النبأ العظيم

محمد بن عبد الله دراز

تقديم

مقدمات بسم الله الرحمن الرحيم تقديم كتاب النبأ العظيم [[بقلم: أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعني]] الأستاذ الدكتور/ محمد عبد لله دراز، أحد أعلام الأزهر بوجه خاص، وعلماء الإسلام بوجه عام، في القرن الماضي. هو عالم فذ، وداع ملهم، جمع بين العلم والعمل، وكان قلمه في مجال الكلمة يقوم بمهمات جيش عرمرم في مجال الجهاد، تثبيتًا للحق، ونصرة للدين على الصعيدين: القومي والدولي. وقد عاش حياته، منذ أن كان طالبًا للعلم في المرحلة الثانوية الأزهرية، مدافعًا عن الإسلام في كل الميادين بما آتاه الله من قلب صاف وعقل وقَّاد، ولسان زرب، وعلم واسع، فدبج المقالات، وكتب الكتب، وأذاع الأحاديث، وشارك في الكثير من المؤتمرات العالمية، وتصدى لكل ما كان يثار في حياته عن الإسلام، وما أعجزته فرية على الإسلام ردها، ولا شبهة ظالمة نقدها، ولا مشكلة عويصة فندها. وظل على هذه الحال حتى آخر لحظة من حياته الحافلة بالنضال المر، والكفاح الشاق، حتى صعدت روحه الطاهرة إلى بارئها غريبًا عن وطنه، وهو يمثل الأزهر في مؤتمر دولي عام، في لاهور عام (1377هـ، 1958م) . وبعد أن عاد جثمانه الطاهر إلى أرض الكنانة مصر -رعاها الله- على متن طائرة، شيعت جنازته بعد أن صلي عليه في "الجامع الأزهر"، وكان في مقدمة مشيعيه علماء الأزهر، ومعاهده وكلياته، وعارفو فضله من الشعب المصري، وكبار الشخصيات من

مصر, ومن العالم الإسلامي. وإن أنسَ فلا أنسى جلال الموكب المهيب لمشيعي جنازته، حتى يخيل إليك أن كل فرد في القاهرة ليشترك في تشييعه، وتعطلت حركة المرور من الأزهر إلى أرض المدفن، وحين وصول أوائل مشيعيه إلى أرض المدفن كان آخرهم يبدأ سيره من ساحة الجامع الأزهر متجهًا إلى أرض المدفن. وبعد دفنه نعاه الشيخ محمود شلتوت -شيخ الأزهر الأسبق- بكلمة، كان مما جاء فيها كما وعتها الذاكرة عنه سماعًا مباشرًا: "لقد مات مشعل النور، الذي أطفأ مشاعل الجهل". رحمهما الله جميعًا، ورحم معهما صالحي المؤمنين. وللشيخ دراز كتب كثيرة كلها في نصرة الإسلام، وبيان محاسنه ومزاياه في كل مناحي الحياة وأصول العلم والمعرفة وفروعها. وكتابه "النبأ العظيم" واحد مما دبجه قلمه القدير وأفرزته قريحته الصافية. وهو موقوف على بيان وجوه جديدة من وجوه "الإعجاز القرآني البياني واللغوي والعقلي". وما ورد في هذا الكتاب من إعجاز القرآن، وإثبات أنه كلام الله لو لم يكن في موضوع الإعجاز كتاب غيره، لا سابق عليه، ولا لاحق له، لكان كتابه كافيًا في هذا المجال الحيوي، ولقامت به الحجة لله قوية على منكري سماوية القرآن من قدامى ومحدَثين، فقد أثبت -رحمه الله- أن هذا القرآن يستحيل عقلًا وعلمًا وواقعًا أن يكون له مصدر غير الله -عز وجل. هذا الفرع بدأ به الشيخ محمد عبد الله دراز -رحمه الله- فصول كتابه، وكتب فيه ما يزيد على المائة صفحة مواجهًا بهذه الحقيقة القوى المدركة عند الإنسان، مسلمًا أو غير مسلم، ممن له عقل وفهم، ولا شيء غير العقل والفهم.

وسوف يلمس القارئ بنفسه كيف قذف الشيخ دراز بهذه "الحقيقة" في العقول والقلوب، وقطع كل الأعذار أمام المشككين، ومن ادعوا جهلًا وحماقةً وعنادًا، أن القرآن "بشري المصدر" كبرت كلمة تخرج من أفواههم، إن يقولون إلا كذبًا. إن مهمة الدعاة -ومنهم الرسل- أن يبلغوا الناس ما أنزل إليهم من ربهم، وأن يقيموا الحجة، لكن على الناس؛ ليؤمن من يؤمن على بينة، ويكفر من يكفر وهو شاهد على نفسه بالعناد والمكابرة، وهذا هو الذي قام به أستاذنا محمد عبد الله دراز بالنسبة لـ"سماوية القرآن"، فقد جلاها أمام العقل والقلب حتى لكأن من ينكرها ينكر نفسه وهو في هذا الموقف. وكفى بمن ينكر وجود نفسه رعونة وجهلًا وحماقةً وتخريفًا. وبعد فراغه من إثبات هذه الحقيقة بكل وسائل القوة والإقناع، أخذ يتحدث عن مواضع حافلة بدلائل الإعجاز، منها ما يعم القرآن كله، ومنها مواقف فردة فذة، فأقنع وأمتع، وطلع على الباحثين في الإعجاز القرآني من حيث لا يعهدون ولا يعرفون. ومن ذلك ما وسم به الأسلوب القرآني المعجز كله من هذه الخصائص البيانية المعجزة، التي لم تعرف في كلام سواه: - خطاب العامة وخطاب الخاصة. - القصد في اللفظ والوفاء بحق المعنى. - البيان والإجمال. يقصد الشيخ أن القرآن بجمع بين الأغراض التي هي عند الناس على طرفي نقيض، لكنك ترى القرآن يجمع بينها في تآلف وتآزر فيخاطب الخاصة بخطاب العامة، والعامة بخطاب الخاصة، ويقنع العقل ويمتع العاطفة في عبارة واحدة، ويجمل ويبين، ويوجز مع الوفاء بحق المعنى، وهذا غير معهود في كلام البشر مهما كان نصيبه من الفصاحة

والبلاغة والروعة. ثم تراه يثبت بكل جدارة أن من سمات الإعجاز في النظم القرآني بأنه كله "إيجاز" لا إطناب فيه ولا مساواة؛ كما يقول جمهور البلاغيين والنقاد والأدباء واللغويين. وفي تقرير هذه الحقيقة "الجديدة" يقول شيخنا الجليل: "القرآن إيجاز كله، يستوي في ذلك مواضع الإطناب والإيجاز والمساواة التي أطبق علماء البلاغة على تقسيم الكلام إليها. وأن ما من عبارة في القرآن توسم بالإطناب، أو الإيجاز أو المساواة إلا وهي في حاجة إلى بسط أكثر مما هي عليه". وهذا الرأي ينفرد به أستاذنا الدكتور محمد عبد الله دراز وحده بين سلف الأمة وخلفها، وقد ساق نماذج كثيرة على توضيح هذا الرأي. ثم ينتقل إلى بيان وجه جديد من وجوه الإعجاز القرآني وهو "الإيقاع الصوتي" ويضع بين يدي القراء تجارب سهلة يمكن أن يقوم بها كل سامع للقرآن وهو يتلى. وهذه التجارب -كما عرضها الشيخ الملهم- أن تستمع للقرآن وهو يتلى، وبينك وبين من يتلو القرآن تلاوة جيدة مسافة مكانية، بحيث لا تسمع إلا الصوت يتردد في الفضاء، دون أن تميز بين الكلمات مفردة، ولا التراكيب، وإنما تسمع ذبذبات الصوت مجملة. يقول الشيخ: إنك إذا فعلت ذلك سمعت إيقاعًا صوتيًّا عجيبًا غريبًا، يترك آثارًا في وجدان السامع لا عهد له به، ولا يمكن صدور هذا الإيقاع الصوتي الذي يسميه

الشيخ دراز بـ"القشرة السطحية" لا يمكن حدوثه عن كلام آخر من غير القرآن. فهذا -إذن- وجه جديد يعرضه شيخنا في كتابه الرائع "النبأ العظيم" أو "نظرات جديدة في القرآن الكريم". ويمكن إجراء هذه التجارب الآن بالاستماع إلى القرآن من "الحاكي" أو المسجل بالشروط التي وصفها الشيخ -رحمه الله. ومن النقاط الجديرة بالاهتمام التي لا تراها إلا في "النبأ العظيم"، ما شاع في كتب التفسير واللغة من وجود حروف أو أدوات أو كلمات زائدة في النظم القرآني. فقد رفض الشيخ -وهو محق- التسليم بوجود أي حرف أو أداة أو كلمة زائدة في القرآن ليس لها معنًى تؤديه. وضرب لذلك مثلًا بقوله تعالى في سورة الشورى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} أي لمثل الله، وذكر أن فيها مذهبين: الأول: القول بأنها زائدة لا معنى لها، وأن الأصل أن يقال: "ليس مثله شيئًا"؛ لأن الكاف بمعنى "مثل"، فلو سلمنا بأنها غير زائدة لكان المعنى: "ليس مثل مثله شيئًا"، ويكون في هذا إثبات المثلية لله، وهذا ينافي عقيدة التوحيد. الثاني: فريق يدافع عن وجود "الكاف" وينفي عنها الاتمامات التي توجه إليها. ولم يرتضِ شيخنا لا هذا ولا ذاك، فلم يسلم بأن "الكاف" زائدة أصلًا، ولم يسلم بأن هذه "الكاف" متهمة يحسن الدفاع عنها، بل أثبت لهذه "الكاف" مزايا بيانية ولمحات "عقدية" ما كانت لتفاد إلا من ورود "الكاف". وسف يمتِّع القارئ نفسه، ويقنع عقله، وينير قلبه حين يطالع ما كتبه الشيخ دراز في هذا المقام.

ومما ينبغي أن نلفت ذهن القارئ إليه مهارة الشيخ دراز وثقوب عقله، وحدة ذكائه في إبراز أخفى وأدق أسرار البيان القرآني المعجز في آية من كتاب الله كنموذج يجب أن يحتذى في دراسة النظم القرآني. تلك هي الآية التي نزلت في شأن اليهود: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 91] . هذه الآية قال الشيخ: إنه اختارها؛ لأنها ليست من الآيات التي يهتم بها البيانيون في استخراج الوجوه والصور البلاغية منها، مما فيه تشبيه رائق، أو مجاز آسر، أو كناية لطيفة، أو تمثيل أخاذ، وإنما هي آية من "عُرْض القرآن"، ومع ذلك استخرج ما فيها من دقائق النظم، وأسرار البيان، وحكمة المعنى ما لا يملك القارئ معه إلا أن يقول بعد الإطلاع عليه: "الله أكبر، الله أكبر" وهذا منهج مستمر في دراسة القرآن، تَرَسَّم فيه الشيخ دراز خطى الإمام عبد القاهر الجرجاني ومنهجه التحليلي الممتع المقنع في كتابيه: "أسرار البلاغة" و"دلائل الإعجاز". وبعد.. فإن هذا الكتاب فتح جديد فتحه الله على يد الشيخ محمد عبد الله دراز، الذي كافأه الله على جهاده في سبيله لهدايته إلى الحق والدفاع عنه، كما قال في كتابه العزيز: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ... } [العنكبوت: 69] . وفي الختام نتقدم بجزيل الشكر وخالص الدعاء للقائمين على "دار القلم" على اهتمام بتراث الشيخ دراز، وهو أحد معالم نهضة إسلامية نأمل أن تؤتي ثمارها، مع دعائنا بالتوفيق والسداد لفضيلة الشيخ الشاب/ أحمد فضلية، على رعايته المشكورة

لإعادة نشر تراث الدكتور/ دراز، ونشر ما لم ينشر من قبل، نشكره ونسأل الله أن يسدد خطاه في كل أمره، وفي رعاية مشروع نشر فكر العمالقة من علماء الأمة، من ألفه إلى يائه، وأن يجعل ذلك ذخرًا له ولنا وللأمة أجمع. وكلمة أخيرة نقولها عن أستاذ "الجيل" بحق الشيخ الدكتور الإمام محمد عبد الله دراز: "أنه لو لم ينجب الأزهر الشريف عالمًا سواه في القرن الماضي لكفاه هذا الإنجاب". رحمنا الله وإياه في العالمين. القاهرة في: ربيع الأول 1426هـ إبريل 2005م. أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعني عفا الله عنه

مقدمة المحقق مع الكاتب والكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المحقق مع الكاتب والكتاب [[بقلم: أحمد مصطفى فضلية]] الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام دينًا. والصلاة والسلام على سيدنا محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- الذي خصه الله بجوامع الكلم، وآتاه الحكمة وفصل الخطاب، وعلى آله وصحابته، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين. أما بعد ... فهذا شرف عظيم، أن تعهد إليَّ "دار القلم" -حفظها الله للإسلام- في أن أكتب عن هذا الكتاب الذي تعددت طبعاته، وحاز الرضا والقبول. فهناك كتب تقرؤها مرة واحدة، وهناك كتب تعود إليها أكثر من مرة، وهناك كتب تشبه الجنة ... بمعنى أنك لا تدخلها مرة إلا وتبغي الخلود فيها، وإذا أُخرجتَ منها وددت العودة إليها، بل إنك تحس وأنت تقرأ أن هناك معانٍ جديدة تكشف عن نفسها كلما مضيت في القراءة. كما قال أمير الشعراء أحمد شوقي عن الكتاب: "كلما أخلقته جددني". ومن هذه الكتب هذا الكتاب [النبأ العظيم.. نظرات جديدة في القرآن الكريم] وهو كتاب صغر حجمًا وغزر علمًا، فجاء جليل القدر، عظيم النفع، طيب الثمر. عميق الأثر، وهو أعجوبة الأعاجيب في الدراسة والتأليف. كتبه الدكتور العلامة محمد عبد الله دراز -رحمه الله- الذي كتب الله له التوفيق والسداد فيما كتب وحاضر وأذاع عن الإسلام ودعوته، ببركة إخلاصه وتفانيه في خدمة مصدري الإسلام: القرآن والسنة. 1- رجل القرآن: لقد عاش محمد عبد الله دراز حياته مؤمنًا مفكرًا، وتعلم عن والده العلامة المحقق

الشيخ عبد الله دراز شغفه بكتاب الله، فأخذ عنه ضرورة التلاوة لستة أجزاء منه كل يوم، وما ترك هذه العبادة يومًا من الأيام، وما كنت تراه إلا قارئًا للقرآن، وقراءة عالم مفكر مثله لهذا الورد اليومي، لا بد أن تفتح عليه بما يضيء بصيرته، ويمده بأوفر الزاد وأشهاه ... "1. لقد كانت حياة محمد عبد الله دراز مع القرآن حياة القلب المعلق به، والعقل الذي يستفتيه في كل ما يعنيه، وعلى ضوئه يأخذ سبيله مؤتمِرًا.. منتهِيًا؛ لإيمانه العميق بأن أحق ما يشتغل به الباحثون، وأفضل ما يتسابق عليه المتسابقون.. مدارسة كتاب الله، ومداومة البحث فيه، والغوص عن لآلئه، والكشف عن علومه وحقائقه، وإظهار إعجازه وتجلية محاسنه، والدفاع عن ساحته ونفي الشكوك والريب عنه، فالقرآن بحر لا يدرك غوره، ولا تنفد درره، ولا تنقضي عجائبه، فما أحق الأعمار أن تفنى فيه، والأزمان أن تشغل به. هكذا كان إيمان الرجل القرآني الذي أدرك وأيقن منذ صباه المبكر أن الحياة في رحاب القرآن نعمة؛ نعمة تزيد العمر وتباركه وتزكيه وتقوي الإيمان وتنميه. فها هو ذا يدعو ربه سبحانه في مقدمة هذا الكتاب أن يجعله من خيار وارثيه، الذين هم بهدايته مستمسكون، والذين هم على حراسته قائمون، والذين هم تحت رايته يوم القيامة يبعثون، في جند إمامنا الأعظم، ورسولنا الأكرم، محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم. أجل؛ كان محمد عبد الله دراز اللسان الذي كان رطبًا بذكر الله وتلاوة القرآن والتدبر في آياته، فكان نغمًا عذبًا في كل أذن تسمع كلام الله، كان عالمًا قرآنيًّا يتفجر بالحكمة القرآنية والموعظة الحسنة التي تغلغلت في كل قلب، وطهرت كل روح. وكتابه الفذ "النبأ العظيم" صدى هذا الروح المؤمن، الذي كان يسري في حنايا

_ 1 د. محمد رجب البيومي، النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين.

قلبه الذي عمر بالقرآن، وثمرة ناضجة لهذا العقل المتوهج المتألق الذي استقبل آيات القرآن فأعطاها ما تستحق من تدبر، فجمع بين النقل الصحيح، والعقل الصريح، واغترف من التراث، ولم يغفل عن عصره فجمع بين الأصالة والمعاصرة، بفقه يتجدد به فهم الدين.. لتتجدد به حياة المسلمين لتكون من بعد أقل عابًا وأكثر صوابًا. 2- من أعلام مدرسة القرآن: مما سبق يتأكد لنا أن محمد بن عبد الله دراز من علماء المدرسة القرآنية التي واجهت الغرب المادي فحافظت على أصالة فكرنا وهوية ثقافتنا. فثمة تقارب في الفكر والروح والمنهج في التلقي عن القرآن جمع بين الدكتور دراز والإمام الشهيد حسن البنا "1906م- 1949م" والعلامة الفيلسوف محمد إقبال "1877-1938م" والإمام عبد الحميد بن باديس "1889م- 1940م" والعلامة المودودي "1903م- 1979م" ومالك بن نبي "1905م- 1973م" وغيرهم من أعلام مدرسة القرآن رضي الله عنهم ... ونحن نرى أن محمد عبد الله دراز كان في هذه المدرسة مثل أعلامها الكبار؛ متألقًا بصفاء عقله، وإيمان قلبه، ونشدانه الحق الذي قامت به السماوات والأرض، وبه بعث الرسل والنبيون، فكانت غايته هي بعث الأمة المسلمة بعثًا قرآنيًّا يستوعب حضارة العصر، دون أن تحمل أوزارها السيئة وأوساخها وجراثيمها وتضحيتها بالدين والأخلاق. إن كل صفحة كتبها محمد عبد الله دراز تعلن أنه تلميذ القرآن، وأن أستاذية القرآن هي التي جعلته يبصر الكون والتاريخ والحياة برؤية إيمانية جامعة تستوعب الأشياء، وتمنح عقله التوهج والتألق؛ لينفذ إلى ما وراء الأشياء ويفسر حركة الحياة تفسيرًا جامعًا للعوالم المنظورة والعوالم غير المنظورة1.

_ 1 بتصرف عن د. عبد الحليم عويس، سعيد النورسي رجل القرآن والتجديد، دار سوزلار للنشر والتوزيع.

يؤكد هذا الأستاذ العلامة أنور الجندي -رحمه الله- فيقول: "إن مدار أبحاث الدكتور دراز كلها ترجع إلى أصل واحد؛ هو "القرآن"، وهي في محاولتها الاتصال بالفكر الحديث إنما تريد أن تكشف عن نظرة القرآن ومنهجه في كل ما تصل إليه: سواء في مجال الأخلاق أو مقارنات الأديان، أو الاقتصاد، أو القانون، فالقرآن هو المحور الذي يعتمد عليه الدكتور دراز ويدور حوله ويستقصي له ويستصفي كل ما يجد من العلوم الإسلامية. وهو حين يقدم الإسلام للغرب يقدمه في أسلوب رائع وتعبير محكم من شأنه أن يلقى قبولًا في العقل الغربي الذي ألِف الأسلوب العلمي؛ بوسائطه ومصطلحاته.. وقوامه في هذا كله فهم عميق للقرآن، وتدبر عجيب له، وقدرة على تبليغ العبارة بأصفى لغة، وتقديم الأمثلة إلى العقل الغربي في تمكن عجيب"1. من هنا فإن آثاره العظيمة والرائدة التي كتبها، وأضافت الجديد إلى المكتبة القرآنية؛ مثل: "النبأ العظيم - ومدخل إلى القرآن الكريم - ودستور الأخلاق في القرآن - وثيابك فطهر" وغيرها من المؤلفات، كتبها لتعمق إيماننا بأن شخصيتنا قرآنية محمدية، وأن القرآن كتاب الحياة والأحياء، وعلى عالم اليوم اللاهث في حروبه، الغارق في ذنوبه، التائه عن درب عزه وأمنه، أن يرهف السمع لآيات الوحي الإلهي المعصوم القرآن الكريم، فيهتدي بهداه، لا أن يشوه تعاليمه، أو يشكك في مصدره، أو يبث الشبهات المتهافتة حوله {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} 2. 3- النبأ العظيم نموذجًا: ويأتي كتاب "النبأ العظيم" مصباحًا يضيء السبيل القويم لدراسة القرآن الكريم، وهو برهان باهر على ربانية مصدره، ولمعة براقة من لمعات إعجازه البياني. وتفسير

_ 1 أنور الجندي، أعلام الدعوة والفكر، ص19، مكتبة الأنجلو المصرية. 2 سورة التوبة: آية رقم "32".

قيِّم له، ورشفة من رحيق ذلك البحر، وشعاع من تلك الشمس المشرقة بنور الله، وحقيقة ملهمة من كنز علم الحقيقة القرآنية، وترجمة معنوية نابعة من فيوضات هذا النبأ العظيم. لهذا احتل الكتاب مكانة سامقة في الجامعات العربية والإسلامية. تحدث عنها أستاذنا الكبير الدكتور محمد رجب البيومي في كتابه القيم "خطوات التفسير البياني للقرآن الكريم" أرى ألا يحرم القارئ من مطالعته ها هنا ... يقول -حفظه الله: " ... أما أستاذنا الكبير الدكتور محمد عبد الله دراز -رحمه الله- فقد أوسع تلاميذه في كليات أصول الدين واللغة العربية ودار العلوم تحليلًا وتشريحًا لدقائق القرآن البيانية على وجه رائق شفاف، تفجرت ينابيعه صافية من بيان الأستاذ، وكتاب "النبأ العظيم" على مكانته الرائعة لم يحوِ غير القليل مما فتح به الله على صاحبه، إذ كان في قاعة الدرس يتدفق بشتى المعاني البارعة التي لا تجد الكثير منها في النبأ العظيم. ولعل بديهته القوية كانت تتيح له من الروائع ما يرتجله لساعته ارتجالًا. وكأنه أعد إعدادًا حتى إذا خلا بنفسه لتسجيله اكتفى بالبعض عن البعض مما قال. وقد حفل "النبأ العظيم" بالحديث عن الجمال التوقيعي في توزيع الحركات والسكنات، والجمال التنسيقي في وصف الحروف وتآليفها على جهة ذات توافق وانسجام، كما أجاد الحديث عن خصائص الأسلوب القرآني في الفقرة التي تتناول شأنًا واحدًا، وفي السورة التي تتناول شئونًا شتى، ثم فيما بين سورة وسورة، وفي القرآن بنوع عام. وقد بسط ذلك أتم بسط وأوفاه. ولم يفته أن يتحدث عن الإيجاز والإطناب في ضوء تعريف جديد متنقلًا إلى فنون من البيان كان جل اعتماده فيها على نفسه دون التقيد بما سبق من الآراء. وقد انتفع به طلابه على كثرتهم واختلاف معاهدهم انتفاعًا يتردد صداه قويًّا رائعًا في كثير مما يقال. فهو مجهود حي أتى ثمره وعلا جناه"1.

_ 1 د. محمد رجب البيومي، خطوات التفسير البياني ص339، ط مجمع البحوث الإسلامية.

هذا؛ وقد حدثني شيخنا الأستاذ الدكتور عبد الستار فتح الله سعيد -حفظه الله- "أن جامعة أم القرى بمكة المكرمة، والجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، تقومان بتدريس الكتاب لطلبة الدراسات العليا بها". كما حدثني الأستاذ الدكتور عبد العزيز السيروان "من سوريا" في معرض الكتاب الدولي بمدينة الإسكندرية أن هذا الكتاب يدرس في الزوايا العلمية في سوريا ومحاضن التربية هناك. ولأهمية الكتاب أيضًا أخبرني نجل الدكتور دراز السفير فتحي أن الأستاذ عبد الحميد الدخاخني قام بتدريس الكتاب بمعهد الدراسات الإسلامية بالإسكندرية، والمعاهد العلمية بالمملكة العربية السعودية. وآخر ما علمت عن تدريس هذا الكتاب النافع، ما أخبرني به الداعية المربي والمؤلف النابه الأستاذ محمد حسين أن كتابات الدكتور العلامة محمد عبد الله دراز تدرس لشباب الصحوة الإسلامية؛ نظرًا لمكانتها العلمية في التكوين العلمي وتأسيس الفهم الصحيح للإسلام. وكثير من علماء الإسلام ودعاته يوصون مهرة المسلمين والباحثين خاصة بأهمية مؤلفات العلامة دراز، وعلى قمتها "النبأ العظيم"، من هؤلاء الشيخ العلامة الدكتور يوسف القرضاوي، والداعية المجدد الشيخ محمد الغزالي، والدكتور عبد الحليم عويس، والكاتب الموسوعي أنور الجندي، والدكتور عبد الستار فتح الله سعيد ... وغيرهم كثير. ولهذه المكانة العظيمة لكتاب "النبأ العظيم" أستأذن القارئ أن أطوف به في بعض ما كتب عن هذا الكتاب. وسيتأكد القارئ العزيز أن المكانة التي احتلها "النبأ العظيم" في عقول العلماء

والباحثين كان بها جديرًا. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مكانة الكتاب السامقة في مجال الدراسات القرآنية، فلبى حاجة وسد فراغًا لا يسد مسده سواه. 4- بين الرافعي ودراز: تحدث شيخنا وأستاذنا الدكتور/ محمد رجب البيومي -حفظه الله- في كتابيه "البيان القرآني" و"النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين" عن كتاب "إعجاز القرآن" لأديب العربية الأكبر في عصره مصطفى صادق الرافعي -رحمه الله- وكتاب "النبأ العظيم" للعلامة المجدد الدكتور محمد عبد الله دراز -رحمه الله- حديث الدارس المعجب المقدر لمكانة الرجلين، فقال -أعزه الله- ما نصه: "حين كتب الرافعي كتابه جاء بالروائع النادرة من ناحية التعبير البياني، أما الأفكار التي رصدها فأكثرها قد قيل، وزاد عليها الرافعي بما عرف عنه من براعة النظم البلاغي، ودقة التركيب اللغوي، ولطف التصوير الجمالي، على حين نرى الآفاق قد اتسعت أمام الدكتور دراز مشعة بأنوار مضيئة هي من شمسه الخاصة في مجال هذا الإعجاز"1. "لقد أصدر الدكتور دراز "النبأ العظيم نظرات جديدة في القرآن الكريم"؛ ليتحدث عن القرآن حديث الفاقه الدارس الألمعي، فجاء كتابه آية الآيات في ميدان الدراسات القرآنية بما ملك من ناصية القول وقوة المنطق وجهارة الدليل، ولئن قال الزعيم الوطني سعد زغلول عن كتاب الرافعي في الإعجاز: "إنه تنزيل من التنزيل، أو قبس من نور الذكر الحكيم". فما أحرى النبأ العظيم بمثل هذا القول من زعيم كبير2.

_ 1 النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين، ط مجمع البحوث الإسلامية، ج5، ص184. 2 البيان القرآني ص191، 195، 250، 258، ط مجمع البحوث الإسلامية.

5- الإعجاز اللغوي بين سيد قطب والدكتور دراز: تناول صديقنا الأستاذ محمد أمين أبو شهبة في أطروحته للماجستير الإعجاز اللغوي وعلى أي وجه أداره الشيخ دراز؛ فقال: "أدار الدكتور دراز أمر الإعجاز اللغوي على فكرة تمثل المحور في دراسته للقضية، وهي فكرة مباينة أسلوب القرآن لسائر الأساليب، هذه الفكرة تسيطر على دراسته لقضية الإعجاز اللغوي ابتداءً من البناء الصوتي وانتهاءً إلى القرآن في جملته؛ فقد وجه الشيخ جهده إلى إبراز الخصائص التي باين بها القرآن بيان البشر، واعتمد في ذلك على النظر في منهج الإنسان في البيان، وطريقه في الإبانة عن معانيه. وكان طريقه إلى ذلك الإلمام بأساليب العرب، وتراثهم الأدبي، ثم الخبرة الطويلة بدراسات النفس الإنسانية، والتي مكنته من معرفة حدود النفس التي تتوقف عندها، والعيوب التي لا تقدر على تفاديها في بيانها بحكم إنسانيتها، ثم يخرج من ذلك إلى النظر في البيان القرآني، بعد أن أبرز من جوانب النقص في البيان الإنساني، ما يبرز جوانب الكمال في البيان القرآني"1. ولكن الدكتور دراز لم يكتف بالقول بخلو القرآن من عيوب البيان البشري؛ لأنه لم يسلم به، ولكنه وضع يده على المزايا القرآنية فشرحها، ثم قدم لأكثرها من التطبيقات القرآنية، ما يبرزها ويفتح الطريق إلى بحثها ودراستها. وهذه الخصائص البيانية لجانبي البناء البياني للقرآن.. تمثل -عند الشيخ- دعائم بنية القرآن الداخلية، الدالة على أنه من أصل إلهي. والوصول إلى خصائص عامة لبيان القرآن- أمر شاق وعسير؛ لأنه يتطلب فوق التذوق والتفكر دراسة ووعيًا لمنهج الإبانة الإنسانية، وخصائصه، ثم الانطلاق من ذلك إلى ساحة القرآن كله ليرى: أتلك خصيصة عامة، أم هي جزئية، نابعة من سياقها فحسب؟

_ 1 انظر رسالته للماجستير "محمد عبد الله دراز وجهوده البلاغية" ص94، مودعة بمكتبة كلية اللغة العربية بإيتاي البارود - جامعة الأزهر الشريف.

وقد ذكر المرحوم الشيخ سيد قطب1 أن جهد سلفنا قد توقف عند خصائص النصوص مفردة، وإدراك مواضع الجمال المتفرقة، وتعليل كل موضع منها تعليلًا منفردًا: "أما مرحلة الخصائص العامة فلم يصلوا إليها أبدًا لا في الأدب، ولا في القرآن، وبذلك بقيت أهم مزايا القرآن مغفلة وخافية، وأصبح لا بد لدراسة التعبير في هذا الكتاب المعجز من منهج للدراسة جديد، ومن بحث عن الأصول العامة للجمال الفني، وتفسير الإعجاز الفني تفسيرًا يستمد من تلك السمات المتفردة في القرآن2. ويبدو أن الأستاذ سيد قطب -رحمه الله- لم يقرأ كتاب الدكتور دراز، ولم يقف على جهده القيم في البحث في بعض الخصائص البيانية للقرآن، ولا يمكن أن يقرأ هذا الجهد دون إشارة، ويؤكد ذلك أن كتاب الدكتور دراز "النبأ العظيم" وإن ألف قبل "التصوير الفني" إلا أنه نشر بعده؛ إذ شغل الشيخ دراز في فرنسا بتحضيره لدرجة "الدكتوراه" ثم شغل بعد عودته بالأعمال التي نيطت به3. فقد بدأ الدكتور دراز في كتابه "النبأ العظيم" منذ عام 1935م تقريبًا ثم سافر إلى فرنسا عام 1936م، وعاد إلى مصر عام 1947م، فظل مشغولًا بأعماله التي نيطت به على عجل، حتى نشر كتابه الفذ في مارس 1957م كما ذكر هو في مقدمته، بينما نشر الأستاذ سيد قطب هذا البحث في مجلة المقتطف عام 1939م، ثم أكمله وأضاف إليه بعد سنوات قليلة، كما ذكر هو في مقدمة "التصوير الفني" ص9، وعلى الرغم من تأخر كتاب الدكتور دراز في النشر، فإنه ليس في كلامه ما

_ 1 سيد إبراهيم قطب: ولد في قرية "موشا" بمحافظة أسيوط 1906، عاش أكثر حياته للدفاع عن الإسلام، ومحاربة خصومه، وهو مع ذلك أديب ناقد شاعر، من أبرز كتبه "في ظلال القرآن"، وأعدم في عام 1965م. 2 التصوير الفني في القرآن: سيد قطب، ط دار المعارف، الطبعة العاشرة، ص32. 3 محمد أمين أبو شهبة، د. محمد عبد الله دراز وجهوده البلاغية ص99.

يشير إلى أنه قرأ أو أفاد من "التصوير الفني"؛ فليس من الخصائص البيانية التي ذكر، ما يلمح إلى خصيصة "التصوير الفني في القرآن" وهي التي أقام الشيخ سيد قطب كتابه عليها. كما أن الدكتور دراز حيث تحدث عن البناء الصوتي للقرآن لم يقدم تطبيقًا واحدًا على حديثه، بينما أفاض الشيخ سيد قطب في التطبيق لهذا الجانب، ولو قرأه الشيخ لألمح إليه على الأقل1. يقول أستاذنا الدكتور محمد رجب البيومي: «وأنا أعرف أن الكاتب الشهيد: سيد قطب -رحمه الله- قد كتب مؤلفه الرائع "التصوير الفني في القرآن" فأتى بمذهب جديد في اكتناه التعبير الفني، لم يسبق إليه سواه، ولكن كتاب "النبأ العظيم" لم يقتصر على التصوير الفني وحده باعتباره الأداة المفضلة للتعبير -كما ذهب الأستاذ سيد قطب- بل نظر إلى القرآن فكرة، وصورة، وتعبيرًا، وجدلًا، وبذلك يكون سالكًا منهجًا غير منهج التصوير الفني، وما من الرجلين إلا له مقام معلوم» 2. والمهم أن همَّ الرجلين كان واحدًا؛ وهو الوصول إلى الخصائص العامة للبيان القرآني، وإن ذكر كل واحد منهما غير ما ذكر الآخر، فقد انشغل المرحوم سيد قطب بخصيصة واحدة وهي أن "التصوير الفني قاعدة التعبير القرآني المتبعة في جميع أغراضه حتى التشريع، وهي الخصيصة التي لا يخطئها الباحث في الأجزاء، ثم عكف على معنى التصوير، وأدواته، وألوان التناسق الفني محللًا، ومستشهدًا لما يقول". بينما أقام الدكتور دراز بحثه على خصائص البناء الصوتي، ثم خصائص البناء

_ 1 المرجع السابق ص100. 2 النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين، د. محمد رجب البيومي، ج5، ص183.

المعنوي للقرآن في قطعة منه، وفي سورة سورة منه، وفيما بين سورة وسورة، ثم في جملته1. 3- منهج الدكتور دراز في هذا الكتاب: نهج الدكتور دراز في كتابه نهجًا فريدًا، فيقول: "راعيت في أكثر هذه البحوث شيئًا من التفصيل والتحليل، وشيئًا من التطبيق والتمثيل، فلم أكتفِ بالإشارة حيث تمكن العبارة، ولا بالبرهان إذا أمكن العيان؛ راجيًا بذلك أن تنفتح لها عيون الغافلين، فيجدوا نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، وأن تنشرح بها صدور المؤمنين، فيزدادوا إيمانًا مع إيمانهم2. ويمكننا تحديد أهم مرتكزات منهج الشيخ في النقاط الآتية3: 1- القدرة على الإفادة من تجارب السابقين واعتماده التذوق والتفكر في الدراسة. 2- امتلاك الشيخ للنفس الحساسة الذواقة البصيرة، فقد كانت له قدرة فائقة على الإحساس والتذوق. 3- امتلاكه أدوات الذوق والمعرفة والقدرة على التمييز بين الأنماط البيانية المختلفة. 4- اعتماده فكرة البيانية في دراسة الإعجاز البياني والبحث عن الخصائص التي انفرد بها القرآن. 5- النظر الطويل والتأمل العميق في تراث سلفنا، لا سيما في ميدان التفسير، وعلوم

_ 1 محمد عبد الله دراز وجهوده البلاغية - رسالة ماجستير - محمد أمين أبو شهبة ص100. 2 مقدمة النبأ العظيم 1304هـ - 1933م. 3 لمزيد من الإطلاع على منهج الشيخ في كتابه "النبأ العظيم" ننصح القارئ بالاطلاع على أطروحة الماجستير المقدمة من صديقنا الأستاذ الباحث النابه محمد أمين أبو شهبة: "الدكتور محمد عبد الله دراز وجهوده البلاغية".

القرآن وإعجازه، وإن اتضحت أنفاس علماء بعينهم فيما كتب. فقد سار على نهجهم، وارتوى من نبعهم، وإن ظلت له شخصيته التي برزت من خلال التطبيق. 6- النظر في جميع عناصر السورة وضبط أجزائها. 7- إشراك أهل العلم فيما كتب من موضوعات هذا الكتاب؛ انطلاقًا من أن "الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها" و"العلم رحم بين أهله"، مصداق ذلك ما عثرت عليه ضمن أوراقه الخاصة، فقد كتب لصديقه الدكتور/ علي عبد الواحد وافي ما نصه "إلى أخي وصديقي الدكتور علي عبد الواحد وافي أقدم هذه الصفحات "224 صفحة" من كتاب "النبأ العظيم" قبل أن يتم طبعه،؛ راجيًا أن ينال هذا القسم من عنايته، نظرة فاحصة تبرز ما عسى أن يكون فيه بحاجة إلى تكميل أو تعديل. وفي انتظار ذلك أقدم له واجب الشكر السابق فضله ولاحقه1. 4- خصائص ومميزات الكتاب: وكتاب "النبأ العظيم" من دون كتب إعجاز القرآن، يتميز بعدة مميزات: 1- أسلوب علمي رصين، ومنهج مرتب الأفكار، وخطوات متئدة متصاعدة. 2- بيان رائق، سلس العبارة، مشرق الديباجة. 3- جاء الكتاب في حجم متوسط، لا يمل منه القارئ ولا يستطيله، رغم عمق الأفكار التي عالجها، والخطوات المتعددة التي سار الكتاب بها. 4- مخاطبة أبناء هذا الجيل، الذين بعد عهدُهم بكتب السلف الصالح والعلماء السابقين بأسلوبهم المعروف، فجاء هذا الكتاب جامعًا بين ما أفاده من السابقين، وبين

_ 1 محمد عبد الله دراز - رسائل لها تاريخ - جمع وإعداد الشيخ أحمد مصطفى فضلية - دار القلم.

ما يُفهم ويحرك الحاضرين والمعاصرين، وقد أظهر مؤلفه -رحمه الله- معرفة عميقة بالقرآن، وقدرة رائعة على بيان الإعجاز بأيسر عبارة وأوجز طريق. 5- الاهتمام بدراسة التناسب في السور القرآنية والإثبات بالحجة والبرهان أن السورة الواحدة من القرآن إنما هي كالبناء المتماسك لا يمكن أن تنزع منه لبنة واحدة دون أن يتداعى ويفسد نظامه1. 6- "لا نغالي إذا قلنا: إن المكتبة القرآنية في عهدنا الأخير لم ترَ أهدى سبيلًا منه في سلامة النظرة، ولطافة الاستشفاف وعمق التأمل"2. 7- ولعله ليس من قبيل المبالغة أن نؤكد أن الله سبحانه وتعالى أعطى هذه الأمة في قرنها الثالث عشر الهجري واحدًا من رجالها الذين سعوا نحو فهم للقرآن ونواحي إعجازه الثلاث: اللغوية، والعلمية، والتشريعية، بشكل متميز. 5- النبأ العظيم في وجدان تلامذة الشيخ: قال الدكتور محمد بن فتح الله بدران الذي تتلمذ على يد الشيخ في كلية أصول الدين في قصيدته "دولة القلم" التي أهداها للشيخ دراز عام 1934 ميلادية: بل هاكمو النبأ الفياض معجزة ... يهدي العقول وإن قامت على قدم وقال تلميذه محمد عبد المقصود الجعفراوي في قصيدته: سبحان من أعطى الورود أريجها ... وبا الربيع جماله المصقولا

_ 1 انظر مقدمة الأستاذ عبد الحميد أحمد الدخاخني لكتاب النبأ العظيم - الطبعة المحققة سنة 1997م. 2 الكلمة للدكتور محمد رجب البيومي، النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين، ج5، ص183 مجمع البحوث الإسلامية "1408هـ - 1987م".

أولاك بالأدب الصفي كأنه ... نضر النعيم محببًا مقبولا وحباك باسم محمد كنبيه ... فأتيت بالنبأ العظيم رسولا للدين أعداء تحاول هدمه ... وتروم للشرع الحنيف أفولا ذهبوا يصدون الأنام عن الهدى ... ويضللون عقولهم تضليلا فصدعت بالنبأ العظيم مزاعمًا ... ورددت كيد الظالمين أفولا أولاك ربي بالكتاب وسره ... فسقى الحديث وعلم التأويلا فكأنما يوحى إليه بيانه ... عذبًا فيروي بالبيان عقولا وكأنما الروح الأمين يضمه ... فيُحمِّل الإبقاء والترتيلا وقال تلميذه عبد الرحمن نجا الإبياري في قصيدته "تحية الإخلاص": محمد من في حلبة العلم مثلكم ... وأنت يراك الله للعلم أوحدا إذا ما دجى ليل الجهالة بيننا ... بعثت لنا من صبح رأيك مرشدا أبنت لنا التنزيل بعد غموضه ... وألفت من أشتاته ما تبددا

بتفسيرك القرآن حاربت عصبة ... عموا كلهم عن موطن الخير والهدى كأن ابن سينا بيننا كان حاضرًا ... يفتح للأذهان ما كان موصدا يقيمك دين الله جيشًا عرمرمًا ... ويشهرك الحق الصراح مهندا فداك نفسي من أديب وعالم ... أقام جيوش الملحدين وأقعدا 6- قالوا عن النبأ العظيم: أ- الشيخ محمد بن محمد أبو شهبة: في كتابه القيم "المدخل إلى القرآن الكريم" تحدث الدكتور العلامة محمد بن محمد أبو شهبة عن كتاب "النبأ العظيم" فقال: "وللأستاذ الشيخ الدكتور محمد عبد الله دراز عضو جماعة كبار العلماء -رحمه الله وأثابه- كتاب جليل سماه "النبأ العظيم" عرض فيه لإعجاز القرآن، وأبان عنه بطريقة علمية فنية، ثم شرع يدلل على إعجاز القرآن البياني في سورة من سور القرآن؛ وهي سورة البقرة، إحدى الزهراوين، بما لا يدع مجالًا للشك في أن هذا القرآن فوق مستوى قدر البشر، وأنه من عند خالق القوى والقدر. ولو أنه تناول القرآن كله على هذا المنوال لكان ذخيرة من الذخائر القرآنية التي تنتفع بها الأجيال المتعاقبة. فعسى أن يقيض له الله سبحانه من يقوم بإتمام هذه الدراسة القرآنية على هذا النهج المستقيم البديع"1.

_ 1 المدخل لدراسة القرآن الكريم، مكتبة السنة، ط3.

ب- الشيخ محمد الغزالي: ذكر الشيخ الغزالي في مقدمة كتابه: "نحو تفسير موضوعي للقرآن الكريم" أن أسوته في ذلك الدكتور محمد عبد الله دراز، فقال ما نصه: "لقد عنيت عناية شديدة بوحدة الموضوع في السورة وإن كثرت قضاياها، وتأسيت في ذلك بالشيخ محمد عبد الله دراز عندما تناول سورة البقرة -وهي أطول سورة في القرآن- فجعل منها باقة واحدة ملونة نضيدة، يعرف ذلك من قرأ كتابه "النبأ العظيم" وهو أول تفسير موضوعي لسورة كاملة فيما أعتقد"1. ج- الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي: وكتب عنه الدكتور العلامة يوسف القرضاوي قائلًا: "كان الشيخ أحد العلماء الراسخين في التفسير وعلوم القرآن، وقد ترك لنا من دلائل ذلك: كتابه الرائع "النبأ العظيم" وهو كتاب متفرد، ويحتوي على نظرات جديدة، ومتميزة في الإعجاز البياني أو الأدبي للقرآن، لم ينسجه على منوال أحد قبله في مضمونه وأسلوبه"2. د- الشيخ الدكتور عبد الستار فتح الله سعيد: وقال عنه العالم الجليل الدكتور عبد الستار فتح الله سعيد: "إنه كتاب صغر حجمًا وغزر علمًا، وهو من أعاجيب الكتب في الإسلام، وهو يمثل أعجوبة الدراسة"3.

_ 1 محمد العزالي، نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم، دار الشروق. 2 انظر مقدمته لكتاب: "زاد المسلم" للدكتور دراز - جمع وإعداد وتحقيق: الشيخ أحمد مصطفى فضلية، دار القلم - القاهرة، الكويت. 3 مقابلة شخصية بمنزله.

هـ- الدكتور عبد العظيم إبراهيم المطعني: وكتب عنه العلامة الدكتور/ عبد العظيم المطعني، فقال: "وضع دراز كتابًا دعاه "النبأ العظيم أو "نظرات جديدة في القرآن الكريم" وقدم في هذا الكتاب دراسة غنية جدًّا عن القرآن الكريم، فهو عالم ضليع، وفيلسوف عميق النظر، استطاع أن يخرج لنا كتابًا في القرآن فيه جدة، ومتعة، وتوجيه"1. و الدكتور محمد رجب البيومي: وقال الكاتب الأديب الدكتور/ محمد رجب البيومي عنه: "إننا لا نغالي إذا قلنا: إن المكتبة القرآنية في عهدنا الأخير لم تر أهدى سبيلًا منه في سلامة النظرة، ولطافة الاستشفاف ... وعمق التأمل"2. ز- الدكتور عبد الله محمود شحاتة: ويقول عنه الدكتور عبد الله محمود شحاته، وهو من تلاميذ الدكتور دراز في دار العلوم: "كتاب «النبأ العظيم، نظرات جديدة في القرآن الكريم» من أقيم الكتب التي تحدثت عن القرآن"3. ح- الدكتور عبد الغني بركة: وقال عنه الدكتور عبد الغني محمد سعد بركة، في كتابه "الإعجاز القرآني؛ وجوهه.. وأسراره"4:

_ 1 انظر كتابه الممتاز خصائص التعبير القرآني وسماته البلاغية ص160. 2 د/ محمد رجب البيومي، النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين، ج5. 3 د/ عبد الله محمود شحاته، التفسير بين الماضي والحاضر، دار الاعتصام، ص109. 4 نشر مكتبة وهبة الطبعة الأولى - 1409هـ - 1989م.

"إن كتاب "النبأ العظيم" الذي كان مرجعنا الأساسي في التعرف على آراء الدكتور دراز -رحمه الله- في قضية الإعجاز القرآني، يعتبر كتابًا فريدًا في منهجه الذي اتبعه في دراسة هذه القضية والإقناع بها"1. ط- الدكتور محمد نبيل غنايم: وكتب عنه الدكتور محمد نبيل غنايم فقال: "وكتاب «النبأ العظيم» للدكتور محمد عبد الله دراز، كتاب لا يستغني عنه باحث، وقد تكلم فيه عن سورة البقرة ونظمها في عقد فريد تظهر جمال النظم الإلهي ذي الترتيب المحدد بمقدار معين"2. ي- الدكتور محمد أبو موسى: قال الدكتور محمد أبو موسى في كتابه التصوير البياني عندما رأى الدكتور دراز في القول بعطاء الكاف في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ودحض القول بالزيادة كلمة نفيسة تكتب بماء الذهب؛ لأنها أبانت عن قدرة الدكتور دراز: "إن الشيخ قد ذكر الآية وأتبعها بما يكشف عن مدلول الحروف، متخذًا من دلالة الكتابة التي ذكرها الزمخشري أساسًا لتأمله الخصب الذي يريك كيف تكون بصيرة البحث قادرة على أن تبعث من الفكرة القديمة المألوفة فكرة جديدة غير مألوفة، وكيف ترى جلال مقالة القدماء إذا صادفت نفسًا خصبة فيها بقية من طبائع العلماء"3.

_ 1 المرجع السابق، ص264. 2 د/ محمد نبيل غنايم، بحوث ونماذج من التفسير الموضوعي، دار القلم، والهداية بالقاهرة. 3 التصوير البياني د/ محمد موسى، ص404.

ك- الدكتور محمد محمود حجازي: "يعد الدكتور محمد عبد الله دراز من رواد التفسير الموضوعي للسورة القرآنية الذي هو عبارة عن الكلام على السورة القرآنية ككل، مع بيان أغراضها العامة والخاصة، وما فيها، مع بيان ربط الموضوعات بعضها ببعض حتى تبدو السورة، وهي في منتهى الدقة والإحكام"1. ل- الأستاذ محمد عبد العظيم علي: وكتب عنه الأستاذ محمد عبد العظيم في مختصره لتفسيره سورة البقرة ما نصه: "من علامات سبق المؤلف لزمانه، المنهج الجديد في التفسير الذي ضمنه كتاب «النبأ العظيم» الذي نحن بصدده. وهو منهج جديد في زمانه ولا يزال على جدته وحداثته برغم مرور أكثر من نصف قرن على تأليفه، إنه منهج لم يسبقه إليه أحد لدراسة القرآن وتفسيره؛ إذ شعر المؤلف -رحمه الله- في الثلاثينيات بحاجة المسلمين إلى فهم كتاب الله على منهج يتفق مع عصر العلم الحديث الذي يتميز عن العصور السابقة وتختلف علومه ومناهجه عما سبق، فكتب وألف في الموضوع، ورسم الطريق لمن يجيء بعده لكي يستكمل الرسالة التي بدأها"2. م- الدكتور محمد ناصر قطبي: وكان من نوابغ الأطباء الذين تأثروا بكتاب "النبأ العظيم" الدكتور/ محمد ناصر قطبي، قال ما نصه: "وبعد قراءتي لتفاسير عديدة للأئمة الكبار من السلف ومن المعاصرين، كان هناك كتاب فريد في بابه، قوي في بيانه، له أكبر الأثر في نفسي، وتكوين فكري مع القرآن،

_ 1 الوحدة الموضوعية في القرآن الكريم - دار الكتب الحديثة. 2 انظر مختصر تفسير سورة البقرة، ص5، دار الإبداع بالإسكندرية.

إنه كتاب "النبأ العظيم"1. ن- الشيخ منصور الأحمد: ".... كثيرة هي الكتب المؤلفة حول القرآن الكريم تفسيرًا وأسباب نزول، وبيان إعجاز، ولكن كتاب "النبأ العظيم" على صغر حجمه يظل معلمًا بارزًا يقف شامخًا بين كل الدراسات القرآنية"2. س- الشيخ عبد المعز خطاب: "ولا أنسى كتاب «النبأ العظيم» للدكتور محمد عبد الله دراز الذي تناول «سورة البقرة» بعد أن مهد بالحديث عن القرآن، فكان هذا الكتاب فتحًا، ولا أظن عالمًا معاصرًا بلغ شأوه، والأجل لم يمهله ليستكمل هذا المنهج ويغطي كل سور القرآن"3. ع- الدكتور محمد أمين أبو شهبة: وحين تناول صديقنا الشيخ محمد أمين أبو شهبة الجانب البلاغي في "النبأ العظيم" في أطروحته للماجستير كتب ما نصه: "والدكتور محمد عبد الله دراز -رحمه الله- واحد من الذين قيضهم الله لخدمة بلاغة القرآن وبيان أسرار إعجازه، والرد على زعم أن القرآن ليس من عند الله، فقد سطر في ذلك الميدان صفحاتٍ بارزةً تعكس جهده البلاغي، وفكره البياني المتميز الجدير بالبحث والتقدير، ذلك أنه شغل بالبحث عن الخصائص البيانية التي انفرد بها القرآن وباين بها أسلوب البشر، وهو ما يعطي هذه الصفحات أهميتها، وعظمتها المستمدة من عظمة البحث في كتاب الله، فإذا انضاف إلى ذلك طبيعة الشيخ فكرًا، وذوقًا، وقدرة على الفهم والتحليل والمحاورة، فقد تجلت

_ 1 انظر كتابه: هكذا يحدثنا القرآن، دار القلم بالقاهرة. 2 كتاب في مقال مجلة البيان - العدد الثالث - ربيع الثاني/ 1407هـ. 3 عن مقدمة كتاب: تأملات ونظرات في سور القرآن 1991م - 1992م، مطبعة دار التأليف.

أهمية كتاب "النبأ العظيم"1. وبعد، فسلام على العالم المجدد، والباحث المنهجي المنفرد، والعالم العظيم، والمسلم العظيم.. محمد عبد الله دراز. سلام عليه يوم ارتفع بإيمانه الصادق فوق هذه الدنيا؛ حقيقة لا كلامًا. سلام على العالم الإنسان الذي وسع بقلبه الكبير وعقله الرشيد، وخلقه الرفيع وأفقه الواسع سائرَ الناس. سلام على العالم المجاهد الذي استنفذ عمره وقواه في خدمة الإسلام والمسلمين، ووهب حياته لخدمة دينه وأمته بقلمه ولسانه وعمله. سلام على العالم المفكر والداعية العالمي الذي عاش في الغرب أحد عشر عامًا، فلم يفتنه الغرب، ولم يلوثه الغرب، وكان حيثما وُجد منارة هادية، ودعوة دائبة، وتعريفًا حيًّا بالإسلام، وفضائل الإسلام، بلسان الحال، لا بمجرد المقال، تعريفًا رائعًا ما يزال له في كثير من النفوس أجمل الآثار. سلام على صاحب «النبأ العظيم» ورضي الله عنه وتقبله في الصالحين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. كتبه: الفقير إلى عفو الله أحمد مصطفى فضلية شيخ معهد محلة دياي الأزهري محلة دياي - دسوق في محرم 1426هـ. 7 من مارس 2005م

_ 1 بتصرف يسير عن رسالة الماجستير، محمد عبد الله دراز وجهوده البلاغية - 1422هـ - 2001م.

مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المؤلف للطبعة الثانية: الجزء الأول من كتاب "النبأ العظيم" مولود جديد ... قديم؛ جديد في مقطعه ونهايته، قديم في مطلعه وبدايته. كان مسقط رأسه في الحرم الجامعي، منذ نيف وعشرين عامًا؛ ولكنه لم يبرز منه يومئذ إلا عنقه وصدره.. أما أطرافه فلم تنشأ، وأما خلقه فلم يكتمل إلا اليوم. لقد شهد طلاب الأمس بداية أمره، حين كان يملى عليهم نجومًا متفرقة، في فترات متلاحقة أو غير متلاحقة، وكانوا كلما اجتمعت منه صفحات معدودة لا تزيد عن عقد وبعض عقد، استعجلوا طبعها، وجعلوا يستحثون همة المؤلف لوضع لاحقتها. ثم أتت بعد ذلك شئون1 حالت دون إتمام وضعه، بله إكمال طبعه؛ فبقي القدر الذي طبع منه حبيسًا في دار الطبع، أو مقصورًا على الرعيل الأول من طلاب هذا البحث.. حتى أذن أذن العلي القدير -وكل شيء عنده بمقدار- أن يضيف المؤلف إليه

_ 1 أمضى المؤلف في خارج القطر المصري اثني عشر عامًا: من غرة ربيع الأول 1355هـ إلى سلخ ربيع الثاني 1367هـ "مايو 1936 - مارس 1948م" مبعوثًا من الجامعة الأزهرية إلى الجامعات الأوربية. فدرس هناك بضعة ألسن من لغة أهل الغرب، وألم بمناهج علمائهم في البحث، ووضع هناك باللغة الفرنسية رسالتين جامعيتين: عن القرآن، وعن دستور الأخلاق في القرآن.. ثم أمضى تسعة أعوام أخر بعد عودته إلى مصر مشغولًا بشئون علمية نيطت به على عجل. من أهمها: 1- محاضرات في علم تاريخ الأديان بكلية الآداب بجامعة القاهرة. 2- محاضرات في فلسفة الأخلاق بقسم التخصص بالجامعة الأزهرية. 3- تدوين محاضراته هذه وتلك وإخراجها في رسالتين باللغة بالعربية.. على أن المؤلف ما زال في أثناء هذه المشاغل كلها يعاوده الحنين إلى إكمال هذا الجزء، وما برح في تلك الأثناء يتلقى من أبنائه وزملائه الرسائل تلو الرسائل لمتابعة هذا البحث، ولكنه لم ييسر له تحقيق هذه الأمنية إلا الآن. وسبحان من لا يشغله شأن عن شان.

اليوم خليات أخر، اكتمل به قوامه، وأخذ بها أهبته للخروج من نطاق الثقافة الجامعية، إلى فضاء الثقافة العالمية، لكي يتحدث إلى كل عقل واع ناقد، لا يأخذ إلا على بصيرة وبينة، ولا يذر ما يذر إلا على بصيرة وبينة؛ وإلى كل وجدان تجريبي ذائق لا يكتفي بالخبر عن المعاينة؛ ولا يستغني بالوزن عن الموازنة. إنه حديث يبدأ من نقطة البدء ... فلا يتطلب من قارئه انضواءً تحت راية معينة؛ ولا اعتناقًا لمذهب معين، ولا يفترض فيه تخصصًا في ثقافة معينة؛ ولا حصولًا على مؤهل معين، بل إنه يناشده أن يعود بنفسه صحيفة بيضاء؛ إلا من فطرة سليمة؛ وحاسة مرهفة؛ ورغبة صادقة في الوصول إلى الحق في شأن هذا القرآن. وإنه إذًا لواصل إن شاء الله. في شعبان سنة 1376هـ "مارس 1957م" محمد عبد الله دراز

مقدمة المؤلف للطبعة الأولى

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المؤلف للطبعة الأولى: الحمد لله الذي فضلنا بالقرآن على الأمم أجمعين، وآتانا به ما لم يؤتِ أحدًا من العالمين: أنزله هداية عالمية دائمة، وجعله للشرائع السماوية خاتمة، ثم جعل له من نفسه حجة على الدهر قائمة. والصلاة والسلام على من كان خلقه القرآن، ووصيته القرآن، وميراثه القرآن، القائل: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه"1. الله كما أعطيتنا حظًّا من وراثة هذا الذكر الحكيم، فيسرت علينا حفظه وتذكره، وحببت إلينا تلاوته وتدبره، نسألك أن تجعلنا من خيار وارثيه الذين هم بهدايته مستمسكون، والذين هم على حراسته قائمون، والذين هم تحت رايته يوم القيامة يبعثون، في جند إمامنا الأعظم، ورسولنا الأكرم، محمد بن عبد الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعلى آله وأصحابه، وأتباعه وأحبابه. أما بعد: فهذه بحوث في القرآن الكريم، قدمتها بين يدي دروس التفسير لطلبة كلية أصول الدين بالجامع الأزهر المعمور، أردت أن أنعت كتاب الله بحليته وخصائصه، وأن أرفع النقاب عن جانب من الحقائق المتصلة به، وأن أرسم الخطة التي ينبغي سلوكها في دراسته. وقد راعيت في أكثر هذه البحوث شيئًا من التفصيل والتحليل، وشيئًا من التطبيق

_ 1 البخاري عن عثمان، ك/ فضائل القرآن، ب/ خيركم من تعلم القرآن وعلمه "4639".

والتمثيل، فلم أكتفِ بالإشارة حيث تمكن العبارة، ولا بالبرهان إذا أمكن العيان، راجيًا بذلك أن تنفتح لها عيون الغافلين؛ فيجدوا نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، وأن تنشرح بها صدور المؤمنين، فيزدادوا إيمانًا إلى إيمانهم. ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير. في سنة 1352هـ، 1933م. محمد عبد الله دراز

البحث الأول: في تحديد معنى القرآن

البحث الأول: في تحديد معنى القرآن المعنى اللغوي والاشتقاقي لكلمتي "قرآن" و"كتاب": معنى القرآن في اللغة: القرآن في الأصل مصدر على وزن فُعلان بالضم، كالغفران والشكران والتكلان. تقول: قرأته قرءًا وقراءةً وقرآنًا بمعنى واحد، أي تلوته تلاوة، وقد جاء استعمال القرآن بهذا المعنى المصدري في قوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} 1 أي قراءته. ثم صار علمًا شخصيًّا2 لذلك الكتاب الكريم. وهذا هو الاستعمال الأغلب، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} 3. ويسمى -أيضًا- الكتاب، ومنه قوله تعالى: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} 4. سر التسمية بالاسمين جميعًا: روعي في تسميته قرآنًا كونه متلوًّا5 بالألسن، كما روعي في تسميته كتابًا كونه مدونًا6 بالأقلام، فكلتا التسميتين من تسمية الشيء بالمعنى الواقع عليه.

_ 1 سورة القيامة: الآية 17 وما بعدها. 2 يطلق بالاشتراك اللفظي على مجموع الكتاب، وعلى كل قطعة منه، فإذا سمعت من يتلو آية من القرآن صح أن تقول: إنه يقرأ القرآن {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [سورة الأعراف: 204] . 3 سورة الإسراء: الآية 9. 4 سورة البقرة: الآيات 1، 2. 5، 6 هذا بيان لوجه الصلة فيهما بين المعنى المنقول عنه والمعنى المنقول إليه، وهو مبني على ما اشتهر من استعمال القراءة في خصوص التلاوة، وهي ضم الألفاظ بعضها إلى بعض في النطق، واستعمال الكتابة في خصوص الرسم، وهو ضم بعضها إلى بعض في الخط. فإذا رجعنا إلى أصلهما الأصيل في اللغة وجدنا مادتي "ك ت ب" و" ق ر أ" تدوران على معنى الجمع والضم مطلقًا. ويلمح هذا الأصل الأول بكون كل واحد من اللقبين=

وفي تسميته بهذين الاسمين إشارة إلى أن من حقه العناية بحفظه في موضوعين لا في موضع واحد، أعني أنه يجب حفظه في الصدور والسطور جميعًا، أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى، فلا ثقة لنا بحفظ حافظ حتى يوافق الرسم المجمع عليه من الأصحاب، المنقول إلينا جيلًا بعد جيل على هيئته التي وضع عليها أول مرة. ولا ثقة لنا بكتابة كاتب حتى يوافق ما هو عند الحفاظ بالإسناد الصحيح المتواتر. وبهذ العناية المزدوجة التي بعثها الله في نفوس الأمة المحمدية اقتداءً بنبيها بقي القرآن محفوظًا في حرز حريز، إنجازًا لوعد الله الذي تكفل بحفظه حيث يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 1 ولم يصبه ما أصاب الكتب الماضية من التحريف والتبديل وانقطاع السند، حيث لم يتكفل الله بحفظها، بل وكلها إلى حفظ الناس فقال تعالى: {وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} 2 أي بما طلب إليهم حفظه. سر اختصاص القرآن بالخلود وعدم التحريف، دون الكتب السابقة: والسر في هذه التفرقة أن سائر الكتب السماوية جيء بها على التوقيت لا التأبيد،

_ =ملاحظًا فيه وصف الجمع، إما على معنى اسم الفاعل أو اسم المفعول، فيكون معناه "الجامع" أو "المجموع"، وهذا اللقب لا يعني فقط أن هذا المسمى جامع للسور والآيات، أو أنه مجموع تلك السور والآيات، من حيث هي نصوص مؤلفة على صفحات القلوب، أو من حيث هي نقوش مصفوفة في الصحف والألواح، أو من حيث هي أصوات مرتلة منظومة على الألسنة، بل يعني شيئًا أدق من ذلك كله، وهو أن هذا الكلام قد جمع فنون المعاني والحقائق، وأنه قد حشدت فيه كتائب الحكم والأحكام، فإذا قلت: الكتاب أو القرآن، كنت كأنما قلت "الكلام الجامع للعلوم" أو "العلوم المجموعة في كتاب". وهكذا وصفه الله تعالى إذ أخبر بأنه نزله {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [سورة النحل: 89] وكذلك وصفه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حيث قال: "فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم" رواه الدارمي عن علي، ك/ فضائل القرآن، ب/ فضل من قرأ القرآن "3197". 1 سورة الحجر: الآية 9. 2 سورة المائدة: الآية 44.

وأن هذا القرآن جيء به مصدقًا لما بين يديه من الكتب ومهيمنًا عليها، فكان جامعًا لما فيها من الحقائق الثابتة، زائدًا عليها بما شاء الله زيادته، وكان سادًّا مسدها، ولم يكن شيء منها ليسد مسده، فقضى الله أن يبقى حجة إلى قيام الساعة، وإذا قضى الله أمرًا يسر له أسبابه، وهو الحكيم العليم. هل يمكن تحديد القرآن تحديدًا منطقيًّا؟: لما كان القرآن بهذا المعنى الأسمى جزئيًّا حقيقيًّا كان من المتعذر تحديده بالتعارف المنطقية ذات الأجناس والفصول والخواص. وذلك شأن كل الجزئيات الحقيقية لا يمكن تحديدها بهذا الوجه؛ لأنه يقبل الانطباق على كل ما يفرض مماثلًا له في ذلك الوصف ذهنًا وإن لم يوجد في الواقع فلا يكون مميزًا له عن جميع ما عداه، فلا يكون حدًّا صحيحًا. وإنما يحدد الجزئي بالإشارة إليه حاضرًا في الحس، أو معهودًا في الذهن. فإذا أردت تعريف القرآن تعريفًا تحديديًّا فلا سبيل لذلك إلا بأن تشير إليه مكتوبًا في المصحف أو مقروءًا باللسان، فنقول: هو ما بين هاتين الدفتين. أو تقول: هو "بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين ... إلى: من الجنة والناس". أما ما ذكره العلماء من تعريفه بالأجناس والفصول كما تعرف الحقائق الكلية فإنما أرادوا به تقريب معناه وتمييزه عن بعض ما عداه مما قد يشاركه في الاسم ولو توهمًا؛ ذلك أن سائر كتب الله تعالى والأحاديث القدسية وبعض الأحاديث النبوية تشارك القرآن في كونها وحيًا إلهيًّا، فربما ظن ظانٌّ أنها تشاركه في اسم القرآن أيضًا، فأرادوا بيان اختصاص الاسم به ببيان صفاته التي امتاز بها عن تلك الأنواع. فقالوا: "القرآن هو كلام الله تعالى، المنزل على محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المتعبد بتلاوته".

عناصر التعريف: "فالكلام" جنس شامل لكل كلام، وإضافته إلى "الله" تميزه عن كلام من سواه من الإنس والجن والملائكة. و"المنزل" مخرج للكلام الإلهي الذي استأثر الله به في نفسه، أو ألقاه إلى ملائكته ليعملوا به لا لينزلوه على أحد من البشر؛ إذ ليس كل كلامه تعالى منزلًا، بل الذي أنزل منه قليل من كثير {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} 1 {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} 2. وتقيد المنزل بكونه "على محمد" لإخراج ما أنزل على الأنبياء من قبله، كالتوراة المنزلة على موسى، والإنجيل المنزل على عيسى، والزبور المنزل على داود، والصحف المنزلة على إبراهيم -عليهم السلام. وقيد "المتعبد بتلاوته" -أي المأمور بقراءته في الصلاة وغيرها على وجه العبادة- لإخراج ما لم نؤمر بتلاوته من ذلك، كالقراءات المنقولة إلينا بطريق الآحاد، وكالأحاديث القدسية، وهي المسندة إلى الله -عز وجل- إن قلنا: إنها منزلة من عند الله بألفاظها. أما الأحاديث النبوية فإنها بحسب ما حوته من المعاني تنقسم إلى قسمين: "قسم توفيقي" استنبطه النبي بفهمه في كلام الله أو بتأمله في حقائق الكون، وهذا القسم ليس كلام الله قطعًا. و"قسم توقيفي" تلقى الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مضمونه من الوحي فبينه للناس بكلامه. وهذا القسم وإن كان ما فيه من العلوم منسوبًا إلى معلمه وملهمه

_ 1 سورة الكهف: الآية 109. 2 سورة لقمان: الآية 27.

سبحانه، لكنه -من حيث هو كلام- حري بأن ينسب إلى الرسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لأن الكلام إنما ينسب إلى واضعه وقائله الذي ألفه على نحو خاص ولو كان ما فيه من المعنى قد تواردت عليه الخواطر وتلقاه الآخر عن الأول. فالحديث النبوي إذًا خارج بقسميه من القيد الأول1 في هذا التعريف. وكذلك الحديث القدسي إن قلنا: إنه منزل بمعناه فقط، وهذا هو أظهر القولين فيه عندنا؛ لأنه لو كان منزلًا بلفظه لكان له من الحرمة والقدسية في نظر الشرع ما للنظم القرآني، إذ لا وجه للتفرقة بين لفظين منزلين من عند الله. فكان من لوازم ذلك وجوب المحافظة على نصوصه، وعدم جواز روايته بالمعنى إجماعًا: وحرمة مس المحدث لصحيفته. ولا قائل بذلك كله. وأيضًا فإن القرآن لما كان مقصودًا منه مع العمل بمضمونه شيء آخر وهو التحدي بأسلوبه والتعبد بتلاوته احتيج لإنزال لفظه، والحديث القدسي لم ينزل للتحدي ولا للتعبد بل لمجرد العمل بما فيه وهذة الفائدة تحصل بإنزال معناه، فالقول بإنزال لفظه قول بشيء لا داعي في النظر إليه، ولا دليل في الشرع عليه، اللهم إلا ما قد يلوح من إسناد الحديث القدسي إلى الله بصيغة "يقول الله تبارك وتعالى كذا" لكن القرائن التي ذكرناها آنفًا كافية في إفساح المجال لتأويله بأن المقصود نسبة مضمونه لا نسبة ألفاظه، وهذا تأويل شائع في العربية. فإنك تقول حينما تنثر بيتًا من الشعر: "يقول الشاعر كذا" وعلى هذه القاعدة حكى الله تعالى عن موسى وفرعون وغيرهما مضمون كلامهم بألفاظ وأسلوب غير أسلوبهم، ونسب ذلك إليهم. فإن زعمت أنه لو لم يكن في الحديث القدسي شيء آخر مقدس وراء المعنى لصح لنا أن نسمي بعض الحديث النبوي قدسيًّا أيضًا، لوجود هذا المعنى فيه. فجوابه: أننا لما

_ 1 وهو كونُ الكلامِ كلامَ الله.

قطعنا في الحديث القدسي بنزول معناه لورود النص الشرعي على نسبته إلى الله، بقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قال الله تعالى كذا" سميناه قدسيًّا لذلك، بخلاف الأحاديث النبوية فإنها لما لم يرد فيها مثل هذا النص جاز في كل واحد منها أن يكون مضمونه معلمًا بالوحي، وأن يكون مستنبطًا بالاجتهاد والرأي، فسمي الكل نبويًّا وقوفًا بالتسمية عند الحد المقطوع به، ولو كانت لدينا علامة، تميز لنا قسم الوحي لسميناه قدسيًّا كذلك. على أن هذا الامتياز لا يؤدي إلى نتيجة عملية، فسواء علينا عند العمل بالحديث أن يكون من هذا القسم أو من ذاك؛ إذ النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في تبليغه صادق مأمون، وفي اجتهاده فطن موفق، وروح القدس يؤيده فلا يقره على خطأ إن أخطأ في أمر من أمور الشريعة. فكان مرد الأمر في الحقيقة إلى الوحي في كلتا الحالتين، إما بالتعليم ابتداءً، وإما بالإقرار أو النسخ انتهاءً؛ ولذلك وجب أن نتلقى كل سنته بالقبول {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 1 {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} 2.

_ 1 سورة الحشر: الآية 7. 2 سورة الأحزاب: الآية 36.

البحث الثاني: في بيان مصدر القرآن

البحث الثاني: في بيان مصدر القرآن تمهيد: لقد علم الناس أجمعون علمًا لا يخالطه شك أن هذا الكتاب العزيز جاء على لسان رجل عربي أمي ولد بمكة في القرآن السادس الميلادي، اسمه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله.. هذا القدر لا خلاف فيه بين مؤمن وملحد؛ لأن شهادة التاريخ المتواتر به لا يماثلها ولا يدانيها شهادته لكتاب غيره ولا لحادث غيره ظهر على وجه الأرض. أما بعد، فمن أين جاء به محمد بن عبد الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ أمن عند نفسه ومن وحي ضميره، أم من عند معلم؟ ومن هو ذلك المعلم؟ تحديد الدعوى أخذًا من النصوص القرآنية: نقرأ في هذا الكتاب ذاته أنه ليس من عمل صاحبه، وإنما هو قول رسول كريم، ذو قوة عند ذي العرش مكين، مطاع ثم أمين: ذلكم هو جبريل -عليه السلام- تلقاه من لدن حكيم عليم، ثم نزله بلسان عربي مبين على قلب محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فتلقنه محمد منه كما يتلقن التلميذ عن أستاذه نصًّا من النصوص، ولم يكن له فيه من عمل بعد ذلك إلا: "1" الوعي والحفظ، ثم "2" الحكاية والتبليغ، ثم "3" البيان والتفسير، ثم "4" التطبيق والتنفيذ. أما ابتكار معانيه وصياغة مبانيه فما هو منهما بسبيل، وليس له من أمرهما شيء، إن هو إلا وحي يوحى.

وهكذا سماه القرآن حيث يقول: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي} 1 ويقول: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} 2، وأمثال هذه النصوص كثيرة في شأن إيحاء المعاني، ثم يقول في شأن الإيحاء اللفظي: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} 3 {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} 4 {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} 5 {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} 6 {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} 7 {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} 8 فانظر كيف عبر بالقراءة والإقراء، والتلاوة والترتيل، وتحريك اللسان، وكون الكلام عربيًّا، وكل أولئك من عوارض الألفاظ لا المعاني البحتة. القرآن إذًا صريح في أنه "لا صنعة فيه لمحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا لأحد من الخلق، وإنما هو منزل من عند الله بلفظه ومعناه". والعجب أن يبقى بعض الناس في حاجة إلى الاستدلال على الشطر الأول من هذه المسألة، وهو أنه ليس من عند محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

_ 1 سورة الأعراف: الآية 203. 2 سورة يونس: الآية 15. 3 سورة يوسف: الآية 2. 4 سورة الأعلى: الآية 6. 5 سورة القيامة: الآية 16 وما بعدها. 6 سورة العلق: الآيات 1- 3. 7 سورة الكهف: الآية 1. 8 سورة المزمل: الآية 4.

في الحق أن هذه القضية لو وجدت قاضيًا يقضي بالعدل لاكتفى بسماع هذه الشهادة التي جاءت بلسان صاحبها على نفسه، ولم يطلب وراءها شهادة شاهد آخر من العقل أو النقل، ذلك أنها ليست من جنس "الدعاوى" فتحتاج إلى بينة، وإنما هي من نوع "الإقرار" الذي يؤخذ به صاحبه ولا يتوقف صديق ولا عدو في قبوله منه، إن أية مصلحة للعاقل الذي يدعي لنفسه حق الزعامة ويتحدى الناس بالأعاجيب والمعجزات لتأييد تلك الزعامة، نقول: أية مصلحة له في أن ينسب بضاعته لغيره، وينسلخ منها انسلاخًا؟ على حين أنه كان يستطيع أن ينتحلها فيزداد بها رفعة وفخامة شأن، ولو انتحلها لما وجد من البشر أحدًا يعارضه ويزعمها لنفسه. الذي نعرفه أن كثيرًا من الأدباء يبسطون على آثار غيرهم فيسرقونها أو يسرقون منها ما خف حمله وغلت قيمته وأمنت تهمته، حتى إن منهم من ينبش قبور الموتى ويلبس من أكفانهم ويخرج على قومه في زينة من تلك الأثواب المستعارة. أما أن أحدًا ينسب لغيره أنفس آثار عقله وأغلى ما تجود به قريحته فهذا ما لم يلده الدهر بعد. ولو أننا افترضناه افتراضًا لما عرفنا له تعليلًا معقولًا ولا شبه معقول، اللهم إلا شيئًا واحدًا قد يحيك في صدر الجاهل، وهو أن يكون هذا الزعيم قد رأى أن في "نسبته القرآن إلى الوحي الإلهي" ما يعينه على استصلاح الناس باستيجاب طاعته عليهم ونفاذ أمره فيهم؛ لأن تلك النسبة تجعل لقوله من الحرمة والتعظيم ما لا يكون له لو نسبه إلى نفسه. وهذا قياس فاسد في ذاته، فاسد في أساسه. أما إنه فاسد في ذاته؛ فلأن صاحب هذا القرآن قد صدر عنه الكلام المنسوب إلى نفسه والكلام المنسوب إلى الله تعالى؛ فلم تكن نسبته ما نسبه إلى نفسه بناقصة من لزوم طاعته شيئًا، ولا نسبة ما نسبه إلى ربه بزائدة فيها شيئًا، بل استوجب على الناس

طاعته فيهما على السواء، فكانت حرمتهما في النفوس على سواء، وكانت طاعته من طاعة الله، ومعصيته من معصية الله، فهلا جعل كل أقواله من كلام الله تعالى لو كان الأمر كما يهجس به ذلك الوَهِمُ. وأما فساد هذا القياس من أساسه؛ فلأنه مبني على افتراض باطل، وهو تجويز أن يكون هذا الزعيم من أولئك الذين لا يأبون في الوصول إلى غاية إصلاحية أن يعبروا إليها على قنطرة من الكذب والتمويه، وذلك أمر يأباه علينا الواقع التاريخي كلَّ الإباء، فإن من تتبع سيرته الشريفة في حركاته وسكناته، وعباراته وإشاراته، في رضاه وغضبه، في خلوته وجلوته.. لا يشك في أنه كان أبعد الناس عن المداجاة والمواربة، وأن سره وعلانيته كانا سواءً في دقة الصدق وصرامة الحق في جليل الشئون وحقيرها، وأن ذلك كان أخص شمائله وأظهر صفاته قبل النبوة وبعدها، كما شهد ويشهد به أصدقاؤه وأعداؤه1 إلى يومنا هذا {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} 2. طرف من سيرته بإزاء القرآن: وكأني بك ها هنا تحب أن أقدم لك من سيرته المطهرة مثلًا واضح الدلالة على مبلغ صدقه وأمانته في دعوى الوحي الذي نحن بصدده، وأنه لم يكن ليأتي بشيء من القرآن من تلقاء نفسه، فإليك طرفًا من ذلك:

_ 1 اقرأ مثلًا ما كتبه توماس كارليل الإنجليزي في كتاب الأبطال، وما كتبه الكونت هنري دي كاستري الفرنسي في خواطره وسوانحه عن الإسلام، ثم اقرأ شهادة قريش التي سجلها أبو سفيان وهو في الجاهلية بين يدي هرقل عظيم الروم لما سألهم هرقل: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا. وسألهم: هل يغدر؟ قال: لا. أخرجه الشيخان: البخاري؛ عن عبد الله بن العباس، ك/ بدء الوحي، ب/ بدء الوحي "6"، ومسلم؛ عن عبد الله بن عباس، ك/ الجهاد والسير، ب/ كتاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى هرقل "3322". 2 سورة يونس: الآية 16 وما بعدها.

لقد كانت تنزل به نوازل من شأنها أن تحفزه إلى القول، وكانت حاجته القصوى تلح عليه أن يتكلم بحيث لو كان الأمر إليه لوجد له مقالًا ومجالًا، ولكنه كانت تمضي الليالي والأيام تتبعها الليالي والأيام ولا يجد في شأنها قرآنًا يقرؤه على الناس. 1: فترة الوحي في حادث الإفك: ألم يرجف المنافقون بحديث الإفك عن زوجه عائشة -رضي الله عنها- وأبطأ الوحي، وطال الأمر والناس يخوضون، حتى بلغت القلوب الحناجر، وهو لا يستطيع إلا أن يقول بكل تحفظ واحتراس: "إني لا أعلم عنها إلا خيرًا" 1 ثم إنه بعد أن بذل جهده في التحري والسؤال واستشارة الأصحاب، ومضى شهر بأكمله والكل يقولون: ما علمنا عليها من سوء. لم يزد على أن قال لها آخر الأمر: "يا عائشة، أما إنه بلغني كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله" 2. هذا كلامه بوحي ضميره، وهو كما نرى كلام البشر الذي لا يعلم الغيب، وكلام الصديق المتثبت الذي لا يتبع الظن، ولا يقول ما ليس له به علم. على أنه لم يغادر مكانه بعد أن قال هذه الكلمات حتى نزل صدر سورة النور معلنًا براءتها، ومصدرًا الحكم المبرم بشرفها وطهارتها. الحديث أخرجه الشيخان وغيرهما. فماذا كان يمنعه -لو أن أمر القرآن إليه- أن يتقول هذه الكلمة الحاسمة من قبل ليحمي بها عرضه ويذب بها عن عرينه وينسبها إلى الوحي السماوي لتنقطع ألسنة المتخرصين؟ ولكنه ما كان ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَمَا

_ 1 رواه البخاري عن عائشة، ك/ الشهادات، ب/ تعديل النساء بعضهن بعضًا "2467". 2 رواه البخاري عن عائشة، ك/ الشهادات، ب/ تعديل النساء بعضهن بعضًا "2467".

مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} 1. 2: مخالفة القرآن لطبع الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعتابه الشديد له في المسائل المباحة: وأخرى كان يجيئه القول فيها على غير ما يحبه ويهواه. فيخطئه في الرأي يراه. ويأذن له في الشيء لا يميل إليه، فإذا تلبث فيه يسيرًا تلقاه القرآن بالتعنيف الشديد، والعتاب القاسي، والنقد المر، حتى في أقل الأشياء خطرًا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} 2، {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} 3، {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} 4، {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} 5، {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 6، {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى، فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى، وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى، وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى، وَهُوَ يَخْشَى، فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} 7.

_ 1 سورة الحاقة: الآية 44 وما بعدها. 2 أول سورة التحريم. 3 سورة الأحزاب: 37. 4 سورة التوبة: 43. 5 سورة التوبة: 113. 6 سورة الأنفال: الآية 67، 68. 7 سورة عبس: الآية 5 وما بعدها.

أرأيت لو كانت هذه التقريعات المؤلمة صادرة عن وُجدانه، معبرة عن ندمه ووخز ضميره حين بدا له خلاف ما فرط من رأيه. أكان يعلنها عن نفسه بهذا التهويل والتشنيع؟ ألم يكن له في السكوت عنها ستر على نفسه، واستبقاء لحرمة آرائه؟ بلى؛ إن هذا القرآن لو كان يفيض عن وجدانه لكان يستطيع عند الحاجة أن يكتم شيئًا من ذلك الوجدان، ولو كان كاتمًا شيئًا لكتم أمثال هذه الآيات، ولكنه الوحي لا يستطيع كتمانه {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} 1. وتأمل آية الأنفال المذكورة، تجد فيها ظاهرة عجيبة، فإنها لم تنزل إلا بعد إطلاق أسارى بدر وقبول الفداء منهم، وقد بدئت بالتخطئة والاستنكار لهذه الفعلة، ثم لم تلبث أن ختمت بإقرارها وتطبيب النفوس بها، بل صارت هذه السابقة التي وقع التأنيب عليها هي القاعدة لما جاء بعدها، فهل الحال النفسية التي يصدر عنها أول هذا الكلام -لو كان عن النفس مصدره- يمكن أن يصدر عنها آخره ولما تمض بينهما فترة تفصل بين زمجرة الغضب والندم وبين ابتسامة الرضا والاستحسان؟ كلا، وإن هذين الخاطرين لو فرض صدورهما عن النفس متعاقبين لكان الثاني منهما إضرابًا عن الأول ماحيًا له، ولرجع آخر الفكر وفقًا لما جرى به العمل، فأي داع دعا إلى تصوير ذلك الخاطر الممحو وتسجيله، على ما فيه من تقريع علني بغير حق، وتنغيص لهذه الطعمة التي يراد جعلها حلالًا طيبة؟ إن الذي يفهمه علماء النفس من قراءة هذا النص أن -ها هنا- ألبتة شخصيتين منفصلتين، وأن هذا صوت سيد يقول لعبده: لقد أسأت، ولكني عفوت عنك وأذنت لك. وأنت لو نظرت في هذه الذنوب التي رفع العتاب عليها لوجدتها تنحصر في شيء واحد، وهو أنه عليه السلام كان إذا ترجح بين أمرين ولم يجد فيهما إنما اختار أقربهما إلى رحمة أهله وهداية قومه وتأليف خصمه، وأبعدهما عن الغلظة والجفاء، وعن إثارة

_ 1 سورة التكوير: الآية 24.

الشبه في دين الله، لم يكن بين يديه نص فخالفه كفاحًا، أو جاوزه خطأً ونسيانًا، بل كل ذنبه أنه مجتهدٌ بذل وسعه في النظر، ورأى نفسه مخيرًا فتخير، هبه مجتهدًا أخطأ باختيار خلاف الأفضل.. أليس معذورًا ومأجورًا؟ على أن الذي اختاره كان هو خير ما يختاره ذو حكمة بشرية1 وإنما نبهه القرآن إلى ما هو أرجح في ميزان الحكمة الإلهية. هل ترى في ذلك ذنبًا يستوجب عند العقل هذا التأنيب والتثريب؟ أم هو مقام الربوبية ومقام العبودية، وسنة العروج بالحبيب في معارج التعليم والتأديب؟ توفي عبد الله بن أُبَيّ كبيرُ المنافقين؛ فكفنه النبي في ثوبه، وأراد أن يستغفر له ويصلي عليه، فقال عمر -رضي الله عنه: أتصلي عليه وقد نهاك ربك؟ فقال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنما خيرني ربي فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} وسأزيده على السبعين" وصلى عليه2، فأنزل الله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} 3 فترك الصلاة عليهم -اقرأ هذه القصة الثابتة برواية الصحيحين وانظر ماذا ترى؟ إنها لتمثل لك نفس هذا العبد الخاضع وقد اتخذ من القرآن دستورًا يستملي أحكامه من نصوصه الحرفية، وتمثل لك قلب هذا البشر الرحيم وقد آنس من ظاهر4 النص الأول تخييرًا له بين طريقين، فسرعان ما سلك أقربهما إلى الكرم الرحمة، ولم يلجأ إلى الطريق الآخر إلا بعد ما جاءه النص الصريح بالمنع.

_ 1 وما كان اختيار عمر -رضي الله عنه- في مسألة الأسرى ونحوها إلا مظهرًا من مظاهر الشدة التي كانت أغلب على طبعه. وإن كادت هذه الشدة لتفتنه عن أمر الله يوم الحديبية كما سيجيء. فكانت موافقته للوحي في تلك المسائل مصادفة للحكم من غير مقدماته الحقيقية التي انفرد بها علام الغيوب. 2 البخاري عن ابن عمر، ك/ تفسير القرآن، ب/ قوله: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا ... } "4304". 3 سورة التوبة: الآية 84. 4 نقول: ظاهر النص؛ لأن العطف بأو يحتمل أن يكون التسوية لا التخيير، كما أن صيغة العدد تحتمل أن تكون المبالغة لا التحديد، وكلاهما احتمال قوي، إلا أن معنى التخيير والتحديد آت على أصل الوضع، وعلى مقتضى كرم الطبع، فلم يعدل عنه الرسول الكريم إلا بنص آخر.

وهكذا كلما درست مواقف الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من القرآن في هذه المواطن أو غيرها تجلى لك فيه معنى العبودية الخاضعة ومعنى البشرية الرحيمة الرقيقة؛ وتجلى لك في مقابل ذلك من جانب القرآن، معنى القوة التي لا تتحكم فيها البواعث والأغراض بل تصدع بالبيان فرقانًا بين الحق والباطل، وميزانًا للخبيث والطيب، أحب الناس أم كرهوا، ورضوا أم سخطوا، آمنوا أم كفروا؛ إذ لا تزيدها طاعة الطائعين، ولا تنقصها معصية العاصين. فترى بين المقامين ما بينهما. وشتات ما بين سيد ومسود، وعابد ومعبود. توقف الرسول -أحيانًا- في فهم مغزى النص حتى يأتيه البيان: ولقد كان يجيئه الأمر بالقول المجمل أو الأمر المشكل الذي لا يستبين هو ولا أصحابه تأويله حتى ينزل الله عليهم بيانه بعد. قل لي بربك: أي عاقل توحي إليه نفسه كلامًا لا يفهم هو معناه، وتأمره أمرًا لا يعقل هو حكمته؟ أليس ذلك من الأدلة الواضحة على أنه ناقل لا قائل، وأنه مأمور لا آمر؟ موقفه في قضية المحاسبة على النيات: نزل قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} 1 أزعجت الآية الصحابة إزعاجًا شديدًا، وداخل قلوبهم منها شيء لم يدخلها من شيء آخر؛ لأنهم فهموا منها أنهم سيحاسبون على كل شيء حتى حركات القلوب وخطراتها -فقالوا: يا رسول الله، أنزلت علينا هذه الآية ولا نطيقها- فقال لهم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير" 2 فجعلوا يتضرعون بهذ الدعوات حتى أنزل الله بيانها بقوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} ، إلى آخر السورة

_ 1 سورة البقرة: الآية 284. 2 رواه مسلم عن أبي هريرة، ك/ الإيمان، ب/ بيان أنه سبحانه وتعالى لا يكلف إلا....... "179".

المذكورة، وهناك علموا أنهم إنما يحاسبون على ما يطيقون من شأن القلوب، وهو ما كان من النيات المكسوبة والعزائم المستقرة، لا من الخواطر والأماني الجارية على النفس بغير اختيار. الحديث في مسلم وغيره، واشار إليه البخاري في التفسير مختصرًا. وموضع الشاهد منه أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لو كان يعلم تأويلها من أول الأمر لبين لهم خطأهم ولأزال اشتباههم من فوره؛ لأنه لم يكن ليكتم عنهم هذا العلم وهم في أشد الحاجة إليه، ولم يكن ليتركهم في هذا الهلع الذي كاد يخلع قلوبهم وهو بهم رءوف رحيم، ولكنه كان مثلهم ينتظر تأويلها. ولأمر ما أخر الله عنهم هذا البيان. ولأمر ما وضع حرف التراخي في قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} 1. مسلكه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صلح الحديبية: واقرأ في صحيح البخاري وسنن أبي داود وغيرهما قضية الحديبية، ففيها آية بينة: أذن الله للمؤمنين أن يقاتلوا من يعتدي عليهم أينما وجدوه، غير ألا يقاتلوا في الحرم من لم يقاتلهم فيه نفسه، فقال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} 2 فلما أجمعوا زيارة البيت الحرام في ذلك العام -وهو العام السادس من الهجرة- أخذوا أسلحتهم حذرًا أن يقاتلهم أحد فيدافعوا عن أنفسهم الدفاع المشروع، ولما أشرفوا على حدود الحرم علموا أن قريشًا قد جمعت جموعها على مقربة منهم فلم يئن ذلك من عزمهم؛ لأنهم كانوا على تمام الأهبة، بل زادهم ذاك استبسالًا وصمموا على المضي إلى البيت، فمن صدهم عنه قاتلوه، وكانت قريش قد نهكتها الحروب، فكانت البواعث كلها متضافرة والفرصة سانحة للالتحام في موقعة فاصلة يتمكن فيها الحق من

_ 1 سورة القيامة: الآية 19. 2 سورة البقرة: الآية 190 وما بعدها.

الباطل فيدمغه، وإنهم لسائرون عند الحديبية إذ بركت راحلة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأخذ أصحابه يثيرونها إلى جهة الحرم فلا تثور، فقالوا: خلأت القصواء، خلأت القصواء، أي حرنت الناقة، فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل". يعني أن الله الذي اعتقل الفيل ومنع أصحابه من دخول مكة محاربين هو الذي اعتقل هذه الناقة ومنع جيش المسلمين من دخولها الآن عنوة، وهكذا أيقن أن الله تعالى لم يأذن لهم في هذا العام بدخول مكة مقاتلين، لا بادئين ولامكافئين. وزجر الناقة فثارت إلى ناحية أخرى فنزل بأصحابه في أقصى الحديبية، وعدل بهم عن متابعة السير؛ امتثالًا لهذه الإشارة الإلهية التي لا يعلم حكمتها، وأخذ يسعى لدخول مكة من طريق الصلح مع قريش قائلًا: "والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها" 1 ولكن قريشًا أبت أن يدخلها في هذا العام لا محاربًا ولا مسالمًا، وأملت عليه شروطًا قاسية بأن يرجع من عامه، وأن يرد كل رجل يجيئه من مكة مسلمًا، وألا ترد هي أحدًا يجيئها من المدينة تاركًا لدينه، فقبل تلك الشروط التي لم يكن ليمليها مثل قريش في ضعفها على مثل المؤمنين في قوتهم، وأمر أصحابه بالتحلل من عمرتهم وبالعودة من حيث جاءوا، فلا تسل عما كان لهذا الصلح من الوقع السيئ في نفوس المسلمين، حتى إنهم لما جعلوا يحلقون بعضهم لبعض كاد يقتل بعضهم بعضًا ذهولًا وغمًّا، وكادت تزيغ قلوب فريق من كبار الصحابة، فأخذوا يتساءلون فيما بينهم، ويراجعونه هو نفسه قائلين: لِمَ نعطي الدنية في ديننا؟ وهكذا كاد الجيش يتمرد على أمر قائده ويفلت حبله من يده، أفلم يكن من الطبيعي إذ ذاك لو كان هذا القائد هو الذي وضع هذه الخطة بنفسه أو اشترك في وضعها أو وقف على أسرارها أن يبين لكبار أصحابه حكمة هذه التصرفات التي فوق العقول، حتى يطفئ نار الفتنة قبل أن يتطاير شررها؟ ولكن انظر كيف كان جوابه حين راجعه

_ 1 رواه البخاري عن المسور بن مخرمة، ك/ الشروط، ب/ الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب "2529".

عمر: "إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري". يقول: إنما أنا عبد مأمور ليس لي من الأمر شيء إلا أن أنفذ أمر مولاي واثقًا بنصره قريبًا وبعيدًا. وهكذا ساروا راجعين وهم لايدرون تأويل هذا الإشكال حتى نزلت سورة الفتح فبينت لهم الحكم الباهرة والبشارات الصادقة، فإذا الذي ظنوه ضيمًا وإجحافًا في بادئ الرأي كان هو النصر المبين والفتح الأكبر1 وأين تدبير البشر من تدبير القدر؛ {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا، هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا، إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا، لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} 2. منهجه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كيفية تلقي النص أول عهده بالوحي: لقد كان -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين ينزل عليه القرآن في أول عهده بالوحي يتلقفه متعجلًا فيحرك به

_ 1 قال ابن إسحاق قال الزهري: فما فُتِحَ في الإسلام فتحٌ قبله كان أعظم من فتح الحديبية، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب وأمن الناس بعضهم بعضًا التقوا وتفاوضوا في الحديث، فلم يُكلم أحد بالإسلام يعقل شيئًا في تلك المدة إلا دخل فيه. وفسر ذلك صاحب الفتح فقال: إن الناس لأجل الأمن الذي وقع بينهم اختلط بعضهم ببعض من غير نكير، وظهر من كان يخفي إسلامه، وأسمع المسلمون المشركين القرآنَ، وناظروهم جهرة آمنين، وكانوا قبل ذلك لا يتكلمون عندهم بذلك إلا خفية. فذل المشركون من حيث أرادوا العزة، وأقهروا من حيث أرادوا الغلبة. 2 سورة الفتح: الآية 24، وما بعدها.

لسانه وشفتيه؛ طلبًا لحفظه، وخشية ضياعه من صدره. ولم يكن ذلك معروفًا من عادته في تحضير كلامه، لا قبل دعواه النبوة ولا بعدها، ولا كان ذلك من عادة العرب، إنما كانوا يزورون كلامهم في أنفسهم، فلو كان القرآن منبجسًا من معين نفسه لجرى على سنة كلامه وكلامهم، ولكان له من الروية والأناة الصامتة ما يكفل له حاجته من اتضاج الرأي وتمحيص الفكرة، ولكنه كان يرى نفسه أمام تعليم يفاجئه وقتيًّا ويلم به سريعًا، بحيث لا تجدي الروية شيئًا في اجتلابه لو طلب، ولا في تداركه واستذكاره لو ضاع منه شيء، وكان عليه أن يعيد كل ما يلقى إليه حرفيًّا، فكان لا بد له في أول عهده بتلك الحال الجديدة التي لم يألفها من نفسه أن يكون شديد الحرص على المتابعة الحرفية، حتى ضمن الله له حفظه وبيانه بقوله: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} 1 الآيات من سورة القيامة وقوله: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} 2. طرف من سيرته العامة -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 1: هذا طرف من سيرته بإزاء القرآن، وكلها شواهد ناطقة بدقه في أن القرآن لم يصدر عنه، بل ورد إليه، وأنه لم يفض عن قلبه بل أفيض عليه، فإذا أنت صعدت بنظرك إلى سيرته العامة لقيت من جوانبها مجموعة رائعة من الأخلاق العظيمة. وحسبك الآن منها أمثلة يسيرة إذا ما تأملتها صورت لك إنسانًا الطهر ملء ثيابه، والجد حشو إهابه، يأبى لسانه أن يخوض فيما لا يعلمه، وتأبى عيناه أن تخفيا خلاف ما يعلنه، ويأبى سمعه أن يصغي إلى غلو المادحين له، تواضع هو حلية العظماء،

_ 1 سورة القيامة: الآية 16. 2 سورة طه: الآية 114.

وصراحة نادرة في الزعماء، وتثبت قلما تجده عند العلماء. فأنى من مثله الختل أو التزوير، أو الغرور أو التغرير؟ حاشا لله! جلست جويريات يضربن بالدف في صبيحة عرس الربيع بنت معوذ الأنصارية، وجعلن يذكرن آباءهن من شهداء بدر حتى قالت جارية منهن: وفينا نبي يعلم ما في غد. فقال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تقولي هكذا، وقولي ما كنت تقولين" 1. ومصداقه في كتاب الله تعالى: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} 2 {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} 3. 2: كان عبد الله بن أبي السرح أحد النفر الذين استثناهم النبي من الأمان يوم الفتح لفرط إيذائهم للمسلمين وصدهم عن الإسلام، فلما جاء إلى النبي لم يبايعه إلا بعد أن شفع له عثمان -رضي الله عنه- ثلاثًا، ثم أقبل على أصحابه فقال: "أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين كففت يدي عن بيعته فيقتله"؟ فقالوا: ما ندري ما في نفسك، ألا أومأت إلينا بعينك! فقال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنه لا ينبغي لنبي أن يكون له خائنة الأعين". 4. 3: وجيء بصبي من الأنصار يصلي عليه، فقالت عائشة رضي الله عنها: طوبى لهذا، لم يعمل شرًّا. فقال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أو غير ذلك يا عائشة، إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلًا، وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار وخلق لها أهلًا، وخلقها لهم وهم في

_ 1 رواه البخاري عن الربيع بنت معوذ، ك/ المغازي، ب/ شهود الملائكة بدرًا "3700". 2 سورة الأنعام: الآية 50. 3 سورة الأعراف: الآية 188. 4 رواه أبو داود عن سعد، ك/ الجهاد، ب/ قتل الأسير ولا يعرض عليه الإسلام، "2308". والنسائي عن مصعب بن سعد عن أبيه، ك/ تحريم الدم، ب/ الحكم في المرتد "3999".

أصلاب آبائهم" 1 رواه مسلم وأصحاب السنن. 4: ولما توفي عثمان بن مظعون -رضي الله عنه- قالت أم العلاء -امرأة من الأنصار: رحمة الله عليك أبا السائب، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله. فقال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وما يدريك أن الله أكرمه"؟! فقال: بأبي أنت يا رسول الله، فمن يكرمه الله؟ قال: "أما هو فقد جاءه اليقين، والله إني لأرجو له الخير. والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي". قالت: فو الله لا أزكي أحدًا بعده أبدًا2. رواه البخاري والإمام أحمد. ومصداقه في كتاب الله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} 3. أتراه لو كان حين يتحامى الكذب يتحاماه دهاءً وسياسة، خشية أن يكشف الغيب قريبًا أو بعيدًا عن خلاف ما يقول، ما الذي كان يمنعه أن يتقول ما يشاء في شأن ما بعد الموت وهو لا يخشى من يراجعه فيه، ولا يهاب حكم التاريخ عليه؟! بل منعه الخلق العظيم، وتقدير المسئولية الكبرى أمام حاكم آخر أعلى من التاريخ وأهله {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ، فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} 4. واعلم أنك مهما أزحت عن نفسك راحة اليقين وأرخيت لها عنان الشك وتركتها تفترض أسوأ الفروض في الواقعة الواحدة والحادثة الفذة من هذه السيرة المكرمة فإنك متى وقفت منها على مجموعة صالحة لا تملك أن تدفع هذا اليقين عن نفسك إلا بعد

_ 1 قال العلماء: إن هذا التوقف كان قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة، في صحيح مسلم عن عائشة أم المؤمنين، ك/ القدر، ب/ معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت "4813". ورواه أبو داود عن عائشة أم المؤمنين، ك/ السنة، ب/ في ذراري المشركين "4090". 2 رواه البخاري عن خارجة بن زيد بن ثابت، ك/ الجنائز، ب/ الدخول على الميت بعد الموت إذا أدرج في ... "1166". 3 سورة الأحقاف: الآية 9. قال العلماء: وكان هذا قبل أن يوحى إليه صدر سورة الفتح {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} . 4 سورة الأعراف: الآية 6 وما بعدها.

أن تتهم وجدانك وتشك في سلامة عقلك. فنحن قد نرى الناس يدرسون حياة الشعراء في أشعارهم فيأخذون عن الشاعر من كلامه صورة كاملة تتمثل فيها عقائده وعوائده وأخلاقه ومجرى تفكيره وأسلوب معيشته، ولا يمنعهم زخرف الشعر وطلاؤه عن استنباط خيلته، وكشف رغوته عن صريحه؛ ذلك أن للحقيقة قوة غلابة تنفذ من حجب الكتمان فتقرأ بين السطور وتعرف في لحن القول، والإنسان مهما أمعن في تصنعه ومداهنته لا يخلو من فلتات في قوله وفعله تنم على طبعه إذا أحفظ أو أخرج أو احتاج أو ظفر أو خلا بمن يطمئن إليه. ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم فما ظنك بهذه الحياة النبوية التي تعطيك في كل حلقة من حلقاتها مرآة صافية لنفس صاحبها؛ فتريك باطنه من ظاهره، وتريك الصدق والإخلاص ماثلًا في كل قول من أقواله وكل فعل من أفعاله. بل كان الناظر إليه إذا قويت فطنته وحسنت فراسته يرى أخلاقه العالية تلوح في محياه ولو لم يتكلم أو يعمل، ومن هنا كان كثير ممن شرح الله صدورهم للإسلام لا يسألون رسول الله على ما قال برهانًا، فمنهم العشير الذي عرفه بعظمة سيرته؛ ومنهم الغريب الذي عرفه بسيماه في وجهه. قال عبد الله بن سلام -رضي الله عنه: لما قدم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المدينة انجفل الناس إليه، وقيل: "قدم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! " فجئت في الناس لأنظر إليه، فلما استثبت وجه رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب"1. رواه الترمذي بسند صحيح. والآن، وقد وفينا لك الوعد بعرض هذه النماذج من السيرة النبوية، نعود إلى تقرير ما قصدناه من هذا العرض فنقول: إن صاحب هذا الخلق العظيم وصاحب تلك المواقف المتواضعة بإزاء القرآن، ما كان ينبغي لأحد أن يمتري في صدقه حينما أعلن عن نفسه أنه ليس هو واضع ذلك الكتاب، وأن منزلته منه منزلة المتعلم المستفيد، بل كان يجب أن نسجل من هذا الاعتراف البريء دليلًا آخر على صراحته وتواضعه.

_ 1 الترمذي عن عبد الله بن سلام، ك/ صفة القيامة والرقائق والورع، ب/ منه "2409".

المرحلة الأولى من البحث: البحث عن مصدر القرآن

المرحلة الأولى من البحث: البحث عن مصدر القرآن بيان أن القرآن لا يمكن أن يكون إيحاءً ذاتيًّا من نفس محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الأمر أمامنا أوضح من أن يحتاج إلى سماع هذا الاعتراف القولي منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو يتوقف على دراسة تلك الناحية الخلقية من تاريخه. أليس يكفي للحكم ببراءة الإنسان من عمل من الأعمال أن يقوم من طبيعته شاهد بعجزه المادي عن إنتاج ذلك العمل؟ فلينظر العاقل: هل كان هذا النبي الأمي -صلوات الله عليه- أهلًا بمقتضى وسائله العلمية لأن تجيش نفسه بتلك المعاني القرآنية؟ سيقول الجهلاء من الملحدين: نعم؛ فقد كان له من ذكائه الفطري وبصيرته النافذة ما يؤهله لإدراك الحق والباطل من الآراء، والحسن والقبيح من الأخلاق، والخير والشر من الأفعال، حتى لو أن شيئًا في السماء تناله الفراسة أو تلهمه الفطرة أو توحي به الفكرة لتناوله محمد بفطرته السليمة وعقله الكامل وتأملاته الصادقة. ونحن قد نؤمن بأكثر مما وصفوا من شمائله، ولكننا نسأل: هل كل ما في القرآن مما يستنبطه العقل والتفكير، ومما يدركه الوجدان والشعور؟ اللهم كلا، ففي القرآن جانب كبير من المعاني النقلية البحتة التي لا مجال فيه للذكاء والاستنباط، ولا سبيل إلى علمها لمن غاب عنها إلا بالدراسة والتلقي والتعلم. ماذا يقولون فيما قصه علينا القرآن من أنباء ما قد سبق، وما فصله من تلك الأنباء على وجهه الصحيح كما وقع؟ أيقولون: إن التاريخ يمكن وضعه أيضًا بإعمال الفكر ودقة الفراسة؟ أم يخرجون إلى المكابرة العظمى فيقولون: إن محمدًا قد عاصر تلك الأمم الخالية، وتنقل فيها قرنًا، فشهد هذه الوقائع مع أهلها شهادة عيان، أو أنه ورث كتب الأولين وعكف على دراستها حتى أصبح من الراسخين في علم دقائقها؟! إنهم لا يسعهم أن يقولوا هذا ولا ذاك؛ لأنهم معترفون مع العالم كله بأنه عليه السلام لم يكن من أولئك ولا من هؤلاء

{وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} 1 {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} 2 {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ} 3 {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} 4 {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} 5 {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} 6. لا نقول: إن العلم بأسماء بعض الأنبياء والأمم الماضية وبمجمل ما جرى من حوادث التدمير في ديار عاد وثمود وطوفان نوح وأشباه ذلك لم يصل قط إلى الأميين؛ فإن هذه النتف اليسيرة قلما تعزب عن أحد من أهل البدو أو الحضر؛ لأنها مما توارثته الأجيال وسارت به الأمثال، وإنما الشأن في تلك التفاصيل الدقيقة والكنوز المدفونة في بطون الكتب، فذلك هو العلم النفيس الذي لم تنله يد الأميين، ولم يكن يعرفه إلا القليل من الدراسين، وإنك لتجد الصحيح المفيد من هذه الأخبار محررًا في القرآن. حتى الأرقام.. طبق الأرقام: فترى مثلًا في قصة نوح -عليه السلام- في القرآن أنه لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا. وفي سفر التكوين من التوراة أنه عاش تسعمائة وخمسين سنة. وترى في قصة أصحاب الكهف عند أهل الكتاب أنهم لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنة شمسية. وفي القرآن أنهم لبثوا في كهفهم "ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعًا" وهذا السنون التسع هي فرق مابين عدد السنين الشمسية والقمرية. قاله الزجاج يعني بتكميل الكسر. فانظر إلى هذا الحساب الدقيق في أمة أمية لا تكتب ولا تحسب. كفاك بالعلم في الأمي معجزة ... في الجاهلية والتأديب في اليتم نعم؛ إنها لعجيبة حقًّا: رجل أمي بين أظهر قوم أميين، يحضر مشاهدهم -في غير الباطل والفجور- ويعيش معيشتهم مشغولًا برزق نفسه وزوجه وأولاده، راعيًا بالأجر، أو تاجرًا بالأجر، لا صلة له بالعلم والعلماء؛ يقضي في هذا المستوى أكثر من

_ 1 سورة آل عمران: الآية 44. 2 سورة يوسف: الآية 102. 3 سورة القصص: الآية 44 وما بعدها. 4 سورة العنكبوت: الآية 48. 5 سورة هود: الآية 49. 6 سورة يوسف: الآية 3.

أربعين سنة من عمره، ثم يطلع علينا فيما بين عشية وضحاها فيكلمنا بما لا عهد له به في سالف حياته، وربما لم يتحدث إلى أحد بحرف واحد منه قبل ذلك، ويبدي لنا من أخبار تلك القرون الأولى مما أخفاه أهل العلم في دفاترهم وقماطرهم1. أفي مثل هذا يقول الجاهلون: إنه استوحى عقله واستلهم ضميره؟ أي منطق يسوغ أن يكون هذا الطور الجديد العلمي نتيجة طبيعية لتلك الحياة الماضية الأمية؟ إنه لا مناص في قضية العقل من أن يكون لهذا الانتقال الطفري سر آخر يلتمس خارجًا عن حدود النفس وعن دائرة المعلومات القديمة. وإن ملاحدة الجاهلية وهم أجلاف الأعراب في البادية كانوا في الجملة أصدق تعليلًا لهذه الظاهرة وأقرب فهمًا لهذا السر من ملاحدة هذا العصر، إذ لم يقولوا كما قال هؤلاء: إنه استقى هذه الأخبار من وحي نفسه، بل قالوا: إنه لا بد أن تكون قد أمليت عليه منذ يومئذ علوم جديدة، فدرس منها ما لم يكن قد درس، وتعلم ما لم يكن يعلم {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} 2 {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} 3. ولقد صدقوا؛ فإنه درسها، ولكن على أستاذه الروح الأمين، واكتتبها، ولكن من صحف مكرمة مرفوعة مطهرة، بأيدي سفرة، كرام بررة {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} 4. ذلك شأن ما في القرآن من الأنباء التاريخية، لا جدال في أن سبيلها النقل لا العقل، وأنها تجيء من خارج النفس لا من داخلها. فأما سائر العلوم القرآنية فقد يقال: إنها من نوع ما يدرك بالعقل، فيمكن أن ينالها الذكي بالفراسة أو بالروية، وهذا كلام قد يلوح حقًّا في بادئ الرأي، ولكنه لا يلبث

_ 1 القماطر: جمع مفرده: القمطر، وهو ما تصان به الكتب. 2 سورة الأنعام: الآية 105. 3 سورة الفرقان: الآية 5. 4 سورة يونس: الآية 16.

أن ينهار أمام الاختبار. ذلك أن العقول البشرية لها في إدراك الأشياء طريق معين تسلكه، وحد محدود تقف عنده ولا تتجاوزه. فكل شيء لم يقع تحت الحس الظاهر أو الباطن مباشرة، ولم يكن مركوزًا في غريزة النفس، إنما يكون إدراك العقول إياه عن طريق مقدمات معلومة توصل إلى ذلك المجهول، إما بسرعة كما في الحدس, وإما ببطء كما في الاستدلال والاستنباط والمقايسة. وكل ما لم تمهد له هذه الوسائل والمقدمات لا يمكن أن تناله يد العقل بحال، وإنما سبيله الإلهام، أو النقل عمن جاءه ذلك الإلهام. فهل ما في القرآن من المعاني غير التاريخية كانت حاضرة الوسائل والمقدمات في نظر العقل؟ ذلك ما سيأتيك نبؤه بعد حين، ولكننا نعجل لك الآن بمثالين من تلك المعاني نكتفي بذكرهما هنا عن إعادتهما بعد: "أحدهما" قسم العقائد الدينية. "والثاني" قسم النبوءات الغيبية. الحقائق الدينية الغيبية لا سبيل للعقل إليها: فأما أمر الدين فإن غاية ما يجتنبه العقل من ثمرات بحثه المستقل فيه، بعد معاونة الفطر السليمة له، هو أن يعلم أن فوق هذا العالم إلهًا قاهرًا دبره، وأنه لم يخلقه باطلًا، بل وضعه على مقتضى الحكمة والعدالة، فلا بد أن يعيده كرة أخرى؛ لينال كل عامل جزاء عمله؛ إن خيرًا وإن شرًّا. هذا هو كل ما يناله العقل الكامل من أمر الدين، ولكن القرآن لا يقف في جانبه عند هذه المرحلة، بل نراه يشرح لنا حدود الإيمان مفصلة، ويصف لنا بدء الخلق ونهايته، ويصف الجنة وأنواع نعيمها، والنار وألوان عذابها، كأنهما رأي عين، حتى إنه ليحصي عدة الأبواب، وعدة الملائكة الموكلة

بتلك الأبواب، فعلى أية نظرية عقلية بنيت هذه المعلومات الحسابية، وتلك الأوصاف التحديدية؟ إن ذلك ما لا يوحي به العقل بتة، بل هو إما باطل فيكون من وحي الخيال والتخمين، وإما حق فلا ينال إلا بالتعليم والتلقين، لكنه الحق الذي شهدت به الكتب واستيقنه أهلها {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} 1 {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} 2 {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} 3 {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 4. أنباء المستقبل لا سبيل فيها لليقين إلا بالوحي الصادق: أما النبوءات الغيبية فهل تعرف كيف يحكم فيها ذو العقل الكامل؟ إنه يتخذ من تجاربه الماضية مصباحًا يكشف على ضوئه بضع خطوات من مجرى الحوادث المقبلة، جاعلًا الشاهد من هذه مقياسًا للغائب من تلك، ثم يصدر فيها حكمه محاطًا بكل تحفظ وحذر، قائلًا: "ذلك ما تقضي به طبيعة الحوادث لو سارت الأمور على طبيعتها ولم يقع ما ليس في الحسبان". أما أن بيتَّ الحكم بتًّا ويحدده تحديدًا حتى فيما لا تدل عليه مقدمة من المقدمات العلمية، ولا تلوح منه أمارة من الأمارات الظنية العادية، فذلك ما لا يفعله إلا أحد رجلين: إما رجل مجازف لا يبالي أن يقول الناس فيه: صَدَقَ أو كَذَبَ، وذلك هو دأب جهلاء المتنبئين من العرافين والمنجمين، وإما رجل اتخذ عند الله عهدًا فلن يخلف الله عهده، وتلك هي سنة الأنبياء والمرسلين، ولا ثالث لهما إلا

_ 1 سورة المدثر: الآية 31. 2 سورة الشورى: الآية 52. 3 سورة ص: الآية 69. 4 سورة يونس: الآية 37.

رجلًا روى أخباره عن واحد منهما. فأي الرجلين تراه في صاحب هذا القرآن حينما يجيء على لسانه الخير الجازم بما سيقع بعد عام وما سيقع في أعوام، وما سيكون أبد الدهر، وما لن يكون أبد الدهر؟ ذلك وهو لم يتعاطَ علم المعرفة والتنجيم، ولا كانت أخلاقه كأخلاقهم تمثل الدعوى والتقحم، ولا كانت أخباره كأخبارهم خليطًا من الصدق والكذب، والصواب والخطأ، بل كان مع براءته من علم الغيب وقعوده عن طلبه وتكلفه، يجيئه عفوًا ما تعجز صروف الدهر وتلقلباته في الأحقاب المتطاولة أن تنقض حرفًا واحدًا مما ينبئ به {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 1. أمثلة من النبوءات القرآنية: لنسرد لك ها هنا بعض النبوءات القرآنية مع بيان شيء من ملابساتها التاريخية؛ لترى هل كانت مقدماتها القريبة أو البعيدة حاضرة فتكون تلك النبوءات من جنس ما توحي به الفراسة والألمعية؟ وسنحصر الكلام في ثلاثة أنواع: 1- ما يتعلق بمستقبل الإسلام وكتابه ورسوله. 2- ما يتصل بمستقبل المؤمنين. 3- ما يتصل بمستقبل المعاندين. 1- فيما يتصل بمستقبل الإسلام: مثال هذا ما جاء في بيان أن هذا الدين قد كتب الله له البقاء والخلود، وأن هذا القرآن قد ضمن الله حفظه وصيانته {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} 2 {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} 3 {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 4 أتعلم

_ 1 سورة فصلت: الآية 41 وما بعدها. 2 سورة الرعد: الآية 17. 3 سورة إبراهيم: الآية 24. 4 سورة الحجر: الآية 9.

متى وأين صدرت هذه البشارات المؤكدة، بل العهود الوثيقة؟ إنها آيات مكية من سور مكية. وأنت قد تعرف ما أمر الدعوة المحمدية في مكة؟. عشر سنوات كلها إعراض من قومه عن الاستماع لقرآنه، وصد لغيرهم عن الإصغاء له، واضطهاد وتعذيب لتلك الفئة القليلة التي آمنت به، ثم مقاطعة له ولعشيرته ومحاصرتهم مدة غير يسيرة في شعب من شعاب مكة، ثم مؤامرات سرية أو علنية على قتله أو نفيه. فهل للمرء أن يلمح في ثنايا هذا الليل الحالك الذي طوله عشرة أعوام، شعاعًا ولو ضئيلًا من الرجاء أن يتنفس صبحه عن الإذن لهؤلاء المظلومين برفع صوتهم وإعلان دعوتهم؟ ولو شام المصلح تلك البارقة من الأمل في جوانب نفسه من طبيعة دعوته، لا في أفق الحوادث، فهل يتفق له في مثل هذه الظروف أن يربو في نفسه الأمل حتى يصير حكمًا قاطعًا؟ وهبه امتلأ رجاءً بظهور دعوته في حياته ما دام يتعهدها بنفسه، فمن يتكفل له بعد موته ببقاء هذه الدعوة وحمايتها وسط أمواج المستقبل العاتية؟ وكيف يجيئه اليقين في ذلك وهو يعلم من عبر الزمان ما يفت في عضد هذا اليقين؟ فكم من مصلح صرخ بصيحات الإصلاح فما لبثت أصواته أن ذهبت أدراج الرياح. وكم من مدينة قامت في التاريخ ثم عفت ودرست آثارها. وكم من نبي قتل. وكم من كتاب فُقد أو انتُقص أو بُدل. وهل كان محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ممن تستخفه الآمال فيجري مع الخيال؟ إنه ما كان قبل نبوته يطمع في أن يكون نبيًّا يوحي إليه {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} 1 ولا كان بعد نبوته يضمن لنفسه أن يبقى هذا الوحي محفوظًا لديه {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا، إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا} 2.

_ 1 سورة القصص: الآية 86. 2 سورة الإسراء: الآية 86 وما بعدها.

فلا بد إذًا من كفيل بهذا الحفظ من خارج نفسه. ومن ذا الذي يملك هذا الضمان على الدهر المنقلب المملوء بالمفاجآت؟ إلا رب الدهر الذي بيده زمام الحوادث كلها، والذي قدر مبدأها ومنتهاها، وأحاط علمًا بمجراها ومرساها. فلولا فضل الله ورحمته الموعود بهما في الآية الآنفة لما استطاع القرآن أن يقاوم تلك الحروب العنيفة التي أقيمت ولا تزال تقام عليه بين آن وآن. سل التاريخ: كم مرة تنكر الدهر لدول الإسلام، وتسلط الفجار على المسلمين فأثخنوا فيهم القتل، وأكرهوا أممًا منهم على الكفر، وأحرقوا الكتب، وهدموا المساجد، وصنعوا ما كان يكفي القليل منه لضياع هذا القرآن؛ كُلًّا أو بعضًا؛ كما فعل بالكتب قبله؛ لولا أن يد العناية تحرسه فبقي في وسط هذه المعامع رافعًا راياته، وأعلامه. حافظًا آياته وأحكامه، بل اسأل صحف الأخبار اليومية: كم من القناطير المقنطرة من الذهب والفضة تنفق في كل عام لمحو هذا القرآن وصد الناس عن الإسلام بالتضليل والبهتان والخداع والإغراء، ثم لا يظفر أهلها من وراء ذلك إلا بما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} 1. ذلك بأن الذي يمسكه أن يزول هو الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا. ذلك بأن الله {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} 2، 3 والله بالغ أمره، ومتم نوره، فظهر وسيبقى ظاهرًا لا يضره من خالفه حتى يأتي أمر الله.

_ 1 سورة الأنفال: الآية 36. 2 سورة الصف: الآية 9. 3 سورة التوبة: الآية 33.

"ومثال آخر" ما جاء في التحدي بهذا القرآن وتعجيز العالم كله عن الإتيان بمثله {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} 1 {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} 2. فانظر هذا النفي المؤكد، بل الحكم المؤبد! هل يستطيع عربي يدري ما يقول أن يصدر هذا الحكم وهو يعلم أن مجال المساجلات بين العرب مفتوح على مصراعيه، وأن الناقد المتأخر متى أعمل الروية في تعقب قول القائل المتقدم لا يعييه أن يجد فيه فائتًا ليستدرك؛ أو ناقصًا ليكمل، أو كلامًا ليزدد كمالًا؟ ألم يكن يخشى بهذا التحدي أن يثير حميتهم الأدبية فيهبوا لمنافسته وهم جميع حذرون؟ وماذا عساه يصنع لو أن جماعة من بلغائهم تعاقدوا على أن يضع أحدهم صيغة المعارضة، ثم يتناولها سائرهم بالإصلاح والتهذيب كما كانوا يصنعون في نقد الشعر، فيكمل ثانيهم ما نقصه أولهم، وهكذا، حتى يخرجوا كلامًا إن لم يبزه فلا أقل من أن يساميَه ولو في بعض نواحيه؟ ثم لو طوعت له نفسه أن يصدر هذا الحكم على أهل عصره فكيف يصدره على الأجيال القادمة إلى يوم القيامة، بل على الإنس والجن؟ إن هذه مغامرة لا يتقدم إليها رجل يعرف قدر نفسه إلا وهو مالئٌ يديه من تصاريف القضاء، وخبر السماء، وهكذا رماها بين أظهر العالم، فكانت هي القضاء المبرم سُلَّط على العقول والأفواه، فلم يهم بمعارضته إلا باء بالعجز الواضح، والفشل الفاضح، على مر العصور والدهور. "ومثال ثالث" تلك الآية التي يضمن الله بها لنبيه حماية شخصه والأمن على حياته حتى يبلِّغَ رسالات ربه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} 3.

_ 1 سورة الإسراء: الآية 88. 2 سورة البقرة: الآية 24. 3 سورة المائدة: الآية 67.

إن هذا وايم الله -ضمان لايملكه بشر، ولو كان مَلَكًا محجبًا تسير الحفظة من بين يديه ومن خلفه. فكم رأينا ورأى الناس من الملوك والعظماء من اختطفتهم يد الغيلة وهم في مواكبهم تحيط بهم الجنود والأعوان. ولكن انظر مبلغ ثقة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بهذا الوعد الحق: روى الترمذي والحاكم عن عائشة، وروى الطبراني عن أبي سعيد الخدري قال: كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يحرس بالليل، فلما نزلت هذه الآية ترك الحرس وقال: "يأيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله" 1. وحقًّا لقد عصمه الله منهم في مواطن كثيرة كان خطر الموت فيها أقرب إليه من شراك نعله، ولم يكن له فيها عاصم إلا الله وحده. من ذلك ما رواه ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة، ورواه مسلم في صحيحه عن جابر قال: كنا إذا أتينا في سفرنا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلما كنا بذات الرقاع نزل نبي الله تحت شجرة وعلق سيفه فيها. فجاء رجل من المشركين فأخذ السيف فاخترطه2 وقال للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أتخافني؟ قال: $"لا". قال: فمن يمنعك مني؟ قال: "الله يمنعني منك، ضع السيف" 3 فوضعه. وحسبك أن تعلم أن هذا الأمن كان في الغزوة التي شرعت فيها صلاة الخوف. ومن أعظم الوقائع تصديقًا لهذا النبأ الحق ذلك الموقف المدهش الذي وقفه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في غزوة حنين، منفردًا بين الأعداء، وقد انكشف المسلمون وولوا مدبرين، فطفق هو يركض ببغلته إلى جهة العدو، والعباس بن عبد المطلب آخذ بلجامها يكفها إرادة ألا تسرع، فأقبل المشركون إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلما غشوه لم يفر ولم ينكص، بل نزل

_ 1 رواه الترمذي عن عائشة، ك/ تفسير القرآن، ب/ ومن سورة المائدة "2972". 2 اخترط السيف: استله من غمده. 3 رواه البخاري عن جابر بن عبد الله، ك/ المغازي، ب/ غزوة ذات الرقاع "3822". ومسلم عن جابر بن عبد الله، ك/ صلاة المسافرين وقصرها، ب/ صلاة الخوف "1391".

عن بغلته كنما يمكنهم من نفسه، وجعل يقول: "أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب" 1 كأنما يتحداهم ويدلهم على مكانه، فو الله ما نالوا نيلًا، بل أيده الله بجنده، وكف عنه أيديهم بيده. رواة الشيخان عن البراء ابن عازب ورواه مسلم عن العباس وسلمة بن الأكوع ورواه أحمد وأصحاب السنن عن غيرهم أيضاً. وهكذا أمتع الله به أمته فلم يقبضه إليه حتى بلغ الرسالة وأدى الأمانة، وحتى أنزل عليه قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} 2. 2- فيما يتصل بمستقبل المؤمنين: "وإليك مثالًا من النوع الثاني". كان القرآن في مكة يقص على المسلمين من أنباء الرسل ما يثبت فؤادهم، ويعدهم الأمن والنصر الذي كان لمن قبلهم {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} 3 {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} 4 فلما هاجروا إلى المدينة فرارًا بدينهم من الفتن ظنوا أنهم قد وجدوا مأمنهم في مهاجرهم، ولكنهم ما لبثوا أن هاجمتهم الحروب المسلحة من كل جانب، فانتقلوا من خوف إلى خوف أشد. وأصبحت كل أمنيتهم أن يجيء يوم يضعون فيه أسلحتهم، وفي هذه الأوقات العصيبة ينبئهم القرآن بما سيكون لهم من الخلافة والملك، علاوة على الأمن والاطمئنان، فما هذا؟ أأحلام وأماني؟ لا، بل وعد مؤكد بالقسم: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ

_ 1 رواه البخاري عن البراء بن عازب، ك/ الجهاد والسير، ب/ من قاد دابة غيره في الحرب، ومسلم عن البراء، ك/ الجهاد والسير، ب/ في غزوة حنين "2653"، ورواه مسلم -أيضًا- عن العباس وسلمة بن الأكوع، ورواه أحمد وأصحاب السنن عن غيرهم. 2 سورة المائدة: الآية 3. 3 سورة الصافات: الآية 171. 4 سورة غافر: الآية 51.

وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} 1. روى الحاكم وصححه عن أبي بن كعب قال: لما قدم رسولُ الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابُه المدينةَ وآوَتْهُمُ الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة. وكانوا لا يبيتون إلا بالسلاح ولا يصبحون إلا فيه، فقالوا: أترون أنا نعيش نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله؟ فنزلت الآية. وروى ابن أبي حاتم عن البراء قال: نزلت هذه الآية ونحن في خوف شديد. فانظر كيف جاء تأويلها على أوسع معانيها في عصر الصحابة أنفسهم الذين وقع لهم خطاب المشافهة في قوله: {مِنْكُمْ} فبُدلوا من بعد خوفهم أمنًا لا خوف فيه، واستخلفوا في أقطار الأرض فورثوا مشارقها ومغاربها. وتأمل قوله في هذه الآية {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} وقوله في الآية الآخرى {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} 2 تجد فيها نبأً آخر عن سر ما يبتلى به المؤمنون أحيانًا من انتقاص أرضهم وتسلط أعدائهم عليهم {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} 3 {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} 4.

_ 1 سورة النور: الآية 55. 2 سورة الحج: الآية 40 وما بعدها. 3 سورة آل عمران: الآية 165. 4 سورة الأنفال: الآية 53.

"وإليك مثالًا آخر": مُنع المسلمون من دخول مكة عام الحديبية، واشترطت عليهم قريش إذا جاءوا في العام المقبل أن يدخلوها عزلًا من كل سلاح إلا السيوف في القُرُب، فهل كان لهم أن يثقوا بوفاء المشركين بعقدهم وقد بلوا منهم نكث العهود وقطع الأرحام وانتهاك شعائر الله؟ أليسوا اليوم يحبسون هديهم أن يبلغ محله؟ فماذا هم صانعون غدًا؟ على أنهم لو صدقوا في تمكين المسلمين من الدخول فكيف يأمن المسلمون جانبهم إذا دخلوا عليهم دارهم مجردين من دروعهم وقوتهم، ألا تكون هذه مكيدة يراد منها استدراجهم إلى الفخ؟ وآية ذلك اشتراط تجردهم من السلاح إلا السيف في القراب، وهو سلاح قد يطمئن به المسلمون إلى أنهم لن ينالوهم بأيديهم ورماحهم، ولكنه لا يأمنون معه أن ينالوهم بسهامهم ونبالهم، في هذه الظروف المريبة يجيئهم الوعد الجازم بالأمور الثلاثة مجتمعة: الدخول، والأمن، وقضاء الشعيرة {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ} 1 فدخلوها في عمرة القضاء آمنين، ولبثوا فيها ثلاثة أيام حتى أتموا عمرتهم وقضوا مناسكهم.. الحديث أخرجه الشيخان2. "ومثالًا ثالثًا": كان المشركون يجادلون المسلمين في مكة قبل الهجرة، يقولون لهم: إن الروم يشهدون أنهم أهل كتاب، وقد غلبتهم المجوس، وأنتم تزعمون أنكم ستغلبوننا بالكتاب الذي أنزل عليكم، فسنغلبكم كما غلبت فارس الروم؛ فنزلت الآية {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ

_ 1 سورة الفتح: الآية 27. 2 البخاري عن المسور بن مخرمة ومروان، ك/ الشروط، ب/ الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب "2529".

فِي بِضْعِ سِنِينَ} 1. لقد كان الإخبارُ بهذا النصر وبأنه كائن في وقت معين إخبارًا بأمرين كل منهما خارج عن متناول الظنون، ذلك أن دولة الروم كانت قد بلغت من الضعف حدًّا يكفي من دلائله أنها غزيت في عقر دارها وهزمت في بلادها كما قال تعالى: {فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} ، فلم يكن أحد يظن أنها تقوم لها بعد ذلك قائمة، فضلًا عن أن يحدد الوقت الذي سيكون لها فيه النصر؛ ولذلك كذب به المشركون وتراهنوا على تكذيبه، على أن القرآن لم يكتف بهذين الوعدين، بل عززهما بثالث، حين يقول: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ} إشارة إلى أن اليوم الذي يكون فيه النصر هناك للروم على الفرس سيقع فيه ها هنا نصر للمسلمين على المشركين، وإذا كان كل واحد من النصرين في حد ذاته مستبعدًا عند الناس أشد الاستبعاد فكيف الظن بوقوعهما مقترنين في يوم؟ لذلك أكده أعظم التأكيد بقوله: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} 2. ولقد صدق الله وعده، فتمت للروم الغلبة على الفرس، بإجماع المؤرخين في أقل من تسع سنين3. وكان يوم نصرها هو اليوم الذي وقع فيه النصر للمسلمين على المشركين في غزوة بدر الكبرى، كما رواه الترمذي عن أبي سعيد، ورواه الطبري عن ابن عباس وغيره.

_ 1 سورة الروم: 1- 4. 2 رواه الترمذي عن أبي سعيد، ك/ تفسير القرآن، ب/ ومن سورة الروم "3116". 3 رب قائل يقول: هلا حدد القرآن عدد السنين بلفظ أصرح من لفظ البضع المتراوح بين الثلاث والتسع، أليس الله بأعلم بيوم النصر وساعته، بله سنته؟ فنقول: بلى، ولكن الناس في اصطلاحهم الحسابي لا يجرون على طريقة واحدة، فمنهم من يحسب الشمس، ومنهم من يحسب القمر، ومنهم من يكمل الكسور، ومنهم من يلغيها، فكان مقتضى الحكمة التعبير باللفظ الصادق على كل تقدير ليكون أقطع لكل شبهة، وأبعد عن كل جدل ومكابرة، ثم إنه ربما تراخى الأمر بين بشائر النصر ووقائعه الفاصلة فيقع اختلاف الحسابين في تعيين الوقت الذي يضاف إليه النصر والغلبة. ولذا حسن التعبير بلفظ "في بضع" دون أن يقال: بعد بضع.

3- فيما يتصل بمستقبل المعاندين: وهذه أمثلة من النوع الثالث: استعصى أهل مكة على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فدعا عليهم بسنين كسني يوسف، فانظر ما قاله القرآن في جواب هذا الدعاء: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ، يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} 1 فماذا جرى؟ أصابهم القحط حتى أكلوا العظام، وحتى جعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد. رواه البخاري عن ابن مسعود. ثم انظر قوله بعد ذلك: {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ، يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} 3 تَرَ فيها ثلاث نبوءات أخرى: كشف البؤس عنهم، ثم عودتهم إلى مكرهم السيئ، ثم الانتقام منهم بعد ذلك، وقد كان ذلك كله كما بينه الحديث الصحيح المذكور، فإنهم لما جاءوا إلى رسول الله يستسقون وتضرعوا إلى الله: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} 4 سقاهم الله فأخصبوا، ولكنهم سرعان ما عادوا إلى عتوهم واستكبارهم، فبطش الله بهم البطشة الكبرى يوم بدر، حيث قُتل من صناديدهم سبعون، وأُسر سبعون. فتارة يأتي محملًا كما في قوله: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ} 5 وقوله {فتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ، وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} 6. وتارة يعين نوع العذاب بأنه الهزيمة الحربية كما في قوله: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} 7. وهذا كما ترى من عجيب الأنباء في مكة، حيث لا مجال لأصل فكرة

_ 1 سورة الدخان: الآية 10 وما بعدها. 2 سورة الدخان: الآية "15- 16". 3 رواه مسلم عن مسروق، ك/ صفة القيامة والجنة والنار "5007". 4 سورة الدخان: الآية 12. 5 سورة الرعد: الآية 31. 6 سورة الصافات: الآية 174 وما بعدها. 7 سورة القمر: الآية 45، ونحوها ما ورد في سورة المزمل وهي من أوائل ما نزل في مكة {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المزمل: 20] .

الحرب والتقاء الجموع، فضلًا عن توقع فرارها وهزيمتها، حتى إن عمر -رضي الله عنه- لما نزلت هذه الآية جعل يقول: أي جمع هذا؟ قال: فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقولها. رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه، وعجزه في الصحيحين. وتارة ينص على حوادث جزئية محددة منه -وهذا أعجب وأغرب- كما في قوله في شأن الرجل الزنيم1 الذي كان يقول في القرآن: إنه أساطير الأولين {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} 2 فأصيب بالسيف في أنفه يوم بدر. وكان ذلك علامة له يعيَّر بها ما عاش. رواه الطبري وغيره عن ابن عباس. ونظير هذه الأنباء في كفار قريش ما ورد في كفار اليهود. انظر كيف يقول فيهم: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} 3 وقد فعل. ثم يقول: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} 4. ويقول: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} 5. فيا عجبًا لهذه الآيات! هل كانت مؤلفة من حروف وكلمات؟ أم كانت أغلالًا وضعت في أعناقهم إلى الأبد، وأصفادًا شدت بها أيديهم فلا فكاك؟ ألا تراهم منذ صدرت عليهم هذه الأحكام أشتاتًا في كل واد، أذلاء في كل ناد، لم تقم لهم في عصر من العصور دولة، ولم تجمعهم قط بلدة، وهم اليوم على الرغم من تضخم ثروتهم المالية إلى ما يقرب من نصف الثروة العالمية لا يزالون مشردين ممزقين عاجزين عن أن

_ 1 المشهور أنه هو الوليد بن المغيرة المخزومي الذي نزل فيه {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} الآيات من سورة المدثر 74: 11. 2 سورة ن: الآية 16. 3 سورة آل عمران: الآية 111 وما بعدها. 4 سورة آل عمران: الآية 112. 5 سورة الأعراف: الآية 167.

يقيموا لأنفسهم دويلة كأصغر الدويلات. بل تراهم في بلاد الغرب المسيحية يسامون أنواع الخسف والنكال، ثم تكون عاقبتهم الجلاء عنها مطرودين، وبلاد الإسلام التي هي أرحب أرض الله صدرًا، إنما تقبلهم رعية محكومين لا سادة حاكمين. وهل أتاك آخر أنبائهم؟ لقد زينت الآن لهم أحلامهم أن يتخذوا من "الأرض المقدسة" وطنًا قوميًّا تأوي إليه جالياتهم من أقطار الأرض، حتى إذا ما تألف هنالك شعب ملتئم الشمل وطال عليهم الأمد فلم يزعجهم أحد، سعوا إلى رفع هذا العار التاريخي عنهم بإعادة ملكهم القديم في تلك البلاد. وعلى برق هذا الأمل أخذ أفواج منهم يهاجرون إليها زرافاتٍ ووحدانًا، وينزلون بها خفافًا أو ثقالًا.. فهل استطاعوا أن يتقدموا هذه الخطوة الأولى -أو لعلها الأولى والأخيرة- مستندين إلى قوتهم الذاتية؟ كلا، ولكن مستندين إلى "حبل من الناس!! " فماذا تقول؟ قل: صدق الله، ومن أصدق من الله حديثًا، أما ظنهم الذي يظنون وهو أنهم بمزاحمتهم للسكان في أرضهم وديارهم يمهدون لما يحلمون به من مزاحمتهم بعد في ملكهم وسلطانهم، فذلك ما دونه خرط القتاد، يريدون أن يبدلوا كلام الله، ولا مبدل لكلماته {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} 1 {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} 2. فانظر إلى عجيب شأن النبوءات القرآنية كيف تقتحم حجب المستقبل قريبًا وبعيدًا، وتتحكم في طبيعة الحوادث توقيتًا وتأييدًا، وكيف يكون الدهر مصداقًا لها فيما قل وكثر، وفيما قرب وبعد؟ بل انظر إلى جملة ما في القرآن من النواحي الإخبارية كيف يتناول بها محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما

_ 1 سورة النساء: الآية 53. 2 سورة البروج: الآية 20.

وراء حسه وعقله من أنباء ما كان وما سيكون وما هو كائن، وكيف أنه كلما حدثنا فيها عن الماضي صدقته شواهد التاريخ، وكلما حدثنا عن المستقبل صدقته الليالي والأيام، وكلما حدثنا عن الله وملائكته وشئون غيبه صدقته الأنبياء والكتب. ثم اسأل نفسك بعد ذلك "أترين هذا الرجل الأمي جاء بهذا الحديث كله من عند نفسه؟ ".. تسمع منها جواب البديهة الذي لا تردد فيه "إنه لا بد أن يكون قد استقى هذه الأنباء من مصدر علمي وثيق، واعتمد فيها على اطلاع واسع ودرس دقيق. ولا يمكن أن تكون تلك الأنباء كلها وليدة عقله وثمرة ذكائه وعبقريته" وإلا فأين هذا الذكي أو العبقري الذي أعطاه الدهر عهدًا بأن يكون عاصمًا لظنونه كلها من الخطأ في كشف وقائع الماضي مهما قدم، وأنباء المستقبل مهما بعد؟ إن الأنبياء أنفسهم -وهم في الطبقة العليا من الذكاء والفطنة بشهادة الكافة- لم يظفروا من الدهر بهذا العهد في أقرب الحوادث إليهم، فقد كانوا فيما عدا تبليغ الوحي إذا اجتهدوا رأيهم فيما غاب عن مجلسهم أصابت فراستهم حينًا وأخطأت حينًا. هذا يعقوب -عليه السلام- نراه يتهم بنيه حين جاءوا على قميصه بدم كذب، ثم يعود فيتهمهم حين قالوا له: إن ابنك سرق، فيقول لهم في كل مرة: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} 1 وقد أصاب في الأولى، ولكنه في الثانية اتهمهم وهم برآء. وهذا موسى -عليه السلام- نراه يقول للعبد الصالح {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} 2 ثم ينسى فلا يطيق معه صبرًا ولا يطيع له أمرًا. وهذا محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان ربما هم الناس أن يضللوه في الأحكام، فيدافع عن المجرم ظنًّا أنه برئ، حتى ينبئه العليم الخبير.

_ 1 سورة يوسف: الآية 18 والآية 83. 2 سورة الكهف: الآية 69.

فإن كنت في شك من ذلك فاقرأ قوله تعالى: {وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا، وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} 1. وقد صح في سبب نزولها أن لصًّا عدا ذات ليلة على مشربة لرجل من الأنصار يقال له رفاعة، فنقب مشربته، وسرق ما فيها من طعام وسلاح، فلما أصبح الأنصاري افتقد متاعه حتى أيقن أنه في بيت بني أبيرق، وكان فيهم منافقون، فبعث ابن أخيه إلى النبي يشكو إليه، فقال صلّى الله عليه وسلم: "سأنظر في ذلك". فلما سمع بذلك بنو أبيرق جاءوا إلى النبي فقالوا: يا رسول الله، إن قتادة بن النعمان وعمه رفاعة عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت. فجاء قتادة فقال له النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يا قتادة، عمدت إلى أهل بيت ذُكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة على غير ثبت وبينة! " فرجع قتادة إلى عمه فأخبره، فقال عمه: الله المستعان. ثم لم تلبث أن نزلت الآية تبين للنبي خيانة بني أبيرق، وتأمره بالاستغفار مما قال لقتادة. الحديث رواه الترمذي2، وقال الحاكم صحيح على شرط مسلم. بل اسمع قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن نفسه فيما يرويه أحمد وابن ماجه: "إنما أنا بشر مثلكم، وإن الظن يخطئ ويصيب، ولكن ما قلت لكم " قال الله" فلن أكذب على الله"3 وقوله "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار، فليأخذها أو ليتركها" 4 رواه مالك والشيخان وأصحاب السنن. فمن كان هكذا عاجزًا بنفسه عن إدراك حقيقة ما وقع بين خصمين في زمنه وفي

_ 1 سورة النساء: الآيات من 105 إلى 113. 2 الترمذي عن قتادة بن النعمان، ك/ تفسير القرآن، ب/ ومن سورة النساء "2962". 3 ابن ماجه عن طلحة بن عبيد الله عن أبيه، ك/ الأحكام، ب/ تلقيح النخل "2461". 4 البخاري عن عروة بن الزبير، ك/ الأحكام من قضي له بحق أخيه فلا يأخذه فإنه قضاء "6645".

بلده، وقد رأى أشخاصهما وسمع أقوالهما، هو بلا شك أشد عجزًا عن إدراك ما فات، وما هو آت. تلك هي شقة الغيب تنطفئ عندها مصابيح الفراسة والذكاء، فلا يدنو العقل منها إلا وهو حاطب ليل وخابط عشواء: إن أصاب الحق مرة أخطأه مرات، وإن أصابه مرات أخطأه عشرات، على أن الذي يصادفه الصواب لا يمكن الوثوق ببقائه معصومًا من التغيير والتبديل، بل عسى أن تذهب به ريح المصادفة كما جاءت به ريح المصادفة {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} 1.

_ 1 سورة النساء: الآية 82.

المرحلة الثانية من البحث بيان أن محمدا -صلى الله عليه وسلم- لا بد أن يكون أخذ القرآن عن معلم:

المرحلة الثانية من البحث بيان أن محمدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا بد أن يكون أخذ القرآن عن معلم: البحث في الأوساط البشرية عن ذلك. لا مناص إذًا للباحث عن مصدر القرآن من توسيع دائرة بحثه، فإذ لم يظفر بمطلبه عند صاحب القرآن في ناحية عقله وفراسته، وجب أن يلتمسه -وأن يظفر به حتمًا- في ناحية تعليمه ودراسته؛ لأن المتكلم بكلام ما لا يعدو أن يكون قائلًا له أو ناقلًا. ولا ثالث لهما. نعم؛ إن صاحب هذا القرآن لم يكن ممن يرجع بنفسه إلى كتب العلم ودواوينه، لأنه باعتراف الخصوم كما ولد أميًّا نشأ أميًّا وعاش أميًّا، فما كان يومًا من الأيام يتلو كتابًا في قرطاس ولا يخطه بيمينه، فلا بد له من معلم يكون قد وقفه على هذه المعاني لا بطريق الكتابة والتدوين بل بطريق الإملاء والتلقين، هذا هو حكم المنطق. سنقول: فمن هو ذلك المعلم؟ نقول: هذا هو الشطر الثاني من مسألة القرآن. وأنت إذا تأملت فيما سقناه لك من البراهين على الشطر الأول وجدت بجانب كل منها برهانًا آخر على هذا الشطر الثاني، وعرفت من ذلك المعلم؟ غير أننا نحب أن نزيدك به معرفة؛ حتى تقول معنا فيه: "ما هذا بشرًا، إن هذا إلا ملك كريم، مبلغ عن رب العالمين". البحث عنه بين الأميين: أما أن محمدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يكن له معلم من قومه الأميين فذلك ما لا شبهة فيه لأحد، ولا

نحسب أحدًا في حاجة إلى الاستدلال عليه بأكثر من اسم "الأمية" الذي يشهد عليهم بأنهم كانوا خرجوا من بطون أمهاتهم لا يعلمون من أمر الدين شيئًا، وكذلك اسم "الجاهلية" الذي كان أخص الألقاب بعصر العرب قبل الإسلام، فهؤلاء الذين فقدوا أساس هذا العلم في أنفسهم حتى اشتُق لهم من الجهل اسم، كيف يحملون وسام التعليم فيه لغيرهم، بله التعليم لمعلمهم الذي وسمهم بالجهل غير مرة في كتابه، وسرد جهالاتهم في غير سورة من هذا الكتاب، حتى قيل: إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما بعد المائة من سورة الأنعام. وأما أنه لم يكن له معلم من غيرهم فحسب الباحث فيه أن نحيله على التاريخ وندعه يقلب صفحات القديم منه والحديث، والإسلامي منه والعالمي، ثم نسأله: هل قرأ فيه سطرًا واحدًا؟ يقول: إن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب لقي قبل إعلان نبوته فلانًا من العلماء فجلس إليه يستمع من حديثه عن علوم الدين، ومن قصصه عن الأولين والآخرين. ليس علينا أن نقيم برهانًا أكبر من هذا التحدي لإثبات أن ذلك لم يكن، وإنما على الذين يزعمون غير ذلك أن يثبتوا أن ذلك قد كان، فإن كان عندهم علم فليخرجوه لنا إن كانوا صادقين. البحث عنه بين أهل العلم: لا نقول: إنه عليه السلام لم يلق ولم ير بعينه أحدًا من علماء هذا الشأن لا قبل دعوى النبوة ولا بعدها. فنحن قد نعرف أنه رأى في طفولته راهبًا اسمه بحيرا في سوق بُصرَى بالشام، وأنه لقي في مكة نفسها عالمًا اسمه ورقة بن نوفل، وكان هذا على إثر مجيء الوحي العلني، له وقبل إعلان نبوته بثلاثين شهرًا، كما نعرف أنه لقي بعد إعلان نبوته كثيرًا من علماء اليهود والنصارى في المدينة. ولكننا ندعي دعوى محدودة، نقول: إنه لم يتلقَّ عن أحد من هؤلاء العلماء لا قبل ولا بعد، وإنه قبل نبوته لم يسمع منهم

شيئًا من هذه الأحاديث البتة. أما الذين لقوه بعد النبوة فقد سمع منهم وسمعوا منه. ولكنهم كانوا له سائلين وعنه آخذين، وكان هو لهم معلمًا وواعظًا ومنذرًا ومبشرًا. وأما الذين رآهم قبل فإن لقائه إياهم لم يكن سرًّا مستورًا، بل كان معه في كل مرة شاهد: فكان عمه أبو طالب رفيقًا له حين رأى راهب الشام، وكانت زوجه خديجة رفيقة له حين لقي ورقة، فماذا سمعه هذان الرفيقان من علوم الأستاذين؟ هلا حدثنا التاريخ بخبر ما جرى؟ وما له لا يحدثنا هذا الحديث العَجَب الذي جمع في تلك اللحظة القصيرة علوم القرآن وتفاصيل أخباره فيما بين بداية العالم ونهايته!! ولماذا لم يتخذ خصومه من هذه الحجة الواضحة سلاحًا قاطعًا لحجته مع شدة سعيهم في هدم دعواه، والتجائهم لأوهن الشبهات في تكذيبه، وقد كان هذا السلاح أقرب إليهم، وكان وحده أمضى في إبطال أمره من كل ما لجأوا إليه من مهاترة ومكابرة. إن سكوت التاريخ عن ذلك كله حجة كافية على عدم وجوده؛ لأنه ليس من الهنات الهينات التي يتغاضى عنها الناس الواقفون لهذا الأمر بالمرصاد. على أن التاريخ لم يسكت، بل نبأنا بما كان من أمر الرجلين: فقد حدثنا عن راهب الشام أنه لما رأى هذا الغلام رأى فيه من سيما النبوة الأخيرة وحليتها في الكتب الماضية ما أنطقه بتبشير عمه قائلًا: إن هذا الغلام سيكون له شأن عظيم. وحدثنا عن ورقة أنه لما سمع ما قصه عليه النبي من صفة الوحي وجد فيها من خصائص الناموس الذي نزل على موسى ما جعله يعترف بنبوته ويتمنى أن يعيش حتى يكون من أنصاره. فمن عرف للتاريخ حرمته وآمن بوقائعه كما هي، كانت هذه الوقائع حجة لنا عليه، ومن لم يستحِ أن يزيد في التاريخ حرفًا من عنده فيقول: إن محمدًا ضم السماع إلى اللقاء فليتقول ما يشاء، وليعلم أنه سوف يُخرج لنا بهذه الزيادة تاريخًا متناقضًا

يكذب أوله آخره، وآخره أوله؛ إذ كيف يعقل أن رجلًا رأى علامات النبوة في امرئ فبشره بها قبل وقوعها، أو آمن بها بعد وقوعها، تطاوعه نفسه أن يقف من صاحب هذه النبوة موقف المرشد المعلم! فأين يذهبون؟! موقف محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من العلماء موقف المصحح لما حرفوا، الكاشف لما كتموا: على أننا نعود فنسأل: هل كان في العلماء يومئذ من يصلح أن تكون له على محمد وقرآنه تلك اليد العلمية؟ يقول الملحدون أنفسهم: "إن القرآن هو الأثر التاريخي الوحيد الذي يمثل روح عصره أصدق تمثيل". وهذه كلمة حق في حدود معناها الصحيح1 فنحن نأخذهم باعترافهم وندعوهم إلى استجلاء تلك الصورة التي حفظها القرآن في مرآته الناصعة مثالًا واضحًا لعلماء عصره. فيقرءوا الزهراوين: البقرة وآل عمران؛ وما فيهما من المحاورة لعلماء اليهود والنصارى في العقائد والتواريخ والأحكام، أو ليقرءوا ما شاءوا من السور المدنية أو المكية التي فيها ذكر أهل الكتاب، ولينظروا بأي لسان يتكلم عنهم القرآن، وكيف يصور لنا علومهم بأنها الجهالات، وعقائدهم بأنها الضلالات والخرافات، وأعمالهم بأنها الجرائم والمنكرات. فإن أنت أحببت زيادة البيان فإليك نموذجًا من وصفه وتفنيده لأغلاطهم ومغالطاتهم التاريخية: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} 2 {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى} 3 {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ

_ 1 وهو أنه يمثلها ولا يتمثلها. وإن شئت فقل: إنه يمثلها أصدق تمثيل، ثم يمثِّل بها أنكى تمثيل. 2 سورة آل عمران: الآية 65 وما بعدها. 3 سورة البقرة: الآية 140.

لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} 1 {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} 2. وهذا طرف من وصفه وتفنيده لخرافاتهم الدينية {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} 3 {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} 4 {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} 5 {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} 6 {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} 7 {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} ، {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} ، {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} 8، {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} 9. فانظر كيف صور القرآن عقيدة علماء الدين في زمنه، ولا سيما علماء النصارى، فقد كان طابع الشرك في ديانتهم لا يخفى على أحد، حتى إن الأميين فطنوا له فاتخذوا منه عزاءً لهم في شركهم {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ، وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} 10، بل اتخذوا منه حجة على أن التوحيد الذي دعاهم

_ 1 سورة آل عمران: الآية 69، وهي جواب عن قولهم: قبلتنا قبل قبلتكم. 2 سور آل عمران: الآية 93، وهي رد لدعواهم أن الإبل كانت محرمة على إبراهيم. 3 سورة ق: الآية 38، وهي تكذيب لقولهم: إن الله بعد أن خلق الخلق في ستة أيام، استراح في اليوم السابع. 4 سورة البقرة: الآية 102، وهي تبرئة له من زعمهم أنه لم يكن نبيًّا بل كان ساحرًا يركب الريح. 5 سورة آل عمران: الآية 181. 6 سورة المائدة: الآية 64. 7 سورة التوبة: الآية 30. 8 سورة المائدة: الآيات 18، 72، 73. 9 سورة آل عمران: الآية 64. 10 سورة الزخرف: الآية 57.

إليه القرآن بدع في الدين لم يُسبق إليه فقالوا: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} 1 يعنون ملة النصرانية. وهذه سلسلة أخرى من جرائمهم يسردها القرآن متواصلة الحلقات: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} إلى أن قال: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا، وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} إلى أن قال: {وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا، وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} 2. فهل ترى في هذا كله صورة أساتذة يتلقى عنهم صاحب القرآن علومه؟ أم بالعكس ترى منه معلمًا يصحح لهم أغلاطهم وينعي عليه سوء حالهم. لا ننكر أنه كان في أهل الكتاب قليل من العلماء الراسخين، لكنِ الراسخون في العلم منهم آمنوا بالقرآن وبنبي القرآن -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} 3 فلو كانوا له معلمين لآمنوا بأنفسهم بدل أن يؤمنوا به. ولنعد مرة أخرى فنسأل: هل كان علم العلماء يومئذ مبذولًا لطالبيه مباحًا لسائليه؟ أم كان حرصهم على هذا العلم أشد من حرصهم على حياتهم، وكانوا يضنون به حتى على أبنائهم استبقاءً لرياستهم، أو طمعًا في منصب النبوة الذي كانوا يستشرفون له في ذلك العصر. لنستنطق القرآن الذي رضيه الملحدون حكمًا بيننا وبينهم، فإنه يكفينا مئونة الجواب عن هذا السؤال، وها هو ذا يقول لنا: إنهم كانوا في سبيل الضن بكتبهم

_ 1 سورة ص: الآية 7. 2 سورة النساء: الآيات من 155 إلى 161. 3 سورة الرعد: الآية 13.

وعلومهم لا يتورعون عن منكر، فكانوا تارة {يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} 1، وتارة {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} 2، وتارة {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} 3، وتارة يبترون الكتب فيظهرون بعضها ويخفون بعضها {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} 4، وتارة يحاجون بمحفوظهم فإذا قيل لهم: {فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 5، 6، بُهتوا؛ فلم يجيبوا، وربما جاءوا بها فقرءوا ما قبل الشاهد وما بعده وستروا بكفهم مكان النص المجادل فيه، كما وقع في قصة الرجم7. انظر صحيح البخاري في تفسير الآية الآنفة. فجاء القرآن يرميهم علنًا باللبس والكتمان {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 8، بل جاء كاشفًا لما ستروه مبينًا لما كتموه حاكمًا فيما اختلفوا فيه {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ} 9 {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ

_ 1 سورة البقرة: الآية 79. 2 سورة النساء: الآية 78. 3 سورة المائدة: الآية 13. 4 سورة الأنعام: الآية 91. 5 سورة آل عمران: الآية 93. 6 البخاري عن عبد الله بن عمر، ك/ تفسير القرآن، ب/ {فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} "4190". 7 البخاري عن عبد الله بن عمر، ك/ المناقب، ب/ قول الله تعالى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ} "3363". 8 سورة آل عمران: الآية 71. 9 سورة المائدة: الآية 15.

الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} 1 {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} 2. انظر إلى الآيات من سورتي النحل والنمل المكيتين كيف جعلت من مقاصد القرآن الأساسية بيان ما اختلف فيه أهل الكتاب، بل جعلته أول تلك المقاصد حيث بدأت به، وثنت بالهدى والرحمة للمؤمنين. من زعم أن له -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- معلمًا من البشر فليسمه: ونعود للمرة الثالثة فنقول لمن يزعم أن محمدًا كان يعلمه بشر: قل لنا ما اسم هذا المعلم! ومن ذا الذي رآه وسمعه؟ وماذا سمع منه؟ ومتى كان ذلك؟ وأين كان؟ فإن كلمة "البشر" تصف لنا هذا العالم الذين يمشون على الأرض مطمئنين؛ ويراهم الناس غادين ورائحين، فلا تسمع دعواها بدون تحديد وتعيين، بل يكون مثل مدعيها كمثل الذين يخلقون لله شركاء لا وجود لهم إلا في الخيال والوهم. فيقال له كما قيل لهم: {قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ} 3. بل نقول: هل ولد هذا النبي في المريخ، أو نشأ في مكان قصي عن العالم، فلم يهبط على قومه إلا بعد أن بلغ أشده واستوى، ثم كانوا بعد ذلك لا يرونه إلا لمامًا؟ ألم يولد في حجورهم؟ ألم يكن يمشي بين أظهرهم يصبحهم ويمسيهم؟ ألم يكونوا يرونه بأعينهم في حله ورحيله؟ {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} 4.

_ 1 سورة النمل: الآية 76. 2 سورة النحل: الآية 63 وما بعدها. 3 سورة الرعد: الآية 33. 4 سورة المؤمنون: الآية 69.

نعم؛ إن قومه قد طوعت لهم أنفسهم أن يقولوا هذه الكلمة: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} 1 ولكن هل تراهم كانوا في هذه الكلمة جادين، وكانوا يشيرون بها إلى بشر حقيقي عرفوا له تلك المنزلة العلمية؟ كلا؛ إنهم ما كان يعنيهم أن يكونوا جادين محقين، وإنما كان كل همهم أن يدرءوا عن أنفسهم معرة السكوت والإفحام، بأية صورة تتفق لهم من صور الكلام: بالصدق أو بالكذب، بالجد أو باللعب. وما أدراك من هو ذلك البشر الذي قالوا: إنه يعلمه؟ أتحسب أنهم اجترءوا أن ينسبوا هذا التعليم لواحد منهم؟ كلا؛ فقد رأوا أنفسهم أوضح جهلًا من أن يعلِّموا رجلًا جاءهم بما لم يعرفوا هم ولا آباؤهم. أم تحسب أنهم لما وجدوا أرض مكة مقفرة من علماء الدين والتاريخ في عهد البعثة المحمدية عمدوا إلى رجل من أولئك العلماء في المدينة أو في الشام أو غيرهما فنسبوا ذلك التعليم إليه؟ كلا؛ إن ألسنتهم لم تطاوعهم على النطق بهذه الكلمة أيضًا. فمن ذا، إمَّا لا ... ؟ لقد وجدوا أنفسهم مضطرين أن يلتمسوا شخصًا يتحقق فيه شرطان: أحدهما: أن يكون من سكان مكة نفسها لتروج عنهم دعوى أنه يلاقيه ويملي عليه بكرة وأصيلًا. وثانيهما: أن يكون من غير جلدتهم وملتهم ليمكن أن يقال: إن عنده علم ما لم يعلموا. وقد التمسوا هذ الأوصاف فوجدوها، أتدري أي وجدوها؟ .. في حداد رومي!! نعم، وجدوا في مكة غلامًا تعرفه الحوانيت والأسواق، ولا تعرفه تلك العلوم في

_ 1 سورة النحل: الآية 103.

قليل ولا كثير، غير أنه لم يكن أميًّا ولا وثنيًّا مثلهم، بل كان نصرانيًّا يقرأ ويكتب، فكان من أجل ذلك خليقًا في زعمهم أن يكون أستاذًا لمحمد، وبالتالي أستاذًا لعلماء اليهود والنصارى والعالم أجمعين، ولئن سألتهم هل كان ذلك الغلام فارغًا لدراسة الكتب وتمحيص أصيلها من دخيلها، ورد متشابهها إلى محكمها، وهل كان مزودًا في عقله ولسانه بوسائل الفهم والتفهيم.. لعرفت أنه كان حدادًا منهمكًا في مطرقته وسندانه، وأنه كان عامي الفؤاد لا يعلم الكتاب إلا أماني، أعجمي اللسان لا تعدو قراءته أن تكون رطانة لا يعرفها محمد ولا أحد من قومه، لكن ذلك كله لم يكن ليحول بينه وبين لقب الأستاذية الذي منحوه إياه على رغم أنف الحاسدين! هكذا ضاقت بهم دائرة الجد فما وسعهم إلا فضاء الهزل، وهكذا أمعنوا في هزلهم حتى خرجوا عن وقار العقل، فكان مثلهم كمثل من يقول: إن العلم يستقى من الجهل، وإن الإنسان يتعلم كلامه من الببغاء! وكفى بهذا هزيمة وفضيحة لقائله {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} 1. نعم، إنهم رأوا في هذا الأسلوب من حلاوة الفكاهة والملحة ما يسيغ مراة الزور والباطل، ورأوا في هذه الصورة الخيالية من التهكم والسخرية ما يشفي صدورهم ويجعلهم يتضاحكون بملء أفواههم، ولكنهم ما دروا أن في طي هذه السخرية سخرية بهم، وأنهم قد شهدوا فيها على أنفسهم أنهم أجهل الأمم، وأن كل غريب عنهم -ولو كان غلامًا سوقيًّا- أهل لأن يقال عنه: إن عنده من العلم ما ليس عندهم. فيا له من نطق كان العي في موضعه خيرًا لهم وأستر عليهم، ويا له من سلاح أرادوا أن يجرحوا به خصمهم، فجرحوا به أنفسهم من حيث لا يشعرون. أما الحق الذي كانوا يخاصمونه فقد -والله- زادوه بهذا الاتهام قوة إلى قوته. ذلك

_ 1 سورة النحل: الآية 103 وما بعدها.

أنهم حين خرجوا يلتمسون واحدًا من البشر يمكن أن ينسب إليه هذا العلم المحمدي لم يستطيعوا أن يفترضوا له مصدرًا تعليميًّا خارج حدود قريته، بل كان آخر جُهد بذلوه من حيلتهم وآخر سهم رموه من كنانتهم أن جاءوا من بين ظهرانيهم بهذا الغلام الذي عرفت خبره. فيا ليت شعري لو كان هذا الغلام أن يكون مرجعًا علميًّا كما أرادوا أن يصفوه، فما الذي منعهم أن يأخذوا عنه كما أخذ صاحبهم؟ وبذلك كانوا يستريحون من عنائه ويداوونه من جنس دائه، بل ما منع ذلك الغلام أن يبدي للعالم صفحته فينال في التاريخ شرف الأستاذية. أو يتولى بنفسه تلك القيادة العالمية؟ ويا ليت شعري لماذا لم ينسبوا تلك العلوم الغريبة عنهم إلى أهلها الموسومين بها من الربانين والأحبار في المدينة أو من القسيسين والرهبان في الشام، أولئك الذين قضوا أعمارهم في دراستها وتعليمها؟ أليس ذلك -لو كان ممكنًا أو شبيهًا بالممكن- كان هو أحسن تلفيقًا وأجود سبكًا وأدنى إلى الرواج وأبعد عن الإحالة من نسبتها إلى حداد مكة؟ أم ضاقت بهم الأرض فلم يجدوا أحدًا أمثل منه ولا أعلم بالدين والتاريخ؟ تالله لولا أنهم وجدوا باب التعليم الخارجي أمنع سدًّا من سائر الأبواب وأدخل منها في معنى المكابرة التي لا تروج لما ضيَّقوا على أنفسهم دائرة الاتهام حتى تورطوا في هذا المحال المكشوف وافتضحوا بهذه المقالة الشوهاء. هؤلاء قوم محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهم كانوا أحرص الناس على خصومته، وأدرى الناس بأسفاره ورحلاته، وأحصاهم لحركاته وسكناته، قد عجزوا كما ترى أن يعقدوا صلة علمية بينه وبين أهل العلم في عصره، فما للملحدين اليوم وقد مضى نيف وثلاثة عشر قرنًا انفضت فيها سوق الحوادث، وجفت الأقلام، وطُويت الصحف، لا يزالون يبحثون عن تلك الصلة في قمامات التاريخ، وفي الناحية التي أنف قومه أن ينبشوها؟ ألا فليريحوا أنفسهم من عناء البحث، فقد كفتهم قريش مئونته، وليشتغلوا بغير هذه

الناحية التي قضى التاريخ والمنطق على كل محاولة فيها بالفشل، فإن أبوا فليعلموا أن كل شبهة تقام في وجه الحق الواضح سيحيلها الحق حجة لنفسه يضمها إلى حججه وبيناته. حيرة المعاندين واضطرابهم في الجدل قديمًا وحديثًا: نعود رابعًا وأخيرًا فنقول: لو كانت "نسبة هذه العلوم القرآنية إلى تعليم البشر" من الدعاوي التي تعبر عن فكرة أو شبهة قائمة بنفس صاحبها لوقف عندهم الطاعنون ولم يجاوزوها؛ ذلك لأن العقل إذا خُلِّي ونفسه في تعليل تلك المفارقة الكلية بين ماضي الحياة المحمدية وحاضرها -أعني ما قبل النبوة وما بعدها- لم يسعه إلا الحكم بأن هذا العلم الجديد وليد تعليم جديد. وإذ لا عهد للناس بمعلمين في الأرض من غير البشر كان أول ما يخطر بالبال أن هنالك إنسانًا تولى هذا التعليم، فلو وجد الطاعن أدنى تكأة من عوامل واقعية أو ممكنة تجعل له شيئًا من الاقتناع بهذا التعليل فيما بينه وبين نفسه لما رضي به بديلًا ولما عدل عنه إلى تعليل آخر أيًّا كان، لكن هؤلاء الطاعنين ما فتئوا منذ نزل القرآن إلى يومنا هذا حائرين في نسب هذا القرآن، لا يدرون أينسبونه إلى تعليم البشر كما سمعنا آنفًا، أم يرجعون به إلى نفس صاحبه كما سمعنا من قبل، أم يجمعون له بين النسبتين فيقولون لصاحبه: إنه "معلم" "مجنون" كما جاء في سورة الدخان 1، 2. نظرية الوحي النفسي ليست جديدة: ومن تتبع أنواع المجادلات التي حكاها القرآن عن الطاعنين فيه رأى أن نسبتهم القرآن إلى تعليم البشر كانت هي أقل الكلمات دورانًا على ألسنتهم، وأن أكثرها

_ 1 سورة الدخان: الآية 14. 2 رواه البخاري عن مسروق، ك/ تفسير القرآن، ب/ قوله: وما أنا من المتكلفين "4435".

ورودًا في جدلهم هي نسبته إلى نفس1 صاحبه، على اضطرابهم في تحديد تلك الحال النفسية التي صدر عنها القرآن: أشعر هي، أم جنون، أم أضغاث أحلام.. فانظر: كم قلَّبوا من وجوه الرأي في هذه المسألة؛ حتى إنهم لم يقفوا عند الحدود التي يمكن افتراضها في كلام رصين كالقرآن، وفي عقل رصين كعقل صاحبه، بل ذهبوا إلى أبعد الأحوال النفسية التي يمكن أن يصدر عنها كلام العقلاء والمجانين.. إن ذلك لمن أوضح الأدلة على أنهم لم يكونوا يشيرون بهذا الوجه أو ذاك إلى تهمة محققة لها مثار في الخارج أو في اعتقادهم، وإنما أرادوا أن يدلوا بكل الفروض والتقادير مغمضين على ما فيها من محال وناب ونافر، ليثيروا بها غبارًا من الأوهام في عيون المتطلعين إلى ضوء الحقيقة، وليلقوا بها أشواكًا من الشك في طريق السائرين إلى روض اليقين. ولقد نعلم أنهم كانوا في قرارة أنفسهم غير مطمئنين إلى رأي صالح يرضوه من بين

_ 1 وهذا الرأي هو الذي يروجه الملحدون اليوم باسم "الوحي النفسي" زاعمين أنهم بهذه التسمية قد جاءونا برأي علمي جديد، وما هو بجديد، وإنما هو الرأي الجاهلي القديم، لا يختلف عنه في جملته ولا في تقصيله. فقد صوروا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رجلًا ذا خيال واسع وإحساس عميق، فهو إذًا شاعر. ثم زادوا فجعلوا وجدانه يطغى كثيرًا على حواسه حتى يخيل إليه أنه يرى ويسمع شخصًا يكلمه، وما ذاك الذي يراه ويسمعه إلا صورة أخيلته ووجداناته، فهو إذًا الجنون أو أضغاث الأحلام. على أنهم لم يطيقوا الثبات طويلًا على هذه التعليلات، فقد اضطروا أن يهجروا كلمة "الوحي النفسي" حينما بدا لهم في القرآن جانب الأخبار الماضية والمستقبلة، فقالوا: لعله تلقفها من أفواه العلماء في أسفاره للتجارة، فهو إذًا قد علمه بشر. فاي جديد ترى في هذا كله؟ أليس كله حديثًا معادًا يضاهئون به قول جهال قريش؟ وهكذا كان الإلحاد في ثوبه الجديد صورة منسوخة بل ممسوخة منه في أقدم أثوابه، وكان غذاء هذه الأفكار المتحضرة في العصر الحديث مستمدًّا من فتات الموائد التي تركتها تلك القلوب المتحجرة في عصور الجاهلية الأولى {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة: 118] . وإن تعجب فعجب قولهم مع هذا كله أنه كان صادقًا أمينًا. وأنه كان معذورًا في نسبة رؤاه إلى الوحي الإلهي؛ لأن أحلامه القوية صورتها له وحيًا إلهيًّا، فما شهد إلا بما علم، وهكذا حكى الله لنا عن أسلافهم حيث يقول: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33] فإن كان هذا عذره في تصوير رؤاه وسماعه فما عذره في دعواه أنه لم يكن يعلم تلك الأنباء لا هو ولا قومه من قبل هذا، بينما هو قد سمعها بزعمهم من قبل؟ فليقولوا إذًا: إنه افتراء ليتم لهم بذلك محاكاة كل الأقاويل. ولكنهم لا يريدون أن يقولوا هذه الكلمة لأنهم يدعون الإنصاف والتعقل. ألا فقد قالوها من حيث لا يشعرون.

تلك الآراء، وأنهم كانوا كلما وضعوا يدهم على رأي منها وأرادوا أن ينسجوا منه للقرآن ثوبًا وجدوه نابيًا عنه في ذوقهم، غير صالح لأن يكون لبوسًا له، فيفزعون من فورهم إلى تجربة رأي ثان، فإذًا هو ليس بأمثل قياسًا مما رفضوه، فيعمدون إلى تجربة ثالثة.. وهكذا دواليك ما يستقرون على حال من القلق. فإن شئت أن تطلع على هذه الصورة المضحكة من البلبلة الجدلية فاقرأ وصفها في القرآن: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} 1 فهذه الجملة القصيرة تمثل لك بما فيها من توالي حروف الإضراب مقدار ما أصابهم من الحيرة والاضطراب في رأيهم، وتريك من خلالها صورة شاهد الزور إذا شعر بحرج موقفه: كيف يتقلب ذات اليمين وذات الشمال. وكيف تتفرق به السبل في تصحيح ما يحاوله من محال {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} 2، 3.

_ 1 سورة الأنبياء: الآية 5. 2 سورة الإسراء: الآية 48. 3 سورة الفرقان: الآية 9.

المرحلة الثالثة من البحث: البحث في ظروف الوحي وملابساته الخاصة عن مصدر القرآن

المرحلة الثالثة من البحث: البحث في ظروف الوحي وملابساته الخاصة عن مصدر القرآن: الآن: وقد جاوزنا بك هاتين المرحلتين من البحث، وأريناك أنه لا يوجد للقرآن مصدر إنساني، لا في نفس صاحبه ولا عند أحد من البشر، وأن كل من حاول أن يجعل هذا القرآن "عملًا إنسانيًّا" أعياه أمره، وأقام الحجة على فشله باضطرابه ولجاجته، وإحالته ومكابرته -فقد وجب علينا أن ننتقل إلى المرحلة الثالثة لنبحث عن ذلك المصدر في أفق خارج من هذا الأفق الإنساني جملة؛ وألا نقف بالقرآن حيث وقف به الملحدون قديمًا وحديثًا مذبذبين فيهن بين هذين الطرفين يأخذون بأحدهما تارة، وبالثاني تارة، وبهما مجتمعين تارة أخرى، متنقلين هكذا من فاسد إلى فاسد، إلى مركب منهما أشد فسادًا من كليهما. كلا، فإن العقل يقضي علينا أن نبطل ما أبطله البرهان غير مكابرين، وأن نتابعه في سيره حتى نصل إلى الحق المبين. أما هؤلاء الملحدون فإنهم ما قعد بهم عن متابعة البحث -زعموا- إلا رعايتهم لحرمة السنن الكونية، ومحافظتهم على الأسباب العادية التي يصدر عنها كلام الناس في معقولهم ومنقولهم؛ فقد أبى عليهم وفاؤهم لهذه العلوم الطبيعية أن يقتحموا حدودها ويخرجوا إلى التماس شيء لا تناله أعينهم، ولم يجربوا مثاله في أنفسهم، وأنت قد عرفت أن هذا الذي ظنوه وفاءً بطبيعة الأشياء قد انقلب بهم إلى ضده؛ إذ خرقوا في سبيله السياج الطبيعي للعقل الإنساني وللواقع التاريخي، فجمعوا المتناقضات وغيروا معالم التاريخ، وأرهقوا طبائع الأشياء فحملوها ما لا تطيق. فأي عاقل يرضى أن يقف موقفًا كهذا ينصر فيه عادته بإهدار عقله!! بل الحق أن هناك مانعًا آخر يعقوه عن متابعة السير معنا، ولكنهم يكتمونه عنا: كبر في صدورهم أن يعطوا مقادتهم لإنسان جاءهم من فوق رءوسهم يزعم أنه رسول الله إليهم، فيأمرهم وينهاهم ويستوجب الطاعة عليهم، ثم هو على ذلك يواجههم بالحقائق المرة، فيحول بينهم وبين ماض هم به مستمسكون، وهوى هم له عابدون {بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} 1. فلنذرهم قاعدين حيث رضوا لأنفسهم القعود. ولنتابع البحث عن هذا الحق

_ 1 سورة المؤمنون: الآية 70.

راغبين إلى الله في الهدى إليه، وإنا إن شاء لله لمهتدون. ظاهرة الوحي وتحليل عوراضها: لا تحسبن أننا في هذه المرحلة الثالثة سنضرب في بيداء تيهاء، أو أننا سيترامى بنا السير إلى شقة بعيدة وسفر غير قاصد. كلا، فلن نخرج ببحثنا عن دائرة محدودة نراها مظنة للسر الذي نطلبه، وذلك بدراسة الأحوال المباشرة التي كان يظهر فيها القرآن على لسان محمد بن عبد الله -صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله. وكلنا نعرف تلك الظاهرة العجيبة التي كانت تبدو على وجهه الكريم في كل مرة حين ينزَّل عليه القرآن، وكان أمرها لا يخفى على أحد ممن ينظر إليه. فكانوا يرونه قد احمر وجهه فجأة وأخذته البُرَحاء حتى يتفصد جبينه عرقًا، وثقل جسمه حتى يكاد يرُضُّ فخذه فخذ الجالس إلى جانبه وحتى لو كان راكبًا لبركت به راحلته، وكانوا مع ذلك يسمعون عند وجهه أصواتًا مختلطة تشبه دويَّ1 النحل2.. ثم لا يلبث أن تُسرَّى عنه تلك الشدة فإذا هو يتلو قرآنًا جديدًا محدثًا. فمن شاء أن يبحث عن مصدر هذا القرآن، فها هنا أقرب مظانه، ففيها فليحصر الباحثون بحوثهم، ولينشد طلاب الحق ضالتهم، وأين تلتمس الأسباب الصحيحة لأثر ما إن لم تلتمس حيث يظهر ذلك الأثر، وحيث يدور وجوده وعدمه؟ فلننظر الآن في هذه الظاهرة: هل كانت شيئًا متكلفًا مصنوعًا وطريقة تحضيرية يستجمع بها الفكر والروية؟ أم كانت أمرًا لا دخل فيه للاختيار؟ وإذا كانت أمرًا غير اختياري فهل كان لها في داخل النفس منشأ من الأسباب الطبيعية العادية، كباعثة النوم، أو من الأسباب الطبيعية الشاذة، كاختلال القوى العصبية؟ أم كانت انفعالًا بسبب خارجي منفصل عن قوى النفس؟ وإن نظرة واحدة نلقيها على عناصر هذه الظاهرة لتهدينا إلى أنها لا يمكن أن تكون صناعة وتكلفًا، وبخاصة لو تأملت تلك الأصوات المختلطة التي كانت تسمع عند

_ 1 هذه الأوصاف كلها ثابتة في الأحاديث الصحيحة عن الشيخين وأبي داود والترمذي وغيرهم. ورواه الترمذي عن عمر بن الخطاب، ك/ تفسير القرآن، ب/ ومن سورة المؤمنون "3097". 2 رواه البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- ك/ الشهادات، ب/ تعديل النساء بعضهن بعضًا "2467"، ومسلم عن عائشة، ك/ التوبة، ب/ في حديث الإفك وقبول توبة القاذف "4974".

الوجه النبوي الشريف. وأيضًا لو كانت صناعة وتكلفًا لكانت طوع يمينه فكان لا يشاء يومًا أن يأتي بقرآن جديد إلا جاء به من هذا الطريق الذي اعتاده في تحضيره. وقد علمت أنه كثيرًا ما التمسه في أشد أوقات الحاجة إليه، وكان لا يظفر به إلا حين يشاء الله. فهي إذًا حال غير اختيارية. ثم إننا نرجع البصر كرة أخرى فنرى البعد شاسعًا بينها وبين عارض السبات الطبيعي الذي يعتري المرء في وقت حاجته إلى النوم؛ فإنها كانت تعروه قائمًا أو قاعدًا، وسائرًا أو راكبًا، وبكرة أو عشيًّا، وفي أثناء حديثه مع أصحابه أو أعدائه، وكان تعروه فجأة وتزول عنه فجأة، وتنقضي في لحظات يسيرة، لا بالتدريج الذي يعرض للوسنان، وكانت تصاحبها تلك الأصوات الغريبة التي لا تسمع منه ولا غيره عند النوم. وبالإجمال كانت حالًا تباين حال النائم في أوضاعها وأوقاتها وأشكالها وجملة مظاهرها. فهي إذًا عارض غير عادي. ثم نرى المباينة التامة والمناقضة الكلية بينها وبين تلك الأعراض المرضية والنوبات العصبية التي تصفرُّ فيها الوجوه، وتبرد الأطراف، وتصطك الأسنان، وتتكشف العورات، ويحتجب نور العقل، ويخيَّم ظلام الجهل؛ لأنها كانت كما علمت مبعث نمو في قوة البدن، وإشراق في اللون، وارتفاع في درجة الحرارة، وكانت إلى جانب ذلك مبعث نور لا ظلمة، ومصدر علم لا جهالة، بل كان يجيء معها من العلم والنور ما تخضع العقول لحكمته، وتتضاءل الأنوار عند طلعته. ها نحن أولاء قد كدنا نصل.. فلتقف بنا وقفة يسيرة لنرى مبعث هذا الضوء الذي كان يبدو حينًا ويختفي أحيانًا من حيث لا يد لصاحبه في ظهوره ولا في اختفائه: هل

عسى أن يكون منبعثًا من طبيعة هذه النفس المحمدية؟ .. إذًا والله لكان خليقًا أن ينبعث منها أبدًا ولكان أحق بأن ينبعث منها في حال اليقظة العادية والروية الفكرية أكثر مما ينبعث منها في تلك اللحظات اليسيرة حينما تغشيها هذه السحابة الرقيقة التي قد تشبه السِّنة أو الإغماء. فلا بد إذًا أن يكون وراء هذه السحابة مصدر نوراني يمد هذه النفس المحمدية بين آن وآن، فيسمو بها عن أفق شعورها المحدود، ويزودها بما شاء الله من العلوم، ثم يرسلها إلينا محملة بهذه الشحنة العلمية إلى أن يلاقيها مرة أخرى. وكما آمن الناس بأن نور القمر ليس مستفادًا من ذاته، وإنما هو مستفاد من ضياء الشمس؛ لأنهم رأوا اختلاف نوره تابعًا أبدًا لاختلاف مواقعه منها قربًا وبعدًا، فكذلك فليؤمنوا بأن نور هذا القمر النبوي إنما كان شعاعًا منعكسًا من ضوء تلك الشمس التي يرون آثارها وإن كانوا لا يرونها. نعم إنهم لم يروها بأعينهم طالعة في رابعة النهار. ولم يسمعوا صوتها بآذانهم جَرْسًا مفهومًا وكلامًا يفقهه الناس؛ ولكنهم كانوا يرون قبسًا منها في الجبين، وكانوا يسمعون حسيسًا حول الوجه الكريم. وإن في ذلك لهدًى للمهتدين. هي إذًا قوة خارجية؛ لأنها لا تتصل بهذه النفس المحمدية إلا حينًا بعد حين. وهي لا محالة قوة عالمة؛ لأنها توحي إليه علمًا. وهي قوة أعلى من قوته؛ لأنها تحدث في نفسه وفي بدنه تلك الآثار العظيمة {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} 1. وهي قوة خيرة معصومة، لأنها لا توحي إلا الحق ولا تأمر إلا بالرشد. فلا جرم أنها لا تكون قوة طائشة شريرة كقوة الجن والشياطين؛ إذ ما للجن وعلم الغيب ولقد {تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} 2. وما

_ 1 سورة النجم: الآية 5. 2 سورة سبأ: الآية 14.

للشيطان وخبر السماء وهي محفوظة من كل شيطان رجيم {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ، وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ، إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} 1. بل نقول: "أليست الأرواح جنودًا مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف"2. أو ليس المرء يعرف بقرينه، وشبه الشيء ينجذب إليه؟ فكيف تأتلف تلك الأرواح الخبيثة وذلك القلب النقي الطهور؟ أم كيف تأتلف تلك القوى الطائشة وهذا العقل الكامل الرصين؟ {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ، تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ، يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} 3. فماذا عسى أن تكون هذه القوة إن لم تكن قوة ملك كريم؟ ذلك هو مبلغ العلم في وصف هذه القوة الغيبية حسبما يهدي إليه البحث العقلي المستقيم. وليس بالمؤمن المقتصد حاجة إلى أكثر من هذا القدر في إرضاء شهوته العلمية، ولا في تثبيت عقيدته الدينية. فمن شاء المزيد من وصفها وحليتها فليس سبيله الرجوع إلى دلالات العقول، وإنما سبيله الرجوع إلى النقل الصحيح عن مهبط سرها ومظهر نورها -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهو وحده الذي يستطيع أن يتحدث عن صاحب هذا السر حديث شاهد العيان الذي رأى شخصه وسمع صوته، بل حديث التلميذ الذي جلس إلى أستاذه غير مرة. فأما الذي يؤمن بالغيب فسيؤمن بهذا الحديث عنه وإن لم يره؛ لأنه رأى أثره، ولأنه يؤمن بمن أخبره. وأما الجاهلون الذي أوتوا قليلًا من علم ظاهر الحياة فظنوا أنهم أحاطوا بكل شيء علمًا فإنهم سيكذبون بكل ما لم يحيطوا بعلمه، وسيقولون لك:

_ 1 سورة الشعراء: الآية 210 وما بعدها. 2 البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- ك/ أحديث الأنبياء، ب/ الأرواح جنود مجندة. ومسلم عن أبي هريرة، ك/ البر والصلة والآداب، ب/ الأرواح جنود مجندة "4773". 3 سورة الشعراء: الآية 221 وما بعدها.

لعله اضطراب في أعصاب البصر خيل إليه أنه يرى شيئًا من لا شيء! وأنت فاستعذ بالله من عمى القلوب والعيون، وقل: كلا {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} 1. أو يقولون: لعله اضطراب في قوى الفكر صور له المعاني أشباحًا ماثلة، والأحلام حقائق مجسمة، فابرأ إلى الله من هذا الجنون، وقل: كلا {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} 2. نعم؛ لقد عجبوا أن يكون إنسان يرى الملائكة عيانًا ويكلمهم جهارًا. بل عجبوا أن يكون في الدنيا خلق لا يرونه بأعينهم، وصوت لا يسمعونه بآذانهم. فقالوا: كيف يرى محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما لا نرى، ويسمع ما لا نسمع! ولعمري؛ لنحن أحق أن نعجب من هذا العجب؛ فإننا نفهم أنه لو ساغ مثله في عصور الجاهلية الأولى ما كان ليسوغ اليوم وقد ملئت الأرض بالآيات العلمية التي تفسر لعقولنا تلك الحقائق الغيبية. استئناس بما كشفه العلم في العصور الحاضرة: إن من أقرب هذه الآات إلى متناول الجمهور آية الهاتف "التليفون". فقد أصبح الرجلان يكون أحدهما في أقصى المشرق والآخر في أقصى المغرب، ثم يتخاطبان ويتراءيان، من حيث لا يرى الجالسون في مجلس التخاطب شيئًا، ولا يسمعون إلا أزيزًا كدوي النحل الذي في صفة الوحي. فإن كانوا يريدون آية علمية أوضح من هذا تمثل لهم الوحي تمثيلًا، وتريهم من طريق التجارب -التي لا يؤمنون إلا بها- أن اتصال النفس الإنسانية بقوة أعلى منها قد يُحدث فيها ظاهرةً من جنس هذه الظاهرة، وينقش فيها معلومات لم تكن مخزونة في العقل ولا في الحس قبل ذلك، فها قد أراهم الله تلك الآية العجيبة في "أعجوبة التنويم

_ 1 سورة النجم: الآية 17. 2 سورة النجم: الآية 11.

المغناطيسي" فقد أصبح الرجل القوي الإرادة يستطيع أن يتسلط بقوة إرادته على من هو أضعف منه حتى يجعله ينام بأمره نومًا عميقًا لا يشعر فيه بوخز الإبر، وهناك يكون رهين إشارته، وتنمحي إرادته في إرادته: فلو شاء أن يمحو من نفسه رأيًا أو عقيدة لمحاها بكلمة واحدة، بل لو شاء أن يمحو من صدره اسم نفسه1 ويلقنه اسمًا آخر يقنعه بأنه هو اسمه لما وجد منه إلا إيمانًا وتسليمًا، ولأصبح اسمه الحقيقي نسيًا منسيًّا، ولبقي هذا الاسم المصنوع منقوشًا على قلبه ولسانه بعد أن يستيقظ إلى ما شاء الله، فإذا كان فعل هذا الإنسان بالإنسان فما ظنك بمن هو أشد منه قوة؟ فذلك مَثل2 حامل الوحي ومتلقيه -عليهما السلام- هذا بشر مطواعٌ ذو روح صاف يقبل انطباع العلوم فيه، وذاك ملك شديد القوي ذو مرة يحمل إليه رسالته ويقرئها إياه، فلا ينسى إلا ما شاء الله. بَيْدَ أن بعدًا شاسعًا بين هذا الوحي النبوي، ووحي الناس بعضه لبعض، فالناس كما عرفت قد يوحون زخرف القول غرورًا، وكثيرًا ما ترك وحيهم في نفس متلقيه أعراضًا عقلية أو بدنية يصعب علاجها. فأين هذا من الوحي بين رسولين مؤيدين اصطفاهما الله لرسالته: رسول الله من الملائكة، ورسول من الناس؟ فأما الرسول الملكي فإنه كما علمت لا يوحي إلا الحق، ولا يأمر إلا بالخير، وأما الرسول البشري فإنه لا يزال من بعد كما كان من قبل، ثابتَ الفؤاد كاملَ العقل قويَّ النفس والبدن {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} 3.

_ 1 حوادث التنويم المغناطيسي وآثارها البدنية والنفسية أكثر من أن تحصى، ولكننا أشرنا بهذا المثال إلى واقعة كان شاهد العيان فيها فاضل من علماء الأزهر "الأستاذ محمد عبد العظيم الزرقاني" وهو الذي فطن منها إلى هذه العبرة الدينية ونشرها بمجلة الهداية الإسلامية في شهر ربيع الأول من هذا العام "1352هـ". 2 تأمل هذا التقريب تجد فيه آية أخرى على بطلان دعوى "الوحي النفسي" التي يروجها الملحدون؛ إذ إنه من الأركان الأساسية التي أجمع عليها علماء التنويم أنه إنما يكون بين نفسين مختلفتي الطبائع؛ إحداهما أقوى إرادة من الأخرى، فلا يستطيع امرؤ أن يقوم بهذه التجربة في نفسه إلا إذا فرضنا اجتماع النقيضين أو أن يكون الواحد اثنين. 3 سورة الأنعام: الآية 124.

المرحلة الرابعة من البحث البحث في جوهر القرآن نفسه عن حقيقة مصدره:

المرحلة الرابعة من البحث البحث في جوهر القرآن نفسه عن حقيقة مصدره: إننا في هذا المنهج الذي سلكناه من أول البحث إلى هذا الحد لم نرد أن نعرض للقرآن في جوهره، بل كان قصارى ما صنعناه أننا درسنا الطريق التي جاء منها؛ فما وجدنا في اعترافات صاحبه، ولا في حياته الخلقية، ولا في وسائله وصلاته العلمية، ولا في سائر الظروف العامة أو الخاصة التي ظهر فيها القرآن إلا شواهد ناطقة بأن هذا القرآن ليس له على ظهر الأرض أب ننسبه إليه من دون الله. وتلك كلها دراسات خارجية إنما يسلكها رجل وقف معنا على طرف صالح من هذه الحياة النبوية وملابساتها، وكان مع ذلك سليم الفطرة يتعرف الأشياء بمثالها ويهتدي إليها بأقرب أماراتها. فمثل هذا سيرضى منا بهذا القدر ويهتدي به. وأما الذين لا يعلمون عن تلك الحياة النبوية إلا قليلًا -وكثير ما هم- والذين يريدون أن يأخذوا حجة القرآن لنفسه من نفسه، فهؤلاء لا غنى لهم أن نتقدم بهم خطوة أخرى نبين لهم فيها أن هذا الكتاب الكريم يأبى بطبيعته أن يكون من صنع البشر، وينادي بلسان حاله أنه رسالة القضاء والقدر، حتى إنه لو وجد ملقًى في صحراء لأيقن الناظر فيه أن ليس من هذه الأرض منبعه ومنبته، وإنما كان من أفق السماء مطلعه ومهبطه. ذلك أن قدرة الناس وإن تفاوتت فإلى حدود محدودة لا تتعداها، وقدرة الخالق على الممكنات لا حد لها، فكل كائن يجاوز حدود القدرة العالمية واقع في حدود القدرة الإلهية البتة. ولا ثالث. مثال ذلك: أن الرجل قد يصرع الرجل وقد يصرع الرجلين وقد يصرع الآحاد والعشرات، ولكن هل من الناس من يقف في وجه العالم كله فيقهر الأمم أفرادًا وجماعات؟

والله يأتي بالشمس من المشرق فمن ذا الذي يأتي بها من المغرب؟ وأنت تستطيع أن تطفئ المصباح وأن توقده حين تشاء، ولكن هل يستطيع الناس جميعًا أن يطلعوا الشمس قبل وقتها، أو يؤخروها عن ساعتها، أو يطفئوا نورها، أو يأتوا بمثلها ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا؟ إنهم لا يستطيعون أن يخلقوا ذبابًا ولو اجتمعوا له، وإن يسلبهم الذباب شيئًا لا يستنقذوه منه. فأنى لهم أن يضاهئوا تلك الكائنات العلوية التي لا تنالها أيديهم ولا قذائفهم، والتي لا يملكون من أمرها سوى النظر إليها والإعجاب بها والاستفادة منها والخضوع لها. فذلك العجز العام عن مضاهاة الخلق وعن محاكاة الصنعة هو آية ليست من صنع الناس، وذلك هو الطابع الإلهي والمظهر السماوي الذي تمتاز به صنعة الخالق عن صنعة المخلوق، وهذا هو المثل الذي نريد أن نطبقه على القرآن الكريم. غير أن من الناس فريقًا غريقًا في حمأة العناد؛ يقولون: {مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} 1 {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 2، وآخرين لا يجدون طمأنينتهم إلا في اضطراب الشك، يقولون: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًَّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} 3 {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ، لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} 4 {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} 5

_ 1 سورة الأعراف: الآية 132. 2 سورة الأنعام: الآية 111. 3 سورة الجاثية: الآية 32. 4 سورة الحجر: الآية 14 وما بعدها. 5 سورة الأنعام: الآية 7.

فهؤلاء وأولئك لا سبيل لنا عليهم، ولا ينفعهم نصحنا إن كان الله يريد أن يغويهم، إذ ليس من شأننا أن نُسمع الصم أو نهدي العمي ولا الذين يجعلون أصابعهم في آذانهم فإذا هم لا يسمعون، أو يضعون أكفهم على أعينهم فإذا الشمس الطالعة ليست بطالعة {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} 1. وإنما سبيلنا أن ننصب الحجة لجاهلها من طلاب الحق، ونوضح الطريق لسابلها من رواد اليقين. النواحي الثلاث للإعجاز: ها نحن أولاء ندعو كل من يطلب الحق بإنصاف، أن ينظر معنا في القرآن من أي النواحي أحب: من ناحية أسلوبه، أو من ناحية علومه، أو من ناحية الأثر الذي أحدثه في العالم وغيَّر به وجه التاريخ، أو من تلك النواحي مجتمعة -على أن يكون له الخيرة بعد ذلك أن ينظر إليه في حدود البيئة والعصر الذي ظهر فيه، أو يفترض أنه ظهر في أرقى الأوساط والعصور التاريخية. وسواء علينا أيضًا أن ينظر إلى شخصية الداعي الذي جاء به أو يلتمس شخصًا خياليًّا تجمعت فيه مَرانات الأدباء، وسلطات الزعماء، ودراسات العلماء بكافة العلوم الإنسانية ثم نسأله: هل يجد فيه إلا قوة شاذة تغلب كل مغالب، وتتضاءل دونها قوة كل عالم، وكل زعيم، وكل شاعر وكاتب، ثم تنقضي الأجيال والأحقاب ولا ينقضي ما فيه من عجائب، بل قد تنقضي الدنيا كلها ولما يحط الناس بتأويل كل ما فيه {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} 2. فلنأخذ الآن -بعون الله وتوفيقه- في دراسة هذه النواحي الثلاثة من الإعجاز القرآني: أعني ناحية الإعجاز اللغوي، وناحية الإعجاز العلمي، وناحية الإعجاز الإصلاحي التهذيبي الاجتماعي. ولتكن عنايتنا أوفر بناحيته اللغوية؛ لأنها هي التي وقع من جهتها التحدي بالقرآن جملة وتفصيلًا في سورة منه. ولذلك نبدأ بها.

_ 1 سورة المائدة: الآية 41. 2 سورة الأعراف: الآية 53.

القرآن معجزة لغوية: استقصاء الشبه الممكنة حول هذه القضية تمهيدًا لمحوها واحدة واحدة من كان عنده شيء من الشك في هذه القضية فليأذن لنا أن نستوضحه: فيمَ ذلك الشك؟ هل حدثته نفسه بأنه يستطيع أن يأتي بكلام في طبقة البلاغة القرآنية؟ أم هو قد عرف من نفسه القصور عن تلك الرتبة، ولكنه لم يعرف عن الناس ما عرف عن نفسه؟ أم علم أن الناس جميعًا قد سكتوا عن معارضة القرآن، ولكنه لم يعلم أن سكوتهم عنه كان عجزًا، ولا أن عجزهم جاء من ناحية القرآن ذاته؟ أم علم أنهم قد عجزوا عنه وأنه هو الذي أعجزهم، ولكنه لم يعلم أن أسلوبه كان من أسباب إعجازه؟ أم هو يوقن بأن القرآن الكريم كان وما زال معجزة بيانية لسائر الناس، ولكنه لا يوقن بأنه كان معجزًا كذلك لمن جاء به؟ أم هو يؤمن بهذا كله؛ ولكنه لا يدري: ما أسراره وما أسبابه؟ هذه وجوه ستة، لكل وجه منها علاج يخصه. وسنعالجها على هذا الترتيب: "الشبهة الأولى" شبهة غِرٍّ ناشئ يتوهم القدرة على محاكاة القرآن: 1- فأما إن كان مثار الشبهة عنده أنه زاول شيئًا من صناعة الشعر أو الكتابة، وآنس من نفسه اقتدارًا في البيان فوسوس له شيطان الإعجاب بنفسه والجهل بالقرآن أنه يستطيع الإتيان بمثل أسلوبه، فذلك ظن لا يظنه بنفسه أحد من الكبار المنتهين، وإنما يعرض -إن عرض- للأغرار الناشئين.

ومثل هذا دواؤه عندنا نصح نتقدم به إليه أن يطيل النظر في أساليب العرب، وأن يستظهر على فهمها بدراسة طرف من علوم الأدب، حتى تستحكم عنده ملكة النقد البياني، ويستبين له طريق الحكم في مراتب الكلام وطبقاته، ثم ينظر في القرآن بعد ذلك. وأنا له زعيم بأن كل خطوة يخطوها في هذه السبيل ستزيده معرفة بقدره، وستحل عن نفسه عقدة من عقد الشك في أمره؛ إذ يرى هنالك أنه كلما ازداد بصيرة بأسرار اللغة، وإحسانًا في تصريف القول، وامتلاكًا لناصية البيان، ازداد بقدر ذلك هضمًا لنفسه، وإنكارًا لقوته، وخضوعًا بكليته أمام أسلوب القرآن، وهذا قد يبدو لك عجيبًا، أن يزداد شعور المرء بعجزه عن الصنعة بقدر ما تتكامل فيها قوته ويتسع بها علمه. ولكن لا عجب، فتلك سنة الله في آياته التي يصنعها بيديه: لا يزيدك العلم بها والوقوف على أسرارها إلا إذعانًا لعظمتها وثقة بالعجز عنها. ولا كذلك صناعات الخلق، فإن فضل العلم بها يمكنك منها ويفتح لك الطريق إلى الزيادة عليها، ومن هنا كان سحرة فرعون هم أول المؤمنين برب موسى وهارون. فإن أبى المغرور إلا إصرارًا على غروره، وكبُر عليه أن يُقر بعجزه وقصوره، دعوناه إلى الميدان ليجرب نفسه ويبرز قوته، وقلنا له: أخرج لنا أحسن ما عندك لننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين.. غير أننا نعظه بواحدة أخرى: ألا يخرج على الناس ببضاعته حتى يطيل الروية ويحكم الموازنة، وحتى يستيقن الإحسان والإجادة؛ فإنه إن فعل ذلك كان أدنى أن يتدارك غلطه ويواري سوءته، وإلا فقد أساء المسكين إلى نفسه من حيث أراد الإحسان إليها. وإن في التاريخ لَعِبَرًا تؤثَر عن أناس حاولوا مثل هذه المحاولة؛ فجاءوا في معارضة القرآن بكلام لا يشبه القرآن ولا يشبه كلام أنفسهم؛ بل نزلوا إلى ضرب من السخف

والتفاهة بادٍ عَوارُه، باقٍ عارُه وشَنارُه: فمنهم عاقلٌ استحيا أن يُتم تجربته، فحطم قلمه ومزق صحيفته1. ومنهم ماكر وجد الناس في زمنه أعقل من أن تروج فيهم سخافاته، فطوى صحفه وأخفاها إلى حين2. ومنهم طائش برز بها إلى الناس، فكان سخرية للساخرين ومثلًا للآخرين3.

_ 1 يعزى شيء من ذلك لابن المقفع، ولأبي الطيب، وللمعري، والظن بهؤلاء أنهم كانوا في غنًى بعقولهم وأذواقهم عن الشروع في هذه المحاولة، إلا أن يكون على حد: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} . 2 من ذلك ما اشتهر عن تلك الكتب التي وضعها زعماء نحلتي "القاديانية" و"البهائية" لتكون دستورًا دينيًّا لهم كالقرآن، وقد لفقوها تلفيقًا ركيكًا من آيات قرآنية وكلمات عامية، وبدلوا فيها أصول الإسلام وفروعه، وادعوا فيها لأنفسهم النبوة أو الألوهية، ولكن أتباعهم لم يجسروا أن يذيعوا تلك الكتب وشمس العلم طالعة، فآخفوها -كما يخفي السنور سلحته- إلى أن يجيء وقت يفشو فيه الجهل بالعلوم والآداب، وتستعد فيه النفوس لقبول آمثالها. فلينتظروا آخر الدهر. 3 ذلك مثل مسيلمة الدجال، فقد زعم أنه يوحى إليه بكلام مثل القرآن، وما صنع شيئًا إلا أنه كان يعمد إلى آي من القرآن فيسرق أكثر ألفاظها ويبدل بعضًا، كقوله: "إنا أعطيناك الجماهر فصل لربك وجاهر" أو جيء على موازين الكلمات القرآنية بألفاظ سوقية ومعاني سوقية، كقوله: "والطاحنات طحنًا والعاجنات عجنًا والخابزات خبزًا" وهكذا لم يستطع وهو عربي قح أن يحتفظ بأسلوب نفسه، بل نزل إلى حد الإسفاف، وأتى العبث الذي يأتيه الصبيان في مداعبتهم وتفكههم بقلب الأشعار والأغاني عن وجهها، ولا يخفى أن هذا كله ليس من المعارضة في شيء، بل هو المحاكاة والإفساد، وما مثله إلا كمثل من يستبدل بالإنسان تمثالًا لا روح فيه، وهو على ذلك تمثال ليس فيه شيء من جمال الفن، وإنما المعارضة أن تعمد إلى معنى من المعاني فتؤديه نفسه بأسلوب آخر يوازي الأصل في بلاغته أو يزيد. ومن يحاول ذلك في المعاني القرآنية فإنما يحاول محالًا، والتجربة أصدق شاهد. بل من يحاول أن يجيء بمثل أسلوب القرآن في معاني أخرى لا يتحرى فيها الصدق والحكمة، فقد طمع في غير مطمع، ولذا كان من طرق التحدي للعرب أن طولبوا بعثر سور مثله {مُفْتَرَيَاتٍ} [سورة هود: 13] . هذا؛ والذي نفهمه في أمر مسيلمة هو ما فهمه الأديب الرافعي: أنه لم يرد أن يعارض القرآن من ناحية الصناعة البيانية، إذ كانت هذه الناحية أوضح من أن يلتبس أمرها عليه، أو أن يستطيع تلبيسها على أحد من العرب، وإنما أراد أن يتخذ سبيله إلى استهواء قومه من ناحية أخرى ظنها أهون عليه وأقرب تأثيرًا في نفوسهم، ذلك أن رأى العرب تعظم الكهان في الجاهلية، وكانت عامة أساليب الكهان من هذا السجع القلق الذي يزعمون أنه من كلام الجن، كقولهم "يا جليح، أمر نجيح، رجل فصيح، يقول: لا إله إلا الله -البخاري في المناقب: إسلام عمر" فكذلك جعل يطبع مثل هذه الأسجاع في محاكاة القرآن؛ ليوهمهم أنه يوحى إليه كما يوحى إلى محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كأنما النبوة والكهانة ضرب واحد، على أنه لم يفلح في هذه الحيلة أيضًا، فقد كان كثيرون من أشياعه يعرفونه بالكذب والحماقة، ويقولون: إنه لم يكن في تعاطيه الكهانة حاذقًا، ولا في دعواه النبوة صادقًا، وإنما كان اتباعهم إياءه كما قال قائلهم: "كذاب ربيعة أحب إلينا عن صادق مضر".

فمن حدثته نفسه أن يعيد هذه التجربة مرة أخرى فلينظر في تلك العبر وليأخذ بأحسنها، ومن لم يستحِ فليصنع ما يشاء. "الشبهة الثانية" شبهة أديب متواضع ينسب هذه القدرة إلى غيره من الفحول: وأما إن كان مدخل الشبهة عنده أنه رأى في الناس من هو أعلى منه كعبًا في هذه الصناعة، فقال في نفسه: "لئن لم أكن أنا من فرسان هذا الميدان، ولم يكن لي في معارضة القرآن يدان، لعل هذا الأمر يكون يسيرًا على من هو أفصح مني لسانًا وأسحر بيانًا" فمثل هذا نقول له: ارجع إلى أهل الذكر من أدباء عصرك فاسألهم هل يقدرون أن يأتوا بمثله؟ فإن قالوا لك: "لو نشاء لقلنا مثل هذا" فقل: "هاتوا برهانكم! " وإن قالوا: "لا طاقة لنا به" فقل: أي شيء أكبر من العجز شهادة على الإعجاز؟ ثم ارجع إلى التاريخ فاسأله: ما بال القرون الأولى؟ ينبئك التاريخ أن أحدًا لم يرفع رأسه أمام القرآن في عصر من أعصاره، وأن بضعة النفر الذين أنغضوا رءوسهم إليه باءوا بالخزي والهوان، وسحب الدهر على آثارهم ذيل النسيان. أجل، لقد سجل التاريخ هذا العجز على أهل اللغة أنفسهم في عصر نزول القرآن، وما أدراك ما عصر نزول القرآن؟ هو أزهى عصور البيان العربي، وأرقى أدوار التهذيب اللغوي، وهل بلغت المجامع اللغوية في أمة من الأمم ما بلغته الأمة العربية في ذلك العصر من العناية بلغتها، حتى أدركت هذه اللغة أشدها؛ وتم لهم بقدر الطاقة البشرية تهذيب كلماتها وأساليبها؟ .. وما هذه الجموع المحشودة في الصحراء، وما هذه المنابر المرفوعة هنا وهناك؟ إنها أسواق العرب تعرض فيها أنفس بضائعهم وأجود صناعاتهم؛ وما هي إلا بضاعة الكلام، وصناعة الشعر والخطابة، يتبارون في عرضها ونقدها، واختيار أحسنها والمفاخرة بها، ويتنافسون فيها أشد التنافس، يستوي في ذلك رجالهم ونساؤهم، وما أمر حسان والخنساء وغيرهما بخافٍ على متأدب.

فما هو إلا أن جاء القرآن.. وإذا الأسواق قد انفضت، إلا منه، وإذا الأندية قد صَفِرت، إلا عنه، فما قدر أحد منهم أن يُباريَه أو يجاريَه، أو يقترح فيه إبدال كلمة بكلمة، أو حذف كلمة أو زيادة كلمة، أو تقديم واحدة وتأخير أخرى؛ ذلك على أنه لم يسد عليهم باب العارضة بل فتحه على مصراعيه، بل دعاهم إليه أفرادًا أو جماعات. بل تحداهم وكرر عليهم ذلك التحدي في صور شتى، متهكمًا بهم متنزلًا معهم إلى الأخف فالأخف: فدعاهم أول مرة أن يجبئوا بمثله، ثم دعاهم أن يأتوا بعشر سور مثله، ثم أن يأتوا بسورة واحدة مثله، ثم بسورة واحدة من مثله1، وأباح لهم في كل مرة أن يستعينوا بمن شاءوا ومن استطاعوا، ثم رماهم والعالم كله بالعجز في غير مواربة؛ فقال: {لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} 2 وقال: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} 3، فانظر أي إلهاب، وأي استفزاز! لقد أجهز عليهم بالحكم البات المؤبد في قوله {وَلَنْ تَفْعَلُوا} ثم هددهم بالنار، ثم سواهم بالأحجار، فلعمري لو كان فيهم لسان يتحرك لما صمتوا عن منافسته وهم الأعداء الألداء، وأباة الضيم الاعزاء، وقد أصاب منهم موضع عزتهم وفخارهم، ولكنهم لم يجدوا ثغرة ينفذون منها إلى معارضته، ولا سُلَّمًا يصعدون به إلى مزاحمته، بل وجدوا أنفسهم منه أمام طود شامخ، فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبًا ... حتى إذا استيأسوا من قدرتهم واستيقنوا عجزهم ما كان جوابهم إلا أن ركبوا متن

_ 1 انظر كيف تنزَّل معهم في هذه المرتبة من طلب المماثل إلى طلب شيء مما يماثل كأنه يقول: لا أكلفكم بالمماثلة العامة؛ بل حسبكم أن تأتوا بشيء فيه جنس المماثلة ومطلقها، ربما يكون مثلًا على التقريب لا التحديد. وهذا أقصى ما يمكن من التنزُّل، ولذا كان هو آخر صيغ التحدي نزولًا، فلم يجئ التحدي بلفظ "من مثله" إلا في سورة البقرة المدنية، وسائر المراتب بلفظ "مثله" في السور التي نزلت قبل ذلك بمكة؛ فتأمل هذا الفرق فإنه طريف. وأسأل الله أن يوفقنا وإياك لفهم أسرار كتابه، والانتفاع بهدايته وآدابه. 2 سورة الإسراء: الآية 88. 3 سورة البقرة: الآية 24.

الحتوف، واستنطقوا السيوف بدل الحروف. وتلك هي الحيلة التي يلجأ إليها كل مغلوب في الحجة والبرهان، وكل من لا يستطيع دفعًا عن نفسه بالقلم واللسان. ومضى عصر القرآن والتحدي قائمًا فليجرب كل امرئ نفسه، وجاء العصر الذي بعده، وفي البادية وأطرافها أقوام لم تختلط أنسابهم، ولم تنحرف ألسنتهم، ولم تتغير سليقتهم، وفيهم من لو استطاعوا أن يأتوا هذا الدين من أساسه، ويثبتوا أنهم قادرون من أمر القرآن على ما عجز عنه أوئلهم، لفعلوا، ولكنهم ذلت أعناقهم له خاضعين، وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل. ثم مضت تلك القرون، وورث هذه اللغة عن أهلها الوارثون، غير أن هؤلاء الذين جاءوا من بعد، كانوا أشد عجزًا وأقل طمعًا في هذا المطلب العزيز. فكانت شهادتهم على أنفسهم مضافة إلى شهادة التاريخ على أسلافهم، وكان برهان الإعجاز قائمًا أمامهم من طريقين: وجداني وبرهاني.. ولا يزال هذا دأب الناس والقرآن حتى يرث الله الأرض ومن عليها. "الشبهة الثالثة" شبهة القائل بأن عدم معارضة العرب لأسلوب القرآن ربما كان بسبب انصرافهم لا بسبب عجزهم: فإن قال لنا: نعم، قد علمتُ أنه لم يأتِ أحد بشيء في معارضة القرآن، ولكن ليس كل ما لم يفعله الناس يكون خارجًا عن حدود قدرتهم، فربما ترك الإنسان فعلًا هو من جنس أفعاله الاختيارية لعدم قيام الأسباب التي من شأنها أن تبعث عليه، أو لأن صارفًا إلهيًّا ثبط همته وصرف إرادته عنه مع توافر الأسباب الداعية إليه، أو لأن عارضًا فجائيًّا عطَّل آلاته وعاق قدرته عن إحداث ذلك الفعل بعد توجه إرادته نحوه، فعلى الفرضين الأولين يكون عدم معارضة القرآن قلة اكتراث بشأنه لا عجزًا عن

الإتيان بمثله، وعلى الفرض الأخير يكون تركه عجزًا عنه حقًّا، لكن ليس لمانع فيه من جهة علو طبقته عن مستوى القدرة البشرية، بل لمانع خارجي هو حماية 1 القدرة العليا له، وصيانتها إياه عن معارضة المعارضين، ولو أزيل هذا المانع لجاء الناس بمثله. قلنا له: هذه الفروض كلها لا تنطبق على موضوعنا بحال. أما الأول: فإن الأسباب الباعثة على المعارضة كانت موفورة متضافرة، وأي شيء أقوى في استثارة حمية خصمك من ذلك التقريع البليغ المتكرر الذي توجهه إليه معلنًا فيه عجزه عن مضاهاة عملك؟ إن هذا التحدي كافٍ وحده في إثارة حفيظة الجبان وإشعال همته للدفاع عن نفسه بما تبلغه طاقته، فكيف لو كان الذي تتحداه مجبولًا على الأنفة والحمية؟ وكيف لو كان العمل الذي تتحداه به هو صناعته التي بها يفاخر، والتي هو فيها المدرب الماهر؟ وكيف لو كنت مع ذلك ترميه بسفاهة الرأي وضلال الطريق؟ وكيف لو كنت تبتغي من وراء هذه الحرب الجدلية هدم عقائده، ومحو عوائده وقطع الصلة بين ماضيه ومستقبله؟ وأما الثاني: فإن هذه الأسباب قد رأيناها آتت بالفعل ثمراتها، وأيقظت همم المعارضين إلى أبعد حدودها. حتى كان أمر محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والقرآن هو شغلهم الشاغل، وهمهم الناصب، فلم يدعوا وسيلة من الوسائل لمقاومته باللطف أو بالعنف إلا استنبطوها وتذرعوا بها: أيخادعونه عن دينه ليلين لهم ويركن قليلًا إلى دينهم2 أم

_ 1 هذا هو القول بالصرفة، الذي اشتهر عن النظَّام من المعتزلة، وهو وإن كان اعترافًا في الجملة بصحة الإعجاز إلا أنه يقول به إلا أعجمي أو شبهه ممن لم يذق للبلاغة طعمًا، ولذلك لم يتابعه عليه تلميذه الجاحظ ولا أحد من علماء العربية، وهو يعد خلاف ما عرفه العرب من أنفسهم كما سنبينه. 2 جاء رجال من قريش إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالوا له: يا محمد تعالَ تمسح بآلهتنا، أو ألم بآلهتنا، وندخل معك في دينك، فنزل قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [سورة الإسراء: 73] رواه ابن مردويه بسند جيد.

يساومونه بالمال والملك ليكف عن دعوته1، أم يتواصون بمقاطعته، وبحبس الزاد عنه وعن عشيرته الأقربين حتى يموتوا جوعًا أو يسلموه2، أم يمنعون صوت القرآن أن يخرج من دور المسلمين خشية أن يسمعه أحد من أبنائهم3، أم يلقون فيه الشبهات والمطاعن، أم يتهمون صاحبه بالسحر والجنون ليصدوا عنه من لا يعرفه من القبائل القادمة في المواسم، أم يمكرون به ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه4، أم يخاطرون بمهجهم وأموالهم وأهليهم في محاربته، أفكان هذا كله تشاغلًا عن القرآن وقلة عناية بشأنه؟! ثم لماذا كل هذا وهو قد دلهم على أن الطريق الوحيد لإسكاته هو أن يجيئوه بكلام مثل الذي جاءهم به؟ ألم يكن ذلك أقرب إليهم وأبقى عليهم لو كان أمره في يدهم؟ ولكنهم طرقوا الأبواب كلها إلا هذا الباب، وكان القتل والأسر والفقر والذل كل أولئك أهون عليهم من ركوب هذا الطريق الوعر الذي دلهم عليه. فأي شيء يكون العجز إن لم يكن هذا هو العجز. لا ريب أن هذه الحملات كلها لم تكن موجهة إلى شخص النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه، فقد كانوا من قبل تعطفهم عليهم أرحامهم، وتحببهم إليهم مكارم أخلاقهم. كما أنها

_ 1 إيماء إلى القصة الطويلة التي نزلت فيها قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} [الآيات من سورة الإسراء: 90 فما فوقها] رواها ابن جرير بسند متصل فيه مبهم، ولها شاهد مرسل صحيح. 2 إيماء إلى خبر الصحيفة الجائرة التي تحالفت فيها قريش وكنانة على بني هاشم وبني المطلب ألا يناكحوهم، ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم رسول الله. رواه الشيخان عن الزهري، وفي شأن هذه المحالفة يقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في غزوة الفتح وفي حجة الوداع: "منزلنا غدًا إن شاء الله بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر" رواه الشيخان، انظر صحيح البخاري عن أبي هريرة، ك/ الحج، ب/ نزول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مكة "1487"، ومسلم عن أبي هريرة، ك/ الحج، ب/ استحباب النزول بالمحصب يوم النفرة والصلاة "2316". 3 لم يطق أشراف قريش أن يستعلن أبو بكر بقراءة القرآن في فناء داره إذ كانت تهوى إليه أفئدة من أبنائهم ونسائهم وعبيدهم يستمعون لقراءته، فخشي المشركون أن يفتتنوا، وكان ابن الدغنة قد أجار أبا بكر، فأمروه أن يسترد جواره منه إذا أصر على الإعلان بقراءته. وقد فعل. الحديث رواه البخاري، ك/ الحوالات، ب/ جوار أبي بكر "2134". 4 سورة الأنفال: الآية 30.

لم تكن موجهة إلى القرآن في الصدور ولا في داخل البيوت؛ فقد قبلوا منهم أن يعبد كل امرئ ربه في بيته كيف يشاء. إنما كانت مصوبة إلى هدف واحد، ومقاومة لخطر واحد، هو إعلان1 هذا القرآن ونشره بين العرب. ولا يهجسنَّ في روعك أنهم ما نقموا من الإعلان بالقرآن إلا أنه دعوة جديدة إلى دين جديد فحسب. كلا، فقد كان في العرب حنفاء من فحول الخطباء والشعراء؛ كقُس بن ساعدة، وأمية بن أبي الصلت، وغيرهما، وكانت خطبهم وأشعارهم مشحونة بالدعوة إلى ما دعا إليه القرآن من دين الفطرة. فما بالهم قد أهمهم من أمر محمد وقرآنه ما لم يعنهم من أمر غيره؟ ما ذاك إلا أنهم وجدوا له شأنًا آخر لا يشبه شأن الناس، وأنهم أحسوا في قرأنه قوة غلابة وتيارًا جارفًا يريد أن يبسط سلطانه حيث يصل صدى صوته، وأنهم لم يجدوا سبيلًا لمقاومته عن طريق المعارضة الكلامية التي هي هجيراهم، والتي هي الطريق المباشر الذي تحداهم به، فلا جرم كان الطريق الوحيد عندهم لمقاومته هو الحيلولة بمختلف الوسائل بين هذا القرآن وبين الناس مهما كلفهم ذلك من تضحية، وكذلك فعلوا، وكذلك مضت السنة فيمن بعدهم من أعداء القرآن إلى يومنا هذا. وأما الثالث: فإنه لو كان عجزهم عن مضاهاة القرآن لعارضٍ أصابهم حال بينهم وبين شيء في مقدورهم، لما استبان لهم ذلك العجز إلا بعد أن يبسطوا ألسنتهم إليه، ويجربوا قدرتهم عليه؛ لأنه ما كان لامرئ أن يحس بزوال قدرته عن شيء كان يقدر عليه كقدرته على القيام والقعود إلا بعد محاولة وتجربة، ونحن قد علمنا أنهم قعدوا عن هذه التجربة، ولم يشرع منهم في هذه المحاولة إلا أقلهم عددًا، وأسفههم رأيًا. فكان

_ 1 وفي ذلك يقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حينما كان يعرض نفسه على الناس في الموقف: "ألا رجل يحملني إلى قومه؟ فإن قريشًا منعوني أن أبلغ كلام ربي" رواه أبو داود والترمذي" فانظر قوله: "منعوني أن أبلغ" ولم يقل منعوني أن "أتلو"، رواه الترمذي عن جابر، ك/ فضائل القرآن، ب/ ما جاء كيف كانت قراءة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "2849"، وأبو داود عن جابر بن عبد الله، ك/ السنة، ب/ في القرآن "4109".

ذلك آية على بأسهم الطبيعي من أنفسهم، وعلى شعورهم بأن عجزهم عنهم عجز فطري عتيد، كعجزهم عن إزالة الجبال، وعن تناول النجوم من السماء، وأنهم كانوا في غنى بهذا العلم الضروري عن طلب الدليل عليه بالمحاولات والتجارب. على أنهم لو كانوا لم يعرفوا عجزهم عنه بادئ ذي بدء، وإنما أدركهم العجز بعد شعورهم بأنه في مستوى كلامهم، لكان عجبهم إذًا من أنفسهم: كيف عيوا به وهو منهم على طرف الثمام؟ ولجعلوا يتساءلون فيما بينهم أي داء أصابنا فعقد ألسنتنا عن معارضة هذا الكلام هو ككل كلام؟ أو لرجعوا إلى بيانهم القديم قبل أن يصيبهم العجز فجاءوا بشيء منه في محاذاته، ولكنهم لم يجيئوا فيه بقديم ولا جديد، وكان القرآن نفسه هو مثار عجبهم وإعجابهم، حتى إنهم كانوا يخرون سُجَّدًا لسماعه من قبل أن تمضي مهلة يوازنون فيها بينه وبين كلامهم، بل إن منهم من كان يغلبه هذا الشعور فيفيض على لسانه اعترافًا صحيحًا: "ما هذا بقول بشر". "الشبهة الرابعة" شبهة من قد يظن أن القرآن إن كان معجزًا فليس إعجازه من ناحيته اللغوية؛ لأنه لم يخرج عن لغة العرب في مفرداته ولا في قواعد تركيبه: فإن قال: قد تبينتُ الآن أن سكوت الناس عن معارضة القرآن كان عجزًا، وأنهم وجدوا في طبيعة القرآن سرًّا من أسرار الإعجاز يسمو به عن قدرتهم. ولكني لست أفهم أن ناحيته اللغوية يمكن أن تكون من مظان هذ السر؛ لأني أقرأ القرآن فلا أجده يخرج عن معهود العرب في لغتهم العربية: فمن حروفهم رُكِّبَتْ كلماتُه. ومن كلماتهم أُلفت جمله وآياته، وعلى مناهجهم في التأليف جاء تأليفه، فأي جديد في مفردات القرآن لم يعرفه العرب من موادها وأبنيتها؟ وأي جديد في تركيب القرآن لم تعرفه العرب من طرائقها ولم تأخذ به في مذاهبها، حتى نقول: إنه قد جاءهم بما فوق طاقتهم اللغوية؟

قلنا له: أما أن القرآن الكريم لم يخرج في لغته عن سنن العرب في كلامهم إفرادًا وتركيبًا فذلك في جملته حق لا ريب فيه، وبذلك كان أدخل في الإعجاز، وأوضح في قطع الأعذار {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} 1. وأما بعد، فهل ذهب عنك أن مثل صنعة البيان كمثل صنعة البنيان، فالمهندسون البناءون لا يخلقون مادة بناء لم تكن في الأرض، ولا يخرجون في صنعتهم عن قواعدها العامة، ولا يعدو ما يصنعونه أن يكون جدرانًا مرفوعة، وسقفًا موضوعة، وأبوابًا مشرعة، ولكنهم تتفاضل صناعاتهم وراء ذلك في اختيار أمتن المواد وأبقاها على الدهر، وأكنها للناس من الحر والقر، وفي تعميق الأساس وتطويل البنيان، وتخفيف المحمول منها على حامله، والانتفاع بالمساحة اليسيرة في المرافق الكثيرة، وترتيب الحجرات والأبهاء، بحيث يتخللها الضوء والهواء، فمنهم من يفي بذلك كله أو جله، ومنهم من يخل بشيء منه أو أشياء.. إلى فنون من الزينة والزخرف يتفاوت الذوق الهندسي فيها تفاوتًا بعيدًا. كذلك ترى أهل اللغة الواحدة يؤدون الغرض الواحد على طرائق شتى يتفاوت حظها في الحسن والقبول، وما من كلمة من كلامهم ولا وضع من أوضاعهم بخارج عن مواد اللغة وقواعدها في الجملة. ولكنه حسن الاختيار في تلك المواد والأوضاع قد يعلو بالكلام حتى يسترعي سمعك، ويثلج صدرك، ويملك قلبك. وسوء الاختيار في شيء من ذلك قد ينزل به حتى تمجه أذنك، وتغشى منه نفسك، وينفر منه طبعك. ذلك أن اللغة فيها العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، وفيها العبارة والإشارة والفحوى والإيماء، وفيها الخبر والإنشاء، وفيها الجمل الاسمية والفعلية، وفيها

_ 1 سورة فصلت: الآية 44.

النفي والإثبات، وفيها الحقيقة والمجاز، وفيها الإطناب والإيجاز، وفيها الذكر والحذف، وفيها الابتداء والعطف، وفيها التعريف والتنكير، وفيها التقديم والتأخير، وهلم جرا.. ومن كل هذه المسالك ينفذ الناس إلى أغراضهم، غير ناكبين بوضع منها عن أوضاع اللغة جملة، بل في شعابها يتفرقون، وعند حدودها يلتقون. بيد أنه ليس شيء من هذه المسالك بالذي يحمل في كل موطن، وليس شيء منها بالذي يقبح في كل موطن، إذًا لهان الأمر على طالبه، ولأصبحت البلاغة في لسان الناس طعمًا واحدًا، وفي سمعهم نغمة واحدة. كلا، فإن الطريق الواحد قد يبلغك مأمنك حينًا، ويقصر بك عن غايتك حينًا آخر، ورب كلمة تراها في موضع كالخرزة الضائعة ثم تراها بعينها في موضع آخر، كالدرة اللامعة. فالشأن إذًا في اختيار هذه الطرق أيها أحق بأن يسلك في غرض غرض، وأيها أقرب توصيلًا إلى مقصد مقصد؛ ففي الجدال أيها أقوم بالحجة، وأدحض للشبهة، وفي الوصف أيها أدق مثيلًا للواقع، وفي موطن اللين أيها أخف على الأسماع وأرفق بالطباع، وفي موطن الشدة أيها أشد اطلاعًا على الأفئدة بتلك النار الموقدة، وعلى الجملة أيها أوفى بحاجات البيان وأبقى بطراوته على الزمان. والأمر في هذا الاختيار عسير غير يسير؛ لأن مجال الاختيار كثير الشعب، مختلف الألوان في صور المفردات والتراكيب، والناس ليسوا سواء في استعراض هذه الألوان، فضلًا عن الموازنة بينها، فضلًا عن حسن الاختيار فيها، فرب رجلين يهتدي أحدهما إلى ما غَفَل عنه صاحبه، ويغفل كل منهما عما هدي إليه الآخر، ورب وجه واحد يفوتك ها هنا يعدل وجهين تحصلهما هناك، أو بالعكس. وعن جملة الملاحظات التي يلاحظها القائل في قوله، تتولد صورة خاصة مثلها في هذه المركبات المعنوية مثل "المزاج" في تلك المركبات العنصرية المادية، وهذا "المزاج" هو الذي نسميه بالأسلوب أو الطريقة، وعلى حسبه يقع التفاوت في

درجات الكلام وفي حظه من الحسن والقبول. فالجديد في لغة القرآن أنه في كل شأن يتناوله من شئون القول يتخير له أشرف المواد، وأمسها رحمًا بالمعنى المراد، وأجمعها للشوارد، وأقبلها للامتزاج، ويضع كل مثقال ذرة في موضعها الذي هو أحق بها وهي أحق به، بحيث لا يجد المعنى في لفظه إلا مرآته الناصعة، وصورته الكاملة، ولا يجد اللفظ في معناه إلا وطنه الأمين، وقراره المكين. لا يومًا أو بعض يوم، بل على أن تذهب العصور وتجيء العصور، فلا المكان يريد بساكنه بدلًا، ولا الساكن يبغي عن منزله حِوَلًا.. وعلى الجملة يجيئك من هذا الأسلوب بما هو المثل الأعلى في صناعة البيان. هذا مطلب له دليله، وإجمال له تفصيله، وليس من قصدنا أن نعجلك الآن بالبحث في أدلته وتفاصيله، وإنما أردنا أن نزيح عنك هذه الشبهة لتعلم أن ليس كل كلام عربي ككل كلام عربي، وأن هذه الناحية اللغوية جديرة بأن تتافوت فيها القوى نازلة إلى حد العجز، أو صاعدة إلى حد الإعجاز. فإن أحببت أن تعرف للقرآن الكريم سبقه وبلوغه الغاية في هذا المضمار وأنت بعدُ لم تُرزق قوة الفصل بين درجات الكلام فاعلم أنه لا سبيل لك إلى القضاء في هذا الشأن عن حس وخبرة، وإنما سبيلك أن تأخذ حكمه مسلمًا عن أهله وتقنع فيه بشهادة العارفين به، وإذًا يكون من حقك علينا أن نقدم لك مثالًا من شهاداتهم، فخذ الآن هذا المثال: جاء الوليد بن المغيرة إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلما قرأ عليه القرآن كأنه رقَّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال له: يا عم، إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالًا ليعطوكه، فإنك أتيت محمدًا لتتعرض لما قبله، قال الوليد: لقد علمت قريش أني من أكثرها مالًا، قال: فقل فيه قولًا يبلغ قومك أنك منكر له وكاره، قال: وماذا أقول؟ فوالله ما فيكم

رجل أعلم مني بالشعر لا برَجَزِه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقوله شيئًا من هذا، ووالله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمنير أعلاه، مشرق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته ... الحديث1 رواه عن ابن عباس، وقال: صحيح على شرط البخاري. نعم، إن كنت لا تفرق بين كلام وكلام فهذه شهادةٌ حسبُك من شهادة، وناهيك أنها شهادة أهل اللغة أنفسهم، بل شهادة الأعداء لعدوهم. وإذا لم تر الهلال فسلم ... لأناس رأوه بالأبصار وأما إن كنت قد أوتيت حظك من معرفة فروق الكلام والمَيْز بين أساليبه فاقرأ ما شئت من خطب العرب وأشعارها، وحكمها وأمثالها، ورسائلها ومحاوراتها، متتبعًا في ذلك عصور الجاهلية والإسلام على اختلاف طبقاتها، ثم افتح صفحة من هذا الكتاب العزيز وانظر ماذا ترى؟ أسلوب عجب، ومنهج من الحديث فذ مبتكر، كأن ما سواه من أوضاع الكلام منقول، وكأنه بينها على حد قول بعض الأدباء: "وضع مرتجل" لا ترى سابقًا جاء بمثاله، ولا لاحقًا طبع على غِراره، فلو أن آية منه جاءتك في جمهرة من أقوال البلغاء

_ 1 للحديث بقية، وهي أن أبا جهل ألح على الوليد، وقال له: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه. فقال الوليد: دعني أفكر. فلما فكر قال: هذا سحر يأثره عن غيره، وفي ذلك نزل قوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا، وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا، وَبَنِينَ شُهُودًا، وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا، ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ، كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا، سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا، إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ نَظَرَ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ، فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ، إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [الآيات من سورة المدثر: 11 وما بعدها] . فانظر تصوير القرآن للجهد العنيف الذي بذله الرجل في إصدار حكمه الثاني، حيث يقول: إنه فكر وقدر، ثم نظر، ثم عبس وبسر، ثم أدبر واستكبر، ومعنى هذا كله أنه كان يقاوم فطرته، ويستكره نفسه على مخالفة وجدانه، وأنه كان في حيرة وضيق بما يقول.. وأخيرًا استطاع أن يقول ما قال نزولًا على إرادة قومه. وانظر الفرق بين هذا الحكم المصطنع وبين حكم البديهة العربية في قوله أول مرة: إنه يعلو وما يُعلى، وأنه يحطم ما تحته.

لدلت على مكانها. واستمازت من بينها، كما يستميز اللحن الحساس بين ضروب الألحان، أو الفاكهة الجديدة بين ألوان الطعام. "الشبهة الخامسة" شبهة من يزعم أن عدم قدرة الناس على مجاراة أسلوب القرآن ليس خصوصية للقرآن؛ لأن أسلوب كل قائل صورة نفسه ومزاجه فلا يستطيع غيره أن يحل محله: سيقول السائل إذا انتهى معنا إلى هذا الموضع: لقد أغلقتم عنا بهذا البيان بابًا من الشك، ولكنكم لم تلبثوا أن فتحتم علينا منه بابًا جديدًا، ألم تقولوا لنا: إن هذه الصناعة البيانية ليست في الناس بدرجة واحدة، وإن القوى تذهب فيه متفاوتة على مراتب شتى، فما نرى إذًا علينا من حرج أن نعد الإعجاز الذي حدثتمونا عنه أمرًا مشاعًا يجري في أساليب الناس كما يجري في القرآن. ألا ترون أن كل قائل أو كاتب إنما يضع في بيانه قطعة من عقله ووجدانه على الصورة التي تهديه إليها فطرته ومواهبه؟ وأن اختلاف الناس في هذه الوسائل يتبعه البتة اختلاف طرائقهم في التعبير عن أغراضهم؟ إنكم لتستطيعون أن تحصوا في اللغة العربية صورًا كلامية بعدة الناطقين بها، بحيث لا تجدون كاتبًا يكتب كما يكتب كاتب آخر على السواء، ولا قائلًا كذلك. بل أنتم لا محالة واجدون عند كل واحد منهاجًا خاصًّا في الأداء؛ فليس البدوي كالحضري، ولا الذكي كالغبي. وليس الطائش كالحليم، ولا المريض كالسليم. وليس الأدنى في هذا الباب يستطيع الصعود إلى الأعلى، ولا الأعلى يستطيع النزول إلى الأدنى. بل المتشابهان فطرة ومزاجًا، المتساويان تربية وتعليمًا قد يشربان من كأس واحدة ثم لا يتناطقان بالكلام على صورة واحدة. فكيف تأمرون الناس أن يجيئوكم بمثل القرآن وهم لا يقدرون أن يجيء بعضهم بمثل كلام بعض؟ وكيف تعدون عجزهم عنه آية على قدسيته وأنتم لا تعدون عجز كل امرئ عن الإتيان بأسلوب غيره آية على أن ذلك الأسلوب صنع إلهي محض لا كسب فيه للذي جرى على لسانه؟ أليس

هذا القياس يسوغ لنا أن نفترض القرآن كلامًا بشريًّا كسائر كلام البشر، غير أنه اختص أسلوبه بصاحبه كما اختص كل امرئ بأسلوب نفسه؟ وجوابنا لهذا القائل أن نقول له: لسنا نماريك في أن كلام المتكلم إنما هو صورة تمليها عليه فطرته ومواهبه، ولا في أن هذه الفطر والمواهب لتفاوتها عند أكثر الناس لا بد أن تترك أثرها من التفاوت في صورة كلامهم، ولا في أن تلك الفطر والمواهب إن تشابهت عند فريق من الناس فأملت عليهم صورًا متشابهة من القول فإنها لا تخرجها في عامة الأمر صورة واحدة. كل هذا نسلمه ولا ننكره، ولكنه لا يضرنا ولا يوهن شيئًا من حجتنا؛ ذلك أننا حين نتحدى الناس بالقرآن لا نطالبهم أن يجيئونا بنفس صورته الكلامية، كلا، ذلك ما لا نطمع فيه، ولا ندعو المعارضين إليه، وإنما نطلب كلامًا أيًّا كان نمطه ومنهاجه، على النحو الذي يحسنه المتكلم أيًّا كانت فطرته ومزاجه، بحيث إذا قيس مع القرآن بمقياس الفضيلة البيانية حاذاه أو قاربه في ذلك المقياس وإن كان على غير صورته الخاصة، فالأمر الذي ندعوهم إلى التماثل أو المقاربة فيه هو هذا القدر الذي فيه يتنافس البلغاء، وفيه يتماثلون أو يتقاربون. وذلك غير المعارض والصور المعينة التي لا بد من الاختلاف فيها بين متكلم ومتكلم. فإن عسر عليك أن تفهم كيف تجيء المماثلة مع هذا الاختلاف ضربنا لك مثلًا؛ قومًا يستبقون إلى غاية محدودة، وقد اتخذوا لذلك مجالًا واسعًا لا يزاحم بعضهم فيه بعضًا، ولايضع أحدهم قدمه على موضع قدم صاحبه، بل جعل كل منهم يذهب في طريقه الخاص به موازيًا لقِرنه في المبدأ والوجهة. ثم يكون منهم المجلي والمصلي، والمقفي والتالي، ويكون منهم من لا حظَّ له في الرهان. ويكون منهم المتكافئون المتعادلون. وهكذا تراهم وهم مختلفو المنازل يقع بينهم التماثل كما يقع بينهم التفاضل بنسبة ما قطعه كل منهم من طريقه إلى الغاية المشتركة.

فكذلك المتنافسون في حلبة البيان يعمد كل منهم إلى الغرض من الطريق التي يرضاها، وعلى الوجه الذي يستمليه من نفسه، ثم يقع بينهم التماثل أو التفاضل على قدر ما يوفون من حاجة البيان أو ينقصون منها، وإن اختلفت المذاهب التي انتحاها كل منهم. هب -إذًا- المدعوين لمعارضة القرآن فيهم الأكفاء والأنداء لنبي القرآن في الفطرة والسليقة العربية، أو من هم أكمل منه فيها، أو هبهم جميعًا دونه في تلك المنزلة. فأما الأعلون فسيجيئون على وفق سليقتهم بقول أحسن من قوله. وأما الأنداد فسيجيئون بشيء مثله. وأما الآخرون فلن يكبر عليهم أن يقاربوا ويجيئوا بشيء من مثله1، وشيء من هذه المراتب الثلاث2 لو تم لكان كافيًا في رد الحجة وإبطال التحدي. ستقول: بل أختار الواقع، وهو أن العرب على اختلاف مراتبهم في البيان لم يرتفعوا إلى طبقة البلاغة المحمدية، وأزعم أن هذا القصور الذاتي الذي قعد بهم عن مجاراته في عامة كلامه هو الذي قعد بهم عن معارضة قرآنه. وإذًا لا يكون هذا العجز حجة لكم على قدسية الأسلوب القرآني كما لم يكن حجة عندكم على قدسية الأسلوب النبوي. فنجيب: أما أن محمدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان هو أفصح العرب، وكان له في هذه الفضيلة البيانية المقام الأول بينهم غير مزاحم، فذلك ما لا نماري -بل لا نمتري- فيه نحن ولا أحد ممن يعرف العربية، غير أننا نسأل ما مبلغ هذا التفاوت الذي كان بينهم وبينه؟ أكان مما يتفق مثله في مجاري العادات بين بعض الناس وبعض في حدود القوة البشرية، أم كان أمرًا شاذًّا خارقًا للعادة بالكلية؟

_ 1 لا تنس ما قررناه في الفرق بين هذه الطبقة والتي قبلها ص78. 2 غر أن المرتبة الأولى مسكوت عنها في القرآن الكريم استقصارًا لهممهم، واكتفاءً بتعجيزهم عما بعدها.

فأما إن كان كما نعهد شبيهًا بما يكون في العادة بين البليغ والأبلغ، وبين الحسن والأحسن، فلا شك أن هذا النحو من العلو إن حال بينهم وبين المجيء بمثل كلامه كله لم يكن ليحول بينهم وبين قطعة واحدة منه، ولئن أعجزهم هذا القدر اليسير أن يحتذوه على التمام لم يكن ليعجزهم أن ينزلوا منه بمكان قريب. ألا وإننا قد أرخينا لهم العنان في معارضة القرآن بهذا أو ذاك، وأغمضنا لهم فيما يجيئوننا به أن يكون كلًّا أو بعضًا، وكثيرًا أو يسيرًا، ومماثلًا أو قريبًا من المماثل، فكان عجزهم عن ذلك كله سواء. وأما إن قيل: إن التفاوت بينه عليه السلام وبين سائر البلغاء كان إلى حد انقطاع صلتهم به جملة؛ لاختصاصه من بين العرب ومن بين الناس بفطرة شاذة لا تنتسب إلى سائر الفطر في قليل ولا كثير إلا كما تنتسب القدرة إلى العجز، أو الإمكان إلى الاستحالة، فلا شك أن القول بذلك هو أخو القول بأن الإنسان ما ليس بإنسان، أو هو التسليم بأن ما يجيء به هذا الإنسان لا يكون من عمل الإنسان؛ ذلك أن الطبيعة الإنسانية العامة واحدة، والطبائع الشخصية تقع فيها الأشباه والأمثال في الشيء بعد الشيء وفي الواحد بعد الواحد؛ إن لم يكن ذلك في عصر ففي عصور متطاولة، وإن لم يكن في كل فنون الكلام ففي بعض فنونه. وكم رأينا من أناس كثيرة تتشابه قلوبهم وعقولهم وألسنتهم فتتوافق خواطرها وعباراتهم حينًا، وتتقارب أحيانًا، حتى لقد يخيل إليك أن الروح الساري في القولين روح واحد، وأن النفس ها هنا هو النفس هناك. وكذلك رأينا من الأدباء المتأخرين من يكتب بأسلوب ابن المقفع وعبد الحميد، ومن يكتب بأسلوب الهمذاني والخوارزمي، وهلم جرا. فلو كان أسلوب القرآن من عمل صاحبه الإنسان لكان خليقًا أن يجيء بشيء من مثله من كان أشبه بهذا الإنسان مزاجًا، وأقرب إليه هديًا وسمتًا، وألصق به رحمًا، وأكثر عنه أخذًا وتعلمًا، أو لكان جديرًا بأصحابه الذين نزل القرآن بين أظهرهم

فقرأوه واستظهروه؛ وتذوقوا معناه وتمثلوه، وترسموا خطواته واغترفوا من مناهله -أن يدنوا أسلوبهم شيئًا من أسلوبه على ما تقضي به غريزة التأسي، وشيمة نقل الطباع من الطباع، ولكن شيئًا من ذلك كله لم يكن، وإنما كان قصارى فضل البليغ فيهم كما هو جهد البليغ فينا أن يظفر بشيء يقتبسه منه في تضاعيف مقالته ليزيدها به علوًّا ونباهة شأن. بل نقول: لو كان الأسلوب القرآني صورة لتلك الفطرة المحمدية لوجب على قياس ما أصلته من المقدمات أن ينطبع من هذه الصورة على سائر الكلام المحمدي ما انطبع منها على أسلوب القرآن؛ لأن الفطرة الواحدة لا تكون فطرتين، والنفس الواحدة لا تكون نفسين1 ونحن نرى الأسلوب القرآني فنراه ضربًا وحده، ونرى الأسلوب

_ 1 هنا موضع سؤال، فكأننا بقائل يقول لنا: إنه ليس بدعًا من الأمر أن يكون للرجل البليغ ضربان من الكلام: أحدهما: يجيئه على البديهة فيرسله إرسالًا غير معني بتهذيبه وتجبيره، والآخر: يتأتى له بالروية ويحتفل به احتفالًا يجعل بينه وبين الضرب الأول بعدًا شاسعًا يخيل للسامع أنه قول شخص آخر مع صدور القولين عن قائل واحد. فهلا طبقتم هذا المثل في الكلام المحمدي فجعلتم حديثه من الضرب الأول وقرآنه من الضرب الثاني؟ والجواب: أن توزيع هذين الضربين على الحديث والقرآن توزيع لا يتفق والواقع في شيء؛ فقد كان أكثر الوحي القرآني يجيء إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في شأن لم يسبق عهد به ولم يتقدم منه تفكير فيه، بل كان يفاجئه من فوره على غير توقع وانتظار؛ جوابًا لسؤال سائل، أو فتيا في حادثة نزلت، أو قصصًا عن أمة مضت، أو ما إلى ذلك، وقليلًا ما كان يجيئه بعد تشوف وتلبث تمكن فيه الروية، كما في مسألة الإفك ومسألة تحويل القبلة، وقد رأينا أسلوبه في كلتا الحالين، فإذا نسقُه هو نسقُه ونظامُه هو نظامُه، وكذلك نقول: إن كلامه النبوي كانت تختلف عليه هذه الظروف ويتحد فيها أسلوبه، فقد كان يتكلم أحيانًا بعد تفكير طويل وروية وتشاور مع أصحابه كما رأينا من حديثه في مسألة الإفك، وكما نرى من حديثه بعد التشاور في شئون الحرب والصلح ونحوها، وأحيانًا بعد تلبث بسير؛ انتظارًا للوحي كما في قصة الرجل الذي جاء في الجعرانة سنة ثمان فسأل عن العمرة وهو متضمخ بالطب وعليه جبة، فنظر إليه النبي ساعة، ثم سكت، حتى جاءه الوحي، فلما سري عنه قال: "أين السائل عن العمرة"؟ فجيء به، فقال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات، وأما الجبة فانزعها واصنع في عمرتك ما تصنع في حجك" رواه الشيخان. وأخرى كان يتكلم على البديهة فيما لا يشكل عليه أمره مما سبقت به قضية العقل أو الدين، وهو في كل ذلك يجري كما ترى على نمط واحد لا تستطيع أن تميز في أسلوبه بين ما كان معناه مدبرًا بالرأي وما كان معناه معلمًا بالوحي. ولا بين ما يرسله إرسالًا في حديثه مع أهله وأصحابه وما يحتفل به احتفالًا في الجموع المحشودة والأيام المشهودة. فتبين بطلان ما اعتمده السائل من تفرقة بين القرآن والحديث على هذا النحو. بل إننا لو ذهبنا إلى أبعد من ذلك وافترضنا جدلًا صحة هذا التقسيم لما صلح أساسًا يقوم عليه بنيان=

النبوي، فنراه ضربًا وحده لا يجري مع القرآن في ميدان إلا كما تجري محلقات الطير في جو السماء لا تستطيع إليها صعودًا، ثم نرى أساليب الناس فنراها على اختلافها ضربًا واحدًا لا تعلو عن سطح الأرض، فمنها ما يحبو حبوًا، ومنها ما يشتد عدوًا، ونسبة أقواها إلى القرآن كنسبة هذه "السيارات" الأرضية إلى تلك "السيارات" السماوية! نعم، لقد تقرأ القطعة من الكلام النبوي فتطمع في اقتناصها ومجاراتها كما تطمع في اقتناص الطائر أو مجاراته؛ ولقد تقرأ الكلمة من الحكمة فيشتبه عليك أمرها: أمن كلمات النبوة هي أم من كلمات الصحابة أو التابعين؟ ذلك على ما عملت من امتياز الأسلوب النبوي بمزيد الفصاحة ونقاء الديباجة وإحكام السرد. ولكنه امتياز قد يدق على غير المنتهين في هذا الفن. وقد يقصر الذوق وحده عن إدراكه، فيلجأ إلى النقل

_ =الشبهة؛ لأن انقسام الكلام إلى المرسل على البديهة والمزور بالروية ما كان ليتفاوت به منهج الكلام -عند العرب الخلص- هذا التفاوت البعيد الذي يظن فيه أنه قول قائلين. وإنما ظهر هذا التفاوت منذ انقرض أهل السليقة العربية ونبتت نابتة المولدين الذين أخذوا هذه اللغة من غير أمهاتهم، فكانت لغتهم التي بها يتكلمون غير اللغة التي بها يكتبون، وهكذا أمكن أن يكون لكل منهم أسلوبان متباينان، ينزل بأحدهما إلى العامية الطبيعية ويصعد بالآخر إلى العربية المكسوبة، أما العربي القح فإن في عامة أمره ما كان يزيده التفكير والتقدير والروية إلا استيعابًا لأطراف الحديث واستكمالًا لمقاصده، ولم يكن ذلك ليخرجه عن أسلوبه وطريقته ولغته الخاصة التي يألفها طبعه وتفيض بها سجيته وهي اللغة التي يحتذيها أهل الفن منا بعد محاولة ومعالجة. ولئن كان فيهم قليل ممن يريد القول على غير سجيته ويتعمل له ما ليس من عادته في كلامه، لقد كان هذا التكلف غير مخرج له عن حدود مذهبه جملة. بل كان يترك في غضون حديثه ما يتم عن روحه ومشربه. على أن الكلام بعد تلك المعاناة لم يكن ليزداد فصاحة وحسنًا. بل كان ينزل في هذا الباب بقدر ما يحسب الحاسب أنه يصعد فيه. ومن هنا كانت العرب تتمادح بالأمر يجيء طبعًا لا تكلفًا. ولم يكن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في شيء ما من المتكلفين، بل كان أشد الناس كراهية للتكلف في الكلام وغيره. وكان يقول: "هلك المتنطعون" رواه مسلم وأبو داود. والتنطع في الكلام التعمق فيه والتفاصح. وانظر ذمه الرجل الهذلي حين خاصم في دية الجنين فقال: يا رسول الله كيف أغرم دية من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل؟ فمثل ذلك بطل، أي يهدر دمه. فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنما هذا من إخوان الكهان من أجل سجعه الذي سجع". رواه الشيخان وغيرهما. وفي رواية: "أسجع كسجع الأعراب"؟ وفي أخرى: أسجع الجاهلية وكهانتها؟ فذم هذا النوع من السجع وهو ما كان كسجع الكهان مصنوعًا غير مطبوع وكان المعنى فيه تابعًا للفظ وليس اللفظ تابعًا للمعنى.

يستعينه في تمييز بعض الحديث المرفوع من الحديث الموقوف أو المقطوع1. أما الأسلوب القرآني فإنه يحمل طابعًا لا يلتبس معه بغيره، ولا يجعل طامعًا يطمع أن يحوم حول حماه؛ بل يدع الأعناق، تشرئب إليه ثم يردها ناكسة الأذقان على الصدور. كل من يرى بعينين أو يسمع بأذنين إذا وضع القرآن بإزاء غير القرآن في كلفتي ميزان، ثم نظر بإحدى عينيه أو استمع بإحدى أذنيه إلى أسلوب القرآن، وبالأخرى إلى أسلوب الحديث النبوي وأساليب سائر الناس، وكان قد رزق حظ ما من الحاسة البيانية والذوق اللغوي فإنه لا محالة سيؤمن معنا بهذه الحقيقة الجلية، وهي أن أسلوب القرآن لا يدانيه شيء من هذه الأساليب كلها، ونحسب أنه بعد الإيمان بهذه الحقيقة لن يسعه إلا الإيمان بتاليتها.. استدلالًا بصنعة "ليس كمثلها شيء" على صانع {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 2 الانتقال من جلاء الشبهة إلى شفاء الغلة، يكش جوانب من أسرار الإعجاز: إن كان السائل من طلاب الحق كما وصفنا، وانتهى من بحثه إلى حيث أشرنا، فأبصر وسمع، وقايس ووازن، وذاق ووجد، فسوف يتقدم إلينا بكلمته الأخيرة قائلًا: نعم نثلت3 كنانة الكلام بين يدي، وعجمت سهامها فما وجدت كالقرآن أصلب عودًا، ولقد وردت مناهل القول وتذوقت طعومها فما وجدت كالقرآن أعذب موردًا. والآن آمنت أنه كما وصفتموه نسيج وحده، وأنه يعلو وما يُعْلَى، وأنه يحطم ما تحته، غير أنني وقد أدركت من قوة الأسلوب القرآني وحلاوته ما أدركت -لم يزل

_ 1 ألقاب اصطلح عليها علماء الرواية، يعنون من المرفوع ما نسب إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والموقوف ما نسب إلى الصحابة، والمقطوع ما نسب إلى التابعين. 2 سورة الشورى: الآية 11. 3 نثلت: استخرجت، يقال: نثل ما في الحفرة، ونثل ما في الوعاء، ونثل ما في الكنانة

الذي أحس به من ذلك معنى يتجمجم في الصدر لا أحسن تفسيره ولا أملك تعليله. وما زالت النفس بعد هذا وذاك نزاعة إلى درس تلك الخصائص والمزايا التي استأثر القرآن بها عن سائر الكلام، وكان فيها سر إعجازه اللغوي. فهل من سبيل إلى عوض شيء من ذلك علينا لتطمئن به قلوبنا، ونزداد إيمانًا إلى إيماننا؟ نقول: أما الآن فقد والله طلبت منا جسيمًا، وكلفتنا مرامًا بعيدًا لمثله انتدب العلماء والأدباء من قبلنا وفي عصرنا، فحفيت من دونه أقلامهم، ولم يزيدوا إلا أن ضربوا له الأمثال، واعترفوا بأن ما خفي عليهم منه أكثر مما فطنوا له، وأن الذي وصفوه مما أدركوه أقل مما ضاقت به عباراتهم، ولم تقف به إشاراتهم. ونحن، وقد أفضت إلينا النوبة من بعدهم، هل تحسب أننا سنسلك سبيلًا غير سبيلهم فنزعم أننا في هذه العجالة سنبرز لك سر الإعجاز جملة؟ كلا، ولا استقراء ما كشفه الناس من جوانبه، كلا، ولا استقصاء ما نحسه نحن من تلك الجوانب. وإنما نريد أن نصور لك بعض تلك الخصائص التي تلاقينا من كتاب الله كلما سمعناه أو تلوناه وتدبرناه. لعلك واجد في القليل منها ما لا تجده في الكثير مما يعده الناس، كأن زادك الناس من ذلك أنواعًا رجونا أن نزيدك من النوع الواحد إقناعًا وانتفاعًا.

نظرتان في القشرة السطحية للفظ القرآن

نظرتان في القشرة السطحية للفظ القرآن: أول ما يفجؤك: أول ما يلاقيك ويستدعي انتباهك من أسلوب القرآن الكريم خاصية تأليفه الصوتي في شكله وجوهره. 1- الجمال التوقيعي في توزيع حركاته وسكناته، ومداته وغُنَّاته: دع القارئ المجود يقرأ القرآن يرتله حق ترتيله نازلًا بنفسه على هوى القرآن، وليس نازلًا بالقرآن على هوى نفسه. ثم انتبذ منه مكانًا قصيًّا لا تسمع فيه جرس حروفه، ولكن تسمع حركاتها وسكناتها، ومداتها وغناتها، واتصالاتها وسكتاتها، ثم ألق سمعك إلى هذه المجموعة الصوتية، وقد جردت تجريدًا وأرسلت ساذجة في الهواء. فستجد نفسك منها بإزاء لحن غريب عجيب لا تجده في كلام آخر لو جرد هذا التجريد، وجود هذا التجويد. ستجد اتساقًا وائتلافًا يسترعي من سمعك ما تسترعيه الموسيقى والشعر، على أنه ليس بأنعام الموسيقى ولا بأوزان الشعر، وستجد شيئًا آخر لا تجده في الموسيقى ولا في الشعر. ذلك أنك تسمع القصيدة من الشعر فإذا هي تتحد الأوزان فيها بيتًا بيتًا، وشطرًا شطرًا، وتسمع القطعة من الموسيقى فإذا هي تتشابه أهواؤها وتذهب مذهبًا متقاربًا. فلا يلبث سمعك أن يمجها، وطبعك أن يملها، إذا أعيدت وكررت عليك بتوقيع واحد. بينما أنت من القرآن أبدًا في لحن متنوع متجدد، تنتقل فيه بين أسباب وأوتاد وفواصل1 على أوضاع مختلفة، يأخذ منها كل وتر من أوتار قلبك بنصيب

_ 1 هل أنت بحاجة إلى معرفة مسميات هذه الألقاب؟ الحرف المتحرك يتلوه حرف ساكن يقال لهما: "سبب خفيف". والحرفان المتحركان يتلوهما ساكن "وتد مجموع" والحرفان المتحركان لا يتلوهما ساكن "سبب ثقيل" والحرفان المتحركان يتوسطهما ساكن "وتد مفروق" وثلاثة أحرف متحركة يعقبها ساكن "فاصل صغير" وأربعة أحرف متحركة يعقبها ساكن "فاصل كبير".

سواء، فلا يعروك منه على كثرة ترداده ملالة ولا سأم. بل لا تفتأ تطلب منه المزيد. هذا الجمال التوقيعي في لغة القرآن لا يخفى على أحد ممن يسمع القرآن، حتى الذين لا يعرفون لغة العرب. فكيف يخفى على العرب أنفسهم؟ وترى الناس قد يتساءلون: لماذا كانت العرب إذا اختصمت في القرآن قارنت بينه وبين الشعر نفيًا وإثباتًا، ولم تعرض لسائر كلامها من الخطابة وغيرها؟ وأنت، فهل تبينت ها هنا الجواب، وهديت إلى السر الذي فطنت له العرب، ولم يفطن له المستعربون؟ إن أول شيء أحسته تلك الأذن العربية في نظم القرآن هو ذلك النظام الصوتي البديع الذي قسمت فيه الحركة والسكون تقسيمًا منوعًا يجدد نشاط السامع لسماعه، ووزعت في تضاعيفه حروف المد والغنة توزيعًا بالقسط الذي يساعد على ترجيع الصوت به وتهادي النفس به آنًا بعد آن، إلى أن يصل إلى الفاصلة الأخرى فيجد عندها راحته العظمى، وهذا النحو من التنظيم الصوتي إن كانت العرب قد عمدت إلى شيء منه في أشعارها فذهبت فيها إلى حد الإسراف في الاستهواء، ثم إلى حد الإملال في التكرير. فإنها ما كانت تعهده قط ولا كان يتهيأ لها بتلك السهولة في منثور كلامها سواء منه المرسل والمسجوع؛ بل كان يقع لها في أجود نثرها عيوب تغض من سلاسة تركيبه، ولا يمكن معها إجادة ترتيله إلا بإدخال شيء عليه أو حذف شيء منه. لا عجب إذًا أن يكون أدنى الألقاب إلى القرآن في خيال العرب أنه شعر؛ لأنها وجدت في توقيعه هزة لا تجد شيئًا منها إلا في الشعر. ولا عجب أن ترجع إلى أنفسها، فتقول: ما هو بشعر؛ لأنه -كما قال الوليد1- ليس على أعاريض الشعر في رجزه ولا في قصيده. ثم لا عجب أن تجعل مرد هذه الحيرة أخيرًا إلى أنه ضرب من السحر؛ لأنه جمع بين طرفي الإطلاق والتقييد في حد وسط، فكان له من النثر جلاله وروعته، ومن الشعر جماله ومتعته.

_ 1 تقدمت كلمة الوليد في ذلك.

2- الجمال التنسيقي في رصف حروفه وتأليفها من مجموعات مؤتلفة مختلفة: فإذا ما اقتربت بأذنك قليلًا قليلًا، فطرقت سمعك جواهر حروفه خارجة من مخارجها الصحيحة، فاجأتك منه لذة أخرى في نظم تلك الحروف ورصفها وترتيب أوضاعها فيما بينها؛ هذا ينقر وذاك يصفر، وثالث يخمس ورابع يجهر، وآخر ينزلق عليه النفَس، وآخر يحتبس عنده النفس. وهلم جرا، فترى الجمال اللغوي ماثلًا أمامك في مجموعة مختلفة مؤتلفة1 لا كركرة ولا ثرثرة، ولا رخاوة ولا معاظلة، ولا تناكر ولا تنافر. وهكذا ترى كلامًا ليس بالحضري الفاتر، ولا بالبدوي الخشن، بل تراه وقد امتزجت فيه جزالة البادية وفخامتها برقة الحاضرة وسلاستها، وقدر فيها الأمر تقديرًا لا يبغي بعضهما على بعض. فإذا مزيج منهما كأنما هو عصارة اللغتين وسلالتهما، أو كأنما هو نقطة الاتصال بين القبائل، عندها تلتقي أذواقهم، وعليها تأتلف قلوبهم. ومن هذه الخصوصية والتي قبلها تتألف القشرة السطحية للجمال القرآني. وليس الشأن في هذا الغلاف إلا كشأن الأصداف مما تحويه من اللآلئ النفيسة، فإنه جلت قدرته قد أجرى سنته في نظام هذا العالم أن يغشي جلائل أسراره بأستار لا تخلو من متعة وجمال، ليكون ذلك من عوامل حفظها وبقائها بتنافس المتنافسين فيها وحرصهم عليها. انظر كيف جعل باعثة الغذاء ورابطة المحبة قوامًا لبقاء الإنسان فردًا وجماعة. فكذلك لما سبقت كلمته أن يصون علينا نفائس العلوم التي أودعها هذا الكتاب الكريم قضت حكمته أن يختار لها صوانًا يحببها إلى الناس بعذوبته، ويغريهم عليها بطلاوته، ويكون بمنزلة "الحداء" يستحث النفوس على السير إليها. ويهون عليها وعثاء السفر في طلب كمالها. لا جرم اصطفى لها من هذا اللسان العربي المبين ذلك

_ 1 من وقف على صفات الحروف ومخارجها ازداد بهذا المعنى علمًا. وإن شئت فارجع إلى ما كتبه الأديب الرافعي عن هذه الناحية في كتابه الموسوم "إعجاز القرآن" فقد أطال نفسه فيها وأجاد.

القالب العذب الجميل. ومن أجل ذلك سيبقى صوت القرآن أبدًا في أفواه الناس وآذانهم ما دامت فيهم حاسة تذوق وحاسة تسمع، وإن لم يكن لأكثرهم قلوب يفقهون بها حقيقة سره، وينفذون بها إلى بعيد غوره {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 1. هل عرفت أن نظم القرآن الكريم يجمع إلى الجمال عزة وغرابة؟ وهل عرفت أن هذا الجمال كان قوة إلهية حفظ بها القرآن من الفقد والضياع؟ فاعرف الآن أن هذه الغرابة كانت قوة أخرى قامت بها حجة القرآن في التحدي والإعجاز، واعتصم بها من أيدي المعارضين والمبدلين، وأن ذلك الجمال ما كان ليكفي وحده في كف أيديهم عنه، بل كان أجدر أن يغريهم به. ذلك أن الناس -كما يقول الباقلاني2: إذا استحسنوا شيئًا اتبعوه، وتنافسوا في محاكاته بباعث الجبلة. وكذلك رأينا أصحاب هذه الصناعة يتبع بعضهم بعضًا فيما يستجيدونه من الأساليب، وربما أدرك اللاحق فيهم شأو السابق أو أربى عليه، كما صنع ابن العميد بأسلوب الجاحظ، وكما يصنع الكتاب والخطباء اليوم في اقتداء بعضهم ببعض. وما أساليب الناس على اختلاف طرائقها في النثر والشعر إلا مناهل مورودة، ومسالك معبدة، تؤخذ بالتعلم، وتراض الألسنة والأقلام عليها بالمرانة، كسائر الصناعات. فما الذي منع الناس أن يخضعوا أسلوب القرآن لألسنتهم وأقلامهم وهو شرع في استحسان طريقته، وأكثرهم الطالبون لإبطال حجته؟ ما ذاك إلا أن فيه منعة طبيعية كفت ولا تزال تكف أيديهم عنه، ولا ريب أن أول ما تلاقيك هذه المناعة فيما صورناه لك من غريب تأليفه في نيته، وما اتخذه في رصف

_ 1 سورة الحجر: الآية 9. 2 في كتابه "إعجاز القرآن".

حروفه وكلماته، وجمله وآياته، من نظام له سمت وحده، وطابع خاص به، خرج فيه عن هيئة كل نظم تعاطاه الناس أو يتعاطونه. فلا جرم لم يجدوا له مثالًا يجاذونه به، ولا سبيلًا يسلكونه إلى تذليل منهجه، وآية ذلك أن أحدًا لو حاول أن يدخل عليه شيئًا من كلام الناس السابقين منهم أو اللاحقين، من الحكماء أو البلغاء أو النبيين والمرسلين، لأفسد بذلك مزاجه في فهم كل قارئ ولجعل نظامه يضطرب في أذن كل سامع، وإذًا لنادى الداخل على نفسه بأنه واغلٌ دخيلٌ، ولنفاه القرآن عن نفسه كما ينفي الكير خبث الحديد {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 1.

_ 1 سورة فصلت: الآية 41.

خصائص القرآن البيانية

خصائص القرآن البيانية: نظرات في لب البيان القرآني وخصائصه التي امتاز بها عن سائر الكلام: فإذا أنت لم يلهك جمال العطاء عما تحته من الكنز الدفين، ولم تحجبك بهجة الأستار عما وراءها من السر المصون، بل فَليتَ القشرة عن لبها، وكشفت الصدفة عن درها، فنفذت من هذا النظام اللفظي إلى ذلك النظام المعنوي، تجلى لك ما هو أبهى وأبهر، ولقيك منه ما هو أروع وأبدع. لا نريد أن نحدثك ها هنا عن معاني القرآن وما حوته من العلوم الخارجة عن متناول البشر، فإن لهذا الحديث موضعًا يجيء -إن شاء الله تعالى- في بحث "الإعجاز العلمي" وحديثنا كما ترى لا يزال في شأن "الإعجاز اللغوي" وإنما اللغة ألفاظ. بيد أن هذه الألفاظ ينظر فيها تارة من حيث هي أبنية صوتية مادتها الحروف وصورتها الحركات والسكنات من غير نظر إلى دلالتها. وهذه الناحية قد مضى لنا القول فيها آنفًا، وتارة من حيث هي أداءة لتصوير المعاني ونقلها من نفس المتكلم إلى نفس المخاطب بها، وهذه هي الناحية التي سنعالجها الآن، ولا شك أنها هي أعظم الناحيتين أثرًا في الإعجاز اللغوي الذي نحن بصدده؛ إذ اللغات تتفاضل من حيث هي بيان؛ أكثر من تفاضلها من حيث هي أجراس وأنغام. أما النظر في المعاني القرآنية من جهة ما فيها من العلوم العجيبة فتلك خطوة أخرى ونظرة خارجة عن البحث اللغوي جملة؛ إذ الفضيلة البيانية إنما تعتمد دقة التصوير وإجادة التعبير عن المعنى كما هو، سواء عندها أن يكون ذلك المعنى من جنس ما تناوله عقول الناس أو لا يكون، بل سواء عندها أن يكون ذلك المعنى من جنس ما تتناوله عقول الناس أو لا يكون، بل سواء عندها أن يكون ذلك المعنى حقيقة أو خيالًا؛ وأن يكون هدى أو ضلالًا1؛ عكس الفضيلة العلمية، فإنها عائدة إلى المعنى في نفسه على أي صورة أخرجته، وبأي لغة عبرت عنه. نعم، قد تتفاوت اللغات في الوفاء بحثق المعنى، فيكون التعبير الجيد مما يزيد في قيمته

_ 1 ولذلك كانت حكايات القرآن لأقوال المبطلين لا تقصر في بلاغتها عن سائر كلامه؛ لأنها تصف ما في أنفسهم على أتم وجه.

العلمية، لكن النظر ها هنا في قيمة البيان لا في قيمة المبين فلا تعجل علينا بتلك النظرة العلمية حتى نفرغ من هذه النظرة اللغوية. والآن فلنبدأ وصفنا لبعض خصائص القرآن البيانية، ولنرتبها على أربع مراتب: 1- القرآن في قطعة قطعة1 منه. 2- القرآن في سورة سورة منه. 3- القرآن فيما بين بعض السور وبعض. 4- القرآن في جملته.

_ 1 نريد منها ما يؤدي معنًى تامًّا، كالذي يؤدى عادة في بضع آيات. وقد يؤدى في آية طويلة، أو سورة قصيرة. وهو الحد الأدنى الذي تنزل إليه التحدي أخيرًا إذ قال: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ} ولم يقل بسورة من طواله أو أوساطه، بل أطلق إطلاقًا، فتناول ذلك سور المفصل الذي كان قد نزل أكثره بمكة -قبل أن ينزل هذا التحدي الأخير- حتى سورة العصر والكوثر. وبعض الناس -كذا نقله الألوسي في مقدمة كتابه روح المعاني عن قائل مجهول- يذهب إلى أن التحدي لم يقع بمطلق سورة، بل بسورة "تبلغ مبلغًا يتبين فيه رتب ذوي البلاغة" كأنه رأى أن هذه الرتب لا تتبين في مقدار ثلاث آيات مثلًا. وهذا وإن لم يكن قادحًا في إعجاز القرآن، ولا مبطلًا لحجته "إذ يكفي ثبوت إعجازه، ولو في قدر سورة البقرة، أو سورة يونس، أو سورة هود، أو سورة الإسراء، أو سورة الطور. وهي السور التي ورد فيها ذكر التحدي" إلا أننا نحسب أن صاحب هذا القول حين ذهب إليه إنما ظن ظنًّا لم يستيقنه، واستبعد استبعادًا أن تكون هذه السور القصار معجزة في بيانها؛ لأنه لم يدرك غرابة في نظمها، فلم يفقه سر هذا الإعجاز فيها. ولكن هلا جعل ذلك حجة على قلة بضاعته في هذه الصناعة، ولم يجعل جهله بقيمتها حجة على عدم إعجازه. فالنجم تستصغر الأبصار رؤيته ... والذنب للطرف لا للنجم في الصغر وهلا فكر أن العرب الذين قامت الحجة بعجزهم قد استوت قدرتهم أمام طواله وقصاره فلم يعارضوا هذه ولا تلك، فهذا وحده حاسم لشبهته إن كان يكفيه البرهان، فإذا أراد العيان قيل له: اعمد إلى واحدة من تلك السور فحصل معانيها في نفسك، ثم جئ لها بكلام من عندك، فسوف ترى أنك بين أمرين: إما ألا تؤديها على وجهها في مثل هذا القدر وبمثل هذا النظم، وإما أن تعيد عين ألفاظها. لا ثالث. وحينذاك تبين أن سر الإعجاز في القصير من سور القرآن مثله في الطويل، كما أن سر الإعجاز في خلق النملة مثله في خلق الفيل. عرف ذلك من عرفه، وجهله من جهله. قال ابن عطية رحمه الله: "ونحن تبين لنا البراعة في أكثره ويخفى علينا وجهها في مواضع، لقصورنا عن رتبة العرب يومئذ في سلامة الذوق وجودة القريحة. وقد قامت الحجة على العالم بالعرب، لانتهائهم إلى غاية الفصحاة البشرية" اهـ. عن الاتقان؛ نقول: ومن سار على الدرب وصل، فإن لم يدرك كل ما تمنى دله ما علم على ما جهل. والله المستعان.

القرآن في قطعة قطعة منه

"القرآن في قطعة قطعة منه": أسلوب القرآن هو ملتقى نهايات الفضيلة البيانية على تباعد ما بين أطرافها: لسنا ندري والله ماذا نقول لك في أسلوب معجز في وصفه، كما هو معجز في نفسه؟ غير أننا نقول كلمة هي جملة القول فيه، وهي أنه "تلتقي عنده نهايات الفضيلة كلها على تباعد ما بين أطرفها". هذه كلمة تحتاج تفسيرًا طويلًا يمتلئ به الصدر ولا ينطلق به اللسان، وكل ما سنحاوله أن نفسر لك جانبًا منها بقدر الطاقة، غير أننا قبل أن نحدثك في هذا الجانب عن القرآن سنحدثك عن كلام الناس حديثًا يفهمه كل من عالج صنعة البيان بنفسه، لتعرف من وجوه النقص ها هنا وجوه الكمال هناك، ومن أبواب العجز ها هنا أسباب الإعجاز هناك: "أ-ب": "القصد في اللفظ" و"الوفاء بحق المعنى": نهايتان كل من حاول أن يجمع بينهما وقف منهما موقف الزوج بين ضرتين لا يستطيع أن يعدل بينهما دون ميل ما إلى إحداهما: فالذي يعمد إلى ادخار لفظه وعدم الإنفاق منه إلا على حد الضرورة لا ينفك من أن يحيف على المعنى قليلًا أو كثيرًا، ذلك أنه إما أن يؤدي لك مراده جملة لا تفصيلًا، فيكون سبيله سبيل من يقول في باب المحاجة: "صدقوا، أو كذبوا" وفي باب الوصف "حسن، أو قبيح" وفي باب الإخبار: "كان أو لم يكن" وفي باب الطلب: "افعل، أو

لا تفعل" لا زائد على ذلك. وإما أن يذهب فيه إلى شيء من التفصيل، ولكنه إذ يأخذه الحذر من الإكثار والإسراف يبذل جهده في ضم أطرافه وحذف ما استطاع من أدوات التمهيد والتشويق، ووسائل التقريب والتثبيت، وما إلى ذلك مما تمس إليه حاجة النفس في البيان، حتى يخرجه ثوبًا متقلصًا يقصر عن غايته، أو هيكلًا من العظم لا يكسوه لحم ولا عصب، ورب حرف واحد ينقص من الكلام يذهب بمائه ورونقه، ويكشف شمس فصاحته، ورب اختصار يطوي الكلام طيًّا يزهق روحه ويعمي طريقه؛ ويرد إيجازه عِيًّا وإلغازًا. والذي يعمد إلى الوفاء بحق المعنى وتحليله إلى عناصره؛ وإبراز كل دقائقه "بقدر ما يحيط به علمه وما يؤديه إليه إلهامه" لا يجد له بدًّا من أن يمد في نفسه مدًّا؛ لأنه لا يجد في القليل من اللفظ ما يشفي صدره، ويؤدي عن نفسه رسالتها كاملة. فإذا أعطى نفسه حظها من ذلك لا يلبث أن يباعد ما بين أطراف كلامه، ويبطئ بك في الوصول إلى غايته، فتحس بقوة نشاطك وباعته إقبالك آخذتين في التضاؤل والاضمحلال. عامة من نعرفهم من الفصحاء -قدامى ومحدثين- يؤتون من هذا الجانب غالبًا، أعني جانب الإملال والإسراف، لا جانب الإخلال والإجحاف. وأكثرهم تجمع بهم شهوة البيان إلى أبعد من هذا الحد، فمنهم من يذهب إلى التكليف والتفصح باستعمال الغريب من المفردات والتراكيب، فيكلفك أن تبدي وتعيد وتقبل وتدبر حتى تهتدي إلى وجه مراده، وهكذا لا يزداد كلامه بالبسط إلا ضيقًا عن الفهم. ومنهم من يُلقي حول المعنى ركامًا من الحشو والفضول ينوء بحمله، أو يلبسه ثوبًا فضفاضًا من المترادف والمتقارب يتعثر في أذياله. يحسب أنه يوفي لك المعنى ويحدده، وفي الحق إنما ينشره ويبدده. ولعل أمثل هؤلاء طريقة من لو حذفت شطر كلامه لأغناك عنه ثاني شطريه. ذلك على أن البلغاء مهما أوجفوا من ركابهم، ومهما أجلبوا بخيلهم ورجلهم لا

يبلغ الواحد منهم بعمله غاية أمله، وإنما يصل كما قلنا إلى كمال نسبي "بقدر ما يحيط به علمه، وما يؤديه إليه إلهامه في الحال" أما الوفاء بالمعنى حق وفائه بحيث لا يخطئه عنصر منه ولا حلية من حلاه ولا يتضاف إليه عرض غريب عنه يعد رقعة في ثوبه، ولا ينقلب فيه وضع من أوضاعه يغض من حسن تقويمه، وبحيث لا سبيل فيه إلى نقض أو اقتراح جديد؛ فذلك أمر لا يستطيع أن ينتحله رجل اكتوى بنار البيان، فضلًا عن أن ينحله لإنسان غيره. وآية ذلك أنك تراه حين تعقب كلام نفسه في الفَيْنَة بعد الفينة يجد فيه زائدًا يمحوه، وناقصًا يثبته؛ ويجد فيه ما يهذب ويبدل، وما يقدم أو يؤخر، حتى يسلك سبيله إلى النفس سويًّا. ولعله لو رجع إليه سبعين1 مرة لكان له في كل مرة نظرة. وكلما كان أنفذ بصرًا وأدق حسًّا، كان أقل من ذلك قناعة وأبعد همًّا؛ إذ يرى وراء جهده غاية هي المثل الأعلى الذي يطمح إليه ولا يطاوعه، والكمال البياني الذي يتعلق به خياله ولا يناله {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} 2. هذا حظ الكلام البليغ عند قائله، فما ظنك بناقديه ومنافسيه؟ هذا؛ وهو يعمد إلى غاية واحدة، فكيف لو عمد معها إلى الغاية الأخرى، وحاول أن يضع هذه الثروة المعنوية في لفظ قاصد؟ وأنى يكون له ذلك وهو سجين هذه الفطرة الإنسانية التي لا تقرب به من أحد طرفي الطريق إلا بمقدار ما تبعد به عن الطرف الآخر؟ ولئن ظفرت بأحد وُفِّق لتقريب تيك الغايتين إلى حد ما في جملة أو جملتين، فتربص به كيف يكون أمره بعد ذلك. وانظر كيف يدركه الكلام والإعياء وفترة الطبع

_ 1 كما يروى عن زهير في تهذيب قصائده التي كان يسميها "الحوليات". 2 سورة الرعد: الآية 14.

الإنساني فينحل من عقدة كلامه ما كان وثيقًا، ويذبل من زهرته ما كان غضًّا طريًّا، ثم لا يعود إلى قوته إلا في الشيء بعد الشيء، كما تصادف في التراب قطعة من التبر ها هنا وقطعة هنالك. فنقول: هذا نفيس جيد، وهذا أنفس وأجود، وهذا هو واسطة العقد وبيت القصيد. سل العلماء بنقد الشعر والكلام: "هل رأيتم قصيدة أو رسالة كلها أو جلها معنى ناصعًا، ولفظًا جامعًا، ونظمًا رائعًا"، لقد أجمعت كلمتهم على أن أبرع الشعراء لم يبلغوا مرتبة الإجادة إلا في أبيات محدودة، من قصائد معدودة، وكان لهم من وراء ذلك المتوسط والرديء، والغث والمستكره، وكذلك قالوا في الكتاب والخطباء، والأمر فيهم أبين. فإن سرك أن ترى كيف تجتمع هاتان الغايتان على تمامهما بغير فترة ولا انقطاع، فانظر حيث شئت من القرآن، تجد بيانًا قد قدر على حاجة النفس أحسن تقدير، فلا تحس فيه بتخمة الإسراف ولا بمخمصة التقتير، يؤدي لك من كل معنى صورة نقية وافية: "نقية" لا يشوبها شيء مما هو غريب عنها، "وافية" لا يشذ عنها شيء من عناصرها الأصلية ولواحقها الكمالية، كل ذك في أوجز لفظ وأنقاه. ففي كل جملة منه جهاز من أجهزة المعنى، وفي كل كلمة منه عضو من أعضائه، وفي كل حرف منه جزء بقدره، وفي أوضاع كلماته من جمله، وأوضاع جمله من آياته سر الحياة الذي ينتظم المعنى بأدائه. وبالجملة ترى -كما يقول الباقلاني: "محاسن متوالية1، وبدائع تترا".

_ 1 أصل الكلمة "تتوالى" هذا في كتاب إعجاز القرآن للباقلاني، ولكننا نقلناها بالمعنى، ولم ننقلها قصدًا لإصلاح خطأ مشهور بين المبتدئين، إذ يظنون كلمة "تترا" فعلًا مضارعًا، وإنما هي اسم منصوب أصله وترا، أي متتابعا، ولا يخفى أن جعل القرينة الأولى فعلًا مضارعًا من شأنه أن يقرر هذا الوهم في نفس الطالب؛ فآثرنا تعديلها على هذا الوجه مع التنبيه على ذلك.

ضع يدك حيث شئت من المصحف، وعد ما أحصته كفك من الكلمات عدًّا، ثم أحصِ عدتها من أبلغ كلام تختاره خارجًا1 عن الدفتين، وانظر نسبة ما حواه هذا الكلام من المعاني إلى ذاك. ثم انظر: كم كلمة تستطيع أن تسقطها أو تبدلها من هذا الكلام دون إخلال بغرض قائله؟ وأية كلمة تستطيع أن تسقطها أو تبدلها هناك؟ فكتاب الله تعالى -كما يقول ابن عطية: "لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب لفظة أحسن منها لم توجد"2 بل هو كما وصفه الله {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} 3. "ج-د": "خطاب العامة" و"خطاب الخاصة": وهاتان غايتان أخريان متباعدتان عند الناس، فلو أنك خاطبت الأذكياه بالواضح المكشوف الذي تخاطب به الأغبياء لنزلت بهم إلى مستوًى لا يرضونه لأنفسهم في الخطاب، ولو أنك خاطبت العامة باللمحة والإشارة التي تخاطب بها الأذكياء لجئتهم من ذلك بما لا تطيقه عقولهم، فلا غنى لك -إن أردت أن تعطي كلتا الطائفتين حظها كاملًا من بيانك- أن تخاطب كل واحدة منها بغير ما تخاطب به الأخرى؛ كما تخاطب الأطفال بغير ما تخاطب به الرجال، فأما أن جملة واحدة تلقى إلى العلماء والجهلاء، وإلى الأذكياء والأغبياء، وإلى السوقة والملوك فيراها كل منهم مقدرة على مقياس عقله وعلى وفق حاجته فذلك ما لا تجده على أتمه إلا في القرآن الكريم. فهو

_ 1 وكلام النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإن كان -لما أشربه من روح الوحي- أوجز وأفصح كلام تكلم به الناس، لا يبلغ في وجازته واكتنازه وامتلائه بتلك الثروة المعنوية معشار ما تجده من ذلك في القرآن الكريم. 2 عن الإتقان. 3 أول سورة هود "11"، وأنت فأنعم النظر في هذه الآية الكريمة تجدها قد جمعت كل ما بسطناه في هذا الفصل بكلمتي "الإحكام" و"التفصيل" وأي إحكام وتفصيل؟ إحكام من "حكيم" متقن لا خلل في صناعته، وتفصيل من "خبير" عالم بدقائق الأمور وتفاصيلها على ما هي عليه.

قرآن واحد يراه البلغاء أوفى كلام بلطائف التعبير، ويراه العامة أحسن كلام وأقربه إلى عقولهم لا يلتوي على أفهامهم، ولا يحتاجون فيه إلى ترجمان وراء وضع اللغة، فهو متعة العامة والخاصة على السواء، ميسر لكل من أراد {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} 1. "هـ-و": "إقناع العقل" و"إمتاع العاطفة": وفي النفس الإنسانية قوتان: قوة تفكير، وقوة وجدان، وحاجة كل واحدة منهما غير حاجة أختها. فأما إحداهما فتنقب عن الحق لمعرفته، وعن الخير للعمل به، وأما الأخرى فتسجل إحساسها بما في الأشياء من لذة وألم، والبيان التام هو الذي يوفي لك هاتين الحاجتين ويطير إلى نفسك بهذين الجناحين، فيؤتيها حظها من الفائدة العقلية والمتعة الوجدانية معًا. فهل رأيت هذا التمام في كلام الناس؟ لقد عرفنا كلام العلماء والحكماء، وعرفنا كلام الأدباء والشعراء، فما وجدنا من هؤلاء ولا هؤلاء إلا غلوًّا في جانب، وقصورًا في جانب. "فأما" الحكماء فإنما يؤدون إليك ثمار عقولهم غذاءً لعقلك. ولا تتوجه نفوسهم إلى استهواء نفسك واختلاب عاطفتك. فتراهم حين يقدمون إليك حقائق العلوم لا يأبهون لما فيها من جفاف وعري ونبو عن الطباع. "وأما" الشعراء فإنما يسعون إلى استثارة وجدانك، وتحريك أوتار الشعور من نفسك، فلا يبالون بما صوروه لك أن يكون غيًّا أو رشدًا؛ وأن يكون حقيقة أو تخيلًا. فتراهم جادين وهم هازلون، يستبكون وإن كانوا لا يبكون، ويُطربون وإن كانوا لا يَطربون {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي

_ 1 سورة القمر: الآية 17.

كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} 1. وكل امرئ حين يفكر فإنما هو فيلسوف صغير. وكل امرئ حين يحس ويشعر فإنما هو شاعر صغير، فسل علماء النفس: "هل رأيتم أحدًا تتكافأ فيه قوة التفكير وقوة الوجدان وسائر القوى النفسية على سواء؟ ولو مالت هذه القوى إلى شيء من التعادل عند قليل من الناس فهل ترونها تعمل في النفس دفعة ونسبة واحدة؟ " يجيبوك بلسان واحدة: "كلا، بل لا تعمل إلا مناوبة في حال بعد حال، وكلما تسلطت واحدة منهن اضمحلت الأخرى وكاد ينمحي أثرها. فالذي ينهمك في التفكير تتناقص قوة وجدانه، والذي يقع تحت تأثير لذة أو ألم يضعف تفكيره، وهكذا لا تقصد النفس الإنسانية إلى هاتين الغايتين قصدًا واحدًا، وإلا لكانت مقبلة مدبرة معًا. وصدق الله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} 2. فكيف تطمع من إنسان في أن يهب لك هاتين الطلبتين على سواء، وهو لم يجمعهما في نفسه على سواء؟ وما كلام المتكلم إلا صورة الحال الغالبة عليه من بين تلك الأحوال. هذا مقياس تستطيع أن تتبين به في كل لسان وقلم أي القوتين كان خاضعًا لها حين قال أو كتب: "فإذا" رأيته يتجه إلى تقرير حقيقة نظرية أو وصف طريقة عملية قلت: هذا ثمرة الفكرة. "وإذا" رأيته يعمد إلى تحريض النفس أو تنفيرها، وقبضها أو بسطها، واستثارة كوامن لذتها أو ألمها، قلت: هذا ثمرة العاطفة. "وإذا" رأيته قد انتقل من أحد هذين الضربين إلى الآخر فتفرغ له بعد ما قضى وطره من سابقه، كما ينتقل من غرض إلى غرض، عرفت بذلك تعاقب التفكير والشعور على نفسه. وأما أن أسلوبًا واحدًا يتجه اتجاهًا واحدًا ويجمع في يديك هذين الطرفين معًا، كما

_ 1 سورة الشعراء: الآية 224 وما بعدها. 2 سورة الأحزاب: الآية 4.

يحمل الغصن الواحد من الشجرة أوراقًا وأزهارًا وأثمارًا معًا، أو كما يسري الروح في الجسد والماء في العود الأخضر، فذلك ما لا تظفر به في كلام بشر، ولا هو من سنن الله في النفس الإنسانية. فمن لك إذًا بهذا الكلام الواحد الذي يجيء من الحقيقة البرهانية الصارمة بما يرضي حتى أولئك الفلاسفة المتعمقين. ومن المتعة الوجدانية الطيبة بما يرضي حتى هؤلاء الشعراء المرحين؟ ذلك الله رب العالمين، فهو الذي لا يشغله شأن عن شأن. وهو القادر على أن يخاطب العقل والقلب معًا بلسان. وأن يمزج الحق والجمال معًا يلتقيان ولا يبغيان. وأن يخرج من بينهما شرابًا خالصًا سائغًا للشاربين، وهذا هو ما تجده في كتابه الكريم حيثما توجهت؛ ألا تراه في فسحة قصه وأخباره1 لا ينسى حق العقل من حكمة وعبرة؟ أوَ لا تراه في معمعة براهينه2 وأحكامه3 لا ينشى حظ القلب من تشويق

_ 1 اقرأ مثلًا سورة القصص وسورة يوسف -عليه السلام. 2 اقرأ مثلًا قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [سورة الأنبياء: 22] وانظر كيف اجتمع الاستدلال والتهويل والاستعظام في هذه الكلمات القليلة. بل الدليل نفسه جامع بين عمق المقدمات اليقينية ووضوح المقدمات المسلمة ودقة التصوير لما يعقب التنازع من "الفساد" الرهيب. فهو برهاني خطابي عاطفي معًا. هل تجد مثل هذا في كتاب من كتب الحكمة النظرية؟ 3 اقرأ مثلًا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة البقرة: 178] وانظر الاستدراج إلى الطاعة في افتتاح الآية بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وترقيق العاطفة بين الواترين والموتورين في قوله: {أَخِيهِ} وقوله: {بِالْمَعْرُوفِ} وقوله: {بِإِحْسَانٍ} ، والامتنان في قوله: {تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} والتهديد في ختام الآية. ثم انظر في أي شأن يتكلم؟ أليس في فريضة مفصلة وفي مسألة دموية؟ وتتبع هذا المعنى في سائر آيات الأحكام حتى أحكام الإيلاء والظهار، ففي أي كتاب من كتب التشريع تجد مثل هذا الروح؟ بل في أي لسان تجد هذا المزاج العجيب؟ تالله لو أن أحدًا حاول أن يجمع في بيانه بين هذين الطرفين ففرق همه ووزع أجزاء نفسه، لجاء بالأضداد المتنافرة ولخرج بثوب بيانه رقعًا ممزعة.

وترقيق، وتحذير وتنفير، وتهويل وتعجيب، وتبكيت وتأنيب؟ يبث ذلك في مطالع آياته ومقاطعها وتضاعيفها {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} 1 {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ، وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} 2. "ز-ح": "البيان" و"الإجمال": وهذه عجيبة أخرى تجدها في القرآن ولا تجدها فيما سواه. ذلك أن الناس إذا عمدوا إلى تحديد أغراضهم لم تتسع لتأويل. وإذا أجملوها ذهبوا إلا الإبهام أو الإلباس. أو إلى اللغو الذي لا يفيد. ولا يكاد يجتمع لهم هذان الطرفان في كلام واحد. وتقرأ القطعة من القرآن فنجد في ألفاظها من الشفوف، والملاسة والإحكام والخلو من كل غريب عن الغرض ما يتسابق به مغزاها إلى نفسها دون كد خاطر ولا استعادة حديث. كأنك لا تسمع كلامًا ولغات بل ترى صورًا وحقائق ماثلة. وهكذا يخيل إليك أنك قد أحطت به خُبرًا ووقفت على معناه محدودًا؛ هذا ولو رجعت إليه كرة أخرى لرأيتك منه بإزاء معنى جديد غير الذي سبق إلى فهمك أول مرة، وكذلك.. حتى ترى للجملة الواحدة أو الكلمة الواحدة3 وجوهًا عدة. كلها صحيح أو محتمل

_ 1 سورة الزمرة: الآية 23. 2 سورة الطارق: الآية 13، 14. 3 هذا مثل صغير: اقرأ قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [سورة البقرة: الآية 312] . وانظر هل ترى كلامًا أبين من هذا في عقول الناس. ثم انظر كم في هذه الكلمة من مرونة. فإنك لو قلت في معناها: إنه سبحانه يرزق من يشاء بغير محاسب يحاسبه، ولا سائل يسأله لماذا يبسط الرزق لهؤلاء ويقدره على هؤلاء، أصبت. ولو قلت: إنه يرزق بغير تقتير ولا محاسبة لنفسه عند الإنفاق خوف النفاد، أصبت. ولو قلت: إنه يرزق من يشاء من حيث لا ينتظر، ولا يحتسب، أصبت. ولو قلت: إنه يرزق بغير معاتبة ومناقشة له على عمله، أصبت، ولو قلت: يرزقه رزقًا كثيرًا لا يدخل تحت حصر وحساب، أصبت. فعلى الأول يكون الكلام تقريرًا لقاعدة الأرزاق في الدنيا وأن نظامها لا يجري على حسب ما عند المرزوق من استحقاق بعلمه أو عمله، بل تجري وفقًا لمشيئته وحكمته سبحانه في الابتلاء، وفي ذلك ما فيه من التسلية لفقراء المؤمنين، ومن الهضم لنفوس=

للصحة، كأنما هي فص من الماس يعطيك كل ضلع منه شعاعًا، فإذا نظرت إلى أضلاعه جملة بهرتك بألوان الطيف كلها، فلا تدري ماذا تأخذ عينك وماذا تدع. ولعلك لو وكلت النظر فيها إلى غيرك رأى منها أكثر مما رأيت. وهكذا نجد كتابًا مفتوحًا مع الزمان يأخذ كل منه ما يسر له؛ بل ترى محيطًا مترامي الأطراف لا تحده عقول الأفراد ولا الأجيال. ألم تر كيف وسع الفرق الإسلامية على اختلاف منازعها في الأصول والفروع؟ وكيف وسع الآراء العلمية على اختلاف وسائلها في القديم والحديث؟ وهو على لينه للعقول والأفهام صلب متين. ولا يتناقض ولا يتبدل. يحتج به كل فريق لرأيه، ويدعيه لنفسه، وهو في سموه فوق الجميع يطل على معاركهم حوله، وكأن لسان حاله يقول لهؤلاء وهؤلاء: {كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا} 1. دقة التعبير القرآني: ها نحن أولاء قد عرضنا لك جانبًا منتلك العجائب البيانية التي لا تنال مثلها أيدي الناس. وها قد أعطيناك في حاشية كل منها نموذجًا صغيرًا، يفتح لك الباب إلى احتذائه في سائر القرآن. فهل ترى في هذا وفاءً بما وعدناك، وبما عودناك، من التقفية على آثار التفصيل بشيء من التطبيق والتمثيل؟ أم لا تزال بحاجة إلى المزيد من هذه الأمثلة؟!

_ =المغرورين من المترفين. وعلى الثاني يكون تنبيهًا على سعة خزائنه وبسطة يده جل شأنه. وعلى الثالث يكون تلويحًا للمؤمنين بما سيفتح الله لهم من أبواب النصر والظفر حتى يبدل عسرهم يسرًا وفقرهم غنى من حيث لا يظنون. وعلى الرابع والخامس يكون وعدًا للصالحين إما بدخولهم الجنة بغير حساب. وإما بمضاعفة أجورهم أضعافًا كثيرة لا يحصرها العد. ومن وقف على علم التأويل واطلع على معترك أفهام العلماء في آية رأى من ذلك العجب العاجب. 1 سورة الإسراء: الآية 84.

سنزيدك. وسنوجه نظرك بنوع خاص إلى دقة التعبير القرآني ومتانة نظمه. وعجيب تصرفه، حتى يؤدي لك المعنى الوافر الثري، في اللفظ القاصد النقي، إذ كانت هذه الخاصة الأولى -من الخواص التي ذكرناها- أحوج إلى التوقيف والإرشاد. ولا تحسبن أننا سنضرب لك الأمثال بتلك الآيات الكريمة التي وقع اختيار الناس عليها وتواصفوا الإعجاب بها. كقوله تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ ... } الآية1، وقوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} 2 وأشباههما. بل نريد أن نجيئك بمثال من عُروض القرآن في معنى لا يأبه له الناس ولا يقع اختيارهم على مثله عادة. ليكون دليلًا على ما وراءه. تطبيق على آية كريمة: يقول الله تعالى في ذكر حِجَاج اليهود: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 3. هذه قطعة من فصل من قصة بني إسرائيل. والعناصر الأصلية التي تبرزها لنا هذه الكلمات القليلة تتلخص فيما يلي: 1- مقالة ينصح بها الناصح لليهود، إذ يدعوهم إلى الإيمان بالقرآن. 2- إجابتهم لهذا الناصح بمقالة تنطوي على مقصدين. 3- الرد على هذا الجواب بركنيه، من عدة وجوه. وأقسمُ لو أن محاميًا بليغًا وكلت إليه الخصومة بلسان القرآن في هذه القضية، ثم

_ 1 سورة هود: الآية 44. اقرأ إن شئت ما كتبه السكاكي عن هذه الآية في كتابه "مفتاح العلوم" بعد تعريف البلاغة والفصاحة في آخر علم البيان. 2 سورة البقرة: الآية 179. اقرأ ما كتبه عنها المفسرون وما كتبه صاحب "الإتقان" في بحث الإيجاز والإطناب. 3 سورة البقرة: الآية 91 والآيتان بعدها.

هُدي إلى استنباط هذه المعاني التي تختلج في نفس الداعي والمدعو لما وسعه في أدائها أضعاف هذه الكلمات. ولعله بعد ذلك لا يفي بما حولها من إشارات واحتراسات وآداب وأخلاق. قال الناصح لليهود: آمنوا بالقرآن كما آمنتم بالتوراة؛ ألستم قد آمنتم بالتوراة التي جاء بها موسى لأنها أنزلها الله؛ فالقرآن الذي جاء به محمد أنزله الله، فآمنوا به كما آمنتم بها. فانظر كيف جمع القرآن هذا المعنى الكثير في هذا اللفظ الوجيز {آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} . وسر ذلك أنه عدل بالكلام عن صريح اسم القرآن إلى كنايته، فجعل دعاءهم إلى الإيمان به دعاء إلى الشيء بحجته، وبذلك أخرج الدليل والدعوى في لفظ واحد. ثم انظر كيف طوى ذكر المنزل عليه فلم يقل: آمنوا بما أنزل الله "على محمد" مع أن هذا جزء متمم لوصف القرآن المقصود بالدعوة. أتدري لم ذلك؟ ... لأنه لو ذكر لكان في نظر الحكمة البيانية زائدًا وفي نظر الحكمة الإرشادية مفسدًا. أما الأول فلأن هذه الخصوصية لا مدخل لها في الإلزام، فأدير الأمر على القدر المشترك وعلى الحد الأوسط الذي هو عمود الدليل. وأما الثاني فلأن إلقاء هذا الاسم على مسامع الأعداء من شأنه أن يخرج أضغانهم ويثير أحقادهم فيؤدي إلى عكس ما قصده الداعي من التأليف والإصلاح. ذلك إلى ما في هذا الحذف من الإشارة إلى طابع الإسلام، وهو أنه ليس دين تفريق وخصومة، بل هو جامع ما فرّقه الناس من الأديان، داع إلى الإيمان بالكتب كلها على سواء: بما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم. لا نفرق بين شيء من كتبه، كما لا نفرق بين أحد من رسله.

كان جواب اليهود أن قالوا: إن الذي دعانا للإيمان بالتوراة ليس هو كونها أنزلها الله فحسب، بل إننا آمنا بها لأن الله أنزلها علينا، والقرآن لم ينزله علينا، فلكم قرآنكم ولنا توراتنا، ولكل أمة شرعة ومنهاج. هذا هو المعنى الذي أوجزه القرآن في قوله: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} وهذا هو المقصد الأول. وقد زاد في إيجاز هذه العبارة أن حذف منها فاعل الإنزال وهو لفظ الجلالة؛ لأنه تقدم ذكره في نظيرتها. من البين أن اقتصارهم على الإيمان بما أنزل عليهم يومئ إلى كفرانهم بما أنزل على غيرهم، وهذا هو المقصد الثاني. ولكنهم تحاشوا التصريح به لما فيه من شناعة التسجيل على أنفسهم بالكفر، فأراد القرآن أن يبرزه. انظر كيف أبرزه؟ إنه لم يجعل لازم مذهبهم مذهبًا لهم، ولم يدخل مضمون قولهم في جملة ما نقله من كلامهم، بل أخرجه في معرض الشرح والتعليق على مقالتهم: فقال: {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} أليس ذلك هو غاية الأمانة في النقل؟ ثم انظر إلى التعبير عن القرآن بلفظ {بِمَا وَرَاءَهُ} فإن لهذه الكلمة وجهًا تعم به غير القرآن ووجهًا تخص به هذا العموم. ذلك أنهم كما كفروا بالقرآن المنزل على محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كفروا بالإنجيل المنزل على عيسى، وكلاهما وراء التوراة، أي جاء بعدها. ولكنهم لم يكفروا بما قبل التوراة من صحف إبراهيم مثلًا. وهكذا تراه قد حدد الجريمة تمام التحديد باستعمال هذا اللفظ الجامع المانع. وهذا هو غاية الإنصاف وتحري الصدق في الاتهام. جاء دور الرد والمناقشة فيما أعلنوه وما أسروه. فتراه لا يبدأ بمحاورتهم في دعوى إيمانهم بكتابهم، بل يتركها مؤقتًا كأنها مسلَّمة

ليبني عليها وجوب الإيمان بغيره من الكتب، فيقول: كيف يكون إيمانهم بكتابهم باعثًا على الكفر بما هو حق مثله؟ -لا، بل {هُوَ الْحَقَّ} كله1- وهل يعارض الحق حتى يكون الإيمان بأحدهما موجبًا للكفر بالآخر؟!. ثم يترقى فيقول: وليس الأمر بين هذا الكتاب الجديد وبين الكتب السابقة عليه كالأمر بين كل حق وحق "فقد يكون الشيء حقًّا وغيره حقًّا فلا يتكاذبان، ولكنهما في شأنين مختلفين فلا يشهد بعضهما لبعض. أما هذا الكتاب فإنه جاء شاهدًا و {مُصَدِّقًا} لما بين يديه من الكتب. فأنى يكذب به من يؤمن بها؟! ثم يستمر في إكمال هذا الوجه قائلًا: ولو أن التحريف أو الضياع الذي نال من هذه الكتب قد ذهب بمعالم الحق فيها جملة لكان لهم بعض العذر في تكذيبهم بالقرآن؛ إذ يحق لهم أن يقولوا: "إن البقية المحفوظة من هذه الكتب في عصرنا ليس بينها وبين القرآن هذا التطابق والتصادق، فليس الإيمان بها موجبًا للإيمان به".. بل لو أن هذه البقية ليست عندهم ولكنهم كانوا عن دراستها غافلين، لكان لهم مثل ذلك العذر. أما وهذا القرآن مصدق لما هو قائم من الكتاب في زمنهم وبأيديهم ويدرسونه بينهم فبماذا يعتذرون وأنى يذهبون؟! هذا المعنى كله يؤديه لنا القرآن بكلمة {لِمَا مَعَهُمْ} . فانظر إلى الإحكام في صنعة البيان: إنما هي كلمة رُفعت2 وأخرى وُضعت3 في مكانها عند الحاجة إليها؛ فكانت هذه الكلمة حسمًا لكل عذر، وسدًّا لكل باب من أبواب الهرب؛ بل كانت هذه الكلمة وحدها بمثابة حركة تطويق للخصم تمت في

_ 1 فإن ما سواه إن خالفه كان شاهدًا على نفسه بالبطلان، وإلا كان صحيحًا أو محتملًا للصحة. فهو إذًا معيار الحق وميزانه. 2 و3 ذلك أنه كان مقتضى السياق أن يقال: "مصدقًا لما أنزل عليهم" ولكنه لأمر ما نحى عن كتابهم ذلك اللقب القديم، وألبسه هذا العنوان الجديد، ولو بدلت أحد اللقبين مكان الآخر لما صلح أحدهما في موضع صاحبه، بل لو جئت بلقب آخر فقلت: "مصدقًا لما هو باق في زمنهم" أو "مصدقًا لما عندهم" لما تم الإلزام، وهذا من عجب شأن القرآن؛ لا تبديل لكلماته.

خطوة واحدة، وفي غير ما جلبة ولا طنطنة. ولما قضى وطر النفس من هذا الجانب المطوي الذي ساقه مساق الاعتراض والاستطراد، استوى إلى الرد على المقصد الأصلي الذي تبجحوا بإعلانه والافتخار به، وهو دعواهم الإيمان بما أنزل عليهم، فأوسعهم إكذابًا وتفنيدًا، وبين أن داء الجحود فيهم داء قديم، قد أشربوه في قلوبهم ومضت عليه القرون حتى أصبح مرضًا مزمنًا، وأن الذي أتوه اليوم من الكفر بما أنزل على محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما هو إلا حلقة متصلة بسلسلة كفرهم بما أنزل عليهم؛ وساق على ذلك الشواهد التاريخية المفظعة التي لا سبيل لإنكارها، في جهلهم بالله، وانتهاكهم لحرمة أنبيائه، وتمردهم على أوامره: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} . 1- تأمل كيف أن هذا الانتقال كانت النفس قد استعدت له في آخر المرحلة السابقة؛ إذ يفهم السامع من تكذيبهم بما يصدق كتابهم أنهم صاروا مكذبين بكتابهم نفسه؛ وهل الذي يكذب من يُصدقك يبقى مصدِّقًا لك؟! غير أن هذا المعنى إنما أخذ استنباطًا من أقوالهم، وإلزامًا لهم بمآل مذهبهم، ولم يؤخذ بطريق مباشر من واقع أحوالهم. فكانت هذه هي مهمة الرد الجديد وهكذا كانت كلمة {مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} مغلاقًا لما قبلها مفتاحًا لما بعدها، وكانت آخر درجة في سلم الغرض الأول هي أول درجة في سلم الغرض الثاني. فما أوثق هذا الالتحام بين أجزاء الكلام! وما أرشد هذه القيادة للنفس بزمام البيان، تدريجًا له على مدارجها، وتنزيلًا له على قدر حاجتها وفي وقت تلك الحاجة! فما هو إلا أن آنس تطلُّع النفس واستشرافها من تلك الكلمة إلى غاية، إذا هو قد استوى بها إلى تلك الغاية ووقفها عليها تامة كاملة. 2- وانظر كيف عدل بالإسناد عن وضعه الأصلي وأعرض عن ذكر الكاسب

الحقيقي لتلك الجرائم، فلم يقل: "فلم قتل آباؤكم أنبياء الله، واتخذوا العجل، وقالوا سمعنا وعصينا؟ "؛ إذ كان القول على هذا الوضع حجة داحضة في بادئ الرأي، مصلها كمثل محاجة الذئب للحَمَل في الأسطورة المشهور1، فكان يحق لهم في جوابها أن يقولوا: "وما لنا ولآبائنا؟ تلك أمة قد خلت، ولا تزر وازرة وزر أخرى". ولو زاد مثلًا: "وأنتم مثلهم، قد تشابهت قلوبكم وقلوبهم" لجاء هذا التدارك بعد فوات الوقت، ولتراخى حبل الكلام وفترت قوته. فكان اختصار الكلام على ما ترى -بوقفهم بادئ ي بدء في موقف الاتهام- إسراعًا بتسديد2 سهم الحجة إلى هدفها، وتنبيهًا في الوقت نفسه عل أنهم ذرية بعضها من بعض، وأنهم سواسية في الجرم، فعلى أيهم وضعت يدك فقد وضعتها على الجاني الأثيم؛ لأنهم لا ينفكون عن الاستنان بسنة أسلافهم، أو الرضا عن أفاعيلهم، أو الانطواء على مثل مقاصدهم. 3- وانظر كيف زاد هذا المعنى ترشيحًا بإخراج الجريمة الأولى وهي جريمة القتل في صيغة الفعل المضارع تصويرًا لها بصورة الأمر الواقع الآن، كأنه بذلك يعرض علينا هؤلاء القوم أنفسهم وأيديهم ملوثة بتلك الدماء الزكية. 4- ولقد كان التعبير بهذه الصيغة مع ذكر الأنبياء بلفظ عام مما يفتح بابًا من الإيحاش لقلب النبي العربي الكريم، وبابًا من الإطماع لأعدائه في نجح تدابيرهم ومحاولاتهم لقتله. فانظر كيف أسعفنا بالاحتراس عن ذلك كله بقوله: {مِنْ قَبْلُ} فقطع بهذه الكلمة أطماعهم وثبت بها قلب حبيبه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذ كانت بمثابة وعده إياه بعصمته من الناس. ذلك إلى ما فيها من تنبيه على أصل وضع الكلام وعلى ما صنع به

_ 1 التي تزعم أن ذئبًا عدا على حمل صغير بحجة أن أخاه أو أباه كان قد عكر عليه ماء القناة وهو يشرب منذ عام مضى. وهي تمثل عدوان القوي على الضعيف استنادًا لأوهن الأسباب. 2 وهذا هو ما يسمى المناظرة "بالتقريب" بين الدليل والمطلوب.

من التجوز المذكور آنفًا في الإسناد وفي الصيغة. 5- وانظر كيف جيء بالأفعال في الجرائم التالية على صيغة الماضي بعد أن وطأ لها بهذه الكلمة: {مِنْ قَبْلُ} فاستقام التاريخ على وضعه الطبيعي حين لم تبق هناك حاجة إلى مثل التعبير الأول. 6- وانظر إلى الآداب العالية في عرض الجريمة الثانية وهي جريمة الشرك؛ فإنها لما كانت أغلظ من سابقتها وأشد نكرًا في العقول نبه على ذلك ألطف تنبيه بحذف أحد ركنيها، فلم يقل: اتخذتم العجل إلهًا، بل طوى هذا المفعول الثاني استبشاعًا للتصريح به في صحبة الأول، وبيانًا لما بينهما من مفارقة.. وكم في هذا الحذف من تعبير وتهويل!! فرب صمت هو أنطق بالحكم، وأنكى في الخصم. 7- ثم انظر إلى النواحي التي أوثر فيها الإجمال على التفصيل، إعراضًا عن كل زيادة لا تمس إليها حاجة البيان في الحال، فقد قال: إن القرآن مصدق لما معهم، ولم يبين مدى هذا التصديق: أفي أصول الدين فحسب، أم في الأصول والفروع جميعًا، أم في الأصول وبعض الفروع، وإلى أي حد؟ ذلك أن هذا كلام الملوك لا يتنزل إلا بقدر معلوم. وماذا يعني الداعي إلى أصل الإيمان أن يمتد التطابق بين الأديان إلى فروعها أو لا يمتد؟ فليبحث علماء التشريع! وقال: إنهم يقتلون أنبياء الله. فمن هم أولئك الأنبياء؟ ... ليبحث علماء التاريخ! وقال: إن موسى جاءهم بالبينات. فكم هي؟ وما هي؟ وقال: إنه أخذ عليهم ميثاقهم. فعلى أي شيء كان الميثاق؟ إن حكمة البيان القرآني لأجلُّ مِن أن تعرض لهذه التفاصيل في مثل هذا الموضع. ولو ذكرت ها هنا لكان مثلها مثل من يسأل: لم ضربت عبدك؟ فيقول: لأنه ضرب غلامًا

اسمه كذا واسم أبيه كذا وحليته وولد في عام كذا. ألا ترى أن هذا زائد وكثير1. 8- ولو ذهبنا نتبع سائر ما في هذه القطعة من اللطائف لخرجنا عن حد التمثيل والتنبيه الذي قصدنا إليه. فلنكتفِ بتوجيه نظرك فيها إلى سر دقيق لا تراه في كلام الناس. ذلك أن المرء إذا أهمه أمر من الدفاع أو الإقناع أو غيرهما بدت على كلامه مَسحة الانفعال بأغراضه، وكان تأثيره بها في نفسك على قدر تأثره هو؛ طبعَا أو تطبعًا، فتكاد تحس بما يخالجه من المسرة في ظفره ومن الامتعاض في إخفاقه. بل تراه يكاد يهلك أسفًا لو أعرض الناس عن هداه إذا كان مؤمنًا بقضيته، مخلصًا في دعوته، كما هو شأن الأنبياء -عليهم السلام- أما هنا فإنك تلمح وراء الكلام قوة أعلى من أن تنفعل بهذه الأغراض، قوة تؤثر ولا تتأثر، تصف لك الحقائق: خيرها وشرها، في عزة من لا ينفعه خير، واقتدار من لا يضره شر. هذا الطابَع من الكبرياء والعظمة تراه جليًّا من خلال هذا الأسلوب المقتصد في حجاجه أخذًا وردًّا، المقتصد في وصفه مدحًا وقدحًا. انظر إليه حين يجادل عن القرآن فلا يزيد في وصفه على هذه الكلمة: {هُوَ الْحَقَّ} . نعم إنها كملة تملأ النفس، ولكن هل تشبعك أيها الإنسان تلك الكلمة إذا أردت أن تصف حقيقة من الحقائق التي تقتنع بها وتحب أن تقنع بها الناس؟ وانظر إليه بعد أن سجل على بني إسرائيل أفحش الفحش وهو وضعهم البقر الذي هو مثل في البلادة موضع المعبود الأقدس، وبعد أن وصف قسوة قلوبهم في تأبِّيهم على أوامر الله مع حملهم عليها بالآيات الرهيبة؛ فتراه لا يزيد على أن يقول في الأولى: إن هذا "ظلم" وفي الثانية: "بئسما" صنعتم. أذلك كل ما تقابل به هذه الشناعات؟ نعم،

_ 1 ومن هنا عيب على امرئ القيس تفصيله في غير موضع التفصيل، وذلك فيما هو معدود من أجود شعره، قوله: قفا نبك من ذكري حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل فتوضح فالمقراة.............. ... ........................... لم يقنع في وصف المنزل بقوله: "بسقط اللوى" حتى حده بحدود أربعة. قال الباقلاني "........ كأنه يريد بيع المنزل، فيخشى إن أخل بحد منه أن يكون بيعه فاسدًا أو شرطه باطلًا! ".

إنهما كلمتان وافيتان بمقدار الجريمة لو فُهمتا على وجههما، ولكن أين الألم وحرارة الاندفاع في الانتقام؟ بل أين الإقذاع والتشنيع؟ وأين الإسراف والفجور الذي تراه في كلام الناس إذا أُحفظوا بالنيل من مقامهم؟ لله ما أعفَّ هذه الخصومة، وما أعز هذا الجناب وأغناه عن شكر الشاكرين وكفر الكافرين، وتالله إن هذا كلام لا يصدر عن نفس بشر.

القرآن إيجاز كله: القرآن إيجاز كله، سواء مواضع إجماله ومواضع تفصيله: قلنا: إن القرآن الكريم يستثمر دائمًا برفق أقل ما يمكن من اللفظ في توليد أكثر ما يمكن من المعاني. أجل؛ تلك ظاهرة بارزة فيه كله؛ يستوي فيها مواضع إجماله التي يسميها الناس مقام الإيجاز، ومواضع تفصيله التي يسمونها مقام الإطناب. ولذلك نسميه إيجازًا كله1؛ لأننا نراه في كلام المقامين لا يجوز سبيل القصد، ولا يميل إلى الإسراف ميلًا ما، ونرى أن مراميه في كلام المقامين لا يمكن تأديتها كاملة العناصر

_ 1 لما كان هذا اصطلاحًا جديدًا نخالف به مصطلح القوم لم نرَ بدًّا من إيضاح سبب المخالفة: قسم علماء البلاغة الكلام إلى "مساو" و"موجز" و"مطنب". وعرفوا المساواة بأنها أداء المعنى بلفظ على قدره، والإيجاز بأنه أداء المعنى بلفظ ناقص عنه واف به، والإطناب بأنه أداء المعنى بلفظ زائد عنه لفائدة. وجعلوا المقياس الذي يضبط به هذا التقسيم أمرًا عرفيًّا أو وضعيًّا: فاعتبر السكاكي المقدار الذي يتكلم به أوساط الناس في محاوراتهم ومتعارف خطابهم، هو ضابط المساواة، وهو القدر الذي لا يحمد منهم، ولا يذم في باب البلاغة، فما نقص عنه مع الوفاء به فهو الإيجاز، وما زاد عنه مع الإفادة فهو الإطناب. والكلام البليغ إنما يقع في هذين الطرفين. هذا محصول كلام السكاكي. وقد وافقه الذين جاءوا من بعده على هذا التقسيم، إلا أن بعضهم رأى أن البناء على العرف فيه رد إلى الجهالة، فجعل حد المساواة هو المقدار الذي يؤدي المعاني الأولية بالوضع من غير رعاية للمناسبات الزائدة على أصل المعنى. وقد فهمنا من وضعهم التقسيم على هذا الأساس، واعتبارهم المساواة بأحد هذين المقياسين المتحدين في المآل، أنهم ظنوا أن العبارة التي تؤدى بها المعاني الأولية في لسان العوام تقع دائمًا بين الإطالة والاختصار. وهذا ما لا دليل عليه في العرف ولا في الوضع، أما الأول فإن العوام يتكلمون في المعنى الواحد باللفظ المطول تارة وبالمختصر تارة آخرى، وإن لم يتحروا إصابة المحز في كل منها، وأما الثاني فلأن اللفظ الذي وضع في اللغة لتأدية المعنى الأول مختلف، فمنه ما يؤديه بوجه مجمل، ومنه ما يؤديه بلفظ مفصل، وكل من الإجمال والتفصيل يتفاوت في نفسه تفاوتًا كثيرًا، فلا ينضبط منهما قدر يرجع إليه في معرفة الإيجاز والإطناب؛ إذ ما من كلام وجيز إلا ويمكن تأدية معناه الإجمالي بأقل من لفظه أو بما يساويه وإن لم يغنِ غناءه ولم يوفِ وفاءه، حتى المثل الذي عدوه علمًا في الإيجاز وهو قوله تعالى: {فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [الآية 179 من سورة البقرة] يمكن تأدية أصل معناه بقولك "انتقم تسلم" أو "اقتص تحيا" أو بالاكتفاء بكلمتين منه "القصاص حياة"، بل فاتحة الكتاب الكريم التي جمعت مقاصد القرآن كلها في سبع آيات يمكن أداء معانيها الأصلية في خمس كلمات: "نحمدك اللهم ونعبدك، ونستعينك ونستهديك" وإن شئت ففي أقل من ذلك.=

والحلى بأقل من ألفاظه ولا بما يساويها. فليس فيه كلمة إلا هي مفتاح لفائدة جليلة،

_ =وكذلك يقال: ما من كلام مطنب إلا ويمكن تأدية معناه الوضعي مفصلًا في لفظ أطول منه، فقوله تعالى: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [الآية 194 من سورة البقرة] إيجاز، وقد جاء بسطه في قوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [الآية 45 من المائدة] وهذا الكلام على طوله يعد موجزًا إذا قيس إذا قولك في مثل معناه: "من قتل نفسًا قتل بها، ومن فقأ عينًا فقئت عينه، ومن جدع أنفًا جدع أنفه، ومن جدع أذنًا جدعت أذنه، ومن كسر سنًّا كسرت سنه ... وإن شئت زدت: واليد باليد، والأصبع بالأصبع، والآمة بالآمة والموضحة بالموضحة وهلم جرا. وقوله تعالى: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ} [الآية 59 من سورة المائدة] جاء معناه مبسوطًا في قوله: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ} [الآية 136 من سورة البقرة] وهذا المعنى يؤدى عادة بقولك: آمنا بالله وبالقرآن الذي أنزله الله إلينا، وبالتوراة التي أنزلها الله على موسى، وبالإنجيل الذي أنزله الله على عيسى، وبالزبور الذي آتاه الله لداود، وبالصحف التي آتاها الله لإبراهيم ولو شئت عددت الأسباط سبطًا سبطًا، وذكرت سائر من قص الله علينا من النبيين في غير هذا الموضع بل لو شاء الله لقص علينا من أنباء سائر الرسل ما لم يقصه علينا. والقوم معترفون ضمنًا بوجود هاتين المرتبتين في كلام العوام، إذ قالوا: إن مرتبتي الاختصار المخل والتطويل الممل ليستا من البلاغة في شيء فإذا لم تكونا من كلام البلغاء كانتا البتة من كلام غير البلغاء وإلا فكلام من تكونان؟! وإذًا فلا تصلح المعاني الأولية ولا العبارات العامية مقياسًا منضبطًا للوسط المفروض. هذا وقد نشأ من قياسهم التوسط بالمقدار الذي تؤدى به المعاني الأولية في لسان العوام -بعد تسليم كونه وسطًا- أن جعلوا الفضيلة البيانية في هذا الباب ماثلة أبدًا طرف النقص أو طرف الزيادة. وذلك عكس ما بنيت عليه قاعدة الفضائل من تبوئها مكانًا وسطًا بين الأطراف "ولقد تعجب إذا رأيتهم يرجعون فيدخلون المساواة في كلام الرجل البليغ إذا دعاه إليها داع، كأن يكون كلامه مع العامة ثم تزداد عجبًا إذا رأيتهم يدخلونها في القرآن نفسه، وهو ما علمت خطاب للعامة وللخاصة على السواء، ويمثلونها بقوله تعالى: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [الآية 43 من سورة فاطر] على أن في هذه الكلمة إيجازًا بالحذف على اصطلاحهم نفسه، إذ المعنى لا يحيق ضرر المكر وعاقبته". لهذا كله رأينا أن نضع التقسيم وضعًا آخر نرد فيه الفضيلة إلى نصابها من الحد الوسط، ونرجع فيه الذم إلى الطرفين، وذلك يجعل المقياس هو المقدار الذي يؤدى به المعنى بأكمله، بأصله وحليته على حسب ما يدعو إليه المقام من إجمال أو تفصيل؛ بغير إجحاف ولا إسراف. هذا القدر الذي من نقص عنه أو زاد عده البلغاء حائدًا عن الجادة بقدر ما نقص أو زاد، هو الميزان الصحيح الذي لك أن تسمي طرفيه بحق تقصيرًا أو تطويلًا، وأن تسميه هو بالمساواة أو القصد أو التوسط أو التقدير أو ما شئت فسمه. ونحن قد سميناه أيضًا باسم "الإيجاز" مطمئنين إلى صحة هذه التسمية، إذ رأينا حد الإيجاز ينطبق عليه، فما الإيجاز إلا السرعة والتخفيف في بلوغ الحاجة بالقدر الممكن، فالذي يسرع فوق الطاقة لا يبلغك حاجتك فيكون مجحفًا مخلًّا، والذي يبطئ حيث تمكن السرعة لا يكون إلا مسرفًا مملًّا. ورأينا الناس ما زالوا يتواصدون بهذه الوجازة في البيان ويجعلون خير الكلام ما قبل ودل،=

وليس فيه حرف إلا جاء لمعنى. 1- ليس في القرآن كلمة مقحمة ولا حرف زائد زيادة معنوية: دع عنك قول الذي يقول في بعض الكلمات القرآنية إنها "مقحَمة" وفي بعض حروفه إنها "زائدة" زيادة معنوية. ودع عنك قول الذي يستخف كلمة "التأكيد" فيرمي بها في كل موطن يظن فيه الزيادة، لا يبالي أن تكون تلك الزيادة فيها معنى المزيد عليه فتصلح لتأكيده أو لا تكون، ولا يبالي أن يكون بالموضع حاجة إلى هذا

_ = حتى روي عن سيد البلغاء صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله أنه قال لجرير بن عبد الله البجلي: "يا جرير إذا قلت فأوجز، وإذا بلغت حاجتك فلا تتكلف" هكذا أحفظه، ولا يحضرني الآن تخرنجه، وما سمعنا أحدًا يوصي بهذا الإطناب الذي عده المؤلفون فضيلة ثانية تقابل الإيجاز، وإنما هو إحدى شعبتيه: الاختصار المفهم أو الإطناب المفحم. ولو سميناه فضيلة ثانية تقابله لخشينا أن تكون هذه المقابلة وحدها رخصة في التحليل من قيوده وتسامحًا في الإكثار الذي جاء ذمه بكل لسان، حتى قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ... وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسًا يوم القيامة أساوئكم أخلاقا الترثارون المتشدقون المتفيقهون" رواه أحمد وابن حبان وغيرهما عن أبي ثعلبة. فلا وربك إنما هي فضيلة واحدة تطلب من المتكلم في كل مقام، ويؤخذ بها في سعة التفصيل كما يؤخذ بها في ضيق الإجمال، بل لعلها في مقام التفصيل أكد طلبًا وأصعب منالًا. فالكلام الطويل إن حوى كل جزء منه فائدة تمس إليها الحاجة في المواضع ولا يسهل أداء تلك القاعدة بأقل منه كان هو عين الإيجاز المطلوب، وإن أمكن أداء الأغراض فيه كاملة بحذف شء منه أو بإبداله بعبارة أخصر منه كان هو حشوًا أو تطويلًا معيبًا. والكلام القصير إن وفى بالمقاصد الأصلية والتكميلية المناسبة في الحال كان هو التوسط المطلوب، وإلا كان بترًا أو تقصيرًا معيبًا. وليس الإيجاز قاصرًا على جانب الإجمال كما زعموا حتى بنوا عليه ما بنوا، وحتى أخرجوا منه مثل قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ} [الآية 164 من سورة البقرة] ، وجعلوها من باب الإطناب بحجة أنه يمكن إيجازها بهذه العبارة: "إن في ترجيح وقوع أي ممكن كان لا على وقوعه لآيات للعقلاء - مفتاح العلوم" وأنت فهل عهدت عربيًّا قط بليغًا أو غير بليغ تكلم بهذا التعبير الفلسفي الجاف القلق الذي افترضه السكاكي مقياسًا للمساواة في معنى الآية، كلا، إنك لو رجعت إلى ما تكلم به الناس في آيات الله الكونية تفصيلًا أو إجمالًا لرأيت كلامًا عربيًّا صحيحًا أطول من هذا أو أقصر، ولرأيت الآية الكريمة هي أوجز كلامًا وأحكم نظامًا في بابها من التفصيل، كما أن قوله تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الآية 101 من سورة يونس] هو أوجز كلامًا في بابه من الإجمال. قلنا: إن فضيلة الإيجاز بمعناه الصحيح هو الوسط المعتدل، وهو الفضيلة الوحيدة التي تواصى بها البلغاء في كل مقام بحسبه، غير أنه ليس للإنسان ما تمنى، فالمثل الكامل وإن تطاولت إليه أعناق الناس وتفاوتوا في طلبه قربًا وبعدًا، لا يستطيع أحد منهم أن يأتي على غايته، وإنما أتى عليها القرآن الحكيم، فهو المثل الأعلى في حسن الإيجاز، كيف لا وهو حد الإعجاز.

التأكيد أو لا حاجة له به. أجل، دع عنك هذا وذاك، فإن الحكم في القرآن بهذا الضرب من الزيادة أو شبهها إنما هو ضرب من الجهل -مستورًا أو مكشوفًا- بدقة الميزان الذي وضع عليه أسلوب القرآن. وخذ نفسك أنت بالغوص في طلب أسراره البيانية على ضوء هذا المصباح. فإن عمي عليك وجه الحكمة في كلمة منه أو حرف فإياك أن تعجل كما يعجل هؤلاء الظانون؛ ولكن قل قولًا سديدًا هو أدنى إلى الأمانة والإنصاف. قل: "الله أعلم بأسرار كلامه، ولا علم لنا إلا بتعليمه". ثم إياك أن تركن إلى راحة اليأس فتقعد عن استجلاء تلك الأسرار قائلًا: أين أنا من فلان وفلان؟ .. كلا، فرب صغير مفضول قد فطن إلى ما لم يفطن له الكبير الفاضل. ألا ترى إلى قصة ابن عمر في الأحجية المشهورة1؟ فجِدَّ في الطلب وقل: رب زدني علمًا، فعسى الله أن يفتح لك بابًا من الفهم تكشف به شيئًا مما عمي على غيرك. والله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور. ولنضرب لك مثلًا، قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 2. سر زيادة الكاف في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} : "أكثر" أهل العلم قد ترادفت كلمتهم على زيادة الكاف بل على وجوب زيادتها في هذه الجملة، فرارًا من المحال العقلي الذي يفضي إليه بقاؤها على معناها الأصلي من التشبيه؛ إذ رأوا أنها حينئذ تكون نافية الشبيه عن مثل الله، فتكون تسليمًا بثبوت المثل

_ 1 قرأ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} [الآية 24 من سورة إبراهيم] وقال: "إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم. فحدثوني ما هي؟ " فخفي على القوم علمها وجعلوا يذكرون أنواعًا من شجر البادية، وفهم ابن عمر أنها النخلة، وكان عاشر عشرة هو أحدثهم سنًّا، وفيهم أبو بكر وعمر، فقال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هي النخلة". الحديث رواه الشيخان. وفي القرآن {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الآية 79 من سورة الأنبياء] . البخاري عن ابن عمر، ك العلم، ب/ قول المحدث حدثنا وأخبرنا وأنبأنا "59". 2 الآية 11 من سورة الشورى: 42.

له سبحانه، أو على الأقل محتملة لثبوته وانتفائه؛ لأن السالبة -كما يقول علماء المنطق- تصدق بعدم الموضوع. أو1 لأن النفي -كما يقول علماء النحو- قد يوجه إلى المقيد وقيده جميعًا. تقول: "ليس لفلان ولدٌ يعاونه" إذا لم يكن له ولد قط أو كان له ولد ولا يعاونه. وتقول: "ليس محمدٌ أخًا لعلي" إذا كان أخًا لغير علي أو لم يكن أخًا لأحد. "وقليل منهم" من ذهب إلى أنه لا باس ببقائها على أصلها؛ إذ رأى أنها لا تؤدي إلى ذلك المحال لا نصًّا ولا احتمالًا؛ لأن نفي مثل المثل يتبعه في العقل نفي المثل أيضًا. وذلك أنه لو كان هناك مثل الله لكان لهذا المثل مثل قطعًا وهو الإله الحق نفسه، فإن كل متماثلين يعد كلاهما مثلًا لصاحبه، وإذًا لا يتم انتفاء مثل المثل إلا بانتفاء المثل وهو المطلوب. وقصارى هذا التوجيه -لو تأملته- أنه مصحح لا مرجح، أي أنه ينفي الضرر عن هذا الحرف، ولكنه لا يثبت فائدته ولا يبين مسيس الحاجة إليه؛ ألست ترى أن مؤدي الكلام معه كمؤداه بدونه سواء، وأنه إن كان قد ازداد به شيئًا فإنما ازداد شيئًا من التكلف والدوران وضربًا من التعمية والتعقيد. وهل سبيله إلا سبيل الذي أراد أن يقول: "هذا فلان" فقال: "هذا ابن أخت خالة فلان"؟ فمآله إذًا إلى القول بالزيادة التي يسترونها باسم التأكيد، ذلك الاسم الذي لا تعرف له مسمى ها هنا؛ فإن تأكيد المماثلة ليس مقصودًا البتة، وتأكيد النفي بحرف يدل على التشبيه هو من الإحالة بمكان. ولو رجعت إلى نفسك قليلًا لرأيت هذا الحرف في موقعه محتفظًا بقوة دلالته، قائمًا

_ 1 هذا الترديد مبني على اختبار مضمون الجملة أو منطوقها؛ فعلى الأول يقع المثل موضوعًا؛ لأنها في قوة قولنا: "مثل ليس له مثل". وعلى الثاني يبقى في المحمول؛ لأنه واقع في خبر ليس.

بقسط جليل من المعنى المقصود في جملته، وأنه لو سقط منها لسقطت معه دعامة المعنى، أو لتهدم ركن من أركانه، ونحن نبين لك هذا من طريقين، أحدهما أدق مسلكًا من الآخر: "الطريق الأول" -وهو أدنى الطريقين إلى فهم الجمهور: أنه لو قيل: "ليس مثله شيء" لكان نفيًا للمثل المكافئ، وهو المثل التام المماثلة فحسب؛ إذ إن هذا المعنى الذي ينساق إليه الفهم من لفظ المثل عند إطلاقه. وإذًا لدب إلى النفس دبيب الوساوس والأوهام: أن لعل هنالك رتبة لا تضارع رتبة الألوهية ولكنها تليها، وأن عسى أن تكون هذه المنزلة للملائكة والأنبياء، أو للكواكب وقوى الطبيعة، أو للجن والأوثان والكهان، فيكون لهم بالإله الحق شبه ما في قدرته أو علمه، وشرك ما في خلقه أو أمره.. فكان وضع هذا الحرف في الكلام إقصاءً للعالم كله عن المماثلة وعما يشبه المماثلة وما يدنو منها، كأنه قيل: ليس هناك شيء يشبه أن يكون مثلًا لله، فضلًا عن أن يكون مثلًا له على الحقيقة. وهذا باب من التنبيه بالأدنى على الأعلى، على حد قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} 1 نهيًا عن يسير الأذى صريحًا، وعما فوق اليسير بطريق الأحرى. "الطريق الثاني" -وهو أدقهما مسلكًا: أن المقصود الأولي من هذه الجملة وهو نفي الشبيه، وإن كان يكفي لأدائه أن يقال: "ليس كالله شيء" أو "ليس مثله شيء" لكن هذا القدر ليس هو كل ما ترمي إليه الآية الكريمة، بل إنها كما تريد أن تعطيك هذا الحكم تريد في الوقت نفسه أن تلفتك إلى وجه حجته وطريق برهانه العقلي. ألا ترى أنك إذا أردت أن تنفي عن امرئ نقيصة في خلقه فقلت: "فلان لا يكذب ولا يبخل" أخرجت كلامك عنه مخرج الدعوى المجردة عن دليلها. فإذا زدت فيه

_ 1 الآية 23 من سورة الإسراء.

كلمة فقلت: "مثل فلان لا يكذب ولا يبخل" لم تكن بذلك مشيرًا إلى شخص آخر يماثله مبرأً من تلك النقائص، بل كان هذا تبرئة له هو ببرهان كلي، وهو أن من يكون على مثل صفاته وشيمه الكريمة لا يكون كذلك؛ لوجود التنافي بين طبيعة هذه الصفات وبين ذلك النقص الموهوم. على هذا المنهج البليغ وضعت الآية الحكيمة قائلة: "مثله تعالى لا يكون له مثل". تعني أن من كانت له تلك الصفات الحسنى وذلك المثل الأعلى لا يمكن أن يكون له شبيه، ولا يتسع الوجود لاثنين من جنسه. فلا جرم جيء فيها بلفظين، كل واحد منهما يؤدي معنى المماثلة؛ ليقوم أحدهما ركنًا في الدعوى، والآخر دعامة لها وبرهانًا. فالتشبيه المدلول عليه "بالكاف" لمّا تصوب إليه النفي تأدَّى به أصل التوحيد المطلوب؛ ولفظ "المثل" المصرح به في مقام لفظ الجلالة أو ضميره نبه على برهان ذلك المطلوب. واعلم أن البرهان الذي ترشد إليه الآية على هذا الوجه برهان طريف في إثبات وحدة الصانع، لا نعلم أحدًا من علماء الكلام حام حوله؛ فكل براهينهم في الوحدانية قائمة على إبطال التعدد بإبطال لوازمه وآثاره العملية. حسبما أرشد إليه قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} 1.

_ 1 "الآية 22 من سورة الأنبياء"، ونحن نلخص لك هنا وجوه استدلالهم في نسق واحد، لتتبين أنها كلها قائمة على أساس المعنى المستنبط من هذه الآية، وهو أن تعدد الآلهة المستجمعة لشرائط الإلهية يقتضي "إما" عدم وجود شيء من المخلوقات، وذلك هو فسادها في آن الإيجاد "وإما" وجودها على وجه التفاوت والاختلاف المؤدي إلى فسادها غب الإيجاد. ذلك أنه "لو" توجهت إرادة الإلهين إلى شيء واحد لتعذر عليهما إحداثه، لاستحالة صدور أثر واحد عن مؤثرين. والقول بصدوره عن قدرة أحدهما مع استوائهما في القدرة وفي توجه القصد ترجيح بلا مرجح. و"لو" توجهت إرادة أحدهما إلى شيء وإرادة الآخر إلى نقيضه لم يمكن إحداثهما، وإلا لاجتمع النقيضان. وإحداث أحدهما دون الآخر يلزمه الرجحان المذكور. و"لو" توجهت إرادة أحدهما إلى بعض الخلق والآخر إلى بعضه، إذًا لذهب كل إله بما خلق، ولكان هنا عالمان مختلفا النظام، فلا يلبث أن يطغى بعضها على بعض حتى يتماحقا. وكل أولئك=

أما آية الشورى المذكورة فإنها ناظرة إلى معنى وراء ذلك ينقض فرض التعدد من أساسه، ويقرر استحالته الذاتية في نفسه بقطع النظر عن تلك الآثار. فكأننا بها تقول لنا: إن حقيقة الإله ليست من تلك الحقائق التي تقبل التعدد والاشتراك والتماثل في مفهومها، كلا، فإن الذي يقبل ذلك إنما هو الكمال الإضافي في الناقص، أما الكمال التام المطلق الذي هو قوام معنى الإلهية، فإن حقيقته تأبى على العقل أن يقبل فيها المشابهة والاثنيْنيَّة؛ لأنك مهما حققت معنى الإلهية حققت تقدمًا على كل شيء وإنشاءً لكل شيء: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، وحققت سلطانًا على كل شيء وعلوًّا فوق كل شيء: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فلو ذهبت تفترض اثنين يشتركان في هذه الصفات لتناقضتَ؛ إذ تجعل كل واحد منهما سابقًا مسبوقًا، ومنشئًا منشأً. ومستعليًا مستعلًى عليه. أو لأحلت الكمال المطلق إلى كمال مقيد فيهما؛ إذ تجعل كل واحد منهما بالإضافة إلى صاحبه ليس سابقًا ولا مستعليًا. فأنى يكون كل منهما إلهًا، وللإله المثل الأعلى؟! أرأيت كم أفدنا من هذه "الكاف" وجوهًا من المعاني كلها شاف كاف؟ فاحفظ هذا المثال وتعرف به دقة الميزان الذي وضع عليه النظم الحكيم حرفًا حرفًا. الإيجاز بالحذف مع الوضوح والطلاوة: "وبعد" فإن سر الإيجاز في القرآن لا يقف عند الحد الذي أشرنا إليه، من اجتناب الحشو والفضول بتة، وانتقاء الألفاظ الجامعة المانعة التي هي -بطبيعتها اللغوية- أتم تحديدًا للغرض، وأعظم اتساعًا لمعانيه المناسبة، لا، بل إنه كثيرًا ما يسلك في إيجازه

_ =باطل بالمشاهدة، إذ ترى العالم قد وجد غير فاسد واستمر غير فاسد، ونراه بجميع أجزائه وعلى اختلاف عناصره وأوضاعه -علوًّا وسفلًا وخيرًا وشرًّا- يؤدي وظيفة جسم واحد تتعاون أعضاؤه بوظائفها المختلفة على تحصيل غرض واحد. وهذه الوحدة في نظام الأفعال دليل على وحدة الفاعل المنظم لها جل شأنه.

سبيلًا أعز وأعجب. فلقد راه يعمد -بعد حذف فضول الكلام وزوائده -إلى حذف شيء من أصوله وأركانه التي لا يتم الكلام في العادة بدونها، ولا يستقيم المعنى إلا بها، ولقد يتناول بهذا الحذف كلماتٍ وجملًا كثيرة متلاحقة ومتفرقة في القطعة الواحدة، ثم تراه في الوقت نفسه يستثمر تلك البقية الباقية من اللفظ في تأدية المعنى كله بجلاء ووضوح، وفي طلاوة وعذوبة، حتى يخيل إليك من سهولة مسلك1 المعنى في لفظه أن لفظه أوسع منه قليلًا. فإذا ما طلبتَ سر ذلك رأيته قد أودع معنى الكلمات أو الجمل المطوية في كلمة هنا وحرف هناك، ثم أدار الأسلوب إدارة عجيبة وأمر عليها جَنْدَرة البيان بيد صَنَاع، فأحكم بها خلقه وسواه. ثم نفخ فيه من روحه، فإذا هو مصقول أملس، وإذا هو نير مشرق، لا تشعر النفس بما كان فيه من حذف وطي، ولا بما صار إليه من استغناء واكتفاء، إلا بعد تأمل وفحص دقيق. لا نكران أن العرب كانت تعرف شيئًا من الحذف في كلامها، وترى ذلك من الفضيلة البيانية متى قامت الدلائل اللائحة على ذلك المحذوف، ولو كان من أجزاء الجملة ومقوماتها. فإذا قيل للعربي: أين أخوك؟ قال: في الدار. وإذا قيل له: من في الدار؟ قال: أخي. ولو قال: أخي في الدار، لعد ذلك منه ضربًا من اللغو والحشو. لكن الشأو الذي بلغه القرآن في هذا الباب -كغيره من أبواب البلاغة- ليس في متناول الألسنة والأقلام، ولا في متناول الأماني والأحلام.

_ 1 هذه كلمة تمثيلية بها أن نصور هذا الأثر البياني في مثال من الصناعات اليدوية. ذلك أنك ترى الخياط الماهر ينتفع باليسير من البز فيجعل منه حلة حسنة، مقدرة على الجسم تقديرًا، بل إنها لسهولة مسلك الأعضا فيها تحسبها ضافية. بينما غيره لا يحسن الانتفاع بهذا القدر ولا بأكثر منه، فيخرجه لباسًا ضيقًا حرجًا. ذلك مثل صناعة الإيجاز القرآني بالقياس إلى كلام الناس.

مثال تطبيقي من سورة يونس والأنفال: خذ لذلك مثلًا قوله تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} 1. الآية مسوقة في شأن منكري البعث الذين قال لهم النبي: إني رسول الله إليكم، وإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقالوا متهكمين: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} 2. فلما لم يجبهم الله إلى اقتراحهم وأخر عنهم العذاب إلى ساعته المحدودة أطغاهم طول الأمن والدعة والعافية الحاضرة حتى نسوا ريب الدهر وأمنوا مكر الله، فجعلوا يستعجلون بالشر استعجالهم بالخير، ويقولون: متى هو؛ وما يحبسه لو كان آتيًا؟! أراد القرآن أن يقوم في جواب هذا الاستعجال: لو كانت سنة الله قد مضت بأن يعجل للناس الشر إذا استعجلوه، كتعجيله لهم الخير إذا استعجلوه، لعجله لهؤلاء. ولكنه قد جرت سنته التي لا تتبدل بأن يمهل الظالمين ويؤخر حسابهم إلى أجل مسمى. وعلى وفق هذا النظام المسنون سيترك هؤلاء وشأنهم حتى يجيء وقتهم. هذا هو الوضع الذي يوضع عليه الكلام في ألسنة الناس وفي طبيعة اللغة لتأدية المعنى الإجمالي الذي ترمي إليه الآية. فانظر ماذا جرى..؟ 1- وكان الكلام في وضعه العادي مؤلفًا من قضايا ثلاث: اثنتان منها بمثابة المقدمات. والثالثة بمنزلة النتيجة. فاقتصر القرآن على الأولى والأخيرة. أما الوسطى وهي الاستدراك -أو الاستثنائية كما يسميها علماء المنطق- فقد طواها طيًّا.

_ 1 الآية 11 من سورة يونس. 2 الآية 32 من سورة الأنفال.

2- وكانت المقدمة الأولى في وضعها الساذج تتألف من أربعة أطراف: تعجيل من الله في الخير وفي الشر، واستعجال من الناس كذلك. ولكن الكلام ها هنا ليس فيه إلا تعجيل واحد من الله، واستعجال واحد من الناس. 3- وكانت المقابلة في الشبيه بحسب الظاهر إنما هي بين تعجيل وتعجيل، أو بين استعجال واستعجال، فأدير الكلام في الآية على وجه غريب، وجعلت المشابهة بين تعجيل واستعجال. وبعد هذا التصرف كله هل ترى كلامًا مبتورًا أو طريق ملتويًا يتعثر فيه الفهم؟ أم ترى مغزى الآية لائحًا للعامة والخاصة، كالبدر ليس دونه سحاب؟ فارجع إلى طلب شيء من أسرار البيان، وقل: كيف جاء هذا الإشراق مع هذا الاختصار البليغ؟ نقول: "أما الأول" فإنه لم يدع تلك المقدمة المطوية إلا بعد أن رفع لها علمين من جانبيها يدلان على مكانها ويوحيان بها إلى النفس من وراء حجاب؛ فقد أقام عن يمينها كلمة "لو" الامتناعية التي صدر بها المقدمة الأولى، دلالة على أنه لا يكون منه هذا التعجيل، وعن يسارها حرف التفريع الذي صدر به النتيجة في قوله: "فنذر" لكي ينم على أن لهذا الفرع أصلًا من جنسه يقال فيه: ولكن شأنه أن يذر الناس؛ فلذلك يذر هؤلاء. ولما كانت الفاء وحده ليست نصًّا في المطلوب؛ لأنها كما تكون للتفريع تكون لمجرد العطف، فربما اتصل القارئ عاطفًا بها على جزاء الشرط قبلها، من قبل أن يتبين له فساد المعنى لو عطف، لم يكتف بالفاء، بل عززها بقوتين أخريين إذ حوَّل صيغة النتيجة من الماضي إلى المضارع، ثم من الغيبة إلى التكلم؛ ليكون هذا الانقطاع اللفظي بينها وبين وما قبلها إيذانًا بانقطاعها عنه معنًى، وإذنًا بالوقوف دونها، حتى لا تقع

النفس لحظة ما في أدنى اضطراب أو لبس، ذلك إلى ما في هذا التحويل من الافتنان في الأسلوب تجديدًا لنشاط السامع، ومن إلقاء الرعب في القلوب بصدور نطق الوعيد والاستدراج على لسان الجبروت الملكي نفسه. "أما الثاني" فإنه لما حذف طرفين من الأطراف الأربعة لم يحذفهما من جنس واحد، بل أبقى من كل زوجين واحدًا هو نظير ما حذفه من صاحبه، لينبه بالمذكور على المحذوف. فكانت كلمة "التعجيل" منبهة على نظيرتها في المشبه به، وكلمة "الاستعجال" منبهة على مقابلتها في المشبه. "أما الثالث" فإنه نبه به على معنى هو غاية في اللطف، وهو سر الإمهال، وحكمة عدم التعجيل من الله. ذلك بأنه صور هذا التعجيل المفروض بصورة تشبه التماس الطالب وحرصه الشديد على إرضاء شهوته وسد حاجته الملحة التي تبعثه على استعجاله، ولا سيما إذا كان يطلب الخير لنفسه. كأنه قيل: إنه تعالى لو عجل لهم ذلك لكان مثله بهذا التعجيل كمثل هؤلاء المستعجلين، في استقزاز البواعث إياه. حاشا لله. هذا إلى تصرفات عجيبة أخرى: "منها" أن كلمة "لو" بحسب وضعها وطبيعة معناها تتطلب أن يليها فعل ماض. ولكن المطلوب ها هنا ليس هو نفي المضي فحسب، بل بيان أن هذا الفعل خلاف سنة الله التي لن تجد لها تبديلًا. فلو أدي المعنى على هذا الوضع لطال الكلام، ولقيل: "لو كان سنة الله المستمرة في خلقه أن يعجل ... إلخ": فانظر كيف اختصر الكلام في لفظ واحد بإخراج الفعل في صورة المضارع الدال على التكرار والاستمرار، واكتفى بوضع "لو" فرينة على أن ما بعدها ماض في معناه. وهكذا أدى الغرضين جميعًا في رفق ولين.

"ومنها" أنه كان مقتضى التطابق بين الشرط والجواب أن يوضع الجواب عِدْلًا له فيقال: "لعجَله"، ولكنه عدل إلى ما هو أفخم وأهول؛ إذ بين أنه لو عجل للناس الشر لعجل لهؤلاء منه نوعًا خاصًّا هم له أهل، وهو العذاب المستأصل الذي تقضى به آجالهم. "ومنها" أنه كان مقتضى الظاهر في تقرير النتيجة أن يقال: "فنذرهم" أو "فنذر هؤلاء" ولكنه قال: {فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} تحصيلًا لغرضين مهمين: أحدهما التنبيه على أن منشأ هذا الاستعجال منهم هو عدم إيمانهم بالبعث، والثاني التنبيه على أن قاعدة الإمهال من الله قاعدة عامة لهم ولأمثالهم. "ومنها غير ذلك ... ": قل لنا بربك: لو ظفرت في كلام البشر بواحدة من هذه التصرفات، ففي أي أسلوب غير أسلوب القرآن تظفر بهذه المجموعة أو بما يدانيها، في هذا القدر أو في ضعفيه من الألفاظ؟ مثال آخر في المعنى نفسه: قال الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ، أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} 1. يقول الله تعالى: "نبئوني عن حالكم إن جاءكم العذاب بغتة في ليل أو نهار ماذا أنتم يؤمئذ صانعون؟ إنكم هنالك بين أمرين: فإما الإصرار على ما أنتم عليه الآن من تكذيب واستعجال؛ وإما الإيمان. فأيهما تختارون؟ "أتستعجلون" بالعذاب يومئذ كما تستعجلون به اليوم؟ كلا، فإنكم مجرومون، وكيف يتشوق المجرم لرؤية العذاب الذي إن جاء فهو لا محالة مواقعه؟ ثم نبئوني أي نوع منه تستعجلون؟ فإنه ليس نوعًا واحدًا بل

_ 1 الآيتان 50 و51 من سورة يونس "10".

هو ألوان وفنون. "أم" أنتم اليوم تكذبون ثم إذا وقع بعد حين آمنتم به؟ ألا إنه لن ينفعكم يومئذ إيمانكم بعد أن ماطلتم وسوَّفتم حتى ضيعتم الفرصة وفاتكم وقت التدارك. بل هناك يقال لكم تنديمًا وتحسيرًا: الآن تؤمنون وقد كنتم به تكذبون وتستعجلون!! هذا هو المعنى في ثوبه الطبيعي. فانظر كم من كلمة وكم من جملة طويت في صدر الكلام وفي شقيه؟ وكيف أنها حين طويت لم يُترك شيء منها إلا وقد جعل في اللفظ مصباح يكشف عنه ومفتاح يوصل إليه؟ فوضع استفهامين متقابلين في الكلام دل على أن هنالك استفهامًا جامعًا لهما مرددًا بينهما، يقال فيه: ماذا تصنعون، وأي الطريقين تسلكون؟ والاستفهام عن الصنف المستعجل به من العذاب دل على استفهام تمهيدي قبله عن حصول أصل الاستعجال. وكلمة "المجرمون" دلت على استحالة هذا الشق من التزديد. وكلمة "ثم" العاطفة دلت على المعطوف عليه المطوي بينها وبين الهمزة. ولفظ الظرف "الآن" دل على عامله المقدر. وقس على ذلك سائر المحذوفات.. حتى إن مدة الاستفهام الداخلة على هذا الظرف قد دلت على طول مدة التسويف الذي منع من قبول إيمانهم؛ لأنهم عُمِّروا ما يتذكر فيه مَن تذكَّر. فمن ذا الذي يستطيع أن يجري في هذا المضمار شرفًا أو شرفين ثم لا تضطرب أنفاسُه، ولا تكبو به ركائبُ البيان وأفراسُه؟ اللهم إن من دون ذلك لَشُقَّةً بعيدة وسفرًا غير قاصد. وإن في دون ذلك لحدًّا للإعجاز.

القرآن في سورة سورة منه

2- القرآن في سورة سورة منه: "الكثرة" و"الوحدة": هذا الذي حدثناك عنه من عظمة الثروة المعنوية في أسلوب القرآن على وجازة لفظه، يضاف إليه أمر آخر، هو زينة تلك الثروة وجمالها، ذلك هو تناسق أوضاعها، وائتلاف عناصرها، وأخذ بعضها بحجز بعض، حتى إنها لتنتظم منها وحدة محكمة لا انفصام لها. وأنت قد تعرف أن الكلام في الشأن الواحد إذا ساء نظمه انحلت وحدة معناه، فتفرق من أجزائها ما كان مجتمعًا، وانفصل ما كان متصلًا؛ كما تتبدد الصورة الواحدة على المرآة إذا لم يكن سطحها مستويًا، أليس الكلام هو مرآة المعنى؟ فلا بد إذًا لإبراز تلك الوحدة الطبيعية "المعنوية" من إحكام هذه الوحدة الفنية "البيانية". وذلك بتمام التقريب بين أجزاء البيان والتأليف بين عناصره؛ حتى تتماسك وتتعانق أشد التماسك والتعانق. ليس ذلك بالأمر الهين كما قد يظنه الجاهل بهذه الصناعة؛ بل هو مطلب كبير "يحتاج" مهارة وحذقًا ولطف حس في اختيار أحسن المواقع لتلك الأجزاء: أيها أحق أن يجعل أصلًا أو تكميلًا، وأيها أحق أن يبدأ به أو يختم أو يتبوأ مكانًا وسطًا؟ "ثم يحتاج" مثل ذلك في اختيار أحسن الطرق لمزجها بالإسناد أو بالتعليق، أو بالعطف، أو بغيرها، هذا كله بعد التلطف في اختيار تلك الأجزاء أنفسها، والاطمئنان على صلة كل منها بروح المعنى، وأنها نقية من الحشو، قليلة الاستطراد، وأن أطرافها وأوساطها تستوي في تراميها إلى الغرض، ويستوي هو في استهدافه لها، كما تستوي أبعاد نقط

الدائرة بالقياس إلى المركز، ويستوي هو بالقياس إلى كل منها. تلك حال المعنى الواحد الذي تتصل أجزاؤه فيما بينها اتصالًا طبيعيًّا. فما ظنك بالمعاني المختلفة في جوهرها، المنفصلة بطبيعتها؟ كم من المهارة والحذق، بل كم من الاقتدار السحري يتطلبه التأليف بين أمزجتها الغريبة واتجاهاتها المتشعبة؟ حتى لا يكون الجمع بينها في الحديث كالجمع بين القلم والحذاء والمنشار والماء؛ بل حتى يكون لها مزاج واحد واتجاه واحد، وحتى يكون عن وحداتها الصغرى وحدة جامعة أخرى. إنه من أجل عزة هذا المطلب نرى البلغاء وإن أحسنوا وأجادوا إلى حد ما في غرض غرض، كان منهم الخطأ والإساءة في نظم تلك الأغراض كلًّا أو جلًّا، "فالشعراء" حينما يجيئون في القصيدة الواحدة بمعان عدة، أكثر ما يجيئون بها أشتاتًا لا يلوي بعضها على بعض، وقليلًا ما يهتدون إلى حسن التخلص من الغرض إلى الغرض، كما في الانتقال من النسيب إلى المدح.. "والكتاب" ربما استعانوا على سد تلك الثغرات باستعمال أدوت التنبيه أو الحديث عن النفس؛ كقولهم: ألا وإن - هذا ولكن - بقي علينا - نعود - ولننتقل - قلنا - وسنقول. . . هذا شأن الأغراض المختلفة إذا تناولها الكلام الواحد في المجلس الواحد. فكيف لو قد جيء بها في ظروف مختلفة وأزمان متطاولة؟ ألا تكون الصلة فيها أشد انقطاعًا، والهوة بينها أعظم اتساعًا؟ فإن كنت قد أعجبك من القرآن نظام تأليفه البياني في القطعة منه، حيث الموضوع واحد بطبيعته، فهلمَّ إلى النظر إلى السورة منه حيث الموضوعات شتى والظروف متفاوتة، لترى من هذا النظام ما هو أدخل في الإعجاب والإعجاز. ألست تعلم أن ما امتاز به أسلوب القرآن من اجتناب سبيل الإطالة والتزام جانب

الإيجاز -بقدر ما يتسع له جمال اللغة- قد جعله هو أكثر الكلام افتنانًا، نعني أكثره تناولًا لشئون القول وأسرعه تنقلًا بينها1، من وصف، إلى قصص، إلى تشريع، إلى جدل، إلى ضروب شتى، بل جعل الفن الواحد منه يتشعب إلى فنون، والشأن الواحد فيه تنطوي تحته شئون وشئون. جمع الأحاديث المختلفة المعاني، المتباعدة الأزمنة المتنوعة الملابسات في حديث واحد مسترسل هو مظنة التفكك والاقتضاب ومظنة المفارقة والتفاوت: أوَ لست تعلم أن القرآن -في جل أمره- ما كان ينزل بهذه المعاني المختلفة جملة

_ 1 والأعجب أنه مع كونه أكثر الكلام افتنانًا وتنويعًا في الموضوعات، هو أكثره افتنانًا وتلوينًا في الأسلوب في الموضوع الواحد. فهو لا يستمر طويلًا على نمط واحد من التعبير، كما أنه لا يستمر طويلًا على هدف واحد من المعاني، ألا تراه كما يتنقل في السورة الواحدة من معنى إلى معنى يتنقل في المعنى الواحد بين إنشاء وإخبار، وإظهار وإضمار، واسمية وفعلية، ومضي وحضور واستقبال وتكلم وغيبية وخطاب؛ إلى غير ذلك من طرق الأداء، على نحو من السرعة لا عهد لك بمثله ولا بما يقرب منه في كلام غيره قط. ومع هذه التحولات السريعة المستمرة التي هي مظنة الاختلاج والاضطراب، بل مظنة الكبوة والعثار، في داخل الموضوع أو في الخروج منه، تراه لا يضطرب ولا يتعثر، بل يحتفظ بتلك الطبقة العليا من متانة النظم وجود السبك حتى يصوغ من هذه الأفانين الكثيرة منظرًا مؤتلفًا. فأي امرئ حسن العربية وينظر في نظم القرآن هذه النظرة ثم لا يرى فيه من أثر القدرة الباهرة سرًّا من أسرار التحدي والإعجاز؟! وأنت فقد تسمع بعض المبتدئين في تذوق جمال القرآن والبحث عن منابع جماله يتساءلون: ما سر تلك الحال النفسية التي يجدها تالي القرآن وسامعه من طراوة وتجدد في نشاطه مع كل مرحلة منه، حتى لا يعرف الملل مهما أمعن السير فيه؟ فنبئهم أن تلك الظاهرة العجيبة لها في القرآن منابع جمة قد أشير قبل إلى طرف منها "فيما تقدم لنا من الحديث عن خاصة القرآن الصوتية، ص109" وهذه الخاصة التي نشير إليها فيها منبع آخر أعمق وأغرز، غير أنه لا يقدرها حق قدرها إلا من نظر في كلام البلغاء ووقف على مبلغ افتنانهم في أساليبهم ومبلغ افتنانهم في أغراضهم، ثم جاء ليتدبر هاتين الناحيتين من نظم القرآن. فهناك يرى نفسه أمام نهاية لم يجاوز البلغاء بدايتها، إذ يرى أنه لا ينتقل فيه من خطوة إلى خطوة إلا استعرض في الخطوة التالية من مذاهب المعنى وألوان الأسلوب جديدًا إثر جديد. فكيف يعرف الملل سبيلًا إلى قلبه مع دوام هذه النظرة والتجديد؟ كل امرئ يستطيع أن يجرب نفسه حين يطول به الوقوف أمام منظر واحد جميل، هل يجد لديه من هزة الاستحسان في هذا الاستمرار ما يجده لو اعترض سلسلة من المناظر الرائعة قد صنفت فيها ضروب من الفوائد والمتع، ثم جعلت تمر به منوعة في أبدع تنسيق وأحسن تقويم؟ اللهم، لا. فذلك كذلك.

واحدة، بل كان يتنزل بها آحادًا مفرقة على حسب الوقائع والدواعي المتجددة، وأن هذا الانفصال الزماني بينها؛ والاختلاف الذاتي بين دواعيها، كان بطيبعته مستتبعًا لانفصال الحديث عنها على ضرب من الاستقلال والاستئناف لا يدع بينها منزعًا للتواصل والترابط؟ ألم يكن هذان السببان قوتين متظاهرتين على تفكيك وحدة الكلام وتقطيع أوصاله إذا أريد نظم طائفة من تلك الأحاديث في سلك واحد تحت اسم سورة واحدة؟ خذ بيدك بضعة متون كاملة من الحديث النبوي كان التحديث بها في أوقات مختلفة، وتناولت أغراضًا متباينة؛ أو خذ من كلام من شئت من البلغاء بضعة أحاديث كذلك. وحاول أن تجيء بها سردًا لتجعل منها حديثًا واحدًا. من غير أن تزيد بينها شيئًا أو تنقص شيئًا. ثم انظر: كيف تتناكر معانيها وتتنافر مبانيها في الأسماع والأفهام! وكيف يبدو عليها من الترقيع والتلفيق والمفارقة ما لا يبدو على القول الواحد المسترسل! العجيبة الثالثة الكبرى التي خرجت بهذا التأليف القرآني عن طبيعة التأليف الإنساني: وسبب ثالث كان أجدر أن يزيد نظم السورة تفكيكًا ووحدتها تمزيقًا. ذلك هو الطريقة التي اتبعت في ضم نجوم القرآن بعضها إلى بعض، وفي تأليف وحدات السور من تلك النجوم. وإنها لطريقة طريفة سنريك فيها العجيبة الثالثة الكبرى التي خرجت بهذا التأليف القرآني عن طبيعة التأليف الإنساني، فتعالَ وانظر!. انظر إلى الإنسان حين يزاول صناعة ما من صناعاته التركيبية. ألا تراه يبدأ عمله دائمًا بتعرف أجزاء المركب ومقوماته، والوقوف على عناصره ومتمماته، قبل أن يبت

الحكم في تحديد موقع كل جزء منها؟ هاتان مرحلتان تتنزل الثانية منهما منزلة الصورة من مادتها. فلا جرم أن عكس القضية فيهما لا يكون إلا سيرًا بالعقل البشري في غير سبيله، وإدلاجًا به في مزلة لا قرار للإقدام عليها، ولا هدى للسالك فيها. وهل رأيت أحدًا سلك هذه السبيل المؤتفكة، ثم استقام له الأمر عليها إلى نهايته1؟ بل انظر إلى الإنسان حين يأخذ في ترتيب أجزاء المركب بعد جمعها. ألا تراه خاضعًا لسنة السير الطبيعي التي يخضع لها كل سائر إلى غرض ما؛ حسي أو عقلي؟ فهو إن قطع سبيله خطوات لم يستطع أن يجتاز أخراها قبل أولاها، وإن صعد فيه درجات لم يستطع أن يؤخر أسفلها عن أعلاها. تلك حدود رسمتها قوانين الفطرة العامة، فلا يستطيع أحد أن يتخطاها. سواء في صناعاته المادية أو المعنوية. فالبنَّاء والحائك والكاتب والشاعر في هذه الحدود سواء. ونضرب لك مثلا: قدر في نفسك أن رجلًا نزل واديًا فسيحًا ليس عليه بنيان قائم، وليس به شيء من مواد البناء وأنقاضه، فما لبث أن أحس برجفة أرضية أو عاصفة سماوية، وإذا قمة الجبل تنصدع قليلًا فتلقي بجانبه صخرًا أو بضعه صخور.. ثم تمضي فترة طويلة أو

_ 1 نقول: هل رأيت عاقلًا تعجل بالقضاء في تحديد الموقع لجزء من صنعته قبل أن يحيط بسائر أجزائها علمًا؟ وهل تراه لو فعل يكون قضاؤه في هذا الترتيب قضاءً مبرمًا؟ ثم هل تراه لو أصر على هذا الترتيب يتم له ما يشتهي لصنعته من نظام محكم؟، كلا، إن العاقل لو قام بهذه التجربة في بعض الأجزاء نزولًا على البديهة الحاضرة فإنما يتخذها تعلة وقتية، ريثما يبدو له عنصر آخر أحق بهذه الرتبة أو تلك؛ ثم لا يلبث أن يعود إلى الأول ليقصيه عن مكانه قليلًا أو كثيرًا، أو ليفصله عن هذه المجموعة إلى مجموعة أخرى، أو ليجعله كلًّا قائمًا برأسه.. وهكذا لا يزال يقلب وجوه الرأي في نظام تلك المواد، حتى إذا ما فرغ منها جمعًا وتحصيلًا، وانكشفت له جملة وتفصيلًا، فهنالك فقط يستطيع أن يقر كل جزء في مستقره الأخير، وأن يعطي المركب صيغته النهائية. وكل ترتيب تأخذه الآحاد قبل ذلك فإنه لا يجمعها إلا تلفيقًا، ولا يعطيها إلا صورة شوهاء، وكذلك كل نظام أقيم على غير أساس العلم المفصل بأجزاء المنظوم فأحرى به أن يكون مثالًا للضعف والاختلال. وإن بقي اليوم قائمًا لم يلبث أن ينهار غدًا.

قصيرة، وإذا هزة ثانية أو ثالثة تلقي إليه شظيات من الحديد والحمم، أو نُثارات من الفضة والذهب.. أترى أن هذا الرجل أو أن أحدًا من العقلاء يستطيع منذ اللحظات الأولى أن يضع تصميمه على إقامة مدينة جامعة من تلك المواد المتناثرة ومما عساه أن يجيء من أمثالها؟ وأن يبدأ بالعمل في مهمة التخطيط والبنيان؟ فما يدريه لعل هذه الظواهر لا تتكرر أمامه نزلة أخرى، ثم ما يدريه أنها إن عادت كم مرة تعود، وما نوع المادة التي تتساقط معها في كل مرة، وكم عدة القطع في كل مادة من هذه المواد، وكم عدة الأبنية التي يمكن إقامتها منها، وما النظام الهندسي الخاص بكل بناء: سعة وارتفاعًا ونقشًا وزخرفًا، وما ذرع الفضاء الذي ستشغله هذه الأبنية جملة؟ .. في هذا الجو المملوء غموضًا وإبهامًا لا يجرؤ عاقل أن يغامر بتصميمه في بناء كوخ حقير، فضلًا عن بلد كبير، فضلًا عن أن يهب من فوره لإنفاذ عزمه فيمضي في مهمة البناء منذ وصلت إليه تلك اللبنات الأولى. ولئن افترضت إنسانًا غامر هذه المغامرة، وأن المقادير سارت في هواه، وأسعفته بما شاء من مواد البناء الذي تخيله وتمناه، أتراه يعمد إلى مخاطرة أخرى؛ فيتخذ له في البناء أسلوبًا يُراغِم به قانون الطبيعة، بأن يؤلي على نفسه ألا يدع لَبِنة تصل إلى يديه إلا أنزلها -في ساعة وصولها- منزلها الخليق بها حيث كان؟ ذلك على حين أن تلك اللبنات لم تتساقط إليه متجانسة مرتبة على ترتيبها في وضعها المنتظر، بل جعلت تتناثر خفافًا وثقالًا، مختلفًا ألوانها وأحجامها وعناصرها وطاقاتها، فربما وقعت له الزخارف والشرفات، قبل أن تقع له بعض القواعد والمسافات، وربما وقعت له على التوالي أجزاء ناقصة لتوضع في أماكن متفرقة من أبنية متنائية، أفلا تراه إن ذهب يضع كل جزء ساعة نزوله في موضعه المعين لم يجد مناصًا من أن يبدد أجزاء البناء هنا وهنا على أبعاد غير متساوية ولا متناسبة، فيقارب بينها طورًا ويباعد طورًا، ويعلو بها تارة وينزل تارة أخرى، حتى لقد يبني أعلى البيت قبل أسفله، ويمسك المحمول معلقًا بدون حامله.

فكيف يطيق بشرٌ كائنًا من كان أن يضطلع بهذه المهمة؟ ثم كيف يمضي قدمًا في هذا الأمر إلى نهايته، فلا يعود إلى جزء ما ليزيله عن موضعه الذي أحله فيه أول مرة، أو ليلتجئ فيه إلى نحت أو حشو أو دعامة؟ ثم كيف تكون عاقبة أمره أنه في الوقت الذي يضع فيه آخر لبنة على هذا المنهاج يرفع يده عن مدينة منسقة ليس فيها قصر ولا غرفة ولا لبنة ولا جزء صغير ولا كبير إلا وقد نزل منزله الرصين الذي يرتضيه ذوق الفن، حتى لو تبدل واحد منها مكان غيره لاختل البينان أو ساء النظام؟ أليس ذلك إن وقع يكون تحديًا للقدرة البشرية جمعاء؟ ألا فقد وقع مصداق هذا المثل في مسألتنا. إليك البيان: "أما" الرجل فهو هذا النبي الأمي -صلوات الله عليه وسلامه. "وأما" المدينة الجامعة التي شرع في بنائها منذ وقعت له لبناتها الأولى فذلك الكتاب العزيز الذي أخذ هو منذ وصلت إليه باكورة رسائله يرتب أجزاءه ترتيب الواثق المطمئن إلى أنه سيكون له منها ديوان تام جامع. "وأما" القصور، والغرفات، واللبنات، فهي أجزاء هذا الديوان: من السور، والنجوم، والآيات. "وأما" تلك العوامل الفجائية التي جعلت تستنزل من مختلف معادن الجبال ما ركبت منه هذه القصور المشيدة فتلك هي الأحداث الكونية والاجتماعية، والمشاكل الدينية والدنيوية التي كانت تعترض الناس آنًا بعد آن في شئونهم العامة والخاصة، فكان يتقدم بها المؤمن منهم مستفتيًا ومسترشدًا، والمكذب مستشكلًا ومجادلًا، وكان على وفق ذلك يتنزل الكلام نجمًا فنجمًا، بمعان تختلف باختلاف تلك المناسبات والبواعث، وبمقادير تتفاوت قلة وكثرة، وعلى طرق تتنوع لينًا وشدة.. ومن هذه النجوم المختلفة المتفرقة صارت تتألف تلك المجاميع المسماة بالسور، لا على أساس التجانس بين أجزاء

كل مجموعة منها، بل على أن يأوى إلى الحظيرة الواحدة ما شئت من فصائل الجنس الواحد والأجناس المتخالفة. "وأما" الطريق العجب الذي اتبع في تأليف تلك الأبنية من أجزائها -وهو السبب الثالث الذي رفع المسألة من حد العسر إلى حد الإحالة- فهو أن ذلك الذي نزل عليه الذكر لم يتربص بترتيب نجومه حتى كملت نزولًا، بل لم يتريث بتأليف سورة واحدة منه حتى تمت فصولًا، بل كان كلما ألقيت آية أو آيات أمر بوضعها من فوره في مكان مرتب من سورة معينة. على حين أن هذه الآيات والسور لم تتخذ في ورودها التنزيلي سبيلها الذي اتبعته في وضعها الترتيبي؛ فكم من سورة نزلت جميعًا أو أشتاتًا في الفترات بين النجوم من سورة أخرى، وكم من آية في السورة الواحدة تقدمت فيها نزولًا وتأخرت ترتيبًا، وكم من آية على عكس ذلك. نعم، لقد كان للنجوم القرآنية في تنزيلها وترتيبها ظاهرتان مختلفتان، وسبيلان قلما يلتقيان، ولقد خلص لنا من بين اختلافهما أكبر العبر في أمر هذا النظر القرآني. فلو أنك نظرت إلى هذه النجوم عند تنزيلها، ونظرت إلى ما مهد لها من أسبابها، فرأيت كل نجم رهينًا بنزل حاجة ملمة، أو حدوث سبب عام أو خاص، إذًا لرأيت في كل واحد منها ذكرًا مُحدثًا لوقته، وقولًا مرتجلًا عند باعثته، لم يتقدم للنفس شعور به قبل حدوث سببه. ولرأيت فيه كذلك كلًّا قائمًا بنفسه لا يترسم نظامًا معينًا يجمعه وغيره في نسق واحد. ولو أنك نظرت إليها في الوقت نفسه فرأيتها وقد أُعدَّ لكل نجم منها ساعة نزوله سياج خاص يأوي إليه سابقًا أو لاحقًا؛ وحدد له مكان معين في داخل ذلك السياج متقدمًا أو متأخرًا1 إذًا لرأيت من خلال هذا التوزيع الفوري المحدود أن هنالك خطة

_ 1 فترى هذا النجم مثلًا يؤمر به عند نزوله أن يوضع في ختام سورة كذا، والنجم الذي بعده يؤمر به أن يجعل في أثناء تلك السورة نفسها على رأس عدد محدود من آيها. وهذا يُجعل صدرًا لسورة تأتي بعد حين، والذي يليه يأخذ جانبًا من سورة مضت منذ حين ... وهلم جرا.

تفصيلية شاملة قد رمست فيها مواقع النجوم كلها من قبل نزولها، بل من قبل أن تخلق أسبابها، بل من قبل أن تبدأ الأطوار الممهدة لحدوث أسبابها، وأن هذه الخطة التي رسمت على أدق الحدود والتفاصيل قد أبرمت بآكد العزم والتصميم: فما من نجم وضع في سورة ما ثم جاوزها إلى غيرها، وما من نجم جعل في مكان من السورة آخرا أو أولا، ثم وجد عنه باد الدهر مصرفا أو متحولا. وهنا تقف موقف الحيرة في أمرك، وتكاد تنكر ما تحت سمعك وبصرك، ثم ترجع إلى نفسك تسائلها عن وجه الجمع بين ما رأيت وما ترى: "أليس هذا التنزيل قد سمعته الآن جديدًا وليد يومه، ووحيدًا رهين سببه؛ فما لي أراه ليس جديدًا ولا وحيدًا؟ لكأني به وبالقرآن كله كان ظاهرًا على قلب هذا الرجل قبل ظهوره على لسانه، وكان على هذه الصورة مؤلفًا في صدره قبل أن يؤلفه ببيانه. وإلا فما باله يؤلف هذا التأليف بين آحاد لا تتداعى إلى الاجتماع بطبائعها؟ لماذا لم يذرها كما جاءت فرادى منثورة؟ وهلا إذ أراد جمعها أدخلها كلها في مجموعة واحدة؟ أو هلا قسمها إلى مجاميع متساوية أو متجانسة؟ ترى على أية قاعدة بني توزيعها وتحديد أوضاعها هكذا قبل تمامها أو تمام طائفة منها؟ هل عسى أن تكون هذه الأوضاع كلها جارية على محض المصادفة والاتفاق؟ كلا، فقد ظهر في كل وضع منها أنه مقصود إليه بعينه، كما ظهر القصد في كل طائفة أن تنتظم منها وحدة محدودة ذات ترتيب ومقدار بعينه.. أم هل عسى أن تكون هذه الأوضاع -وإن قصدت- ليست وليدة تقدير سابق، وإنما هي تجربة اختبارية أثمرتها فكرة وقتية؟ -كلا، فإن واضعها حين وضعها قد ضربها ضربة لازب، ثم لم يكر عليها بتبديل ولا تحويل. فعلام إذًا بنى لك القصد وهذا التصميم؟ ". ولن يكون الجوانب الذي تسمعه من نفسك لو أصاخت إلى بديهة العقل إلا أن نقول:

"إنه لا يجرؤ في قرارة الغيب على وضع هذه الخطة المفصلة المصممة إلا أحد اثنين: جاهل جاهل في حضيض الجهل؛ أو عالم عالم فوق أطوار العقل. لا ثالث. "فأما" إن كان فرغ من نظام تأليفها وتركيبها من قبل أن يستحكم له العلم بأسباب ذلك ومقاصده وأدباره وعواقبه، وإنما بنى أمره على الظن والتحسس وعلى التخيل والتمني، فذلك امرؤ بلغت به الجرأة على نفسه أن أعلن ملك ما لا يملكه وادعى علم ما ستكشف الأيام عن جهله. وما عليك إلا أن تتربص به قليلًا لترى بطلان أمره وفساد صنعته، فهيهات أن يلد الجهل نظامًا جاريًا، وإحكامًا باقيًا. "وأما" إن كان قد فصلها على علم وبصر، وأعطى كل جزء منها موقعه بميزان وقدر، فلا ريب أن سيكون نظامًا مثال الإتقان وآية الجمال، ولكن واضعها إذًا لا يمكن أن يكون هو هذا الإنسان؛ إلا أن يكون قد استمدها من أفق أعلى من أفق نفسه ومحيط أوسع من محيط علمه؛ إذ أنى للإنسان وهو هذا المحكوم بطبيعة الدهر أن يكون عليها متحكمًا؟ أم كيف يتهيأ له وهو في جهله العتيد بمقدمات عمله أن يكون بنتائجها التفصيلية عالمًا؟ أفيكون بالشيء الواحد جاهلًا وعالمًا معًا؟ أم يكون من وجه واحد حاكمًا ومحكومًا معًا؟ "وهل رأيت أو سمعت أن أحدًا من الكتاب أو الشعراء استطاع في مفتتح حياته الأدبية أن يحصي كل ما سيجيء على لسانه من جيد الشعر أو النثر في المناسبات المتنوعة إلى آخر عهده بالدنيا، وأن يضع من أول يوم منهاجًا لديوانه المنتظر، يفصله تفصيلًا لا يقنع فيه بتقدير أبوابه وفصوله حتى يقدر لكل باب عدة ما يحويه من خطاب أو قصيدة، ويحدد لكل واحد من هذين مكانًا معلومًا لا يستقدم عنه ولا يستأخر، حتى إذا جاء عند داعيته رده إلى مكانه غير متلبث ولا متوقف، ثم ينجح في هذه التجربة نجاحًا مطردًا تنفذ فيه أحكامه وتتحقق به أحلامه، فيستقيم له النسق بين هذه المقطوعات كلها، من غير أن يقدم فيها شيئًا أو يؤخر شيئًا، ومن غير أن يزيد

بينها أو ينقص شيئًا. "لعمري" لئن صح هذا الفرض في أحد من البشر لصح مثله في نبي القرآن -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولكن الإنسان هو الإنسان. ومن لم يحط علمًا بما سيعترضه في دهره من بواعث القول وفنونه فهو عن الإحاطة بنصوص هذا القول أبعد، وهو عن الإحاطة بمراتب هذه النصوص أشد بعدًا. بل الإنسان حين تحفزه باعثة القول وترد إليه سانحته لا يعدو فيها إحدى خطتين: فهو "إما" أن يدعها كما هي سانحة منعزلة. وكذلك يفعل في أمثالها، حتى إذا بلغ الغاية رجع أدراجه فأخذ فيها جمعًا وتفريقًا، وتبويبًا وترتيبًا. "وإما" أن يأخذ في ضم هذه النصوص، أولًا على وفق ورودها الأول فالأول. أما الثالثة وهي أن يجعلها هكذا "عزين". ولا يزال يظاهر من قريب وبعيد، عن أيمانها وعن شمائلها وفي خلالها، بهذه الطريقة المحددة، وبهذا الطريقة المشتتة المعقدة، على أن يجعل المكان الذي أحل كل سانحة فيه مكانًا مسجلًا لا تحول عنه ولا تزول. ثم يطمع أن يخرج له بتلك الصنعة ديوان كامل التقسيم والتبويب، جيد التنسيق والترتيب، مترابط متماسك في جملته وتفصيله، كلمة كلمة وحرفًا حرفًا، فتلك أمنية لا يظفر المرء منها إلا بعكس ما تمنى". إحكام البنيان القرآني وتماسكه: ها أنت ذا قد عرفت نهج التأليف الإنساني في صنعة البيان وغير البيان. ورأيت بُعْدَ ما بينه وبين نهج التأليف في نجوم القرآن. وعرفت ماذا كان يجب أن يحدث في النظم القرآني من جراء هذا النهج العجيب. في أسباب ثلاثة1 من شأنها ألا يستقيم بها للكلام طبع. ولا يلتئم له معها شمل.

_ 1 عناصر معنوية مختلفة. ظروف زمانية منفصلة. أوضاع تأليفية عجلى ومشتتة.

فانظر الآن استطاعت هذه الأسباب على تضافرها أن تنال شيئًا من استقامة النظم في السور المؤلفة على هذا النهج؟ أما العرب الذي تحداهم القرآن بسورة منه فلقد علمت لو أنهم وجدوا في نظم سورة منها مطمعًا لطامع، بله مغمزًا لغامز، لكان لهم معه شأن غير شأنهم. وهم هم. وأما البلغاء من بعدهم فما زلنا نسمعهم يضربون الأمثال في جودة السبك وإحكام السرد بهذا القرآن حين ينتقل من فن إلى فن. وأما أنت فأقبل بنفسك على تدبر هذا النظم الكريم لتعرف بأي يد وضع بنياته؟ وعلى أي عين صنع نظامه؟ حتى كان كما وصفه الله {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} 1. اعمد إلى سورة من تلك السور التي تتناول أكثر من معنى واحد وما أكثرها في القرآن، فهي جمهرته -وتنقل بفكرتك معها مرحلة مرحلة، ثم ارجع البصر كرتين: كيف بدئت؟ وكيف ختمت؟ وكيف تقابلت أوضاعها وتعادلت؟ وكيف تلاقت أركانها وتعانقت؟ وكيف ازدوجت مقدماتها بنتائجها ووطئت أولاها لأخرها؟ .. وأنا لك زعم بأنك لن تجد البتة في نظام معانيها أو مبانيها ما تعرف به أكانت هذه السورة قد نزلت في نجم واحد أم في نجوم شتى. ولسوف تحسب أن السبع الطول2 من سورة القرآن قد نزلت كل واحدة منها دفعة، حتى يحدثك التاريخ أنها كلها أو جلها3 قد نزلت نجومًا. أو لتقولن: إنها إن كانت بعد تنزيلها قد جمعت عن

_ 1 سورة الزمر: الآية 28. 2 وإذا كانت هذه السور على طولها وكثرة نجومها لا يبدو عليها انفصال النظم، فما ظنك بما دونها إلى سور المفصل؛ حيث جرى التنجيم حتى في بعض القصار منها، كالضحى، واقرأ، والماعون، التي نزلت كل واحدة منها مفرقة على نجمين. 3 هذا الترديد ناظر إلى اختلاف المفسرين في سورة الأنعام، ومذهب الجمهور أنها نزلت جملة واحدة، وقد روى الطبراني وغيره ذلك عن ابن عباس موقوفًا عليه، وروى عن أبي بن كعب مرفوعًا بسند فيه ضعف على أنه لو صح ما ذهب إليه الجمهور في هذه السورة لكانت من جملة الشواهد على اتحاد طريقة النظم في المنجمات وغيرها؛ لأن نظام الانتقال بين المعاني في سورة الأنعام مثله في السور المتفق على تنجيمها، سواء.

تفريق فلقد كانت في تنزيلها مفرقة عن جمع؛ كمثل بنيان كان قائمًا على قواعده فلما أريد نقله بصورته إلى غير مكانه قدرت أبعاده ورقمت لبناته، ثم فرق أنقاضًا فلم تلبث كل لبنة منه أن عرفت مكانها المرقوم، وإذا البنيان قد عاد مرصوصًا يشد بعضه بعضًا كهيئته أول مرة. أجل، إنك لتقرأ السورة الطويلة المنجمة يحسبها الجاهل أضغاثًا من المعاني حشيت حشوًا، وأوزاعًا من المباني جمعت عفوًا؛ فإذا هي -لو تدبرت- بنية متماسكة قد بنيت من المقاصد الكلية على أسس وأصول، وأقيم على كل أصل منها شعب وفصول، وامتد من كل شعبة منها فروع تقصر أو تطول؛ فلا تزال تنتقل بين أجزائها كما تنتقل بين حجرات وأفنية في بنيان واحد قد وضع رسمه مرة واحدة، لا تحس بشيء من تناكر الأوضاع في التقسيم والتنسيق، ولا بشيء من الانفصال في الخروج من طريق إلى طريق، بل ترى بين الأجناس المختلفة تمام الألفة، كما ترى بين آحاد الجنس الواحد نهاية التضامِّ والالتحاق. كل ذلك بغير تكلفة ولا استعانة بأمر من خارج المعاني أنفسها، وإنما هو حسن السياقة ولطف التمهيد في مطلع كل غرض ومقطعه وأثنائه، يريك المنفصل متصلًا، والمختلف مؤتلفًا. ولماذا نقول: إن هذه المعاني تنتسق في السورة كما تنتسق الحُجُرات في البينان؟ لا، بل إنها لتلتحم فيها كما تلتحكم الأعضاء في جسم الإنسان، فبين كل قطعة وجارتها رباط موضعي من أنفسهما، كما يلتقي العظمان عند المفصل ومن فوقهما تمتد شبكة من الوشائح تحيط بهما عن كثب، كما يشتبك العضوان بالشرايين والعروق والأعضاء؛ ومن وراء ذلك كله يسري في جملة السورة اتجاه معين، وتؤدي بمجموعها غرضًا خاصًّا، كما يأخذ الجسم قوامًا واحدًا، ويتعاون بجملته على أداء غرض واحد، مع اختلاف وظائفه العضوية.

فيا ليت شعري: إذا كانت كافة الأجزاء والعناصر التي تتألف منها وحدة السور منوطة بأسباب لم تكن كلها واقعة ولا متوقعة، وكان لا بد لتمام هذه الوحدة من وقوع تلك الأسباب كلها في عصر نزول القرآن ليتناولها ببيانه، فما الذي أخضع دورة الفلك لنظام هذه الوحدات وجعل هذه النوازل تتوارد بأسرها في إبان التنزيل؟ لماذا لم يتفق في حادثة واحدة منها أن تخلفت عن عالم الوجود يومئذ لينخرم هذا النظام، فتجيء سورة من السور مبتورة في مفتتحها أو في مختتمها أو فيما بين ذلك؟ أليس مطاوعة تلك الأحداث الكونية ومعاونتها بدقة دائمًا لنظام هذه الوحدات البيانية، شاهدًا واضحًا على أن هذا القول وذاك الفعل كانا يجيئان من طريق واحدة، وأن الذي صدرت هذه الكلمات عن علمه، هو نفسه الذي صدرت تلك الكائنات عن مشيئته1؟ بل ليت شعري لو أن هذا الإنسان الغريب الذي جاء القرآن على لسانه كان قد أحصى ما سوف يلده الزمان من مفاجآت الحوادث المستقبلة صغيرة وكبيرة في مدى دهره، ثم قدر ما سوف تتطلبه تلك النوازل من تعاليم الفرقان، فما علمه بالنظام البياني الذي ستوضع عليه صيغة تلك التعاليم؟ ثم ما علمه أي هذه التعاليم سيكون قرينة لهذا الجزء أو ذاك؛ ليتأهب لتلك القرائن قبل ورودها فيودع في كل جزء ساعة نزوله عروة لائقة بقرينته المعينة، حتى إذا قدمت استمسكت بعروتها فازدوجت بقرينها ذلك الازدواج المحكم؟ ولماذا حين وردت كل قرينة وجدت من قرينها جارًا لا يجور ولا يجار عليه، ووجدت بجانبه المكان الذي ينتظرها، لا ضيقًا فيزاحمها ويتبرم بها، ولا واسعًا فتنقطع الصلة بينهما، بل وجدت مقدرًا بمقدارها، حتى لا حاجة إلى الاستدراك على الماضي بمحو حرف، ولا بزيادة حرف، ولا بتبديل وضع، وحتى لا مجال هنا لقول: "ليت ... " ولا "لو إن....".

_ 1 قل كل من عند الله سبحانه، لا معقب لحكمه، ولا مبدل لكلمته.

بل كيف عرف كل جزء من الأجزاء أين مجموعته، وأين مستقره بينها في رأس أو صدر أو طرف: من قبل أن تتبين سائر الآحاد والفصائل.. حتى إذا تم توزيع تلك الأجزاء المتفرقة، والأشلاء الممزقة، إذا الستار يرتفع في كل سورة عن دمية حسناء كاملة الأعضاء متناسقة الحلي؟ أي تدبير محكم، وأي تقدير مبرم، وأي علم محيط لا يضل ولا ينسى، ولا يتردد ولا يتمكث؛ كان قد أعد لهذه المواد المبعثرة نظامها، وهداها في إبان تشتتها إلى ما قدره لها، حتى صبغ منها ذلك العقد النظيم، وسرى بينها هذا المزاج العجيب؟ سبحان الله! هل يمتري عاقل في أن هذا العلم البشري؛ وأن هذا الرأي الأنف البدائي الذي يقول في الشي: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لقلت أو فعلت، ولقدمت أو أخرت" لم يك أهلًا لأن يتقدم الزمان ويسبق الحوادث بعجيب هذا التدبير؟ أليس ذلك وحده آية بينة على أن هذا النظم القرآني ليس من وضع بشر، وإنما هو صنع العليم الخبير؟ بلى؛ {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} 1.

_ 1 سورة النساء: الآية 82.

سورة البقرة نموذجًا على تماسك بنيان القرآن وإحكامه: أما إن طلبت شاهدًا من العيان على صحة ما أصلناه في هذا الفصل من نظام الوجدان في السور على كثرة أسباب اختلافها، وأما إن أحببت أن نريك نموذجًا من السور المتجمعة كيف التأمت منها سلسلة واحدة من الفكر تتلاحق فيها الفصول والحلقات، ونسق واحد من البيان تتعانق فيه الجمل والكلمات، فأي شيء أكبر شهادة وأصدق مثالًا من سورة نعرضها عليك هي أطول سور القرآن كافة، وهي أكثرها جمعًا للمعاني المختلفة، وهي أكثرها في التنزيل نجومًا، وهي أبعدها في هذا التنجيم تراخيًا. تلك هي سورة البقرة التي جمعت بضعًا وثمانين ومائتي آية، وحوت فيما وصل إلينا من أسباب نزولها نيفًا وثمانين نجمًا، وكانت الفترات بين نجومها تسع سنين عددًا1. الهدف من اختيار السورة: رسم خط سيرها، وإبراز وحدة نظامها المعنوي: اعلم أنه ليس من همنا الآن أن نكشف لك عن جملة الوشائج اللفظية والمعنوية التي تربط أجزاء هذه السورة الكريمة بعضها ببعض، فتلك دراسة تفصيلية لها محلها من كتب التفسير. ذلك ولو نشاء لأريناك في القطعة الواحدة منها أسبابًا ممدودة عن أيمانها وعن شمائلها تمتُّ بها إلى الجار ذي القربى والجار الجنب، في شبكة من العلائق يحار

_ 1 ففيها ذكر تحويل القبلة، وذكر صيام رمضان، وذكر أول قتال وقع في الإسلام فنزل بسببه قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} [الآية: 217] وكل أولئك كان نزولهن في أوائل السنة الثانية من الهجرة. وفيها تلك الآية الخاتمة التي نزلت في آخر السنة العاشرة من الهجرة، وهي آخر آية من القرآن بإطلاق: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [الآية: 281] وفيها ما بين ذلك.

الناظر إلى خيوطها، مع أيها يتجه؟ لا يدري أيها هو الذي قصد بالقصد الأول. وإنما نريد أن نعرض عليك السورة عرضًا واحدًا نرسم به خط سيرها إلى غايتها، ونبرز به وحدة نظامها المعنوي في جملتها، لكي ترى في ضوء هذا البيان كيف وقعت كل حلقة موقعها من تلك السلسلة العظمى. ضرورة إحكام النظر في السورة كلها: بيد أننا قبل أن نأخذ فيما قصدنا إليه نحب أن نقول "كلمة" ساق الحديث إليها: وهي أن السياسة الرشيدة في دراسة النسق القرآني تقضي بأن يكون هذا النحو من الدرس هو الخطوة الأولى فيه، فلا يتقدم الناظر إلى البحث في الصلات الموضعية بين جزء جزء منه -وهي تلك الصلات المبثوثة في مثاني الآيات ومقاطعها- إلا بعد أن يحكم النظر في السورة كلها بإحصاء أجزائها وضبط مقاصدها على وجه يكون معوانًا له على السير في تلك التفاصيل عن بينة؛ فقديمًا قال الأئمة1: "إن السورة مهما تعددت قضاياها فهي كلام واحد يتعلق آخره بأوله، وأوله بآخره، ويترامى بجملته إلى غرض واحد، كما تتعلق الجمل بعضها ببعض في القضية الواحدة. وإنه لا غنى لتفهم نظم السورة عن استيفاء النظر في جميعها، كما لا غنى عن ذلك في أجزاء القضية". وبها تعرف مبلغ الخطأ الذي يتعرض له الناظرن في المناسبات بين الآيات حين يعكفون على بحث تلك الصلات الجزئية بينها بنظر قريب إلى القضيتين أو القضايا المتجاورة، غاضين أبصارهم عن هذا النظام الكلي الذي وقعت عليه السورة في جملتها، فكم يجلب هذا النظر القاصر لصاحبه من جور عن القصد، وكم ينأى به عن

_ 1 كأبي بكر النيسابوري، وفخر الدين الرازي، وأبي بكر بن العربي، وبرهان الدين البقاعي، وأبي إسحاق الشاطبي وغيرهم. أما النص المذكور هنا فمستنبط من كلمات للشاطبي في الموافقات، في المسألة الثالثة عشر من الكلام على الأدلة تفصيلًا. وقد عرض فيها سورة "المؤمنون" عرضًا إجماليًّا.

أروع نواحي الجمال في النظم؛ وهل يكون مثله في ذلك إلا كمثل امرئ عرضت عليه حلة موشية دقيقة الوشي ليتأمل نقوشها فجعل ينظر فيها خيطًا خيطًا ورقعة رقعة، لا يجاوزه ببصره موضع كفه، فلما رآها يتجاور فيها الخيط الأبيض والخيط الأسود وخيوط آخر مختلف ألوانها اختلافًا قريبًا أو بعيدًا لم يجد فيها من حسن الجوار بين اللون واللون ما يروقه ويونقه. ولكنه لو مد بصره أبعد من ذلك إلى طرائف من نقوشها لرأى من حسن التشاكل بين الجملة والجملة، ما لم يره بين الواحد والواحد، ولتبين له من موقع كل لون في مجموعته بإزاء كل لون في المجموعة الأخرى ما لم يتبين له من قبل. حتى إذا ألقى على الحلة كلها نظرة جامعة تنتظم أطرافها وأوساطها بدا له من تناسق أشكالها ودقة صنعتها ما هو أبهى وأبهر. فكذلك ينبغي أن يصنع الناظر في تدبره لنظم السورة من سور القرآن. القرآن وتأليفه بين المختلفات: "وكلمة أخرى" تمس إليها حاجة الباحث في النسق إذا أقبل على تلك المناسبات الموضعية بين أجزاء السور: وهي أن يعلم أن الصلة بين الجزء والجزء لا تعني اتحادهما أو تماثلهما أو تداخلهما أو ما إلى ذلك من الصلات الجنسية حسب، كما ظنه بعض الباحثين في المناسبات، فجعل فريق منهم يذهب في محاولة هذا النوع من الاتصال مذاهب من التكلف والتعسف. وفريق آخر متى لم يجد هذه الصلة من وجه قريب أسرع إلى القول بأن في الموضع1 اقتضابًا محضًا؛ جريًا على عادة العرب في الاقتضاب.

_ 1 بل زعم بعضهم أن الاقتضاب هو الأصل في القرآن كله، نقل السيوطي في الإتقان في بحث المناسبة بين الآيات والسور؛ عن أبي العلاء محمد بن غانم أن القرآن إنما وقع على الاقتضاب الذي هو طريقة العرب من الانتقال إلى غير ملائم. وكذلك نقل عن عز الدين بن عبد السلام أن النظر في مناسبة الآي لا يحسن إلا في القضية التي نزلت على سبب واحد، أما إذا اختلفت الأسباب فالربط بينها ضرب من التكلف؛ لأن القرآن نزل في نيف وعشرين سنة في أحكام مختلفة لأسباب مختلفة، وما كان كذلك لا يتأتى ربط بعضه ببعض ا. هـ. وقد خالفهما الأئمة ووهموهما.

ألا إن هذا الرأي بشعبتيه لأوغل في الخطأ من سابقه1، وإن الأخذ به على علاته في القرآن لغفلة شديد عن مستوى البلاغة التي تميز بها القرآن عن سائر الكلام. فلو أن ذاهبًا ذهب يمحو تلك الفوارق الطبيعية بين المعاني المختلفة التي ينتظمها القرآن في سورة منه إذًا لجرده من أولى خصائصه، وهي أنه لا يسترسل في الحديث عن الجنس الواحد استرسالًا يرده إلى الإطالة المملة. كيف وهو الحديث الذي لا يمل؟ ولو أنه -من أجل المحافظة على استقلال هذه المعاني- ذهب يفرقها، ويقطع أرحامها، ويزيل التداعي المعنوي والنظمي من بينها، إذًا لجرده من خاصته الأخرى، وهي أنه لا ينتقل في حديثه انتقالًا طفريًّا يخرجه إلى حد المفارقات الصبيانية التي تجمع شتى الأحاديث على غير نظام. والتي لا تدع نفس السامع تستشرف إلى اختتام كلام وافتتاح كلام. كيف وهو القول الرصين المحكم؟ كلا، بل الحديث فيه كما علمت ذو شجون، ولكنه حين يجمع الأجناس المختلفة لا يدعها حتى يبرزها في صورة مؤتلفة، وحتى يجعل من اختلافها نفسه قوامًا لائتلافها. وهذا التأليف بين المختلفات ما زال هو "العقدة" التي يطلب حلها في كل فن وصنعة جميلة، وهو المقياس الدقيق الذي تقاس به مراتب البراعة ودقة الذوق في تلك الفنون والصناعات فإن تقويم النسق وتعديل المزاج بين الألوان والعناصر الكثيرة أصعب مراسًا وأشد عناءً منه في أجزاء اللون الواحد والعنصر الواحد. وعلى هذه القاعدة ترى القرآن يعمد تارة إلى الأضداد يجاور بينها، فيخرج بذلك محاسنها ومساويها في أجلى مظاهرها، ويعمد تارة أخرى إلى الأمور المختلفة في

_ 1 وهو تضييق دائرة البحث في المناسبات بالتماسها بين المعاني المتجاورة خاصة. فإذا أضيف إلى ذلك التزام طريق معين في المناسبة وهو أن تكون من قبيل التجانس المعنوي زادت المسألة ضيقًا وحرجًا؛ ولذلك أفضى هذا الرأي بأصحابه إلى أحد الطرفين المذمومين: التكلف أو الخروج.

أنفسها من غير تضاد فيجعلها تتعاون في أحكامها بسوق بعضها إلى بعض مساق التنظير أو التفريع، أو الاستشهاد أو الاستنباط، أو التكميل أو الاحتراس، إلى غير ذلك. وربما جعل اقتران معنيين في الوقوع التاريخي، أو تجاور شيئين في الوضع المكاني، دعامة لاقترانهما في النظم، فيحسبه الجاهل بأسباب النزول وطبيعة المكان خروجًا وما هو بخروج، وإنما هو إجابة لحاجات النفوس التي تتداعى فيها تلك المعاني. فإن لم يكن بين المعنيين نسب ولا صهر بوجه من هذه الوجوه ونحوها، رأيته يتلطف في الانتقال من أحدهما إلى الآخر إما بحسن التخلص والتمهيد. وإما بإمالة الصيغ التركيبية على وضع1 يتلاقى فيه المتباعدان، ويتصافح به المتناكران. وهذه كلها وجوه حسنة لو نظر إليها بين آحاد المعاني لأغنى بعضها عن بعض في إقامة النسق.

_ 1 ولقد يعرض في هذا الوجه اللغوي أسرارًا دقيقة لو سئل المرء البيان عن وجه الحسن فيها لعجز عن وصفه، بل لو سئل أين موضع الوصل منها لصعب عليه تحديده بقاعدة علمية. على أنه لو تناسى تلك الألقاب الاصطلاحية والأسئلة الفضولية وخلى نفسه ووجدانها ثم اتصل بهذه المواضع تلاوة أو استماعًا لما شعر بينها بشيء من الخروج أو الانتقال ينبو عنه الذوق أو يتعثر فيه السمع، بل يحس بينها بروح الاتصال وحلاوة الانتقال من قبل أن يهتدي لناحية محدودة أو علة معينة. ومن طالت مزاولته لأساليب الكلام وتذوقه لطعومه حتى رسخت فيه ملكة التمييز بين الجيد منه والرديء وجد من نفسه أهلية هذا الحكم، إن لم يكن على نحو من الاستدلال المنطقي، فعلى ضرب من الاستحسان الفقهي، ولا سيما إن كان ممن بقيت في عروقهم قطرات من الدم العربي، وفي نفوسهم أثارة من الحاسة العربية، فمن أخطأه وجدان هذا الحسن الإجمالي في موضع ما من القرآن فلا يلومن إلا نفسه، ولا يعجلن بالحكم قبل أن يأخذ أهبته. وليذكر دائمًا أنه بمقياس ما يجده نحو أسلوب القرآن من استحسان أو توقف إنما يختبر ما في مزاجه اللغوي من صحة أو اعتلال، وما في دراسته اللغوية من نقص أو كمال. وأنه ليس بأذواق القاصرين من المولدين أمثاله تختبر لغة القرآن، كيف وقد درج أهلها الذين سجدوا لبلاغته. وكان فيهم الحكم الذي ترضى حكومته هذا. ولكم وقف علم التشريح عن إدراك سر الخلق في بعض الأعضاء الباطنة لعدم الاهتداء لوظيفتها. فهل وسع أحدًا من علماء التشريح إلهيين أو طبيعيين أن يحكموا بخلوها عن الحكمة والفائدة؟ كلا، فإنهم لما بهرتهم عجائب الصنعة في ستر أجزاء البدن لم يسعهم في القليل الذي جهلوه إلا أن يعترفوا على الجملة بأن له البتة حكمة لم يكشفها العلم، ثم لا يلبث أن يكشفها لمن أعانته همة البحث وأيده التوفيق.

حسن الموقع في التجاور: على أن روعة النظم القرآني كما علمت لا تقوم دائمًا على حسن التجاور بين الآحاد، بل ربما تراه قد أتم طائفة من المعاني ثم عاد إلى طائفة أخرى تقابلها، فيكون حسن الموقع في التجاور بين الطائفتين موجبًا لحسن المقابلة بين الأوائل من كل منهما، أو بين الأواخر كذلك لا بين الأول من هذه والآخر من تلك. وملاك الأمر في ذلك أن تنظر إلى النظام المجموعي الذي وضعت عليه السورة كلها كما وصيناك به من قبل. ونحن ذاكرون لك الآن نموذجًا منه لو وضعته نصب عينيك واحتذيته في سائر السور لكان ذلك نعم الدليل في دراستك. وبالله التوفيق. نظام عقد المعاني في سورة البقرة إجمالًا وتفصيلًا: اعلم أن هذه السورة على طولها تتألف وحدتها من: مقدمة، وأربعة مقاصد، وخاتمة. على هذا الترتيب: "المقدمة" في التعريف بشان هذا القرآن1، وبيان أن ما فيه من الهداية قد بلغ حدًّا من الوضوح لا يتردد فيه ذو قلب سليم. وإنما يعرض عنه من لا قلب له، أو من كان في قلبه مرض. "المقصد الأول" في دعوة الناس كافة إلى اعتناق الإسلام. "المقصد الثاني" في دعوة أهل الكتاب دعوة خاصة إلى ترك باطلهم والدخول في هذا الدين الحق. "المقصد الثالث" في عرض شرائع هذا الدين تفصيلًا.

_ 1 عرفت في رأس البحث الأول أن لفظ القرآن يطلق على كله وعلى بعضه، فالإشارة هنا يصح أن تتوجه إلى القرآن جملة، وأن تتوجه إلى سورة البقرة خاصة. وقد أردنا بقاءها على هذا الاحتمال اقتداءً بالنصب الكريم: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} ؛ لأن الإشارة فيه على الاحتمال أيضًا.

"المقصد الرابع" ذكر الوازع والنازع الديني الذي يبعث على ملازمة تلك الشرائع وينهى عن مخالفتها. "الخاتمة" في التعريف بالذين استجابوا لهذه الدعوة الشاملة لتلك المقاصد وبيان ما يرجى لهم في آجلهم وعاجلهم. المقدمة في عشرين آية "1- 20": {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ، خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ، يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ، فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ، وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ، اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ، مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ، صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ، أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ

مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ، يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . 1- إيقاظ الأسماع وتوجيه للقلوب: بدئت السورة الكريمة أحرف مقطعة لا عهد للعرب بتصدير مثلها في الإنشاء والإنشاد؛ وإنما عهدوها من القراء الكاتبين في بدء تعليمهم النهجي للناشئين "أ. ل. م". ومهما يكن من أمر المعنى الذي قصد إليه بهذه الأحرف، والسر الذي وضعت هنا من أجله، فإن تقديمها بين يدي الخطاب مع غرابة نظمها وموقعها من شأنه أن يوقظ الأسماع ويوجه القلوب لما يلي هذا الأسلوب الغريب. 2- التنويه بالمقصود: وألحقت بهذه الأحرف الثلاثة جمل ثلاث: أما أولاهن فإعلان للسامع أن ما سيتلى عليه الآن هو خير كتاب أخرج للناس، وأنه ليس في الوجود ما يصلح أن يسمى كتابًا بالقياس إليه: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} . وأما الأخريان فيدعمان هذا الحكم بالحجة والبرهان. أليس تفاضل الكتب إنما هو بمقياس ما تحويه من حق لا يشوبه باطل. أو ليس كمال هذا الحق أن يكون نيرًا لا يثير شبهة. أو ليس أكمل الكمال بعد هذا وذاك أن يكون ذلك الحق مما تمس إليه حاجة الناس في إنارة السبيل وإقامة الدليل إذا ما اشتبهت عليهم السبل وتفرقت المسالك. فذلكم القرآن هو جماع هذه الفضائل الثلاث: فهو الحق المحض الذي لا باطل فيه، بل هو الحق اللائح الذي لا شبهة باطل فيه، ثم هو بعد ذلك الهدى المبين الذي يخرج الناس من الظلمات إلى النور: {لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى} . هكذا كان موقع هذه الجمل الثلاث بعد تلك الأحرف الثلاثة موقع التنويه

بالمقصود بعد التنبيه إليه. وكذلك المربي الصالح "يبدأ" خطابه الجليل الشأن باستنصات الناس واسترعاء أسماعهم "ويثني" باتخاذ الوسائل المشوقة التي تثير فهم بواعث الإقبال على طلب الاستفادة. 3- بيان أثر القرآن في المؤمنين: أول ما تتشوف إليه النفس بعد سماع هذا الوصف البليغ للقرآن وهدايته هو تعرف الأمر الذي سيحدثه في الناس ومقدار إجابتهم لدعوته. فمست الحاجة إلى أن ينساق الحديث لبيان هذه الحقيقة العجيبة، وهي انقسام الناس في شأنه إلى فئات ثلاث: فئة تؤمن به، وأخرى كافرة، وثالثة مترددة حائرة، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. فكيف ترى ينتقل من الحديث عن الكتاب إلى الحديث عن الناس؟ أيجعل الحديث عنهم حديثًا مؤتنفًا ائتنافًا بحتًا؟ .. أم يسوقه مساق الاستدراك على ما قبله؟ .. شيء من ذلك لم يكن. ولكن انظر إليه وقد مزج الحديثين مزجًا عجيبًا يدع أدق الناس فطنة لتصريف وجوه القول لا يفطن لما حدث بينهما من الانتقال. ذلك أنه في أول الأمر لم يعرض لذكر الطائفتين الأخيرتين، بل أعرض عنهما، كأن القرآن لم ينزل من أجلهما، ثم عمد إلى الطائفة الأولى فجعل الحديث عنها من تمام الحديث عن هداية القرآن نفسه قائلًا: إنه {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ} فكانت هذه "اللام الجارة" هي المعبرة السرية التي انزلق عليها الكلام وانصب انصبابًا واحدًا إلى نهاية الحديث عن المؤمنين. 4- الحديث عن الكافرين: ولقد كان قصر الانتفاع بهداية القرآن على هذه الطائفة وحدها بعد وصف القرآن بأنه الحق الواضح الذي لا ريبة فيه -حريًّا في بادئ الرأي أن يعد من المفارقات التي تثير في نفس السامع أشد العجب، إذ كيف تكون الحقائق القرآنية بهذه المرتبة من

الوضوح ثم لا تنفذ إلى قلب كل من يسمعها؟! ومن جهة أخرى فقج كان موقف هذا النبي الرحيم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في جده البالغ في دعوة أمته، وحرصه الشديد على هدايتهم، مصورًا له في عين من يراه بصورة الطامع في إيمان الناس أجمعين، الظان أن هذه الأمنية ستصبح في متناول يده متى أخذ في أسبابها العادية، كأنه يرى أن ليس بينهم وبين هذه الهداية إلا أن يصل صوت القرآن إلى آذانهم إذا هم مسلمون. ذلك مع أن القرآن يكاد يحدد الآن مهمته ويقول: إن الذي سينتفع بهداه إنما هم المتقون. فكان هذا التحديد مظنة لأن يبتهل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى ربه قائلًا: سبحانك اللهم، ولمَ لا يهتدي به الناس أجمعون؟! وجب إذًا أن تقرر الحقيقة بصورة حاسمة لكل طماعية وتردد، مريحة للنفس من طلب ما لا سبيل إليه، وأن تبين مع ذلك الموانع الطبيعية من عموم هداية القرآن بأسلوب ينزه القرآن نفسه عن شائبة القصور، ويرد النقص إلى قابلية القابل لا إلى فاعلية الفاعل، وهل يغض من مهارة الطبيب أن يُعرض المريض عن تناول الدواء منه فيموت بجهله؟ وهل يضير الشمس ألا ينتفع بنورها العمي أو المتعامون؟ {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} . هكذا انتقل الحديث عن المؤمنين الذين سبقت لهم الحسنى، إلى الكافرين الذين حقت عليهم كلمة العذاب، لا على وجه اقتران الحديثين في القصد من أول الأمر، إذًا لعُطف أحدهما على الآخر، بل على وجه يبني فيه بعض الكلام على بعض، إجابة لهذا السؤال الذي نطقت به الحال، وإزالة لذلك التعجب الذي أثاره سابق المقال. وهذا هو ما يسميه علماء البلاغة بالاستئناف البياني. 5- الحديث عن المنافقين: وجرى الحديث عن هؤلاء إلى نهايته، فانضم الشكل إلى شكله، وعطفت الطائفة الثالثة على أختها؛ لأنهم في التجافي عن الهدى مشتركون، تتشابه قلوبهم وإن اختلفت

ألسنتهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} . 6- التقابل في الحديث عن الطوائف الثلاثة "المؤمنين، الكافرين، المنافقين": وارجع الآن قليلًا إلى نظام الأحاديث عن الطوائف الثلاثة، لترى كيف تقابلت أوضاعها أتم التقابل، فقد اشتمل الحديث في كل طائفة على ثلاثة عناصر مرتبة على هذا النمط: وصف الحقيقة الواقعة، فبيان السبب فيها، فالإخبار عن نتيجتها المتنظرة. "فحقيقة" الطائفة الأولى أنهم قوم حصلوا فضيلة التقوى بركنيها العلمي والعملي. "سبب ذلك" استمساكهم بالهدى وإمدادهم بالتوفيق من ربهم "ومآل أمرهم الفوز والفلاح". "وحقيقة" الطائفة الثانية أنهم مجردون من أساس التقوى وهو الإيمان، وأنهم مصرون على ذلك إصرارًا لا ينفع معه إنذار. "والسبب" عدم انتفاعهم بما وهبهم الله من وسائل العلم، فلهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها. "وعاقبة أمرهم العذاب العظيم". "وحقيقة" الطائفة الثالثة صفة مركبة من ظاهرة خير وباطن سوء. فهم يقولون بألسنتهم: إنهم مؤمنون، وليس في قلوبهم من الإيمان شيء. ولكل من الوصفين "سبب" و"جزاء" أما دعواهم الإيمان فسببها قصد المخادعة، وجزاء الخداع عائد إليهم. وأما إسرارهم الكفر فسببه مرض قلوبهم، وجزاؤه زيادة المرض والعذاب الأليم. وكما بين في الطائفة الثانية أنها بلغت من الإصرار والغباوة مبلغًا لا يجدي معه الإنذار، بين في الطائفة الثالثة أنها بلغت من الغرور والجهالة المركبة مبلغًا لا ينفع فيه نصح الناصحين. فهم المفسدون ويزعمون أنهم المصلحون، وهم السفهاء ويزعمون أنهم الراشدون. ومن لك بشفاء سقيم يعتقد أنه سليم؟

ثم كما ختم الكلام في شأن الطائفة الأولى بأن سجل لهم وصف الهدى والفلاح، ختم الكلام في شأن الطائفتين الأخريين بأن سجل عليهما1 وصف الضلالة والخسران. 7- التمثيل القرآني لطائفتي الكافرين والمنافقين: على أن هذه الأوصاف التحقيقية للطائفتين لم تكن وحدها لتشفي النفس من العجب في أمرهم، فالعهد بالناس أنهم إنما يختلفون في الأمور الغامضة لا في الحقائق البينة، فاختلاف هؤلاء في شأن القرآن على وضوحه يعد شاذًّا عن العادات الجارية، محتاجًا إلى وصف تمثيلي يقربه من المشاهد المحس، حتى يطمئن القلب إلى إمكانه. لذلك ضرب الله لكلتا2 الطائفتين مثلًا يناسبها. فضرب مثلًا للمصرين المختوم على قلوبهم بقوم كانوا يسيرون في ظلام الليل فقام

_ 1 مضى جمهور المفسرين على أن قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} مشار به إلى أقرب الطائفتين في الذكر، وهم المنافقون ولكن المروي عن ابن عباس وابن مسعود -رضي الله عنهما- أنه راجع إلى الكفار مطلقًا، وهذا هو الذي عولنا عليه؛ لأنه أقعد في المعنى وفي النظم؛ أما في المعنى فلأنه لا واسطة بين الهدى والضلالة {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} . وإذا كانوا كلهم عن الهدى ناكبين، وفي الضلالة مشتركين، فتخصيص الإشارة بالبعض مع إمكان رجوعها إلى الجميع صريحًا تخصيص بغير موجب. وأما في النظم فلأن تناولها للطائفتين يتم به حسن المقابلة بين الإشارتين في قوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى} وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} ثم به يتم جمال الصنعة في تفريق الأقسام ثم جمعها، ثم تفريقها ثم جمعها. فقد رأيته يفرق الطائفتين في أوصافها الخاصة، ثم يجمعهما في هذا الوصف المشترك. وستراه يعود إلى تفريقهما في ضرب الأمثال، ثم يجمهما مرة أخرى مع سائر العالم في النداء الآتي: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} . 2 لعلك ترى هنا شيئًا من المخالفة لكلام المفسرين، إذ جعلوا المثلين كليهما راجعين إلى المنافقين خاصة، وجعلناهما موزعين على الطائفتين، نشرًا على ترتيب اللف. ولكنك إذا رجعت بنفسك إلى أجزاء المثلين سترى معنا أن المثل الأول ينطبق تمام الانطباق على الأوصاف التي ذكرها الله للكافرين، وأن الذي ينطبق على صفات المنافقين إنما هو المثل الثاني وحده. فهؤلاء القوم الذين {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ، صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} أليسوا هم أولئك القوم الذين {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} . وهذه الظلمات الثابتة المستقرة التي ليس فيها بصيص من نور وليس فيها تقلب ولا تذبذب، هل ترى فيها تصويرًا لألوان النفاق ووجوهه المختلفة باختلاف الأحوال؟ إنك لا تجد هذه الصورة إلا في المثل الثاني حيث يتعاقب فيه الظلام والنور، الوقوف والمسير. وكذلك ترى في المثل الثاني قومًا لهم أسماع وأبصار لم يذهب الله بها ولو شاء لذهب، وهذا مناسب لقوله في المنافقين: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} فوصفهم بالمرض ولم=

فيهم رجل استوقد لهم نارًا يهتدون بضوئها، فلما أضاءت ما حوله لم يفتح بعض القوم أعينهم لهذا الضوء الباهر، بل لأمر ما سُلبوا نور أبصارهم وتعطلت سائر حواسهم عند هذه المفاجئة. فذلك مثل النور الذي طلع به محمد1 -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في تلك الأمة على فترة من الرسل، فتفتحت له البصائر المستنيرة هنا وهناك، لكنه لم يوافق أهواء المستكبرين

_ =يصفهم بالختم الكلي على القلوب والحواس. نعم، يمكن تقرير كلام المفسرين على وجه صحيح إذا ضممنا إليه ضميمة. ذلك بأن نقول: إن المثل الأول يصور حال المنافقين في بواطنهم، وهو الأمر الذي يشاركون فيه سائر الكفار. والمثل الثاني يصور حالهم في ظواهرهم، وهو الأمر الذي يتقلب عندهم بتقلب الدواعي؛ لأن تقلبهم إنما هو الظاهر لا الباطن. غير أن هذه الدعوى أيضًا محل نظر، إذ ما يدرينا، لعل نوع الكفر الذي يبطنه المنافق نوع خاص يتقلب فيه قلبه بالشك والتردد، وأن هذا الاضطراب الذي نشاهده على حركاته الظاهرة في أقواله وأعماله إنما هو صورة الاضطراب النفسي الذي يحس به هو في دخيلته بخلاف النوع الأول، وهو كفر المجاهرين، فهو طبيعة واحدة مصممة، حسبما تشهد به وحدة آثاره. 1 وهذا أيضًا غير ما ذكره المفسرون فقد جعلوا مستوقد النار مثلًا "للمنافق الذي تكلف النطق بكلمة الإسلام خداعًا، فلم ينتفع بها إلا يسيرًا في دنياه، ثم قضى أجله وأفضى إلى عمله، فإذا هو في الظلمات والخسران المبين". هكذا اعتبروا الضمائر المجموعة في قوله: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ....} إلخ, عائده إلى {الَّذِي اسْتَوْقَدَ} بمراعاة معناه، بعد أن عادت إلى الضمائر المفردة بمراعاة لفظه. ونحن لا نزعم بطلان هذا التأويل، ولا ننكر إساغة اللغة له. ولكن الوجه الذي عرضناه ها هنا في شرح المثل يجمع إلى صحته العقلية واللغوية أنه مستنبط من النظم القرآني نفسه. ونحسبه مع ذلك أقرب لأسلوب القرآن وأليق بجزالته. فإن لم يكنه فليكن أحد الوجوه التي يحتملها القرآن. أما كيف استنبطنا هذا المعنى من النظم فإليك بيانه: لقد نظرنا إلى المثلين فرأينا الأسلوب فيهما يتجه اتجاهًا متوازيًا؛ إذ وجدنا في صدر كل منهما حديثًا عن شيء مفرد، وفي عجز كل منهما حديثًا عن جماعة. ثم نظرنا إلى المثل الثاني فرأينا الضمير المجموع فيه ليس راجعًا إلى مرجع الضمير المفرد، بل هو راجع باتفاق المفسرين إلى أمر مفهوم من فحوى الكلام هو القوم الذين نزل عليهم الصيب "ومعلوم أن هذه التشبيهات المركبة التي ينظر فيها إلى مقابلة المجموع بالمجموع لا يعني فيها بالمقابلة اللفظية الأحادية لأبين ما قبل الكاف وما يليها على الترتيب: بل ربما يكون الاختلاف بينهما كما هنا أمرًا مطلوبًا للبلغاء في وجيز الكلام يقصدون به التنبيه من أول الأمر على ما سيحدثون في التشبيه من طي وتقديم وتأخير، والتنبيه على أن المشبه به ليس هو مدخول الكاف وحده، وإنما هو قصة متعددة الفصول، هذا المدخول أحد فصولها. ذلك ليبقى السامع محتفظًا بانتباهه وتشوقه إلى تمام الكلام الذي به يظهر له التطابق بين طرفي التشبيه، وبه يمكنه رد كل شيء إلى شبهه -هذا الضرب في أسلوب القرآن كثير، منه قوله تعالى {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ} [171: 2] وقوله: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ} [24: 10] ، وقوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} [19: 2] . =

الذين ألفوا العيش في ظلام الجاهلية، فلم يرفعوا له رأسًا، بل نكسوا على رءوسهم ولم يفتحوا له عينًا بل خروا عليه صمًّا وعميانًا: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} 1.

_ =حينئذ عدنا إلى المثل الأول فقلنا: هل عسى أن يكون هو أيضًا سائرًا على هذا النهج حسبما يرشد إليه تعادل الأسلوبين؟ .. فيكون الضمير المجموع فيه ليس عائدًا إلى "الذي استوقد نارًا" بل إلى القوم الذي استوقدت النار من أجلهم، أليس السامع متى انتهى إلى كلمة "ما حوله" يزداد شعورًا بأن هنالك قومًا مشبهًا بهم؟ إذ سرعان ما ينتقل الذهن من المكان إلى السكان.. هذه الخطوة الأولى لم تلبث أن لحقتها الخطوات التالية: وهي أن النور الذي ذهب الله به إذًا كان هو نور أولئك القوم، ولم يكن هو ضوء النار التي استوقدها المستوقد فتلك النار إذًا لم تطفأ ولم يذهب ضوءها فما يكون مضرب المثل بهذا الضياء الذي بقي هو وذهب غيره؟ .. ألا يكون هو ضوء الهداية الحقيقية التي أبى الله إلا أن يتمها ولو كره الكافرون. ثم من يكون مضرب المثل بمستوقد النار؟ ... ألا يكون هو الهادي الأعظم صلوات الله عليه.. فقد استوقد شعلة الهداية الإسلامية، أي عالج إيقادها أمام زوابع من الفتن وأعاصير من المقاومات العنيفة، فلما أوقدها وأضاءت ما حوله رغمت بها أنوف أعداء الحق، الذين أكل الجهل والحسد قلوبهم، فانطمست بصائرهم، وكانوا كلما ازدادت هي تألفًا وإشراقًا، ازدادوا هم ظلمة وانتكاسًا. عند هذا الحد تمت أركان التشبيه، واستقام هذا المعنى الجديد على أنه احتمال يمكن فهم الآية عليه بحسب اللغة والعقل وبحسب معهود القرآن أيضًا في ضربه النور والضياء مثلًا للهدى والإيمان، والظلمة والعمى مثلًا للجهل والكفران، بيد أن اتفاق التفاسير التي بأيدينا على جعل مستوقد النار مثلًا للمنافقين جعلنا نتهيب تأدبًا أن نضربه مثلًا للرسول الأمين من غير شاهد يؤيد ذلك من الكتاب أو السنة.. وما برحت هذه المخالفة التي تحيك في الصدر وتبعد اطمئنان القلب إلى هذا المعنى حتى ظفرنا بشاهده الصريح الصحيح في حديث النبي عن نفسه، حيث يقول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار تقع فيها، فجعل ينزعهن ويغلبنه فيقتحمن فيها. فأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها" رواه الشيخان. نعم التمثيل به في الحديث من وجه غير الوجه الذي في الآية، ولكن هذا لا يضير، إذ المثل الواحد يضرب لمعان متعددة باعتبارات مختلفة، والذي يعنينا إنما هو وقوع التمثيل به للنبي الكريم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو صريح في صدر الحديث كما نرى. فبذلك ازدادت النفس ركونًا إلى صحته. وبعد فما بنا -علم الله- حب الخلاف ولا شهوة الإغراب، ولكنها أمانة العلم والنصيحة لكتاب الله تعالى حملتنا على أن نقول فيه أحسن ما نعلم، ثم شجعتنا على أن نسجل بالقلم هذا الذي قلناه بالفم، لنعرضه في الطرس على أنظار القارئين، كما عرضناه في الدرس على أسماع الطالبين لعل هؤلاء واجدون فيه من مواضع النقد والتمحيص ما لم يجده أولئك. وهذا الباب من أبواب البحث والاستنباط الذي لا يمس أصلًا من أصول الدين ولا يحل حرامًا أو يحرم حلالًا لن يزال مفتوحًا لكل مسلم أعطاه الله فهمًا في كتابه، على شريطة القصد والأناة في سير العقل، ومع الاستضاءة في هذا السير بمصباحين من اللغة والشرع، على الحد الذي وصفنا، والمنهج الذي رسمنا. وبالله التوفيق. 1 سورة فصلت: الآية 44.

وضرب مثلًا للمترددين المخادعين بقوم جاءتهم السماء بغيث منهمر في ليلة ذات رعود وبروق. فأما الغيث فلم يلقوا له بالًا، ولم ينالوا منه نيلًا. فلا شربوا منه قطرة، ولا استنبتوا به ثمرة، ولا سقوا به زرعًا ولا ضرعًا. وأما تلك التقلبات الجوية من الظلمات والرعد والبرق فكانت هي مثار اهتمامهم، ومناط تفكيرهم؛ ولذلك جعلوا يترصدونها: ويدبرون أمورهم على وفقها، لابسين لكل حال لبوسها: سيرًا تارة، ووقوفًا تارة، واختفاءً تارة أخرى. ذلك مثل القرآن الذي أنزله الله غيثًا تحيا به القلوب، وثنبت به ثمرات الأخلاق الزكية والأعمال الصالحة؛ ثم ابتلى فيه المؤمنين بالجهاد والصبر وجعل لهم الأيام دولًا بين السلم والحرب، وبين الغلب والنصر. فما كان حظ بعض الناس منهم إلا أن لبسوا شعاره على جلودهم دون أن يشربوا حبه في قلوبهم أو يتذوقوا ما فيه من غذاء الأرواح والعقول، بل أهمتهم أنفسهم وشغلتهم حظوظهم العاجلة؛ فحصروا كل تفكيرهم فيما قد يحيط به من مغانم يمشون إليها، أو مغارم يتقونها، أو مآزق تقفهم منه موقف الروية والانتظار، وهكذا ساروا في التدين به سيرًا متعرجًا متقلبًا مبنيًّا على قاعدة الربح والخسر، والسلامة الدنيوية. فكانوا إذا رأوا عَرَضًا قريبًا وسفرًا قاصدًا وبرقت لهم "بروق" الأمل في الغنيمة ساروا مع المؤمنين جنبًا إلى جنب، وإذا دارت رحى الحرب وانقضت "صواعقها" منذرة بالموت والهزيمة أخذوا حذرهم وفروا من وجه العدو قائلين: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} أو رجعوا من بعض الطريق قائلين: {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ} . حتى إذا كانت الثالثة فلم يلمحوا من الآمال بارقة ولم يتوقعوا من الآلام صاعقة بل اشتبهت عليهم الأمور وتلبد الجو بالغيوم، فهنالك يقفون متربصين لا يتقدمون ولا يتأخرون، ولكن يلزمون

شِقَةَ الحياد ريثما تنقشع سحابة الشك شِقَةَ الحياد ريثما تنقشع سحابة الشك {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 1 {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا، وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} 2. ذلك أبدًا دأب المنافقين في كل أمرهم؛ إن توقعوا ربحًا عاجلًا التمسوه في أي صف وجدوه، وإن توقعوا أذى كذلك تنكروا للفئة التي ينالهم في سبيلها شيء من المكروه. وإذا أظلم عليهم الأمر قاموا بعيدًا لا إلا هؤلاء ولا إلى هؤلاء، أما الذي يؤمن بالله واليوم الآخر فإن له قبلة واحدة يولي وجهه شطرها، هي قبلة الحق لا يخشى فيها لومة لائم. وليس يبالي حين يُقتل مسلمًا ... على أي جنب كان في الله مصرعه هنا تمت المقدمة بعد أن وصفت القرآن بما هو أهله، ووصفت متبعيه ومخالفيه كلًّا بما يستحقه. ولا مرية أن وصف هذه الطوائف جميعها راجع في المآل إلى الثناء على القرآن؛ فإن الشيء الذي يكون متبعوه هم أهل الهدى والفلاح، ومخالفوه هم أهل الضلالة والخسر لا يكون إلا حقًّا واضحًا لا ريب فيه. فما هو ذلك الحق الذي لا يتبعه إلا مهتد مفلح، ولا يعرض عنه إلا ضال خاسر؟ بل ما هو ذلك الحق الذي ضربت له الأمثال بالضياء الباهر والغيث الكثير؟ لا شك أن هذا كله تشويق أي تشويق لسماع الحقائق التي يدعو القرآن الناس

_ 1 سورة النساء: الآية 141. 2 الآيتان 72، 73 من السورة نفسها.

إليها. فانظر على أي نحو ساق بيانها. لقد كان ظاهر السياق يقضي بأن يقال: إن هذه الحقائق هي أن يعبدوا ربهم وحده ويؤمنوا بكتابه ونبيه "إلخ" جريًا على أسلوب الغيبة الذي جرى عليه في وصف الكتاب، وفي وصف الناس، ولكنه حوَّل مجرى الحديث من الأخبار والغيبة إلى النداء والمخاطبة قائلًا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ..} . أتعرف شيئًا من سر هذا التحويل؟ إن ذلك الوصف الدقيق الذي وصف القرآن به الطوائف الثلاث: "متقين وكافرين ومخادعين" قد نقلهم عند السامع من حال إلى حال، فبعد أن كانوا غُيَّبًا في مبدأ الحديث عنهم أصبحوا الآن بعد ذلك الوصف الشافي حاضرين في خيال السامع كأنهم رأي عين، وفي مكان ينادون منه. فاستحقوا أن يوجه الحديث إليهم كما يوجه إلى الحاضرين في الحس والمشاهدة. هذا من الناحية العامة. وأما من الناحية الأخرى فإن هذه الأمثال البليغة التي ضربت في شأن المعرضين خاصة قد أبرزتهم أمام السامع في صورة محزنة تبعث في نفسه أقوى البواعث لنصحهم وتحذيرهم. حتى إنه لا يشفي صدره إلا أن يناديهم أو يسمع من يناديهم: أن افتحوا أعينكم أيها القوم وتعالوا إلى طريق النجاة. وهكذا استعدت النفس أتم استعداد لسماع هذا النداء. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} الآيات إلى آخر المقصد الأول".

المقصد الأول من مقاصد السور

المقصد الأول من مقاصد السورة: في خمس آيات "21-25": {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ، وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ، وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . 1- الأركان الثلاثة للعقيدة الإسلامية: في هذه الآيات الخمس تسمع نداءً قويًّا موجهًا إلى العالم كله بثلاثة مطالب: 1- أن لا تعبدوا إلا الله ولا تشركوا به شيئًا. 2- أن آمنوا بكتابه الذي نزله على عبده. 3- أن اتقوا أليم عذابه، وابتغوا جزيل ثوابه. هذا المطالب الثلاثة هي الأركان الثلاثة للعقيدة الإسلامية، تراها قد بُسطت مرتبة على ترتيبها الطبيعي. من المبدأ، إلى الواسطة، إلى الغاية. وترى كل واحد من الركنين الأولين قد أقيم على أساس من البرهان العقلي القاطع لكل شبهة. أما الركن الثالث فقد جيء به مجردًا عن هذا النوع من البرهان، ولكنه نفخ فيه من روح الإلهاب وتحريك الوجدان بالتحذير والتبشير ما يسد في موضعه مسد البرهان. على أنك إذا أنعمت النظر في هذا الركن وجدته في غنى عن برهان جديد بعد تقرر سابقيه، إذ هو منهما بمنزلة النتيجة المنطقية من مقدماتها. أرأيت لو أن ملكًا عظيم السلطان نافذ الحكم وجه إليك سفيرًا يحمل رسالة منه، وأيقنت أن الذي بيد السفير هو كتاب الملك المختوم بخاتمه، أكان يعوزك برهان جديد لتحقيق ما يحويه الكتاب من عجيب الأنباء والنذر، بعد ما وقر في نفسك من العلم بأنه كلام مَن إذا قال صدق، وإذا وعد أنجز؟!

فكذلك ترى الحديث هنا عن السمعيات جيء به مفرعًا على ما تقرر في أمر النبوات، وبضربٍ من التخلص هو غاية في الحسن والبراعة، {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ} . عود على بدء: في أربع عشرة آية "26- 39": {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ، الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ، كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ، وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ، وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ، وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ، فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا

اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ، فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . 1- وصف طريقة القرآن في الهداية: فكان من الحق أن يعود إلى وصف طريقة القرآن في هذه الهداية، ليقول: إنها هداية كاملة بالبيان الوافي الشامل لكل شيء، فانظر كيف مهد لهذا الانتقال تمهيدًا يتصل من أول السورة إلى هذا الموضع: أما المقدمة فقد وصف فيها الفرق الثلاث وصفًا شافيًا ضرب للناس أمثالهم، وحقق أن الذين كفروا اتبعوا الباطل، وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم. وأما المقصود فقد بين فيه أن لله وحده المثل الأعلى الذي لا يشاركه فيه شيء من الأنداد، ثم وضع فيه الفيصل بين النبي والمتنبي بتلك المعجزة العالمية التي لا يستطيع أحد من دون الله أن يأتي بمثلها، ثم ذكر مثل النار التي أعدت للكافرين، ومثل الجنة التي وعد المتقون. فتراه قد تناول في هذه الأمثال ضروبًا شتى من الحقائق؛ علوية وسفلية، مادية ومعنوية ... حتى كانت نهاية الحديث أن عرض ما في الجنة من أنواع المتع واللذائذ الشخصية والجنسية، تلك المعاني التي قد يستحيي المرء من ذكرها، وقد يخالها الجاهل نابية عن سنن الخطاب الإلهي الأعظم، غافلًا عن أنه الحق الذي لا يستحيي من الحق، وأنه الرحيم الذي يتنزل برحمته إلى مستوى العقول البشرية فيبين لهم كل ما يحتاجون إلى بيانه مما يحبون أو يكرهون، ومما يرجون أو يحذرون. وهكذا انساق الحديث من ذكر هذه النماذج المتفاوتة إلى استنباط القاعدة الكلية

منها، ببيان أن هذه هي طريقة القرآن في هدايته، فهو يضرب الأمثال كلها، ويبين الحقائق؛ حلوها ومرها، واضعًا كل شيء في موضعه، مسميًا له باسمه، لا يبالي أن يتناول في بيانه جلائل الأمور أو محقراتها {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} . حقًّا؛ إن شأنَ هذا الكتاب في تفصيل الحق والباطل والضار والنافع شأنُ كتاب الأعمال في تفصيل الحسنات والسيئات. كلاهما لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. وكما أن وصف القرآن بالهدى إجمالًا قد جر هناك إلى ذكر انقسام الناس في قبول هدايته، وإلى النعي على من أعرض عنه، كذلك وصف طريقته في الهداية قد جرها هنا إلى مثل هذا التقسيم: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} وإلى النعي على الضالين بذكر مساوئهم وتفصيل نقائصهم {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} . وكما أن بيان أوصافهم هناك قد جلاهم أمام السامع في صورة تحرك داعيته لسماع ندائهم بالنصح والتعليم، كذلك بيان أوصافهم هنا قد استفز النفوس إلى سماع مخاطبتهم بالتعجيب والإنكار.. {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ ... } الآيات. 2- عود الكلام إلى المقصد الأول بأركانه الثلاثة، ولكن في ثوب جديد: "أما في الركن الأول" فقد سمعته هناك يأمر بعبادة الله، وتسمعه هنا ينهى عن الكفر بالله. وهناك ذكرهم بنعمة إيجادهم مجملة، وهنا يذكرهم بها مفصلة متممة، وهناك عرفهم بنعمة تسخير الأرض والسماء لهم، وهنا يعرفهم بذلك في شيء من التفصيل. "وأما في الركن الثاني" فقد ذكر هناك نبوة هذا النبي الخاتم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهنا يذكر نبوة

ذلك النبي الأول آدم، لنعلم أن نبينا لم يكن بدعًا من الرسل، وأن أمر التشريع والنبوات أمر قديم يتصل بنشأة الإنسان. وقد مهد لهذا البيان بذكر تاريخ تلك النشأة العجيبة وما جرى في شأنها من الحديث مع الملائكة، ذلك الحديث الدال على مزيد العناية الإلهية بهذا النوع البشري، إذ اختاره الله لخلافة الأرض وآثره على سائر الخلق بفضيلة العلم. ليكون الامتنان بذلك جاريًا مع الامتنان بالنعم المذكورة في الركن الأول على أحسن نسق، ثم اتصل من هذا التفصيل إلى شرح ما نشأ عنه من حسد إبلييس وعداوته القديمة للإنسان الأول ومخادعته إياه بوساوسه، وما انتهى إليه أمر الخادع والمخدوع من ابتلائهما وابتلاء ذريتهما بالتكاليف. وهو -كما ترى- حديث يطلب بعضه بعضًا، ويأخذ بعضه بأعناق بعض. "وأما في الركن الثالث" فقد رأيته هناك يصف الجنة والنار بما لهما من وصف رائع أو مروع، وتراه هنا يكتفي عن وصفهما بذكر اسمهما وتعيين أهلهما ناظمًا وضع الأجزية مع وضع التكاليف في سلك واحد، ومتخلصًا أحسن تخلص من أحدهما إلى الآخر، بتقرير أن اتباع التكاليف أو عدم اتباعها هو مناط السعادة أو الشقاوة في العقبى. ولقد ختم الكلام هنا -كما ختمه في المقدمة- بشأن المخالفين؛ تمهيدًا للانتقال مرة إلى نداء فريق منهم ودعوتهم إلى الإسلام وهو المقصد الثاني.

المقصد الثاني من مقاصد السورة

المقصد الثاني من مقاصد السورة: في ثلاثة وعشرين ومائة آية "40- 162": {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ، وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ، وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ، أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ، وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ، الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ، وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ، وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ، وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ، وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ، ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ، وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ، ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ، وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ، فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ، وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ، وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى

لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ، فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ، وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ، قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ، قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ، قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ، قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ، وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ، فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ، أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ

فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ، أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ، وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ، وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ، بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ، وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ، ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ، وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ، وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ، وَلَمَّا

جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ، بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ، وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ، وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ، قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ، مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ، وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ، أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ

بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ، مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ، مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ، أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ، وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ، وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ، وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي

السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ، بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ، إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ، وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ، الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ، يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ، وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ، وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ، وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ، وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ، وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ، إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ

وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ، تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ، فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ، قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ، أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ، تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ، سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ، قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ

وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ، وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ، الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ، وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ، وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ، كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ، فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ، وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ، وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ، إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ، إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ

أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} . المراحل الأربع التي سلكها القرآن في دعوة بني إسرائيل: بحسبك أن تعلم أن هذه السورة هي غرة السور المدنية، وأن المدينة كان يسكنها أشد الناس عداوة للذين آمنوا، وأكثرهم جدالًا في دينهم بما أوتوه من العلم قبلهم. بحسبك أن تعلم هذا وذاك لتعرف سر تلك العناية الموفورة بهذا الجانب من الدعوة، نعني دعوة بني إسرائيل خاصة بعد دعوة الناس عامة، ولتعلم حكمة ذلك التبسط في الحديث معهم تارة، والحديث عنهم تارة أخرى، بألوان تختلف هجومًا، ودفاعًا، واستمالة، واستطالة، إلى ما بعد نصف السورة. وسترى حين تنتقل في هذه الأحاديث مرحلة مرحلة ما يملك قلبك من جمال نظامها ودقة تقسيمها. - إجمال الحديث عنهم: "بدأ" الكلام معهم بآية فذة {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} هي على قلة كلماتها جامعة لأغراض الحديث كله: ففيها يناديهم بأحب أسمائهم وأشرف أنسابهم ويذكرهم بسابق نعمة الله عليهم إجمالًا، ويبني على ذلك دعوتهم إلى الوفاء بعهدهم، ويرغبهم ويرهبهم. - تفصيل الحديث عنهم: "ثم" رجع إلى هذه الأغراض يفصلها على تدرج وبقدر معلوم فشرح العهد الذي طلب منهم الوفاء يه، في ست آيات {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ، وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ

وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ، أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ، وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ، الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} ، وبين مقدار النعمة التي امتن بها عليهم في آية "47" {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} ومقدار المخافة التي خوفهم منها في آية أخرى "48" {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} . "ثم" قسم الحديث إلى أربعة أقسام: "القسم الأول" يذكر فيه سالفة اليهود منذ بعث فيهم موسى -عليهم السلام. "القسم الثاني" يذكر فيه أحوال المعاصرين منهم للبعثة المحمدية. "القسم الثالث" يذكر فيه أولية المسلمين منذ إبراهيم -عليه السلام. "القسم الرابع" يذكر فيه حاضر المسلمين في وقت البعثة. 1- ذكر سالفة اليهود "49- 74": {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ، وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ، وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ، ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ، وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ

وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ، ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ، وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ، فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ، وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ، وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ، فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ، وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ، قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ، قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ

فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ، قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ، قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ، وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ، فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} . استهل الخطاب في هذا القسم بثماني آيات يعرف فيها بني إسرائيل بتفاصيل المنن التي امتن بها عليهم مرة بعد مرة، وهي تلك النعم التاريخية القديمة التي اتصل أثرها وسرى نفعها من الأصول إلى الفروع، فجعل يذكرهم بأيام الله فيهم؛ يوم أنجاهم من آل فرعون، ويوم أنجاهم من اليم وأغرق أعداءهم فيه، ويوم واعدهم بإنزال الكتاب عليهم، ويوم حقق وعده بإنزاله، ويوم قبل توبتهم عن الردة والشرك بالله، ويوم قبل توبتهم عن التمرد على نبيهم واقتراح العظائم عليه. وإنها لنعم جليلة "سابقة للذنب ولاحقة" تلين بذكراها القلوب، وتحرك الهمم لشكر المنعم وامتثال أمره. وقبل أن ينتقل من تذكيرهم بتلك النعم الجليلة المطمعة للشاكرين في المزيد، إلى تذكيرهم بجرائمهم وما حاق بهم من ضروب النكال الموجبة للامتثال والاعتبار جعل بين الحديثين برزخًا مزج فيه ذكر بعض النعم بذكر ما قابلوها به، بعد أن أعد النفس للسير على هذا البرزخ بالتفاتة يسيرة، فيها رمز الإعراض وعدم الرضا، فبين أنه تعالى متعهم فوق هذا كله متاعًا حسنًا؛ إذ ظلل عليهم الغمام، ورزقهم من الطعام والشراب رزقًا هنيئًا من حيث لا يحتسبون، ومن حيث لا كَدَّ ولا نصب. فظلموا أنفسهم وبطروا تلك النعمة وحرفوا كلمة الشكر بتبديلها هزوًا ولعبًا، واقترحوا بدل ذلك

الرزق الناعم عيشة الكدح والعناء، فألزمهم الله ما التزموا، وضرب عليهم الذلة والمسكنة. وهنا محض الحديث لذكر المخالفات والعقوبات، فذكر أنهم باءوا بغضب من الله؛ لأنهم كفروا بآيات الله وقتلوا النبيين، "غير أنه استثنى المؤمنين منهم من هذا الغضب" وتمردوا على أوامر التوراة جملة حتى أُرغموا عليها، ثم تولوا عنها بعد ذلك حتى صاروا جديرين بأن ينزل بهم ما نزل بأهل السبت لولا فضل الله عليهم؛ وأنهم تباطأوا في تنفيذ أمر نبيهم، وبلغ بهم الجهل بمقام نبوته أن ظنوا في بعض تبليغه عن ربه أنه هازل فيه غير جاد.. حلقة الاتصال بين القسمين الأول والثاني "74": وأراد القرآن أن يصل حاضرهم بماضيهم فانظر كيف وضع بينهما حلقة الاتصال في هذه الآية التي ختم بها القسم الأول: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} فقوله: {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} كلمة حددت مبدأ تاريخ القسوة ولم تحدد نهايته، كأنه بذلك وضعت عليه طابع الاستمرار وتركته يتخطى العصور والأجيال في خيال السامع، حتى يظن أن الحديث قد أشرف به على العصر الحاضر، ثم لم يلبث هذا الظن أن ازداد قوة، بصيغة الجملة الاسمية في قوله: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ} دون أن يقول: فكانت كالحجارة. ثم انظر كيف كان انتهاؤه إلى وصف قلوبهم بهذا الوصف توطئةً لتغيير الأسلوب فيهم، فإن من يبلغ قلبه هذا الحد من القسوة التي لا لين فيها يصبح استمرار الخطاب معه نابيًا عن الحكمة، ويصير جديرًا بصرف الخطاب عنه إلى غيره ممن له قلب سليم. وهكذا سينتقل الكلام من الحديث معهم في شأن سلفهم إلى الحديث معنا في شأنهم أنفسهم.

2- ذكر اليهود المعاصرين للبعثة "75- 121": {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ، أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ، وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ، وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ، بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ، وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ، ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ، وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ

مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ، وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ، وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ، بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ، وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ، وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ، قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ، مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ، وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ، أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ

الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ، مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ، مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ، أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ، وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ

يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ، وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ، وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ، بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ، إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ، وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ، الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} . افتتح الكلام في هذا القسم بجملة طريفة ليست على سنن ما قبلها وما بعدها من السرد الإخباري، جملة استفهامية يكتنفها حرفان عجيبان: "أحدهما" يعيد إلى الذاكرة كل ما مضى من وقائع القسم الأول، "والآخر" يفتح الباب لكل ما يأتي من حوادث هذا القسم. وتقع هي بين التاريخين القديم والحديث موقع العبرة المستنبطة والنتيجة المقررة، بين أسباب مضت وأسباب تأتي: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} . فهذه الفاء تقول لنا: أبعد كل ما قصصناه يطمع طامع في إيمان هؤلاء القوم وهم الوارثون لذلك التاريخ الملوث؟ وهذه الواو تقول هذا {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} . ويعود السرد الإخباري إلى مجراه التفصيلي، فيقص علينا من مساوئ أوصاف

الحاضرين منهم ومنكرات أفاعيلهم وأقاويلهم زهاء عشرين سببًا لا تُبقي مطمعًا لطامع في إيمانهم، سواء منها ما كان مختصًّا بهم، وما كان يشاركهم فيه غيرهم من أسلافهم، أو من النصارى أو الوثنيين. ثم لا يدع زعمًا من مزاعمهم إلا قفي عليه بما يليق به من الرد والتفنيد. "وقد بدأ هذا الوصف" بتقسيمهم إلى فريقين: علماء يحرفون كلام الله ويتواصون بكتمان ما عندهم من العلم لئلا يكون حجة عليهم. وجهلاء أميين هم أسارى الأماني والأوهام، وضحايا التضليل والتلبيس الذي يأتيه علماؤهم، فمن ذا الذي يطمع في صلاح أمة جاهلها مضلل مخدوع بأخذ باسم الدين ما ليس بدين، وعالمها مضلل خادع يكتب الكتاب بيده ويقول هذا من عند الله. "وثَنَّى" ببيان منشأ اجترائهم على كل مويقة، ألا وهو غرورهم بزعمهم أن النار لن تمسهم إلا أيامًا معدودة. ولقد أمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يوسع هذا الزعم دحضًا وإبطالًا، وأن يتدرج معهم في هذه المجادلة على درجات المنطق السليم والبحث المستقيم فيبدأ بمطالبتهم البرهان على ما زعموا. ثم ينقضه ببيان مخالفته لقانون العدل الإلهي الذي لا يعرف شيئًا من الظلم ولا المحاباة لأحد، بل الخلق أمامه سواء: كان امرئ رهين بعمله، ومن يعمل سوءًا أو حسنًا يجزَ به. ثم يعارضه بقلب القضية عليهم مبينًا لهم أنهم من أولئك الذين كسبوا السيئات وأحاطت بهم خطيئاتهم: ألم يؤخذ عليكم الميثاق بتقوى الله والإحسان إلى الناس فتوليتم؟ ألم يؤخذ عليكم الميثاق بترك الإثم والعدوان فاعتديتم؟ ثم آمنتم ببعض الكتاب وكفرتم ببعض، وحكمتم أهواءكم في الشرائع فكما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم. "ثم أتبع ذلك سائر هناتهم" فذكر: 1- تصامهم عن سماع الحق بدعوى أن قلوبهم مقفلة.

2- كفرهم بالكتاب الجديد لأنه أنزل على غيرهم، بعد أن كانت أعناقهم مشرئبة إليه ينتظرون ظهوره على يد نبي ينصرهم على المشركين. 3- دعواهم القيام بواجبهم وهو الإيمان بما أنزل عليهم وكفى، مع أنهم كافرون حتى بما أنزل عليهم، وتلك شنشنتهم منذ عبدوا العجل وأشربوا حبه في قلوبهم. 4- زعمهم أن لهم الدار الآخرة خالصة، ثم مناقضتهم أنفسهم في ذلك بكراهتهم الموت وشدة حرصهم على الحياة. 5- عداوتهم لجبريل؛ لأنه أنزل الكتاب على غيرهم، مع أنه إنما أنزل بعلم الله. 6- تكرر نبذهم للعهود. 7- اشتغالهم بكتب السحر وترك كتب الله وراء ظهورهم. 8- ليهم ألسنتهم في خطاب الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بكلمة1 تنطوي على الاستهزاء به والطعن في دينه وإن كان ظاهرها التعظيم له، أو يراد منها إحراجه بكثرة الأسئلة والمقترحات كما سئل موسى من قبل "وقد سيق هذا في قالب تحذير المؤمنين من أن يقولوا تلك الكلمة". 9- حقدهم وأثرتهم هم وسائر المخالفين من أهل الكتاب والمشركين وكراهيتهم أن ينزل الوحي على غيرهم، مع أن لله أن يختص بنبوته من يشاء، وله أن ينسخ شريعة

_ 1 هي قول "راعنا" وهي كلمة ظاهرها الأدب، ولكنها في العربية لها معان أخرى حمقاء. وفي العبرانية كلمة شتم قريبة منها؛ فإن لفظ "رع" عند اليهود معناه شقي شرير. ولفظ "راع" معناه الشر والشقاوة فإذا أضيف إلى ضمير المتكلمين صار بلسانهم "راعينو" ومعناه في الخطاب أنت ضرنا وشقوتنا.. ولعلهم والله أعلم كانوا يلوون ألسنتهم في النطق بها ليقربوها من الصيغة العربية سترًا لنيتهم واكتفاءً بالرمز المفهوم فيما بينهم. فأمر الله المؤمنين أن يخاطبوا الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقول "انظرنا" حتى لا يجد المنافقون سبيلًا إلى التلاعب بلفظ ذي وجهين، أو أيضًا فإن "راعنا" كلمة يقولها السائل المستقصي يطلب بها إصغاء المسئول إليه حتى يفرغ هو من أسئلته. وتلك عادة اليهود عند إكثارهم من السؤال. فأمر الله المؤمنين أن يحافظوا على حسن الاستماع حتى لا يحتاجوا إلى السؤال، وأن يقولوا "انظرنا" وهي كلمة يقولها المتعلم إذا أراد التثبت مما يقال له لا الزيادة عليه.

ويأتي بشريعة أخرى مثلها أو خير منها. 10- رغبة كثير منهم في أن يردوا المؤمنين كفارًا. 11- زعم كلٌّ من اليهود والنصارى أنه لن يدخل الجنة غيرهم. أماني يتمنونها بغير برهان. 12- طعن كلتا الطائفتين في أختها بقول اليهود: ليست النصارى على شيء، وقول النصارى: ليست اليهود على شيء، وطعن المشركين في كلتيهما. 13- اشتراك الطوائف الثلاث في السعي لإخلاء المساجد من ذكر الله. 14- اشتراكهم في الجهل بالله ونسبتهم الولد إليه. 15- اشتراكهم في التوقف عن الإيمان بالرسل -عليهم السلام- حتى يكلمهم الله بغير واسطة أو ينزل عليهم آية ملجئة. "ثم ختم الهنات" بأدعاها إلى اليأس من إيمانهم، وهو أنهم يطمعون في تحويل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نفسه إلى اتباع أهوائهم، فكيف يطمع هو في استتباعهم إلى هداه؟ كلا ولكن حسبه أن الراسخين في العلم منهم وهم الذين يتلون الكتاب حق تلاوته يؤمنون بهذا الهدى الذي جاء به والكافرون هم الخاسرون. 3- ذكر قدامى المسلمين من لدن إبراهيم "122- 134": {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ، وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ، وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ، وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى

إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ، وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ، وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ، إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ، تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . شأن المصلح الحكيم في دعوته شأن الزارع، يبدأ بالأرض فيقتلع أشواكها وينقيها من حشائشها الضارة قبل أن يلقي فيها البذور الصالحة أو يغرس فيها الأشجار النافعة، وكذلك الداعي الحكيم يبدأ بالنفوس فيلويها عن الباطل والفساد ثم يوجهها إلى طريق الحق والهدى. فهذان دوران يقوم في أحدهما بالتطهير والتخلية، وفي الثاني بالتكميل والتحلية، وأنت قد رأيت الكلام في دعوة بني إسرائيل قد مضى إلى هذا الحد في بيان عوج الطريق الذي يسلكونه، ورأيته قد أوسع البيان في ذلك حتى أتى على نهاية الدور الأول: أليس من الحق إذًا أن يبدأ الدور الثاني فيبين الطريق السوي الذي يجب أن يسلكوه.

ثم رأيت كيف اختتم البيان السابق بذكر هدى الله والعلم الذي علمه لنبيه وذكر الفريق الذي يرجى إيمانهم به من أهل الكتاب، وهم الذي يتلون الكتاب حق تلاوته، أليس هذا الاختتام نفسه مطلعًا تشرف النفس منه على هذا الافتتاح؟ ثم رأيت الحديث في الدور الأول منقسمًا إلى قسمين: قسم يتحدث فيه عن ماضي اليهود، وقسم يتحدث فيه عن حاضرهم. ألا يكون من حسن التقابل أن يقسم الحديث الثاني إلى القسمين. عن ماضي المسلمين وعن حاضرهم؟ ذلك هو ما تراه فيما يلي: بل سترى ما هو مقابلة ومشاكلة، فسيجري الكلام في القسم الأول هنا على سنن الخطاب مع بني إسرائيل، والكلام في القسم الثاني على سنن التحدث عنهم، كما جرى هنالك في القسمين سواء. وأكبر من هذا كله أنك ترى الآيتين الكريمتين اللتين صدر بهما أول الحديث هناك قد صدر بهما أول الحديث هنا؛ ليدعوهم إلى اعتناق الحق بمثل ما دعاهم به إلى اجتناب الباطل، وليتقرر في نفس السامع من أول الأمر أن الحديث سيعود كما بدأ، ولكن في طريق يقابل ذلك الطريق، وبمعنى جديد هو عدل لذلك المعنى القديم {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ، وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ، وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ ... } . وهكذا أنشأ يدعو بني إسرائيل إلى طريق السلف الصالح، لا بأسلوب الأمر والتحريض الذي جرب من قبل فلم ينجع فيهم، بل بأسلوب قصصي جذاب يعرض فيه ذلك التاريخ المجيد لإبراهيم -عليه السلام- وأبنائه وأحفاده في العصور الذهبية التي لا يختلف أحد من أهل الكتاب ولا المشركين في تعظيمهما ومحبتها ومحبة الانتساب إليها.

مكررًا على لسانهم جميعًا تلك الكلمة العذبة التي تركها إبراهيم في عقبه، فتوارثها أبناؤه وأحفاده يوصي كل منهم بها بنيه، كلمة "الإسلام لله رب العالمين". وتراه في أثناء عرضه لتاريخ إبراهيم -عليه السلام- وإمامته للناس لا ينسى أن يحكي كلماته التي دعا بها ربه أن يجعل من ذريته إمامًا للناس كما جعله هو. ثم تراه حين يروي قيام إبراهيم وابنه إسماعيل ببناء البيت المعظم الذي جعله الله حرمًا آمنًا ومثابة للناس وقبلة لصلاتهم، لا ينسى أن يحكي تضرعهما إلى الله أن يجعل من ذريتهما أمة مسلمة وأن يبعث فيهم رسولًا منهم يعلمهم ويزكيهم. ممهدًا بهذا وذاك لتقرير تلك الصلة التاريخية المتينة التي تربط هذا النبي وأمته بذينك النبيين الجليلين؛ لا صلة النبوة النسبية فحسب، بل صلة المبدأ ورابطة الوحدة الدينية أيضًا، فهم من ذريتهما، ووجودهم تحقيق لقبول دعوتهم، وملتهم ملتهما؛ وقبلتهم قبلتهما، ومثابتهم في حجهم مثابتهما. ومقررًا في الوقت نفسه انقطاع مثل هذه النسبة المشرفة عن اليهود الذين ينتسبون بالبنوة لإبراهيم ويعقوب، وهم عن ملتهما منحرفون ولوصيتهما مخالفون. فماذا يغني النسب عن الأدب؟ ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . 4- ذكر حاضر المسلمين وقت البعثة "135- 162": {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ، فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ،

صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ، قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ، أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ، تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ، سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ، قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ، وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ، الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ، وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ، وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ

حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ، كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ، فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ، وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ، وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ، إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ، إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} . واتصل ذكر الخلف بذكر السلف، وخرج الكلام من التلويح إلى التصريح، فأقبل يقرر -في جلاء- صلة هذه الأمة المسلمة بتلك الأمة الصالحة في أصول ملتها، وفي أهم فروعها، ويقص علينا ما يحاوله سفهاء الأحلام من بين إسرائيل وغيرهم لحرمان المسلمين من تلك الصلة، وذلك بدعوتهم المسلمين إلى اتباع ملتهم تارة، وبالطعن في قبلتهم تارة أخرى، ويكر على كلتا المحاولتين بالهدم والاستئصال. وقد رأيت الحديث الآنف كيف امتزج فيه ذكر ملة إبراهيم بذكر قبلته فانظر كيف كان ذلك تأسيسًا قويًّا لما يبنى عليه هنا من ذكر ملة المسلمين وذكر قبلتهم.

قال في شأن الملة- إن أهل الكتاب يدعونكم -بعد هذا البيان- أن تكونوا هودًا أو نصارى. فقولوا لهم: بل نتبع ملة إبراهيم حنيفًا، وعرفوهم جلية الأمر في هذه الملة الحنيفية، وأنها إيمان بالله بكل ما أنزل على النبيين لا نفرق بين أحد منهم، هذه عقيدتنا بيضاء ناصعة، فأي ركنيها تنقمون منا؟ وفي أيها تخاصموننا؟ أفي الله وهو ربنا وربكم، أم في إبراهيم وبنيه، وهل كانوا هودًا أو نصارى {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . وكان هذا الترديد وحده كافيًا لإفحامهم وإغلاق الباب في وجوههم من هذه الناحية؛ إذ تبين أن أصول هذه الملة أمنع من أن نقبل الجدال في شيء منها. فانتقل عنها وشيكًا إلى إبطال محاولتهم الأخرى في مسألة "الكعبة المعظمة" التي عليها يدور العمل بشعيرتين، هما أعظم شعائر الإسلام وأظهرها "الصلاة والحج"، والتي قد تقرر ما لها من الأصل الأصيل في الدين باتخاذ إبراهيم وإسماعيل إياها مثابة ومصلى. ولكن هذا لم يكن كافيًا لإسكات المجادلين الذين اتخذوا من تحول المسلمين إليها وتركهم القبلة التي كانوا عليها مطعنًا على النبوة فتنوا به بعض ضعفاء المؤمنين، فمست الحاجة إلى مزيد بسط في شأنها تتقرر به الحجة وتدحض به الشبهة، ولذلك تراه يوجه إليها أكبر الشطرين من عنايته: فيأمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بادئ ذي بدء أن يجيب المتسائلين عن حكمة هذا التحويل جواب عزة وإباء، يرد الأمر فيه إلى من لا يسأل عما يفعل، قائلًا لهم: إن الجهات كلها سواء، يوجهنا الله منها إلى ما يشاء، وهو الذي يهدي إلى الصراط المستقيم. ثم أخذ يأمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تارة، والمؤمنين تارة، ويأمرهما معًا تارة أخرى، في أسلوب مؤكد مفصل أن يثبتوا على هذه القبلة حيث هم، وفي كل مكان يقيمون فيه حضرًا، وفي كل مكان يخرجون منه سفرًا.

وطفق ينثر في تضاعيف هذه الأوامر المؤكدة ما شاء من تعريف بأسرار التشريع القديم والجديد، فيقول: إن تشريع تلك القبلة الوقتية ما كان إلا اختبارًا لإيمان المهاجرين؛ ليتبين من يتبع الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ممن ينقلب على عقبيه، وأما تشريع هذه القبلة الباقية فإنه ينطوي على الحكم البالغة والمقاصد الجليلة، فهي القبلة الوسطى التي تليق بكم أيتها الأمة الوسطى، وهي القبلة التي ترضاها يا أيها النبي والتي طالما قلبت وجهك في السماء مستشرفًا إلى الوحي بها، وهي القبلة التي يعلم أهل الكتاب أنها الحق من ربهم، وإن كان يكتمون ذلك حسدًا وعنادًا، وهي القبلة التي يشهد الله بأنها الحق من عنده، وأخيرًا هي القبلة التي لا يبقى لأحد من المنصفين حجة عليكم. أما الظالمون فلن ينقطع جدالهم في شأنها ما بقيت عداوتهم لكم، ولكن لا تخشوهم، بل وطنوا أنفسكم على التضحية في سبيل الله، واصبروا ولا تحزنوا على من سيقتل منكم في هذه السبيل؛ فإن الموت فيها هو الحياة الباقية. ثم اوما إلى أن الجدال في هذه القبلة ليس صدًّا عن الشعائر التي في داخل المسجد الحرام فحسب، بل هو كذلك صد عما حوله من الشعائر: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} . ثم أكد أمر هاتين الشعيرتين على نحو ما أكد أمر القبلة بالتعريض بأهل الكتاب الذين يعلمون أصلهما في تاريخ إبراهيم، ولكنهم يكتمون ما أنزله الله من البينات وهم يعلمون. أرأيت هذه المراحل الأربع التي سلكها القرآن في دعوة بني إسرائيل كيف رتبها مرحلة مرحلة، وكيف سار في كل مرحلة منها خطوة خطوة. فارجع البصر كرة أخرى إلى هذه المرحلة الأخيرة منها، لتنظر كيف استخدم موقعها هذا لتحقيق غرضين مختلفين، وجعلها حلقة اتصال بين مقصدين متنائيين. فهي

في جملتها مناجات من الله للنبي والمؤمنين في خاصة شأنهم وفيما يعنيهم من أمر دينهم، ولكنه جعل لهذه النجوى طرفين، لوَّن كل طرف منها بلون المقصد الذي يتصل به، فالتقى المقصدان فيها على أمر قد قدر. ألم تر كيف بدأها بأن قص على المؤمنين مقالة أعدائهم في بعض حقائق الإسلام، وعمد إلى هذه الحقائق التي تماروا فيها، فجعل يمسح غبار الشبهة عن وجهها حتى جلاها بيضاء للناظرين. فكانت هذه البداية كما ترى نهاية لتلك المعارك الطويلة التي حورب فيها الباطل في كل ميدان. ثم رأيت كيف ساق الحديث فجعل يثبت أقدام المؤمنين على تلك الحقائق النظرية والعملية، ويحرضهم على الاستمساك بها في غير ما آية ... أفلا تكون هذه النهاية بداية لمقصد جديد بعدها يرد به هداية المؤمنين إلى تعاليم الإسلام مفصلة. بلى ... إن ذلك هو ما توحي به سياقة هذه النجوى المتواصلة، التي مدت في خطاب المؤمنين مدًّا. وحولت مجرى الحديث معهم رويدًا رويدًا، حتى صار كل من ألقى سمعه إليها مليًّا، يسمع في طيها نداءً خفيًّا: أن فرغنا اليوم من الأعداء جهادًا، وأقبلنا على الأولياء تعليمًا وإرشادًا، وأن قد طوينا كتاب الفجار، وجئنا نفتتح كتاب الأبرار، وأن هذه الصفحة الأخيرة من دعوة بني إسرائيل لم تك إلا طليعة من كتائب الحق، تنبئ أن سيتلوها جيشه الجرار، أو شعاعة من فجر الهدى سيتحول الزمان بها من سواد الليل إلى بياض النهار، ألا ترى الميدان قد أصبح خاليًا من تلك الأشباح الإسرائيلية التي كانت تتراءى لك في ظلام الباطل تهاجمها وتهاجمك. هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزًا؟ أو لا ترى هذه الأشعة الأولى من شمس الشريعة الإسلامية قد انبعثت يسوق بعضها بعضًا. أصول جامعة نظرية، تتبعها طائفة من فروعها الكبرى العملية ... ألم يأنِ لسائر الفروع أن تجيء من خلفها حتى تبلغ الشمس ضحاها. هكذا تفتحت الآذان لسماع شرائع الإسلام مفصلة. فلو أنها أقبلت علينا الآن عدًّا وسردًا ما حسبنا الحديث عنها حديثًا مقتضبًا. لكن القرآن، وقد وضع على أدق الموازين البيانية وأرفقها بحاجات النفوس، لم يشأ أن يهجم على المقصود مكتفيًا بهذا التمهيد بل أراد أن يقدم بين يديه شقة تستجم النفس فيها من ذلك السفر البعيد.. وتأخذ أهبتها لرحلة أخرى إلى ذلك المقصد الجديد.. فانظر فيما يلي:

المدخل إلى المقصد الثالث

المدخل إلى المقصد الثالث: في خمس عشرة آية "163- 177": {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ، إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ، وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ، وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ، وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ

الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ، إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ، لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} . نيف وعشر من الآيات الكريمة، هي بمثابة الدهليز بين الباب والدار يقطعها السائر في خطوات ثلاث: "الخطوة الأولى" تقرير وحدة الخالق المعبود. "الخطوة الثانية" تقرير وحدة الآمر المطاع. "الخطوة الثالثة" فهرس إجمالي للأوامر والطاعات المطلوبة. "الخطوة الأولى" تقرير وحدة الخالق المعبود: لقد جاءت هذه الخطوة في أشد أوقات الحاجة إليها بين سابقها ولاحقها، فإن ما مضى من تعظيم أمر الكعبة والمقام والصفا المروة كان من شأنه أن يلقي في روع الحديث العهد بالإسلام معنى من معاني الوثنية الأولى في تعظيم الأحجار والمواد،

ولا سيما وهذه الأماكن المقدسة كانت يومئذ مباءة للأصنام والأنصاب من حولها ومن فوقها؛ فوجب ألا يترك هذا التعظيم دون تحديد وتقييد، وألا نترك هذه الخلجات النفسية دون دفع وإبعاد، حتى لا يبقى شك في أن قيام المصلين عند مقام إبراهيم وتوجيه وجوههم نحو الكعبة، وتمسح الطائفتين بأركانها، وطواف الحجاج والمعتمرين بين الصفا والمروة، كل أولئك لا يقصد به الإسلام توجيه القلوب إلى هذه الأحجار والآثار؛ تزلفًا بعبادتها أو رجاء لرحمتها أو طلبًا لشفاعتها، وإنما يقصد تعظيم الإله الحق وامتثال أمره بعبادته في مواطن رحمته ومظان بركته التي تنزلت فيها على عباده الصالحين من قبل، ثم تجديد ذكرى أولئك الصالحين في النفوس، وتمكين محبتهم في القلوب، باقتفاء آثارهم، والتأسي بحركاتهم وسكناتهم، حتى يتصل حاضر الأمة بماضيها، وحتى تنتظم منها أمة واحدة تدور حول محور واحد، وتتجه إلى مقصد واحد هو أعلى المقاصد وأسماها {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} أتدرون من هو ... ؟ إنه ليس الكعبة وليس الصفا والمروة، ليس إبراهيم ولا مقام إبراهيم، ولكنه {الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} الذي وسع كل شيء رحمة ونعمة {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ........... لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} والذي بيده القوة كلها والبأس كله: لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} . هذا من جانب المقصد الذي وقع الفراغ منه. وأما من جانب المقصد الذي أقبلنا عليه فإن هذه الخطوة كانت أساسًا وتقدمة لا بد منها قبل الشروع في تفصيل الأحكام العملية، لتكون توجيهًا للأنظار إلى الناحية التي ينبغي أن يتلقى منها الخطاب في شأن تلك الأحكام. ذلك أن المرء إذا عرف له سيدًا واحدًا وأسلم وجهه إليه وجب ألا يصدر إلا عن أمره ولا يأخذ التشريع إلا من

يده. ومن كانت له أرباب متفرقون، وتنازعت فيه شركاء متشاكسون تقاضاه كل واحد منهم نصيبه من طاعته، وكثرت عليه مصادر الأمر المطاع. فأمر للآباء والعشيرة، وأمر للعرف والعوائد الموروثة والمستحدثة، وأمر للسادة والكبراء، وأمر للشياطين والأهواء.. ولذلك عززها بالخطوة الثانية. "الخطوة الثانية" تقرير وحدة الآمر المطاع: وهي ركن عقيدة التوحيد في الإسلام، فكما أن من أصل التوحيد ألا تتخذ في عبادتك إلهًا من دون الرحمن الذي بيده الخلق والرزق والضر والنفع، كذلك من أصل التوحيد ألا تجعل لغيره حكمًا في سائر تصرفاتك، بل تعتقد أن لا حكم إلا له، وأن بيده وحده الأمر والنهي والحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، ومن استحل حرامه أو حرم حلاله فقد كفر. وكما أنه لا يليق أن يكون هو الخالق ويعبد غيره، والرازق ويشكر غيره، لا يليق أن يكون هو الحاكم ويطاع غيره. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} . ولقد سلك في تقرير هذه الوحدة التشريعية نحوًا من مسلكه في تقرير وحدة الإلهية. "فبدأها" بأن تعرف إلى الناس بنعمة الله الشاملة ورحمته الكاملة في سهولة الشريعة وملاءمتها للفطرة، إذ إنه في سعة الاختيار لم يحرم عليهم من الطعام إلا أربعة أشياء كلها رجس خبيث، وأحل لهم ما وراء ذلك أن ينتفعوا بسائر ما في الأرض من الحلال الطيب، وفي ضيق الاضطرار جعل المحظورات كلها تنقلب مباحات مرفوعًا عنها الحرج {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، وناهيك بهذا الأسلوب تليينًا للقلوب وحملًا لها على الخضوع لأمر هذا الرب الرءوف

بعباده. أفمن يحل لكم الطيبات ويحرم عليكم الخبائث أحق أن يطاع، أم من {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} ، أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع، أم من {لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} . "ثم ختمها" بتعريفهم مبلغ غضبه وانتقامه ممن يكتم أمره ونهيه ويبدلهما بغير ما أمر ونهى ويأخذ على ذلك الرشا والسحت {أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . والناظر في منهج هذا التقرير إذا تأمل في وجه اختيار حديث المطاعم والمكاسب من بين ضروب الحلال والحرام يرى من لطائف موقعه هنا ما يعرف به أنه هو العروة الوثقى التي شد بها وثاق البيان، وسدت بها الفروج بين خطواته السابقة واللاحقة. فهو من الوجهة العملية أحد تلك الفروع التي سينتقل إليها الحديث عما قريب، فذكره ها هنا يعد شعارًا بقرب الشروع في المقصد الجديد، ثم هو من الجهة الاعتقادية يتصل اتصالًا تاريخيًّا وثيقًا بعقيدة التوحيد التي هو بصددها، ذلك أن أهل الجاهلية من وثنيين وكتابيين لما اتبعوا خطوات الشيطان فأزلهم عن توحيد المعبود حتى اتخذوا من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله لم يطل عليهم الأمد حتى فتح لهم باب التشريك في التشريع بعد التشريك في العبادة. فجعلوا يحرمون من الحرث والأنعام حلالها، ويحلون حرامها، بل جعلوا عند ذبح أنعامهم يهلون بها لغير الله -يهتفون بأسماء آلهتهم- ويستحلون طعمتها بذلك، فجمعوا فيها بين مقاصد ثلاث: المعصية، والبدعة، والشرك الأكبر. كأن باب التحريم والتحليل في المطاعم والمكاسب كان هو من أول باب فتح في الجاهلية للتشريع بغير إذن الله، ولذلك كان هو أول باب سده القرآن بعد الشرك الأكبر. فترى النهي عنه والنص عليه وبيان الحق فيه تاليًا لذكر العقائد حتى في السور

المكية كسورة الأنعام1، والأعراف، ويونس، والنحل، وغيرها. ومما زاد موقعه هنا حسنًا أن مجيئه في سياق ذكر التوحيد وقع عدلًا لمجيء حكم القبلة في سياق ذكر ملة إبراهيم، فكلاهما فرع عظيم يتصل بأصل عظيم. ألا ترى كيف ختم الكلام في شأنه بمثل ما ختم به هناك من وعد المعاندين {الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ؟ أو لا ترى كيف أن الإسلام جعل مسألتي القبلة والذبائح كليهما من الشعائر التي يتميز بها المسلم من غيره. كما يتميز بالشهادة والصلاة: "من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله ورسوله"2. على أن بدعة التحريم بالرأي في هذا الباب لم تقتصر على الفئة الخارجة عن الملة، بل إن بعض المسلمين في عصر النبوة كادت تصيبهم عدوى الأمم قبلهم، إذ هموا أن يترهبوا، ويحرموا على أنفسهم الطيبات من الطعام وغيره، لا تحريمًا لما أحل الله منها، بل زهادة فيها وحملًا للنفس على الصبر عنها بضرب من النذر أو اليمن أو العزيمة المصممة. فرد عليهم القرآن هذا الابتداع وأغلق بابه إغلاقًا، حتى لا يكون مدرجة لما وراءه. ونبههم أن من قضية توحيدهم لله أن ينزلوا على حكمه فيما أحل لهم؛ قيامًا فيه بشريعة الشكر، كما نزلوا على حكمه فيما حرم عليهم قيامًا فيه بشريعة الصبر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} .

_ 1 قرأ في سورة الأنعام سبعًا وعشرين آية أولها قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا} الآيات [136- 153] ، وفي سورة الأعراف قوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الآيتين: 31، 32] ، وقوله: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى} [الآية: 169] وفي سورة يونس قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا} [الآيتين 59، 60] وفي سورة النحل قوله: {وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} [الآية: 95] ، وقوله: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} [الآيتين: 115، 116] . 2 رواه البخاري عن أنس بن مالك ك/ الصلاة، ب/ فضل استقبال القبلة يستقبل بأطراف رجليه "378". ورواه مسلم عن البراء ك/ الأضاحي، ب/ وقتها "3626 ".

فانظر كيف كان خطاب الناس عامة بهذا الأصل ولواحقه توطئة لخطاب المؤمنين خاصة به وبما يستلوه من الأحكام، كما أن خطاب الناس عامة بأركان الإسلام في صدر السورة كان توطئة لما تلاه من خطاب بني إسرائيل خاصة بدعوتهم إلى الدخول فيه قلبًا وقالبًا. هي ترى أحسن من هذا النسق المتقابل المتعادل؟ والآن؛ وقد أخذت النفس أهبتها لتلقي سائر الأوامر والنواهي انظر كيف خطا إليها الخطوة الثالثة والأخيرة. "الخطوة الأخيرة" إجمالي الشرائع الدينية: وترى فيها عجائب من صنعة النسق: 1- انظر إلى حسن التخلص في ربطه بين المقصد القديم، والمقصد الجديد على وجه؛ به يتصلان لفظًا، وبه ينفصلان حكمًا.. فهو في جمعها لفظًا كأنه يضع إحدى قدميك عند آخر الماضي، وثانيتهما عند أول المستقبل. ولكنه في تفريقها حكمًا بأداتي النفي والاستدراك كأنما يحول قدميك جميعًا إلى الأمام: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ....} . يقول: إن مسألة تعيين الأماكن والجهات في مظاهر العبادات -تلك المسألة التي أشغلت بال المخالفين والمؤالفين نقدًا وردًّا- ليست هي كل ما يطلب الاشتغال به من أمر البر، بل هي شعبة واحدة من جملة الشعب التي تشتمل عليها خصلة واحدة من جملة خصاله، وإنما البر كلمة جامعة لخصال الخير كلها؛ نظرية وعملية، في معاملة المخلوق، وعبادة الخالق، وتزكية الأخلاق، فبتلك الخصال جميعها فليشغل المؤمنون المصادقون. 2- ثم انظر إليه حين أقدم على تفصيل تلك الخصال كيف أنه لم يقبل عليها دفعة واحدة، بل يتدرج إليها في رفق ولين، فتقدم بكلمة فوق الإجمال ودون التفصيل

هي بمثابة فهرس لقواعد الإيمان ولشرائع الإسلام {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} . 3- وانظر إلى سرد قواعد الإيمان هنا كيف عدل بها عن ترتيبها المطبوع الذي راعاه في صدر السورة غير مرة، فتراه هنا يجمع بين الطرفين "الإيمان بالله واليوم الآخر" وختم بالواسطة "الإيمان بالملائكة والكتاب والنبيين"؛ ذلك لأن من هذه الوسائط تعرف الأحكام الشرعية، وعن يدها تؤخذ، فأخرها لتتصل بها تلك الأحكام؛ حتى لا يحول بين الأصل وفرعه حائل؛ ولذلك راعى ترتيب أركان هذه الواسطة فيما بينها. فصدر بالملائكة وهم حملة الوحي، وثنى بالكتاب وهو الوحي المحمول، وثلث بالنبيين وهم مهبط الوحي. ومن هنا اتصل ببيان تلك الشرائع التي وصلت إلينا عن طريق النبوة.

المقصد الثالث من مقاصد السورة

المقصد الثالث من مقاصد السورة: في ست ومائة آية "178- 283": {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ، فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ، أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ، وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ، يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ، فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ، الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ

الْمُتَّقِينَ، وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ، الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ، لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ، ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ، وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ، وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ، وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً

وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ، سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ، زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ، كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ، يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ

وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ، فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ، نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ، لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا

جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلا مَعْرُوفًا وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ، لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ، وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا

أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ، فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ، وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ، كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ، وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ، وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ، وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ

وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ، وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ، فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ، تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ، لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى

يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ، وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ، الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ

وَاسِعٌ عَلِيمٌ، يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ، وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ، إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ، لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ، وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ

وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} . بعد إصلاح العقيدة.. تفصيل الشريعة: بعد إرساء الأساس، تكون إقامة البنيان؛ وبعد الاطمئنان على سلامة الخارج، يجيء دور البناء والإنشاء في الداخل.. نعم، لقد تم "إصلاح العقيدة" التي هي روح الدين وجوهره؛ فليبدأ "تفصيل الشريعة" التي هي مظهر الدين وهيكله.. لقد أزيلت شبهة المعاندين، وأقيمت الحجة عليهم فلم يبق إلا إنارة السبيل للسالكين، وإيضاح المحجة بين يديهم.. كانت العناية من قبل، موجهة إلى بيان "حقائق الإيمان" فلتتوجه الآن، إلى بسط "شرائع الإسلام". وأنت فقد رأيت كيف مهدت السورة لهذا التحول، إذ وضعت برزخًا يربط أطراف الحديث، ويلتقي فيه سباقها وسياقها.. ولو أنك تلفتَّ الآن التفاتة يسيرة إلى جانبك، لرأيت أدنى هذا البرزخ إليك تلك الآية الجامعة "آية البر" التي انتظمت أصول

الدعوة بشطريها: النظري، والعملي؛ ولرأيت أدنى هذين الشطرين إليك، هو هذا الشطر العملي. فاعلم الآن، أن هذا الشطر العملي، الذي لمحناه من قبل مطويًّا في فهرس موجز، سنراه فيما يلي، مبسوطًا في بيان مفصل. ففي نيف ومائة آية، سنرى فنًّا جديدًا من المعاني، مهمته رسم نظام العمل للمؤمنين، وتفصيل الواجب والحرام والحلال لهم في شتى مناحي الحياة: في شأن الفرد، وفي شأن الأسرة، وفي شأن الأمة.. بيانًا مؤتنفًا تارة، وجوابًا عن سؤال تارة أخرى، متناولًا في جملته عشرات من شعب الأحكام. هذه الحكمة العامة في تأخير إقامة البنيان، ريثما أرسيت قواعده، وفي تأجيل الفروع حتى أحكمت أصولها، ستبدو من ورائها حكم جزئية، وأسرار دقيقة، لمن أقبل على هذه الفروع، ينظر إلى تلاصق لبناتها في بنيتها، وتناسق حباتها في قلادتها، ثم رجع ينظر في وجه التقابل بين ذلك الإجمالي السابق، وهذا التفصيل اللاحق.. فلنأخذ في استعراض الحلقات الرئيسة لهذه السلسلة الجديدة: الحلقة الأولى: خلة الصبر: لقد ختمت آية البر كما رأيت، بخصلة من خصال البر، ميزت في إعرابها تمييزًا، فكان ذلك تنويهًا بشأنها أي تنويه.. تلك هي خلة الصبر، التي شعبتها الآية المذكورة إلى ثلاث شعب: الصبر في البأساء، والصبر في الضراء، والصبر حين البأس.. فهل تعلم أنه الآن وقد بدئ دور التفصيل، ستكون هذه الخصلة بشعبها الثلاث، أول ما تعنى السورة بنشره من تلك الخصال، وأنها ستنشرها نشرًا مرتبًا ترتيبًا تصاعديًّا على عكس ترتيب الطي: الصبر حين البأس، ثم الصبر في الضراء، ثم الصبر في البأساء.. وهل تعلم أن هذا النظام التصاعدي نفسه سيتبع في سائر الخصال: الوفاء بالعهود والعقود.

ثم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والبذل والتضحية في سبيل الله؟ ... إلك البيان مفصلًا: الصبر حين البأس "178- 182": لا تحسبنه هنا صبرًا على الجروح والقروح في الحرب، فذلك معنى سلبي استسلامي؛ ولا تحسبنه صبرًا في البطش والفتك بالأعداء. فذلك جهد عملي إيجابي حقًّا. ولكن مرده إلى قوة العضل والعصب. لا إلى قوة الخلق والأدب "ليس الشديد بالصرعة، ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب"1.. هكذا سيختار الله لنا من مثل الصبر أمثلها، ومن موازينه أوزنها في معايير القيم، ذلك هو ضبط النفس حين البأس، كفًّا لها عن الاندفاع وراء باعثة الانتقام، وردعًا لها عن الإسراف في القتل. ووقوفًا بها عند حد التماثل والتكافؤ العادل "القصاص 178- 179": {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . وإذ كان تداعي المعاني يسوقنا من الحديث عن القتلى إلى الحديث عمن هم بشرف الموت، ناسب تتميم الكلام ببيان ما يجب على المحتضر من الوصية لأقاربه برًّا بهم "الوصية 180- 182" {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ، فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .

_ 1 البخاري عن أبي هريرة، ك/ الأدب، ب/ الحذر من الغضب "5649"، ومسلم عن أبي هريرة، ك/ البر والصلة والآداب، ب/ فضل من يملك نفسه عند الغضب وبأي شيء "4723".

الصبر في الضراء: وكذلك سيختار الله لنا من أبواب الصبر في الضراء أعلاها: ليس الصبر على الأمراض والآلام بإطلاق. ولكنه الصبر على الظمأ والمخمصة في طاعة الله "الصوم 183- 187".. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ، أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} ، وينساق الحديث من الصوم المؤقت عن بعض الحلال، إلى الصوم الدائم عن السحت والحرام "188" {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .

الصبر في البأساء: وعلى هذا النمط نفسه، سنرى الصبر في البأساء هنا ليس هو ذلك الصبر الاضطراري على الفقر والأزمات المالية والجوائح السماوية، ولكنه الصبر الاختياري على التضحية بالأموال؟ إنفاقًا لها في سبيل الله. والمثال الذي يختاره التنزيل الحكيم هنا مثال مزدوج1، ينتظم الصبر في البأساء والضراء جميعًا؛ إذ يجمع بين الجهاد بالنفس والجهاد بالمال "الحج إلى بيت الله 189- 203" {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ، فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ، الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ، وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ

_ 1 بل إن شئت قلت: إنه مثلث الألوان؛ لأنه سيدخل في ثناياه الصبر حين البأس في مجاهدة أعداء الله "190- 195".

كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ، الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ، لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ، ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ، وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} . ولا تنسَ ها هنا أن تنظر إلى المعبرة اللطيفة التي انتقل بها الحديث من الصوم إلى الحج.. تلك هي مسألة الأهلة التي جعلها الله مواقيت للصوم وللحج جميعًا "189". ولنقف بك ها هنا وقفة يسيرة، نشير فيها إلى شأن عجيب من شئون النسق القرآني في هذا الموضع: ذلك أن حين بدئ بذكر الحج، لم تتصل به أحكامه ولاء، بل فصل بين الشرع في الحديث عنه وحكمه بست آيات في أحكام الجهاد بالنفس والمال في قتال الأعداء "190- 195" ... فاصلة يحسبها الجاهل رقعة غريبة في ثوب المعنى الجديد.. ولكن الذي يعرف تاريخ الإسلام وأسباب نزول القرآن، يعرف ما لهذه الفاصلة من شرف الموقع وإصابة المحز، لا لمجرد الاقتران الزماني بين تشريع الحج وبين غزوة الحديبية في

السنة السادسة من الهجرة؛ ولكن لأن أداء المناسك في ذلك العام كان عزمًا لم ينفذ، وأملًا لم يتحقق، إذ أحصر المسلمون يومئذ عن البيت، وهموا أن يبطشوا بأعدائهم الذين صدوهم عنه؛ ولولا أن الله نهاهم عن البدء بالعدوان وأمرهم ألا يقاتلوا في المسجد الحرام إلا من قاتلهم فيه، فانصرفوا راجعين، مستسلمين لأمر الله، منتظرين تحقيق وعد الله.. فكذلك فلينصرف القارئ أو المستمع ها هنا وهو متعطش لإتمام حديث الحج على أن يعود إليه بعد فاصل، كما انصرف المسلمون إذ ذاك عن مكة وهم إليها متعطشون، على أن يعودوا إليها من عام قابل.. هكذا كانت هذه الآيات الفاصلة تذكارًا خالدًا لتلك الأحداث الأولى ... وهكذا كان القرآن الحكيم مرآة صافية نطالع فيها صور الحقائق من كل لون نقتبسها طورًا من تصريح تعبيره، وطورًا من نهجه وأسلوبه في تعجيل البيان أو تأخيره. ثم كانت هذه الآيات الفاصلة في الوقت نفسه درسًا عمليًّا في صبر المتعلم على أستاذه، لا يعجله بالسؤال عن أمر في أثناء حديثه؛ ولكن يتلبث قليلًا حتى يحدث له منه ذكرًا في ساعته الموقوتة.. وهكذا لن يطول بنا الانتظار حتى نرى أحكام الحج والعمرة تجيء في إثر ذلك على شوق وظمأ، فتشبع وتروي بالبيان الشافي الوافي "196- 203"، وبتمام هذا البيان تتم الحلقة الأولى من الأحكام؛ أعني فريضة الصبر في البأساء والضراء وحين البأس. استجمامة "204- 214": {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ، وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ، وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ

فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ، سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ، زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ، كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} . يثبت القلوب على ما مضى، ويوطئ لها السبل على ما بقي: وشاءت حكمة الله وتلطفه بنا في تربية نفوسنا على طاعة أمره، ألا يصعد بنا إلى الحلقة الثانية من فورنا هذا، ولكن بعد استرواحة فيها شيء من الموعظة العامة. يثبت بها القلوب على ما مضى، ويوطئ لها السبيل إلى ما بقي ... وكان من حسن الموقع لهذه الموعظة العامة، أنها اتصلت بالموعظة الخاصة التي ختم بها حديث الحج، والتي قسمت الناس من حيث آمالهم ومطامحهم إلى فريقين: فريق يطلب خير الدنيا ولا يفكر في أمر الآخرة، وفريق لا تنسيه دنياه مصالح أخراه "200- 202" فجاءت الموعظة العامة تقسم الناس من حيث ما فيهم من خلق الأثرة أو الإيثار إلى فئتين: فئة لا تبالي أن تضحي في سبيل أهوائها بحياة العباد، وعمران البلاد، وفئة على العكس من ذلك لا تضن أن تضحي بنفسها في سبيل مرضاة الله "204- 207". وتخلص الآيات الحكيمة من هذا التقسيم، إلى توجيه النصح للمؤمنين بأن يخلصوا

نفوسهم من شوائب الهوى، ويستسلموا بكليتهم لأوامر الله، دون تفريق بين بعضها وبعض؛ محذرة إياهم من الزلل عنها بعد أن هدوا إليها ووقفوا عليها، معزية لهم عما قد يصيبهم من البأساء والضراء في سبيل إقامتها، ضاربة لهم المثل في ذلك بسنة السلف الصالح من الأمم السابقة "208- 214". هنا تمت الاسترواحة بالموعظة العامة. الحلقة الثانية: الوفاء بالعهود والعقود: ستكون الحلقة الثانية في تفصيل الخصلة الثانية من الخصال العملية التي أجملت في آية البر، وهي الوفاء بالعهود والعقود؛ وستختار من بين هذه العقود أحقها بالعناية والرعاية: عقدة الزواج وما يدور حول محورها من شئون الأسرة. أليست الأسرة هي المجال الأول للتدريب على حسن العشرة، وعلى التنزه من رذيلة الأنانية والأثرة؟ ثم أليست الأمور متى استقامت في هذا المجتمع الصغير، استقامت بالتدريج في المجتمع الكبير، ثم في المجتمع الأكبر؟ .. تفصيل الشئون الأسرية المتشابكة "الآيات من 215 إلى 237": {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، إِنَّ

الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ، فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ، نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ، لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا

افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلا مَعْرُوفًا وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ، لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا

عَلَى الْمُحْسِنِينَ، وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} . ترى كيف سيكون الانتقال إلى هذه الحلقة الثانية؟ هل يصعد القرآن بنا توًّا إلى تفصيل هذه الشئون المنزلية المشتبكة المتشعبة؟ كلا إن هذا البيان التربوي الحكيم لن يهجم بنا عليها دفعة، ولكنه سيتلطف في الوصول بنا إليها على معراج من الأسئلة والأجوبة، تتصل أوائلها1 بالأحكام الماضية: الإنفاق والجهاد "215- 218" وتتصل أواخرها2 بالأحكام التالية: مخالطة اليتامى، وشرائط المصاهرة، وموانع المباشرة "220- 222".. وهكذا نصل في رفق ولين، دون اقتضاب ولا ابتسار إلى صميم الحلقة الثانية "223- 237" حيث نتلقى في شأن الحياة الزوجية دستورًا حكيمًا مؤلفًا من شطرين؛ وشطره الأول يعالج شئون الأسرة في أثناء اتصالها "223- 232"، وشطره الأخير يعالج شئونها في حال انحلالها وانفصالها "233- 237". فخذ هذه الحلقة الجديدة من السورة الكريمة، وتعرف أسباب نزولها، وانظر كيف كانت كل قضية منها فتيا في حادثة معينة منفصلة عن أخواتها؛ ثم عد لتنظر في أسلوبها البياني جملة؛ وحاول أن ترى عليه مسحة انفصال أو انتقال، أو أن تحس فيه أثرًا لصنعة لصق، أو تكلف لحام.. واعلم منذ الآن أنك ستحاول عبثًا؛ فإنك لن تجد أمامك إلا سبيكة واحدة يطرد فيها عرق واحد، ويجري فيها ماء واحد، على رغم أنها جمعت من معادن شتى..

_ 1 و2 ارجع البصر كرتين إلى هذا النظام الهندسي في البيان.. ثم سل نفسك هل كان في الإمكان أن يأتلف عقد نظامه لو لم تقع الأحداث التي اتخذت منها مادته، أو لو وقع بعضها وتخلف بعضها، أو لو وقعت كلها ولم تنبعث في روع القوم باعثة السؤال عن أحكامها..؟ لقد كان القدر يسير إذًا في ركاب هذا التنظيم، فأثار مادة حوادثه، وبعث حاجات النفوس إلى طلب بيانها.. ولم يبق إلا أن تقول معي: آمنت أن الذي بيده تصريف الزمان، هو هو الذي بيده تنزيل القرآن.. ألا له الخلق والأمر. تبارك الله رب العالمين.

نأمل أول كل شيء في خط سير المعاني: انظر كيف استهل الحديث بإرساء الأساس، وذلك بتقرير حق العشرة والمخالطة الزوجية "223" ثم انظر كيف تلاه النهي عن إدخال اليمين في أمثال هذه الحقوق المقدسة، سواء بالحلف على منع البر عن مستحقه، أو على قطع ما أمر الله به أن يوصل "224- 225" وكيف عقبه بحكم فرع من فروع هذه المبدأ متصل بالعلاقة الزوجية، وهو حكم من حلف على الامتناع عن زوجته "226- 227" وكيف اتصل من هنا بأحكام الطلاق وما يتبع الطلاق من حقوق وواجبات "228". فإذا أعجبك هذا التسلسل المعنوي، وهذا التدرج المنطقي، في شئون كانت متفرقة، ارتجلتها الحوادث ارتجالًا، فتعالَ معي لأضع يدك في هذه القطعة على حرف واحد تلمس فيه مبلغ الإحكام في التأليف بين هذه المتفرقات، حتى صارت شأنًا واحدًا ذا نسق واحد: ذلك هو موضع النقلة من فتيا الإيلاء إلى فتيا الطلاق: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} ألا ترى كيف أدير الأسلوب في حكم الإيلاء على وجه معين، يطل القارئ منه على أفق متلبد ينذر باحتمال الفراق؛ فلما جاء بعده الحديث عن أحكام الفراق لم يكن غريبًا، بل وجد مكانه مهيأً له من قبل؛ كأن خاتمة حكم الإيلاء كانت بمثابة عروة مفتوحة، تستشرف إلى عروة أخرى تشتبك معها؛ فلما جاءت فتيا الطلاق في إبانها كانت هي تلك العروة المنتظرة. وما هو إلا أن التقت العروتان حتى اعتنقتا وكانت منهما حلقة مفرغة لا يدرى أين طرفاها، وهكذا أصبح الحديثان حديثًا واحدًا. ترى من علم محمدًا -لو كان القرآن من عنده- أنه سوف يستفتى يومًا ما في تلك التفاصيل الدقيقة لأحكام الطلاق؟ ومن علمه أنه سيجد لهذا السؤال جوابًا، وأن هذا

الجواب سيوضع في نسق مع 00حكم الإيلاء، وأنه ينبغي لاستقامة النسق كله أن يساق حكم الإيلاء الذي وقع الاستفتاء فيه الآن، على وجه يجعل آخر شقيه هو أدناهما إلى حديث الطلاق الذي سوف يسأل عنه بعد حين؛ لكي ينضم الشكل إلى شكله متى جاء وقت بيانه؟ ... هيهات أن يحوم علم البشر حول هذا الأفق الأعلى؛ فإنما ذلك شأن عالم الغيب الشهادة، الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.. وتمضي السورة في هذا النمط الجديد، مفصلة آثار الطلاق وتوابعه كلها: عدة، ورجعة، وخلعًا، ورضاعًا، واسترضاعًا، وخطبة، وصداقًا، ومتعة.. إلى تمام هذه الحلقة الثانية "237". الحلقة الثالثة: إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والصدقة: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ، فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ، وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ، كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ، وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ

دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ، وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ، وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ، وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ، فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ، تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا

يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ، لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ

صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ، وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ، الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ، يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ، وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ، إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ، لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} . هنالك تبدأ الحلقة الثالثة {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [238- 274] .

لننظر: كيف تمت النقلة بين هاتين الحلقتين؟ إننا بمقدار ما رأينا من التلبث والتمكث، والاستجمام والتنفس بين الحلقة الأولى والثانية، سنرى على عكس ذلك بين الحلقة الثانية والثالثة، نقلة شبه خاطفة بين لفتة جد مباغتة، قد يحسبها الناظر اقتضابًا؛ وما هي باقتضاب إلا في حكم النظر السطحي.. أما من تابع معنا سير قافلة المعاني منذ بديتها، وقطع معنا ثلثي الطريق الذي رسمته آية البر: من الوفاء بالعهود، والصبر في البأساء والضراء وحين البأس، فإنه لا ريب سوف يستشرف معنا إلى ثلثه الباقي: إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وبذل المال على حبه في سبيل الله، وسوف يرى أن هذه الحلقة الثالثة قد جاءت هنا في رتبتها وفي موضعها المقدر لها، وفق ترتيبها في الآية الجامعة. سيقول قائل: نعم، لقد جاءت في موضعها ورتبتها، ولكن الانتقال إليها قد تم دون إعداد نفسي، ولا تمهيد بياني. نقول: بل كان هذا الإعداد والتمهيد، في الآية الكريمة التي ختمت بها الحلقة السابقة: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فهذه لو تدبرت معبرة ذهبية وضعت في وقت الحاجة إليها بعد أن استطال الحديث في تفصيل الحقوق والواجبات المنزلية؛ معبرة جيء بها لتنقلنا من ضوضاء المحاسبة والمخاصمة، إلى سكون المسامحة والمكارمة؛ فكانت معراجًا وسطًا صعد بنا إلى أفق أعلى، تمهيدًا للعروج بنا فيما يلي إلى الأفق الأعلى.. ألا تسمع إلى هذه الكلمات: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} "لا تنسوا.. الفضل.. بينكم". إن كل حرف في هذه الكلمات ينادي بأنها كلمات حبيب مودع، كان قد أقام بيننا فترة ما، ليفصل في شئوننا؛ ثم أخذ الآن يطوي صحيفة أحكامه، ليتحول بنا عنها إلى ما هو أهم منها؛ فقال لنا وهو يطويها: دعوا المشادة في هذه الشئون الجزئية الصغرى، سووها فيما بينكم بقانون البر والفضل، الذي هو أسمى من قانون الحق والعدل؛ وحولوا أبصاركم

معي إلى الشئون الكلية الكبرى، التي هي أحق بأن يتوفر عليها العزم والقصد، وأحرى أن يشتغل بها العقل والقلب.. نعم، نعم. لقد كفاكم هذا حديثًا عن حقوق الزوج والولد، فاستمعوا الآن إلى الحديث عن حقوق الله والوطن: حافظوا على الصلاة.. أنفقوا في سبيل الله.. جاهدوا في سبيل الله.. "وبعد" فهل حديث الصلاة هنا يعتبر مقصدًا أصليًّا مستقلًّا، أم هو جزء من مقصد آخر. لكي نحسن الجواب عن هذا السؤال، يجمل بنا أن نرجع البصر كرة أخرى، لننظر في جملة الخصال التي جمعت في آية البر، والتي فصلت في الآيات من بعدها إلى قرب آخر السورة، ولنقارن بين حظوظها من عناية الذكر الحكيم. فماذا نرى؟ نرى التنويه بفضيلتي الإنفاق والجهاد في سبيل الله، لا يزال يعاد ويردد في مطالع الحديث ومقاطعه، في إجماله وفي تفصيله، ترديدًا ينادى بأنه هو المقصود الأهم، والهدف الأعظم، من التشريع في هذه السورة.. فلو أننا، في ضوء هذا الأسلوب، تمثلنا تلك البيئة وأحداثها، وتمثلها القوم وهم تتلي عليهم شرائع هذه السورة وأحكامها، لتمثلنا معسكرًا ثابتًا للجهاد المزدوج؛ المالي والبدني، ولتمثلنا على رأس هذا المعسكر قائدًا يقظًا حريصًا، لا يعزب عنه شأن من شئون جنوده؛ خاصها وعامها، ولا يفتأ يلقي عليهم أوامره وإرشاداته في مختلف تلك الشئون كلما فرغ من إفتائهم في نوازلهم العارضة الوقتية، رجع بالحديث إلى مجراه العتيد، في شأن مهمتهم الرئيسة.. ضع هذه اللوحة الجندية أمام عينيك.. فلن يكون عندك عجب أن ترى الحديث في شأن الجهاد يبرز الآن على إثر تلك الشئون؛ ذلك أن بساطه كان أبدًا منشورًا، وأن داعيته كانت دائمًا قائمة؛ فإذا عاد ذكره بعد أن زال ما حوله من الشواغل الوقتية، فإنما يجيء على أصله وسجيته؛ فلا يسأل عن علته.. ماذا نقول؟.. شأن الجهاد!! أليس الحديث سيفتتح الآن بشأن الصلاة، وعدة الوفاة، لا بشأن الجهاد؟

بل نقول، ونحن نعني ما نقول: إن الحديث يعود الآن إلى شأن الجهاد، وإن الخطاب هنا بالصلاة وغيرها يتوجه إلى المجاهدين من حيث هم مجاهدون، ليحل المشاكل التي يثيرها موقف الجهاد نفسه، قبل أن يوجه إليهم الأمر الصريح بالقتال.. فأول هذه المشاكل مشكلة الصلاة في الحرب: ألا يكون الجهاد رخصة في إسقاط هذا الواجب أو في تأجيله؟ يجيبنا الكتاب العزيز: لا رخصة في ترك الصلاة ولا في تأجيلها، لا في سلم ولا في حرب، ولا في أمن ولا في خوف: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} "238" وإنما الرخصة عند الخوف في شيء واحد: في صفات الصلاة وهيأتها: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} . والصلاة كما نعلم قوة معنوية على العدو، وعدة من عدد النصر1. لا جرم كان من الحكمة أن تزود بها أرواح المجاهدين، قبل أن يؤمروا بالقتال أمرًا صريحًا. والصلاة في الوقت نفسه طهرة للنفس من مساوئ الأخلاق، تنقيها من دنس الشح والحرص على حطام الدنيا2. لا جرم كان من الحكمة كذلك جعلها دعامة للوصية الآنفة، التي أمرتنا بالتسامح والتكارم في المعاملات.. هكذا كان وضع حديث الصلاة مزدوج الفائدة: دواءً وغذاءً معًا، ينظر إلى الأمام وإلى الوراء جميعًا. بل قل: إنه مثلث الفائدة؛ لأنه في نظره إلى الخلف لا ينظر إلى الآية الآنفة وحدها، بل ينظر كذلك إلى الآية الجامعة، ليفصل إجمالها في هذا الجانب3 ...

_ 1 هكذا قال الله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} . 2 وهكذا قال الله في وصف الإنسان: {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا، إِلَّا الْمُصَلِّينَ} . 3 إذا فهمت حسن هذا التلطف، في الانتقال من المعنى القديم إلى المعنى الجديد، وأدركت جمال هذه الأوضاع الهندسية، التي تناسقت بها المعاني السابقة واللاحقة، فقد زالت عنك شبهة الاقتضاب هنا في الانتقال إلى حديث الصلاة.. غير أننا إذا قسنا هذه النقلة إلى النقلة السابقة بين الحلقتين؛ الأولى والثانية، ألسنا نرى هذه التمهيد=

والجندي في الحرب تشغله على الأقل مخافتان: مخافة على نفسه وعلى المجاهدين معه من أخطار الموت أو الهزيمة، ومخافة على أهله من الضياع والعيلة لو قتل.. لذلك انساق البيان الكريم يطرد عن قلبه كلتا المخافتين. أما أهله فقد وصى الله للزوجة، إذا مات زوجها، بأن تمتع حولًا1 كاملًا في بيته، وكذلك مطلقته سيتقرر لها حق في المتعة لا ينسى، فليقر عينًا من هذه الناحية "240-242". وأم خوف الموت فليعلم أن الذي يطلب الموت قد توهب له الحياة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} . أما خوف الهزيمة، فإن النصر بيد الله {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} وتلك سنة الله في المرسلين "246- 253". هكذا أُبعدت المخاوف كلها عن قلوب المجاهدين، بعد أن زودت أرواحهم بزاد التقوى، وهكذا أصبحوا على استعداد نفسي كامل، لتلقي الأوامر العليا، فليصدر إليهم الأمر صريحًا بالجهاد في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم "244- 245"2.

_ =قصيرًا وهذا التحول سريعًا؟ أليست النفس في سيرها هنا تدركها رجة خفيفة لهذا التحول السريع الذي تفرضه عليها حركة قائدها؟ ألا فاعلم، علمك الله، أن هذه سرعة مقصودة، وأن من الخير لنا أن نحس بهذه الرجة الخفيفة من أثر ذلك التحول السريع؛ فإن لذلك مغزى عميقًا في تربية النفوس المؤمنة.. إن هذه النقلة تصور لنا ما يجب أن يكون عليه المؤمن، إذا سمع نداء الواجب الروحي وهو منهمك في معركة الحياة، فكأننا بهذا الأسلوب الحكيم ينادينا: إنه ليس شأن المؤمن أن يحتاج إلى كبير معالجة للتسامي بروحه فوق مشاغل الأهل والولد، وإنما شأنه أن ينتشل نفسه من غمرتها انتشالًا فوريًّا، ليسرع إلى تلبية ذلك النداء الأقدس، قائلًا للدنيا كلها: "دعيني أتعبد لربي". نعم هذا شأن المؤمنين {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} . 1 للمفسرين في هذه الآية قولان مشهوران: أحدهما: أنها وصية مندوبة لا واجبة. الثاني: أنها كانت واجبة في صدر الإسلام ثم نسخت بالآية السابقة "234" التي توجب تربص أربعة أشهر وعشرًا لا أكثر ... وواضح أن كلا القولين مبني على أن آية الحول يسري حكمها على الأزواج عامة.. ولكن السياق الحكيم أوحى إلينا هذا المعنى الجديد: وهو أن تربص الحول الكامل كان خصوصية فضلت بها زوجات المجاهدين على زوجات القاعدين. والله أعلم. 2 من الطرائف البيانية في أسلوب القرآن هنا أن النتيجة فيه تقع من المقدمات موقع المركز من الدائرة، لا موقع الطرف من الخط كما هو شأن الأسلوب التعليمي المشهور. ألا ترى هذا الأمر بالقتال في سبيل الله "244" قد=

ولتفصل لهم العبر التاريخية، التي تثبت أقدامهم حين البأس، والتي تزيدهم أملًا في النصر "246- 253". والجهاد كما قلنا جهادان: جهاد بالنفس، وجهاد بالمال، وليس الجهاد بالمال وقفًا على شئون الحرب، بل هو بذله في كل ما يرفه عن الأمة، ويقوي شوكة الدولة، ويحمي حمى الملة. ولقد أخذ الجهاد بالنفس حظه من الدعوة في آية قصيرة "244" ثم في آيات كثيرة "246- 253". وأخذ الجهاد بالمال بعض حظه في آية قصيرة "255" فمن العدل أن يأخذ تمام حظه في آيات كثيرة كذلك. وهكذا نرى الدعوة إليه تأخذ الآن قسطها؛ مطبوعًا بطابع الشدة تارة "254- 260"1 وطابع اللين تارة "261" وطابع التعليم المفصل لآداب البذل تارة أخرى "262- 274". الآيات من 275- 283: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ

_ =أحيط من جانبيه كليهما بدعائمه وبواعثه، إجمالًا قبل، وتفصيلًا بعد؟ .. على أن هذا المنهج الطريف لا يخص هذا الموضع من القرآن، فإنك ستجد شواهده مبثوثة في مواضع كثيرة من الكتاب العزيز.. تدبر قوله تعالى في سورة المائدة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فإن كمال الدين الإسلامي باشتماله ماديًّا وروحيًّا على كل النظم الكفيلة بإصلاح الفرد، والأسرة، والجماعة، والدولة، والإنسانية العامة، لم يذكر يذكر من دلائله قبل إلا طرف يسير. أما بقية البرهان فقد نثرت حباته على أثر ذلك إلى تمام الآية العاشرة من السورة المذكورة..: وانظر قوله تعالى في سورة النحل: {لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} فقد جاء وسطًا بين دلائل الوحدانية في التدبير، ودلائل الوجدانية في الإنعام والإحسان.. وتأمل قوله في السورة نفسها: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} فقد جاء بعد تبيين أصول العقيدة، وقبل تبيين أصول الفضيلة العملية. ومن جملة السابق واللاحق، يتألف البرهان على صدق هذه القضية، وهي أن الكتاب تبيان لكل شيء.. 1 في هذه الآيات السبع تحذير شديد للبخلاء من يوم لا يبذل فيه فداء، ولا يغني فيه خليل عن خليله، ولا تنفع فيه شفاعة الشافعين؛ ثم تأكيد لهذا المعنى يمحو كل شبهة يتعلق بها من يعتمد على الشفعاء، ونفى كل سلطان ونفوذ لغير الله، ورفع كل ريبة عن حقيقة يوم الدين.. وذلك كله ليكون البذل عن إيمان وعقيدة سليمة، لا رياء ولا زلفى لأحد، ولكن ابتغاءً لوجه الله الواحد الأحد.

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ، وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ

ثم ينساق الحديث من فضيلة التضحية والإيثار، التي هي أسمى الفضائل الاجتماعية، إلى رذيلة الجشع والاستئثار، التي هي في الطرف المقابل، أحط أنواع المعاملات البشرية "أعني رذيلة الربا، التي تستغل فيها حاجة الضعيف، ويتقاضى فيها المحسن ثمن المعروف الذي يبذله" "275- 279". وكان هذا الاقتران بينهما في البيان إبرازًا لمدى الافتراق بين قيمتهما في حكم الضمائر الحية. وبين هذين الطرفين المتباعدين، يقيم القرآن ميزان القسط في الحد الأوسط، جاعلًا لصاحب الحق سلطانًا في المطالبة برأس ماله كله لا ينتقص منه شيء {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} . غير أنه يحذرنا من سوء استعمال هذا الحق بإزاء المعسرين؛ فيأمرنا أن نتخذ فيهم إحدى الحسنيين: إما الانتظار إلى الميسرة، وإما التنازل لهم نهائيًّا عن الدين. وهذه أكرم وأفضل {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} "280- 281". ولما كان الطابع البارز في هذا التشريع القرآني، وهو طابع القناعة والسماحة، قد يوحي إلى النفوس شيئًا من التهاون في أمر المال، وربما مال بها إلى التفريط في حفظه وتثميره، جاءت آيتا الدَّين والرِّهان "282- 283" تدفعان عن نفوسنا هذا التوهم، وتصوغان للمؤمنين دستورًا هو أدق الدساتير المدنية، في حفظ الحقوق وضبطها وتوثيقها بمختلف الوسائل، تمهيدًا لإنفاقها في أحسن الوجوه.. فمن لم يجد سبيلًا إلى التوثق بوثيقة ما، ولم يبق أمامه إلا أن يكل عميله إلى ذمته وأمانته {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} . وهكذا ختم الشطر العملي من السورة، بهذه القاعدة المثلى، التي هي أساس كل معاملة شريفة، أعني قاعدة الصدق والأمانة، جعلنا الله من أهل الصدق والأمانة ... آمين.

المقصد الرابع من مقاصد السورة

المقصد الرابع من مقاصد السورة: في آية واحدة "284". بعد الإيمان.. والإسلام.. يأتي الإحسان: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . في الآية السابقة، انتهت مهمة الأحكام التفصيلية، عند الحد الذي أراد الله بيانه في هذه السورة؛ وبها ختم الشطر الثاني من الحقيقة الدينية، وهو شطرها العملي؛ بعد أن أرسى شطرها الاعتقادي في الآية 122 وما بعدها. وهكذا تناول البيان حتى الآن: 1- حقائق الإيمان. 2- شرائع الإسلام. هل بقي في بنيان الدين شيء فوق هذه الأركان؟ نعم؛ لقد بقيت ذروته العليا، وحليته الكبرى.. بعد الإيمان.. والإسلام.. بقي الإحسان؛ وهو كما فسره صاحب الرسالة -صلوات الله وسلامه عليه- أن تراقب الله في كل شأنك، وأن تستشعر مشاهدته لك في سرك وإعلانك، وأن تستعد لمحاسبته لك، حتى على ذات صدرك، ودخيلة نفسك.. مطلب عزيز لا يطيق الوفاء به كل مؤمن، ولا كل مسلم؛ إنما يحوم حول حماه صفوة الصفوة من المتقين.. وكأنه لعزة هذا المطلب ونفاسته صان الله درته اليتيمة في هذه الآية الواحدة، التي توج بها هامة السورة: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [284] . الخاتمة: في آيتين اثنتين "285- 286": {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ

وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} . والآن وقد تناول البيان أركان الدين كلها، وألمَّ بعناصره جميعها: الإيمان، والإسلام، والإحسان؛ لم يبق بعد تمام الحديث إلا طي صحيفته، وإعلان ختامه؟ فهل تعرف كيف طويت صحيفة هذه السورة، وكيف أعلن ختامها؟ لنعد بذاكرتنا إلى الآيات الخمس التي افتتحت بها سورة البقرة؛ لنرى كيف تتجاوب تلك المقدمة مع هذه الخاتمة؛ ثم كيف يتعانق الطرفان هكذا ليلتحم من قوسيهما سور محكم يحيط بهذه السورة، فإذا هي سورة حقًّا، أي بنية محبوكة مسورة.. ألم يكن مطلع السورة وعدًا كريمًا لمن سيؤمن بها ويطيع أمرها بأنهم أهل الهدى وأهل الفلاح؟ ألسنا نترقب الآن صدى هذا الوعد؟ بلى؛ إننا ننتظر الآن أن تحدثنا السورة: هل آمن بها أحد، وهل اتبع هداها أحد، ثم ننتظر منها إن كان ذلك قد وقع، أن تحدثنا عن جزاء من استمع واتبع.. وهكذا سيكون مقطع السورة: 1- بلاغًا عن نجاح دعوتها: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ... وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} . 2- وفاءً بوعدها لكل نفس بذلت وسعها في اتباعها: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} . 3- فتحًا لباب الأمل على مصراعيه أمام هؤلاء المهتدين. فليبسطوا إذًا أكفهم مبتهلين: "ربنا.. ربنا.. ربنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين".

الخلاصة

الخلاصة: تلك هي سورة البقرة.. أرأيت وحدتها في كثرتها؟ أعرفت اتجاه خطوطها في لوحتها؟ أرأيت كيف التحمت لبناتها من غير ملاط يمسكها، وارتفعت سماؤها بغير عمد تسندها؟ أرأيت كيف انتظم من رأسها وصدرها وأحشائها وأطرافها، لا أقول أحسن دمية، بل أجمل صورة حية. كل ذرة في خليتها، وكل خلية في عضوها، وكل عضو في جهازه، وكل جهاز في جسمه، ينادي بأنه قد أخذ مكانه المقسوم، وفقًا لخط جامع مرسوم، رسمه مربي النفوس ومزكيها، ومنور العقول وهاديها، ومرشد الأرواح وحاديها.. فتالله لو أن هذه السورة رتبت بعد تمام نزولها، لكان جمع أشتاتها على هذه الصورة معجزة، فكيف وكل نجم منها -كسائر النجوم في سائر السور- كان يوضع في رتبته من فور نزوله، وكان يحفظ لغيره مكانه انتظارًا لحلوله؛ وهكذا كان ما لم ينزل منها معروف الرتبة محدد الموقع قبل أن ينزل؟ ثم كيف وقد اختصت من بين السور المنجمة بأنها حددت مواقع نجومها لا قبل نزولها بعام أو بعض عام، بل بتسعة أعوام؟ لعمري لئن كانت للقرآن في بلاغة تعبيره معجزات، وفي أساليب تربيته معجزات، وفي نبوءاته الصادقة معجزات، وفي تشريعاته الخالدة معجزات، وفي كل ما استخدمه من حقائق العلوم النفسية والكونية "معجزات" ومعجزات، لعمري إنه في ترتيب آية على هذا الوجه لهو معجزة المعجزات!

فهرس الموضوعات

فهرس الموضوعات رقم الصفحة الموضوع 5 تقديم الأستاذ عبد العظيم المعطني. 13 مقدمة المحقق: مع الكاتب والكتاب. 35 مقدمة المؤلف للطبعة الثانية. 37 مقدمة المؤلف للطبعة الأولى. 39 البحث الأول "في تحديد معنى القرآن". 41 المعنى اللغوي والاشتقاقي لكلمتي: "قرآن" و"كتاب". 41 سر التسمية بالاسمين جميعًا. 42 سر اختصاص القرآن بالخلود وعدم التحريف، دون الكتب السابقة. 43 هل يمكن تحديد القرآن تحديدًا منطقيًّا؟ 44 عناصر التعريف المشهور للقرآن. 47 البحث الثاني: "في بيان مصدر القرآن". 49 تمهيد. 49 تحديد الدعوى أخذًا من النصوص القرآنية. 52 طرف من سيرته بإزاء القرآن. 53 فترة الوحي في حادث الإفك. 54 مخالفة القرآن لطبع الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعتابه الشديد له في المسائل المباحة. 57 توقف الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -أحيانًا- في فهم مغزى النص حتى يأتيه البيان. 57 موقف الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من قضية المحاسبة على النيات. 58 مسلكه في قضية الحديبية. 60 منهجه في كيفية تلقي النص، أول عهده بالوحي. 61 طرف من سيرته العامة.

65 المرحلة الأولى من البحث: البحث عن مصدر القرآن. 68 الحقائق الدينية الغيبية لا سبيل للعقل إليها. 69 أنباء المستقبل قد تسنبط بالمقايسة الظنية ولكنها لا سبيل فيها لليقين إلا بالوحي الصادق. 70 أمثلة من النبوءات القرآنية:. 70 ا- فيما يتعلق بمستقبل الإسلام وكتابه ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 75 2- فيما يتصل بمستقبل المؤمنين. 79 3- فيما يتصل بمستقبل المعاندين. 85 فذلكة. 85 المرحلة الثانية من البحث. 85 بيان أن محمدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا بد أن يكون أخذ القرآن عن معلم، والبحث في الأوساط البشرية عن ذلك المعلم. 85 البحث عنه بين الأميين: لا يكون الجهل مصدرًا للعلم. 86 البحث عنه بين أهل العلم. 88 موقف محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من العلماء موقف المصحح لما حرفوا، الكاشف لما كتموا. 92 من زعم أن له معلمًا من البشر فليسمه. 96 حيرة المعاندين واضطرابهم في الجدل قديمًا وحديثًا. 96 نظرية الوحي النفسي ليست جديدة. 99 المرحلة الثالثة من البحث. 99 البحث في ظروف الوحي وملابساته الخاصة عن مصدر القرآن. 100 ظاهرة الوحي وتحليل عوارضها. 104 استئناس بما كشفه العلم في العصور الحاضرة. 106 المرحلة الرابعة من البحث. 106 البحث في جوهر القرآن نفسه عن حقيقة مصدره. 108 النواحي الثلاث للإعجاز. 109 القرآن معجزة لغوية.

109 استقصاء الشبه الممكنة حول هذه القضية؛ تمهيدًا لمحوها واحدة واحدة. 109 "الشبهة الأولى" شبهة غر ناشئ يتوهم القدرة على محاكاة القرآن. 112 "الشبهة الثانية" شبهة أديب متواضع ينسب هذه القدرة إلى غيره من الفحول. 114 "الشبهة الثالثة" شبهة القائل بأن عدم معارضة العرب لأسلوب القرآن ربما كان بسبب انصراف همهم لا بسبب عجزهم. 118 "الشبهة الرابعة" شبهة من قد يظن أن القرآن إن كان معجزًا فليس إعجازه من ناحيته اللغوية؛ لأنه لم يخرج من لغة العرب في مفرداته ولا في قواعد تركيبه. 123 "الشبهة الخامسة" شبهة من يزعم أن عدم قدرة الناس على مجاراة أسلوب القرآن ليس خصوصية للقرآن؛ لأن أسلوب كل قائل صورة نفسه ومزاجه فلا يستطيع غيره أن يحل محله. 129 الانتقال من جلاء الشبهة إلى شفاء الغلة، بكشف جوانب من أسرار الإعجاز. 131 نظرتان في القشرة السطحية للفظ القرآن. 133 1- الجمال التوقيعي في توزيع حركاته وسكناته، ومداته وغُناته. 135 2- الجمال التنسيقي في رصف حروفه وتأليفها من مجموعات مؤتلفة مختلفة. 139 خصائص القرآن البيانية. 141 نظرات في لب البيان القرآني وخصائصه التي امتاز بها عن سائر الكلام، سواء في الفقرة التي تتناول شأنًا واحدًا، أو في السورة التي تتناول شئونًا شتى، أو فيما بين سورة وسورة، أو في القرآن جملة. 143 1- القرآن في فقرة فقرة منه. 143 أسلوب القرآن هو ملتقى نهايات الفضيلة البيانية، على تباعد ما بين أطرافها. 143 "القصد في اللفظ" و"الوفاء بحق المعنى".

147 "خطاب العامة" و"خطاب الخاصة". 148 "إقناع العقل" و"امتناع الوجدان". 151 "البيان" و"الإجمال". 152 دقة التعبير القرآني. 153 تطبيق على آية كريمة. 162 القرآن إيجاز كله، سواء مواضع إجماله ومواضع تفصيله. 164 ليس في القرآن كلمة مقحمة، ولا حرف زائد زيادة معنوية. 165 سر زيادة الكاف في قوله تعالى: "ليس كمثله شيء". 169 الإيجاز بالحذف مع الوضوح والطلاوة. 171 مثال. 174 مثال آخر. 176 2- القرآن في سورة سورة منه: "الوحدة في الكثرة". 178 جمع الأحاديث المختلفة المعاني، المتباعدة الأزمنة، المتنوعة الملابسات، في حديث واحد مسترسل، هو مظنة التفكك والاقتضاب، ومظنة المفارقة والتفاوت. 179 العجيبة الثالثة الكبرى التي خرجت بهذا التأليف القرآني عن طبيعة التأليف الإنساني. 186 إحكام البنيان القرآني وتماسكه. 191 سورة البقرة نموذجًا على تماسك بنيان القرآن وأحكامه. 191 الهدف من اختيار السورة. 192 ضرورة إحكام النظر في السورة كلها. 193 القرآن وتأليفه بين المختلفات. 196 حسن الموقع في التجاور. 196 نظام عقد المعاني في سورة البقرة إجمالًا وتفصيلًا. 197 المقدمة في عشرية آية "1- 20". 198 1- إيقاظ الأسماع وتوجيه للقلوب.

198 2- التنويه بالمقصود. 199 3- بيان آثر القرآن في المؤمنين. 199 4- الحديث عن الكافرين. 200 5- الحديث عن المنافقين. 201 6- التقابل في الحديث عن الطوائف الثلاثة والمؤمنين. 202 7- التمثيل القرآني لطائفتي الكافرين والمنافقين. 207 - المقصد الأول من مقاصد السورة. 208 الأركان الثلاثة للعقيدة الإسلامية. 209 عود على بدء. 210 1- وصف طريقة القرآن في الهداية. 211 2- عود الكلام إلى المقصد الأول بأركانه الثلاثة. 212 - المقصد الثاني من مقاصد السورة. 221 المراحل الأربع التي سلكها القرآن في دعوة بني إسرائيل. 221 إجمالي الحديث عنهم. 221 تفصيل الحديث عنهم. 222 1- ذكر سالفة اليهود. 225 - حلقة الاتصال بين القسمين الأول والثاني. 226 2- ذكر اليهود المعاصرين للبعثة. 232 3- ذكر قدامى المسلمين من لدن إبراهيم. 235 4- ذكر حاضر المسلمين وقت البعثة. 241 - المدخل إلى المقصد الثالث. 242 الخطوة الأولى: تقرير وحدة الخالق المعبود. 244 الخطوة الثانية: تقرير وحدة الآمر المطاع. 247 الخطوة الأخيرة: إجمال الشرائع الدينية. 248 - المقصد الثالث من مقاصد السورة. 258 بعد إصلاح العقيدة.. تفصيل الشريعة.

259 الحلقة الأولى: خلة الصبر. 260 الصبر حين البأس. 261 الصبر في الضراء. 262 الصبر في البأساء. 264 استجمامة. 265 يثبت القلوب على ما مضى، ويوطئ لها السبيل على ما بقي. 266 الحلقة الثانية: الوفاء بالعهود والعقود. 266 تفصيل الشئون الأسرية المتشابكة. 271 الحلقة الثالثة: إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. 285 الفهرس.

§1/1