا يبقى طريق إلى العلم بأنّه صادق فيما يخلقه من الكلام. أصول الأشاعرة السمعية ولهذا تجد حذّاقهم في السمعيات1 إنّما يفرّون إلى ما عُلم بالاضطرار من قصد الرسول، لا إلى الاستدلال بالقرآن؛ فالقاضي أبو بكر عمدته أن يقول هذا ممّا وَقَفَنَا عليه الرسول، وعلمنا قصده بالاضطرار؛ كما يقول مثل ذلك في تخليد أهل النار2، وفيما علمه من الأحكام؛ إذ كانوا لا يعتمدون

_ 1 الأدلة السمعية المقصود بها: القرآن، والسنة، والإجماع. وما يثبتونه بهذه الأدلة هو من السمعيات. قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن الأشاعرة: (وهم يعتمدون في السمعيات على ما يظنونه من الإجماع، وليس لهم معرفة بالكتاب والسنة، بل يعتمدون على القياس العقلي الذي هو أصل كلامهم وعلى الإجماع) . انظر ما سبق في هذا الكتاب، ص 709. وقال أيضاً عنهم: ".. إن مسائل ما بعد الموت ونحو ذلك: الأشعري وأتباعه ومن وافقهم من أهل المذاهب الأربعة.. يسمونها السمعيات، بخلاف باب الصفات والقدر، وذلك بناء على أصلين، أحدهما: أن هذه لا تعلم إلا بالسمع، والثاني: أن ما قبلها يعلم بالعقل". شرح الأصفهانية 2631 وانظر: درء تعارض العقل والنقل 895-97. وما سبق في هذا الكتاب ص 574-578. 2 أورد ذلك الباقلاني بأسلوب المحاورة، فقال: "فإن قال قائل: فهل يصحّ على قولكم هذا أن يؤلم الله سبحانه سائر النبيين، وينعم سائر الكفرة والعاصين من جهة العقل قبل ورود السمع؟ قيل له: أجل، له ذلك، ولو فعله لكان جائزاً منه غير مستنكر من فعله. فإن قال: فما الذي يؤمنكم من تعذيبه المؤمنين وتنعيمه الكافرين؟ قيل له: يؤمننا من ذلك توقيف النبي صلى الله عليه وسلم، وإجماع المسلمين على أنه لا يفعل ذلك، وعلى أنه قد أخبر أخباراً علموا قصده به ضرورة إلى أن ذلك لا يكون، ولولا هذا التوقيف والخبر لأجزنا ما سألت عنه". التمهيد للباقلاني ص 385 -386.

على القول المسموع؛ لا خبراً، ولا أمراً، فهم لا طريق [عندهم] 1 إلى التمييز بين ما يقع وما لا يقع؛ مثل التمييز بين كونه يثيب المحسن، ويعاقب المسيء، أو لا يفعله. ففي الجملة: جميع أفعاله؛ من إرسال الأنبياء، ومجازاة العباد، [وقيام القيامة، لا طريق لهم إلى العلم بذلك إلا من جهة الخبر، وطريق الخبر] 2 على أصلهم مسدود3. وهم يعلمون صدق الرسول، وصدق خبره معلومٌ في أنفسهم، لكن يناقض أصولهم. لكن مع هذا هم واقفة فيما أخبرت به الرسل من الوعيد، فضعف علمهم بما أخبرت به الرسل، فصاروا في نقصٍ عظيم؛ في علمهم، وإيمانهم بما أخبرت به الرسل، وما أمرت به، وفي أصل ثبوت الرسالة. هذه السمعيات. أصول الأشاعرة العقلية وأما العقليّات: [فمدارها] 4 على حدوث الجسم. وقد عرف فساد

_ 1 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 2 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 3 سبق مثل هذا في الكلام في ص 280-286، 731 من هذا الكتاب. 4 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .

أصلهم فيها1. فهذه أصولهم العقلية والسمعية. وهم لا يعلمون أيضاً ما يفعله الرب من غير الخبر، إلا من جهة العادة. العادة والعادة يجوز عندهم نقضها بلا سبب ولا لحكمة2، ويجوّزون أن تصبح الجبال يواقيت، والبحار زيبقاً. فإذا احتجوا [بالعادات] 3، فقيل لهم: عندكم يجوز نقضها بلا سبب ولا حكمة، أجابوا: بأن الشيء قد يعلم جوازه، ويعلم بالضرورة أنه لا يقع. وهذا أيضاً جمعٌ بين النقيضين. العقل عند الأشاعرة وهم يقولون: العقل هو: العلم بجواز الجائزات، وامتناع الممتنعات4، ووجوب الواجبات؛ كالعلم بأنّ الجبل لم ينقلب ياقوتاً. ثمّ يجعلون هذا من الجائز، على أصلهم: ليس في الأفعال، لا واجب، ولا ممتنع، بل كلّ مقدورٍ، فإنّه جائز الوجود، وجائز العدم، لا يُعلم أحدُ الطرفين، إلاّ بخبرٍ، أو عادةٍ، لا بسبب يقتضيه، ولا حكمة تستلزمه. كما أنّ المرجّح له عندهم مجرّد الإرادة، لا بسبب ولا حكمة. وإذا علم جواز الشيء وعدمه، ولم يعلم ما يوجب أحدهما، [امتنع] 5 أن يعلم بالضرورة ثبوت أحدهما.

_ 1 وقد أبطل شيخ الإسلام رحمه الله هذا الأصل في كثير من كتبه. وعلى سبيل المثال: في درء تعارض العقل والنقل (771-74) ، وفي بيان تلبيس الجهمية، وفي أول هذا الكتاب، انظر ص 289-306 منه. 2 انظر: الجواب الصحيح 6401. 3 في ((خ)) رسمت: بالعبادات. وما اثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 انظر: درء تعارض العقل والنقل 949. والجواب الصحيح 6399-401. 5 في ((ط)) : إتمنع.

والنّاس إنّما يعلمون أن الجبال لم تنقلب يواقيت، لعلمهم بأنّ هذا ممتنع، وأنّ الله إذا أراد قلبها يواقيت، أحدث أسبابا تقتضي ذلك1. فأما انقلاب العادة بلا سبب: فهذا ممتنع عند العقلاء. وجميع ما خرق الله به العادة كان لأسباب تقتضيه، ولِحِكَمٍ فعل لأجلها2، لم [تكن] 3 ترجيحاً بلا مرجّح، كما يقوله هؤلاء، فهذا هذا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

_ 1 قال شيخ الإسلام رحمه الله: "ليس كلّ ما عُلم إمكانه جُوّز وقوعه، فإنا نعلم أن الله قادر على قلب الجبال ياقوتاً، والبحار دماً، ونعلم أنه لا يفعل ذلك". شرح الأصفهانية 2471. 2 وقد ردّ شيخ الإسلام رحمه الله على هؤلاء الذين يُجوّزون نقض العادات بدون سبب ولا حكمة، فقال: "وكل ما وجد في العالم من خوارق العادات؛ آيات الأنبياء وغيرها، لم يأت منها شيء إلا بأسباب تقدمته؛ كآيات موسى؛ من مثل مصير العصا حية، كانت بعد أن ألقاها؛ إما عند أمر الله له بذلك لما ناداه من الشجرة ورأى النار الخارقة للعادة؛ وإما عند مطالبة فرعون له بالآية؛ وإما عند معارضة السحرة لتبتلع حبالهم وعصيهم. وكذلك سائر آياته، حتى إغراق فرعون كان بعد مسير الجيش، وضربه البحر بالعصا، وكذلك تفجّر الماء من الحجر كان بعد أن ضرب الحجر بعصاه واستسقاء قومه إياه وهم في برية لا ماء عندهم. وكذلك آيات نبينا صلى الله عليه وسلم؛ مثل تكثير الماء، كان بوضع يده فيه، حتى نبع الماء من بين الأصابع؛ أي تفجّر الماء من بين الأصابع، لم يخرج من نفس الأصابع. وكذلك البئر كان ماؤها يكثر إما بإلقائه سهماً من كنانته فيها، وإما بصبه الماء الذي بصق فيه. وكذلك المسيح كان يأخذ من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه، فيكون طيراً بإذن الله، إلى أمثال ذلك. فأما جبل ينقلب ياقوتاً بلا أسباب تقدمت ذلك، فهذا لا كان ولا يكون. وكذلك نهر يطرد يصير لبناً بلا أسباب تقتضي ذلك يخلقها الله، فهذا لا كان ولا يكون". الجواب الصحيح 6403-404. وانظر: شرح الأصفهانية 2479. 3 في ((م)) ، و ((ط)) : يكن.

الرد على الأشاعرة في النبوات الأشاعرة يوردون الشبهات ولا يستطيعون الرد عليها ولو [لم] 1 يتعلق هذا بالإيمان بالرسول، وبما أخبر به الرسول، واحتجنا إلى أن نميز بين الصحيح والفاسد في الأدلة والأصول، لما ورد على ما قاله هؤلاء من هذه السؤالات، لم تكن بنا حاجة إلى كشف الأسرار. لكن: لمّا تكلموا في إثبات النبوة، صاروا يوردون عليها أسئلة في غاية القوة والظهور، ولا يجيبون عنها إلا بأجوبة ضعيفة2، كما ذكرنا

_ 1 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 2 انظر مثلاً ما قاله العلماء عن الرازي من أنه يورد الشبه، ولا يرد عليها، وأنه كان يقرر في مسائل كثيرة مذاهب الخصوم وشبههم بأتم عبارة، فإذا جاء إلى الأجوبة اقتنع بالإشارة. حتى قال فيه بعض علماء المغاربة: يورد الشبه نقداً، ويحلّها نسيئة. انظر: ذيل الروضتين ص 68. ولسان الميزان 4427-428. ونقض التأسيس - مخطوط - 16-7. وقد توعّد شيخ الإسلام رحمه الله الأشاعرةَ في مناظرته لهم، إن لم يكفوا عن مخالفته أن يكشف أستارهم، ويبين عوار مذهبهم ومعتقدهم، ومخالفته لمعتقد السلف، فقال رحمه الله: (فلما اجتمعنا وقد أحضرت ما كتبته من الجواب عن أسئلتهم المتقدمة الذي طلبوا تأخيره إلى اليوم، حمدت الله بخطبة الحاجة ... - إلى أن قال: - وربنا واحد، ونبينا واحد، وأصول الدين لا تحتمل التفرق والاختلاف، وأنا أقول ما يوجب الجماعة بين المسلمين، وهو متفق عليه بين السلف، فإن وافق الجماعة فالحمد لله، وإلا فمن خالفني بعد ذلك كشفت له الأسرار، وهتكت الأستار، وبيّنت المذاهب الفاسدة التي أفسدت الملل والدول، وأنا أذهب إلى سلطان الوقت على البريد، وأعرفه من الأمور ما لا أقوله في هذا المجلس، فإن للسلم كلاماً وللحرب كلاماً. وقلت: لا شك أن الناس يتنازعون، يقول هذا أنا حنبلي، ويقول هذا أنا أشعري، ويجري بينهم تفرق وفتن واختلاف على أمور لا يعرفون حقيقتها". مجموع الفتاوى 3181-182. وانظر المصدر نفسه 3188-189. وقد تقدّم بيان شيخ الإسلام رحمه الله لسبب بسطه في الرد على هؤلاء في ص 773-776 من هذا الكتاب.

كلامهم1، فصار طالب العلم والإيمان والهدى من عندهم، - لا سيما إذا اعتقد أنهم أنصار الإسلام، [ونظّاره] 2، والقائمون ببراهينه وأدلته - إذا عرف حقيقة ما عندهم، لم يجد ما ذكروه يدلّ على ثبوت نبوة الأنبياء، بل وجده يقدح في الأنبياء، ويورث الشك فيها أو الطعن، وأنها حجة تقدح في الأنبياء، و [تورث] 3 الشك فيها، أو الطعن فيها، وأنها حجّة لمكذب الأنبياء أعظم مما هي حجّة لمصدق الأنبياء، فانسدّ طريق الإيمان والعلم، وانفتح طريق النفاق والجهل4، لا سيما على من لم يعرف إلا ما قالوه.

_ 1 قال شيخ الإسلام رحمه الله يُخاطب المتكلمين، ويبين لهم ضعف أجوبتهم مع الفلاسفة، وينصحهم أن لا يدخلوا معهم في مناظرات لا ينتصرون فيها: "ومن العجيب أنّ المتكلمين المناظرين لهؤلاء وأمثالهم من أهل الكفر إذا أوردوا سؤالاً ... لا يكون المجيب متمكناً من ذلك علماً وبياناً، ولا ينقطع بذلك الخصم، ولا يهتدي لنقص قوى إدراكه، أو سوء قصده، أو لاحتياج تحقيق ذلك إلى مقدمات متعددة وزمان طويل، وتقرير لتلك المقدمات بجواب ما ترد بها من ممانعة ومعارضة. فيتركوا أن يبدؤوهم من أول الأمر ببيان فساد هذه الحجة، وبيان تناقضهم، وأن قائلها يلزمه إذا قال بها أعظم مما أنكره. فإذا تبين له فسادها وللمتكلمين معه، حصل دفع هذا الشر وبطلان هذا القول وهذه الحجة. وهو المقصود في هذا المقام، ثم بيان الحق وتكميله مقامه آخر". بيان تلبيس الجهمية 1171. وانظر: المصدر نفسه 18. والرد على المنطقيين ص 273-274. 2 في ((خ)) : نظائره. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 في ((خ)) : يورث. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 يقول شيخ الإسلام رحمه الله عن هؤلاء الذي يوردون الشبهات ولا يستطيعون الرد عليها: "ومما يعجب منه أن بعض المنكرين لمجادلة الكفار بناء على ظهور دلائل النبوة، نجده هو ومن يعظمه من شيوخه الذي يعتمد في أصول الدين على نظرهم ومناظرتهم، ويزعمون أنهم قرروا دلائل النبوة، قد أوردوا من الشبهات والشكوك والمطاعن على دلائل النبوة ما يبلغ نحو ثمانين سؤالاً، وأجابوا عنه بأجوبة لا تصلح أن تكون جواباً في المسائل الظنية، بل هي إلى تقرير شبه الطاعنين أقرب منها إلى تقرير أصول الدين. وهم كما مثلهم الغزالي وغيره بمن يضرب شجرة ضرباً يزلزلها به، وهو يزعم أنه يريد أن يثبتها. وكثير من أئمة هؤلاء مضطرب في الإيمان بالنبوة اضطراباً ليس هذا موضع بسطه. وهم مع ذلك يدّعون أنه قد ظهر عن أهل الكتاب ما لم يظهر عند شيوخ هؤلاء النظار، وينهون عن إظهار آيات الله وبراهينه التي هي غاية مطالب شيوخهم، وهم لم يعطوها حقها، إما عجزاً، وإما تفريطاً". الجواب الصحيح 1243-244.

والذي يفهم ما قالوه، لا يكون إلا فاضلاً، قد قطع درجة الفقهاء، ودرجة من قلّد المتكلمين، فيصير هؤلاء؛ إما منافقين؛ وإما في قلوبهم مرض، ويظنّ الظان أنه ليس في الأمر على نبوة الأنبياء براهين قطعية، ولا يعلم أن هذا إنما هو لجهل هؤلاء وأصولهم الفاسدة التي بنوا عليها الاستدلال وقدحهم في الإلهية، وأنهم لم ينزهوا الرب عن فعل شيء من الشرّ، ولا أثبتوا له حكمة ولا عدلاً، فكان ما جهلوه من آيات الأنبياء؛ إذ كان العلم بآيات الله، وما قصّه لخلقه من الدلائل والبراهين، مستلزماً لثبوت علمه وحكمته ورحمته وعدله، فإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم. وهم في الأصل إنما قصدوا الرد على القدرية الذين قالوا: إن الله لم يشأ كل شيء، ولم يخلق أفعال العباد1. وهو مقصود صحيح، لكن ظنوا أن هذا لا يتم إلا بجحد حكمته، وعدله، ورحمته، فغلطوا في ذلك. المعتزلة غلطوا من جهات كثيرة كما أنّ المعتزلة أيضاً غلطوا من جهات كثيرة، وظنّوا أنه لا تثبت حكمته، وعدله، ورحمته، إن لم يجحد خلقه لكل شيء، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ويجحد اتصافه بالكلام، والإرادة، وغير ذلك من أقوال المعتزلة2، التي هي من أقوال هؤلاء؛ فإن هؤلاء3 في الصفات

_ 1 انظر: درء تعارض العقل والنقل 8469، 471، 476. 2 وقد أورد شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه منهاج السنة النبوية قول كل من الجهمية والمعتزلة في هذه المسائل. انظر: المنهاج 3194-197. 3 يعني الأشاعرة.

خيرٌ من المعتزلة، وفي الأفعال من بعض الوجوه1. الغزالي ترك طريقة الأشاعرة في الاستدلال بالمعجزات على ثبوت النبوة ولهذا لما ظهر للغزالي ونحوه [ضعّف] 2 طريق الاستدلال بالمعجزات الذي سلكه شيوخه، وهو لا يعرف غيره؛ أعرض [عنها] 3، وذكر أنه إنما علم ثبوت النبوة بقرائن تعجز عنها العبارة، وهي علوم ضرورية حصلت له على الطول. وجعل الدليل على النبوة هو العلم بأنّ ما جاء به حقّ من غير جهته. وهذه طريق صحيحة قد سلك الجاحظ4 نحواً منها5.

_ 1 قال شيخ الإسلام رحمه الله في معرض كلامه عن الضرارية والنجارية: "والكلابية والأشعرية خير من هؤلاء في باب الصفات؛ فإنهم يثبتون منه الصفات العقلية، وأئمتهم يثبتون الصفات الخبرية في الجملة ... وأما في باب القدر ومسائل الأسماء والأحكام فأقوالهم متقاربة..". ثم قال رحمه الله عن المعتزلة: "وأما المعتزلة فهم ينفون الصفات، ويُقاربون قول جهم، لكنهم ينفون القدر، فهم وإن عظموا الأمر والنهي والوعد والوعيد وغلوا فيه، فهم يكذبون بالقدر، ففيهم نوع من الشرك في هذا الباب". التدمرية ص 191، 193. وقال رحمه الله عن الأشاعرة: "فإنهم أقرب طوائف أهل الكلام إلى السنة والجماعة والحديث، وهم يعدون من أهل السنة والجماعة عند النظر إلى مثل المعتزلة والرافضة، بل هم أهل السنة والجماعة في البلاد التي يكون أهل البدع فيها هم المعتزلة والرافضة ونحوهم". بيان تلبيس الجهمية 287. وانظر درء تعارض العقل والنقل 6292. 2 في ((خ)) : ضعيف. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 4 هو عمرو بن بحر بن محبوب، أبو عثمان الجاحظ البصري المعتزلي. متبحر ذو فنون، وصاحب تصانيف، وكان ماجناً قليل الدين، له نوادر، أخباري علامة، وهو صاحب الطريقة الجاحظية من المعتزلة. توفي سنة 255 ?. انظر: سير أعلام النبلاء 11526-530. وشذرات الذهب 2121. والأعلام 574. 5 وقد بسط شيخ الإسلام رحمه الله القول في هذا الموضوع. انظر: درء تعارض العقل والنقل 3353-354، 946-49، ونقل رحمه الله عن الجاحظ قوله: "معرفة الله تقع ضرورة في طباع نامية عقب النظر والاستدلال، وأن العبد غير مأمور بها) . درء تعارض العقل والنقل 7354. وانظر: المصدر نفسه 948.

النبوة التي يثبتها الغزالي هي نبوة الفلاسفة. ولكن النبوة التي علمها أبو حامد هي النبوة التي [يثبتها] 1 الفلاسفة، وهي من جنس المنامات، ولهذا استدلّ على جوازها بمبدأ الطب والهندسة، ونحو ذلك2. وأمر النبوة أعظم من هذا بكثير، وتلك النبوة موجودة لخلق من الناس، فلهذا لا يوجد للنبوة عندهم ما تستحقه من التصديق والاحترام، ولا يعتمدون عليها في استفادة شيء من العلم الخبري، وهي الإنباء بالغيب وهي خاصة النبوة. الرازي متردد بين نبوة الفلاسفة والأشاعرة والرازي كلامه في النبوة متردد بين نبوة الفلاسفة، ونبوّة أصحابه هؤلاء3، كما ترى4، وليس في واحدٍ من الطريقين إثبات النبوة التي خصّ الله بها أنبياءه. فلهذا ضعفت معرفة هؤلاء بالأنبياء، وضعف أخذ العلم من طريقهم، لا سيما وقد عارضوا كثيراً ممّا جاء عنهم بالعقليات5، ودخلوا فيما هو أبعد عن الهدى والعلم؛ من العقليات، والذوقيات التي من سلكها ضلّ ضلالاً بعيداً.

_ 1 في ((م)) ، و ((ط)) : تثبتها. 2 وقد مضى استدلال الغزالي على إثبات النبوة بهذه الطريق. انظر ص 228، 732-733، 966 من هذا الكتاب. وانظر شرح الأصفهانية 2558. 3 أي الأشاعرة. 4 انظر اضطرابه في النبوات، وميله إلى أقوال الفلاسفة في: المباحث المشرقية 2521-522. وانظر: بيان تلبيس الجهمية 1122. وانظر اضطراب الأشاعرة في النبوة فيما مضى من هذا الكتاب، ص 573-576، 612، 747-753، 954-965. 5 أي عارضوا ما جاء عن الأنبياء بعقلياتهم.

وإنما ينجو من سلك منها شيئاً إذا لطف الله، فعرّفه السلوك [خلف] 1 طريق الأنبياء. فمن لم يهتد بما جاءت به الأنبياء، فهو أبعد الناس عن الهدى: {تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرَاً كَأَن لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئَاً اتَّخَذَهَا هُزُواً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} 2، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ وَيلٌ يَومَئِذٍ للمُكَذِّبِينَ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} 3، {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 4. اعتراف الرازي في آخر مصنفاته ولهذا اعترف الرازي بهذا في آخر مصنفاته، حيث قال: (ولقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن؛ اقرأ في الإثبات: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ} 5، {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} 6. واقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 7، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمَاً} 8. ومن جرَّب مثل تجربتي، عرف مثل معرفتي) 9.

_ 1 في ((ط)) : خلق. 2 سورة الجاثية، الآيات 6-9. 3 سورة المرسلات، الآيات 48-50. 4 سورة آل عمران، الآية 101. 5 سورة فاطر، الآية 10. 6 سورة طه، الآية 5. 7 سورة الشورى، الآية 11. 8 سورة طه، الآية 110. 9 سبق ذلك مراراً. انظر ما سبق في هذا الكتاب، ص 357، 478، 612، 747.

أقوال المخالفين يستفاد منها في بيان فساد قول كل طائفة [و] 1 أكثر الانتفاع بكلام هؤلاء، هو فيما يثبتونه من فساد أقوال سائر الطوائف وتناقضها. وكذلك كلام عامة طوائف المتكلمين؛ يُنتفع بكلام كل طائفة في بيان فساد قول الطائفة الأخرى، لا في معرفة ما جاء به الرسول2؛ فليس في طوائف أهل الأهواء والبدع من يعرف حقيقة ما جاء به الرسول، ولكن يعرف كل طائفة منه ما يعرفه، فليسوا كفاراً جاحدين [به] 3، وليسوا عارفين به. فلقد عرفت وما عرفت حقيقة ولقد جهلت وما جهلت حمولاً وبسط هذه الأمور له موضع آخر4، ولكن نبّهنا هنا على طريق الحكمة.

_ 1 ما بين المعقوفتين ساقط من ((ط)) . 2 يذكر الشيخ رحمه الله هذه القاعدة في الاستفادة من كلام الفرق والطوائف. وقد قال رحمه الله أيضاً عن تناقض أقوال المعتزلة والأشاعرة، وأن كل فريق يرد على أدلة الفريق الآخر: "وهذا أعظم ما يستفاد من أقوال المختلفين الذين أقوالهم باطلة، فإنه يستفاد من قول كل طائفة بيان فساد قول الطائفة الأخرى، فيعرف الطالب فساد تلك الأقوال، ويكون ذلك داعياً له إلى طلب الحق، ولا تجد الحق إلا موافقاً لما جاء به الرسول، ولا تجد ما جاء به الرسول إلا موافقاً لصريح المعقول، فيكون ممن له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد". مجموع الفتاوى 12314. وقال أيضاً: "عدم علمهم بما بعث الله به الرسول صلى الله عليه وسلم، وعدم تحقيقهم لقواعد المعقول، فإن الأقوال المبتدعة لا بُدّ أن تكون مناقضة للعقل والشرع". شرح الأصفهانية 2331. 3 في ((ط)) : حه. 4 انظر: مجموع الفتاوى 222-24، 6288، 7435-436، 829. ودرء تعارض العقل والنقل 1326، 4206، 735-37، 967-68، 1097. وبيان تلبيس الجهمية 2110-111. والرد على المنطقيين ص 310-311.

فصل حكمة الله وعدله في إرسال الرسل

فصل حكمة الله وعدله في إرسال الرسل وإذا عرفت حكمة الرب وعدله، تبيَّن أنه إنما يرسل من اصطفاه لرسالته، و [اختاره] 1 لها، كما قال: {اللهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} 2، وكما قال لموسى: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} 3، وأنه إذا أبلغ الرسالة، وقام بالواجب، وصبر على تكذيب المكذبين وأذاهم، كما مضت به سنته في الرسل؛ قال: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُون أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُون} 4، وقال تعالى: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ للرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} 5، وقال تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوم نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُود وَالَّذينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيدِيَهُم في أَفْوَاهِهِم وَقَالُوا إِنَّا كَفَرنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيهِ مُرِيب قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفي اللهِ شَكّ فَاطِر السَّمَواتِ وَالأرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُم وَيُؤَخِّركم إِلى أَجَلٍ مُسَمَّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا تُريدُونَ أَنْ

_ 1 في ((خ)) رسمت: اخباره. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 سورة الحج، الآية 75. 3 سورة طه، الآية 13. 4 سورة الذاريات، الآيتان 52-53. 5 سورة فصلت، الآية 43.

تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِين قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ [لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّل المُؤمِنُون وَمَا لَنَا] 1 [أَلاَّ] 2 نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّل [المُتَوَكِّلُون] 3 وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ في مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُم لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيد وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ المَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمَنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} 4، إلى سائر ما أخبر به من أحوال الرسل. والرسل صادقون، مصدّقون على الله [يخبرون] 5 بالحق، ويأمرون بالعدل، ويدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له. وأهل الكذب المدّعون للنبوة ضدّ هؤلاء، كاذبون تأتيهم الشياطين. الكاذبون يأمرون بما نهى الله عنه، وينهون عما أمر الله به، فإنه لا بد أن يأمروا [بتصديقهم] 6، واعتقاد نبوتهم، وطاعتهم. وذلك ممّا نهى الله عنه. ولا بُدّ أن ينهوا عن متابعة من يكذّبهم ويعاديهم، وذلك ممّا أمر الله

_ 1 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 2 في ((خ)) : أن. 3 في ((خ)) : المتومنين. 4 سورة إبراهيم، الآيات 9-17. 5 في ((خ)) : يخرون. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 6 في ((خ)) : بتصديقه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

به؛ فإنه يمتنع في حكمة الرب وعدله أن يُسوّي بين هؤلاء خيار الخلق، وبين هؤلاء شرار الخلق؛ لا في سلطان العلم وبراهينه وأدلته، ولا في سلطان النصر والتأييد، بل يجب في حكمته أن يظهر الآيات والبراهين الدالة على صدق هؤلاء، وينصرهم، ويُؤيّدهم، ويُعزّهم، ويُبقي لهم [لسان] 1 الصدق، ويفعل ذلك بمن اتبعهم، وأن يظهر الآيات المبينة لكذب أولئك، ويذلهم، ويخزيهم، ويفعل ذلك بمن اتبعهم؛ كما قد وقع في هؤلاء وهؤلاء2. وقد دلّ القرآن على الاستدلال بهذا في غير موضع3. الأدلة والبراهين نوعان والأدلة والبراهين كما تقدم4 نوعان؛ نوعٌ يدلّ بمجرده، بحيث يمتنع وجوده غير دال كدلالة حدوث الحادث على محدث، فهذا يدلّ بمجرده، وإن قدر أن أحداً لم يقصد الدلالة به. لكنّ الرب بكل شيء عليم، وهو مريد لخلق ما خلقه ولصفاته، لكن لا يشترط في الاستدلال بهذا أن يعلم أن دالاً قصد أن يدلّ به. والنوع الثاني5: ما هو دليل بقصد الدالّ وجعله. [فهذا] 6 لولا القصد وجعله دليلا، لم يكن دليلاً، [فهو] 7 [إنّما] 8 قصد به الدلالة، فهذا مقصوده مجرد الدلالة، وذلك بمجرده هو الدليل.

_ 1 في ((م)) ، و ((ط)) : سلطان. 2 يذكر الشيخ رحمه الله هنا الفرق بين المعجزة والسحر. 3 انظر ما سبق في هذا الكتاب، ص 1098. 4 انظر ما سبق في هذا الكتاب، ص 886. 5 سبق ذلك في ص 916 من هذا الكتاب. 6 في ((خ)) : فلهذا. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 7 في ((خ)) : فهذا. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 8 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .

وهذا كالكلام الذي يدلّ بقصد المتكلم، وغير ذلك؛ مثل الإشارة بالرأس، والعين، والحاجب، واليد؛ ومثل الكتابة؛ ومثل العقد؛ ومثل الأعلام التي نصبت على الطرق، وجعلت علامة على حدود الأرض وغير ذلك1. ومن ذلك العلامات التي يبعثها الشخص مع رسوله ووكيله إلى أهله؛ سواء كان قد تواطأ معهم عليها؛ مثل أن يقول: علامته أن يضع يده على ترقوته2، أو يضع خنصره في خنصره3، ونحو ذلك، أو كانت علامة قصد بها الإعلام من غير تقدّم مواطأة؛ مثل إعطائه عمامته ونعليه؛ كما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم عمامته علامة على ولاية قيس بن سعد، وعزل أبيه سعد عن الإمارة يوم الفتح4، وكما أعطى أبا هريرة نعليه علامة على ما أرسله به5، وكما يعطي الرجل لرسوله خاتمه، ونحو ذلك. فهذه الدلائل دلت بالقصد والجعل، وقد كان يمكن أن لا تجعل دليلاً. فإذا كانت آيات الأنبياء من هذا الجنس، فهي إنما تدل مع قصد الرب إلى جعلها دليلاً. وجعله لها دليلاً: بأن يجعل المدلول لازماً لها؛ فكلّ من ظهرت على يده، كان نبياً صادقاً؛ فإنّ الدليل لا يكون دليلاً إلا مع كونه مستلزماً للمدلول، فيمتنع أن يكون دليلاً إذا وجد [معه] 6 عدم المدلول، أو وجد ضدّ المدلول.

_ 1 انظر ما سبق في هذا الكتاب ص 916. 2 سبق التعريف بها في ص 645 من هذا الكتاب. 3 سبق التعريف بها في ص 645 من هذا الكتاب. 4 سبق تخريجه، انظر: ص 924-925 من هذا الكتاب. 5 سبق تخريجه، انظر: ص 925 من هذا الكتاب. 6 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .

آيات الأنبياء يمتنع وجودها بدون صدق النبي فآيات الأنبياء الدالّة على صدقهم يمتنع وجودها بدون صدق النبيّ، ووجودها مع مدّعي النبوّة كاذباً أعظم استحالة؛ فإنّها إذا كانت ممتنعة مع عدم نبوة صادقة، - وإن لم تكن هناك نبوّة كاذبة -، فمع الكاذبة أشدّ امتناعاً؛ فهي مستلزمة للنبوة لا [تكون] 1 مع عدم النبوة البتة. والكاذب قد عُدمت في حقه النبوة، ووجد في حقّه ضدّها؛ وهو الكذب في دعواها، يمتنع كونه نبياً صادقاً، فيمتنع أن يخلق الرب ما يدلّ على صدق الأنبياء، بدون صدقهم؛ لامتناع وجود الملزوم دون لازمه، ومع كذبهم؛ لامتناع وجود الشيء مع ضده. والكذب ضدّ الصدق، فيمتنع أن يكون قوله: أنا نبيّ صدقاً وكذباً. فإذا استلزمت الصدق، امتنع وجود الكذب. يمتنع دليل الصدق مع عدم الصدق وخلق دليل الصدق مع عدم الصدق، ممتنع غير مقدور، لكن الممكن المقدور: أنّ ما جعله دليلاً على الصدق يخلقه بدون الصدق، فيكون قد خلقه، وليس بدليل [حينئذٍ. ويمكن أن يخلق على يد الكاذب ما يدلّ أنه دليل على صدقه، وليس بدليل] 2؛ مثل خوارق السحرة، والكهان؛ كما كان يجري لمسيلمة والعنسي وغيرهما3. لكنّ هذه ليست دليلاً على النبوّة، لوجودها معتادة لغير الأنبياء، وليست خارقة لعادة غير الأنبياء، بل هي معتادة للسحرة والكهان. فالتفريط ممّن ظنها دليلاً، لا سيّما ولا بد أن يكون دليلاً على كذب صاحبها؛ فإن

_ 1 في ((خ)) : يكون. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 3 تقدّم بيان ذلك، انظر ص 192، 272، 598-600 من هذا الكتاب.

الشياطين لا تقترن إلا بكاذب؛ كما قال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} 1. وآيات الأنبياء مع عدم النبوة، كما أن كلام الله بدون إرادة تلك المعاني كل ذلك ممتنع من عدة وجوه ولا يجوز أن يُظهر الربّ ما جعله دليلاً للنبوة مع عدم النبوة2؛ كما أنّه لا يجوز أن [يتكلم] 3 بالكلام الذي جعله لبيان معان، بدون إرادة تلك المعاني4، بل ذلك ممتنعٌ من وجوه؛ من وجه حكمته، ومن جهة عادته، ومن جهة عدله ورحمته، ومن جهة علمه وإعلامه، وغير ذلك، كما قد بسط في مواضع5.

_ 1 سورة الشعراء، الآيتان 221-222. 2 أي لا توجد المعجزة بدون وجود النبيّ؛ لأنّ الله يفعل لحكمة وسبب، وهو ممتنع من عدة وجوه؛ فإنّ الدليل لا يكون إلا مستلزماً للمدلول عليه مختصاً به. 3 في ((ط)) : يتلكم. 4 شيخ الإسلام رحمه الله يردّ ها هنا على الأشاعرة الذين ينفون قيام الصفات الاختيارية بالله تعالى، ويقولون بقدم الكلام، ويمنعون أن يكون الله متكلماً إذا شاء، متى شاء. ومذهب أهل السنة والجماعة أن الله لم يزل متكلماً إذا شاء، وأن كلام الله لآدم أو لموسى أو للملائكة كلّ في وقت تكليمه ومناداته؛ أي أنه تعالى لم يناد موسى قبل خلقه ومجيئه عند الشجرة. وإن كانت صفة الكلام أزلية النوع. وقد بنى أهل السنة مذهبهم على مقدمتين: 1- على أن الأمور الاختيارية تقوم بالله، 2- وعلى أن كلام الله لا نهاية له، كما قال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} [سورة الكهف، الآية 109] ، وقوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [سورة لقمان، الآية 27] . انظر: منهاج السنة النبوية 3358-360. وموقف ابن تيمية من الأشاعرة 31277. 5 انظر ما سبق، ص 1116-1119 من هذا الكتاب.

ومن جهة قدرته أيضاً؛ فإنه قادر على هدي عباده وتعريفهم، وذلك إنما يكون بتخصيص الصادق بما يستلزم صدقه، فإذا ما سوّى بين الصادق والكاذب، فإنه يمتنع التعريف، والممتنع ليس بمقدور، فقدرته تقتضي خلق الفرق. وقد يقال: هو قادر، لكن لا يفعل مقدوره. فيقال: فِعلُه له ممكن، ولا يمكن إلا على هذا الوجه، فيكون قادراً على هذا الوجه. فإن قيل: هو قادر، ولكن لا يفعله. قيل: إن أريد أنه يمتنع، فهذا باطل، وإن أريد أنه يمكن فعله، ولكن لا يفعله، لم يكن على هذا النفي دليل، بل وجوده يدل على أنه فَعَلَهُ1. أفعال الرب إما واجبة وإما ممتنعة وأيضاً: فأفعال الرب؛ إما واجبة، وإمّا ممتنعة. وإذا لم يكن ممتنعاً، تعيَّن أنه واجب، وأنه قد فعله2، وهذا قد فعله. وهذا مبسوطٌ في غير هذا الموضع. الله منزه أن يفعل ما يناقض حكمته والمقصود هنا: أنّ هذا كلّه يستلزم أنّ الربّ منزّه عن أن يفعل بعض الأمور الممكنة المقدورة3، لكون ذلك يستلزم أمراً يُناقض حكمته، ولكون فعل الشيء لا يكون إلا مع لوازمه، وانتفاء أضداده. فيمتنع فعله

_ 1 مرت هذه المسألة فيما سبق، ص 278-281، 662 من هذا الكتاب. وانظر: الفرق بين الفرق ص 133، 134. والانتصار للخياط ص 54. 2 أي أنّ الله سبحانه وتعالى قد هدى عباده المطيعين وعرفهم بتخصيص الصادق بما يستلزم صدقه، فلم يلتبس عليهم الصادق من الكاذب. 3 وهو جواز أن يظهر الله ما جعله دليلاً للنبوة مع عدم النبوة، فيستوي بذلك الصادق والكاذب؛ لأن من أصول الأشاعرة: أن الله يجوز منه فعل كلّ شيء، ولا يُنزّه عن شيء.

بدون لوازمه، أو مع ضده، كما يمتنع جعل الدليل دليلاً مع وجوده بلا مدلول، أو مع وجود ضدّ المدلول معه. الأشاعرة يمتنع على أصولهم كلام الرب أن يدل على مراده أو أن آياته تدل على صدق الأنبياء والذين قالوا: يجوز منه فعل كل شيء، ولا ينزّه عن شيء، يتعذّر على أصلهم وجود دليل جعلي قصدي؛ لا الكلام، ولا الفعال؛ فيمتنع على أصلهم كون كلام الرب يدلّ على مراده، أو كون آياته التي قصد بها الدلالة على صدق الأنبياء، أو غيرهم تدلّ؛ لأنّه يقدر أن يفعل ذلك [و] 1 غير ذلك، كما يقدر أن يظهر على يد الكاذب ما أظهره على يد الصادق. تعريف المعجزة عند الأشاعرة وهم يقولون: المعجزة هي الخارق المقرون بالتحدي بالمثل وعدم المعارضة2. وهذا يقدر على إظهاره على يد الصادق. صفة الإرادة فمن سوّى بين جميع الأمور، وجعل إرادته لها سواء، لم يفرّق بين هذا وهذا3، فقالوا: نحن نستدل على أنه لم يظهرها على يد الكاذب، بأنه لو

_ 1 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 2 انظر: البيان للباقلاني ص 48. والإرشاد للجويني ص 312-313. وأصول الدين للبغدادي ص 175، 185. وشرح المقاصد للتفتازاني 511. والمواقف للإيجي ص 339. 3 قد أوضح شيخ الإسلام رحمه الله أنّ الأشاعرة جعلوا الإرادة قديمة أزلية واحدة، وإنما يتجدد تعلقها بالمراد. ونسبتها إلى الجميع واحدة، ولكن من خواص الإرادة أنها تخصص بلا مخصص. فهم جعلوها واحدة قديمة أزلية مثل ما جعلوا العلم والكلام. وهم يقولون: إنه يعلم المعلومات كلها بعلم واحد بالعين، ويُريد المرادات كلها بإرادة واحدة بالعين، وإن كلامه الذي تكلم به من الأمر بكل مأمور، والخبر عن كل مخبر عنه هو أيضاً واحد بالعين. أما قول أهل السنة والجماعة في الإرادة، فإنهم يقولون: إنه لم يزل مريداً بإرادات متعاقبة، فنوع الإرادة قديم، وأما إرادة الشيء المعين فإنما يريده في وقته. وهو سبحانه يقدر الأشياء ويكتبها، ثم بعد ذلك يخلقها. فهو إذا قدّرها علم ما سيفعله وأراد فعله في الوقت المستقبل، لكن لم يرد فعله في تلك الحال. فإذا جاء وقته أراد فعله. فالأول عزم، والثاني قصد. فالإرادة منه تارة تكون بمعنى المشيئة، وتارة تكون بمعنى المحبة. فالإرادة الشرعية هي المتضمنة للمحبة والرضا، كقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [سورة النساء، الآية 26] . والإرادة الكونية هي المشيئة الشاملة لجميع الحوادث، كقوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [سورة الأنعام، الآية 125] . وقول المسلمين: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. انظر: مجموع الفتاوى 16301-303. ودرء تعارض العقل والنقل 2172، 8283. وشرح الأصفهانية 1175-176، 2366. وجامع الرسائل 218، 39. ومنهاج السنة النبوية 314-18، 164-168، 180-181) .

فعل ذلك، لبطلت قدرته على تصديق الصادقين بالآيات؛ فإنّه إنّما يستدل على صدقهم بالآيات، فلو أظهرها على يد الكاذب، لم يبق قادراً. هذه عمدة أكثرهم، وعليها اعتمد القاضي أبو بكر في كتاب المعجزات1. قدرة الله في عدم المساواة بين الصادق والكاذب فيقال لهم: هذا لا يبطل قدرته على ذلك2، ولكن هذا يوجب أنه لم يفعل المقدور، فيلزم من ذلك أنه سوى بين الصادق والكاذب، ولم يبيّن صدقه. وهذا مقدور ممكن، وكلّ مقدور ممكن فهو عندكم جائز عليه، فلم يكن اللازم رفع قدرته3، بل اللازم أنه لم يفعل مقدوره. وهذا جائز عندكم.

_ 1 سبق أن نقل شيخ الإسلام رحمه الله كلام الباقلاني في ص 115 من هذا الكتاب، وهو من القسم المفقود من البيان له. وانظر: الإرشاد للجويني ص 326-327. وأصول الدين للبغدادي ص 173-174. والمواقف للإيجي ص 341-342. 2 أي على هذا الدليل. 3 أي لم يكن اللازم من الدليل الذي أوردوه نفي قدرته، وإنما يلزم فقط أنه لم يفعل ذلك، لأن هذا هو الذي توجبه أصولهم.

وممّا يُوضّح هذا، أن يقال: هو قادر على إظهار ذلك على يد الكاذب، أم لا؟ فإن قلتم: ليس بقادر، أبطلتم قدرته، وإن قلتم: هو قادر، فثبت أنه قادرٌ على إظهار ذلك على يد الصادق والكاذب، فبقي مشتركاً1 لا يخصّ أحدهما، فلا يكون حينئذٍ دليلاً، فمجرّد القدرة لم يوجب اختصاص الصادق به. وإن قلتم: لا يقدر على إظهاره على يد الكاذب، فقد رفعتم القدرة2. فأنتم بين أمرين؛ إن أثبتم القدرة العامة3، فلا اختصاص لها؛ وإن نفيتم القدرة على أحدهما، بطل [استدلالكم] 4 بشمول القدرة5. وأيضاً: فالقدرة إنما تكون على ممكن. وعلى أصلكم: لا يمكن تصديق الصادق. الأشاعرة استدلوا بمقدمتين فهم استدلوا بمقدمتين، وكلاهما باطلة6. الوا: لو لم يكن دليلاً رفع القدرة. وهذا باطل، بل يلزم أنه لم يفعل المقدور. وهذا جائز عندهم. فلا يجب عندهم شيء من الأفعال. ثم قالوا: وهو قادرٌ على ذلك، وعلى أصلهم: ليس هو بقادر على ذلك، فإنهم قالوا: يمكنه تصديق الأنبياء بالفعل، كما يمكنه التصديق بالقول. فيقال لهم: كلاهما يدلّ بالقصد والجعل، وهذا إنما يكون ممّن

_ 1 أي: إن أثبتم القدرة لله تكون على أصولكم مشتركة بين الصادق والكاذب، فلا يميز بها بينهما. 2 أي بطل استدلالكم بدليل القدرة. 3 أي قدرة الله في الأزل. 4 في ((خ)) : استدلالهم. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 أي في التمييز بين الصادق والكاذب، وجعلتموه عاجزاً. 6 هذه المسألة سبق ذكرها، انظر ص 278، 661، 1006-1007 من هذا الكتاب.

يقصد أن يفعل الشيء ليدلّ. وعندكم هو لا يفعل شيئاً لشيءٍ؛ فيلزم على أصلكم أن لا يفعل شيئاً لأجل أنه يدلّ به عباده؛ لا فعلاً ولا كلاماً؛ إذ كان هذا عندكم ممتنعا وهو فعل شيء لمقصود آخر غير فعله. وإذا كان هذا ممتنعاً عندكم، لم يكن مقدوراً، فلا يقدر على أصلكم أن ينصب لعباده دليلاً ليدلّهم به على شيء، بل هذا عندهم فعلٌ لغرض، وهو ممتنع عليه. وإن قلتم: هو وإن لم يقصد أن يفعل شيئاً لحكمة، لكن قد يفعل الشيئين المتلازمين، فيستدل بأحدهما على الآخر. قيل: هذا إنما يكون بعد أن يثبت التلازم، وأن أحدهما مستلزم للآخر. وهذا معلومٌ فيما يدلّ بمجرده؛ فإنه يمتنع وجوده بدون لازمه. أمّا ما يدل بالجعل والقصد، فيمكن وجوده بدون ما جُعل مدلولاً له. واللزوم إنما يكون بالقصد، وهو عندكم يمتنع أن يفعل شيئاً لأجل شيء، فبطلت الأدلة القصدية على أصلكم، وهي أخصّ بالدلالة من غيرها. ولهذا لا يكادون يستدلّون بكلام الله، بل يعتمدون في السمعيات؛ إمّا على ما عُلم بالضرورة أو الإجماع1.

_ 1 يُخبر شيخ الإسلام رحمه الله عنهم قائلاً: "فهؤلاء تجد عمدتهم في كثير من الأمور المهمة في الدين إنما هو ما يظنونه من الإجماع. وهم لا يعرفون في ذلك أقوال السلف ألبتة، أو عرفوا بعضها، ولم يعرفوا سائرها، فتارة يحكون الإجماع، ولا يعلمون إلا قولهم وقول من ينازعهم من الطوائف المتأخرين؛ طائفة، أو طائفتين، أو ثلاث، وتارة عرفوا أقوال بعض السلف. والأول كثير في مسائل أصول الدين وفروعه، كما تجد كتب أهل الكلام مشحونة بذلك، يحكون إجماعاً ونزاعاً، ولا يعرفون ما قاله السلف في ذلك البتة، بل قد يكون قول السلف خارجاً عن أقوالهم". مجموع الفتاوى 1325،، 471-72. وانظر ما سبق في هذا الكتاب، ص 573-580، 709-714.

خلاصة الكلام في الموضوع وحقيقة الأمر أن الأدلة الجعلية القصدية لا بُدّ فيها من إرادة الرب ومشيئته، أن تكون أدلة، فلا بُدّ أن يريد أن يجعل هذا الفعل ليدلّ. وهم لا يجوزون أن يريد شيئاً لشيء، بل كل مخلوق هو عندهم مراد من نفسه، لم يُرَد لغيره. فامتنع أن يكون يريد الرب جعل شيء دليلاً على أصلهم1. فتبين أنّه على أصلهم غير قادر على [نصب] 2 ما يقصد به دلالة العباد، وهدايتهم، وإعلامهم؛ لا قول، ولا فعل. فبطلت المقدمة الكبرى. وبتقدير أن يكون قادراً على ذلك، فهو إذا أظهر على يد الكاذب ما يظهر على يد الصادق، كان لم يفعل هذا المقدور، ولم يجعل ذلك دليلاً على الصدق، لا يلزم أن لا يكون قادراً. فهم اعتمدوا على هذه الحجة، وقالوا: هذا هذا، وهذا هذا. من لم يثبت الحكمة يلزمه نفي الإرادة والمشيئة والقدرة فقد تبيَّن أنّ من لم يثبت حكمة الرب، يلزمه نفي إرادته ومشيئته كما تقدم3، ويلزمه أيضاً نفي قدرته على أن يفعل شيئاً لشيء، فلا يمكنه أن ينصب دليلاً ليدلّ به عباده على صدق صادق ولا كذب كاذب. وهم يقولون: من فعل شيئاً لحكمة، دليلٌ على حاجته ونقصه؛ لأنه فعل لغرض.

_ 1 وقد ردّ عليهم شيخ الإسلام رحمه الله بقوله: "الغاية التي يُراد الفعل لها هي غاية مرادة للفاعل، ومراد الفاعل نوعان؛ فإنه تارة يفعل فعلاً ليحصل بفعله مراده، فهذا لا يفعله وهو يعلم أنه لا يكون، والله تعالى يفعل ما يريد، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ولكن الله يفعل ما يريد. وتارة يريد من غيره أن يفعل فعلاً باختيار، لينتفع ذلك الفاعل بفعله، ويكون ذلك محبوباً للفاعل الأول، كمن يبني مسجداً ليصلي فيه الناس، ويعطيهم مالاً ليحجوا به، ويجاهدوا به". درء تعارض العقل والنقل 8471. وانظر: منهاج السنة النبوية 3168. 2 في ((خ)) : ما نصب. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 انظر ما سبق ص 501-507 من هذا الكتاب، وكذا ص 1107، 1156 منه.

والغرض هو الشهوة، وذلك يتضمن الحاجة1. وهذا بعينه يُقال في الإرادة2: إن من أراد، فإنّما يريد لغرض وشهوة. فقولهم بنفي الحكمة، يتضمن نفي الإرادة، ونفي القدرة. وقد بسط هذا في غير هذا الموضع3، وبُيِّن أنّ من نفى الحكمة، يلزمه [نفي] 4 الإرادة، ومن نفى الإرادة يلزمه نفي فعل الرب، ونفي

_ 1 سبق ذلك في هذا الكتاب. وانظر: منهاج السنة النبوية 391. 2 شيخ الإسلام رحمه الله هاهنا يُلزمهم بنفي الإرادة؛ لأن المحذور في إثبات الحكمة عندهم موجود أيضاً في الإرادة؛ فإما أن يُثبتوا الكلّ، أو ينفوا الكلّ. وقد سبق أن أورد شيخ الإسلام رحمه الله هذا الإلزام بالتفصيل. انظر ما سبق في هذا الكتاب، ص 503-507. 3 انظر ما سبق في هذا الكتاب، ص 503-507. وانظر مجموع الفتاوى 16298-299. والملاحظ أن شيخ الإسلام هاهنا يُقرّر قاعدة: القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر. ويُلزم الأشاعرة بهذه القاعدة أن يثبتوا الحكمة كما أثبتوا الإرادة، أو ينفوا الجميع. يقول رحمه الله تعالى: "أن يقال: يمكن إثبات هذه الصفات بنظير ما أثبت به تلك من العقليات، فيُقال: نفع العباد بالإحسان إليهم يدل على الرحمة كدلالة التخصيص على المشيئة، وإكرام الطائعين يدل على محبتهم، وعقاب الكفار يدل على بغضهم، كما قد ثبت بالشاهد والخبر من إكرام أوليائه وعقاب أعدائه، والغايات المحمودة في مفعولاته ومأموراته، وهي ما تنتهي إليه مفعولاته ومأموراته من العواقب الحميدة، تدلّ على حكمته البالغة، كما يدلّ التخصيص على المشيئة وأولى لقوة العلة الغائية. ولهذا كان ما في القرآن من بيان ما في المخلوقات من النعم والحكم أعظم مما في القرآن من بيان ما فيها من الدلالة على محض المشيئة". التدمرية ص 34-35. 4 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .

الإحداث. ومن نفى ذلك يلزمه امتناع حدوث حادث في الوجود. وأن إثبات الحكمة لازمٌ لكلّ طائفة على أي قولٍ قالوه، كما قد بُسِط في غير هذا الموضع1. إذ المقصود: التنبيه على أن إثبات آيات الأنبياء، والاستدلال بكلام الله وآياته التي أراد أن يدلّ بها عباده بدون إثبات حكمته: ممتنع. اضطراب كلام من نفى حكمة الله في آيات الأنبياء وفي كلامه ولهذا اضطرب كلام من نفى حكمته في آيات الأنبياء، وفي كلام الرب سبحانه؛ وهي الآيات التي بعثت بها الأنبياء القولية والفعلية، واضطربوا في الاستدلال على ما جاءت به الأنبياء، كما قد نُبّه عليه. والله سبحانه وتعالى أعلم2.

_ 1 انظر: درء تعارض العقل والنقل 9111. ورسالة أقوم ما قيل في المشيئة والحكمة والقضاء والتعليل - ضمن مجموعة الرسائل والمسائل - 4-5283-346. 2 أشار شيخ الإسلام رحمه الله تعالى إلى أن الآيات الدالة على الحكمة والرحمة تقرر تنزيه الله عن تأييد الكذاب بالمعجزة، فقال: "وقد يقال: يمكن تقرير كونه سبحانه منزهاً عن تأييد الكذاب بالمعجزة من غير بناء على أصل المعتزلة، بما علم من حكمة الله في مخلوقاته، ورحمته ببريته، وسنته في عباده؛ فإن ذلك دليل على أنه لا يُؤيّد كذاباً بمعجزة لا معارض لها. ويمكن بسط هذه الطريقة وتقريرها بما ليس هذا موضعه، فإنه كما علم بما في مصنوعاته من الإحكام والإتقان أنه عالم، وبما فيها من التخصيص أنه مريد، فيعلم بما فيها من النفع للخلائق أنه رحيم، وبما فيها من الغايات المحمودة أنه حكيم". شرح الأصفهانية 2612.

فصل الاستدلال بسنة الله وعادته في معرفة النبي الصادق من المتنبئ الكاذب

فصل الاستدلال بسنة الله وعادته في معرفة النبي الصادق من المتنبئ الكاذب وأمّا الاستدلال بسنته وعادته، فهو أيضاً طريق برهاني ظاهرٌ لجميع الخلق1.

_ 1 يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "انخراق العادات أمر معلوم بالحس والمشاهدة بالجملة، وقد أخبر في غير موضع أنه سبحانه لم يخلق العالم عبثاً وباطلاً، بل لأجل الجزاء، فكان هذا من سنته الجميلة، وهو جزاؤه الناس بأعمالهم في الدار الآخرة؛ كما أخبر به؛ من نصر أوليائه، وعقوبة أعدائه. فبعث الناس للجزاء هو من هذه السنة. وهو لم يُخبر بأن كل عادة لا تُنتقض، بل أخبر عن السنة التي هي عواقب أفعال العباد بإثابة أوليائه، ونصرهم على الأعداء. فهذه هي التي أخبر أنه لن يوجد لها تبديل ولا تحويل، كما قال: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} . ثمّ قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى عند هذه الآية، وهي قوله جل وعلا: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [سورة فاطر، الآية 43] : (وذلك لأنّ العادة تتبع إرادة الفاعل، وإرادة الفاعل الحكيم هي إرادة حكيمة، فتسوي بين المتماثلات، ولن يوجد لهذه السنة تبديل ولا تحويل، وهو إكرام أهل ولايته وطاعته، ونصر رسله والذين آمنوا على المكذبين. فهذه السنة تقتضيها حكمته سبحانه، فلا انتقاض لها، بخلاف ما اقتضت حكمته تغييره، فذاك تغييره من الحكمة أيضاً، ومن سنته التي لا يوجد لها تبديل ولا تحويل، لكن في هذه الآيات ردّ على من يجعله يفعل بمجرد إرادة ترجح أحد المتماثلين بلا مرجّح؛ فإنّ هؤلاء ليس عندهم له سنة لا تتبدّل، ولا حكمة تقصد، وهذا خلاف النصوص والعقول؛ فإنّ السنة تقتضي تماثل الآحاد، وأنّ حكم الشيء حكم نظيره، فيقتضي التسوية بين المتماثلات، وهذا خلاف قولهم) . الرد على المنطقيين ص 391.

وهم متفقون عليه؛ من يقول بالحكمة1؛ ومن يقول بمجرد المشيئة2؛ فإنّه قد علم عادته سبحانه في طلوع الشمس، والقمر، والكواكب، والشهور، والأعوام، وعادته في خلق الإنسان، وغيره من المخلوقات، وعادته فيما عرفه الناس؛ من المطاعم، والمشارب، والأغذية، والأدوية، ولغات الأمم؛ كالعلم بنحو كلام العرب وتصريفه، والعلم بالطب وغير ذلك. سنة الله في نصر الأنبياء وأتباعهم وإهلاك من كذبهم أو كذب عليهم كذلك سنته تعالى في الأنبياء الصادقين وأتباعهم، وفيمن كذّبهم، أو كذب عليهم؛ فأولئك ينصرهم ويعزّهم، ويجعل لهم العاقبة المحمودة، والآخرون يهلكهم ويذلهم، ويجعل لهم العاقبة المذمومة3؛ كما فعل [بقوم] 4 نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط، وأصحاب مدين، وفرعون

_ 1 وهم أهل السنة والجماعة الذين يثبتون الحكمة لله سبحانه وتعالى. 2 وهم من ينفي الحكمة من أمثال الأشاعرة. 3 وقال شيخ الإسلام رحمه الله موضّحاً هذا المعنى: "كذلك سنته في الأنبياء الصادقين، وأتباعهم من المؤمنين، وفي الكذابين والمكذبين بالحقّ: أنّ هؤلاء ينصرهم، ويُبقي لهم لسان صدق في الآخرين، وأولئك ينتقم منهم، ويجعل عليهم اللعنة. فبهذا وأمثاله يُعلم أنه لا يؤيد كذّاباً بمعجزة لا معارض لها؛ لأنّ في ذلك من الفساد والضرر بالعباد ما تمنعه رحمته، وفيه من سوء العاقبة ما تمنعه حكمته، وفيه من نقض سنته المعروفة وعادته المطردة ما تُعلم به مشيئته". شرح الأصفهانية 2615. فالشيخ رحمه الله يُبيِّن أنّ الطرق كثيرة ومتنوعة في معرفة النبيّ من المتنبئ، والصادق من الكاذب. ومن هذه الطرق ودلائل النبوة على صدقهم: دلالة عاقبة الأنبياء ومتبعيهم، ونصرهم على أعدائهم، وإهلاك الله لمكذّبيهم. ولأهمية هذا الطريق، ودلالته على صدق الأنبياء، أكثر الشيخ رحمه الله من إيراده في كتبه. انظر: الجواب الصحيح؛ فقد عقد فصلاً كاملاً في ذلك 6387-425. وشرح الأصفهانية 2492-496، 500. وانظر ما سبق في كتاب النبوات، ص: 239-248، 596، 612-617، 618-621، 783-786. 4 ما بين المعقوفتين مكرّر في ((خ)) .

وقومه؛ وكما فعل بمن كذّب محمداً؛ من قومه قريش، ومن سائر العرب، وسائر الأمم غير العرب؛ وكما فعل [بمن] 1 نصر أنبياءه وأتباعهم؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ} 2. وقال: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا في الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَومَ يَقُومُ الأَشْهَاد} 3. وقال تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ القُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيد وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتهُم الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيب} 4 وقال تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قومُ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيتُ للكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِير} 5. وقال تعالى: {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا في الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [كَانُوا أَشَدَّ] 6 مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا [السُّوْأَى] 7 أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ} 8.

_ 1 في ((خ)) : من. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 سورة الصافات، الآيات 171-173. 3 سورة غافر، الآية 51. 4 سورة هود، الآيتان 100-101. 5 سورة الحج، الآية 44. 6 في ((خ)) : كانوا هم أشدّ. 7 رسمت في ((م)) ، و ((ط)) : السوء. 8 سورة الروم، الآيتان 9-10.

وقال تعالى: {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا في الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ [كَانَ] 1 عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارَاً في الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ وَاق ذَلِكَ [بِأَنَّهُمْ] 2 كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيّ شَدِيدُ العِقَابِ} 3. وقال تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ والأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوه وَجَادَلُوا بِالبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَاب} 4. وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا في الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثارَاً في الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُون فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ [بِالبَيِّنَاتِ] 5 فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ العِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا [بِهِ] 6 يَسْتَهْزِئُونَ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا [قَالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ [يَكُ] 7 يَنْفَعُهُمْ إِيْمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا] 8 سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ في عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكَافِرُون} 9. وقال تعالى: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيَّاً وَلا

_ 1 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 2 في ((خ)) : بأنه. 3 سورة غافر، الآيتان 21-22. 4 سورة غافر، الآية 5. 5 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 6 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) . 7 في ((خ)) رسمت: يكن. 8 ما بين المعقوفتين مكرّر في ((خ)) . 9 سورة غافر، الآيات 82-85.

نَصِيراً سُنَّة اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً} 1. وقال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُورَاً اسْتِكْبَارَاً في الأَرْضِ وَمَكْر السَّيِّءِ وَلا يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلاً} 2. وقال تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذَاً لا يَلْبَثُونَ [خِلافَكَ] 3 إِلاَّ قَلِيلاً} 4. [وقال تعالى] 5: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَن الَّذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذَاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئَاً قَلِيلاً إِذَاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وَضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَينَا نَصِيرَاً} 6. وقد قيل: آية الحاقة7، وآية الشورى8 تُبيِّن أنه لو افترى عليه [لعاقبه9] 10، فهذه سنته في الكاذبين.

_ 1 سورة الفتح، الآيتان 22-23. 2 سورة فاطر، الآيات 42-43. 3 في ((خ)) : خلفك. 4 سورة الإسراء، الآية 76. 5 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 6 سورة الإسراء، الآيات 73-75. 7 قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيل لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِين فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [سورة الحاقة، الآيات 44-47] . 8 قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [سورة الشورى، الآية 24] . 9 انظر تفسير ابن كثير 4114-117. 10 في ((ط)) : لعاقبة.

وحقيقة الاستدلال بسنته وعادته: هو اعتبار الشيء بنظيره؛ وهو التسوية بين المتماثلين، والتفريق بين المختلفين؛ وهو الاعتبار المأمور به في القرآن؛ كقوله تعالى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ في فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقَاتِلُ في سَبِيل اللهِ وَأُخْرَى كَافِرةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ العَينِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاء إِنَّ في ذَلِكَ لَعِبرَةً لأُولِي الأَبْصار} 1، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ في قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولي الأَبْصَار} 2، وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ في قَصَصِهِمْ عِبْرة لأُولي الأَلْبَابِ} 3. وإنما تكون العبرة [به] 4 بالقياس والتمثيل؛ كما قال ابن عباس في دية الأصابع: هنّ سواء5، واعتبروها بدية الأسنان.

_ 1 سورة آل عمران، الآية 13. 2 سورة الحشر، الآية 2. 3 سورة يوسف، الآية 111. 4 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 5 أخرجه عن ابن عباس: البيهقي في السنن الكبرى 893، كتاب الديات، باب الأصابع كلها سواء. وأخرجه أبو داود عن ابن عباس يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "الأصابع سواء، والأسنان سواء، الثنية والضرس سواء، هذه وهذه سواء". سنن أبي داود 2494، كتاب الديات، باب ديات الأعضاء. وأخرجه البخاري في صحيحه - مختصراً - 62526-2527، كتاب الديات، باب دية الأصابع. والترمذي في جامعه 413-14، كتاب الديات، باب ما جاء في دية الأصابع. وابن ماجه في سننه 2885، كتاب الديات، باب دية الأسنان ودية الأصابع. والدارمي في سننه 2194، كتاب الديات، باب في دية الأصابع. وانظر المغني لابن قدامة 12132، 148-151.

فإذا عرفت قصص الأنبياء، ومن اتبعهم، ومن كذَّبهم، وأنَّ متبعيهم كان لهم النجاة [والعاقبة] 1 والنصر والسعادة، [ولمكذّبهم] 2 الهلاك والبوار، جعل الأمر في المستقبل مثلما كان في الماضي؛ فعلم أنّ من صدّقهم كان سعيداً، ومن كذَّبهم كان شقياً. وهذه [سنة الله] 3 وعادته. ولهذا يقول سبحانه في تحقيق عادته وسنته، وأنه لا ينقضها ولا يبدلها: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ في الزُّبُر} 4؛ يقول: فإذا لم يكونوا خيراً منهم، فكيف ينجون من العذاب، مع مماثلتهم لهم، هذا بطريق الاعتبار والقياس، ثم قال: {أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} : أي معكم خبر من الله بأنه لا يعذبكم؟؛ فنفى الدليلين: العقلي، والسمعي، ثم ذكر قولهم: نحن جميعٌ منتصر، وإنَّا نغلب من يغالبنا، فقال تعالى: {سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُر} 5، وهذا ممّا [أنبأ به] 6 من الغيب في حال ضعف الإسلام، واستبعاد عامة الناس ذلك7، ثم كان كما أخبر.

_ 1 في ((م)) ، و ((ط)) : العافية. 2 في ((م)) ، و ((ط)) : ولمكذّبيهم. 3 في ((خ)) : الله سنة - تقديم وتأخير -. والمثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 سورة القمر، الآية 43. 5 سورة القمر، الآية 45. 6 في ((م)) ، و ((ط)) : أنبأه. 7 نقل الطبري بسنده عن عكرمة أن عمر قال: لما نزلت: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ} جعلتُ أقول: أيّ جمع سيهزم؟ فلما كان يوم بدر رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع، ويقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} تفسير الطبري 27108. وكذلك نقله ابن كثير عن ابن أبي حاتم بسنده إلى عكرمة، وفيه أن عمر رضي الله عنه قال في آخره: فعرفت تأويلها يومئذ. تفسير ابن كثير 4266. وروى البخاري في صحيحه عن يوسف بن ماهك قال: إني عند عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها إذ قالت: (لقد أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بمكة وإني لجارية ألعب: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} . صحيح البخاري 41846، كتاب التفسير، باب: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} .

وقد قال للمؤمنين في تحقيق سنته وعادته: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيب} 1، وقال لمحمد: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} 2، وقال: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُون أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} 3، وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَة كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} 4. وفي الصحيحين: عن [أبي هريرة] 5 [رضي الله عنه] 6، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لتركبنّ سُنَنَ من كان قبلكم حذو القذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: نعم"7.

_ 1 سورة البقرة، الآية 214. 2 سورة فصلت، الآية 43. 3 سورة الذاريات، الآيتان 52-53. 4 سورة البقرة، الآية 119. 5 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 6 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((ط)) . وفي ((م)) : صلى الله عليه وسلم. 7 الحديث أخرجه البخاري عن أبي هريرة، وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما 31274، كتاب الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل. مع اختلاف في ألفاظه. وكذلك أخرجه في 62669، كتاب الاعتصام، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لتتبعن سنن من كان قبلكم". وأخرجه مسلم 42054، كتاب العلم، باب اتباع سنن اليهود والنصارى. وابن ماجه في سننه 21422، كتاب الفتن، باب افتراق الأمم. وأحمد في المسند 2327، 450، 511، 527، 384، 89، 94.

وفي الصحيحين: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليأخذن أمتي ما أخذ الأمم قبلها شبراً بشبر، وذراعاً بذراع. قالوا: يا رسول الله! فارس والروم؟ قال: ومن النَّاس إلا هؤلاء"1. وفي السنن: لما قال له بعض أصحابه: "اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. قال: الله أكبر قلتم كما قال [قوم] 2 موسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة. ثم قال: إنه السنن لتركبن سنن من كان قبلكم" 3. وقال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا في الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ} 4. ولهذا احتج من احتج بسنة الله وعادته في مكذبي الرسل5؛ كقول

_ 1 أخرجه البخاري عن أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة رضي الله عنهما، 62669، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لتتبعن سنن من كان قبلكم"، مع اختلاف في الألفاظ. وأخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه 42054، كتاب العلم، باب اتباع سنن اليهود والنصارى. 2 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 3 أخرجه الترمذي في جامعه 4475، كتاب الفتن، باب ما جاء: "لتركبن سنن من كان قبلكم"، وقال: حسن صحيح. وأحمد في المسند5218. وابن حبان (الإحسان في ترتيب صحيح ابن حبان 8248) . والحاكم في المستدرك 4455، وقال: صحيح، ووافقه الذهبي. 4 سورة آل عمران، الآية 137. 5 كأنّ الشيخ رحمه الله يُشير إلى احتجاج عثمان بن عفان رضي الله عنه بهذه الآية؛ وهو ما أورده ابن كثير عن ابن أبي حاتم بسنده إلى ابن أبي ليلى الكندي، قال: كنت مع مولاي أمسك دابته، وأحاط الناس بعثمان بن عفان إذ أشرف علينا من داره فقال: {وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} ، يا قوم لا تقتلوني، إنكم إن قتلتموني كنتم هكذا. وشبّك بين أصابعه. تفسير ابن كثير 2457.

شعيب: {ويَا قَوم لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلَ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَومَ صَالِح وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيد} 1. وقال مؤمن آل فرعون: {يَا قَومِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ مِثْلَ دَأبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمَاً لِلْعِبَاد} 2. وقال تعالى: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} 3. معنى الدأب والدأب: العادة في ثلاثة مواضع4، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ ولا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئَاً وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّار كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ العِقَاب} 5. قال ابن قتيبة6 وغيره7: الدأب: العادة، ومعناه: كعادة آل فرعون، يريد كفر اليهود8 كلّ فريق بنبيّهم.

_ 1 سورة هود، الآية 89. 2 سورة غافر، الآيتان 30-31. 3 سورة آل عمران، الآية 11. وكذلك سورة الأنفال في الآيتين 52، 54. 4 في سورة آل عمران، الآية 10، وفي سورة الأنفال، الآيتان 52، 54، وفي سورة غافر، الآية 31. 5 سورة آل عمران، الآيتان 10-11. 6 هو عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، أبو محمد. من أئمة الأدب، ومن المصنفين المكثرين. ولد ببغداد، وسكن الكوفة، ثم ولي قضاء الدينور مدة، فنسب إليها، وتوفي ببغداد. وله كتب كثيرة مثل: تأويل مختلف الحديث، وعيون الأخبار، ومشكل القرآن، وتفسير غريب القرآن. ولد سنة 213، وتوفي سنة 276 ?. انظر: سير أعلام النبلاء 13296. والأعلام 4137. 7 قال ابن الأنباري: والكاف في {كدأب} : متعلقة بفعل مضمر، كأنه قال: كفرت اليهود ككفر آل فرعون. زاد المسير 1355. 8 زاد المسير 1355. وقال ابن قتيبة بعد هذه العبارة: ككفر من قبلهم. وهذا المعنى الأول.

وقال الزجاج1: هو الاجتهاد، معناه: أي دأب هؤلاء، وهو اجتهادهم في كفرهم وتظاهرهم على النبي، كتظاهر آل فرعون على موسى2. وقال عطاء3، والكسائي4، وأبو عبيدة5: كسنّة آل فرعون6.

_ 1 هو أبو إسحاق إبراهيم بن محمد السري الزجاج البغدادي الإمام، نحوي زمانه. له تآليف جمة، وكان من ندماء المعتضد، ومن أهل الفضل والدين المتين. توفي سنة 311 ?. انظر: الفهرست 90-91. وتاريخ العلماء النحويين ص 38-40. وسير أعلام النبلاء 14360. 2 انظر زاد المسير 1355، وهذا المعنى الثاني. 3 هو عطاء بن أبي رباح القرشي، مولاهم. من كبار التابعين، كان ثقة فقيهاً عالماً كثير الحديث. نشأ بمكة، وفاق أهلها في الفتوى. توفي سنة 114 ?. انظر: سير أعلام النبلاء 578-88. والبداية والنهاية 9306-309. وتهذيب التهذيب 7199-203. والأعلام 4235. 4 هو علي بن حمزة بن عبد الله الأسدي، مولاهم الكوفي، الملقب بالكسائي. شيخ القراءة والعربية. كان من أعلم الناس بالنحو، وواحدهم في الغريب، وهو مؤدب الرشيد وابنه الأمين. توفي سنة 189 ?. انظر: سير أعلام النبلاء 9131-134. وتهذيب التهذيب 7313-314. وشذرات الذهب 1321. والأعلام 4283. 5 هو معمر بن المثنى التميمي، مولاهم البصري. الإمام، العلامة، البحر، النحوي، صاحب التصانيف. ولم يكن صاحب حديث، وإنما له علم باللسان وأيام الناس. قال عنه الجاحظ: (لم يكن في الأرض أعلم بجميع العلوم منه، وكان أباضياً شعوبياً) توفي سنة 209، أو 210 ?. انظر: سير أعلام النبلاء 9445-447. وتهذيب التهذيب 10246-248. وشذرات الذهب 224-25. والأعلام 7272. 6 انظر: تفسير البغوي 1281. وتفسير ابن عطية 890-91.

وقال النضر بن شميل1: "كعادة آل فرعون2؛ يريد عادة هؤلاء الكفار في تكذيب الرسل وجحود الحق كعادة آل فرعون". وقال طائفة3: "نظم الآية: إنّ الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم عند حلول النقمة والعقوبة، مثل آل فرعون، وكفار الأمم الخالية أخذناهم فلن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم". وفي تفسير أبي روق4: عن الضحاك5، عن ابن عباس: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} : قال: كصنيع آل فرعون6.

_ 1 هو النضر بن شميل بن خَرَشَة بن يزيد المازني التميمي، أبو الحسن. أحد الأعلام بمعرفة أيام العرب ورواية الحديث وفقه اللغة. ولد بمرو، وانتقل إلى البصرة مع أبيه سنة 128 وأصله منها، فأقام زمناً، وعاد إلى مرو، فولي قضاءها، واتصل بالمأمون، فأكرمه وقربه، وتوفي بمرو. له كتب، منها: الصفات في صفات الإنسان والبيوت والجبال والإبل والغنم والطير والكواكب والزروع. توفي سنة 203 ?. انظر: سير أعلام النبلاء 9328. والأعلام 833. 2 انظر: تفسير البغوي 1281. 3 انظر: تفسير الطبري 3190. وتفسير ابن كثير 1349. 4 عطية بن الحارث، أبو روق الهمداني الكوفي، صاحب التفسير، صدوق، من الخامسة. تقريب التهذيب 1677. 5 هو الضحاك بن مزاحم الهلالي، أبو محمد صاحب التفسير. كان من أوعية العلم، وليس بالمجود لحديثه. وهو صدوق في نفسه. توفي سنة 102?، وقيل: بعدها. انظر: سير أعلام النبلاء 4589-600. وتهذيب التهذيب 4453-454. والبداية والنهاية 9223. وشذرات الذهب 1124-125. والأعلام 3215. 6 انظر: تفسير الطبري3190. وتفسير البغوي 1281. وتفسير ابن كثير 1349 وفتح القدير 1322.

قال ابن أبي [حاتم] 1: وروي عن مجاهد، والضحاك، وأبي مالك، وعكرمة، نحو ذلك2. قال: وروي عن الربيع بن أنس3 كشبه آل فرعون4. وعن السدي قال: ذكر الذين كفروا كمثل الذين من قبلهم في [التكذيب] 5 والجحود6. قلت: فهؤلاء جعلوا الشبيه في العمل؛ فإن لفظ الدأب يدلّ عليه: قال الجوهري7: دأب فلان في عمله، أي: جدَّ، وتعب دَأْبَاً ودُؤوباً، فهو دَئِبٌ. وأدأبتُه أنا. والدائبان: الليل والنهار. قال: والدَّأْبُ يعني بالتسكين: العادة والشأن، وقد يُحَرَّكُ8.

_ 1 في ((ط)) : حاحم. 2 انظر: تفسير الطبري3190. وتفسير البغوي 1281. وتفسير ابن كثير 1349 وفتح القدير 1322. 3 هو الربيع بن أنس بن أبي زياد البكري الخراساني المروزي. كان عالم مرو في زمانه، وقد سجن ثلاثين سنة. توفي سنة 139 ?. انظر: سير أعلام النبلاء 6169-170. وتهذيب التهذيب 3238-239. 4 انظر: تفسير الطبري 3190. وتفسير ابن كثير 1349. وفتح القدير 1322. 5 في ((ط)) : اتكذيب. 6 تفسير الطبري 3190-191. 7 هو إسماعيل بن حماد التركي الجوهري، أبو نصر. إمام اللغة. كان يحب الأسفار والتغريب. مات متردياً من سطح داره سنة 393 ? لأنه حاول الطيران، وصنع جناحين من خشب، وصعد داره، فخانه اختراعه، فسقط إلى الأرض قتيلاً. انظر: سير أعلام النبلاء 1780-82. ولسان الميزان 1400-402. وشذرات الذهب 3142-143. والأعلام 1313. 8 انظر الصحاح للجوهري 1123-124.

قال الفراء1: أصله من دأبت، إلا أن العرب حوّلت معناه إلى الشأن2. قلت: الزَّجَّاج جعل ما في القرآن من الدأب، الذي هو الاجتهاد3. والصواب: ما قاله الجمهور؛ أنَّ الدأب - بالتسكين -: هو العادة، وهو غير الدأب بالتحريك؛ إذا زاد اللفظ زاد المعنى، والذي في القرآن مُسَكَّنٌ، ما علمنا أحداً قرأه بالتحريك، وهذا معروف في اللغة؛ يقال: فلانٌ دَأْبُهُ كذا وكذا: أي هذا عادته وعمله اللازم له، وإن لم يكن في ذلك تعبٌ واجتهاد، ومنه قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ دَائِبَيْنِ} 4، والدائب نظير الدائم، والباء والميم متقاربتان؛ ومنه: اللازب واللازم. قال ابن عطية5: "دائبين، أي: متماديين، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لصاحب الجمل الذي بكى وأجهش إليه: "إنَّ هذا الجمل شكى إلي أنك تُجيعه وتُدئبُه6"7؛ أي

_ 1 هو يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور الأسدي، مولاهم الكوفي، النحوي العلامة، صاحب التصانيف، أبو زكريا. له مشاركات في علوم كثيرة. توفي سنة 207 ?. انظر: سير أعلام النبلاء 10118-121. والبداية والنهاية 10261. وتهذيب التهذيب 11212-213. والأعلام 8145-146. 2 انظر: الصحاح للجوهري1123-124. ولسان العرب1369. وانظر: تفسير الطبري 3191 - ونقله عن السدي -. والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير 295. 3 انظر: زاد المسير 1355. وانظر ما سبق، ص 1185 من هذا الكتاب. 4 سورة إبراهيم، الآية 33. 5 هو أبو محمد عبد الحق بن الحافظ أبي بكر غالب بن عطية المحاربي الغرناطي. كان إماماً في الفقه وفي التفسير وفي العربية، قوي المشاركة، ذكياً فطناً مدركاً، من أوعية العلم. ولد سنة 480 هـ. وتوفي سنة 541 هـ، وقيل: 542 هـ. سير أعلام النبلاء 19587-588. 6 في تفسير ابن عطية: وتديبه. وقال ابن الأثير عند شرح غريب هذا الحديث: "أي تكده وتتعبه، دأبَ يدأبُ دأباً ودُؤوباً وأدأبته أنا". النهاية في غريب الحديث 295. 7 أخرجه الإمام أحمد في المسند 1204، وكذلك في ص 205. وأبو داود في سننه 349-50، كتاب الجهاد، باب ما يؤمر به من القيام على الدواب والبهائم.

تديمه في العمل [له] 1 والخدمة2". قال3: "وظاهر الآية أن معناه دائبين في الطلوع والغروب، وما بينهما من المنافع للناس التي لا تحصى كثيرة4"5. قال6: "وحكى الطبري عن مقاتل بن حيان يرفعه إلى ابن عباس أنه قال: معناه دائبين في طاعة الله" 7. قال8: "وهذا قول إن كان يراد به أن الطاعة: [انقيادهما للتسخير] 9، فذلك موجود في [طاعة] 10 قوله: [و] 11 {سخَّر} . وإن كان يراد أنها طاعة [مقدورة] 12، كطاعة العبادة من البشر، فهذا [بعيد] 13" 14.

_ 1 في ((خ)) : والشرك. بدلاً من: له. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 في تفسير ابن عطية: في الخدمة والعمل. 3 يعني ابن عطية في تفسيره. 4 في تفسير ابن عطية: كثرة. 5 تفسير ابن عطية 1086. 6 القائل هو ابن عطية. 7 تفسير ابن عطية 1086. وانظر تفسير الطبري 13225. 8 القائل هو ابن عطية. 9 في تفسير ابن عطية: انقيادٌ منهما في التسخير. 10 ما بين المعقوفتين لا يُوجد في تفسير ابن عطية. وحذفه أولى. 11 لا توجد الواو في تفسير ابن عطية. 12 في تفسير ابن عطية: مقصودة. 13 في تفسير ابن عطية: جيد. وقال محققه: "وفي نسخة: بدل جيد: بعيد. وهذا ما تقتضيه المقابلة، فلعل في هذه النسخة تصحيفاً". 14 تفسير ابن عطية 1086.

قلت1: ليس هذا ببعيد، بل عليه دلت الأدلة الكثيرة، كما هو مذكور في مواضع2. وقالت طائفة، منهم البغوي: وهذا لفظه دائبين يجريان فيما يعود إلى مصالح [عباد] 3 الله لا يفتران. قال ابن عباس: دؤوبهما في طاعة الله4. ولفظ أبي الفرج: "دائبين في إصلاح ما يصلحانه من النبات وغيره، لا يفتران. قال: ومعنى الدؤوب: مرور [الشيء على] 5 عادة جارية فيه"6. قلت: وإذا كان دأبهم هو عادتهم وعملهم الذي كانوا مصرين عليه، فالمقصود أن هؤلاء أشبهوهم في العمل، فيشبهونهم في الجزاء، فيحيق بهم ما حاق بأولئك. هذا هو المقصود ليس المقصود التشبيه في [الجزاء كقوله] 7: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئَاً

_ 1 القائل هو شيخ الإسلام رحمه الله تعالى. 2 قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [سورة الحج، الآية 18] . وفي الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتدري أين تذهب هذه الشمس"؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "فإنها تذهب فتسجد تحت العرش، ثم تستأمر، فيوشك أن يقال لها: ارجعي من حيث جئت". الحديث أخرجه البخاري في صحيحه كتاب التفسير، باب في تفسير قوله تعالى {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} ، حديث رقم 4428. ومسلم في صحيحه 1138-139، كتاب الإيمان، باب بيان الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان. 3 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 4 انظر تفسير البغوي 336. 5 في ((خ)) : الشيء في على. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 6 زاد المسير 4364. 7 في ((خ)) : الجزاء مقصود كقوله. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّار [كَدَأْبِ] 1 آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ العِقَاب} 2؛ أي فهؤلاء لا [تدفع] 3 عنهم أموالهم وأولادهم عذاب الله إذ جاءهم، كدأب آل فرعون. وكذلك قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا المَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيق ذَلكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ للعَبِيد} 4، [إلى قوله:] 5 {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ} 6. فهذا كله يقتضي التشبيه في العذاب. وأما الطائفة الأخرى: فجعلوا الدأب نفس فعل الرب بهم، وعقوبته لهم: قال مكي بن أبي طالب7: "الكاف [في] 8 (كدأب) في [مواضع] 9

_ 1 في ((خ)) رسمت: كذاب. 2 سورة آل عمران، الآيتان 10-11. 3 في ((خ)) : يدفع. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 سورة الأنفال، الآيتان 50-51. 5 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 6 سورة الأنفال، الآية 54. 7 مكي بن أبي طالب، حموش بن محمد بن مختار الأندلسي القيسي، أبو محمد. مقرئ، عالم بالتفسير والعربية، من أهل القيروان. ولد فيها، وطاف في بعض بلاد المشرق، ثم سكن قرطبة، وخطب وأقرأ بجامعها، وتوفي فيها. له كتب كثيرة، منها: مشكل إعراب القرآن، والكشف عن وجوه القراءات وعللها. ولد سنة 355، وتوفي سنة 437 ?. انظر: سير أعلام النبلاء 17591. والأعلام 7286. 8 في زاد المسير: من. 9 في زاد المسير: موضع.

نصب نعت لمحذوف تقديره: [غيّرناهم] 1 [كما] 2 غيّروا تغييراً، مثل عادتنا في آل فرعون. ومثلها الآية الأولى، إِلاَّ أنّ الأولى للعادة في العذاب، تقديره: فعلنا بهم ذلك فعلاً مثل عادتنا في آل فرعون"3. وقد جمع بعضهم بين المعنيين، فقال أبو الفرج: " {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} : أي كعادتهم، والمعنى: [كذّب هؤلاء كما] 4 كذَّب أولئك، فنزل بهم العذاب، كما نزل بأولئك" 5. قلت: الدأب: العادة، وهو مصدر يُضاف إلى الفاعل تارة، وإلى المفعول أخرى، فإذا أضيف إلى الفاعل، كان المعنى: كفعل آل فرعون، وإذا أضيف إلى المفعول، كان المعنى: كعادتهم في العذاب والمصائب التي نزلت بهم؛ يقال: [هذه] 6 عادة هؤلاء لما فعلوه، ولما يصيبهم، وهي عادة الرب وسنته فيهم. والتحقيق: أنّ اللفظ يتناول الأمرين [جميعاً] 7. وقد تقدم عن الفراء والجوهري: أنَّ الدأب: العادة والشأن8، وهذا كقوله: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا في الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِين} 9:

_ 1 في زاد المسير: غيّرنا بهم. 2 في زاد المسير: لمّا. 3 زاد المسير 3371. 4 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، و ((م)) ، و ((ط)) . وهو من زاد المسير. 5 زاد المسير 3371. 6 في ((ط)) : هذا. 7 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 8 انظر: الصحاح للجوهري 1123. 9 سورة آل عمران، الآية 137.

روى ابن أبي حاتم بالإسناد المعروف عن مجاهد: " {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} : [من] 1 الكفار، والمؤمنين [في] 2 الخير والشر"3. وعن أبي إسحاق4: "أي: قد مضت مني وقائع نقمة في أهل التكذيب لرسلي والشرك [بي] 5 عاد، وثمود، وقوم لوط، وأصحاب مدين، [فَرُؤُوا6 مثلات] 7 قد مضت [مني] 8 فيهم" 9؛ فقد فسّرت السنن: بأعمالهم وبجزائهم. قال البغوي: "معنى الآية: قد مضت، وسلفت مني [سنن] 10 فيمن كان قبلكم من الأمم الماضية الكافرة بإمهالي [واستدراجي] 11 إياهم، حتى يبلغ الكتاب فيهم أجلي الذي أجلته لإهلاكهم وإدالة أنبيائي [عليهم] 12، {فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} : أي

_ 1 في تفسير الطبري: في. 2 في تفسير الطبري: و. 3 تفسير الطبري 4100. وانظر: تفسير البغوي 1354. 4 هو عمرو بن عبد الله، من بني ذي يحمر بن السبيع، الهمداني الكوفي، أبو إسحاق السبيعي. من أعلام التابعين الثقات. كان شيخ الكوفة في عصره. أدرك علياً، ورآه يخطب، وقال: رأيته أبيض الرأس واللحية. وكان من الغزاة المشاركين في الفتوح. عمي في كبره. ولد سنة 33، وتوفي سنة 127 ?. انظر: سير أعلام النبلاء 5392. والأعلام 581. 5 في تفسير الطبري: في. 6 في ((م)) ، و ((ط)) : فروا. 7 في تفسير الطبري: (فسيروا في الأرض تروا مثلات) . 8 ما بين المعقوفتين ليس في تفسير الطبري. 9 تفسير الطبري 4100. 10 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، و ((م)) ، و ((ط)) . وهو في تفسير البغوي. 11 في ((ط)) : واستندراجي. 12 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، و ((م)) ، و ((ط)) . وهو في تفسير البغوي.

[آخر] 1 المكذبين [منهم] 2. قال: وهذا في [حزب واحد] 3، يقول [عزّ وجلّ] 4: فأنا أمهلهم وأستدرجهم حتى يبلغ أجلي الذي [أجلت من] 5 نصرة النبي [صلى الله عليه وسلم] 6 وأوليائه، وهلاك أعدائه) 7. قلت: ونظير هذا: قوله تعالى: { [أَفَلَمْ] 8 يَسِيرُوا في الأَرْضِ فَتَكون لَهُمْ قُلُوبٌ [يَعْقِلُونَ] 9 بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي في الصُّدُور} 10، وقوله: {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا في الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ [كَانُوا] 11 أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} 12، وقوله في الآية الأخرى: {كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثارَاً في الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُون فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ العِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ فَلَمَّا

_ 1 عند البغوي: اخرنا من. 2 ما بين المعقوفتين ليس في تفسير البغوي. 3 عند البغوي: حرب أحد. 4 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، و ((م)) ، و ((ط)) . وهو في تفسير البغوي. 5 عند البغوي: أجلته في. 6 زيادة من تفسير البغوي. 7 تفسير البغوي 1354. 8 في ((خ)) : أو لم. 9 في ((خ)) : يعللون. 10 سورة الحج، الآية 46. 11 ما بين المعقوفتين ساقط من ((م)) ، و ((ط)) . 12 سورة الروم، الآية 9.

رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيْمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ في عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكَافِرُون} 1. فهذا كلّه يُبيِّن أن سنة الله وعادته مطردة، لا تنتقض في إكرام مصدقي الرسل، وإهانة مكذّبيهم2.

_ 1 سورة غافر، الآيات 82-85. 2 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو يردّ على الفلاسفة في علومهم الفلسفية، مبيّناً أن العاديات التي هي عامة علومهم الكلية منتقضة. أما سنة الله سبحانه وتعالى فلا تنتقض بحال من الأحوال، يقول رحمه الله: "ولكن العادة التي لا تنتقض بحال: ما أخبر الله أنها لا تنتقض، كقوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلا مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب، 60-62] . وقال: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الفتح، 22-23] . وقال: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر، 42-43] . فهذه سنة الله وعادته في نصر عباده المؤمنين إذا قاموا بالواجب على الكافرين، وانتقامه وعقوبته للكافرين الذين بلغتهم الرسل بعذاب من عنده أو بأيدي المؤمنين هي سنة الله التي لا توجد منتقضة قط. ولما قال قبل هذا: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} [الأحزاب، 38] لم يقل هنا ولن تجد؛ لأن هذه سنة شرعية لا ترى بالمشاهدة، بل تعلم بالوحي بخلاف نصره للمؤمنين، وعقوبته للمنذَرين، فإنه أمر مشاهد، فلن يوجد منتقضاً". الرد على المنطقيين ص 390.

فصل آيات الأنبياء يلزم من وجودها وجود الأنبياء

فصل آيات الأنبياء يلزم من وجودها وجود الأنبياء آيات الأنبياء كما قد عُرف1 هي مستلزمة لثبوت النبوة، وصدق المخبر بها، والشاهد بها؛ فيلزم من وجودها وجود النبوة، وصدق المخبر بها، ويمتنع أن تكون مع التكذيب بها، وكذب المخبر بها؛ فلا يجوز وجودها لمن كذّب الأنبياء، ولا لمن أقرّ بنبوة كذّاب؛ سواء كان هو نفسه المدعي للنبوة، أو ادعى نبوّة غيره. وهذان الصنفان هما المذكوران في قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قَال أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ الله} 2. وهؤلاء كلهم من أظلم الكاذبين، كما قال: {فَمَنْ أَظْلَم مِمَّن كَذبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيسَ في جَهَنَّمَ مَثوَى للكَافِرِين} 3، ثم قال: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلئِكَ هُمُ المُتَّقُون} 4. فالمخبر بالنبوّة مع ثبوتها هو الذي جاء بالصدق وصدّق به، والمخبر بها مع انتفائها هو الذي كذب على الله، والمكذّب بها مع ثبوتها هو الذي كذّب بالحق لما جاءه.

_ 1 انظر ما سبق في هذا الكتاب: ص 187، 249، 869، 886، 897، 898، 929، 942، 989، 1064، 1095. 2 سورة الأنعام، الآية 93. 3 سورة الزمر، الآية 32. 4 سورة الزمر، الآية 33.

الدليل مستلزم للمدلول فدلائل النبوة هي مستلزمة لصدق من أثبت نبوة هي نبوّة حق، يمتنع أن تكون لمن نفى هذه، أو أثبت نبوّة ليست بنبوة. وكذلك كل دليل على إثبات الصانع، دلّ على صدق المؤمنين به، المخبرين بما دل عليه الدليل، وعلى كذب من نفى ذلك. ويمتنع أن تكون تلك الأدلة دالّة على نفي ذلك، أو على صدق الخبر بنفي ذلك، أو على صدق من جعل صفات الرب ثابتة لغيره. وما دلّ على أن هذه الدار ملك لزيد، يدلّ على صدق المخبر بذلك، وكذب النافي له، ويمتنع أن يدل مع انتفاء الملك. وما دلّ على علم شخص وعدله، فإنه مستلزم لذلك، ولصدق المخبر به. وكذلك النافي له يمتنع أن يدلّ على صدق النافي، أو يدل مع انتفاء العلم والعدل؛ فإنّ ما استلزم ثبوت شيء وصدقه، استلزم كذب نقيضه، وكان عدم اللازم مستلزماً لعدم الملزوم؛ فما كان مستلزماً لثبوت النبوة، وصدق المخبر بها، كان مستلزماً لكذب من نفاها. فامتنع أن يكون موجودا مع من نفاها، وامتنع أن يكون موجوداً مع انتفائها؛ فإنّ ذلك يستلزم الجمع بين النقيضين. فدليل كل مدلول عليه يمتنع ثبوته مع عدم المدلول عليه؛ فإنه مستلزم لثبوته. فلو وجد مع عدمه، للزم الجمع بين النقيضين. التلازم بين نبوة العين وجنس النبوة فما كان دليلاً على نبوة شخص، فهو دليل على جنس النبوة؛ فإن نبوة الشخص لا [تثبت] 1 إلا مع ثبوت جنس النبوة؛ فيمتنع وجود ذلك الدليل مع عدم النبوة.

_ 1 في ((خ)) : يثبت. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

وثبوت أحد النقيضين مستلزم لنفي الآخر؛ فثبوت صدق المخبر بثبوتها، مستلزم لكذب المخبر بانتفائها. دليل عقلي فهذا أمر عقلي مقطوع به، معلوم بالبديهة بعد تصوره في جميع الأدلة؛ أدلة النبوة وغيرها1، فلا يجوز أن يكون ما دلّ على النبوة، وعلى صدق

_ 1 هذا دليل عقلي، يستخدمه الشيخ رحمه الله، وهو دليل الملازمة، كما سبق تعريفه ص 617-618. يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "إنه إذا كان صحة الشرع لا تعلم إلا بدليل عقلي، فإنه يلزم من علمنا بصحة الشرع علمنا بالدليل العقلي الدالّ عليه، ويلزم من علمنا بذلك الدليل العقلي علمنا بصحة الشرع. وهكذا الأمر في كل ما لا يعلم إلا بدليل. ويلزم أيضاً من ثبوت ذلك الدليل المعقول في نفس الأمر، ثبوت الشرع، ولا يلزم من ثبوت الشرع ثبوت ذلك الدليل ... والمتلازمان يلزم من ثبوت كل منهما ثبوت الآخر، ومن انتفائه انتفاؤه". درء تعارض العقل والنقل 5271. ويقول أيضاً: "جميع الأدلة ترجع إلى أن الدليل مستلزم للمدلول". الرد على المنطقيين ص 296. وقال رحمه الله أيضاً: "فمن المعلوم أن الدليل يجب طرده، وهو ملزوم للمدلول عليه، فيلزم من ثبوت الدليل ثبوت المدلول عليه، ولا يجب عكسه؛ فلا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول عليه. وهذا كالمخلوقات؛ فإنها آية للخالق، فيلزم من ثبوتها ثبوت الخالق، ولا يلزم من وجود الخالق وجودها. وكذلك الآيات الدالات على نبوة النبي. وكذلك كثير من الأخبار والأقيسة الدالة على بعض الأحكام، يلزم من ثبوتها ثبوت الحكم، ولا يلزم من عدمها عدمه؛ إذ قد يكون الحكم معلوماً بدليل آخر، اللهم إلا أن يكون الدليل لازماً للمدلول عليه، فيلزم من عدم اللازم عدم الملزوم. وإذا كان لازماً له أمكن أن يكون مدلولاً له؛ إذ المتلازمان يمكن أن يستدل بكل منهما على الآخر، مثل الحكم الشرعي الذي لا يثبت إلا بدليل شرعي، فإنه يلزم من عدم دليله عدمه". درء تعارض العقل والنقل 5269-270. وانظر استخدام شيخ الإسلام رحمه الله لدليل الملازمة هذا في إثبات التلازم بين العقل والنقل في: درء تعارض العقل والنقل 5136، 137، 150، 151، 268-272، 275، 8530-531، 1073، 120، 122-124، 128، 130، 132، 137، 139، 144، 148، 150، 196. والرد على المنطقيين ص 296-298، 348-349. والجواب الصحيح 65.

المخبر بها، وكذب المكذب بها، دليلاً للمكذب بها، ولا دليلاً مع انتفائها؛ كالمتنبي الذي يدعي النبوة ولا نبوة معه، فلا يتصور أن يكون معه ولا مع المصدق بنبوته شيء من دلائل النبوة. وأما كون دليل من دلائل النبوة مع المصدق بها كائناً من كان، فهذا حقّ، بل هذا هو الواجب. فمن صدّق بها بلا دليل، كان متكلماً بلا علم. فكلّ من صدّق بالنبوة بعلمٍ فمعه دليل من أدلتها. العلم الضروري والنظري وأخبار أهل التواتر بما جاءت به الأنبياء من الآيات: هو من أدلة ثبوتها؛ فكل من آمن بالرسول عن بصيرة، فلا بُدّ أن يكون في قلبه علمٌ بأنّه نبيّ حقّ؛ إمّا علمٌ ضروري1، أو علم نظريّ2 بدليل من الأدلة.

_ 1 العلم الضروري: هو ما علم الإنسان من غير نظر ولا استدلال. وقد قيل: ما لا يدخل عليه الشك والارتياب. وهو يحصل من أربعة أشياء: الأول: ما يعلمه الإنسان من حال نفسه؛ مثل الغم، والسرور، والصحة، والسقم، والقيام، والقعود، والهبوط، والصعود. ومنه: ما يعلمه بطريق العقل، وهو مثل علمه باستحالة اجتماع الضدين، وكون الجسم في مكانين، وأن الواحد أقل من الاثنين. ومنه: ما علمه بالحواس الخمس؛ وهي: السمع، والبصر، والشم، والذوق، واللمس. ومنه: ما يعلمه بأخبار التواتر، فيقع له به العلم ضرورة؛ وهو مثل إخباره بالبلاد النائية، والقرون الخالية، والرسل الماضية. وقولنا (ضرورة) : هو ما يلزمه العلم به ضرورة، لا يمكنه دفعه من نفسه بحال، ولا يمكنه إدخال الشك فيه) . التمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب 142-43. وانظر: التمهيد للباقلاني ص 26. ومجموع الفتاوى 276. 2 العلم النظري: هو ما حصل من طريق النظر والاستدلال.... وهو على ضربين: علم من طريق العقل، وعلم من طريق الشرع. فأما العلم الذي يحصل من طريق العقل، فهو مثل علمه بحدوث العالم، وإثبات محدثه، وتصديق الرسل عند ثبوت المعجزة. فأما الذي يحصل من طريق الشرع، فهو ما علمناه بالكتاب والسنة والإجماع، وقول واحد من الصحابة في إحدى الروايتين) . التمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب 142-43. وانظر: التمهيد للباقلاني ص 27. والتعريفات ص 310. ورسالة الفرقان بين الحق والباطل ضمن مجموعة الرسائل الكبرى 153.

والعلوم النظرية مع أدلّتها تبقى ضروريّة1، وقد تكون في نفس الأمر علوم ضرورية، ولا يمكنه التعبير عما يدلّ عليها؛ كالذي يجده الإنسان في نفسه ويعلمه من العلوم البديهية والضرورية وغير ذلك؛ فإنّ كثيراً من الناس لا يمكنهم بيان الأدلة لغيرهم على وجود ذلك عندهم. وإذا عُرف هذا، فقولنا: دلائل النبوة مختصة بالأنبياء لا تكون لغيرهم: له معنيان: أحدهما: أنّه لا يشاركهم فيها من يكذّب بنبوتهم، ولا من يدّعي نبوّة كاذبة. وهذا ظاهرٌ بَيِّنٌ؛ فإنّ الدليل على الشيء لا يكون دليلاً على وجوده وعلى عدمه، فلا يكون ما يدلّ على النبوة أو غيرها، وعلى صدق المخبر بذلك دليلاً على كذب المخبر بذلك، ولا دليلاً على النبوة مع انتفاء النبوة. والمعنى الثاني: أنها لا توجد إلا مع النبيّ.

_ 1 يقول شيخ الإسلام رحمه الله في موضع آخر: "المعقول الضروري الذي هو أصل العلوم النظرية موافق للأدلة الشرعية مصدق لها، لا مناقض معارض لها". درء تعارض العقل والنقل 5312. ويقول رحمه الله أيضاً: "النظريات لا تعارض الضروريات، بل ما عارضها كان من باب السفسطة". درء تعارض العقل والنقل 611.

فهذا إن أريد به أنها لا توجد إلا والنبوة ثابتة، فهو صحيح، وإن كانت مع ذلك دليلاً على نبيّ، فلا يمتنع أن يكون الشيء الواحد دليلاً على أمور كثيرة، لكن يمتنع أن يوجد مع انتفاء مدلوله. فما دلّ على النبوة قد يدلّ على أمور أخرى من أمور الرب تبارك وتعالى، لكن لا يمكن أن يدل مع انتفاء النبوة؛ أي مع كون النبوة المدلول عليها باطلة لا حقيقة لها، ولكن قد يدلّ مع موت النبي ومع غيبته؛ فإن موته وغيبته لا ينفي نبوته. وليس من شرط دليل النبي أن يكون [موجوداً] 1 في محل المدلول عليه، ولا في مكانه ولا زمانه. وقول من اشترط في آيات الأنبياء أن تكون مقترنة بالدعوى: في غاية الفساد والتناقض، كما قد بُسط2، لا سيما والآيات قد تكون مخلوقة [نائية] 3 عن النبي، وعن مكانه، وكذلك سائر الأدلة، لا سيّما ما يجري مجرى الخبر. فالأخبار الدالة على وجود المخبر به لا يجب أن تكون مقارنة للمخبر به؛ لا في محله، ولا زمانه، ولا مكانه. آيات الأنبياء شهادة من الله بنبوتهم وآيات الأنبياء: هي شهادة من الله، وإخبار منه بنبوتهم، فلا [يجب] 4 أن تكون في محلّ النبوة، ولا زمانها ولا مكانها، لكن يجوز ذلك؛ فلا يمتنع أن يكون الدليل في محل المدلول عليه، [ولا] 5 في زمانه، [ولا] 6 في

_ 1 في ((خ)) : وجود. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 وهم الأشاعرة. 3 في ((خ)) رسمت: ثابتة. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 في ((م)) ، و ((ط)) : تجب. 5 في ((م)) ، و ((ط)) : أو. 6 في ((م)) ، و ((ط)) : أو.

مكانه، لكن [يجوز] 1 ذلك فيه؛ فالإنسان قد تقوم به أمور تدل على بعض الأمور التي فيه، وقد [تُعلم] 2 أموره بخبر غيره، وببعض آثاره المنفصلة عنه. فإذا أريد بأن آيات الأنبياء مختصة بهم، وأنها لا تكون لغيرهم: أنّها لا تكون مع انتفاء النبوة المدلول عليها: فهذا صحيح؛ لأنه يستلزم الجمع بين النقيضين. وأما إذا أريد أنها لا توجد إلا في ذات النبي، أو مقترنة بخبره عن نبوته، أو في المكان الذي كان فيه، أو في الزمان: فهذا كله غلطٌ وخطأ ممّن ظنّه، وجهلٌ بَيِّنٌ بحقائق الأدلة، إن كان من الأدلة وآيات النبوة ما [يكون] 3 في ذات النبي، ويكون مقترناً بقوله: إني رسول الله، ويكون في المكان الذي هو فيه، وفي زمانه، فهذا يمكن، وهو الواقع؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم، بل وغيره من الأنبياء كان في نفس أقوالهم وأفعالهم وصفاتهم وأخلاقهم [وسيرهم] 4 أمور كثيرة تدل على نبوتهم5.

_ 1 في ((خ)) : يجب. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 في ((خ)) : يعلم. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 في ((خ)) تكون. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 في ((خ)) : وسترهم. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 انظر: الشفا للقاضي عياض 177-209. والجواب الصحيح لشيخ الإسلام 5437-482، 680، 365-380، 387. وشرح الأصفهانية 2472- 485، 492-499، 500-502. ودقائق التفسير 1159-164. وشرح الطحاوية 1141-154.

وكذلك لما قال: إنِّي رسول الله، [أتى] 1 مع ذلك بآيات دلّت على صدقه. وكذلك في مكانه وزمانه، ظهر من انشقاق القمر وغيره ما دلّ على نبوته. لكنّ آيات الأنبياء أعمّ من ذلك، كما أن دليل كلّ شيء أعمّ من أن يختص بمعنى المدلول وزمانه ومكانه. وبهذا يظهر خطأ كثير من الناس في عدم معرفتهم بجنس آيات الأنبياء، لعدم تحقيقهم جنس الأدلة والبراهين2. وإنّ خاصة الدليل: أنّه يلزم من تحقّقه تحقّق المدلول عليه فقط، سواء كان مقارناً للمدلول عليه، أو كان حالاً في محله، أو مجاوزاً لمحله، أو لم يكن كذلك. هل النبوة صفة ثبوتية أم لا؟ والنبوّة قد قال طائفة من الناس: إنّها صفة في النبي3.

_ 1 في ((خ)) : أي. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 قال شيخ الإسلام رحمه الله: "إن ما يعلم بالدليل إنما يعلم إذا علم أن الدليل مستلزم له ليكون دليلاً عليه، وهذه هي الآية والعلامة. وكذلك الاسم إنما يدل على المسمى إذا عرف أنه اسم له، وذلك مشروط بتصور المدلول عليه اللازم، وبأن هذا ملزوم له. ولهذا قيل: إن المقصود بالكلام ليس هو تعريف المعاني المفردة، لأن المعنى المفرد لا يفهم من اللفظ حتى يعرف أن اللفظ دال عليه، فلا بدّ أن يعرف أن هذا اللفظ موضوع لهذا المعنى حتى تعرف دلالتها عليه". درء تعارض العقل والنقل 8530. 3 والذين قالوا ذلك هم المعتزلة والفلاسفة. قال شيخ الإسلام رحمه الله عن المعتزلة: إنهم يقولون: "إن النبوة أو الرسالة جزاء على عمل متقدم، فالنبي فعل من الأعمال الصالحة ما استحق به أن يجزيه الله بالنبوة. وهؤلاء القدرية في شق، وأولئك الجهمية الجبرية في شق". منهاج السنة النبوية 215.

وقال طائفة: ليست صفة ثبوتية في النبي، بل [هي] 1 مجرد تعلق الخطاب الإلهي به2؛ يقول الرب: إني أرسلتك، فهي عندهم صفة إضافية كما يقولونه في الأحكام الشرعية إنها صفات إضافية للأفعال لا صفات حقيقية3.

_ 1 في ((م)) ، و ((ط)) : هو. 2 الذين قالوا ذلك هم الجهمية والأشعرية، ومن وافقهم، كما سيأتي بيان ذلك من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. وانظر من كتب الأشعرية: أصول الدين لعبد القاهر البغدادي ص 156-157. ونهاية الإقدام في علم الكلام للشهرستاني ص 462. وغاية المرام في علم الكلام للآمدي ص 317. ومن كتب شيخ الإسلام: منهاج السنة النبوية 2413-416، 5436-439. فالنبوة عندهم ليست صفة ثبوتية في النبي، بل هي صفة إضافية. وثمّة طامّة أوقعوا أنفسهم بها، حتى لا يُزيلوا صفة النبوة عن النبيّ بعد وفاته، وهي قولهم بأنّه حيّ في قبره حياة دنيوية. وقد أورد شيخنا د أحمد بن عطية الغامدي في مقدمته لكتاب (حياة الأنبياء) للبيهقي أن سبب قول الأشاعرة بحياة الأنبياء حقيقة بعد وفاتهم، هو ما يلزمهم على أصلهم الفاسد (العرض لا يبقى زمانين) ، فعلى هذا يلزم القول بفناء الروح. والقول بأن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس رسولاً الآن، ولكنه كان رسولاً، ففروا إلى القول بحياة الرسول صلى الله عليه وسلم في قبره حياة دنيوية، حتى لا يلزمهم هذا الأصل. وقد ردّ عليهم شيخنا فضيلة الدكتور أحمد عطية فأجاد وأفاد وفقه الله. انظر: ص 50-56 من الكتاب المذكور. وانظر المراجع التالية: الفصل لابن حزم175. وطبقات الشافعية للسبكي3406، 4130-133. وسير أعلام النبلاء 1796. والقصيدة النونية شرح ابن عيسى 2150-155. 3 قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "فمن نفى الحكم والأسباب في أفعاله، وجعلها معلقة بمحض المشيئة، وجوّز عليه فعل كل ممكن، ولم ينزهه عن فعل من الأفعال، كما هو قول الجهم بن صفوان، وكثير من الناس كالأشعري ومن وافقه من أهل الكلام من أتباع مالك والشافعي وأحمد وغيرهم من مثبتة القدر، فهؤلاء يجوزون بعثة كل مكلف. والنبوة عندهم مجرد إعلامه بما أوحاه إليه، والرسالة مجرد أمره بتبليغ ما أوحاه إليه. وليست النبوة عندهم صفة ثبوتية، ولا مستلزمة لصفة يختص بها، بل هي من الصفات الإضافية، كما يقولون مثل ذلك في الأحكام الشرعية". منهاج السنة النبوية 2414. وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 731. قال الإيجي من الأشعرية في كتابه المواقف: "إذا ثبت أن الحاكم بالحسن والقبح هو الشرع، ثبت أن لاحكم للأفعال قبل الشرع". المواقف للإيجي ص 327. وانظر: البرهان في أصول الفقه للجويني

قول أهل السنة في النبوة والصحيح: أن النبوة تجمع هذا وهذا1؛ فهي تتضمن صفة ثبوتية في

_ 1 وهذا هو قول الجمهور. ف"الذي عليه جمهور سلف الأمة وأئمتها وكثير من النظار: أن الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس، والله أعلم حيث يجعل رسالته؛ فالنبي يختص بصفات ميزه الله بها على غيره، وفي عقله ودينه، واستعد بها لأن يخصه الله بفضله ورحمته". منهاج السنة النبوية 2416. وشيخ الإسلام رحمه الله تعالى قد فصّل القول في هذه المسألة تفصيلاً رائعاً في العديد من مصنّفاته الرائعة، وذكر الأقوال الثلاثة فيها.. فمن ذلك قوله في كتاب الصفدية: "إن الناس تنازعوا في النبوة: هل هي مجرد صفة قائمة بنفس النبي، كما يقوله من يقوله من أهل الكلام والفلسفة. أو مجرد تعلق خطاب الله بالنبي، كما يقوله من يقوله من أهل الكلام الأشعرية ونحوهم. أو مجموع الأمرين، كما يقوله الجمهور. على ثلاثة أقوال. كما اختلفوا على هذه الأقوال الثلاثة في الأحكام الشرعية....." إلى آخر كلامه الطويل في هذه المسألة. انظر كتاب الصفدية 1225-229. وقد بسط شيخ الإسلام رحمه الله القول في هذه المسألة في العديد من مصنفاته. انظر: منهاج السنة النبوية 2413-416، 5436-439. ومجموع الفتاوى 8282-283، 18367، 369-370. والجواب الصحيح 3380-387، 5324.

النبي1، وصفة إضافية هي مجرد تعلق الخطاب الإلهي، به2. لكن على الأقوال الثلاثة: ليس من شرط أدلتها أن تكون حالة في ذات النبي، ولكن يجوز أن تكون لها أدلة قائمة بذات النبي، كما كان في محمد صلى الله عليه وسلم عدة أدلة من دلائل النبوة، كما هو مبسوط في دلائل نبوته3؛ إذ المقصود هنا الكلام على جنس آيات الأنبياء، لا على شيء معين، [و] 4 لا دليل معين، ولا نبيّ معيّن. فإذا عرف أن دلائل النبوة يمتنع ثبوتها لشخص لا نبوة فيه إذا ادّعاها، أو ادعيت له كذباً، ويمتنع ثبوتها مع المكذب بالنبوة الصادقة، وأنها لا توجد إلا والنبوة ثابتة، وأنها دليل على صدق المخبر بالنبوة من جميع الخلق.

_ 1 في ((خ)) زيادة: بل هي مجرّد تعلق الخطاب. (ولا محل لذكرها) . 2 في ((م)) ، ((ط)) زيادة، ولعلها مكرّرة، وهي قوله: " [يقول الرب إني أرسلتك فهي عندهم صفة إضافية كما يقولونه في الأحكام الشرعية أنها صفات إضافية للأفعال لا صفات حقيقية] ". 3 ومن كتب دلائل النبوة المطبوعة التي توضّح هذا: (1) - دلائل النبوة لأبي القاسم قوام السنة الأصبهاني. (2) - علامات النبوة للبوصيري. (3) - دلائل النبوة للبيهقي. (4) - دلائل النبوة لأبي بكر الفريابي. (5) - تثبيت دلائل النبوة للقاضي عبد الجبار. (6) - دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني مطبوع المنتقى منه. (7) - أعلام النبوة للماوردي. (8) - الصحيح المسند من دلائل النبوة للوادعي. وقد أشار شيخ الإسلام رحمه الله إلى تصانيف العلماء في آيات النبوة في كتابه الجواب الصحيح 6361-365. 4 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) .

فكلّ من آمن [بأنّ] 1 محمداً رسول الله، فقد أخبر عن نبوته؛ كما أخبر هو عن نبوّة نفسه بما أمره الله به؛ حيث قال: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيكُمْ جَمِيعَاً} 2. فهذا الخبر؛ وهو الشهادة بأنه رسول الله إلى الناس جميعاً، سواء وجد منه، أو من غيره، هو مدلول عليه لجميع دلائل النبوة. فإذا وُجد هذا الخبر في غير النبيّ، ووجد ما يدلّ على صدق هذا الخبر، كان ذلك من دلائل النبوة، كما وجد هذا في خلق كثير من المؤمنين. ومن دلائل النبوة: وجود العلم الضروري بخبر أهل التواتر، الذين أخبروا بالآيات. فهذا العلم الضروري هو بمنزلة المشاهدة [للآيات] 3. وكذلك ما يوجد لأهل الإيمان مما يستلزم صدق خبرهم بأنّ محمّداً رسول، كما يوجد لأمته من الآيات الكثيرة عند تحقيق [أمره] 4 ونصره وطاعته، والجهاد عن دينه، والذبّ عنه، وبيان ما أرسل به، كما وجد أمثال ذلك للصحابة، والتابعين، وسائر المؤمنين إلى يوم القيامة5.

_ 1 في ((م)) ، و ((ط)) : أن. 2 سورة الأعراف، الآية 158. 3 في ((خ)) : الآيات. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 في ((خ)) : به. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 أي من الكرامات التي يكرم الله بها سبحانه وتعالى عباده المؤمنين. انظر: كتاب الكرامات للالكائي تحقيق د أحمد سعد حمدان. والبداية والنهاية 5266-267، 285، 296-297. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 300-320. وقاعدة في المعجزات والكرامات ص 19-21.

فصل خوارق السحرة والكهان مناقضة للنبوة ولا تخرج عن مقدور الجن والإنس

فصل خوارق السحرة والكهان مناقضة للنبوة ولا تخرج عن مقدور الجن والإنس فجميع ما يختص بالسحرة والكهان هو مناقض للنبوة1، فوجود ذلك يدلّ على أنّ صاحبه ليس بنبيّ. ويمتنع أن [يكون] 2 شيءٌ من ذلك دليلاً على النبوة؛ فإنّ ما استلزم عدم الشيء لا يستلزم وجوده. وكذلك ما يأتي به أهل الطلاسم3 وعبادة الكواكب4 ومخاطبتها،

_ 1 هذه من القواعد في التفريق بين النبيّ، والساحر، والكاهن. 2 في ((خ)) : تكون. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 سبق بيان معنى الطلاسم. انظر ص 269 من هذا الكتاب. وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "السحر محرم بالكتاب والسنة والإجماع، وذلك أن النجوم التي من السحر نوعان؛ أحدهما: علمي، وهو الاستدلال بحركات النجوم على الحوادث، من جنس الاستقسام بالأزلام. والثاني عملي، وهو الذي يقولون إنه القوى السماوية بالقوى المنفعلة الأرضية، كطلاسم ونحوها. وهذا من أرفع أنواع السحر. وكلّ ما حرمه الله ورسوله فضرره أعظم من نفعه". مجموع الفتاوى 35170. وانظر: الصفدية 166. والجواب الصحيح 613. والفصل لابن حزم 53. وتفسير ابن كثير 1145. وأضواء البيان 4453. 4 قال شيخ الإسلام رحمه الله عنهم: "أهل دعوة الكواكب الذين يدعون الشمس والقمر والنجوم، ويعبد ونها، ويسجدون لها، كما كان النمرود بن كنعان وقومه يفعلون ذلك، وكما يفعل ذلك المشركون من الهند والترك والعرب والفرس وغيرهم. وقد ذكر أبو عبد الله محمد بن الخطيب الرازي في كتابه الذي صنّفه في هذا الفن قطعة كبيرة من أحوال هؤلاء. وقد تواترت الأخبار بذلك عن هؤلاء، وأنه يحصل لأحدهم أشخاص منفصلة عنه تقضي كثيراً من حوائجه، ويسمونها روحانية الكواكب". الصفدية 1241. وانظر: المصدر نفسه 1173، 192. وقال أيضاً عن مجادلة إبراهيم عليه السلام لقومه بسبب عبادتهم للكواكب: "فذكر لهم ما كانوا يفعلونه من اتخاذ الكوكب، والشمس، والقمر رباً يعبد ونه، ويتقربون إليه، كما هو عادة عباد الكواكب ومن يطلب تسخير روحانية الكواكب. وهذا مذهب مشهور ما زال عليه طوائف من المشركين إلى اليوم، وهو الذي صنّف فيه الرازي السرّ المكتوم، وغيره من المصنّفات". درء تعارض العقل والنقل 1111. وانظر: دقائق التفسير 3123، 165. وفتح الباري 10232-233. والأصول والفروع لابن حزم ص 134، 135. وإغاثة اللهفان 2222-226. والدين الخالص 2443-444.

كلّ ذلك مناقضٌ للنبوة؛ فإنّ النبي لا يكون إلا مؤمناً، وهؤلاء كفار؛ فوجود ما يناقض الإيمان هو مناقض للنبوة بطريق الأولى، وهو آيةٌ، ودليلٌ، وبرهان على عدم النبوة، فيمتنع أن يكون دليلاً على وجودها. وجميع ما يختص بالسحرة والكهان وغيرهم ممّن ليس بنبيّ، لا يخرج عن مقدور الإنس والجن1. وأعني بالمقدور: ما يمكنهم التوصل إليه بطريق من الطرق2؛ فإنّ من الناس من يقول: إنّ المقدور لا بُدّ أن يكون في محلّ القدرة3.

_ 1 هذا من الفروق التي يميز بها النبيّ من المتنبئ، والصادق من الكاذب. 2 التي أقدر الله عليها الجن والإنس. انظر ما سبق ص 164، 223، 606، 361، 672. 3 هذا من تعريفات الأشاعرة للكسب - عندهم. انظر: شرح جوهرة التوحيد للباجوري ص 219. وشرح الصاوي على جوهرة التوحيد ص 149-150. وانظر كذلك: مجموع الفتاوى 8404، 467. وشفاء العليل لابن القيم ص 121-122. وهذه المسألة لها تعلّق بالاستطاعة والقدرة. وقد وقع الخلاف فيها على أقوال، تبعاً للخلاف الواقع في القدر: فالجهميّة، وهم الجبرية: قالوا بنفي القدرة لا مع الفعل ولا قبله؛ لأنّ العبد عندهم لا اختيار له. والمعتزلة: أثبتوا القدرة قبل الفعل، ونفوا أن تكون معه. أما الأشاعرة، فقالوا: إن القدرة مع الفعل، لا يجوز أن تتقدمه، ولا أن تتأخّر عنه، بل هي مقارنة له، وهي من الله تعالى، وما يفعله الإنسان بها فهو كسب له. وأهل السنة قالوا: إن القدرة تقع على نوعين: أ - قدرة أو استطاعة للعبد، بمعنى الصحة والتوسع والتمكن وسلامة الآلات، وهي التي تكون مناط الأمر والنهي، وهي المصححة للفعل. فهذه لا يجب أن تقارن الفعل، بل تكون قبله متقدمة عليه. ب- والاستطاعة أو القدرة التي يجب معها وجود الفعل، وهذه هي الاستطاعة المقارنة للفعل الموجبة له. انظر: الملل والنحل 185. والإرشاد ص 219-220. والإنصاف ص 46. والتمهيد ص 323-325. ومجموع الفتاوى 8129-130، 290-292، 371-376، 441، 1032، 18172-173. ودرء تعارض العقل والنقل 9241 وشرح الطحاوية ص 633-639. وموقف ابن تيمية من الأشاعرة 31331-1332. والماتريدية ص 424-425. وقد ناقش شيخ الإسلام رحمه الله قضية الكسب عند الأشاعرة، وردّ عليها في مواضع عديدة من مصنّفاته القيّمة، فمن ذلك قوله عنهم: "وأخذوا يفرقون بين الكسب الذي أثبتوه، وبين الخلق؛ فقالوا: الكسب: عبارة عن اقتران المقدور بالقدرة الحادثة، والخلق هو المقدور بالقدرة القديمة. وقالوا أيضاً: الكسب هو الفعل القائم بمحل القدرة عليه، والخلق هو الفعل الخارج عن محل القدرة عليه. فقال لهم الناس: هذا لا يُوجب فرقاً بين كون العبد كسب، وبين كونه فعل وأوجد وصنع وعمل ونحو ذلك؛ فإن فعله وإحداثه وعمله وصنعه هو أيضاً مقدور بالقدرة الحادثة، وهو قائم في محلّ القدرة الحادثة. وأيضاً فهذا فرق لا حقيقة له؛ فإنّ كون المقدور في محل القدرة أو خارجاً عن محلها لا يعود إلى نفس تأثير القدرة فيه، وهو مبني على أصلين: أن الله لا يقدر على فعل يقوم بنفسه، وأن خلقه للعالم هو نفس العالم. وأكثر العقلاء من المسلمين وغيرهم على خلاف ذلك. والثاني: أن قدرة العبد لا يكون مقدورها إلا في محل وجودها، ولا يكون شيء من مقدورها خارجاً عن محلها. وفي ذلك نزاع طويل ليس هذا موضعه. وأيضاً: فإذا فسر التأثير بمجرد الاقتران، فلا فرق بين أن يكون الفارق في المحل أو خارجاً عن المحل". مجموع الفتاوى 8119. وانظر عن الكسب عند الأشاعرة: مجموع الفتاوى 8118-120، 387، 403، 467-468. والصفدية 1149-153. وشرح الأصفهانية ص 149-150، 350. ودرء تعارض العقل والنقل 182-84، 465،، 649، 7247-248، 9167، 10114-115.

وليس هذا هو لغة العرب، ولا غيرهم من الأمم؛ لا لغة القرآن والحديث، ولا غيرهما، وإنّما يدّعون ذلك من جهة العقل. وقولهم في ذلك باطل من جهة العقل. لكن المقصود هنا التكلم باللغة المعروفة؛ لغة العرب، وغيرهم التي كان نبينا صلى الله عليه وسلم وغيره يخاطب بها الناس؛ كقوله في الحديث الصحيح لأبي مسعود1 لما ضرب غلامه: "اعلم أبا مسعود، اعلم أبا مسعود، الله أقدر عليك منك على هذا" 2؛ فجعل نفس المملوك مقدورا عليه [لسيده] 3،

_ 1 هو عقبة بن عمرو بن ثعلبة الأنصاري، أبو مسعود البدري. صحابي جليل. وهو معدود من علماء الصحابة. نزل الكوفة، ومات قبل الأربعين، وقيل بعدها. انظر: سير أعلام النبلاء 2493-496. وتقريب التهذيب 1682. 2 أخرجه مسلم في صحيحه31280-1281، كتاب الإيمان، باب صحبة المماليك وكفارة من لطم عبد هـ. وأبو داود في سننه 5360-361، كتاب الأدب، باب في حق المملوك. والترمذي في جامعه 4335، كتاب البر، باب النهي عن ضرب الخدم، وقال: هذا حديث حسن صحيح. 3 في ((ط)) : لسيدة.

كما يقول الناس: القوّة على الضعيف ضعفٌ في القوة، [ويقولون] 1: فلانٌ قادر على فلان، وفلانٌ عاجز عن فلان، ويقولون: فلانٌ ناسج هذا الثوب، و [بَنَى] 2 هذه الدار. ومنه: قوله تعالى: {وَيَصْنَعُ الفُلْكَ} 3؛ فجعل الفلك مصنوعة لنوح. ومنه: قوله تعالى: {وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 4؛ أي والأصنام التي تعملونها، وتنحتونها؛ فجعل ما في الأصنام من التأليف معمولاً لهم، كما جعل تأليف السفينة مصنوعاً لهم. وهذا كثير5. والمقصود هنا: أنّ ما يأتي به السحرة والكهان ونحوهم، هو ممّا يصنعه الإنس والجنّ، لا يخرج ذلك عنهم. والإنس والجنّ قد أُرسلت إليهم الرسل6، فآيات الأنبياء خارجة عن قدرة الإنس والجن؛ لا يقدر عليها لا الإنس ولا الجن، ولله الحمد والمنة. مقدورات الجن والإنس ومقدورات الجن هي من جنس مقدورات الإنس، لكن يختلف في المواضع؛ فإنّ الإنسي يقدر على أن يضرب غيره حتّى يمرض أو يموت، بل يقدر أن يكلمه بكلام يمرض به أو يموت. فما يقدر عليه الساحر من سحر بعض الناس حتى يمرض أو يموت، هو من مقدور الجن، وهو من جنس مقدور الإنس.

_ 1 في ((ط)) : ويوقولن. 2 في ((ط)) : بني. 3 سورة هود، الآية 38. 4 سورة الصافات، الآية 96. 5 انظر مجموع الفتاوى 8120-123. 6 كما قال تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا..} سورة الأنعام، الآية 130.

ومنعه من الجماع هو من جنس المرض المانع له من ذلك. والحب والبغض لبعض الناس، كما يفعله الساحر، هو من استعانته بالشياطين، وهو من جنس مقدور الإنس. بل شياطين الإنس قد يؤثرون من البغض والحب أعظم مما تؤثره شياطين الجن. والجنّ [تقدر] 1 على الطيران في الهواء، وهو من الأعمال. والطيور تطير، فهو من جنس مقدور الإنس. لكن يختلف المحل [بأنّ] 2 هؤلاء سيرهم في الهواء، والإنس سيرهم على الأرض. وكذلك المشي على الماء، وطيّ الأرض؛ وهو قطع المسافة البعيدة في زمان قريب: هو من هذا الجنس، هو مما تفعله الجن، وهو مما تفعله الجن ببعض الناس. وقد أخبر الله عن العفريت أنه قال لسليمان عن عرش بلقيس وهو باليمن وسليمان بالشام: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} 3. ولهذا يوجد كثيرٌ من الكفار والفساق والجهال تطير بهم الجن في الهواء، وتمشي بهم على الماء، وتقطع بهم المسافة البعيدة في المدة القريبة. وليس شيءٌ من ذلك من آيات الأنبياء4، ولله الحمد والمنة؛ إذ كان مقدور الإنس والجنّ، والإخبار ببعض الأمور الغائبة التي يأتي بها الكهّان، هو أيضاً من مقدور الجنّ؛ فإنهم تارة يرون الغائب فيخبرون به، وتارة يسترقون السمع من السماء فيخبرون به، وتارة

_ 1 في ((خ)) : يقدر. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 في ((خ)) : أنّ. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 سورة النمل، الآية 39. 4 وقد ذكر الشيخ رحمه الله قصصاً كثيرة من هذا النوع. انظر: مجموع الفتاوى182-83، 168-178. ومنهاج السنة النبوية 8311.

يسترقون وهم يكذبون في ذلك؛ كما أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم عنهم1. وما تخبر به الأنبياء من الغيب، لا يقدر عليه إنس، ولا جنّ، ولا كذب فيه. وأخبار الكهان وغيرهم كذبها أكثر من صدقها، وكذلك كل من تعود الإخبار عن الغائب؛ فأخبار الجن لا بد أن [تكذب] 2، فإنه من طلب منهم الإخبار بالمغيّب كان من جنس الكهان، وكذبوه في بعض ما يخبرون به، وإن كانوا صادقين في البعض. وقد ثبت في الصحيح: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن الكهّان؟ فقيل له: إنّ منا قوماً يأتون الكهان؟ قال: "فلا يأتوهم" 3. وثبت عنه في الصحيح أنه قال: "من أتى عرافاً، فسأله عن شيء، لم تقبل له صلاة أربعين يوماً"4.

_ 1 يُشير شيخ الإسلام رحمه الله تعالى إلى حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت: سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسٌ عن الكهان، فقال: "ليسوا بشيء"، فقالوا: يارسول الله إنهم يحدثون أحياناً بالشيء فيكون حقاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني، فيقرقرها في أذن وليه، فيخلطون معها أكثر من مائة كذبة". أخرجه البخاري52173، كتاب الطب، باب الكهانة. ومسلم41750، كتاب السلام، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان. 2 في ((خ)) : يكذب. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 أخرجه مسلم في صحيحه 41748-1749، كتاب السلام، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان، مع اختلاف في اللفظ. 4 أخرجه مسلم في صحيحه 41751، كتاب السلام، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان. وأحمد في مسنده 468،، 5380.

وفي السنن عنه أنه قال: "من اقتبس شعبة من النجوم، فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد"1. والنبي صلى الله عليه وسلم لمّا أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد [الأقصى] 2، لم يكن المقصود مجرّد وصوله إلى الأقصى، بل المقصود ما ذكره الله [بقوله] 3: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} 4، كما قال في سورة النجم: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهَى عِنْدَها جَنَّة المَأوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى} 5. وما رآه مختص بالأنبياء، لا يكون ذلك لمن خالفهم، ولا يريه الله تعالى ما أراه محمدا حين أسرى به. وكذلك صلاته بالأنبياء في المسجد الأقصى، وركوبه على البراق؛ هذا كله من خصائص الأنبياء. بعض خوارق الشياطين لأوليائهم والذين تحملهم الجن، وتطير بهم من مكان إلى مكان، أكثرهم لا يدري كيف حُمِل، بل يُحمَل الرجل إلى عرفات، ويرجع، وما يدري كيف حملته الشياطين، ولا يدعونه يفعل ما أمر الله به كما أمر الله به، بل قد يقف بعرفات من غير إحرام ولا إتمام مناسك الحج، وقد يذهبون به إلى مكة،

_ 1 أخرجه أبو داود في سننه 415-16، كتاب الطب، باب في النجوم. وأحمد في مسنده 1227، 311. قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: رواه أبو داود بإسناد صحيح. (تيسير العزيز الحميد ص 400) . وصححه الألباني (انظر: السلسلة الصحيحة 2435رقم 793. ومشكاة المصابيح 4604) . وقال محقق معارج القبول (2562) : وسنده صحيح. 2 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 3 في ((ط)) : بقول. 4 سورة الإسراء، الآية 1. 5 سورة النجم، الآيات 13-18.

ويطوف بالبيت من غير إحرام إذا حاذى الميقات1. [وذلك] 2 واجب في أحد قولي العلماء، ومستحب في الآخر3، فيفوته المشروع، أو يوقعونه في الذنب، ويُغرونه بأنّ هذا من كرامات الصالحين. وليس هو مما يكرم الله به وليّه، بل هو ممّا أضلته به الشياطين، وأوهمته أن ما فعله قربة وطاعة4، أو يكون صاحبه له عند الله منزلة عظيمة.

_ 1 الميقات: واحد المواقيت، وهي التي وقتها رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن أراد الحج، أو العمرة. قال ابن عباس رضي الله عنهما: "وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم. فهنّ لهنّ، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، لمن كان يريد الحج والعمرة. فمن كان دونهن فمهله من أهله، وكذلك أهل مكة يهلون منها". راجع صحيح البخاري 1555، كتاب الحج، باب مهل أهل الشام، وصحيح مسلم 2838، 839، كتاب الحج، باب مواقيت الحج والعمرة. 2 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 3 انظر المغني لابن قدامة 569. 4 وقد تحدّث شيخ الإسلام في موضع آخر عن هؤلاء، فقال: "ومنهم من يطير به الجني إلى مكة، أو بيت المقدس، أو غيرهما. ومنهم من تحمله عشية عرفة ثم تعيده من ليلته، فلا يحج حجاً شرعياً، بل يذهب بثيابه ولا يحرم إذا حاذى الميقات، ولا يلبي، ولا يقف بمزدلفة، ولا يطوف بالبيت، ولا يسعى بين الصفا والمروة، ولا يرمي الجمار، بل يقف بعرفة بثيابه، ثم يرجع من ليلته. وهذا ليس بحج مشروع باتفاق المسلمين، بل هو كمن يأتي الجمعة ويصلي بغير وضوء إلى غير القبلة. ومن هؤلاء المحمولين من حمل مرة إلى عرفات ورجع، فرأى في النوم ملائكة يكتبون الحجاج، فقال: ألا تكتبوني؟ فقالوا: لست من الحجاج؛ يعني لم تحج حجاً شرعياً". الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 327. وانظر: مجموع الفتاوى 183، 174،، 17460،، 1948. والصفدية 1190. والجواب الصحيح 2331-332.

وليس هو قربةٌ وطاعةٌ، وصاحبه لا يزداد بذلك منزلة عند الله؛ فإنّ التقرّب إلى الله إنّما يكون بواجبٍ أو مستحب، وهذا ليس بواجب ولا مستحب، بل يُضلّون صاحبه، ويصدّونه عن تكميل ما يحبه الله منه؛ من عبادته، وطاعته، وطاعة رسوله، ويوهمونه أن هذا من أفضل الكرامات، حتى يبقى طالباً له، عاملاً عليه. وهم بسبب إعانتهم له على ذلك، قد استعملوه في بعض ما يريدون، ممّا ينقص قدره عند الله، أو وقوعه في ذنوب، وإن لم يعرف أنها ذنوب؛ فيكون ضالاً ناقصاً، وإن غُفِر له ذلك لعدم علمه؛ فإنّه نقصُ درجته، وخفض [منزلته] 1 بذلك الذي أوهموه أنه رَفَعَ درجته وأعلا منزلته. وهذا من جنس ما [يفعله] 2 السحرة؛ فإنّ الساحر قد يصعد في الهواء والناس ينظرونه، وقد يركب شيئا من الجمادات؛ إما قصبة، وإما خابية، وإما مكنسة3، وإما غير ذلك؛ فيصعد به في الهواء، وذلك أن الشياطين تحمله. وتفعل الشياطين هذا ونحوه بكثيرٍ من العبّاد والضلال؛ من عبّاد المشركين، وأهل الكتاب، والضُلاّل من المسلمين؛ [فتحملهم] 4 من مكان إلى مكان.

_ 1 في ((خ)) : منزله. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 في ((م)) ، و ((ط)) : تفعله. 3 المكنسة - بكسر الميم - ما يُكنس به. وقد تقدم التعريف بها ص 164. 4 في ((م)) ، و ((ط)) : فيحملهم.

وقد يرى أحدهم بما يركبه إما فرس، وإما غيره، وهو شيطانٌ تصوّر له في صورة مركوب. وقد يرى أنه يمشي في الهواء من غير مركوب، والشيطان قد حمله. والحكايات في هذا كثيرة معروفة عند من يعرف هذا الباب، ونحن نعرف من هذا أموراً يطول وصفها1.

_ 1 وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في مواضع أخرى قصصاً كثيرة، منها قوله: "وأعرف من هؤلاء عدداً، ومنهم من كان يُحمل في الهواء إلى مكان بعيد ويعود، ومنهم من كان يؤتى بمال مسروق، تسرقه الشياطين، وتأتيه به. ومنهم من كانت تدله على السرقات بجعل يحصل له من الناس، أو لعطاء يعطونه إذا دلّهم على سرقاتهم ونحو ذلك". الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 426. وقال أيضاً رحمه الله: "ومثل عدد كبير حملوا إلى غير مكة، ولو ذكرتُ ما أعرفه من هذا لطال الخطاب. وأعرف شخصاً من أصحابنا حملته الجن في الهواء من أسفل دار إلى أعلاها، ووصوه بأمور الدين، وتاب، وحصل له خير. وآخر كان معه شيطان يحمله قدام الناس بمدينة الشوبك، فيصعد في الهواء إلى رؤوس الجبال. وآخر كان يحمله شيطانه من جبل الصالحية إلى قرية بلدى - نحو فرسخ -. وطائفة حملتهم الشياطين من مدينة تدمر إلى بيت المقدس، وأمرتهم أن يصلوا إلى الشمال، وصلّوا إليه أياماً، وأخبروهم أن هذه الشريعة تغيّر وتنسخ، حتى طلبهم المسلمون إلى جامع تدمر، وكانوا في مغارة، واستتابوهم، فلم يتوبوا، بل مكثوا يصلون إلى الشمال ثلاثة أيام، ثم تابوا بعد ذلك، وتبين لهم أن ذلك كان من الشيطان. وآخر أتى قوماً يرقصون في سماع، فبقي يرقص في الهواء على رؤوسهم، فرآه شخص، فصرخ به، فسقط. وكان هذا بحضرة الشيخ شبيب الشطي، فقال الشيخ: هذا سلبني حالي، فسأله، فقال: لم يكن له حال، وإنما شيطان حمله من الرحبة إلى هنا، فصرخت فيه، فألقاه، وهرب. وجرى نظير هذه القصة لغير واحد". الصفدية 1190-191. وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله القصة نفسها في: جامع الرسائل 1192-193، ومجموع الفتاوى 1173-174. وقد ذكر الشيخ رحمه الله كثيراً من هذه الحكايات عن أولياء الشيطان، ثم قال: "وهذا باب لو ذكرتُ ما أعرف منه لاحتاج إلى مجلد كبير". الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 353.

وكذلك المشي على الماء: قد [تجعل] 1 له الجن ما يمشي عليه، وهو يظن أنّه يمشي على الماء. وقد يُخيّلون إليه أنه التقى طرفا النهر ليعبر، والنهر لم يتغيّر في نفسه، ولكن خيّلوا إليه ذلك. وليس في هذا - ولله الحمد - شيءٌ من جنس معجزات الأنبياء. كرامات الصالحين من جهة السبب والغاية وقد يمشي على الماء قوم بتأييد الله لهم، وإعانته إياهم بالملائكة؛ كما يحكى عن المسيح2، وكما جرى للعلاء بن الحضرمي3، ولأبي مسلم الخولاني في عبور الجيش4، وذلك إعانة على الجهاد في سبيل [الله] 5، كما يؤيّد الله المؤمنين بالملائكة، ليس هو من فعل الشياطين. والفرق بينهما؛ من جهة السبب، ومن جهة الغاية. أما السبب: فإنّ الصالحين يُسمّون الله، ويذكرونه، ويفعلون ما يحبه الله؛ من توحيده، وطاعته، فييسر لهم بذلك ما ييسره، ومقصودهم به: نصر الدين، والإحسان إلى المحتاجين6.

_ 1 في ((م)) ، و ((ط)) : يجعل. 2 انظر: العهد الجديد: إنجيل مرقس، الإصحاح 6، رقم الفقرة 48، 49-53، ص 67. وإنجيل يوحنا، الإصحاح 6، رقم الفقرة 19، ص 157. وانظر الجواب الصحيح 4120، 123. 3 سبقت ترجمته. 4 انظر ما سبق ص 159 من هذا الكتاب. 5 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 6 قد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله هذا السبب مفصلاً في موضع آخر، فقال: "فإن خوارق العادات إنما تكون لأمة محمد صلى الله عليه وسلم المتبعين له باطناً وظاهراً لحجة، أو حاجة. فالحجة: لإقامة دين الله. والحاجة: لما لا بد منه من النصر والرزق الذي به يقوم دين الله". مجموع الفتاوى 11460. وانظر: المصدر نفسه 184، 176-177. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 169، 328، 354.

وما تفعله الشياطين يحصل بسبب الشرك، والكذب، والفجور1، والمقصود به: الإعانة على مثل ذلك. والجن فيهم مسلمٌ وكافر، فالمسلمون منهم يعاونون الإنس المسلمين، كما يعاون المسلمون بعضهم بعضاً، والكفّار مع الكفّار. أصناف طاعة الجن للإنس والجن الذين يطيعون الإنس، وتستخدمهم الإنس ثلاثة أصناف2: أعلاها: أن [يأمروهم] 3 بما أمر الله به، ورسله؛ فيأمرونهم بعبادة الله وحده، وطاعة رسله؛ فإنّ الله أوجب على الجنّ طاعة الرسل، كما أوجب ذلك على الإنس، وقال تعالى: {وَيَومَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعَاً يَا مَعْشَرَ الجِنِّ قَد اسْتَكْثَرتُمْ مِنَ الإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ [فِيهَا] 4 إِلاَّ مَا شَاءَ الله إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضَاً [بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] 5 يَا مَعْشَرَ الجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيكُمْ [آيَاتِي] 6

_ 1 انظر: مجموع الفتاوى 184. والجواب الصحيح 2343. والفرقان ص 169، 328، 355. 2 انظر: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص331، 364-365. والفرقان بين الحق والباطل - ضمن دقائق التفسير - 1429. ودقائق التفسير 3118، 137-138، 139-143. ومجموع الفتاوى 1935،، 1387-88؛ فقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في هذه المواضع أحوال الجن مع الإنس. 3 في ((ط)) : يأمورهم. 4 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) . 5 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 6 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.

وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَومِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ الدُّنيَا وَشَهِدُوا على أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُم كَانُوا كَافِرين ذَلكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى بِظُلمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} 1؛ فالرسل تكون من الإنس إلى الثقلين، والنذر من الجنّ باتفاق العلماء2. هل يكون من الجنّ رسلاً؟! واختلفوا: هل يكون في الجن رسل؟ والأكثرون على أنّه لا رسل فيهم3، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيهِمْ مِنْ أَهْلِ القُرَى} 4.

_ 1 سورة الأنعام، الآيات 128-132. 2 قال الحافظ ابن كثير رحمه الله عند تفسير قوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُم} [سورة الأنعام، الآية 130] : (أي من جملتكم. والرسل من الإنس فقط، وليس من الجن رسل، كما قد نص على ذلك مجاهد، وابن جريج، وغير واحد من الأئمة من السلف والخلف. وقال ابن عباس: الرسل من بني آدم، ومن الجن نذر. وحكى ابن جرير عن الضحاك بن مزاحم أنه زعم أن في الجن رسلاً، واحتج بهذه الآية الكريمة، وفيه نظر؛ لأنها محتملة، وليست بصريحة) . تفسير ابن كثير 2177. وانظر: تفسير الطبري 836، 2633. وتفسير البغوي 2131. وتفسير القرطبي 757. ومجموع الفتاوى 4234. وشرح الطحاوية ص 168. ولوامع الأنوار 2223. 3 انظر: تفسير الطبري 836، 2633. وتفسير البغوي 2131. وتفسير القرطبي 757. ومجموع الفتاوى 4234. وتفسير ابن كثير 2177. وشرح الطحاوية ص 168. ولوامع الأنوار 2223. وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "وكفار الجن يدخلون النار بالنص والإجماع. وأما مؤمنوهم فجمهور العلماء على أنهم يدخلون الجنة. وجمهور العلماء على أن الرسل من الإنس، ولم يبعث من الجن رسول، لكن منهم النذر". الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 363. وانظر مجموع الفتاوى 4234،، 1938-39. 4 سورة يوسف، الآية 109.

وعن الحسن البصري قال: لم يبعث الله نبيّاً من أهل البادية، ولا من الجن، ولا من النساء. ذكره عنه طائفة، منهم: البغوي1، وابن الجوزي2. إسلام الجن واجتماعهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وقال قتادة: ما نعلم أن الله أرسل رسولاً قط، إلا من أهل القرى؛ لأنهم كانوا أعلم وأحلم من أهل العمور. رواه ابن أبي حاتم، وذكره طائفة3. ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم قد أرسل إلى الثقلين4، وقد آمن به مَنْ آمن مِنْ جنّ نصيبين5، فسمعوا القرآن، وولّوا إلى قومهم منذرين، ثم أتوا فبايعوه على الإسلام بشعب معروف بمكة6 بين

_ 1 لم أجد في تفسير البغوي ما أشار إليه الشيخ رحمه الله؛ لا عند تفسير سورة الأنعام، الآية 130، ولا عند تفسير سورة يوسف، الآية 109. 2 انظر: زاد المسير لابن الجوزي 4295. وانظر: تفسير القرطبي 9180. 3 انظر: زاد المسير 4295. وتفسير القرطبي 9180. وتفسير ابن كثير 2496. 4 قال شيخ الإسلام رحمه الله عن هذا: "وهذا أصل متفق عليه بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وأئمة المسلمين، وسائر طوائف المسلمين؛ أهل السنة والجماعة وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين". مجموع الفتاوى 199. وانظر الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 363. 5 نَصِيبين - بالفتح ثم الكسر - مدينة تقع بين دمشق والموصل، فتحها المسلمون سنة 17 هـ. انظر معجم البلدان لياقوت الحموي 5288. 6 الشِعب - بالكسر - واحد الشعاب، للطريق بين جبلين، أو ما انفرج بينهما، أو مسيل الماء في بطن من الأرض له جرفان مشرفان، وأرضه بطحة. وقد يُضاف إلى عدد من الأماكن. انظر المعالم الأثرية في السنة والسيرة ص 150. وهو شعب الحجون، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بت الليلة أقرأ على الجن واقفاً بالحجون) رواه الطبري. وفي بعض الروايات أنه شعب يقال له: شعب الحجون. انظر: تفسير الطبري 2631، 33. وتفسير ابن كثير 4164-166.

الأبطح1، وبين جبل حراء2، وسألوه الطعام لهم ولدوابهم، فقال: "لكم كلّ عظم ذُكِر اسم [الله] 3 عليه أوفر ما يكون لحماً، وكلّ بعرة علف لدوابكم"، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"فلا تستنجوا بهما فإنهما زاد إخوانكم من الجن" 4. والأحاديث بذلك كثيرة مشهورة5 في الصحيح، والسنن،

_ 1 الأبطح - بفتح الأول، ثم سكون الباء، وفتح الطاء - كل مسيل ماء فيه دقاق الحصى، فهو أبطح. والأبطح والبطحاء أيضاً: الرمل المنبسط على وجه الأرض. والأبطح يُضاف إلى مكة، وإلى منى؛ لأن المسافة بينه وبينها واحد، وربما كان إلى منى أقرب. قال ياقوت: وهو المحصب، وهو خيف بني كنانة. قال أبو رافع - وكان على ثقل النبي صلى الله عليه وسلم: لم يأمرني أن أنزل الأبطح، ولكن ضربت قبته، فنزله. والأبطح اليوم داخل مكة، ويُسمّى العدل. انظر: معجم البلدان 174. والمعالم الأثرية في السنة والسيرة ص 16. 2 حِراء - بكسر الحاء -: جبل، ويُسمّى جبل النور، ويقع في الشمال الشرقي من مكة المكرمة؛ وفيه الغار الذي كان يتعبد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه نزلت عليه أول سورة من القرآن. وقد وصل إليه اليوم بنيان مكة. انظر: معجم البلدان 2233. والمعالم الأثرية في السنة والسيرة ص 98. 3 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 4 أخرجه مسلم في صحيحه 1322، كتاب الصلاة، باب الجهر بالقراءة في الصبح، والقراءة على الجن. 5 وقد ساق الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره، عند قوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ..} من سورة الأحقاف، كثيراً من الروايات في بدء إسلام الجنّ، ووفودهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم. انظر: تفسير ابن كثير 4162-171. ومن أشهر هذه الأحاديث وأصحها في إسلام الجنّ، وبداية معرفتهم برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في أول أمر النبوة، وإنطلاقهم إلى قومهم منذرين: ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: "انطلق النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأُرسلت علينا الشهب. قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء. فانصرف أولئك الذين توجهوا نحو تهامة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ وهو يُصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له، فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء. فهنالك حين رجعوا إلى قومهم وقالوا: {فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} ، فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم: { {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ..} سورة الجن، الآية 1. أخرجه البخاري في صحيحه 1267-268، كتاب صفة الصلاة، باب الجهر بقراءة صلاة الفجر. و 41873-1874، كتاب التفسير، باب سورة: قل أوحي إليّ. ومسلم في صحيحه 1323، كتاب الصلاة، باب الجهر بالقرآن في الصبح والقراءة على الجنّ. أما وفود الجن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقراءته عليهم القرآن: فما رواه علقمة قال: أنا سألت ابن مسعود فقلتُ: هل شهد أحدٌ منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجنّ؟ قال: لا، ولكنّا كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه، فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقلنا: استطير، أو اغتيل. قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم. فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء، قال: فقلنا: يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم. فقال: أتاني داعي الجن، فذهبت معه، فقرأت عليهم القرآن. قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد فقال: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً، وكل بعرة علف لدوابكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم". أخرجه مسلم في صحيحه 1322، كتاب الصلاة، باب الجهر بالقراءة في الصبح، والقراءة على الجن.

والمسند، وكتب التفسير والفقه، وغيرها1. وقد روى الترمذي وغيره أنّه قرأ عليهم سورة الرحمن، وهي خطاب للثقلين2.

_ 1 ذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في موضع آخر أنّ نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بُعث إلى الثقلين، واستمع الجن لقراءته، وولّوا إلى قومهم منذرين؛ كما أخبر الله عز وجلّ. وهذا متفق عليه بين المسلمين. ثم أكثر المسلمين من الصحابة والتابعين وغيرهم يقولون: إنهم جاؤوه بعد هذا، وأنه قرأ عليهم القرآن، وبايعوه، وسألوه الزاد لهم ولدوابهم، فقال لهم: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يعود أوفر ما يكون لحماً، ولكم كل بعرة علف لدوابكم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فلا تستنجوا بهما فإنهما زاد إخوانكم من الجن"، وهذا ثابت في صحيح مسلم وغيره من حديث ابن مسعود..) . ثم ساق رحمه الله تعالى الأحاديث التي تدلّ على دعوته صلى الله عليه وسلم للجنّ، وقال إثرها: "وقد ثبت بهذه الأحاديث الصحيحة أنه خاطب الجن، وخاطبوه، وقرأ عليهم القرآن، وأنهم سألوه الزاد. وقد ثبت في الصحيحين عن ابن عباس أنه كان يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير الجن ولا خاطبهم، ولكن أخبره أنهم سمعوا القرآن. وابن عباس قد علم ما دلّ عليه القرآن من ذلك، ولم يعلم ما علمه ابن مسعود وأبو هريرة وغيرهما من إتيان الجنّ إليه ومخاطبته إياهم، وأنه أخبره بذلك في القرآن، وأمره أن يخبر به. وكان ذلك في أول الأمر لما حرست السماء، وحيل بينهم وبين خبر السماء، وملئت حرساً شديداً، وكان ذلك من دلائل النبوة ما فيه عبرة ... وبعد هذا أتوه وقرأ عليهم القرآن. وروي أنه قرأ عليهم سورة الرحمن، وصار كلما قال: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} قالوا: ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب، فلك الحمد". مجموع الفتاوى 1937-38. وانظر الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 361-362. 2 رواه الترمذي في جامعه 5399، كتاب تفسير القرآن، باب: ومن سورة الرحمن. وقال أبو عيسى: هذا حديث غريب. وقد أخرجه ابن جرير في تفسيره 27153-154. وحسّنه الألباني، انظر: صحيح الجامع الصغير 2914. وسلسلة الأحاديث الصحيحة رقم 2150.

وقد [اتفق] 1 العلماء على أنّ كفارهم يدخلون النار2، كما أخبر الله بذلك في قوله: {قَالَ ادْخُلُوا في أممٍ قَدْ خَلَتْ من قَبلِكُمْ مِنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ في النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} 3، وقال الله تعالى: {لأمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُم أَجْمَعِينَ} 4، وقال: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِين} 5.

_ 1 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 2 قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى عن الجنّ: "وكافرهم معذب في الآخرة باتفاق العلماء. وأما مؤمنهم: فجمهور العلماء على أنه في الجنة. وقد روي أنهم يكونون في ربض الجنة يراهم الإنس من حيث لا يرونهم. وهذا القول مأثور عن مالك والشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد. وقيل: إن ثوابهم النجاة من النار، وهو مأثور عن أبي حنيفة. وقد احتج الجمهور بقوله: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} ، قالوا: فدلّ ذلك على تأتي الطمث منهم؛ لأن طمث الحور العين إنما يكون في الجنة". مجموع الفتاوى 1938-39. وقال العلامة ابن مفلح في كتاب الفروع: "الجنّ مكلفون في الجملة إجماعاً يدخل كافرهم النار إجماعاً، ويدخل مؤمنهم الجنة وفاقاً لمالك والشافعي رضي الله عنهما، لا أنهم يصيرون تراباً كالبهائم، وأن ثواب مؤمنهم النجاة من النار خلافاً لأبي حنيفة والليث بن سعد ومن وافقهما. قال: وظاهر الأول يعني قول الإمام أحمد ومالك والشافعي رضي الله عنهم أنهم في الجنة كغيرهم بقدر ثوابهم، خلافاً لمن قال: لا يأكلون، ولا يشربون فيها، كمجاهد، أو أنهم في ربض؛ أي حول الجنة، كعمر بن عبد العزيز". لوامع الأنوار البهية 2222-223. وانظر: شرح النووي على مسلم 4169. ومجموع الفتاوى 1938. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 363. ودقائق التفسير - رسالة الفرقان بين الحق والباطل - 3138. 3 سورة الأعراف، الآية 38. 4 سورة ص، الآية 85. 5 سورة هود، الآية 119.

أقوال العلماء في مؤمني الجنّ وأما مؤمنوهم: فأكثر العلماء على أنهم يدخلون الجنة1. وقال طائفة: بل يصيرون تراباً كالدوابّ2. والأول أصحّ، وهو قول الأوزاعي، وابن أبي ليلى3، وأبي يوسف4، ومحمد5، ونقل ذلك عن مالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وهو قول أصحابهم6.

_ 1 انظر: تفسير الطبري 27151. وشرح النووي على مسلم 4169. ومجموع الفتاوى 4233، 1386، 1938-39. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 363. وتفسير ابن كثير 4171. وفتح الباري 6398. وروح المعاني للآلوسي 2633. 2 انظر: شرح النووي على مسلم 4169. ومجموع الفتاوى 4234، 1938. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 363. ودقائق التفسير - رسالة الفرقان بين الحق والباطل - 3138.وتفسير ابن كثير 4170-171. وفتح الباري 6398 (وأشار إلى أنه قول أبي حنيفة) . وروح المعاني للآلوسي 2633. 3 هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى يسار، وقيل داود بن بلال الأنصاري الكوفي. قاض فقيه، من أصحاب الرأي. ولي القضاء والحكم بالكوفة لبني أمية، ثم لبني العباس، واستمر 33 سنة. قال الذهبي: كان نظيراً للإمام أبي حنيفة في الفقه. قال أحمد: كان سيء الحفظ، مضطرب الحديث، وكان فقهه أحب إلينا من حديثه. ولد سنة 74 هـ، وتوفي بالكوفة سنة 148 هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 6310. والأعلام 6189. 4 سبقت ترجمته. 5 هو محمد بن الحسن بن فرقد، من موالي بني شيبان، أبو عبد الله، إمام في الفقه والأصول، وهو الذي نشر علم أبي حنيفة. وروى عن الإمام مالك والأوزاعي، وأخذ عنه الشافعي فأكثر جداً. ولد بواسط سنة 131هـ، ونشأ بالكوفة، وتوفي بالري سنة 189 هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 9134. وشذرات الذهب 1321. والأعلام 680. 6 قال ابن حجر: "وذهب الجمهور إلى أنهم يثابون على الطاعة، وهو قول الأئمة الثلاثة، والأوزاعي، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، وغيرهم". فتح الباري6398. وانظر مجموع الفتاوى 1386.

واحتج عليه الأوزاعي وغيره بقوله: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} 1، بعد ذكره أهل الجنّة وأهل النار، من الجن والإنس2، كما قال في سورة الأنعام، وفي الأحقاف: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} ، بعد ذكر أهل الجنة والنار3. قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم4: درجات أهل النار تذهب سفولاً، ودرجات أهل الجنة تذهب صعوداً5. فنبيِّنا صلى الله عليه وسلم هو مع الجن كما هو مع الإنس. [والإنس] 6 معه إمّا مؤمنٌ به، وإما مسلمٌ له، وإما مسالمٌ له، وإما خائفٌ منه.

_ 1 سورة الأنعام، الآية 132. وسورة الأحقاف، الآية 19. 2 في كتاب الفرقان بين الحق والباطل، ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أنّ ابن أبي ليلى، وأبا يوسف هما اللذان احتجا بهذه الآية. أما الأوزاعي فقد ذكر أن حجته قوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} من سورة الرحمن. انظر الفرقان بين الحق والباطل - ضمن دقائق التفسير 3139 - ومجموع الفتاوى 1386. 3 وقد أورد الحافظ ابن كثير رحمه الله على مسألة دخول مؤمني الجن الجنة أدلة قوية، وحقق المسألة في ذلك. فراجع تفسيره 4170-171. وانظر كلام العلامة ابن مفلح في هذه المسألة - وقد أورده السفاريني في لوامع الأنوار 2222-223. 4 هو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم العمري المدني. جمع تفسيراً في مجلد، وكتاباً في الناسخ والمنسوخ. قال الذهبي عنه: فيه لين. توفي سنة 182 هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 8349. وشذرات الذهب 1297. والفهرست لابن النديم 1225. 5 انظر: تفسير الطبري 2620. ورسالة الفرقان بين الحق والباطل - ضمن دقائق التفسير 3139 -. ومجموع الفتاوى 1386. 6 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .

مراتب الجن وأنواعهم كذلك الجن منهم المؤمن به، ومنهم المسلم له مع نفاق، ومنهم المعاهد المسالم لمؤمني الجن، ومنهم الحربي الخائف من المؤمنين. وكان هذا أفضل مما أوتيه سليمان؛ فإن الله سخّر الجن لسليمان تطيعه طاعة الملوك؛ فإن سليمان كان نبياً ملكاً، مثل داود ويوسف. وأما محمّد فهو عبدٌ رسولٌ، مثل إبراهيم وموسى وعيسى1 [عليهم السلام] 2، وهؤلاء أفضل من أولئك. القسم الأول: المحمود فأولياء الله المتبعون لمحمد إنّما يستخدمون [الجن كما يستخدمون الإنس] 3 في عبادة [الله] 4 وطاعته، كما كان محمد صلى الله عليه وسلم يستعمل الإنس والجن، لا في غرض له [غير] 5 ذلك. القسم الثاني: المباح [و] 6 من الناس من يستخدم من يستخدمه من الإنس في أمور مباحة. كذلك فيهم من يستخدم الجن في أمور مباحة7، لكن هؤلاء لا يخدمهم

_ 1 سبق مثل ذلك ص 157-158، 564. وانظر: مجموع الفتاوى 718، 11180-182، 306، 1389، 1951، 3435. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 104، 363. ورسالة الفرقان بين الحق والباطل - ضمن دقائق التفسير 3140 -. وروى الإمام أحمد بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "جلس جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى السماء، فإذا ملك ينزل، فقال جبريل: إن هذا الملك ما نزل منذ يوم خلق قبل الساعة، فلما نزل قال: يا محمد أرسلني إليك ربك قال: أفملكاً نبياً يجعلك، أو عبد اً رسولاً؟ قال جبريل: تواضع لربك يا محمد. قال: بل عبد اً رسولاً ". مسند الإمام أحمد 2231. 2 زيادة من ((ط)) . 3 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 4 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 5 في ((خ)) : في. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 6 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 7 وهذا القسم الثاني من أقسام استخدام الإنس للجنّ، فقد تقدّم أن القسم الأول يكون بأمر الإنس للجنّ بعبادة الله وطاعته. وهذا الثاني في استخدام لإنس للجنّ في أمور مباحة. وسيأتي الثالث، وفيه استخدام الإنس للجنّ في أمور محرمة.

الإنس والجنّ إلا بعوض؛ مثل أن يخدموهم كما يخدمونهم، أو يعينونهم على بعض مقاصدهم، وإلا فليس أحدٌ من الإنس والجن يفعل شيئاً إلا لغرض. والإنس والجن إذا خدموا الرجل الصالح في بعض أغراضه المباحة؛ فإما أن يكونوا مخلصين يطلبون الأجر من الله، وإلا طلبوه منه؛ إما دعاؤه لهم، وإما نفعه لهم بجاهه، أو غير ذلك. القسم الثالث: المذموم والقسم الثالث: أن يستخدم الجن في أمور محظورة، أو بأسباب محظورة؛ مثل قتل نفس، وإمراضها بغير حق؛ ومثل منع شخص من الوطء؛ ومثل تبغيض شخص إلى شخص؛ ومثل جلب من يهواه الشخص إليه. فهذا من السحر. وقد يقع مثله لكثير من الناس ولا يعرف السحر، بل يكون موافقاً للشياطين على بعض أغراضهم؛ مثل شرك، أو بدعة وضلالة، أو ظلم، أو فاحشة؛ فيخدمونه ليفعل ما يهوونه. وهذا كثيرٌ في عبّاد المشركين، وأهل الكتاب، وأهل الضلال من المسلمين. وكثيرٌ من هؤلاء لا يعرف أن ذلك من الشياطين، بل يظنه من كرامات الصالحين. ومنهم من يعرف أنه من الشياطين، ويرى أنه بذلك حصل له ملك، وطاعة، ونيل ما يشتهيه من الرياسة والشهوات، وقتل عدوه؛ فيدخل في

ذلك كما تدخل الملوك الظلمة في أغراضهم1. وليس أحدٌ من الناس تطيعه الجن طاعة مطلقة، كما كانت تطيع سليمان بتسخير من الله وأمر منه من غير معاوضة، كما أن الطير كانت تطيعه، والريح؛ قال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيح غُدُوُّها شَهرٌ وَرَوَاحُهَا شَهرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القِطْرِ وَمِنَ الجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزُغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِير يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالجَوابِ وَقُدُورٍ رَاسِيات اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُور} 2. والجن [كالإنس] 3، فيهم المؤمن المطيع، والمسلم الجاهل، أو المنافق، أو العاصي، وفيهم الكافر. وكلّ ضرب يميل إلى بني جنسه، والذي أعطاه الله تعالى لسليمان خارج عن قدرة الجن والإنس؛ فإنه لا يستطيع [أحدٌ] 4 أن يُسخّر الجنّ مطلقاً لطاعته، ولا يستخدم [أحداً] 5 منهم إلا بمعاوضة؛ إما عمل مذموم تحبه الجن، وإما قول تخضع له الشياطين؛ كالأقسام، والعزائم6؛ فإنّ

_ 1 انظر: مجموع الفتاوى 1178، 1391، 17457. 2 سورة سبأ، الآيتان 12-13. 3 في ((م)) ، و ((ط)) : والإنس. 4 في ((م)) ، و ((ط)) : أحداً. 5 في ((م)) ، و ((ط)) : أحد. 6 العزائم: نوع من أنواع السحر. انظر: تفسير ابن كثير 1145. وقد تحدّث شيخ الإسلام رحمه الله عنها، وذكر حرمتها في موضع آخر فقال: "وعامة ما بأيدي الناس من العزائم والطلاسم والرقى التي لا تفقه بالعربية، فيها ما هو شرك بالجنّ. ولهذا نهى علماء المسلمين عن الرقى التي لا يفقه معناها لأنها مظنة الشرك، وإن لم يعرف الراقي أنها شر. وفي صحيح مسلم عن عوف بن مالك الأشجعي قال: كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله كيف ترى في ذلك؟ فقال: "اعرضوا عليّ رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك". مجموع الفتاوى 1913.

كلَّ جني فوقه من هو أعلى منه، فقد يخدمون بعض [الناس] 1 طاعة لمن فوقهم؛ كما يخدم بعض الإنس لمن أمرهم سلطانهم بخدمته لكتاب معه منه، وهم كارهون طاعته. وقد يأخذون منه ذلك الكتاب ولا يطيعونه، وقد يقتلونه، أو يُمرضونه؛ فكثيرٌ من الناس قتلته الجنّ2. سبب صرع الجن للإنس كما يصرعونهم، والصرع لأجل الزنا، وتارة يقولون إنه آذاهم؛ إما [بصبّ نجاسة] 3 عليهم، وإما بغير ذلك؛ فيصرعونه صرع عقوبة وانتقام. وتارة يفعلون ذلك عبثاً؛ كما [يعبث] 4 شياطين الإنس بالناس. والجنُّ أعظم شيطنة، وأقلّ عقلاً، وأكثر جهلاً. والجني قد يحب الإنسي، كما يحب الإنسي الإنسي، وكما يحب الرجل المرأة، والمرأة الرجل، ويغار عليه، ويخدمه بأشياء. وإذا صار مع غيره، فقد يعاقبه بالقتل وغيره. كلُّ هذا واقعٌ5. ثُمَّ الَّذي يخدمونه تارة يسرقون له شيئاً من أموال الناس، ممّا لم يُذكر اسم الله عليه، ويأتونه إما [بطعام] 6، وإما شراب، وإما لباس، وإما نقود، وإما غير ذلك. وتارة يأتونه في المفاوز بماء عذب وطعام وغير ذلك7.

_ 1 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 2 انظر: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 338، 350-351. 3 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 4 في ((خ)) : بعثت. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 انظر: مجموع الفتاوى 182، 173-174، 1382، 1934-35. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 350. 6 في ((ط)) : بؤعام. 7 وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله قصصاً عديدة عن هذه الحالات، من تلك قوله: "وآخرون كانت الشياطين تأتيهم بأطعمة يسرقونها من حوانيت الناس، وجرى هذا لغير واحد في زماننا وغير زماننا. وأتى قوم بحلاوة من الهواء، وعرفت تلك الحلاوة المسروقة وفقدها صاحبها، ووصفت الآنية التي كانت فيها، فرد ثمنها إليه. وهذه الأمور وأمثالها معلوم لنا بالضرورة والتواتر. فإذا كانت الجن تحمل الإنسان من مكان إلى مكان بعيد في الهواء، وتحمل إليه الأموال من مكان بعيد، وتخبره بأمور غائبة عن الحاضرين، علم أنّ هذه الخوارق ليست من قوى النفوس، بل بفعل الجن. وإذا كانت الجن تفعل مثل هذا، فالملائكة أعلى منها وأقدر، وأكمل وأفضل". كتاب الصفدية 1192. وانظر: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 82، 85، 226، 352-353. ومجموع الفتاوى 1371، 77، 92، 19135. وجامع الرسائل1192، 194. والجواب الصحيح 2342.

خوارق الشياطين سببها الشرك والظلم وليس شيءٌ من ذلك من معجزات [الأنبياء] 1، ولا كرامات الصالحين؛ فإن ذلك إنما يفعلونه بسبب شرك وظلم وفاحشة. وهو لو كان مباحاً لم يجز أن يفعل بهذا السبب، فكيف إذا كان في نفسه ظلماً محرماً، لكونه من الظلم، والفواحش، ونحو ذلك. وقد يُخبرون بأمور غائبة ممّا رأوه وسمعوه، ويدخلون في جوف الإنسان2؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنّ الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم"3.

_ 1 في ((خ)) : الأولياء. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 قال شيخ الإسلام رحمه الله في موضع آخر موضحاً ذلك: "كما يدخل الشيطان في بدن المصروع، ولهذا يزبد أحدهم كإزباد المصروع، ويصيح كصياحه، وذلك صياح الشياطين على ألسنتهم. ولهذا لا يدري أحد ما جرى منه حتى يفيق، ويتكلم الشيطان على لسان أحدهم بكلام لا يعرفه الإنسان، ويدخل أحدهم النار وقد لبسه الشيطان، ويحصل ذلك لقوم من النصارى بالمغرب وغيرهم: تلبسهم الشياطين فيحصل لهم مثل ذلك. فهؤلاء المبتدعون المخالفون للكتاب والسنة أحوالهم ليست من كرامات الصالحين". مجموع الفتاوى 11665. وانظر: المصدر نفسه 11611. 3 الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 2715-716، كتاب الاعتكاف، باب هل يخرج المعتكف لحوائجه إلى باب المسجد، و 2717، كتاب الاعتكاف أيضاً، باب زيارة المرأة لزوجها في اعتكافه، و 2717، كتاب الاعتكاف أيضاً، باب هل يدرأ المعتكف عن نفسه. ومسلم في صحيحه 41712، كتاب السلام، باب بيان أنه يُستحبّ لمن رؤي خالياً بامرأة وكانت زوجة أو محرماً له أن يقول هذه فلانة.

لكن إنّما سلطانهم كما قال الله: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكونَ} 1. ولما قال الشيطان: {قال رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُم في الأرضِ وَلأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنهُم المُخْلصِين} 2، قال الله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَان} ، ثم قال: {إِلاَّ [أي: لكن] 3 مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوِينَ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَةُ أَبوَاب لِكُلِّ بَابٍ منهم جُزءٌ مَقْسُوم} 45.

_ 1 سورة النحل، الآيتان 99-100. 2 سورة الحجر، الآيتان 39-40. 3 ما بين المعقوفتين ساقط من ((ط)) . 4 سورة الحجر، الآيات 42-44. 5 فالشيطان حريصٌ على إضلال الإنسان، وقصده - كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: "إغواءه بحسب قدرته، فإن قدر على أن يجعلهم كفاراً جعلهم كفاراً، وإن لم يقدر إلا على جعلهم فساقاً أو عصاة، وإن لم يقدر إلا على نقص عملهم ودينهمببدعة يرتكبونها يُخالفون بها الشريعة التي بعث الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم، فينتفع منهم بذلك". مجموع الفتاوى 182. وانظر: المصدر نفسه 1934-35، 41-42. والجواب الصحيح 2324. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 331-332.

الشياطين لا سلطان لهم على أهل الإخلاص وأسباب اندحارهم فأهل الإخلاص والإيمان لا سلطان له عليهم1. ولهذا يهربون2 من البيت الذي [تُقْرأ] 3 فيه سورة البقرة4، [ويهربون من قراءة آية الكرسي5،

_ 1 قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} [الإسراء، الآية 65] ، وقال تعالى: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [سورة النحل، الآية 100] . وقد أورد ابن الجوزي رحمه الله عن الحسن البصري رحمه الله قصة الرجل الذي غضب لله فأراد أن يقطع شجرة تعبد من دونه، فلقيه إبليس، وأقنعه أن يتركها، وأن يعطيه دينارين كل يوم يجعلهما تحت وسادته. ثم بعد فترة لم يجد شيئاً، فقام غضبان ليقطعها، فقال له الشيطان: "كذبت مالك إلى ذلك من سبيل، وخنقه حتى كاد يقتله، وقال: جئت أول مرة غضباً لله، فلم يكن لي عليك من سبيل، فخدعتك بالدينارين فتركتها. فلما جئت غضباً للدينارين سُلّطت عليك". تلبيس إبليس ص 44. 2 أي الشياطين. 3 في ((خ)) : يقرأ. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة". أخرجه مسلم في صحيحه1539، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة النافلة في بيته، وجوازها في المسجد. والترمذي في جامعه 5157، كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء في فضل سورة البقرة وآية الكرسي، وقال: هذا حديث حسن صحيح. وروى الدارمي في سننه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من بيت يُقرأ فيه سورة البقرة إلا خرج منه الشيطان وله صراط ". سنن الدارمي 2539. 5 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، وأتاني آت فجعل يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.. - فذكر الحديث، وفيه قول الرجل لأبي هريرة: "إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي، لن يزال معك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح. فقصّ أبو هريرة على النبيّ صلى الله عليه وسلم القصة فقال له: "صدقك وهو كذوب، ذاك الشيطان". صحيح البخاري 41914، كتاب فضائل القرآن، باب فضل سورة البقرة. وانظر كلام الشيخ رحمه الله عن تأثير آية الكرسي في دفع الشيطان في مجموع الفتاوى 1955.

وآخر1 سورة البقرة] 2، وغير ذلك من قوارع القرآن3. ومن الجنّ من يُخبر بأمور مستقبلة للكهان، وغير الكهان، ممّا [يسترقونه] 4 من السمع. والكهانة كانت ظاهرة [كثيرةً] 5 بأرض العرب، فلما ظهر التوحيد هربت الشياطين، وبطلت، أو قلّت. الشياطين تظهر في المواضع التي يخفى فيها أثر التوحيد ثمّ إنها تظهر في المواضع التي يخفى فيها أثر التوحيد6.

_ 1 فعن أبي مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه". صحيح البخاري 41914، كتاب فضائل القرآن، باب فضل سورة البقرة. وصحيح مسلم 1554-555، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل الفاتحة وخواتيم البقرة والحث على قراءة الآيتين من آخر البقرة. 2 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 3 مثل ما روته عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم: "كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما، وقرأ فيهما: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ، ث م مسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات". صحيح البخاري 41916، كتاب فضائل القرآن، باب فضل المعوذات. وصحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء. وانظر كلام المؤلف في دفع الشياطين في مجموع الفتاوى 1169-171، 1953-55. 4 في ((م)) ، و ((ط)) : يسرقونه. 5 في ((ط)) : كثيراً. 6 وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في مواضع كثيرة أنّ أحوال المشعوذين تكثر حيث يكثر الجهل، ويخفى أثر التوحيد. انظر ما سبق ص 190. وكتاب الصفدية 1233، 236. والرد على المنطقيين ص 187. ومجموع الفتاوى 11456-457، 17459، 489. ومنهاج السنة 3447، 8311. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 169.

وقد كان حول المدينة بعد أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم كُهّان يتحاكمون إليهم، وكان أبو بردة بن نيار كاهناً، ثمّ أسلم بعد ذلك، وهو من أسلم1. والأصنام لها شياطين كانت تتراءى [للسدنة] 2 [أحياناً، وتكلمهم أحياناً. قال أبي بن كعب: "مع كلّ صنم جنية"3. وقال ابن عباس: "في كل صنم شيطان، تتراءى للسدنة] 4 فتكلمهم"5.

_ 1 سبقت ترجمته. إلا أن المشهور أن اسمه أبو برزة الأسلمي بدل أبو بردة. وانظر حلية الأولياء 232-34. ومجموع الفتاوى 1383. 2 في ((ط)) : للسنة. 3 انظر: تفسير البغوي 1481. وزاد المسير 2118. وتفسير ابن كثير 1555 "ذكره عن ابن أبي حاتم بإسناده إلى أبي بن كعب". والرد على المنطقيين ص 284. 4 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 5 انظر: تفسير البغوي 1481. وزاد المسير 2118. وتفسير القرطبي 5248. والرد على المنطقيين ص 284. وقد أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى العزى، وهي شجرة بغطفان كانوا يعبد ونها، فجعل خالد بن الوليد يضربها بالفأس ويقول: يا عزّ كفرانك لا سبحانك.... إني رأيت الله قد أهانك فخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها، داعية بويلها، واضعة يدها على رأسها. ويُقال: إن خالداً رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قد قلعتها. فقال: قال: ما رأيت؟ قال: ما رأيت شيئاً. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما قلعت. فعاودها ومعه المعول فقلعها واجتث أصلها، فخرجت منها امرأة عريانة، فقتلها، ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبره بذلك، فقال: تلك العزى، ولن تعبد أبداً". انظر: تفسير البغوي 4249. وإغاثة اللهفان 2222-226. وتفسير ابن كثير4253-254. والدين الخالص 2242.

والشياطين كما قال الله تقترن بما يجانسها؛ بأهل الكذب والفجور، قال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّل الشَّيَاطِين تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيم يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} 1. فكيف يجوز أن يقال: إن مثل هذا يكون معجزة لنبيّ، أو كرامة لوليّ؟!. وهذا يناقض الإيمان ويُضادّه! والأنبياء والأولياء أعداء هؤلاء، قال تعالى: {إِنَّ الشَّيطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوَّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أصْحَابِ السَّعِير} 2. وقال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِين وَأَن اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيم وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} 3. وهذا يُظهر الفرق بين أخبار الأنبياء عن الغيب ما لا سبيل لمخلوق إلى علمه إلا منه، كما قال تعالى: {عَالِمُ الغَيبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدَاً إِلاَّ مَن ارْتَضَى مِنْ رَسُول فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدَاً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِم وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدَاً} 4. فقوله: {على غيبه} : هو غيبه الذي اختص به.

_ 1 سورة الشعراء، الآيات 221-223. 2 سورة فاطر، الآية 6. 3 سورة يس، الآيات 60-62. 4 سورة الجنّ، الآيات 26-28.

وأما ما يعلمه بعض المخلوقين: فهو غيب عمن لم يعلمه، وهو شهادة لمن علمه. فهذا أيضاً تُخبر منه الأنبياء بما لا يمكن الشياطين أن تُخبر به، كما في إخبار المسيح بقوله: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ في بُيُوتِكُمْ} 1؛ فإنّ الجن قد يخبرون بما يأكله بعض الناس، وبما يدّخرونه، لكن الشياطين إنما تتسلط على من لا يذكر اسم الله؛ كالذي لا يذكر اسم الله إذا دخل، فيدخلون معه، وإن لم يذكر اسم الله إذا أكل، فإنهم يأكلون معه. وكذلك إذا ادّخر شيئاً، ولم يذكر اسم الله عليه، عرفوا به، وقد يسرقون بعضه، كما جرى هذا لكثيرٍ من الناس2. وأما من يذكر اسم الله على [طعامه] 3، وعلى ما يختاره، فلا سلطان لهم عليه، لا يعرفون ذلك، ولا يستطيعون أخذه4.

_ 1 سورة آل عمران، الآية 49. 2 قال شيخ الإسلام رحمه الله في موضع آخر: "فإذا قالوا أو كتبوا ما ترضاه الشياطين أعانتهم على بعض أغراضهم؛ إما تغوير ماء من المياه، أو إما أن يحمل في الهواء إلى بعض الأمكنة، وإما أن يأتيه بمال من أموال بعض الناس، كما تسرقه الشياطين من أموال الخائنين ومن لم يُذكر اسم الله عليه، وتأتي به، وإما غير ذلك. وأعرف في كل نوع من هذه الأنواع من الأمور المعينة، ومن وقعت له ممن أعرفه، ما يطول حكايته، فإنهم كثيرون جداً". مجموع الفتاوى 1953. 3 في ((ط)) : طعام. 4 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل الرجل بيته، فذكر الله تعالى عند دخوله وعند طعامه، قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء. وإذا دخل فلم يذكر الله تعالى عند دخوله، قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله تعالى عند طعامه، قال: أدركتم المبيت والعشاء". أخرجه مسلم في صحيحه 31598، كتاب الأشربة، باب آداب الطعام والشراب وأحكامهما. وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان جنح الليل، أو أمسيتم، فكفوا صبيانكم، فإن الشياطين تنتشر حينئذ، فإذا ذهبت ساعة من الليل فخلّوهم، وأغلقوا الأبواب، واذكروا اسم الله فإن الشيطان لا يفتح باباً مغلقاً". أخرجه البخاري في صحيحه31203، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده. وأحمد في مسنده 3301، 306، 319.

والمسيح عليه السلام كان يخبر المؤمنين بما يأكلون وما يدخرون ممّا ذُكر اسم الله عليه، والشياطين لا تعلم به1. ولهذا من [تكون] 2 أخباره عن شياطين تُخبره، لا يكاشف أهل الإيمان والتوحيد، وأهل القلوب المنورة بنور الله، بل يهرب منهم، ويعترف أنه لا يكاشف هؤلاء وأمثالهم. خوارق الشياطين لأوليائهم لا تظهر أمام أهل القرآن والإيمان وتعترف الجن والإنس الذين خوارقهم بمعاونة الجن لهم [أنهم] 3 لا يمكنهم أن يظهروا هذه الخوارق بحضرة أهل الإيمان والقرآن، ويقولون:

_ 1 قال الإمام الطبري رحمه الله موضحاً الفرق بين علم الأنبياء وما يعلمه الشياطين: "فإن قال قائل: وما كان في قوله لهم: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} [سورة آل عمران، 49] من الحجة له على صدقه، وقد رأينا المتنجمة والمتكهنة تخبر بذلك كثيراً فتصيب؟ قيل: إن المتنجم والمتكهن معلوم منهما عند من يخبره بذلك أنهما ينبئان به عن استخراج له ببعض الأسباب المؤدية إلى علمه، ولم يكن ذلك كذلك من عيسى صلوات الله عليه، ومن سائر أنبياء الله ورسله، وإنما كان عيسى يخبر به عن غير استخراج ولا طلب لمعرفته باحتيال، ولكن ابتدأ بإعلام الله إياه من غير أصل تقدم ذلك احتذاه أو بنى عليه، أو فزع إليه كما يفزع المتنجم إلى حسابه والمتكهن إلى رئيه، فذلك هو الفصل بين علم الأنبياء بالغيوب وإخبارهم عنه، وبين علم سائر المتكذبة على الله أو المدعية علم ذلك". تفسير الطبري 3278. وانظر أيضاً روح المعاني للآلوسي 3170-171. 2 في ((م)) ، و ((ط)) : يكون. 3 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.

أحوالنا لا تظهر قدام الشرع والكتاب والسنة، وإنما [تظهر] 1 عند الكفار والفجار2؛ وهذا لأنّ أولئك أولياء الشياطين، ولهم شياطين يعاونون شياطين المخدومين3، ويتفقون على ما يفعلونه من الخوارق الشيطانيّة؛ كدخول النّار مع كونها لم [تصر] 4 عليهم برداً وسلاماً؛ فإنّ الخليل لمّا أُلقي في النّار، صارت عليه برداً وسلاماً. وكذلك أبو مسلم الخولاني، لمّا [قال] 5 له الأسود العنسي المتنبي: أتشهد أني رسول الله؟ قال: ما أسمع. قال: أتشهد أنّ محمّداً رسول الله؟ قال: نعم. فأمر بنار، فأُوقدت له، وألقي فيها، فجاءوا إليه، فوجدوه يصلي فيها، وقد صارت عليه برداً وسلاماً. فقدم المدينة بعد موت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأخذه عمر، فأجلسه بينه وبين أبي بكر، وقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني في أمة محمد من فُعل به كما فُعل بإبراهيم6.

_ 1 في ((خ)) : يظهر. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 وقد أقرّ أهل البدع بذلك، فقال شيخ البطائحية الذين ناظرهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وحكى عنهم: "وقال شيخهم الذي يسيح بأقطار الأرض كبلاد الترك ومصر وغيرها: أحوالنا تظهر عند التتار، لا تظهر عند شرع محمد بن عبد الله، وإنهم نزعوا الأغلال من الأعناق وأجابوا إلى الوفاق". مجموع الفتاوى 11455. وانظر اعتراف الشاذلي بقوله: "كما نرى في زمننا هذا من إنكار ابن تيمية علينا، وعلى إخواننا من العارفين". طبقات الصوفية للشعراني 17. 3 انظر: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 331. ومجموع الفتاوى 1385، 91. 4 في ((خ)) : يصر. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 في ((ط)) : قالا. 6 الاستيعاب لابن عبد البر 4194. وانظر: حلية الأولياء 2129. وجامع العلوم والحكم ص 322. والجواب الصحيح 1325. وسير أعلام النبلاء 47. والبداية والنهاية 8149.

وأما إخوان الشياطين: فإذا دخلت فيهم الشياطين، فقد يدخلون النار، ولا تحرقهم؛ كما يُضرب أحدهم ألف سوط، ولا يحسّ بذلك؛ فإن الشياطين تلتقي ذلك. طرق خروج الجن من الإنس وهذا أمرٌ كثيرٌ معروفٌ، قد رأينا من ذلك ما يطول وصفه1. وقد ضربنا نحن من الشياطين في الإنس ما شاء الله، حتى خرجوا من الإنس، ولم يعاودوه2. وفيهم من يخرج بالذكر والقرآن. وفيهم من يخرج بالوعظ والتخويف. وفيهم من لا يخرج إلا بالعقوبة؛ كالإنس3. الشياطين يخافون الرجل الصالح أعظم مما يخافه فجار الإنس فهؤلاء الشياطين إذا كانوا مع جنسهم، الذين لا يهابونهم، فعلوا هذه الأمور. وأما إذا كانوا عند أهل [إيمان] 4 وتوحيد، وفي بيوت الله التي

_ 1 انظر: الجواب الصحيح 2342. ومجموع الفتاوى 11495، 574-575. 2 وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أنّ الصرع يكون أحياناً بالتواطئ ما بين الشياطين، وبعض الإنس ممن يدعي إخراج الجن من بدن المصروع، فقال رحمه الله: "وشيخ آخر كان له شياطين يُرسلهم يصرعون بعض الناس، فيأتي أهل ذلك المصروع إلى الشيخ يطلبون منه إبراده، فيرسل إلى أتباعه فيفارقون ذلك المصروع، ويعطون ذلك الشيخ دراهم كثيرة". جامع الرسائل 1194. وانظر ما سبق من الكلام عن صرع الجن للإنس ص 1004-1005 من هذا الكتاب. وانظر: مجموع الفتاوى 11574-575، 1960. ودقائق التفسير 3137. 3 انظر الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 331. 4 في ((خ)) : الإيمان. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

يُذكر فيها اسمه، لم [يجترئوا] 1 على ذلك، بل يخافون الرجل الصالح أعظم ممّا [يخافه] 2 فُجّار الإنس. ولهذا لا يمكنهم عمل سماع المكاء والتصدية في المساجد المعمورة بذكر الله، ولا بين أهل الإيمان والشريعة المتبعين للرسول. إنّما يمكنهم ذلك في الأماكن التي [يأتيها] 3 الشياطين؛ كالمساجد المهجورة، والمشاهد، والمقابر، والحمامات، والمواخير. فالمواضع التي نهى النبي [صلى الله عليه وسلم] 4 عن الصلاة فيها؛ كالمقبرة، وأعطان الإبل، والحمام، وغيرها5، فتكون حال هؤلاء فيها أقوى لأنها؛ مواضع الشياطين؛ [كالمجزرة] 6، والمزبلة، والحمام، ونحو ذلك، بخلاف الأمكنة التي ظهر فيها الإيمان والقرآن والتوحيد، التي أثنى الله على أهلها، وقال فيهم: {اللهُ نُورُ السَّموَاتِ والأرض مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا [مِصْبَاح] 7

_ 1 في ((خ)) رسمت: يخبروا. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 في ((م)) ، و ((ط)) : تخافه. 3 في ((م)) ، و ((ط)) : تأتيها. 4 في ((خ)) رسمت: صلعم. 5 عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى أن يصلى في سبعة مواطن في المزبلة، والمجزرة، والمقبرة، وقارعة الطريق، وفي الحمام، وفي معاطن الإبل، وفوق ظهر بيت الله". رواه الترمذي في جامعه 2177-178، كتاب أبواب الصلاة، باب ما جاء في كراهية ما يصلى إليه، وفيه. وقال أبو عيسى: وحديث ابن عمر إسناده ليس بذاك القوي، وقد تكلم في زيد بن جبيرة من قبل حفظه. وابن ماجه في سننه 1246، كتاب الطهارة، باب المواضع التي تُكره فيها الصلاة. 6 في ((م)) ، و ((ط)) : كالماخورة. 7 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) .

المِصْبَاحُ في زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيّ [يُوقَدُ] 1 مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُور يَهدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاء وَيَضْرِبُ اللهُ الأمْثَالَ للنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم في بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرفَعَ وَيُذكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوّ وَالآصالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَومَاً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَن مَا عَمِلُوا وَيَزِيدهُمْ مِن فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيرِ حِسَاب} 2 الأماكن والأزمان التي لا تتسلط فيها الشياطين فهذه أمكنة النور والصالحين والملائكة، لا تتسلّط عليها الشياطين بكل ما تريد، بل كيدهم فيها ضعيف، كما أن كيدهم في شهر رمضان ضعيف3؛ إذ كانوا فيه يُسلسلون4، لكن لم يبطل فعلهم بالكلية، بل

_ 1 في ((خ)) : توقد. 2 سورة النور، الآيات 35-38. 3 قال شيخ الإسلام رحمه الله في موضع آخر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين"، فإن مجاري الشياطين الذي هو الدم ضاقت، وإذا ضاقت انبعثت القلوب إلى فعل الخيرات التي بها تفتح أبواب الجنة، وإلى ترك المنكرات التي بها تفتح أبواب النار، وصفدت الشياطين فضعفت قوتهم وعملهم بتصفيدهم، فلم يستطيعوا أن يفعلوا في شهر رمضان ما كانوا يفعلونه في غيره. ولم يقل: إنهم قتلوا، ولا ماتوا، بل قال: صفدت. والمصفد من الشياطين قد يؤذي، لكن هذا أقل وأضعف مما يكون في غير رمضان، فهو بحسب كمال الصوم ونقصه. فمن كان صومه كاملاً دفع الشيطان دفعاً لا يدفعه دفع الصوم الناقص. فهذه المناسبة ظاهرة في منع الصائم من الأكل والشرب. والحكم ثابت على وفقه". مجموع الفتاوى 25246-247. 4 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان رمضان فتحت أبواب الرحمة، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين". الحديث أخرجه البخاري 2672، كتاب الصوم، باب هل يقال رمضان، أو شهر رمضان، ومن رأى كله واسعاً. و 31194، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده. ومسلم في صحيحه - واللفظ له - 2758، كتاب الصيام، باب فضل شهر رمضان.

ضَعُف، فشرّهم فيه على أهل الصوم قليل، بخلاف أهل [الشراب] 1، وأهل الظلمات؛ فإنّ الشياطين هنالك مَحَالُّهم، وهم يحبون الظلمة، ويكرهون النور، ولهذا ينتشرون بالليل؛ كما جاء في الحديث الصحيح2، ولهذا أمر الله بالتعوّذ من شرّ غاسق إذا وقب3. وخوارق الجن؛ كالإخبار ببعض الأمور الغائبة؛ وكالتصرّفات الموافقة لأغراض بعض الإنس: كثيرةٌ، [معروفةٌ في جميع الأمم؛ فقد كانت في

_ 1 في ((خ)) : السَّراب. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا استجنح الليل أو كان جنح الليل فكفوا صبيانكم فإن الشياطين تنتشر حينئذ، فإذا ذهب ساعة من العشاء فخلوهم، وأغلق بابك، واذكر اسم الله، وأطفئ مصباحك، واذكر اسم الله، وأوك سقاءك، واذكر اسم الله، وخمر إناءك، واذكر اسم الله، ولو تعرض عليه شيئاً". صحيح البخاري 31195، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده. وأحمد في مسنده3319. 3 قال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} سورة الفلق. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فإن الغاسق قد فسر بالليل، كقوله: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} وهذا قول أكثر المفسرين وأهل اللغة.... والليل مظلم تنتشر فيه شياطين الإنس والجن ما لا تنتشر بالنهار، ويجري فيه من أنواع الشر ما لا يجري بالنهار؛ من أنواع الكفر والفسوق والعصيان، والسحر، والسرقة، والخيانة، والفواحش، وغير ذلك. فالشر دائماً مقرون بالظلمة. ولهذا إنما جعله الله لسكون الآدميين وراحتهم، لكن شياطين الإنس والجن تفعل فيه من الشر ما لا يمكنها فعله بالنهار، ويتوسلون بالقمر ويدعونه، والقمر وعبادته. وأبو معشر البلخي له مصحف القمر يذكر فيه من الكفريات والسحريات ما يناسب الاستعاذة منه". دقائق التفسير 6497.

العرب كثيرة] 1، وكذلك في الهند، وفي الترك، والفرس، والبربر، وسائر الأمم2، فهي أمورٌ معتادة للجنّ والإنس. آيات الأنبياء خارجة عن مقدور الجن والإنس خوارق الشياطين علامة على فجور أوليائهم وآيات الأنبياء - كما تقدم3 - خارجةٌ عن مقدور الإنس والجن؛ فإنهم مبعوثون إلى الإنس والجن، فيمتنع أن تكون آياتهم أموراً معروفةً فيمن بُعثوا إليه؛ إذ يقال: هذه موجودة كثيراً للإنس، فلا يختصّ بها الأنبياء. بل هذه الخوارق هي آيةٌ وعلامةٌ على فجور صاحبها وكذبه، فهي ضدّ آيات الأنبياء التي تستلزم صدق صاحبها وعدله. ولهذا يكون كثيرٌ من الذين تخدمهم الشياطين من أهل الشياطين. وهذا معروفٌ لكثيرٍ ممَّن تخدمه الشياطين. بل من طوائف المخدومين من يكونون كلّهم من هذا الباب؛ [كالبوي] 4 الذي للترك5.

_ 1 ما بين المعقوفتين مكرر في ((خ)) . 2 انظر: الجواب الصحيح 2319، 321، 342-343. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 83، 124، 169. 3 انظر ما تقدم من هذا الكتاب ص 589-632، 671-674، 754، 798، 799، 1003، 1021. 4 في ((م)) : كالبويي. وفي ((ط)) : كالبوبي. ولعلها (كالبوى) - بالألف المقصورة. 5 ذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في موضع آخر أن للترك شيخاً يقال له: البوا. يُنصب له مكان في ظلمة، فيذبحون ذبيحة للشيطان، ويغنون له، فتأتي الشياطين وتخاطبهم ببعض الأمور الغائبة؛ كأحوال غائبيهم، وسرقاتهم، وغير ذلك. ويُحمل البوا فيوقف به في الهواء وهم يرونه، ولا يكون بينهم إذ ذاك مسلم، ولا كتاب فيه قرآن. هذا مشهور عندهم إلى هذا الوقت، أخبرنا به غير واحد. انظر: كتاب الصفدية 1191. وقد سبق أن ذكر شيخ الإسلام رحمه الله باباه الرومي في ص 192، 600 من هذا الكتاب. فهو المقصود بالبويي الذي للترك، أو البوا، أو باباه، وهي أسماء لشخص واحد من أولياء الشياطين الذين لهم خوارق تعينهم عليها. وكذلك البوشي - أبو المجيب - فإنه ذكر أن له خوارق مثل خوارق البوا. انظر: جامع الرسائل 1193.

وأكثر [المؤلهين] 1 من هذا الباب، وهم يصعدون بهم في الهواء، ويدخلون المدن والحصون بالليل والأبواب مغلقة، ويدخلون على كثيرٍ من رؤساء النَّاس، و [يظنّون] 2 أنَّ هؤلاء صالحون قد طاروا في الهواء، ولا يعرف أن الجنّ طارت بهم. الفرق بين الأحوال الشيطانية والآيات النبوية وهذه الأحوال الشيطانية تبطل، أو تضعف، إذا ذُكر الله وتوحيده، وقرئت قوارع القرآن؛ لا سيما آية الكرسي؛ فإنها تُبطل عامّة هذه الخوارق الشيطانية3. وأمّا آيات الأنبياء والأولياء [فتقوى] 4 بذكر الله وتوحيده. والجنّ المؤمنون قد يعينون المؤمنين بشيءٍ من الخوارق، كما يعين الإنس المؤمنون للمؤمنين بما يمكنهم من الإعانة. وما لا يكون إلا مع الإقرار بنبوّة الأنبياء، فهو من آياتهم. فوجوده يؤيد آياتهم، لا يُناقضها. مع أن آيات الأنبياء التي يدّعون أعلى من هذا، وأعلى من كرامات الأولياء؛ فإن تلك هي الآيات الكبرى5.

_ 1 في ((ط)) : لمؤلهين. 2 في ((خ)) : ويظن. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 انظر: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 325، 326، 339. ومجموع الفتاوى 1169، 11538، 635، 1953-55. 4 في ((خ)) : فيقوى. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 سبق ذلك، انظر ما تقدم ص 581، 724، 801-963، 986-989،1021-1023، وما سيأتي من هذا الكتاب ص 1325. وانظر مجموع الفتاوى 3156.

الدعوات المجابة والرؤيا الصادقة لا ينكرها أحد والذين ذكر عنهم إنكار كرامات الأولياء1 من المعتزلة وغيرهم؛ كأبي إسحاق الاسفرايني، وأبي محمد بن أبي زيد؛ وكما ذكر ذلك أبو محمد بن حزم2، لا ينكرون الدعوات المجابة، ولا ينكرون الرؤيا الصادقة؛ فإن هذا متفق عليه بين المسلمين3؛ وهو أن الله تعالى قد يخصّ بعض عباده بإجابة دعائه أكثر من بعض، ويخصّ بعضهم بما يريه من المبشّرات. وقد كان سعد بن أبي وقاص معروفاً بإجابة الدعاء؛ فإنّ النبيّ [صلى الله عليه وسلم] 4 قال: "اللهمّ سدّد رميته، وأجب دعوته"5. وحكاياته في ذلك مشهورة6.

_ 1 سبق ذلك في ص 148-149، 986 من هذا الكتاب. 2 انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل 52-4، 8. والمحلى 136. والدرة فيما يجب اعتقاده ص 192. 3 انظر إثبات الرؤيا، والدعوات المجابة عند ابن حزم، والمعتزلة في: الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم 58، 14. والأصول والفروع له ص 134. وتفسير الزمخشري المعتزلي 2243. ونقل السبكي عن الاسفراييني أنه قال: "وإنما بالغ الكرامات إجابة دعوة، أو موافاة ماء في بادية في غير موقع المياه، أو مضاهي ذلك، مما ينحط عن العادة". طبقات الشافعية 2315. 4 في ((خ)) : صلعم. 5 انظر: طبقات الشافعية للسبكي 2331. والبداية والنهاية لابن كثير 778. وعند الترمذي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم استجب لسعد إذا دعاك". سنن الترمذي 5649، كتاب المناقب، باب مناقب سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. والحاكم في مستدركه 3499، وصححه، ووافقه الذهبي. 6 انظر بعض هذه الدعوات التي دعا بها سعد، فاستجيب له في: البداية والنهاية 778-80. وسير أعلام النبلاء 1112-117.

وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لم يبق بعدي من النبوّة إلا الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له"1. وثبت عنه في الصحيح أنه قال: "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره"2؛ ذكر ذلك لما أقسم أنس بن النضر أنه لا [تكسر] 3 ثنية الربيع4، [فاستجاب الله ذلك] 5. [وأيضاً: فإنّ منهم] 6 البراء بن مالك7؛ أخو أنس بن مالك، وكانوا

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه - مع اختلاف في الألفاظ - 52564، كتاب التعبير، باب المبشرات. ومسلم في صحيحه 1348، كتاب الصلاة، باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود. وأبو داود في سننه، كتاب الصلاة، باب في الدعاء في الركوع والسجود. وابن ماجه في سننه 21283، كتاب التعبير، باب الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له. ومالك في الموطأ 2957، كتاب الرؤيا، باب ما جاء في الرؤيا. 2 أخرجه البخاري في صحيحه2961-962، كتاب الصلح، باب الصلح في الدية، و 41636-1637، كتاب التفسير، باب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} ومسلم في صحيحه 31302، كتاب القسامة، باب إثبات القصاص في الأسنان وما في معناها، إلا أنه وقع في صحيح مسلم أن أم الربيع هي التي أقسمت، وابنتها أم حارثة هي التي جرحت إنساناً. 3 في ((خ)) : يكسر. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 هي الربيع بنت النضر الأنصارية الخزرجية، عمة أنس بن مالك. صحابية. انظر تقريب التهذيب 2640. 5 في ((خ)) : وجاء ذلك. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 6 في ((خ)) : أيضاً ومنهم. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 7 هو البراء بن مالك بن النضر الأنصاري. صحابي جليل، بطل شجاع، شهد أحداً وبايع تحت الشجرة. قيل إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى أمراء الجيش: لا تستعملوا البراء على جيش فإنه مهلكة من المهالك يقدم بهم. استشهد يوم فتح تستر سنة 20 هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 1195. والبداية والنهاية 788.

إذا اشتدّ الحرب، يقولون: يا براء أقسم على ربك، فيقسم على ربه، فينصرون1. والقَسَمُ: قيل: هو من جنس الدعاء2، لكن هو طلب مؤكّد بالقسم. فالسائل يخضع، ويقول: أعطني. والمقسم يقول: عليك لتعطيني، وهو خاضعٌ سائلٌ. بعض المتصوفة يدعي لنفسه من الكرامات ما لا يجوز أن يكون للأنبياء لكن من الناس من يدّعي له من الكرامات ما لا يجوز أن يكون للأنبياء3؛

_ 1 روى الترمذي من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كم من أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبرّه، منهم البراء ابن مالك". سنن الترمذي 5692، كتاب المناقب، باب مناقب البراء بن مالك رضي الله عنه، وقال الترمذي: هذا حديث صحيح حسن. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وكان البراء إذا اشتدت الحرب بين المسلمين والكفار يقولون: يا براء أقسم على ربك. فيقسم على الله، فتنهزم الكفار. فلما كانوا على قنطرة بالسوس، قالوا: يا براء أقسم على ربك، فقال: يا رب أقسمت عليك لما منحتنا أكتافهم وجعلتني أول شهيد. فأبرّ الله قسمه، فانهزم العدو، واستشهد البراء بن مالك يومئذ. وهذا هو أخو أنس بن مالك قتل مائة رجل مبارزة، غير من شرك في دمه، وحمل يوم مسيلمة على ترس، ورمي به إلى الحديقة حتى فتح الباب". مجموع الفتاوى 1205. 2 لم أجد هذا المعنى - في مادة قَسَمَ - في كتب اللغة التالية: لسان العرب، وتهذيب اللغة، والقاموس المحيط، والمفردات، والمصباح المنير. وقد تكلم شيخ الإسلام رحمه الله عن هذا الموضوع بالتفصيل في مجموع الفتاوى1205-206. 3 شيخ الإسلام رحمه الله يُنبّه هاهنا على خرافات ملاحدة الصوفية الذين يضاهئون كرامات أوليائهم بأفعال الله تعالى، فيجعلونهم ينفعون ويضرون، ويحيون ويميتون.

كقول بعضهم: إنّ لله عباداً، لو شاءوا من الله أن لا يقيم القيامة، لما أقامها1. وقول بعضهم: إنه يعطي كن، أيّ شيء أراده، قال له: كن، فيكون. وقول بعضهم: لا يعزب عن قدرته ممكن، كما لا يعزب عن قدرة ربه محال؛ فإنه لما كثر في الغلاة من يقول بالحلول والاتحاد2 وإلهية بعض البشر، كما [قاله] 3 النصارى في المسيح، صاروا يجعلون ما هو من خصائص الربوبية لبعض البشر، وهذا كفرٌ. وأيضاً: فإنّ كثيراً من الناس لا يكون من أهل الصلاح، و [يكون] 4 له خوارق شيطانية، كما لعبّاد المشركين وأهل الكتاب، فتتجلى لهم على أنها كرامات. فمن الناس من يُكذّب بها، ومنهم من يجعل أهلها [من] 5 أولياء

_ 1 نقل الغزالي مثل هذه المقولة عن أحد أقطاب الصوفية الذين يجعلون الإرادة والمحبة والرضا سواء، والكفر والفسوق والعصيان يُريده الله ويُحبه ويرضى عنه، فقال: "ولما دخل الزنج البصرة فقتلوا الأنفس ونهبوا الأموال، اجتمع إلى سهل إخوانه فقالوا: لو سألت الله تعالى دفعهم؟ فسكت، ثم قال: إن لله عباداً في هذه البلدة لو دعوا على الظالمين لم يصبح على وجه الأرض ظالم إلا مات في ليلة واحدة، ولكن لا يفعلون. قيل: لِمَ؟ قال: لأنهم لا يحبون ما لا يحب. ثم ذكر من إجابة الله تعالى أشياء لا يستطاع ذكرها، حتى قال: ولو سألوه أن لا يقيم الساعة لم يقمها". إحياء علوم الدين 4375-376. 2 وهم غلاة الصوفية وملاحدتهم؛ كابن عربي، وابن الفارض، وابن سبعين، ومن قبلهم الحلاج، وغيرهم. 3 في ((ط)) : قال. 4 في ((م)) ، و ((ط)) : وتكون. 5 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.

الله1، وذلك لأن الطائفتين ظنت أن مثل هذه الخوارق لا يكون إلا لأولياء الله، ولم يُميّزوا بين الخوارق الشيطانية التي هي جنس ما للسحرة، والكهان، ولعباد المشركين، وأهل الكتاب، وللمتنبئين الكذّابين، وبين الكرامات الرحمانية التي يكرم الله بها عباده الصالحين. فلما لم يُميّزوا بين هذا وهذا، وكان كثيرٌ من الكفار، والفجار، وأهل الضلال، والبدع لهم خوارق شيطانيّة، صار هؤلاء منهم حزبين؛ حزباً قد شاهدوا ذلك، وأخبرهم به من يعرفون صدقه، فقالوا: هؤلاء أولياء الله، وحزباً رأوا أن أولئك خارجون عن الشريعة، وعن طاعة الله ورسوله، فقالوا: ليس هؤلاء من الأولياء الذين لهم كرامات؛ فكذّبوا بوجود ما رآه أولئك، وأولئك قد عاينوا ذلك أو تواتر عندهم؛ فصار تكذيب هؤلاء مثل تكذيب من ينكر السحر، والكهانة، والجن، وصرعهم للإنس2، إذا

_ 1 قال شيخ الإسلام رحمه الله: "والناس في خوارق العادات على ثلاثة أقسام: قسم يُكذّب وجود ذلك لغير الأنبياء، وربما صدق به مجملاً وكذّب بما يذكر له عن كثير من الناس لكونه عنده ليس من الأولياء. ومنهم من يظن أن كل من كان له نوع من خرق العادة كان ولياً. وكلا الأمرين خطأ، ولهذا نجد هؤلاء يذكرون أن للمشركين وأهل الكتاب نصراء يعينونهم على قتال المسلمين، وأنهم من أولياء الله. وأولئك يكذبون أن يكون معهم من له خرق عادة. والصواب القول الثالث، وهو أن معهم من ينصرهم من جنّهم، لا من أولياء الله.. فيكون لأحدهم من الخوارق ما يناسب حاله. ولكن خوارق هؤلاء يعارض بعضها بعضاً. وإذا حصل من له تمكن من أولياء الله تعالى أبطلها عليهم". الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 342-343. وانظر مجموع الفتاوى 1377، 91. 2 وممّن أنكر حقيقة السحر، وجعله من جنس التمويه والحيلة، وكذلك الكهانة: المعتزلة، وابن حزم، وغيرهم. انظر: الكشاف للزمخشري 2103. والفصل لابن حزم 52-6. وانظر أيضاً: شرح النووي على مسلم 14223. وتفسير القرطبي 232. وتفسير ابن كثير 1147 وفتح الباري10233. وتيسير العزيز الحميد ص 383. وأضواء البيان 4444. وانظر عن إنكار المعتزلة صرع الجن للإنس ما سبق أيضاً في هذا الكتاب ص 1003-1005. وكذا الفصل لابن حزم 59.

كذّب ذلك عند من رأى ذلك، أو ثبت عنده. ومن كذّب بما تيقن غيره وجوده، نقصت حرمته عند هذا المتيقن، وكان عنده إما جاهلاً، و [إما] 1 معانداً، فربّما ردّ عليه كثيراً من الحق بسبب ذلك. إنكار المعتزلة للكرامات والسحر والكهانة ولهذا صار كثيرٌ من المنتسبين إلى زهدٍ، أو فقرٍ، أو تصوّف، أو وَلَهٍ، أو غير ذلك، لا يقبلون قولهم، ولا يعبأون بخلافهم؛ لأنهم كذّبوا بحق قد تيقّنه هؤلاء، وأنكروا وجوده، وكذّبوا بما لم يُحيطوا بعلمه. وقد يُدخلون إنكار ذلك في الشرع، كما أدخلت المعتزلة ونحوهم إنكار كرامات الأولياء2، وإنكار السحر والكهانة في الشرع، بناءً على أن ذلك يقدح في آيات الأنبياء3؛ فجمعوا بين التكذيب بهذه الأمور الموجودة، وبين عدم

_ 1 في ((ط)) : تأما. 2 أنكر المعتزلة، وابن حزم، وبعض المتكلمين كرامات الأولياء، لأجل أن لا تلبس المعجزة بالكرامة، وقالوا: إن الخوارق لا تظهر إلا على يد الأنبياء. انظر: المغني للقاضي عبد الجبار 15241. والمحلى لابن حزم 136. والأصول والفروع له ص 132-133. والدره له ص 194-195. 3 أنكر المعتزلة، وابن حزم حقيقة السحر، وقالوا: إنه عجائب وحيل، وقالوا: لو أن السحر حقيقة لما كان بين الأنبياء وبين السحرة والكهان فرق. انظر: المغني للقاضي عبد الجبار 15241-242. والدره لابن حزم ص 192-194، 197. والأصول والفروع له ص 134-135. وتفسير القرطبي 232.

العلم بآيات الأنبياء والفرق بينها وبين غيرها؛ حيث ظنوا أن هذه الخوارق الشيطانية من جنس آيات الأنبياء، وأنها نظير لها، فلو وقعت لم يكن للأنبياء ما يتميّزون به. والذين ردُّوا على هؤلاء1 من الأشعرية ونحوهم، يُشاركونهم في هذا في التسوية بين الجنسين2، وأنه لا فرق. قول الأشاعرة في الخوارق لكنّ هؤلاء لمّا تيقّنوا وجودها، جعلوا الفرق ما ليس بفرق؛ وهو اقترانها بالدعوى، والتحدي بمثلها، وعدم المعارضة3. وهم يقولون: إنّا نعلم بالضرورة أنّ الربّ إنّما خلقها لتصديق النبيّ4. وهذا كلام صحيح، لكنّه يستلزم بطلان ما أصّلوه؛ من أنه لا يخلق شيئاً لشيءٍ5.

_ 1 أي على المعتزلة. 2 أي لا فرق بين جنس آيات الأنبياء، وجنس خوارق السحرة والكهان. فالمعتزلة أنكروا كرامات الأولياء، وخوارق السحرة والكهان، وشبهتهم: أنهم لو أثبتوها لما تميزت معجزات الأنبياء من بينها. وأما الأشاعرة: فقد أثبتوا كرامات الأولياء، وخوارق السحرة والكهان، وجعلوها من جنس معجزات الأنبياء، إلا أن الولي والساحر لا يدّعي النبوة بما أوتي من خوارق، ولو ادعى النبوة لأبطل الله تلك الخوارق. 3 هذا تعريف المعجزة عند الأشاعرة، كما تقدم ص 151-152، 1164. 4 انظر: الإرشاد للجويني ص 325، 329. والبرهان في أصول الفقه له أيضاً1148-152. 5 سبق أن ردّ شيخ الإسلام رحمه الله على أصلهم هذا، وبيّن تناقضه مع قولهم في المعجزات (في ص 580-583 من هذا الكتاب) .

وأيضاً: فاختصاصها بوجود العلم الضروري عندها دون غيرها، لا بُدّ أن يكون لأمرٍ أوجب [التخصيص] 1، وهم يقولون: بل قد تستوي الأمور، ويوجد العلم الضروي ببعضها دون بعض2؛ كما قالوا مثل ذلك في العادات: إنّه يجوز إنخراقها كلّها بلا سبب على أعظم الوجوه؛ كجعل الجبال يواقيت. لكن يُعلم بالضرورة أن هذا لا يقع3. فكذلك قالوا في المعجزات: يجوز أن يخلقها على يد كاذب [...................] 4 إنما خلقها على يد الصادق بما ادعى من العلم الضروري صحيح5وأما قولهم: إنّ المعلوم به يماثل غيره. فغلطٌ عظيم، بل هم لم يعرفوا الفرق، بمنزلة العامي الذي أوردت عليه شبهات السوفسطائية6؛ فهو يعلم بالضرورة أنها باطلة، ولكن لا يعرف الفرق بينها وبين الحق. ولكن العامي يقول: فيها فساد لا أعرفه، لا يقول: دلائل الحق كدلائل الباطل.

_ 1 في ((ط)) : التصخيص. 2 انظر: البرهان في أصول الفقه للجويني 1153. 3 انظر: المواقف للإيجي ص 342، 345. وشرح المقاصد 515-18. وطبقات الشافعية الكبرى للسبكي 2316-317. والإرشاد للجويني ص 318-319. وانظر: الجواب الصحيح 6399-404، 500. وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 1028-1033. 4 في ((خ)) ، و ((م)) ، و ((ط)) : بياض في الأصل مقدار نصف سطر. 5 انظر: البرهان في أصول الفقه للجويني 1150. والإرشاد له ص 326-327. والمواقف للإيجي ص 341. وانظر: الجواب الصحيح 6399، 500-502. ومنهاج السنة النبوية 3226-228. وانظر ما سبق ص 777 من هذا الكتاب. 6 تقدم معناها ص 553.

وهؤلاء ادعوا الاستواء في نفس الأمر، فغلطوا غلطاً عظيماً1، ولو قالوا: بينهما فرقٌ، لكنه لم يتلخص لنا، لكان قولهم حقاً، وكانوا قد ذكروا عدم العلم، لا العلم بالعدم؛ كما يقول ذلك كثير من الناس؛ يقول: ما أعرف الفرق بينهما، وذلك أن العلم الضروري يحصل ببعض الأخبار دون بعض. وقد قيل: إنا نعلم أنه متواتر بحصول علمنا الضروري به2. والتحقيق: أنه إذا حصل [لهم] 3 علم ضروري، كان قد حصل الخبر الذي يوجبه لهم، وقد لا يحصل لغيرهم. والعلم يحصل بعدد المخبرين، وبصفاتهم، وبأمور أخرى تنضم إلى الخبر4. ومن جعل الاعتبار بمجرد العدد فقد غلط5. والأكثرون

_ 1 أي أن الأشاعرة ادعوا الاستواء في جنس الخارق للأنبياء والأولياء والسحرة. انظر: البيان للباقلاني ص 47-48. والإرشاد للجويني ص 328. 2 انظر: التمهيد لأبي الخطاب 316-17. 3 في ((م)) ، و ((ط)) : له. 4 انظر: التمهيد لأبي الخطاب 331. وشرح الكوكب المنير 3335. وأصول الفقه عند ابن تيمية1191. ومجموع الفتاوى 11340، 1848-51. وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 888. 5 وانظر إلى من اشترط العدد، وإلى اختلافهم في العدد الذي يفيد التواتر في: التمهيد لأبي الخطاب 328-29. والعدة لأبي يعلى 3744. والمعتمد 2561. والمسودة ص 235. وشرح الكوكب المنير 2333. والبرهان في أصول الفقه للجويني 1569-570. ومجموع الفتاوى 1850-51. وأصول الفقه عند ابن تيمية 1252.

يقولون: العلم الحاصل به ضروريّ1. وقيل: إنه نظري2. وهو اختيار الكعبي3، وأبي الحسين4، وأبي الخطاب5. كل علم نظري فمنتهاه أنه ضروري والتحقيق: أنّه قد يكون ضرورياً، وقد يكون نظرياً، وقد يجتمع فيه الأمران؛ يكون ضرورياً، ثم إذا نظر فيه وجد أنه يوجب العلم. وكذلك العلم الحاصل عقب الآيات قد يكون ضرورياً، وقد يكون نظرياً، وكلّ نظري فإنّ منتهاه أنه ضروري6. ولهذا قال أبو المعالي: المرتضى عندنا أن جميع العلوم ضرورية7؛ أي بعد حصول أسبابها، ولا بد من فرق في نفس الأمر بين ما يوجب العلم، وما لا يوجبه. أصل خطأ المعتزلة والأشاعرة في الخوارق وأصل خطأ الطائفتين: أنهم لم يعرفوا آيات الأنبياء، وما خصهم الله به، ولم يقدروا قدر النبوة، ولم يقدروا آيات الأنبياء قدرها، بل جعلوا هذه الخوارق الشيطانية من جنسها؛ فإما أن يكذّبوا بوجودها، وإما أن يسوّوا بينهما، ويدعوا فرقاً لا حقيقة له.

_ 1 انظر: التمهيد لأبي الخطاب 322-23. والبرهان في أصول الفقه 1569. وشرح الطحاوية 1143. 2 انظر: التمهيد لأبي الخطاب 317، 23-28. 3 سبقت ترجمته. 4 سبقت ترجمته. 5 سبقت ترجمته. 6 انظر: البرهان في أصول الفقه للجويني 199، 111. ودرء تعارض العقل والنقل. 7 انظر: البرهان في أصول الفقه للجويني 1126. ومجموع الفتاوى 276-77.

ولهذا يوجد كثير ممّن يكذب [بهذه] 1 الخوارق الشيطانية أن [تكون] 2 لبعض الأشخاص لما يراه من نقص دينه وعلمه، فإذا عاينها بعد ذلك أو ثبت عنده، خضع لذلك الشخص الذي كان عنده: إما كافراً، وإما ضالاً، وإما مبتدعاً جاهلاً، وذلك لأنه أنكر وجودها [معتقداً أنها لا توجد إلا للصالحين، فلمّا تيقّن وجودها] 3، جعلها دليلاً على الصلاح. وهو غالطٌ في الأصل، بل هذه من الشياطين؛ من جنس ما للسحرة والكهان، ومن جنس ما للكفار من المشركين وأهل الكتاب؛ فإن لمشركي الهند والترك وغيرهم، ولعباد النصارى من هذه الخوارق الشيطانية أموراً كثيرة يطول وصفها أكثر وأعظم [من أكثر] 4 ممّا يُوجد منها لأهل الضلال والبدع من المسلمين، وما يوجد منها للمنافقين5؛ فإن الشياطين لا تتمكن من إغواء المسلمين، وإن كان فيهم جهل وظلم، كما [تتمكن] 6 من اغواء المشركين وأهل الكتاب7.

_ 1 ما بين المعقوفتين ساقطٌ من ((ط)) . 2 في ((خ)) : يكون. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 4 ما بين المعقوفتين ساقط من ((ط)) . 5 قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "وفي أصناف المشركين من مشركي العرب، ومشركي الهند، والترك، واليونان، وغيرهم من له اجتهاد في العلم والزهد والعبادة، ولكن ليس بمتبع للرسل، ولا مؤمن بما جاؤوا به، ولا يصدقهم بما أخبروا به، ولا يطيعهم فيما أمروا. فهؤلاء ليسوا بمؤمنين، ولا أولياء لله، وهؤلاء تقترن بهم الشياطين، وتنزل عليهم، فيكاشفون ببعض الأمور، ولهم تصرفات خارقة من جنس السحر، وهم من جنس الكهان والسحرة الذين تتنزل عليهم الشياطين..". الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 83-84. وانظر أيضاً المصدر نفسه ص 168-169. 6 في ((خ)) : يتمكن. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 7 وسبق أن ذُكرت قصة شيخ من طائفة الأحمدية مع بعض أمراء التتار المشركين، وفيها دلالة واضحة على تسلط الشياطين على هؤلاء الكفار.

ولهذا ثنى في القرآن قصة موسى مع السحرة، وذكر ما يقوله الكفار لأنبيائهم؛ فإنه ما جاء نبي صادق قط، إلا قيل فيه: إنه ساحر أو مجنون؛ كما قال تعالى: {كَذَلكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُون أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَومٌ طَاغُون} 1، وذلك أن الرسول يأتي بما يخالف عاداتهم، ويفعل ما يرونه غير نافع، ويترك ما يرونه نافعاً. وهذا فعل المجنون؛ فإن المجنون فاسد العلم والقصد. ومن كان مبلغه من العلم إرادة الحياة الدنيا، كان عنده من ترك ذلك، وطلب ما لا يعلمه: مجنوناً. ثمّ النبيّ مع هذا يأتي بأمور خارجة عن قدرة الناس؛ من إعلام بالغيوب، وأمور خارقة لعاداتهم؛ فيقولون: هو ساحر. الفرق بين النبي والساحر عند الفلاسفة وهذا موجود في المنافقين الملحدين المتظاهرين بالإسلام؛ من الفلاسفة ونحوهم؛ يقولون: إن ما أخبرت به الأنبياء من الغيوب، والجنة، والنار، هو من جنس قول المجانين2، وعندهم خوارقهم من جنس

_ 1 سورة الذاريات، الآيتان 52-53. 2 وقال شيخ الإسلام رحمه الله عنهم في موضع آخر: "وهؤلاء القوم قد يقولون: إن الأنبياء أخبروا الناس بما هو كذب في نفس الأمر لأجل مصلحتهم. وقد يحسنون العبارة، فيقولون: لم يخبروا بالحقائق، بل ذكروا من التمثيل والتخييل في أمر الإيمان بالله واليوم الآخر ما تنفع به العامة. وأما الحقيقة فلم يخبروا بها، ولا يمكن إخبار العامة بها. وهذا مما يعلم بالضرورة بطلانه من دين المرسلين". الصفدية 1202. وانظر درء تعارض العقل والنقل 18-9. وانظر ما يُشبه كلام هؤلاء في: رسالة أضحوية في أمر المعاد لابن سينا ص 44-51. وقال شيخ الإسلام رحمه الله أيضاً عن الفلاسفة المنتسبين للإسلام: "وصار ابن سينا، وابن رشد الحفيد، وأمثالهما يقربون أصول هؤلاء إلى طريقة الأنبياء، ويظهرون أصولاً لا تخالف الشرائع النبوية. وهم في الباطن يقولون: إن ما أخبرت به الرسل عن الله وعن اليوم الآخر لا حقيقة له في نفس الأمر، وإنما هو تخييل وتمثيل، وأمثال مضروبة لتفهيم العامة ما ينتفعون به في ذلك بزعمهم، وإن كان مخالفاً للحق في نفس الأمر. وقد يجعلون خاصة النبوة هي التخييل، ويزعمون أن العقل دلّ على صحة أصولهم". الصفدية 1237.

خوارق السحرة، والممرورين1 المجانين؛ كما ذكر ابن سينا2، وغيره3. لكن الفرق بينهما: أنّ النبي حسن القصد، بخلاف الساحر، وأنه يعلم ما يقول، بخلاف المجنون4. لكن معجزات [الأنبياء] 5 عندهم قوى نفسانية، ليس مع هذا ولا هذا شيء خارج عن قوة النفس6. والقاضيان؛ أبو بكر، وأبو يعلى، ومن وافقهما: متوقّفون في وجود المخدوم الذي تخدمه الجن7؛ قالوا: لا يُقطع بوجوده. معنى الكاهن وكذلك الكاهن: ذكروا فيه القولين؛ قول من يقول: إنه المتخرص؛

_ 1 سبق التعريف بالمرة. انظر ص 836 من هذا الكتاب. 2 انظر: الإشارات والتنبيهات لابن سينا 4900-901. وانظر: الصفدية 1142-143، 165. ودرء تعارض العقل والنقل 19. وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 608-609، 835. 3 كالفارابي، وقد تقدم ص 835. 4 انظر: الصفدية 1143. وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 156-157، 611. 5 في ((ط)) : لأنبياء. 6 انظر: درء تعارض العقل والنقل 5355-356. والصفدية 1128، 132. وانظر ما سبق ص 446، 618 من هذا الكتاب. 7 المخدوم: من له تابعه من الجن. انظر: القاموس المحيط ص 1421.

وقول من يقول: إنه مخدوم. وهم متوقفون [فيه، لا] 1 يقطعون [بوجود] 2 مخدوم كاهن3، كما يقطعون [بوجود] 4 الساحر؛ [لأنه] 5 في زمانهم وجد الساحر. والقرآن أخبرنا بالسحر في سورة البقرة6، بخلاف الكاهن؛ فإن القرآن ذكر اسمه، ولو تدبروا لعلموا أن الكاهن هو المذكور في قوله: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُم كَاذِبُونَ} 78. وفي الصحيح: عن النبي [صلى الله عليه وسلم] 9 أنه قيل له: "إن منا قوماً يأتون الكهان. قال: فلا يأتوهم"10.

_ 1 في ((خ)) : لا فيه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 في ((ط)) : وجود. 3 وقد أشار القاضي عياض رحمه الله إلى إنكار المعتزلة وبعض المتكلمين لوجوده. انظر: شرح النووي على مسلم 4223. 4 في ((ط)) : وجود. 5 ما بين المعقوفتين ساقط في ((خ)) . 6 قال تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} . سورة البقرة، الآية 102. 7 سورة الشعراء، الآيات 221-223. 8 انظر زاد المسير لابن الجوزي 6149. 9 في ((خ)) : صلعم. 10 سبق تخريجه، انظر ص 1221 من هذا الكتاب.

وسئل عن الكهان، وما يخبرون به؟ فأخبر أن الجن [تسترق] 1 السمع، و [تخبرهم] 2 به3. فالكتاب والسنة أثبتا وجود الكاهن. وأحمد قد نصّ على أنه يُقتل كالساحر4. لكن الكاهن إنما عنده أخبار، والساحر عنده تصرف؛ بقتل، وإمراض، وغير ذلك5. وهذا تطلبه النفوس أكثر. وابن صياد6 كان كاهناً، ولهذا قال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: " قد خبّأتُ لك خبيَّاً. فقال: الدُّخّ. فقال: اخسأ، فلن تعدو قدرك" 7، إنمّا أنت من إخوان الكهان.

_ 1 في ((خ)) : يسترق. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 في ((خ)) : يخبرهم. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 سبق تخريجه، انظر ص 974 من هذا الكتاب. 4 انظر: المغني لابن قدامة 12305. والكافي 4166. وتيسير العزيز الحميد ص 414. وانظر: المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد 2106-107. 5 انظر: المغني لابن قدامه 12305. وتيسير العزيز الحميد ص 406، 411، 412. ولسان العرب 17244 - مادة كهن -. والمفردات في غريب القرآن ص 97. وأضواء البيان 4455. وفتح المجيد ص 338، 339. وقال الإمام أحمد رحمه الله: "الكاهن يدعي الغيب، والساحر يعقد ويفعل كذا". المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد 2106. 6 هو عبد الله بن صائد، ويقال له: ابن صياد. كان أبوه من اليهود، وهو الذي يقال إنه الدجال. ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أعور مختوناً. وقد استأذن عمرُ بن الخطاب الرسولَ صلى الله عليه وسلم في قتله؟ فقال: إن يكنه، فلن تسلط عليه، وإن يكن غيره فلا خير لك في قتله. قال بعض العلماء: لأنه كان من أهل العهد، ويقال إنه أسلم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وتوفي بالمدينة، وقيل فقد يوم الحرة سنة 63 هـ. انظر: أسد الغابة 3187. والإصابة 5192. 7 رواه البخاري في صحيحه 31112، كتاب الجهاد، باب كيف يعرض الإسلام على الصبي. ومسلم في صحيحه42240-2241، كتاب الفتن، باب ذكر ابن صياد.

ولمّا قضى في الجنين بغرة، قال [حمل بن] 1 مالك2: [أيودى] 3 من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل، قتل ذلك يطل4. فقال: " إنّما أنت من أخوان الكهّان"؛ من أجل [سجعه الذي سجع5. فكانوا يسجعون أساجيع6] 7. وقد رأيت من هؤلاء شيوخاً [يسجعون أساجيع كأساجيع] 8 الكهّان، ويكون كثيرٌ منها صدقاً.

_ 1 في ((خ)) : حَمَدُابن. وفي ((ط)) : أحمد بن. وما أثبت من ((م)) . 2 هو حمل بن مالك بن النابغة الهذلي، أبو نضله - بفتح النون وسكون المعجمة - صحابي نزل البصرة، وله ذكر في الصحيحين. (تقريب التهذيب 1243) . وقد ورد في صحيح مسلم: فقال حمل بن النابغة الهذلي - نسبه إلى جده -. 3 في ((ط)) : أيودي. 4 في البخاري: فمثل ذلك بطل. وفي مسلم: فمثل ذلك يطل. وبطل من البطلان، ويُطَل بمعنى يهدر ولا يطالب بديته. انظر: هامش صحيح البخاري 52172 تعليقات المحقق. 5 أخرجه البخاري في صحيحه 52172، كتاب الطب، باب الكهانة. ومسلم في صحيحه 31309-1311، كتاب القسامة، باب دية الجنين ووجوب الدية في قتل الخطأ وشبه العمد على عاقلة الجاني. والترمذي في جامعه 423-24، كتاب الديات، باب ما جاء في دية الجنين. 6 قال ابن حجر رحمه الله: "السجع: هو تناسب آخر الكلمات لفظاً. وأصله الاستواء. وفي الاصطلاح: الكلام المقفى. والجمع أسجاع وأساجيع. والمكروه منه: ما يقع مع التكلف في معرض مدافعة الحق. وأما ما يقع عفواً بلا تكلف في الأمور المباحة، فجائزٌ". فتح الباري 10229. 7 في ((خ)) : شجعه الذي شجع. فكانوا يشجعون أشاجيع. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 8 في ((خ)) : يشجعون أشاجيع كأشاجيع. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

ولهذا جمع الله بين الكاهن والشاعر، في قوله: {وَمَا هُو بِقَولِ شَاعِر قَليلاً مَا تُؤمِنُون وَلا بِقَولِ كَاهِن قَليلاً مَا تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِن رَبِّ العَالَمِينَ} 1. وكذلك في الشعراء: ذكر الكاهن والشاعر بعد قوله: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيل رَبِّ العَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِين} 2، إلى قوله: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُم كَاذِبُونَ} 3 والرسول في آية الحاقة محمد. وقال أيضاً: {إِنَّهُ لَقَولُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي العَرشِ مَكِين مُطاع ثَمَّ أمين وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُون وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ المُبِين وَمَا هُوَ عَلَى الغَيبِ بِظَنِين وَمَا هُوَ بِقَولِ شَيْطَانٍ رَجِيم فَأَينَ تَذْهَبُون إِنْ هُوَ إِلا ذِكرٌ للعَالَمِينَ} 4. فلما أخبر به أنه قول رسول؛ هو ملك من الملائكة، نفى أن يكون قول شيطان. ولما أخبر هناك أنه قول رسول من البشر، نفى أن يكون قول شاعر، أو كاهن. فهذا تنزيه للقرآن نفسه. ونزَّه الرسولَ أن يكون على الغيب بظنين: أي متّهم، وأن يكون بمجنون؛ فالجنون: فسادٌ في العلم، والتهمة: فسادٌ في القصد. كما قالوا: ساحرٌ، أو مجنون. وقال في الطور: {فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُون أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيبَ المَنُون قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِني مَعَكُمْ مِنَ المُتَرَبِّصِين} 5.

_ 1 سورة الحاقة، الآيات 41-43. 2 سورة الشعراء، الآيات 192-195. 3 سورة الشعراء، الآيات 221-223. 4 سورة التكوير، الآيات 19-27. 5 سورة الطور، الآيات 29-31.

معنى الكاهن عند العرب وقد أخبر عن الأنبياء قبله: أنه {مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُون} 1، ولم يقولوا: كاهن؛ لأنّ الكاهن عند العرب: هو الذي يتكلم بكلام مسجوع، وله قرين من الجن2. وهذا الاسم ليس بذمّ عند أهل الكتاب، بل يسمون أكثر العلماء بهذا الاسم، ويسمُّون هارون [عليه السلام] 3 وأولاده الذين عندهم التوراة بهذا [الاسم4] 5. والقدر المشترك: العلم [بالأمور] 6 الغائبة والحكم بها. اسم الكاهن ليس بذم عند أهل الكتاب فعلماء أهل الكتاب يُخبرون بالغيب، ويحكمون به عن الوحي الذي أوحاه الله. وكهان العرب كانت تفعل ذلك عن وحي الشياطين، وتمتاز بأنها [تسجع] 7 الكلام.

_ 1 سورة الذاريات، الآية 52. 2 انظر: تهذيب اللغة 624. وفتح الباري 10227. وقد تقدم قول حمل بن مالك في دية الجنين: أنغرم دية من لا أكل ولا شرب ولا استهل، فمثل ذلك بطل. وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم له: "أسجعٌ كسجع الأعراب". تقدم ذلك ص 1279. 3 زيادة من ((ط)) . 4 انظر الكتاب المقدس عندهم 1157، سفر اللاويين، الإصحاح الأول. وانظر الفصل لابن حزم 1141، 145، 149. وقال الأزهري في تهذيب اللغة: "والكاهن أيضاً في كلام العرب: الذي يقوم بأمر الرجل، ويسعى في حاجته، والقيام بما أسند إليه من أسبابه. ويُقال لقريظة والنضير: الكاهنان، وهما قبيلا اليهود بالمدينة. وفي حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "يخرج من الكاهنين رجل يقرأ القرآن لا يقرأ أحد قراءته"، وقيل: إنه محمد ابن كعب القرظي". تهذيب اللغة 624-25. 5 في ((ط)) : الإسلام. 6 في ((ط)) : بالأمولأ. 7 في ((خ)) : تشجع. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

بخلاف اسم الساحر؛ فإنه اسم معروف في جميع الأمم. وقد يدخل في ذلك عندهم المخدوم الذي تخبره الشياطين ببعض الأمور الغائبة. ولكون الساحر يأتي بالخوارق شبَّهوا النبي [به] 1، وقالوا: ساحر. فدلّ ذلك على قدرٍ مشترك. من الفروق بين النبي والساحر لكن الفرقان بينهما أعظم، كالفرق بين الملائكة والشياطين، وأهل الجنة وأهل [النّار] 2، وخيار الناس وشرارهم. وهذا أعظم الفروق بين الحق والباطل3. والكفّار قالوا عن الأنبياء: إنَّهم مجانين وسحرة4. [فكما] 5 يُعلم بضرورة العقل من وجود أعظم الفرق بينهم وبين المجانين، وأنهم أعقل الناس وأبعدهم عن الجنون، فكذلك يعلم بضرورة العقل أعظم الفرق بينهم وبين السحرة، وأنهم أفضل الناس وأبعدهم عن السحر. فالساحر يُفسد الإدراك، حتى يُسمع الإنسان الشيء، ويراه، ويتصوّر خلاف ما هو عليه6.

_ 1 ما بين المعقوفتين ساقط من ((م)) ، و ((ط)) . 2 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 3 سبق أن ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى فروقاً كثيرة في هذا الكتاب، انظر ص: 478، 507-513، 589-633، 671-674، 766-779، 797-799، 844، 955، 987، 1003، 1020. 4 وقد حكى الله تعالى عن الكفار قولهم عن الأنبياء أنهم سحرة أو مجانين، قال تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} . سورة الذاريات، الآيتان 52-53. 5 في ((خ)) : فكلما. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 6 وقد سُحِرَ النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى كان يُخيّل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله؛ سحره اليهودي ابن أعصم. قالت عائشة رضي الله عنها: "سُحر النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى كان يُخيّل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله..". رواه البخاري في صحيحه31192، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده. ومسلم في صحيحه41719-1721، كتاب السلام، باب السحر. ومسند الإمام أحمد 650، 57، 63، 64.

والأنبياء يُصحّحون سمع الإنسان، وبصره، وعقله. والذين خالفوهم صمّ بكم عمي فهم لا يعقلون. فالسحرة يزيدون الناس عمى، وصمماً، وبكماً. صفة النبي عليه الصلاة والسلام في التوراة والأنبياء يرفعون [عماهم] 1، وصممهم، وبكمهم؛ كما في الصحيح عن عطاء بن يسار2 أنه سأل عبد الله بن عمرو3. وروى عبد الله بن سلام4 أنه قيل له: أخبرنا ببعض صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، فقال: إنّه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: " {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدَاً وَمُبَشِّرَاً ونَذِيرَاً} 5، وحرزاً للأميين. أنت عبدي سمَّيتُك المتوكل.

_ 1 في ((خ)) رسمت: أعمالهم. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 هو عطاء بن يسار الهلالي، أبو محمد المدني، مولى ميمونة. ثقة فاضل صاحب مواعظ وعبادة. من صغار الثالثة. مات سنة أربع وتسعين. وقيل بعد ذلك. تقريب التهذيب 1676. 3 هو عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سُعيد - بالتصغير - بن سعد ابن سهم السهمي، أبو محمد، وقيل أبو عبد الرحمن. أحد السابقين المكثرين من الصحابة، وأحد العبادلة الفقهاء. مات في ذي الحجة ليالي الحرة على الأصح بالطائف على الراجح. تقريب التهذيب 1517. وسير أعلام النبلاء 381-94. 4 سبقت ترجمته. 5 سورة الأحزاب، الآية 45.

لستَ بفظّ، ولا غليظٍ، ولا سخابٍ بالأسواق، ولا [تجزي] 1 بالسيئة السيئة، ولكن [تجزي] 2 بالسيئة الحسنة، [وتعفو وتغفر] 3. ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء؛ فأفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صمّاً، وقلوباً غُلفاً؛ بأن يقولوا: لا إله إلا الله 4. وهذا مذكورٌ عند أهل الكتاب في نبوة أشعيا5.

_ 1 في ((خ)) : يجزي. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 في ((خ)) : يجزي. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 في ((خ)) : ويعفو ويغفر. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 أخرجه البخاري في صحيحه 2747-748، كتاب البيوع، باب كراهية السخب في الأسواق - مع اختلاف يسير في الألفاظ، وفيه تقديم وتأخير -. وقال البخاري: غلفٌ: كل شيء في غلاف، سيف أغلف، وقوس غلفاء، ورجل أغلف إذا لم يكن مختوناً. وكذا أخرجه في صحيحه أيضاً 41831، كتاب التفسير، في سورة الفتح، باب: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} . والقلب الأغلف: هو الذي لا يعي شيئاً. وسيف أغلف: إذا كان في غلاف. وجمعه: غلف. وفي حديث حذيفة: القلوب أربعة؛ فقلب أغلف، وهو قلب الكافر. قال الفراء: قلب أغلف بيّن الغلفة. وأغلفت القارورة: جعلت لها غلافاً. وإذا أدخلتها في غلاف قلت: غلّفتها غلفاً. انظر: تهذيب اللغة 8135-136. والمفردات للراغب ص 612. 5 جاء في العهد القديم، في نبوة أشعيا، بداية الإصحاح الثاني والأربعين، ص 1042-1043: "هو ذا عبدي الذي أعضده، مختاري الذي سُرّت به نفسي، وضعتُ روحي عليه، فيخرج الحق للأمم، لا يصيح ولا يرفع ولا يُسمع في الشارع صوته. قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة خامدة لا يطفئ، إلى الأمان يخرج لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض، وتنتظر الجزائر شريعته. هكذا يقول الله الرب خالق السموات وناشرها، باسط الأرض وناتجها، معطي الشعب عليها نسمة، والساكنين فيها روحاً. أنا الرب قد دعوتك بالبر، فأمسك بيدك، وأحفظك، وأجعلك عهداً للشعب، ونوراً للأمم، لتفتح عيون العمي، لتخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن، الجالسين في الظلمة لترفع البرية ومدنها صوتها الديار التي سكنها قيدار، لتترنم سكان سالع في رؤوس الجبال، ليهتفوا..". وقد أورد شيخ الإسلام رحمه الله تعالى هذه البشارة في كتابه الجواب الصحيح (5157-158) ، مع اختلاف يسير في ألفاظها.

المراد بالتوراة ولفظ التوراة: قد يُراد به جميع الكتب التي نزلت قبل الإنجيل؛ فيقال: التوراة، والإنجيل. ويُراد بالتوراة: الكتاب الذي جاء به موسى وما بعده من نبوة الأنبياء المتبعين لكتاب موسى، قد يُسَمَّى هذا كله توراة؛ فإن التوراة تفسر الشريعة؛ فكلّ من دان بشريعة التوراة: قيل لنبوته: إنَّها من التوراة. وكثيرٌ مما يعزوه كعب الأحبار1 ونحوه إلى التوراة، هو من هذا الباب، لا يختص ذلك بالكتاب المنزل على موسى؛ كلفظ الشريعة عند المسلمين: يتناول القرآن، والأحاديث النبوية، وما استخرج من ذلك؛ كما قد بسط هذا في موضع آخر2. والمقصود هنا: أنّ الأنبياء يفتحون الأعين العمي، والآذان الصمّ، والقلوب الغلف. والسحرةُ يفسدون السمع والبصر والعقل، حتى يخيّل للإنسان الأشياء بخلاف ما هي عليه، فيتغير حسه وعقله. قال في قصة

_ 1 هو كعب بن ماتع الحميري، أبو إسحاق المعروف بكعب الأحبار. ثقة من الثانية، مخضرم. كان من أهل اليمن، فسكن الشام. مات في خلافة عثمان، وقد زاد على المائة. وليس له في البخاري رواية، إلا حكاية لمعاوية فيه. وله في مسلم رواية لأبي هريرة عنه، من طريق الأعمش، عن أبي صالح. تقريب التهذيب 243. وسير أعلام النبلاء 3489. 2 انظر: الجواب الصحيح 5156-158، 351. وانظر ما سبق من هذا الكتاب ص 625-627.

موسى: {سَحَرُوا أَعيُنَ النَّاسِ وَاستَرْهَبُوهُم وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيم} 1. وهذا يقتضي أنّ أعين الناس قد حصل فيها تغيُّر. ولهذا قال تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِن السَّمَاءِ فَظَلُّوا فيهِ يَعرجُون لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَت أَبْصَارُنَا بَل نَحْنُ قَومٌ مَسْحُورُون} 2، فقد علموا أن السحر يغير الإحساس، كما يوجب المرض والقتل. وهذا كلّه من جنس مقدور الإنس؛ فإن الإنسان يقدر [أن] 3 يفعل [في] 4 غيره ما يفسد إدراكه، وما يمرضه ويقتله. فهذا مع كونه ظلماً وشراً، هو من جنس مقدور البشر. الجني يُري قرينه نظير الشيء ليس عينه والجني إذا أراد أن يري قرينه أموراً غائبة سئل عنها، مثَّلها له. فإذا سئل عن المسروق، أراه شكل ذلك المال. وإذا سئل عن شخص، أراه صورته. ونحو ذلك5. وقد يظنّ الرائي أنه رأى عينه، وإنّما رأى نظيره. تمثّل الجني بصورة الإنسي وقد يتمثّل الجني في صورة الإنسي، حتى يظن الظان أنه الإنسي. وهذا كثيرٌ؛ كما تصوّر لقريش في صورة سراقة بن مالك بن جعشم6،

_ 1 سورة الأعراف، الآية 115. 2 سورة الحجر، الآيتان 14-15. 3 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 4 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 5 انظر: الجواب الصحيح 2322-323. ومجموع الفتاوى 1383-85. 6 هو سراقة بن مالك بن جعشم بن مدلج الكناني المدلجي، أبو سفيان. قال ابن حجر: روى البخاري قصته في إدراكه النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم عليه حتى ساخت رجلا فرسه، ثم إنه طلب منه الخلاص وأن لا يدلّ عليه، ففعل، وكتب له أماناً. وأسلم يوم الفتح. وفي قصته مع النبي صلى الله عليه وسلم يقول مخاطباً أبا جهل: أبا حكم والله لو كنت شاهداً لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه عجبت ولم تشكك بأن محمداً رسول وبرهان فمن ذا يقاومه عليك فكفّ القوم عنه فإنني أخال لنا يوماً ستبدو معالمه بأمر تود النصر فيه فإنهم وإن جميع الناس طراً مسالمه وكان في الجاهلية قائفاً، وهو الذي اقتص الأثر لقريش حتى صعدوا الجبل الذي كان فيه الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وجعلوا يمرون على باب الغار ولا يرونهما، حفظاً من الله لهما. ووقتها قال أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أنّ أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا". انظر: صحيح البخاري 31420-1421، كتاب فضائل الصحابة، باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة. لسراقة 19 حديثاً، ومات سنة 24 هـ. انظر: الإصابة 218-19. والاستيعاب - بهامش الإصابة - 2118. ودلائل النبوة للبيهقي 2215. والبداية والنهاية 3182-186. والأعلام 380.

وكان من أشراف بني كنانة؛ قال تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطانُ أعمالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ اليَومَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُم} 1 الآية. فلما عاين الملائكة ولى هارباً، ولما رجعوا ذكروا ذلك لسراقة، فقال: واللهِ ما علمت بحربكم، حتى بلغتني هزيمتكم2. وهذا واقعٌ كثيراً، حتى إنه يتصوّر لمن يعظّم شخصاً في صورته، فإذا استغاث به، أتاه، فيظنّ ذلك الشخص أنه شيخه الميت. وقد يقول له: إنه بعض الأنبياء، أو بعض الصحابة الأموات، ويكون هو الشيطان3.

_ 1 سورة الأنفال، الآية 49. 2 انظر: تفسير الطبري 1014. وتفسير ابن كثير 2317. والبداية والنهاية 3258، 280. وزاد المعاد 355. 3 ولشيخ الإسلام رحمه الله تعالى كلام في هذا الموضوع، أذكر بعضه، قال رحمه الله: "ومثل هذا يجري كثيراً لكثير من المشركين والنصارى، وكثير من المسلمين، ويرى أحدهم شيخاً، يُحسن به الظنّ، ويقول أنا الشيخ فلان، ويكون شيطاناً. وأعرف من هذا شيئاً كثيراً، وأعرف غير واحد ممن يستغيث ببعض الشيوخ الغائبين والموتى، يراه قد أتاه في اليقظة وأعانه. وقد جرى مثل هذا لي ولغيري ممن أعرفه، وذكر غير واحد أنه استغاث بي في بلاد بعيدة، وأنه رآني قد جئتُه. ومنهم من قال: رأيتُك راكباً بلباسك وصورتك. ومنهم من قال: رأيتك على جبل. ومنهم من قال غير ذلك. فأخبرتهم أني لم أغثهم، وإنما ذلك شيطان تصور بصورتي ليُضلّهم لما أشركوا بالله ودعوا غير الله. وكذلك غير واحد ممن أعرفه من أصحابنا استغاث به بعض من يُحسن به الظن، فرآه قد جاءه وقضى حاجته. قال صاحبي: وأنا لا أعلم بذلك". الجواب الصحيح 2321-322. وانظر: المصدر نفسه: 2324، 3348. وجامع الرسائل1195. والرد على المنطقيين ص 105-106. ومجموع الفتاوى 11664، 1379، 84، 92، 17456-458، 1947.

وكثيراً من الناس أهل العبادة والزهد من يأتيه في اليقظة، من يقول: إنّه رسول الله، ويظنّ ذلك حقاً1. ومن يرى إذا زار بعض قبور الأنبياء أو الصالحين أنّ صاحب القبر قد خرج إليه، فيظن أنه صاحب القبر ذلك النبي، أو الرجل الصالح، وإنما هو شيطان أتى في صورته إن كان يعرفها، وإلا أتى في صورة إنسان، وقال: إنه ذلك الميت2.

_ 1 ومما جرى من هذه الأحوال: ما جرى لأناس بتدمر في زمن الشيخ رحمه الله، قال عنهم: "فرأوا شخصاً عظيماً طائراً في الهواء، وظهر لهم مرات بأنواع من اللباس، وقال لهم: أنا المسيح بن مريم، وأمرهم بأمور يمتنع أن يأمر بها المسيح عليه السلام. وحضروا إلى عند الناس، وبيّنوا لهم أن ذلك هو شيطان أراد أن يُضلّهم". الجواب الصحيح 2318. وانظر المصدر نفسه 2321. وقال أيضاً رحمه الله تعالى: "فرؤيا الأنبياء في المنام حق، وأما رؤية الميت في اليقظة، فهذا جني يتمثل في صورته". الجواب الصحيح 2326. وانظر: المصدر نفسه 3347. ومجموع الفتاوى 1172-173، 1393-94. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 330. 2 انظر الجواب الصحيح 2318،، 3348. وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن الحكايات في هذا الباب كثيرة جداً، ومما قاله رحمه الله: "وفي هذا الباب من الوقائع ما يضيق هذا الموضع عن ذكره، وهي كثيرة جداً. والجاهل يظنّ أن ذلك الذي رآه قد خرج من القبر وعانقه أو كلمه هو المقبور، أو النبي أو الصالح، أو غيرهما. والمؤمن العظيم يعلم أنه شيطان) . مجموع الفتاوى 1168. وانظر: المصدر نفسه 1178-179. وهذه الأحوال قد حدثت في زمن شيخ الإسلام رحمه الله مع الكفار، لا مع المسلمين، فقد أخبر رحمه الله أن كثيراً "من الكفار بأرض المشرق والمغرب يموت لهم الميت، فيأتي الشيطان بعد موته على صورته، وهم يعتقدون أنه ذلك الميت، ويقضي الديون، ويرد الودائع، ويفعل أشياء تتعلق بالميت، ويدخل إلى زوجته، ويذهب. وربما يكونون قد أحرقوا بيتهم بالنار كما يصنع كفار الهند، فيظنون أنه عاش بعد موته". الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 330. وانظر: الجواب الصحيح 2318-319،، 3347. وجامع الرسائل 1194-195. ومجموع الفتاوى 1379.

تمثل الشيطان بالخضر وكذلك يأتي كثيراً من الناس في مواضع، ويقول: إنه الخضر1، فاعتقد أنه الخضر، وإنما كان جنيّاً من الجن2.

_ 1 الخضر: هو صاحب موسى عليه السلام الذي ورد ذكره في قوله تعالى: {فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً} ، وورد ذكره في السنة أيضاً. وقد اختلف فيه: هل هو نبيّ أو وليّ؟ قال الراجز: واختلفت في خضر أهل العقول قيل نبي أو ولي أو رسول قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى معلّقاً على قول الراجز هذا: (أو مَلَك) . ثم رجح نبوته عليه السلام، ونصر هذا القول، واستدلّ به وفق طريقته في تفسير القرآن بالقرآن. وممن قال بنبوته: القرطبي، وابن كثير، وابن حجر. وكذا اختلف فيه هل هو حي أو ميت؟ وقد قال الإمام أحمد، والبخاري، وابن الجوزي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن حجر، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي بموته، وأكّدوا أن قول من قال ببقائه حياً لا دليل عليه. انظر: تفسير القرطبي 1112-15. والزهر النضر في نبأ الخضر لابن حجر ص 27، 115. ومجموع الفتاوى 4337. وأضواء البيان 4158-164. وجهود الشيخ محمد الأمين في تقرير عقيدة السلف 2477، 501. 2 انظر: الجواب الصحيح 2319-320. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 329. ومجموع الفتاوى 1172،، 1371، 78، 93. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "كل من قال: إنه رأى الخضر وهو صادق؛ إما أن يتخيل له في نفسه أنه رآه، ويظن ما في نفسه كان في الخارج، كما يقع لكثير من أرباب الرياضات. وإما أن يكون جنياً يتصور له بصورة إنسان ليُضلّه. وهذا كثير جداً، قد علمنا منه ما يطول وصفه. وإما أن يكون رأى إنسياً ظنّ أنه الخضر وهو غالط في ظنه. فإن قال له ذلك الجني أو الإنسي إنه الخضر، فيكون قد كذب عليه، لا يخرج الصدق في هذا الباب عن هذه الأقسام الثلاثة". الرد على المنطقيين ص 185.

لم يقل أحد من الصحابة إنه رأى الخضر ولهذا لم يجترىء الشيطان على أن يقول لأحد من الصحابة: إنّه الخضر، ولا قال أحد من الصحابة: إني رأيت الخضر1. وإنما وقع هذا بعد الصحابة.

_ 1 قال شيخ الإسلام رحمه الله في موضع آخر موضحاً هذه الحقيقة: "ولا كان فيهم من قال: إنه أتاه الخضر؛ فإن خضر موسى مات، كما بين هذا في غير هذا الموضع. والخضر الذي يأتي كثيراً من الناس إنما هو جني تصور بصورة إنسي، أو إنسي كذّاب. ولا يجوز أن يكون مَلَكَاً مع قوله أنا الخضر، فإن الملك لا يكذب، وإنما يكذب الجن والإنس. وأنا أعرف ممن أتاه الخضر، وكان جنياً، ما يطول ذكره في هذا الموضع. وكان الصحابة أعلم من أن يروج عليهم هذا التلبيس. وكذلك لم يكن فيهم من حملته الجن إلى مكة، وذهبت به إلى عرفات ليقف بها، كما فعلت ذلك بكثير من الجهال والعباد وغيرهم، ولا كان فيهم من تسرق الجن أموال الناس وطعامهم وتأتيه به، فيظن أن هذا من باب الكرامات". مجموع الفتاوى 1249. وقال رحمه الله في موضع آخر: "لم يُنقل عن أحد من الصحابة أنه رأى الخضر، ولا اجتمع به، لأنهم كانوا أكمل علماً وإيماناً من غيرهم، فلم يكن يمكن الشيطان التلبيس عليهم كما لبس على كثير من العباد. ولهذا كثير من الكفار اليهود والنصارى يأتيهم من يظنون أنه الخضر، ويحضر في كنائسهم، وربما حدثهم بأشياء، وإنما هو شيطان جاء إليهم، فيُضلّهم. ولو كان الخضر حياً لوجب عليه أن يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيؤمن به، ويُجاهد معه، كما أخذ الله الميثاق على الأنبياء وأتباعهم بقوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} ، [سورة آل عمران، الآية 81] ، والخضر قد أصلح السفينة لقوم من عرض الناس، فكيف لا يكون بين محمد وأصحابه. وهو إن كان نبياً، فنبينا أفضل منه، وإن لم يكن نبياً، فأبو بكر وعمر أفضل منه". الرد على المنطقيين ص 185.

وكلما تأخّر الأمر كثر، حتى إنه يأتي اليهود والنصارى، ويقول: إنه الخضر1. ولليهود كنيسة معروفة بكنيسة الخضر2. وكثيرٌ من كنائس النصارى يقصدها هذا الخضر. والخضر الذي يأتي هذا الشخص غير الخضر الذي يأتي هذا. ولهذا يقول من يقول منهم3: لكل ولي خضر. وإنّما هو جني معه4. والذين يدعون الكواكب5، تتنزل عليهم أشخاص يسمونها روحانية الكواكب6، وهو شيطانٌ نزل عليه لمّا أشرك، ليغويه.

_ 1 انظر: الجواب الصحيح 2321، 324. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 366-367. ومجموع الفتاوى 1393. والرد على المنطقيين ص 85. 2 انظر: مجموع الفتاوى 1393. 3 من اليهود والنصارى. 4 انظر: مجموع الفتاوى 1393. ومنهاج السنة النبوية 1104. 5 قال شيخ الإسلام رحمه الله عن عبّاد الكواكب هؤلاء: "فكانوا يصنعون للأصنام طلاسم للكواكب، ويتحرون الوقت المناسب لصنعة ذلك الطلسم. ويصنعونه من مادة تناسب ما يرونه من طبيعة ذلك الكوكب، ويتكلمون عليها بالشرك والكفر، فتأتي الشياطين فتكلمهم، وتقضي بعض حوائجهم، ويسمونها روحانية الكواكب، وهي الشيطان، أو الشيطانة التي تضلّهم". الرد على المنطقيين ص 286. وانظر: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 222. وانظر ما سبق في ص 1214 من هذا الكتاب. 6 انظر: الجواب الصحيح 2326-327، 3347. ومجموع الفتاوى 1173، 178، 1378، 79.

كما تدخل الشياطين في الأصنام، وتكلم أحياناً لبعض الناس، وتتراءى للسدنة أحياناً، ولغيرهم أيضاً1. وقد يستغيث المشرك [بشيخ] 2 له غائب، فيحكي الجني صوته لذلك الشيخ، حتى يظن أنه سمع صوت ذلك المريد مع بعد المسافة بينهما. ثم إنّ الشيخ يُجيبه، فيحكي الجني صوت الشيخ للمريد، حتى يظنّ أن شيخه سمع صوته وأجابه. وإلا فصوت الإنسان يمتنع أن يبلغ مسيرة يوم، ويومين، وأكثر3. وقد يحصل للمريد من يؤذيه، فيدفعه الجنّي، ويُخيّل للمريد أنّ الشيخ هو دفعه4. وقد يُضرب الرجل بحجر، فيدفعه عنه الجني، ثم يصيب الشيخ بمثل ذلك، حتى يقول: إني اتقيت عنك الضرب، وهذا أثره فيَّ5. وقد يكونون يأكلون طعاماً، فيُصَوَّرُ نظيره للشيخ، ويجعل يده فيه، ويجعل الشيطان يده في طعام أولئك، حتى يتوهّم الشيخ وهم أنّ يد الشيخ امتدت من الشام إلى مصر، وصارت في ذلك الإناء6. مناداة عمر: يا سارية الجبل الجبل وعمر بن الخطاب لما نادى: يا سارية 7 الجبل، قال: إن لله جنداً

_ 1 انظر: الجواب الصحيح 2341. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 338. 2 في ((م)) ، و ((ط)) : لشيخ. 3 انظر مجموع الفتاوى 1384. 4 انظر مجموع الفتاوى 1377، 82. 5 انظر المصدر نفسه. 6 انظر مجموع الفتاوى 1384-85. 7 هو سارية بن زنيم بن عمرو الكناني. تقدم التعريف به.

يبلِّغونهم صوتي1. فعلم أن صوته إنما يبلغ بما ييسره الله من تبليغ بعض

_ 1 قال العجلوني في كشف الخفاء ومزيل الإلباس 2514-515، أثر رقم 3172: "يا سارية الجبل": قاله عمر بن الخطاب وهو يخطب يوم الجمعة، حيث وقع في خاطره أن الجيش الذي أرسله مع سارية إلى نهاوند بفارس لاقى العدو وهم في بطن واد، وقد همّوا بالهزيمة، وبالقرب منهم جبل، فقال ذلك في أثناء خطبته، ورفع به صوته، فألقاه الله في سمع سارية، فانحاز بالناس إلى الجبل، وقاتل العدو من جانب واحد، ففتح الله عليهم. كذا رواه الواقدي عن أسامة بن زيد، عن ابن أسلم، عن عمر. وأخرجه سيف مطولاً عن رجل من بني مازن. والبيهقي في الدلائل، واللالكائي في شرح السنة، وابن الأعرابي في كرامات الأولياء، عن ابن عمر قال: وجه عمر جيشاً، وولى عليهم رجلاً يدعى سارية، فبينما عمر يخطب، جعل ينادي: يا سارية الجبل - ثلاثاً. ثم قدم رسول من الجيش، وسأله عمر، فقال: يا أمير المؤمنين هزمنا، فبينما نحن كذلك، إذ سمعنا صوتاً يُنادي: يا سارية الجبل - ثلاثاً -، فاسندنا ظهرنا إلى الجبل، فهزمهم الله. قال: فقيل لعمر: إنك كنت تصيح هكذا وهكذا. رواه حرملة في جمعه لحديث ابن وهب، وإسناده كما قال الحافظ ابن حجر حسن. ولابن مردويه، عن ابن عمر، عن أبيه أنه كان يخطب يوم الجمعة، فعرض في خطبته أن قال: يا سارية الجبل، من استرعى الذئب ظلم. فالتفت الناس بعضهم لبعض، فقال لهم عليّ: ليخرجن مما قال. فلما فرغ سألوه، فقال: وقع في خلدي أن المشركين هزموا إخواننا، وأنهم يمرون بجبل، فإن عدلوا إليه قاتلوا من جانب واحد، وإن جاوزوه هلكوا. فخرج مني ما تزعمون أنكم سمعتموه. فجاء البشير بعد شهر، وذكر أنهم سمعوا صوت عمر في ذلك اليوم، قال: فعدلنا عن الجبل، ففتح الله علينا. قال في اللآلئ: وقد أفرد الحافظ القطب الحلبي لطرقه جزءاً، ووثق رجال هذا الطريق. وقال: ذكره ابن عساكر، وابن ماكولا، وغيرهم. وسارية له صحبة". كشف الخفاء ومزيل الإلباس 2514-515. وأخرجها أبو نعيم في دلائل النبوة ص 210. واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 9127. وذكره ابن كثير في البداية والنهاية 7131-132، وحسن إسناده. وانظر مشكاة المصابيح 31678، وقال الشيخ الألباني: رواه ابن عساكر وغيره بإسناد حسن. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن هذه القصة في موضع آخر: "وعمر رضي الله عنه لما نادى: يا سارية الجبل، قال: إن لله جنوداً يبلغون صوتي. وجنود الله هم من الملائكة، ومن صالحي الجن. فجنود الله بلغوا صوت عمر إلى سارية؛ وهو أنهم نادوه بمثل صوت عمر، وإلا نفس صوت عمر لا يصل نفسه في هذه المسافة البعيدة. وهذا كالرجل يدعو آخر وهو بعيد عنه، فيقول: يا فلان. فيُعان على ذلك، فيقول الواسطة بينهما: يا فلان. وقد يقول لمن هو بعيد عنه: يا فلان احبس الماء، تعال إلينا، وهو لا يسمع صوته، فيناديه الواسطة بمثل ذلك: يا فلان احبس الماء، أرسل الماء؛ إما بمثل صوت الأول إن كان لا يقبل إلا صوته، وإلا فلا يضرّ بأي صوت كان إذا عرف أن صاحبه قد ناداه. وهذه حكاية: كان عمر مرة قد أرسل جيشاً، فجاء شخص وأخبر أهل المدينة بانتصار الجيش، وشاع الخبر، فقال عمر: من أين لكم هذا؟ قالوا: شخص صفته كيت وكيت، فأخبرنا. فقال عمر: ذاك أبو الهيثم بريد الجن، وسيجيء بريد الإنسان بعد ذلك بأيام". مجموع الفتاوى 1388-89.

الملائكة، أو صالحي الجن، فيهتفون بمثل صوته؛ كالذي ينادي ابنه، أو غير ابنه، وهو بعيدٌ، لايسمع: يا فلان، فيسمعه من يريد إبلاغه، فينادي: يا فلان، فيسمع ذلك الصوت، وهو المقصود بصوت [أبيه] 1. وإلا فصوت البشر ليس في قوته أن يبلغ مسافة أيام. وقد قلنا: إنّ [آيات] 2 الأنبياء التي اختصوا بها خارجة عن قدرة الجن والإنس، قال تعالى: {قُل لَئِنِ اجْتَمَعَت الإنسُ والجنُّ عَلَى أَنْ يأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرآنِ لا يَأتُونَ بِمِثلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرَاً} 3. وأما إذا كانت مما تقدر عليه الملائكة، فهذا مما يؤيدها؛ فإن الملائكة لا يطيعون من يكذب على الله، ولا يؤيّدونه بالخوارق. فإذا أُيِّد به؛ كما أيَّد

_ 1 في ((خ)) : ابنه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 3 سورة الإسراء، الآية 88.

الله به نبيه والمؤمنين يوم بدر، ويوم حنين، كان هذا من أعلام صدقه، وأنّه صادق على الله في دعوى النبوة؛ فإنّها لا تؤيد الكذب، لكن الشياطين تؤيد الكذّاب، والملائكة تؤيِّد الصدق. التأييد من الملائكة بحسب الإيمان والتأييد بحسب الإيمان1، فمن كان أقوى من غيره، كان جنده من الملائكة أقوى، وإن كان إيمانه ضعيفا كانت ملائكته بحسب ذلك؛ كمَلَك الإنسان وشيطانه؛ فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما منكم من أحدٍ إلا وُكِّلَ به قرينه من الملائكة، وقرينه من الجن. قالوا: وبك يا رسول الله. قال: وبي، لكن الله أعانني عليه فأسلم"2. وفي حديث آخر: "فلا يأمرني إلا بخير"3. وهو في صحيح مسلم من وجهين4؛ من حديث ابن مسعود؛ ومن حديث عائشة. وقال ابن مسعود: "إن للقلب لَمَّة5 من الملك، ولمة من الشيطان.

_ 1 انظر ما سبق في هذا الكتاب، ص 171-172، 195، 537-538. 2 رواه الدارمي في سننه 2396، كتاب الرقاق، باب: ما من أحد إلا ومعه قرينه من الجنّ. وفي آخره: قال: قال أبو محمد: من الناس من يقول: أسلم: استسلم. أقول ذلك. 3 رواه الإمام أحمد في المسند 1385. 4 رواه مسلم في صحيحه 42167-2168، كتاب صفات المنافقين، باب تحريش الشيطان وبعثه سراياه، من حديث ابن مسعود، ومن حديث عائشة رضي الله عنهما. 5 قال ابن الأثير: "اللَّمّة: الهِمَّة، الخطرة تقع في القلب، أو إلمام الملك، أو الشيطان به، والقرب منه. فما كان من خطرات الخير فهو من الملك، وما كان من خطرات الشر فهو من الشيطان". النهاية في غريب الحديث 4273. وقال في القاموس: "والهِمَّةُ بالكسر - ويفتح: ما همَّ به من أمر ليفعل". القاموس المحيط ص 1512.

فلمة الملك: [إيعاد] 1 بالخير، وتصديق بالحق. ولمة الشيطان: إيعاد بالشر، وتكذيب بالحق"2. فإذا كانت حسنات الإنسان أقوى، أُيِّدَ بالملائكة تأييداً يقهر به الشيطان، وإن كانت سيئاته أقوى، كان جند الشيطان معه أقوى. وقد يلتقي شيطان المؤمن بشيطان الكافر؛ فشيطان المؤمن مهزول ضعيف، وشيطان الكافر سمين قوي3. الإنسان بفجوره يؤيد شيطانه على ملكه وبصلاحه يؤيده ملكه على شيطانه فكما أن الإنسان بفجوره يؤيد شيطانه على مَلَكه، وبصلاحه يؤيد ملكه على شيطانه، فكذلك الشخصان يغلب أحدهما الآخر؛ لأنّ الآخر لم يؤيد مَلَكَه، فلم يؤيده، أو [ضعف] 4 عنه؛ لأنّه ليس معه إيمان [يعينه] 5؛ كالرجل الصالح إذا كان ابنه فاجراً، لم يمكنه الدفع عنه لفجوره. وبسط هذه الأمور له موضع آخر6.

_ 1 في ((ط)) : إبعاد. 2 هذا الأثر رواه الترمذي مرفوعاً من طريق عبد الله بن مسعود (جامع الترمذي 5219، كتاب تفسير القرآن، باب من سورة البقرة) . والطبري في تفسيره 388-99؛ رواه مرة مرفوعاً عن عبد الله بن مسعود، ومرة موقوفاً عليه. وتلبيس إبليس لابن الجوزي ص 48-49. وذكره ابن القيم في الفوائد ص 214-215. وابن كثير في تفسيره 1321. 3 هذا الكلام ليس من كلام ابن مسعود لعدم وروده في المصادر السابقة، وهو توضيح من شيخ الإسلام رحمه الله لقول ابن مسعود المتقدم. 4 في ((خ)) : ضعفت. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 5 في ((خ)) : يعينها. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 6 انظر: مجموع الفتاوى 184-85، 4254. وجامع الرسائل 1196-197.

والمقصود هنا: الكلام على الفرق بين آيات الأنبياء وغيرهم، وأنّ من قال1: إن آيات الأنبياء، والسحر، و [الكهانة] 2، والكرامات، وغير ذلك من جنس واحدٍ، فقد غلط أيضاً. المتكلمون لم يعرفوا قدر آيات الأنبياء والطائفتان3 لم يعرفوا قدر آيات الأنبياء، بل جعلوها من هذا الجنس؛ فهؤلاء4 نفوه، وهؤلاء5 أثبتوه وذكروا فرقاً لا حقيقة له. وإذا قال القائل: آيات الأنبياء لا يقدر عليها [إلا الله، أو أن الله يخترعها ويبتدئها بقدرته، أو أنها من فعل الفاعل المختار، ونحو ذلك6. الرد على الأشاعرة قيل له: هذا كلامٌ مجملٌ. فقد يقال عن كل ما يكون آية: لا يقدر عليه إلا الله] 7؛ فإن الله خالق كل شيء، وغيره لا يستقلّ بإحداث شيء. وعلى هذا: فلا فرق بين المعجزات وغيرها. وقد يقال: لا يقدر عليها إلا الله: أي هي خارجةٌ عن مقدورات

_ 1 وهم الأشاعرة والماتريدية. انظر: مجموع الفتاوى 1390. وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 585، 586. وما سيأتي ص 1315-1316. 2 في ((خ)) : الكهان. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 وهم المعتزلة والأشاعرة. 4 وهم المعتزلة الذين نفوا السحر والكهانة والكرامات، كما سبق بيانه. انظر: ص 147-152، 585. 5 وهم الأشاعرة، أثبتوا السحر والكهانة والكرامات والمعجزات، ولم يجعلوا بينها فروقاً حقيقيّة؛ كما سبق بيانه في أول هذا الكتاب ص 151-155، وفي ص 501-503 منه. 6 انظر: البيان للباقلاني ص 8-10، 14، 19، 57. وانظر ما سبق بيانه في هذا الكتاب ص 251-257. 7 ما بين المعقوفتين مكرّر في ((خ)) ، و ((م)) ، و ((ط)) .

العباد؛ فإنّ مقدوراته على قسمين: منها ما يفعله بواسطة قدرة العباد؛ كأفعال العباد، وما يصنعونه؛ ومنها ما يفعله بدون ذلك؛ كإنزال المطر1. فإن أراد هذا القائل: أنّها خارجة عن مقدور الإنس؛ بمعنى: أنه لا يقع منهم؛ لا بإعانة الجن، ولا بغير ذلك. فهذا كلامٌ صحيح. و [إن أراد أنّه] 2 خارجٌ عن مقدورهم فقط، وإن كان مقدوراً للجنّ: فهذا ليس بصحيح؛ فإنّ الرسل أرسلوا إلى الإنس والجن. والسحر والكهانة وغير ذلك تقدر الجن على إيصالها إلى الإنس، وهي مناقضة لآيات الأنبياء؛ كما قال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِين تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} 3. وإن أراد أنها خارجة عن مقدور الملائكة والإنس والجن، أو أن الله يفعلها بلا سبب: فهذا أيضاً باطلٌ. فمن أين له أنّ الله يخلقها بلا سبب؟ ومن أين له أنه لا يخلقها بواسطة الملائكة الذين هم رسله في عامّة ما يخلقه؟ فمن أين له أنّ جبريل لم ينفخ في مريم حتى حملت بالمسيح؟ وقد أخبر الله بذلك. وهو وأمّه ممّا جعلهما آيةً للعالمين، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا ابنَ مريَمَ وأُمَّه آيةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرارٍ ومَعِين} 4. وخلقُ المسيح بلا أب من أعظم الآيات، وكان بواسطة نفخ جبريل،

_ 1 انظر: منهاج السنة النبوية 3126، 168، 180. ودرء تعارض العقل والنقل 8471-476. 2 في ((ط)) : وأن إرادته. 3 سورة الشعراء، الآيتان 221-222. 4 سورة المؤمنون، الآية 50.

قال تعالى: {فَأرْسَلْنَا إلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّل لَها بَشَرَاً سَوِيّاً قالت إِنّي أعوذُ بالرحمن منكَ إِنْ كنتَ تَقِيّاً قال إنّما أنا رسول ربِّك [لِيَهَبَ] 1 لكِ غُلاماً زَكِيَّاً قالت أنّى يكونُ لي [غُلامٌ] 2 وَلَم يَمْسَسْني بشرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} 3. وقال تعالى: {وَمَرْيَم ابنةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فيهِ مِنْ رُوحِنَا} 4. وكذلك طمس أبصار قوم لوط كان بواسطة الملائكة. والذي عنده علمٌ من الكتاب، لمّا قال [عفريتٌ5 من الجنّ] 6 لسُليمان: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وإِنِّي عَلَيهِ لقَوِيّ أَمِين قال الَّذي عِنْدَه عِلْمٌ مِنَ الكِتَابِ أَنا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} 7؛ أتته به الملائكة؛ كذلك ذكره المفسرون عن ابن عبّاس وغيره: أن الملائكة أتته به أسرع مما كان يأتي به العفريت8.

_ 1 وهذه قراءة ورش عن نافع، وأبي عمرو البصري. وقرأ الباقون: لأهب. (النشر في القراءات العشر ص 78) . 2 في ((خ)) ، و ((م)) ، و ((ط)) : ولدٌ. 3 سورة مريم، الآيات 17-20. 4 سورة التحريم، الآية 12. 5 العفريت: قال الطبري: رئيس من الجن مارد قوي. (تفسير الطبري 19161) . وقال أبو عبيدة: العفريت من كل جن أو إنس: الفائق المبالغ الرئيس. وقال ابن قتيبة: العفريت: الشديد الوثيق. وقال الزجاج: العفريت: النافذ في الأمر، المبالغ فيه، مع خبث ودهاء. انظر: زاد المسير لابن الجوزي 6174. 6 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 7 سورة النمل، الآيتان 39-40. 8 قال ابن عباس رضي الله عنهما: "إن آصف قال لسليمان حين صلى: مدّ عينيك حتى ينتهي طرفك، فمدّ سليمان عينيه، فنظر نحو اليمين، فدعا آصف، فبعث الله الملائكة، فحملوا السرير من تحت الأرض يخدون به خداً، حتى انخرقت الأرض بالسرير بين يدي سليمان". تفسير البغوي 3420. وزاد المسير 6174-175. وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 606.

وقد أخبر الله تعالى أنّه أيّد محمّداً صلى الله عليه وسلم بالملائكة وبالريح، وقال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِم رِيحَاً وَجُنُودَاً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرَاً} 1. وقال تعالى يوم حنين: { [ثُمَّ َأَنْزَلَ] 2 اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ وَأنْزَلَ جُنُودَاً لَمْ تَرَوْهَا} 3. وقال تعالى يوم الغار: {فأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} 4. وقال تعالى: {إِذْ يُوحي رَبُّكَ إِلى المَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُم فَثَبِّتُوا الَّذِين آمَنُوا سَأُلْقِي في قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} 5. وقد ثبت في الصحيح: أنّ الإنسان يُصوّره مَلَك في الرحم بإذن الله، ويقول الملك: "أي ربّ نطفة، أي ربّ علقة، أي ربّ مضغة"6، فإذا كان الخلق المعتاد يكون بتوسط الملائكة.

_ 1 سورة الأحزاب، الآية 9. 2 في ((خ)) ، و ((م)) ، و ((ط)) : فأنزل. 3 سورة التوبة، الآية 26. 4 سورة التوبة، الآية 40. 5 سورة الأنفال، الآية 12. 6 وعن أنس بن مالك رضي الله عنه - ورفع الحديث - أنّه قال: "إنّ الله عزّ وجلّ قد وكّل بالرحم ملكاً، فيقول: أي رب نطفة، أي رب علقة، أي رب مضغة. فإذا أراد الله أن يقضي خلقاً، قال الملك: أي رب ذكر أو أنثى؟ شقي أو سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيكتب كذلك في بطن أمه". صحيح مسلم 42038، كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه، وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته.

[وقال] 1 يُقرر التوحيد بقوله تعالى: {يا أيها النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُم} 2 الآيات. ثم النبوة، بقوله: {وإِنْ كُنْتُمْ في رَيبٍ مِمّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا [فأتوا] 3 [بسُورةٍ] 4} 5. [ثم المعاد] 6. وكذلك الأنعام، يقرر التوحيد، ثم النبوة في وسطها، ثم يختمها بأصول الشرائع والتوحيد أيضاً، وهو ملة إبراهيم. وهذا مبسوطٌ في غير هذا الموضع7. والمقصود: أنه قد بيَّن انفراده بالخلق، والنفع، والضرّ، والإتيان بالآيات، وغير ذلك، وأنّ ذلك لا يقدر عليه غيره. قال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُق كَمَنْ لا يَخْلُق} 8.

_ 1 في ((خ)) كلمة غير واضحة. وما أثبت من ((م)) و ((ط)) . 2 سورة البقرة، الآية 21. 3 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) . 4 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، و ((م)) . 5 سورة البقرة، الآية 23. 6 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) . 7 وقد تكلّم شيخ الإسلام رحمه الله تعالى عن الحنيفية ملّة إبراهيم عليه السلام في: مجموع الفتاوى 11572. وأوضح أنّ انخراق العادات لا بُدّ له من أسباب وموانع في: الجواب الصحيح 6394-404. ومجموع الفتاوى 184. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 354-355. 8 سورة النحل، الآية 17.

وقال تعالى: {وجَعَلُوا للهِ شُرَكاءَ الجِنَّ وخَلَقَهُم وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وبَنَاتٍ بغيرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وتَعَالى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيع السَّمَواتِ والأرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ ولَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيم ذَلِكُم اللهُ رَبُّكُم لا إِلَهَ إلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فاعبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيل لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصَار وَهُوَ اللَّطِيف الخَبِيرُ قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُم فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ومَا أَنَأ عَلَيْكُمْ بِحَفيظ وكذلك [نُصَرِّفُ] 1 الآيات وليَقُولوا دَرَسْتَ وَلنُبَيِّنَهُ لقومٍ يَعْلَمُونَ اتَّبِع ما أُوْحِيَ إليكَ مِنْ رَبِّكَ لا إلهَ إلاَّ هُوَ وأَعْرِض عَنِ المُشْرِكِينَ ولو شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا وما جَعَلْنَاك عَلَيْهِمْ حَفِيظَاً وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيل ولا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فيَسُبُّوا اللهَ عَدْوَاً بغيرِ عِلْمٍ كذلك زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُم ثُمَّ إلى رَبِّهِم مَرْجِعُهُم فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كانوا يَعْمَلُون وأقسموا باللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِم لَئِنْ جَاْءَتْهُم آيةٌ ليُؤمِننّ بِهَا قُلْ إِنَّما الآياتُ عِنْدَ اللهِ وما يُشْعِرُكُم أنَّهَا إذا جاءَتْ لا يُؤمِنُون ونُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُم وأبْصَارَهُم كما لَمْ يُؤمِنُوا به أوَّل مَرَّةٍ ونَذَرُهُم في طُغْيَانِهِم يَعْمَهُون} 2. ففي هذه الآيات تقرير التوحيد، حتى في إنزال الآيات، قال: {إنّما الآياتُ عند الله} . وكذلك قوله في العنكبوت: {وقالُوا لولا أُنْزِل عليهِ آيةٌ 3 مِنْ رَبِّهِ قُلْ إنما الآياتُ عندَ اللهِ وإنّما أنا نَذِيرٌ مُبينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أنَّا أنزلنا عليك الكتاب يُتْلَى عليهم إنَّ في ذلك [لَرَحمةً] 4 وَذِكْرى لقومٍ

_ 1 في ((خ)) : نفصل. 2 سورة الأنعام، الآيات 100-110. 3 قرأ نافع، وأبو عمر، وابن عامر، وحفص عن عاصم: {الآياتُ} على الجمع، وقرأ ابن كثير، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم: {آية} . على التوحيد. انظر: زاد المسير لابن الجوزي 6279. 4 في ((ط)) : رحمة.

يُؤْمِنُون قُلْ كَفَى باللهِ بيني وبينكم شَهِيداً يعلم ما في السَّمَواتِ والأرض والَّذِينَ آمنوا بالباطلِ وكفروا باللهِ أُولئِكَ هُمُ الخاسِرُون} 1. وقال أيضاً: {وقالوا لولا نزِّلَ عليهِ آيةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إنَّ اللهَ قادرٌ على أَنْ يُنَزِّلَ آيةً ولكنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يعلمون} 2، هذا بعد قوله: {فإن استَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقَاً في الأرضِ أو سُلَّماً في السماءِ فَتَأْتِيَهُم بِآيَة وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُم عَلَى الهُدى فلا تَكُونَنَّ من الجاهِلِينَ} 3. [و] 4 هو أرسله بآيات بان بها الحقّ، وقامت بها الحجّة، وكانوا يطلبون آيات تعنّتاً، فيظنّ من يظنّ أنّهم يهتدون بها، [لكن لا] 5 يحصل بها المقصود، وقد [تكون] 6 [موجبة] 7 لعذاب الاستئصال، فتكون ضرراً بلا نفع. وبيَّن سبحانه أنه قادر على إنزال الآيات، وأنها ليست إلا عنده. لكن آيات الأنبياء لا تكون مما يقدر عليه العبد، كما قال: {قُلْ إِنَّمَا الآياتُ عِنْدَ اللهِ} 8. والملائكة إِنَّما هي سببٌ من الأسباب؛ كما في خلق المسيح [من غير

_ 1 سورة العنكبوت، الآيات 50-52. 2 سورة الأنعام، الآية 37. 3 سورة الأنعام، الآية 35. 4 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 5 في ((خ)) : فلا. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 6 في ((خ)) : يكون. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 7 في ((ط)) : موجة. 8 سورة الأنعام، الآية 109.

أب، فجبريل إنّما كان مقدوره النفخ فيها، وهذا لا يُوجب الخلق، [بل] 1 هو بمنزلة الإنزال في حقّ غير المسيح. وكذلك المسيح] 2 لمّا خلق من الطين كهيئة الطير: إنّما مقدوره تصوير الطين، [وأمّا] 3 حصول الحياة فيه: فبإذن الله؛ فإنّ الله يحيي ويميت، وهذا من خصائصه. ولهذا قال الخليل: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} 4. وفي القرآن، في غير مواضع: {يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ ويُخْرِجُ المَيِّت مِنَ الحَيّ} 5، [ {وكنتم أمواتاً فأحياكم} 6] 7، {وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} 8، [ {وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ} 9] 10.

_ (بل) ساقطة من ((خ)) ، وهي في ((م)) ، و ((ط)) . 2 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 3 في ((م)) ، و ((ط)) : وإنما. 4 سورة البقرة، الآية 258. 5 سورة الروم، الآية 19. وفي سورة آل عمران، الآية 27: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} . وفي سورة الأنعام، الآية 95: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} . وفي سورة يونس، الآية 31: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} . 6 سورة البقرة، الآية 28. 7 ما بين المعقوفتين ليس في ((ط)) . 8 سورة الروم، الآية 19. 9 سورة آل عمران، الآية 156. 10 ما بين المعقوفتين ليس في ((ط)) ، وفيه بدلها: {وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} .

وما يتولّد عن أفعال الملائكة وغيرهم ليسوا مستقلّين به، بل لهم فيه شركة؛ كطمس أبصار اللوطيّة، وقلب مدينتهم. وكذلك النصر: إنّما] يقدرون] 1 على القتال كالإنس. والنصر هو من عند الله؛ كما قال تعالى: {ومَا جَعَلَهُ اللهُ إلاَّ بُشرى ولتطمئِنَّ به قلوبُكم وما النَّصْرُ إِلاَّ من عند اللهِ} 2. [والقرآنُ إنّما يقدرون على النزول به، لا على إحداثه ابتداءً، فهم3 يقدرون على الإتيان بمثله من عند الله] 4. وأمّا الجنّ والإنس فلا يقدرون على الإتيان بمثله؛ لأنّ الله لا يُكلّم بمثله الجنّ والإنس ابتداءً. ولهذا قال: {لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} 5، وقال تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} 6، وقال: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ} 7، وقال: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} 8، لم يُكلّفهم نفس الإحداث، بل طالبهم بالإتيان بمثله؛ إما إحداثاً، وإما تبليغاً عن الله، أو عن مخلوق، ليظهر عجزهم عن جميع الجهات9؛ فقد يُقال: فنفس أفعال العباد ليست من الآيات؛ إذ

_ 1 في ((خ)) : يقدر. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 سورة الأنفال، الآية 10. 3 أي الملائكة. 4 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 5 سورة الإسراء، الآية 88. 6 سورة البقرة، الآية 23. 7 سورة هود، الآية 13. 8 سورة الطور، الآية 34. 9 سبق الكلام على التحدي بالقرآن الكريم. انظر ص 622-623، 624، 1105 من هذا الكتاب.

كانت مقدورة ومفعولة للعبد، وإن كان ذلك بإقدار الله تعالى، ولا نفس القدرة على ذلك الفعل؛ فإن المقصود من القدرة هو الفعل. آيات الأنبياء لا يتوصل إليها بسبب بل الآيات خارجة عن مقدور جميع العباد؛ الملائكة، والجنّ، والإنس، وهي أيضاً لا تُنال بالاكتساب؛ فإن الإنس والجنّ قد يقدرون بأسباب مباينة لهم على أمور، كما يقدرون على قتل من يقتلونه وإمراضه، ونحو ذلك. وآيات الأنبياء لا يقدر أحدٌ أن يتوصّل إليها بسبب. والسحر والكهانة ممّا يمكن التوصّل إليه بسبب؛ كالذي يأتي بأقوال وأفعال تُحدّثه بها الجنّ1. فالنبوّة لا تُنال بكسب العبيد، ولا آياتها تحصل بكسب العباد2، وهذا

_ 1 انظر: مجموع الفتاوى 1189. 2 فالنبوة فضل إلهي، ومنة ربانية، يختص الله بها من يشاء من عباده؛ فيخصّه بالوحي ليبلغ عباده. فلا تُدرك باختيار العبد وكسبه وإرادته، وإنّما هي اصطفاء من الله، ومنّة منه جل وعلا. قال تعالى: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} . سورة البقرة، الآية 105. وقال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} . سورة الأنعام، الآية 154. وقال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} . سورة الحج، الآية 75. أما الفلاسفة، وصوفيتهم: فقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله عنهم أنّهم يقولون بأن النبوة مكتسبة. وبيّن رحمه الله أنها لا تنال باكتساب الإنسان، فقال: "إنّ النبوة لا تنال باكتساب الإنسان واستعداده كما تنال بذلك العلوم المكتسبة والدين المكتسب؛ فإنّ هؤلاء القوم ما قدروا الله حق قدره، ولا قدروا الأنبياء قدرهم، لمّا ظنوا أن الإنسان إذا كان فيه استعداد لكمال تزكية نفسه وإصلاحها، فاض عليه بسبب ذلك المعارف من العقل الفعال كما يفيض الشعاع على المرآة المصقولة إذا جليت وحوذي بها الشمس، وأن حصول النبوة ليس هو أمراً يُحدثه الله بمشيئته وقدرته، وإنما حصول هذا الفيض على هذا المستعد، كحصول الشعاع على هذا الجسم الصقيل، صار كثيرٌ منهم يطلب النبوة؛ كما يُحكى عن طائفة من قدماء اليونان، وكما يعرض ذلك لطائفة من الناس في أيام الإسلام..". كتاب الصفدية 1229. وانظر: المصدر نفسه 1230-234. ودرء تعارض العقل والنقل 5353-356. ومنهاج السنة النبوية 2415-416، 434-435. وبغية المرتاد ص 384. وشرح حديث النزول ص 421. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 204. وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 609-612، 732-735، 834-841، 855-857. وانظر عن طلب صوفية الفلاسفة، أو ملاحدة الصوفية للنبوة في: درء تعارض العقل والنقل10204-205. والرد على المنطقيين ص 483. وكتاب الصفدية 1250-251، 284-285. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 196-199، 236-237. فالنبوة فضل من الله، ومنّة يمنّ بها على عباده، واصطفاء منه جلّ وعلا، قال العلامة السفاريني رحمه الله: ولا تنال رتبة النبوة بالكسب والتهذيب والفتوة لكنها فضل من المولى الأجلّ لمن يشاء من خلقه إلى الأجل انظر: لوامع الأنوار 2267.

من الفروق بين آيات الأنبياء، وبين السحر والكهانة. من الفروق بين آيات الأنبياء وبين خوارق السحرة والكهان وبينهما فروق كثيرةٌ، أكثر من عشرة1. أحدها: أنّ ما تخبر به الأنبياء، لا يكون إلاصدقاً. وأمّا ما يُخبر به من خالفهم؛ من السحرة، [والكهان] 2، وعُبّاد المشركين، وأهل الكتاب، وأهل البدع والفجور من المسلمين؛ فإ نه لابُدّ فيه من الكذب. [الثاني: أنّ الأنبياء لا تأمر إلا بالعدل، ولا تفعل إلا العدل] 3.

_ 1 ذكر الشيخ رحمه الله الفروق بين آيات الأنبياء، وبين السحرة والكهان منظمة في ص 671-673 من هذا الكتاب، وقد جعلها اثني عشر فرقاً. وانظر ما سبق في هذا الكتاب، ص 671-673، 798، 844، 987، 1020. 2 في ((ط)) : الكهاه. 3 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .

وهؤلاء المخالفون لهم لا بُدّ لهم من الظلم؛ فإن ما خالف العدل لا يكون إلا ظلماً؛ فيدخلون في العدوان على الخلق، وفعل الفواحش، والشرك، والقول [على] 1 الله بلا علم؛ وهي المحرمات التي حرّمها الله مطلقاً؛ كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّما حَرَّم رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالبَغْيَ بِغَيرِ الحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكوا باللهِ مَا لَم يُنَزِّل بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاتَعْلَمُون} 2. الثالث: أنّ ما يأتي به من يخالفهم: معتادٌ لغير الأنبياء؛ كما هو معتاد للسحرة، والكهان، وعباد المشركين، وأهل الكتاب، وأهل البدع والفجور. وآيات الأنبياء هي معتادة أنها تدلّ: علىخبر الله وأمره، على علمه وحكمه؛ فتدلّ على أنهم أنبياء، وعلى صدق من أخبر بنبوتهم؛ سواء كانوا هم المخبرين، أوغيرهم. وكرامات الأولياء هي من هذا؛ فإنهم يخبرون بنبوة الأنبياء. وكذلك أشراط الساعة: هي أيضاً تدلّ على صدق الأنبياء؛ إذ كانوا قد أخبروا بها. فالذي جعله أولئك3 من كرامات الأولياء، وأشراط الساعة ناقضاً لآيات الأنبياء، إذ هو من جنسها، ولا يدلّ عليها. فأولئك4 كذّبوا بالموجود، وهؤلاء5 سوّوا بين الآيات وغيرها، فلم [يكن] 6 في الحقيقة عندهم آية، وكانت الآيات عند أولئك منتقضة.

_ 1 في ((خ)) : عليه. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 سورة الأعراف: 33. 3 أي المعتزلة. 4 أي المعتزلة. 5 أي الأشاعرة. 6 في ((م)) ، و ((ط)) : تكن.

وأولئك1 نصروا جهلهم بالتكذيب بالحق، وهؤلاء2 نصروا جهلهم أيضاً بقول الباطل، فقالوا: إنّ الآية هي المقرونة بالدعوى التي لا تعارض3، وزعموا أنه لا يمكن معارضة السحر والكهانة إذا جعل آية، وأنه إذا لم يعارض، كان آيةً4، وهو تكذيب بالحق أيضاً؛ فإنّه قد ادّعاه غير نبيّ، ولم يعارض5. فالطائفتان6 أدخلت في الآيات ما ليس منها، وأخرجت منها ما هو منها؛ فكرامات الأولياء، وأشراط الساعة من آيات الأنبياء، وأخرجوها. والسحر والكهانة ليس من آياتهم، وأدخلوها، أو سوّوا بينها وبين الآيات، بل [ونوابها] 7. الرابع: إنّ آيات الأنبياء والنبوة، لو قُدّر أنها تُنال بالاكتساب، فهي إنما تُنال بعبادة الله وطاعته؛ فإنه لا يقول عاقل: إنّ أحداً يصير نبياً بالكذب

_ 1 المعتزلة. 2 الأشاعرة. 3 انظر: البيان للباقلاني ص 46-49. والإرشاد للجويني ص 312-313، 319. والمواقف للإيجي ص 369. وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 151-155، 282، 586-587، 724، 987. 4 انظر: البيان ص 94-95، 96. والإرشاد ص 319، 328. والمواقف ص 370. وأصول الدين للبغدادي ص 174-175. وانظر ما سبق ص 585-588، 606-609، 726-727،. 5 مثل مسيلمة الكذاب، والأسود العنسي، والحارث الدمشقي. انظر ما سبق ص 192، 282، 598. 6 المعتزلة والأشاعرة. 7 في ((خ)) رسمت: لوابها. وهكذا جاءت في ((م)) ، و ((ط)) .

والظلم، بل بالصدق والعدل؛ سواءٌ قال: إنّ النبوة جزاء على العمل1، أو قال: إنه إذا زكى نفسه، [فاض] 2 عليه ما يفيض على الأنبياء3. فعلى القولين: هي مستلزمة لالتزام الصدق والعدل. وحينئذ: فيمتنع أن صاحبها يكذب على الله؛ فإن ذلك يفسدها بخلاف من خالف الأنبياء؛ من السحرة، والكهان، وعباد المشركين، وأهل البدع والفجور؛ من أهل الملل؛ أهل الكتاب، والمسلمين؛ فإن هؤلاء [تحصل] 4 لهم الخوارق، مع الكذب والإثم. بل خوارقهم مع ذلك أشدّ؛ لأنهم يخالفون الأنبياء. وما ناقض الصدق والعدل، لم يكن إلا كذباً وظلماً. فكلّ من خالف طريق الأنبياء، لا بُدّ له من الكذب والظلم؛ إما عمداً، وإما جهلاً.

_ 1 وهذا قول المعتزلة، كما صرح بذلك شيخ الإسلام رحمه الله في منهاج السنة 2414، 5436-439. وكتاب الصفدية 1225-229. 2 في ((ط)) : فاضل. 3 هذا قول الفلاسفة، كما مر معنا في ص 1312 من هذا الكتاب. وانظر: كتاب الصفدية 1229، 2230. وقد قال شيخ الإسلام عن النبوة عند الفلاسفة أنهم "يزعمون أن ذلك فيض فاض من العقل على نفس النبيّ كما يفيض على سائر الأنبياء وغيرهم". بغية المرتاد ص 384. وانظر: الرد على المنطقيين ص 218-219، 474-476. وفكرة الفيض، والصدور - وهما بمعنى واحد عند من قال بهما -: تولّد عن الله. والله تعالى قد نفى جنس التولد عن نفسه. انظر: كتاب الصفدية 1158-160، 347. والرد على المنطقيين ص 214، 218، 219. 4 في ((خ)) : يحصل. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

وقوله تعالى: {تَنَزَّلُ على كُلِّ أفَّاكٍ أثيم} 1: ليس من شرطه أن يتعمد الكذب، بل من كان جاهلاً يتكلم بلا علم، فيكذب؛ فإن الشياطين تنزل عليه أيضاً؛ إذ من أخبر عن الشيء بخلاف ما هو عليه، من غير اجتهاد يُعذر به، فهو كذّاب. ولهذا يصف الله المشركين بالكذب، وكثيرٌ منهم لا يتعمّد ذلك. وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لما أفتى أبو السنابل2: بأنّ المتوفى عنها الحامل، لا [تحلّ] 3 بوضع الحمل، بل تعتد أبعد الأجلين. فقال: كذب أبو السنابل4؛ [أي في قوله] 5: بأنّ المتوفى عنها الحامل لا [تحلّ] 6 بوضع الحمل، بل تعتد أبعد الأجلين. وكذلك لمّا قال بعضهم: ابن الأكوع حبط عمله. قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: كذب من قالها، إنه لجاهد مجاهد7 ونظائره كثيرة. فالأنبياء لا يقع في إخبارهم عن الله كذب؛ لا عمداً، ولا خطأ. وكلّ من خالفهم لابد أن يقع في خبره عن الله كذب ضرورةً؛ فإن خبره إذا لم يكن مطابقاً لخبرهم، كان مخالفاً له، فيكون كذباً.

_ 1 سورة الشعراء، الآية 222. 2 سبقت ترجمته. 3 في ((خ)) : يحل. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 4 سبق تخريجه 978-979. 5 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) ، وهو في ((م)) ، و ((ط)) . 6 في ((خ)) : يحلّ. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 7 سبق تخريجه 979.

فالذي تَنَزَّل عليه الشياطين إذا ظن واعتقد أنهم جاؤوا من عند الله، وأخبر بذلك، كان كاذباً. وكذلك إذا قال عما أوحوه إليه: إن الله أوحاه إليه، كان كاذباً؛ قال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} 1. ولمّا شاع خبر المختار بن أبي عبيد2، وهو أول من ظهر في الإسلام بالكذب في هذا، وثبت في الصحيح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يكون في ثقيف كذّاب ومبير" 3، فكان الكذّاب هو المختار بن أبي عبيد، وكان

_ 1 سورة الأنعام، الآية 121. 2 هو المختار بن أبي عبيد بن مسعود الثقفي، أبو إسحاق. كان أبوه قد أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تعلم له صحبة. استعمله عمر بن الخطاب على جيش، فغزا العراق، وإليه تنسب وقعة جسر أبي عبيد. ولد المختار عام الهجرة. وقد سار من الطائف بعد مصرع الحسين إلى مكة فأتى ابن الزبير، وكان قد طرد لشره إلى الطائف، فأظهر المناصحة. فلما مات يزيد استأذن ابنَ الزبير في الرواح إلى العراق، فأذن له. وصار إلى العراق، ودعا فيها إلى إمامة محمد بن الحنفية، حتى علا قدره، ثم طالب بدم الحسين وتتبع قتلته، وقتل ابنَ زياد، وشاع في الناس أخبار عنه بأنه ادعى النبوة، ونزول الوحي عليه، ومكث كذلك ستة عشر شهراً، ثم قاتله مصعب بن الزبير أمير البصرة من قبل أخيه عبد الله، فقتله في الكوفة سنة 67 ?. انظر: سير أعلام النبلاء 3538. والإصابة 6349. وشذرات الذهب 174، 75. والبداية والنهاية 8292-295. والأعلام 7192. 3 أورد الإمام مسلم رحمه الله هذا الحديث من طريق أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، قالته تُخاطب الحجاج بن يوسف لما قتل ولدها عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، قالت له: " ... أما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن في ثقيف كذاباً ومبيراً، فأما الكذّاب فرأيناه، وأما المبير فلا إخالك إلا إياه.. ". أخرجه مسلم في صحيحه 41971-1972، كتاب فضائل الصحابة، باب ذكر كذاب ثقيف ومبيرها. وقد رواه أيضاً عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أخرجه الترمذي في جامعه 4499-500، 5729-730، كتاب الفتن، باب ما جاء في ثقيف كذاب ومبير. وانظر مسند الإمام أحمد 6351-352. والبداية والنهاية 8352. قال النووي: " المبير: المهلك. وقولها في الكذاب: فرأيناه: تعني به المختار بن أبي عبيد الثقفي، كان شديد الكذب، ومن أقبحه ادّعى أن جبريل صلى الله عليه وسلم يأتيه. واتفق العلماء على أن المراد بالكذاب هنا المختار بن أبي عبيد، وبالمبير الحجاج بن يوسف. والله أعلم". شرح النووي على صحيح مسلم 16100.

يتشيع لعلي. [ولهذا يوجد الكذب في الشيعة أكثر ممّا يوجد فى جميع الطوئف، والمبير: هو الحجاج بن يوسف1، وكان ظالماً معتدياً، وكان يتشيع] 2 لعثمان، والمختار يتشيع لعلي، فذُكر لابن عمر، وابن عباس أمر المختار، وقيل لأحدهما: إنه يزعم أنه يوحى إليه، فقال: صدق،

_ 1 هو الحجاج بن يوسف بن أبي عقيل بن مسعود الثقفي، أبو محمد. ولد بالطائف سنة 40?. أمره عبد الملك بقتال عبد الله بن الزبير، ثم ولاه مكة والمدينة والطائف، ثم أضاف إليها العراق. قال عنه الذهبي: "كان ظلوماً جباراً ناصبياً خبيثاً سفاكاً للدماء، وكان ذا شجاعة وإقدام ومكر ودهاء وفصاحة وبلاغة وتعظيم للقرآن.... - إلى أن قال: - وله حسنات مغمورة في بحر ذنوبه، وأمره إلى الله، وله توحيد في الجملة، ونظراء من ظلمة الجبابرة والأمراء. أهلكه الله في رمضان سنة خمس وتسعين كهلاً". سير أعلام النبلاء 4343. وذكر الإمام الترمذي رواية عنه، عن هشام بن حسان: قال: أحصوا ما قتل الحجاج صبراً، فبلغ مائة ألف وعشرين ألف قتيل. (سنن الترمذي 4499، كتاب الفتن، باب ما جاء في ثقيف كذاب ومبير) . وانظر: البداية والنهاية 9131-157. وشذرات الذهب 1106. والأعلام 2168. 2 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .

{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} 1، وقيل للآخر: إنه يزعم أنه ينزل عليه، فقال: صدق، {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} 2. الخامس: أنّ ما تأتي به السحرة، والكهان، والمشركون، وأهل البدع؛ من أهل الملل، لا يخرج عن كونه مقدوراً للإنس والجن. وآيات الأنبياء لا يقدر على مثلها؛ لا الإنس ولا الجن؛ كما قال تعالى: {قُلْ لَئِن اجْتَمَعَت الإنسُ والجنُّ عَلَى أَنْ يَأتوا بِمِثلِ هَذا القُرآنِ لا يَأتونَ بِمثلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُم لِبَعْضٍ ظَهِيراً} 3. السادس: أنّ ما يأتي به السحرة، والكهان، وكلّ مخالف للرسل تُمكن

_ 1 سورة الأنعام، الآية 121. وروى الطبري بسنده إلى أبي زميل قال: كنت قاعداً عند ابن عباس، فجاءه رجل من أصحابه، فقال: يا ابن عباس زعم أبو إسحاق أنه أوحي إليه الليلة؛ يعني المختار بن أبي عبيد. فقال ابن عباس: صدق. فنفرتُ فقلتُ: يقول ابن عباس صدق؟! فقال ابن عباس: هما وحيان؛ وحي الله، ووحي الشيطان. فوحي الله إلى محمد، ووحي الشياطين إلى أوليائهم، ثم قال: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} , سورة الأنعام، الآية 121. تفسير الطبري 820. 2 سورة الشعراء، الآيتان 221-222. وروى الطبري بسنده إلى سعيد بن وهب قال: كنت عند عبد الله بن الزبير، فقيل له: إن المختار يزعم أنه يوحى إليه، فقال: صدق، ثم تلا: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} . سورة الشعراء، الآيتان 221-222. تفسير الطبري 19126. وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "وقد قيل لابن عمر: إن المختار يزعم أن الوحي يأتيه؟ فقال: صدق، قال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} ". البداية والنهاية 8294. 3 سورة الإسراء، الآية 88.

معارضته بمثله، وأقوى منه؛ كما هو الواقع لمن عرف هذا الباب1. وآيات الأنبياء لا يُمكن أحداً أن يعارضها؛ لا بمثلها، ولا بأقوى منها. وكذلك كرامات الصالحين، لا تعارض؛ لا بمثلها، ولا بأقوى منها. بل قد يكون بعضها آيات [أكبر] 2 من بعض. وكذلك آيات الصالحين. لكنها متصادقة، متعاونة على مطلوب واحد؛ وهو عبادة الله، وتصديق رسله. فهي آيات، ودلائل، وبراهين متعاضده على مطلوب واحد. والأدلة بعضها أدلّ وأقوى من بعض. ولهذا كان المشايخ3 - الذين يتحاسدون، ويتعادون، ويقهر بعضهم بعضاً بخوارقه؛ إما بقتل وإمراض، وإما بسلب حاله وعزله عن مرتبته، وإما غير ذلك - خوارقهم شيطانية، ليست من آيات الأنبياء والأولياء. [وكثيرٌ] 4 من هؤلاء يكون في الباطن كافراً منافقاً. وكثيرٌ منهم يموت على غير الإسلام. وكثيرٌ منهم يكون مسلماً مع ظلم يعرف أنه ظلم، ومنهم من يكون جاهلاً يحسب أنّ ما هو عليه ممّا أمر الله به ورسوله. وهذا كما يقع للملوك [المتنازعين على] 5 الملك من قهر بعضهم لبعض. فهذا خارج عن سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنة خلفائه الراشدين. السابع: أنّ آيات الأنبياء هي الخارقة للعادات؛ عادات الإنس والجنّ، بخلاف خوارق مخالفيهم؛ فإنّ كلّ ضرب منها معتاد لطائفة غير الأنبياء.

_ 1 أي باب السحر والكهانة والتنجيم. 2 في ((خ)) : أكثر. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 الذين هم من أولياء الشيطان. 4 ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين. 5 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) .

وآيات الأنبياء ليست معتادة لغير الذين يصدقون على الله، ويصدّقون من صدق على الله؛ وهم الذين جاؤوا بالصدق وصدّقوا. وتلك معتادة لمن يفتري الكذب على الله، أو يكذّب بالحقّ [لمّا جاءه] 1. فتلك آيات على كذب أصحابها، وآيات الأنبياء آيات على صدق أصحابها؛ فإن الله سبحانه لا يُخلي الصادق ممّا يدلّ على صدقه، ولا يُخلي الكاذب ممّا يدلّ على كذبه؛ إذ من نعته ما أخبر به في [قوله] 2: {أَمْ يَقُولُونَ افْترَى على اللهِ كَذِباً فَإِن يَشَأ اللهُ يَخْتِمُ عَلَى قَلْبِكَ} 3. ثم قال خبراً مبتدياً: {وَيَمْحُو اللهُ الباطلَ وَيُحِقُّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} 4؛ فهو سبحانه لا بُدّ أن يمحق الباطل، ويُحقّ الحق بكلماته. وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَواتِ والأرْضَ وما بينهُما لاعِبِينَ لو أرَدْنا أَن نتخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِن لَدُنَّا إن كُنَّا فاعِلِينَ بلْ نَقْذِفُ بالحقّ عَلى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زَاهِق ولَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} 5. كما أخبر في موضع أنّه لم يخلق الخلق عبثاً ولا سُدى، وإنّما خلقهم بالحق وللحق6، فلا بُدّ أن يجزي هؤلاء وهؤلاء بإظهار صدق هؤلاء، وإظهار كذب هؤلاء؛ كما قال: {بلْ نَقْذِفُ بالحقّ عَلى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هوَ زَاهِق} 7.

_ 1 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 2 في ((ط)) : وقله. 3 سورة الشورى، الآية 24. 4 سورة الشورى آية 24. 5 سورة الأنبياء، الآيات 16-18. 6 قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} . سورة المؤمنون، الآية 115. وقال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} . سورة القيامة، الآية 36. 7 سورة الأنبياء، الآية 18.

الثامن: أن هذه لا يقدر عليها مخلوق، فلا تكون مقدورة للملائكة، ولا للجنّ، ولا للإنس، وإن كانت الملائكة قد يكون لهم فيها سبب، بخلاف تلك؛ فإنّها إما مقدورة للإنس، أو للجنّ، أو ممّا يُمكنهم التوصّل إليها بسبب. وأما كرامات الصالحين فهي من آيات الأنبياء - كما تقدّم1، ولكن ليست من آياتهم الكبرى، ولا يتوقّف إثبات النبوة عليها، وليست خارقة لعادة الصالحين، بل هي معتادة في الصالحين من أهل الملل؛ في أهل الكتاب، والمسلمين. وآيات الأنبياء التي يختصّون بها خارقة لعادة الصالحين. التاسع: أنّ خوارق غير الأنبياء؛ الصالحين، والسحرة، والكهان، وأهل الشرك والبدع، تُنال بأفعالهم؛ كعبادتهم، ودعائهم، وشركهم، وفجورهم، ونحو ذلك. وأمّا آيات الأنبياء فلا [تحصل] 2 بشيء من ذلك، بل الله يفعلها آيةً وعلامةً لهم، وقد يُكرمهم بمثل كرامات الصالحين، وأعظم من ذلك، مما يقصد به إكرامهم. لكن هذا النوع يُقصد به الإكرام والدلالة، بخلاف الآيات المجردة؛ كانشقاق القمر، وقلب العصا حية، وإخراج يده بيضاء، والإتيان بالقرآن، والإخبار بالغيب الذي يختصّ الله به.

_ 1 انظر ص 162، 724، 987، 1036 من هذا الكتاب. 2 في ((خ)) : يحصل. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

فأمرُ الآيات إلى الله، لا إلى اختيار المخلوق1، واللهُ يأتي بها بحسب علمه، وحكمته، وعدله، ومشيئته، ورحمته، كما يُنزل ما ينزله من آيات القرآن، وكما يخلق من يشاء من المخلوقات، بخلاف ما حصل باختيار العبد؛ إما لكونه يفعل ما يُوجبه، أو يدعو الله به فيجيبه. فالخوارق التي ليست آيات2: تارةً تكون بدعاء العبد، والله تعالى يُجيب دعوة المضطر [إذا دعاه] 3، وإن كان كافراً. لكن [للمؤمنين] 4 من إجابة الدعاء ما ليس لغيرهم. وتارةً تكون بسعيه في أسبابها؛ مثل توجهه بنفسه وأعوانه، وبمن يُطيعه من الجنّ والإنس في حصولها. وأما آيات الأنبياء: فلا تحصل بشيء من ذلك.

_ 1 قال أحد الباحثين معلّقاً على كلام شيخ الإسلام رحمه الله: "فالذي يظهر من استقرائي لكلام ابن تيمية في تحقيقه للفظ المعجز، وفي تقسيمه للآيات: أن منها آيات خاصة لإقامة الحجج، وآيات عامة، قد يكون فيها معنى الإكرام، فهي دلائل وعلامات. فالآيات الخاصة تمثل المعجزات. والآيات العامة تمثل دلائل النبوة، وأعلام النبوة. فكل معجزة علامة ودلالة على النبوة، وليس كل علامة ودلالة على النبوة معجزة بالمعنى الاصطلاحي. أما المعنى اللغوي فقد تطلق المعجزات على أعلام النبوة ودلائلها، كما نقل ابن تيمية عن السلف كأحمد وغيره". خوارق العادات في القرآن الكريم لعبد الرحمن إبراهيم حميدي: ص 35. وانظر ما سبق من كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى حول هذا المعنى في ص 604، 652، 724، 725، 792 من هذا الكتاب. وانظر: الجواب الصحيح 5412-421،، 6380، 387. وفتح الباري 6581. 2 انظر: الجواب الصحيح 6167-168. 3 ما بين المعقوفتين ليس في ((م)) ، و ((ط)) . 4 في ((خ)) : المؤمنين. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) .

العاشر: أنّ النبيّ قد خلت من قبله أنبياء يعتبر بهم، فلا يأمر إلا [بما] 1 أمرت به الأنبياء؛ من عبادة الله وحده، والعمل بطاعته، والتصديق باليوم الآخر، والإيمان بجميع الكتب والرسل. فلا يُمكن خروجه عمّا اتفقت [عليه] 2 الأنبياء. وأما السحرة، والكهان، والمشركون، وأهل البدع من أهل الملل، فإنّهم يخرجون عمّا اتفقت عليه الأنبياء؛ فكلّهم يُشركون مع تنوّعهم، ويُكذّبون ببعض ما جاء به الأنبياء. والأنبياء كلّهم منزّهون عن الشرك، وعن التكذيب بشيء من الحقّ الذي بعث الله به نبيّاً. قال تعالى: {واسْأَل من أرسَلْنا من قَبْلِك مِن رُسُلِنا أَجَعَلْنا من دونِ الرَّحْمَنِ آلهةً يُعْبَدُونَ} 3. وقال تعالى: {وما أرسَلْنا من قبلِك من رَسُولٍ إلا [يُوحَى] 4 إليه أنَّه لا إله إلا أنا فاعْبُدُون} 5. وقال تعالى: {ولَقَدْ بَعَثْنا في كُلّ أُمّةٍ رسولاً أن اعبُدُوا اللهَ واجتنِبُوا الطاغوتَ فمنهم من هَدَى اللهُ ومنهم من حَقَّتْ عليهِ الضَّلالة} 6.

_ 1 في ((ط)) : بمغ. 2 ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) . 3 سورة الزخرف، الآية 45. 4 في ((ط)) : نُوحي. وهي قراءة حفص عن عاصم. انظر: النشر في القراءات العشر ص 65. 5 سورة الأنبياء، الآية 25. 6 سورة النحل، الآية 36.

وقال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إليه من رَبِّهِ والمؤمنونَ كُلّ آمنَ باللهِ وملائكتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ لا نُفرِّقُ بينَ أحدٍ من رُسُلِهِ} 1. وقال تعالى: {قولوا آمنَّا باللهِ وما أنزلَ إلينا وما أنزلَ إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النّبيّون من ربِّهم لا نُفرِّقُ بين أحدٍ منهم ونحنُ له مسلمون [فإن آمنوا بِمِثْلِ ما آمنتُمْ بِهِ فقد اهتّدّوْا] 2 وإن تولّوا فإنّما هُمْ في شِقاق} 3. وقال تعالى: {ولكنّ البِرَّ مَنْ آمنَ باللهِ واليومِ الآخرِ والملائكَةِ والكتابِ والنَّبِيِّينَ} 4. وقال تعالى: {إنَّ الَّذِين يكفُرُونَ باللهِ ورُسُلِهِ ويُريدونَ أن يُفَرِّقُوا بين اللهِ ورُسُلِهِ ويقولونَ نُؤمِنُ ببعضٍ ونكفًرُ ببعضٍ ويُريدون أن يتّخِذُوا بينَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ حَقَّاً} 5. وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاق النَّبِيِّينَ لما آتيتكم من كتابٍ وحكمةٍ ثُمَّ جاءكُم رسولٌ مُصدِّقٌ لما معكم لَتُؤمِنُنَّ بِهِ ولَتَنْصُرُنَّهُ قال أَأَقْرَرْتُم وأخذتُم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشَّاهِدِينَ} 6. وقال تعالى: {شَرَعَ لكم من الدِّين ما وصّى به نوحاً والَّذي أوحَيْنَا إِلَيْك وما وصَّيْنا به إبراهيم وموسى وعيسى أَن أقيموا الدين ولا تتفرَّقُوا فيه كَبُرَ على المُشْرِكِينَ

_ 1 سورة البقرة، الآية 285. 2 ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)) . 3 سورة البقرة، الآية 136. 4 سورة البقرة، الآية 177. 5 سورة النساء، الآيتان 150-151. 6 سورة آل عمران، الآية 81.

ما تدعوهم إليه اللهُ يَجْتَبِي إليهِ مَنْ يشَاءُ ويهدِي إليهِ مَنْ يُنِيب} 1. وقال تعالى: {يا أيُّها الرُّسُل كُلُوا من الطيِّبات واعملوا صالِحَاً إِنّي بما تَعْمَلُون عليمٌ وأنَّ 2 هذه أُمَّتُكُم أُمَّة واحدة وأنا ربكم فاتَّقُونِ} 3، ثمّ قال: {فَتَقَطَّعُوا أمرَهُم بَيْنَهُم زُبُرَاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِم فَرِحُونَ} 4. وقال تعالى لمّا ذكر الأنبياء: {إنّ هذه أُمَّتُكُم أُمَّة واحدة وأنا ربكم فاعبُدُون وتقطَّعُوا أمرهم بينهم كُلّ إلينا راجعون فَمَنْ يعمل من الصالحات وهو مُؤْمِنٌ فلا كُفران لِسَعْيِهِ وإِنَّا لَهُ كاتِبُون} 5. وقال تعالى: {وقالوا لن يَدْخُل الجنَّةَ إلاَّ مَنْ كان هُوداً أو نَصَارى تلك أمَانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكم إن كنتُم صادِقِين بلى مَنْ أسلم وَجهَهُ للهِ وهو مُحْسِنٌ فله أجره عند ربِّهِ ولا خوفٌ عليهم ولا هُمْ يَحْزَنُون} 6. فالأنبياء يُصدِّقُ متأخِّرُهم مُتقدّمهم، ويُبشِّر متقدّمُهم بمتأخِّرِهم؛ كما بَشَّرَ المسيح ومن قَبْلَهُ بمحمّدٍ7، وكما صدّق محمّدٌ جميع النّبيّين قبلَهُ8.

_ 1 سورة الشورى، الآية 13. 2 قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمر: ((وأن)) بالفتح وتشديد النون، ووافق ابن عامر في فتح الألف، لكنه سكن النون، وقرأ عاصم، وحمزة والكسائي: ((وإن)) بكسر الألف وتشديد النون. انظر: زاد المسير لابن الجوزي 5478. 3 سورة المؤمنون، الآيتان 51-52. 4 سورة المؤمنون، الآية 53. 5 سورة الأنبياء، الآيات 92-94. 6 سورة البقرة، الآيتان 111-112. 7 قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} . سورة الصف، الآية 6. 8 قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} . سورة البقرة، الآية 285.

ولهذا يقول: {يا أيُّها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نَزَّلْنا مُصدّقاً لما معكُم من قبلِ أن نطْمِسَ وجوهاً فنَرُدَّها على أدبارِها أو نلعنهم كما لعنَّا أصحاب السّبْتِ} 1. وقال: { [نَزَّلَ] 2 عَليكَ الكتابَ بالحقِّ مُصدّقاً لِمَا بينَ يديه وأنزل التَّوْراةَ والإنجيلَ} 3. وقال: {وَأنزَلْنا إليكَ الكتاب بالحقّ مُصدِّقاً لما بين يديه من الكتابِ ومُهَيْمِنَاً عليهِ} 4. والأنبياء، وأتباعهم، [كُلُّهم] 5 مؤمنون، مسلمون6، يعبدون الله

_ 1 سورة النساء، الآية 47. 2 في ((خ)) : أنزل. 3 سورة آل عمران، الآية 3. 4 سورة المائدة، الآية 48. 5 في ((ط)) : كله. 6 جميع الرسل متفقون في الدعوة إلى التوحيد الخالص، والنهي عن الشرك، فالغاية التي بُعثوا من أجلها: إفراد الله بالعبادة، والنهي عن جميع الموبقات من الكفر والفسوق والعصيان. والإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله جلّ وعلا للخلق أجمعهم، فأرسل النبيين والمرسلين من لدن آدم عليه السلام إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بدين واحد، وهو الإسلام. إلا أن شرائعهم تنوعت، فشرع لقوم ما لم يشرع لآخرين. قال تعالى يحكي عن نوح عليه السلام وهو يخاطب قومه: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 72] . ومن ذلك قوله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} . سورة البقرة، الآيتان 132-133. وقال تعالى يحكي قول يوسف عليه السلام: {تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [سورة يوسف، الآية 101] . وقال عن موسى عليه السلام: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [سورة يونس، الآية 84] . وقال تعالى عن السحرة: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [سورة الأعراف، الآية 126] . وقال تعالى عن بلقيس: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة النمل، الآية 44] . وقال يحكي عن الحواريين: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران، الآية 52] . وقد أشار شيخ الإسلام رحمه الله تعالى إلى أن دين الأنبياء عليهم السلام جميعاً هو الإسلام في مواضع كثيرة من تصانيفه. فمن ذلك قوله: "وقد ذكر الله عن الأنبياء وأتباعهم أنهم كانوا مسلمين مؤمنين من نوح إلى الحواريين، وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران، 85] . وهذا عام في الأولين والآخرين، وقال: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} [آل عمران، 19] . وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [النحل، 36] . وقوله تعالى: {أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [سورة البقرة: آية 112] ؛ أي أخلص قصده وعمله لله وهو محسن يفعل الصالحات، وهذا هو الإسلام؛ وهو أن يكون عمله عملاً صالحاً ويعمله لله تعالى. وهذا هو عبادة الله وحده لا شريك له. وبهذا بعث الله الرسل جميعهم". الرد على المنطقيين ص 448. وانظر: مجموع الفتاوى 392، 7624. والجواب الصحيح112-83. والعقيدة التدمرية ص167-170. ودقائق التفسير 5105. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 182-185. وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 488-490.

وحده بما أمر، ويُصدّقون بجميع ما جاءت به الأنبياء. ومن خالفهم: لا يكون إلا مُشركاً، ومكذّباً ببعض ما أنزل الله. وبين الطائفتين1 فروقٌ كثيرةٌ غير خوارق العادات. الحادي عشر: أنّ النبيّ هو وسائر المؤمنين لا يُخبرون إلا بحقّ،

_ 1 أي بين جنس الأنبياء، وجنس المتنبئين من السحرة والكهان.

ولا يأمرون إلا بعدل؛ فيأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويأمرون بمصالح العباد في المعاش والمعاد، لا يأمرون بالفواحش، ولا الظلم، ولا الشرك، ولا القول بغير علم. فهُم بُعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها، لا بتبديلها وتغييرها. فلا يأمرون إلا بما يُوافق المعروف في العقول، الذي تتلقاه القلوب السليمة بالقبول. فكما أنهم هم لا يختلفون؛ فلا يُناقض بعضهم بعضاً، بل دينهم وملّتهم واحد وإن تنوّعت الشرائع1، فهم أيضاً موافقون لموجب الفطرة التي فطر الله عليها عباده، موافقون للأدلّة العقلية لا يُناقضونها قطّ. بل الأدلة العقليّة الصحيحة كلّها توافق الأنبياء لا تُخالفهم. وآيات الله السمعية والعقلية؛ العيانية2 والسماعية كلّها متوافقة، متصادقة، متعاضدة، لا يُناقض بعضها بعضاً؛ كما قد بُسط هذا في غير هذا الموضع3.

_ 1 فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الأنبياء أخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد) . أخرجه البخاري في صحيحه31270، كتاب الأنبياء، باب: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا} . ومسلم في صحيحه 41837، كتاب الفضائل، باب فضائل عيسى عليه السلام. وأحمد في المسند 2309، 406، 437، 482. 2 أي التي تُرى وتُشاهد. 3 انظر كتابه درء تعارض العقل والنقل؛ فقد ألّفه رحمه الله للرد على القانون الذي ابتدعه المخالفون لمنهج أهل السنة يدّعون فيه حصول التعارض بين العقل والنقل. وقد أصّل شيخ الإسلام رحمه الله أصلاً في الرد على هذا القانون؛ وهو موافقة صريح العقل لصحيح النقل، والتلازم بينهما. وانظر أيضاً: الرد على المنطقيين ص 373. ومجموع الفتاوى 6300، 16442-443.

والذين يُخالفون الأنبياء؛ من أهل الكفر، وأهل البدع؛ كالسحرة، والكهان، وسائر أنواع الكفّار؛ وكالمُبتدعين من أهل الملل؛ أهل العلم، وأهل العبادة: فهؤلاء مخالفون للأدلة السمعية والعقلية؛ للسماعية والعيانية، مخالفون لصريح المعقول، وصحيح المنقول؛ كما أخبر الله عنهم بقوله: {كُلَّما أُلْقِيَ فيها فَوْجٌ سألهم خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} الآية1. فهؤلاء يُخالفون أقوال الأنبياء؛ إما بالتكذيب، وإما بالتحريف من التأويل، وإما بالإعراض عنها وكتمانها؛ فإما لا يذكروها، أو يذكروا ألفاظها، ويقولون: ليس لها معنى يعرفه مخلوق2؛ كما أخبر الله عن أهل الكتاب: أنّ منهم

_ 1 سورة الملك، الآية 8. 2 يُنبّه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ها هنا على أنّ لأهل التعطيل في نصوص الوحي ثلاث طرق: الطريق الأول: إما بردّها بالتكذيب بها، والتعطيل لها لفظاً ومعنى. الطريق الثاني: أو صرفها عن معناها الحقيقي، ومراد الرسول صلى الله عليه وسلم بها، بواسطة التأويل. الطريق الثالث: وهو التفويض المحض؛ أو قل دعوى الجهل بمعنى كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وعدم العلم به، والفقه له. أما أصحاب القول الأول؛ وهو التكذيب بالنصوص، فقد قال عنهم شيخ الإسلام رحمه الله: (يزعم كثير من القدرية والمعتزلة أنه لا يصح الاستدلال بالقرآن على حكمة الله وعدله وأنه خالق كل شيء وقادر على كل شيء. وتزعم الجهمية من هؤلاء ومن اتبعهم من بعض الأشعرية وغيرهم أنه لا يصح الاستدلال بذلك على علم الله وقدرته وعبادته وأنه مستو على عرشه. ويزعم قوم من غالية أهل البدع أنه لا يصح الاستدلال بالقرآن والحديث على المسائل القطعية مطلقاً، بناء على أن الدلالة القطعية لا تفيد اليقين بما زعموا. ويزعم قوم من أهل البدع أنه لا يستدل بالأحاديث المتلقاة بالقبول على مسائل الصفات والقدر ونحوهما مما يطلب فيه القطع باليقين". المعجزات وكرامات الأولياء ص 56-57. وأما التأويل: فقد أوضح الشيخ رحمه الله أن لفظ التأويل قد صار بتعدد الاصطلاحات مستعملاً في معان ثلاثة: أحدها: العاقبة، وما يؤول إليه الكلام. الثاني: يراد به التفسير. الثالث: صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به. وتسمية هذا تأويلاً لم يكن موجوداً في عرف السلف رحمهم الله، وإنما سمى هذا وحده تأويلاً طائفةٌ من المتأخرين الخائضين في الفقه وأصوله والكلام؛ فإن أكثره أو عامته من باب تحريف الكلم عن مواضعه، من جنس تأويلات القرامطة والباطنية. وهذا هو التأويل الذي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمه، وصاحوا بأهله من أقطار الأرض، ورموا في آثارهم بالشهب. انظر: نقض المنطق ص 57-58. والعقيدة التدمرية ص 91-93. وأما أهل التفويض المحض؛ وهو تفويض علم معاني النصوص إلى الله تعالى، والإعراض عنها بالكلية، والزعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلم المراد، ولم يبلغ البلاغ المبين، فقد قال عنهم شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "وأما التفويض فإنه من المعلوم أن الله تعالى أمرنا أن نتدبر القرآن، وحضّنا على عقله وفهمه، فكيف يجوز مع ذلك أن يراد منا الإعراض عن فهمه ومعرفته وعقله؟.. فعلى قول هؤلاء: يكون الأنبياء والمرسلون لا يعلمون معاني ما أنزل الله عليهم من هذه النصوص، ولا الملائكة، ولا السابقون الأولون. وحينئذ فيكون ما وصف الله به نفسه في القرآن، أو كثير مما وصف الله به نفسه لا يعلم الأنبياء معناه، بل يقولون كلاماً لا يعقلون معناه. وكذلك نصوص المثبتين للقدر عند طائفة، والنصوص المثبتة للأمر والنهي والوعد والوعيد عند طائفة، والنصوص المثبتة للمعاد عند طائفة. ومعلومٌ أن هذا قدحٌ في القرآن والأنبياء؛ إذ كان الله أنزل القرآن وأخبر أنه جعله هدى وبياناً للناس، وأمر الرسول أن يبلغ البلاغ المبين، وأن يبين للناس ما نزّل إليهم، وأمر بتدبر القرآن وعقله. ومع هذا فأشرف ما فيه؛ وهو ما أخبر به الربّ عن صفاته، أو عن كونه خالقاً لكل شيء، وهو بكل شيء عليم، أو عن كونه أمراً ونهياً، ووعداً وتوعداً، أو عما أخبر به عن اليوم الآخر، لا يعلم أحد معناه، فلا يعقل ولا يتدبر، ولا يكون الرسول بين للناس ما نزل إليهم، ولا بلغ البلاغ المبين. وعلى هذا التقدير: فيقول كل ملحد ومبتدع: الحق في نفس الأمر ما علمته برأيي وعقلي، وليس في النصوص ما يُناقض ذلك؛ لأن تلك النصوص مشكلة متشابهة، لا يعلم أحد معناها، وما لا يعلم أحد معناه لا يجوز أن يُستدلّ به. فيبقى هذا الكلام سداً لباب الهدى والبيان من جهة الأنبياء، وفتحاً لباب من يعارضهم ويقول: إن الهدى والبيان في طريقنا لا في طريق الأنبياء؛ لأنا نحن نعلم ما نقول ونبينه بالأدلة العقلية، والأنبياء لم يعلموا ما يقولون، فضلاً عن أن يُبينوا مرادهم. فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد". درء تعارض العقل والنقل 1201-205. وقال رحمه الله تعالى أيضاً عن أهل هذه الطرق: "الخارجين عن طريق السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، لهم في كلام الرسول ثلاث طرق: طريقة التخييل، وطريقة التأويل، وطريقة التجهيل. فأهل التخييل: هم الفلاسفة الباطنية الذين يقولون: إنه خيّل أشياء لا حقيقة لها في الباطن، وخاصية النبوة عندهم التخييل. وطريقة التأويل طريقة المتكلمين من الجهمية والمعتزلة وأتباعهم، يقولون: إن ما قاله له تأويلات تخالف ما دل عليه اللفظ، وما يفهم منه، وهو وإن كان لم يبين مراده ولا بين الحق الذي يجب اعتقاده، فكان مقصوده أن هذا يكون سبباً للبحث بالعقل، حتى يعلم الناس الحق بعقولهم، ويجتهدوا في تأويل ألفاظه إلى ما يُوافق قولهم ليُثابوا على ذلك. فلم يكن قصده لهم البيان والهداية والإرشاد والتعليم، بل قصده التعمية والتلبيس، ولم يعرفهم الحق حتى ينالوا الحق بعقلهم، ويعرفوا حينئذ أن كلامه لم يقصد به البيان، فيجعلون حالهم في العلم مع عدمه خيراً من حالهم مع وجوده...... - إلى أن قال رحمه الله: - وأما الصنف الثالث الذين يقولون إنهم أتباع السلف، فيقولون: إنه لم يكن الرسول يعرف معنى ما أنزل عليه من هذه الآيات، ولا أصحابه يعلمون معنى ذلك، بل لازم قولهم أنه هو نفسه لم يكن يعرف معنى ما تكلم به من أحاديث الصفات، بل يتكلم بكلام لا يعرف معناه. والذين ينتحلون مذهب السلف يقولون: إنهم لم يكونوا يعرفون معاني النصوص، بل يقولون ذلك في الرسول. وهذا القول من أبطل الأقوال". نقض المنطق ص 56-57. وانظر أقوالاً أخرى لشيخ الإسلام رحمه الله حول هذه الطرق في كتبه: مجموع الفتاوى 468-69، 13175-176، 288-289. ودرء تعارض العقل والنقل 114، 5284-285. ونقض التأسيس 2234-235.

من يُكذّبُ في اللفظ، ومنهم من يُحرّف الكلم في المعنى، ومنهم جُهّال لا يفقهون ما يقرؤون؛ قال تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤمِنُوا لَكُمْ} 1، إلى قوله: {فَوَيْلٌ لَهُم مِمَّا كَتَبَتْ أيْدِيهم وويلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُون} 2. وكذلك هم مخالفون للأدلة العقلية. الأنبياء كملوا الفطرة ومخالفوهم أفسدوا الحس والعقل والخبر فالأنبياء كمّلوا الفطرة، وبصّروا الخلق؛ كما تقدّم3 في صفة محمّد [صلى الله عليه وسلم] 4: أنّ الله يفتحُ به أعيناً عُمياً، وآذاناً صُمّاً، وقلوباً غُلفاً. ومخالفوهم يُفسدون الحسّ والعقل، كما أفسدوا الأدلة السمعية. والحسّ والعقل بهما تُعرف الأدلة. والطرق ثلاثة: الحسّ، والعقل، والخبر. فمخالفوا الأنبياء أفسدوا هذا، وهذا، وهذا. أما إفسادهم لما جاء عن الأنبياء: فظاهرٌ. مخالفوا الأنبياء قسمان: وأما إفسادهم للحسّ والعقل: فإنّهم قسمان: قسمٌ أصحاب خوارق حسيّة؛ كالسحرة، والكهّان، وضلال العُبّاد. وقسمٌ أصحاب كلام واستدلال بالقياس والمعقول. وكلٌّ منهما يُفسد الحسّ والعقل. أصحاب الحال الشيطاني أما أصحاب الحال الشيطانيّ: فقد عُرف أنّ السحر يُغيّر الحسّ

_ 1 سورة البقرة، الآية 75. 2 سورة البقرة، الآية 79. 3 انظر: ص 1284 من هذا الكتاب. 4 في ((خ)) : صلعم.

والعقل، حتى يُخيَّل إلى الإنسان الشيء بخلاف ما هو. وكذلك سائر الخوارق الشيطانيّة، لا [تأتي] 1 إلا مع نوع فساد في الحسّ والعقل؛ كالمؤلهين الذين لا تأتيهم إلا مع زوال عقولهم، وآخرين لا [تأتيهم] 2 إلا في الظلام، وآخرين [يتمثّل] 3 لهم الجنّ في صورة الإنس، فيظنّون أنّهم إنس، أو يرونهم مثال الشيء؛ فيظنّون أن الذي رأوه هو الشيء نفسه، أو يُسمعونهم صوتاً يُشبه صوت من يعرفونه، فيظنّون أنه صوت ذلك المعروف عندهم4. وهذا كثيرٌ موجودٌ في أهل العبادات البدعية التي فيها نوعٌ من الشرك ومخالفة الشريعة. أصحاب الكلام والمقال البهتاني وأما أصحاب الكلام والمقال البُهتاني: فإنهم بنوا أصولهم العقلية، وأصول دينهم الذي ابتدعوه على مخالفة الحسّ والعقل. أصل كلام أهل الكلام فأهل الكلام أصل كلامهم في الجواهر والأعراض5 مبني على مخالفة

_ 1 في ((خ)) : يأتي. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 2 في ((خ)) : يأتيهم. وما أثبت من ((م)) ، و ((ط)) . 3 في ((م)) ، و ((ط)) : تتمثل. 4 انظر: مجموع الفتاوى 1384-85، 92. 5 سبق توضيح معنى الجواهر المنفردة ص 345 من هذا الكتاب. والجواهر والأعراض عند المبتدعة هما ما يتكون منه العالم، كما قال الجويني: "العالم جواهر وأعراض؛ فالجوهر هو المتحيز، وكل ذي حجم متحيز. والعرض هو المعنى القائم بالجوهر كالألوان والطعوم والروائح والحياة والعلوم والإرادات والقُدَر القائمة بالجواهر". الإرشاد ص 17. وانظر: التمهيد للباقلاني ص 37-41. والإنصاف له ص 27-28. والفرق بين الفرق للبغدادي ص 328-329.

الحسّ والعقل؛ فإنّهم يقولون: إنا لا نشهد، بل ولا نعلم في زماننا حدوث شيء من الأعيان القائمة بنفسها، بل كُلّ ما [يُشهَد] 1 حدوثه، بل كلّ ما حدث من قبل أن يخلق آدم إنّما [يحدث] 2 أعراض في الجواهر التي هي باقية، لا تستحيل قطّ، بل تجتمع وتتفرّق3.

_ 1 في ((م)) ، و ((ط)) : نشهد. 2 في ((م)) ، و ((ط)) : تحدث. 3 هذه إحدى الطرق التي يثبت بها المتكلمون من جهمية ومعتزلة، وعلى رأسهم الرازي: الصانعَ. ويسمونها حدوث الصفات. انظر: أصول الدين للبغدادي ص 40-41، 57. ومعالم أصول الدين على هامش محصل أفكار المتقدمين للرازي ص 26-29. والأربعين في أصول الدين له ص 70. وقد أوضح شيخ الإسلام مراد الرازي بهذه الطريقة، فقال: "يعني بذلك ما يُحدثه الله في العالم من الحيوان والنبات والمعدن والسحاب والمطر وغير ذلك. وهو إنما سمى ذلك حدوث الصفات متابعةً لغيره ممن يثبت الجوهر الفرد، ويقول بتماثل الأجسام، وأن ما يُحدث الله تعالى من الحوادث إنما هو تحويل الجواهر التي هي أجسام من صفة إلى صفة مع بقاء أعيانها. وهؤلاء ينكرون الاستحالة. وجمهور العقلاء وأهل العلم من الفقهاء وغيرهم متفقون على بطلان قولهم، وأن الله يحدث الأعيان ويبدعها، وإن كان يحيل الجسم الأول إلى جسم آخر، قلا يقولون إن جرم النطفة باق في بدن الإنسان، ولا جرم النواة باق في النخلة". درء تعارض العقل والنقل 1308. وقال شيخ الإسلام رحمه الله - أيضاً - معقباً على كلام الرازي في حدوث الصفات - وهي الطريق الرابع الذي سلكه المتكلمون في إثبات الصانع؛ وهو الاستدلال بحدوث الصفات والأعراض على وجود الصانع: "هذه الطريقة جزء من الطريقة المذكورة في القرآن، وهي التي جاءت بها الرسل، وكان عليها سلف الأمة وأئمتها وجماهير العقلاء من الآدميين؛ فإن الله سبحانه يذكر في آياته ما يُحدثه في العالم من السحاب والمطر والنبات والحيوان وغير ذلك من الحوادث؛ فيذكر في آياته خلق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار، ونحو ذلك. لكن القائلون بإثبات الجوهر الفرد من المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم يسمون هذا استدلالاً بحدوث الصفات بناء على أن هذه الحوادث المشهودة التي كانت موجودة قبل ذلك لم تزل من حين حدوثها بتقدير حدوثها، ولا تزال موجودة، وإنما تغيّرت صفاتها بتقدير حدوثها، كما تتغير صفات الجسم إذا تحرّك بعد السكون، وكما تتغير ألوانه، وكما تتغير أشكاله. وهذا مما ينكره عليهم جماهير العقلاء من المسلمين وغيرهم. وحقيقة قول هؤلاء الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم أن الرب لم يزل معطلاً لا يفعل شيئاً، ولا يتكلم بمشيئته وقدرته، ثم إنه أبدع جواهر من غير فعل يقوم به، وبعد ذلك ما بقي يخلق شيئاً، بل إنما تحدث صفات تقوم بها ويدعون أن هذا قول أهل الملل؛ الأنبياء وأتباعهم". درء تعارض العقل والنقل 383-84. فهذه الطريقة التي سلكها الرازي هي العمدة في إثبات الصانع عند المتكلمين، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله بقوله: "ثم إن الرازي جعل هذه الطريقة التي سلكها ابن سينا هي العمدة الكبرى في إثبات الصانع؛ كما ذكر ذلك في رسالة إثبات واجب الوجود، ونهاية العقول، والمطالب العالية، وغير ذلك من كتبه. وهذا مما لم يسلكه أحد من أئمة النظار المعروفين من أهل الإسلام..". درء تعارض العقل والنقل 3164. وانظر: شرح الأصفهانية 1261-262. ومجموع الفتاوى 17322-323. ودرء تعارض العقل والنقل 382 - 84، 163-164. وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 351-355.

والخلق عندهم - الموجود في زماننا، وقبل زماننا -: إنّما هو جمع وتفريق، لا ابتداع عين وجوهر قائم بنفسه1، ولا خلق لشيء قائم بنفسه؛ لا إنسان، ولا غيره، وإنّما يخلق أعراضاً، ويقولون: إنّ كلّ ما نشاهده من الأعيان فإنها مركبة من جواهر، كلّ جوهر منها لا يتميّز يمينه عن شماله2.

_ 1 انظر: أصول الدين للبغدادي ص 40-41، 70-71. وانظر: منهاج السنة النبوية 2139. ومجموع الفتاوى 5424-425، 17244. وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 348-349. 2 انظر: التمهيد للباقلاني ص 37. والإنصاف له ص 27. وأصول الدين للبغدادي ص 35. والفرق بين الفرق له ص 328-329. وانظر مجموع الفتاوى 5421.

وهذا مُخالفةٌ للحسّ والعقل كالأول. قولهم: إن الأعراض لا تبقى زمانين وإنه لا يفنى شيء من الأعيان ويقول كثيرٌ منهم: إنّ الأعراض لا تبقى زمانين1، ويقولون: إنه لا يفنى ولا يعدم في زماننا شيء من الأعيان، بل كما لا يحدث شيء من الأعيان، [لا يفنى شيء من الأعيان2] 3. فهذا أصل علمهم، ودينهم، ومعقولهم الذي بنوا عليه حدوث العالم، وإثبات الصانع، وهو مخالفٌ للحسّ والعقل4. ويقول الذين يُثبتون الجوهر الفرد5:

_ 1 انظر: التمهيد للباقلاني ص 38. والإنصاف له ص 27-28. والشامل للجويني ص 167. وأصول الدين للبغدادي ص 50-52. والمواقف للإيجي ص 101. وانظر من كتب ابن تيمية: مجموع الفتاوى12316. وشرح حديث النزول ص 157-158. والنبوات ص 268. ونقض تأسيس الجهمية 1102. ودرء تعارض العقل والنقل 1306، 3434. وشرح الأصفهانية 1265. وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 155-156، 541. 2 انظر: أصول الدين للبغدادي ص 45. وانظر: منهاج السنة النبوية 2140. ودرء تعارض العقل والنقل 5202-203. 3 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 4 سبق ذلك فيما مضى من هذا الكتاب، ص 345. 5 هذه المسألة من محارات العقول، وقد اضطرب فيها كثير من النظار. يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "هذه المواضع من دقيق مسائل النظار التي هي محارات العقول، التي اضطرب فيها أكثر الخائضين في ذلك. وأكثر من تكلم فيها لا يعرف إلا قولين أو ثلاثة أو أربعة، ويظنّ أن ذلك مجموع أقوال الناس، ولا يكون في تلك الأقوال التي يعرفها بل في غيرها ... ومسألة الجوهر الفرد من هذا وهذا، ولهذا صار كثير من أعيانهم يصل فيها إلى الوقف والحيرة؛ كأبي الحسين البصري، وأبي المعالي الجويني، وأبي عبد الله الرازي، وغيرهم". شرح الأصفهانية 1263-264. ولشيخ الإسلام رحمه الله كلام جامع مفصل لهذه المسألة، بيَّن فيه رحمه الله بطلان القول بالجواهر الفردة، وردّ على من يقول إن الأجسام لا يستحيل بعضها إلى بعض، وبيَّن أنّ القائلين ببقاء الجوهر وصل حالهم إلى التوقف أو الشك، قال رحمه الله: "فالقول بأن الأجسام مركبة من الجواهر المنفردة قول لا يعرف عن أحد من أئمة المسلمين؛ لا من الصحابة، ولا التابعين لهم بإحسان، ولا من بعدهم من الأئمة المعروفين. بل القائلون بذلك يقولون: إن الله تعالى لم يخلق منذ خلق الجواهر المنفردة شيئاً قائماً بنفسه؛ لا سماء ولا أرضاً ولا حيواناً ولا نباتاً ولا معادن ولا إنساناً ولا غير إنسان، بل إنما يحدث تركيب تلك الجواهر القديمة فيجمعها ويفرقها، فإنما يحدث أعراضاً قائمة بتلك الجواهر لا أعياناً قائمة بأنفسها، فيقولون: إنه إذا خلق السحاب والمطر والإنسان وغيره من الحيوان والأشجار والنبات والثمار، لم يخلق عيناً قائمة بنفسها، وإنما خلق أعراضاً قائمة بغيرها. وهذا خلاف ما دلّ عليه السمع والعقل والعيان. ووجود جواهر لا تقبل القسمة منفردة عن الأجسام مما يعلم بطلانه بالعقل والحس فضلاً عن أن يكون الله تعالى لم يخلق عيناً قائمة بنفسها إلا ذلك. وهؤلاء يقولون: إن الأجسام لا يستحيل بعضها إلى بعض، بل الجواهر التي كانت مثلاً في الأول هي بعينها باقية في الثاني، وإنما تغيرت أعراضها. وهذا خلاف ما أجمع عليه العلماء أئمة الدين وغيرهم من العقلاء؛ من استحالة بعض الأجسام إلى بعض؛ كاستحالة الإنسان وغيره من الحيوان بالموت تراباً، واستحالة الدم والميتة والخنزير وغيرها من الأجسام النجسة ملحاً أو رماداً، واستحالة العذرات تراباً، واستحالة العصير خمراً، ثم استحالة الخمر خلاً، واستحالة ما يأكله الإنسان ويشربه بولاً ودماً وغائطاً، ونحو ذلك. وقد تكلم علماء المسلمين في النجاسة: هل تطهر بالاستحالة أم لا؟ ولم ينكر أحد منهم الاستحالة. ومثبتة الجوهر الفرد قد فرعوا عليه من المقالات التي يعلم العقلاء فسادها ببديهة العقل ما ليس هذا موضع بسطه؛ مثل تفليك الرحى والدولاب والفلك وسائر الأجسام المستديرة المتحركة، وقول من قال منهم: إن الفاعل المختار يفعل كلما تحركت، ومثل قول كثير منهم: إن الإنسان إذا مات، فجميع جواهره باقية قد تفرقت، ثم عند الإعادة يجمعها الله. ولهذا صار كثير من حذاقهم إلى التوقف في آخر أمرهم؛ كأبي الحسين البصري، وأبي المعالي الجويني، وأبي عبد الله الرازي. وكذلك ابن عقيل، والغزالي، وأمثالهما من النظار الذين تبين لهم فساد أقوال هؤلاء: يذمّون أقوال هؤلاء، ويقولون: إن أحسن أمرهم الشك، وإن كانوا قد وافقوهم في كثير من مصنفاتهم على كثير مما قالوه من الباطل". منهاج السنة النبوية 2139-141.

إنّ الفلك، والرحاء، وغيرهما يتفكّك كلّما استدار1. ويقول كثيرٌ منهم: إنّ كلّ شيء فإنّه يمكن رؤيته، وسمعه، ولمسه2. الفلاسفة أضل من المتكلمين فيجعلون ما في الذهن ثابتاً في الخارج إلى غير ذلك من الأمور التي جعلوها أصول علمهم، ودينهم، وهي مكابرة للحسّ والعقل. والمتفلسفة أضلّ من هؤلاء3؛ فإنهم يجعلون ما في الذهن [ثابتاً] 4 في الخارج5؛ فيدَّعون أنّ ما يتصوّره العقل من المعاني الغائبة الكليّة

_ 1 انظر الأربعين في أصول الدين للرازي ص 262. 2 انظر الفرق بين الفرق للبغدادي ص 324-325. 3 أي من المتكلمين , وانظر كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى على المتفلسفة ومخالفتهم للعقل والسمع في ص 346-347 من هذا الكتاب. وقد قال عنهم - رحمه الله - أيضاً: " ومن الفلاسفة من يدعي إثبات جواهر قائمة بأنفسها غير متحيّزة. ومتأخرو أهل الكلام ... يقولون: ليس في العقل ما يحيل ذلك. ولهذا كان من سلك سبيل هؤلاء - وهو إنما يثبت حدوث العالم بحدوث الأجسام - يقول بتقدير وجود جواهر عقلية، فليس في هذا الدليل ما يدل على حدوثها. ولهذا صار طائفة ممن خلط الكلام بالفلسفة إلى قدم الجواهر العقلية وحدوث الأجسام، وأن السبب الموجب لحدوثها هو حدوث تصور من تصورات النفس، وبعض أعيان المتصوفة كان يقول بهذا". مجموع الفتاوى 17327. وانظر: منهاج السنة النبوية 2141-142. 4 ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)) . 5 انظر ما سبق في هذا الكتاب، ص 384، 1115. وانظر مجموع الفتاوى 17328-329، 342.

موجودة في الجواهر، قائمة بأنفسها؛ إما مجرّدة عن الأعيان، وإمّا مقترنة بها. وكذلك العدد، والمقدار، والخلاء، والدهر، والمادّة1: يدَّعون وجود ذلك في الخارج2. وكذلك ما يُثبتونه من العقول، والعلّة الأولى الذي يُسمّيه متأخّروهم: واجب الوجود3. وعامّة ما يُثبتونه من العقليّات، إنّما يُوجد في الذهن. فالذي لا ريب في وجوده: نفس الإنسان، وما يقوم بها. ثمّ ظنّوا ما يقوم بها من العقليات موجوداً في الخارج. فكان إفسادهم للعقل أعظم، كما أنّ إفساد المتكلمين للحسّ أعظم. الفلاسفة أصول علمهم العقليات والمتكلمون أصول علمهم الحسيات مع أنّ هؤلاء المتفلسفة عمدتهم هي العلوم العقليّة. والعقليّات عندهم أصحّ من الحسيّات. وأولئك المتكلمون أصول علمهم هي الحسيّات، ثمّ يستدلّون بها على العقليّات. وبسط هذه الأمور له موضع آخر4.

_ 1 سبق بيان معنى المادة في ص 361 من هذا الكتاب. وانظر: منهاج السنة النبوية 2202-203. 2 انظر ما سبق في هذا الكتاب ص 363. 3 الفلاسفة يُقسمون الوجود إلى واجب وممكن، كما أن المتكلمين يُقسمونه إلى قديم وحادث. قال ابن سينا: "لا شك أن هناك وجوداً. وكل وجود إما واجب وإما ممكن؛ فإن كان واجباً فقد صح وجود الواجب وهو المطلوب، وإن كان ممكناً فإنا نوضح أن الممكن ينتهي وجوده إلى واجب الوجود". النجاة لابن سينا ص 383. وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 307. 4 قال شيخ الإسلام رحمه الله بعد أن استطرد في ذكر مسألة الجوهر، وبيان فساد من يقول: الأجسام مركبة من الجواهر التي لا تنقسم، أو مركبة من جوهرين قائمين بأنفسهما: "ومن عرف هذا زاحت عنه شبهات كثيرة في الإيمان بالله تعالى، وباليوم الآخر في الخلق، وفي البعث، وفي إحياء الأموات، وإعادة الأبدان، وغير ذلك مما هو مذكور في غير هذا الموضع. فهذا الموضع يحتاج إلى تحقيقه كل من نظر في هذه الأمور، فإنه بمعرفته تزول كثير من الشبهات المتعلقة بالله واليوم الآخر، ويعرف مِنَ الكلام الذي ذمه السلف، والمعقول الذي يقال إنه معارض للرسول، ما يتبين به أن هؤلاء خالفوا الحس والعقل". درء تعارض العقل والنقل 5196-197. وانظر كلام الفلاسفة والمتكلمين في بقاء الجواهر وعدم فنائها، وهل مادة العالم أزلية أم لا، وأن الله يخلقها خلق أعراض، في: منهاج السنة النبوية 1360، 2139، 143، 202، 5443-444. ودرء تعارض العقل والنقل 1122-124، 308، 383-86، 163-164، 444-446، 5195-203. وشرح الأصفهانية1260-265. وبيان تلبيس الجهمية1178-179. ومجموع الفتاوى 5421-425، 17242-260، 313، 443. وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 349-350.

والمقصود هنا: التنبيه على أنّ من خالف الأنبياء، فإنّه كما أنّه مكذّب لما جاءوا به من النبوّة والسمع، فهو مخالفٌ للحسّ والعقل؛ فقد [فسد] 1 عليه الأدلة العقليّة والنقليّة2. والله سبحانه وتعالى أعلم.

_ 1 في ((ط)) : فسدت. 2 انظر: مجموع الفتاوى 17307-308.

§1/1