الميسر في شرح مصابيح السنة للتوربشتي

التُّورِبِشْتِي

كتاب الميسر في شرح مصابيح السنة تصنيف الإمام أبي عبد الله فضل الله بن الصدر الإمام السعيد تاج الملة والدين الحسن التوربشتي المتوفى سنة 661 هـ تحقيق دكتور عبد الحميد هنداوي الناشر مكتبة نزار مصطفى الباز

مقدمة المصنف

مقدمة المصنف بسم الله الرحمن الرحيم (اللهم يسر إتمامه بالخير) الحمد لله الذي شرع لنا الحق وأوضح لنا دليله وشرح لنا [المشتبه] ويسر لنا سبيله، وبعث إلينا عبده ورسوله وصفيه وخليله، فعرفنا [] وحيه وبتنزيله، وبين لنا ما نزل إلينا من الذكر وأوقفنا [فيه] على حد من العلم فألهمنا تأويله. والحمد لله الذي بعثه إلينا مهيمنا على الكتاب، ومبينا وجوه الخطاب، وموردا للوحي والإلهام، ومصدرا للشرائع والأحكام، ومفصلا للحلال والحرام، [ومدربا لطرق] الرشاد، وحاميا [....] السداد، وماحيا للشرك والإلحاد، فضلا من الله ورحمة على العباد والبلاد. فالحمد لله الذي أسعدنا بطاعته، وأكرمنا بمتابعته، وأحسن إلينا بالتوفيق لإيثار دينه، واختيار ملته، ومن علينا بالتيسير لاقتفاء هديه وسنته، حمدا كثيرا طيبا مباركا، لا انقطاع لمدده ولا انقضاء لمدته. ونشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تأتي على ما قدمنا وما أخرنا، وتتدارك ما أعلنا وما أسررنا ونشهد أن محمدا عبده ورسوله المنوه باسمه في التوراة والإنجيل، المكرم وجهه بمعالم التنزيل، صلى الله عليه مبلغ ما خصه به من المواهب الجزيلة، وزنة ما أعد له من الوسيلة وعلى آله أولى السابقة والفضيلة وبعد: فقد أشار إلى عصبة من إخواني بشيراز- رعاهم الله وحماها- أن أشرح لهم المشكل من الأحاديث التي اشتمل عليها كتاب المصابيح الذي جمعه الشيخ الإمام محيي السنة أبو محمد الحسن بن مسعود الفراء- رحمه الله- من كتب الحديث التي هى دواوين الإسلام المنبئة عن السنن والأحكام، الفارقة بين الحلال والحرام، والواردة في فضائل الأعمال، والدالة على نفائس الأحوال، الداعية إلى طريق الخير وسبيل الصواب، الهادية [.....] الأخلاق ومحاسن الآداب. وهو كتاب مبارك، وفيه علم جم من سنن الرسول - صلى الله عليه وسلم - (...) لصحة القصد فيه رزق حسن القبول، فوجدت الشقة في ذلك شاسعة، والسبيل إلى ما سألوه متوعرة، فتوقفت حينئذ مترددا في الإجابة.

ورأيت الربع على الظلع أحرى، والتأخر عن شأو لم أدركه أحجى بعد أن كنت أرى صغو نفسي إليه، وأحس منها النزوع إلى ذلك نظرا إلى ما يقتضيه خفى الهوى، وحكم الجبلة من حب الثناء، والركون إلى الشهرة. ولم أزل في نقد من العزيمة، وفسخ من الهمة نظرا إلى سوابقه ولواحقه، وحذرا من توابعه ورواجعه، حتى تفكرت فيما آل إليه أمر هذا الزمان من قبض علم الحديث بقبض حملته وحفاظه، وقلة اهتمام الناس بكشف معاينه وضبط ألفاظه. ثم إني صادفت همم أهل هذه الديار لا تتعدى في طلب الحديث عن أحاديث هذا الكتاب، ورأيتهم لم يتقنوا حفظها، ولم يحسنوا وعيها، ووجدت فيها ألفاظا كثيرة محرفة عن جهة قصدها، وكان عندي طرف من العلم بها، والمعرفة بوجوهها. فأبى حق الدين وواجب النصيحة إلا كشفها وبيانها. ثم إني تأملت فيما عدى ذلك من مشكل هذا الكتاب، وامتساس حاجة الراغبين فيه إلى معرفته، وأن مجموع ما أشكل منه- وإن وجد- متفرقا في مسانيد أئمة الحديث وكتب أرباب المعاني، وأصحاب الغريب؛ فإن الخطب في تحصيله ليس بهين عليهم؛ إذ هو مفتقر إلى أسباب كثيرة يقصر عنها مقدرة الأكثرين، فدعتني داعية الثواب، وهيجتني نية الاحتساب إلى شرح هذا الكتاب. واستخرت الله تعالى لإسعاف ما ندبوني له فشرح لذلك صدري، واطمأن به قلبي. فناديتهم: إخواني رعاكم الله وحياكم، ورفعكم عن حضيض العادة إلى ذروة العبادة ورقاكم: اعلموا أن علم الحديث تسمو إليه الهمم، ويمتد نحوه الأعناق، ويقف عليه الآمال. به يستكشف مبهمات الكتاب، ويستدرك حسن المآرب، وتناوله على سبيل السبك والإتقان يستدعي علوما جمة منها المطلع عليها، ويفتقر إلى أسباب كثيرة هى المرقاة إلى الوصول إليها. وكتاب المصابيح لما فيه من أمهات السنن وجوامع الكلم يفتقر في البيان إلى سائر أنواع علم الحديث؛ ثم إنه لا يخلو عن نبذ ما سوى ما أشرنا [..... ولا ير بعضها أئمة الرواة]. ومجمل الكلم عندي (والله أعلم) أنه ألف محذوف الأسانيد فرغب عنه رجال الحديث،

وتناولته ألسنة أناس لم يكن لهم دربة بهذا [العلم] فحرفوا وصحفوا وزادوا ونقصوا، وتخطبوا في أسامي الرواة وغلطوا، وإني إن شرعت في اقتفاء تلك الأبواب، واستفتاحها على منهاج أهل الصنعة: حال بيني وبين ما أحاوله بعض ما أشير إليه من العلوم والأسباب. وهذا علم قد تغيرت بهجته وتضوحت زهرته، بل حقق اختلاسه، وطوى بساطه، وقد كان معظم غمرته بالعراق وخراسان فلما اكتنفتها الفتن، وتركت سيوف الأعداء أهلها عباديد متفرقين، تلفظهم البلاد، وتتجهمهم الأمصار لم يبق من رجال هذا العلم في تلك الديار ديار، وذهب بذهابهم المسموعات، واضمحلت بخرابها المؤلفات. وحين فقدت الأنصار، وعدمت الأسباب، رأيت أن أقتصر من ذلك على ما لا يسع الطالب جهله، وأن أكتفى من البيان بما يفتح الغلق عن متون الألفاظ ومبانيها، ويستكشف بمقدار الضرورة عن مباحثها ومعانيها، متنكبا عن التعسف في مذاهب الإسهاب، والاشتباط. وأن لا أتعرض في الأحكام لمجال النزاع ومواضع الاستدلال؛ إلا إذا دعت الحاجة إليه في بيان الحديث ونفي التناقض والإحالة عن كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن أكثر الناس لاحظ لهم فيه؛ مع أنه أمر قد فرغ منه، وباب قد أتى عليه، فإن ظفرت بمعنى على طريق الفهم، ويتعلق به بيان الحديث؛ فسأشير إليه غن شاء الله تعالى. والمرجو من الله المنان أن يمدني بحسن التوفيق وألا يكلني إلى نفسي فتنزل قدمي، ويخطئ نظري، وأن يجعل ذلك لوجهه الكريم؛ فإن ما أريد به وجهه لا يثمر خزيا، ولا يعقب ندامة، ولا يزداد على ممر الأيام إلا بهجة وطراوة. ولقد بلغني أن أبا عبد الله بن أنس الأصبحي- رحمة الله عليه- لما صنف كتابه الموسوم بالموطأ سمع به عبد الله بن وهب المصري، فصنف كتابا وسماه بالموطأ فأخبر بذلك مالك، فقال: ما كان لله يبقى، وأشار بذلك [إلى ما أخذه على] نفسه من صدق النية وصحة العزيمة. ونحن نسأل الله تعالى أن يحول بيننا وبين ما نحاوله أشرا ورياء واتباعا للهوى حتى يخلص فيه النية؛ فإن استمتاع كل أحد بعلمه على مبلغ عمله بالعلم، ومقدار خلوص النية فيه. أخبرنا الإمام شهاب الملة والدين أبو الفضائل عبد الوهاب بن صالح بن محمد المعزم إمام الجامع العتيق بهمذان أنبأ الحافظ أبو جعفر محمد بن علي الهمذاني، أنبأ أبو الخير محمد بن موسى بن عمران الصفار أنبأ أبو الهيثم محمد بن علي الكشميهني محمد بن يوسف

الفربري أنبأ أبو عبد الله محمد بن إسماعيل الجعفي البخاري ثنا الحميدي حدثنا سفيان ثنا يحيى بن سعيد أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول: سمعت عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- على المنبر يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى). وأسأل الله تعالى أن يهديني وإياكم إلى سواء السبيل، وأن يوفقنا لاتباع سنة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو الصراط المستقيم. وأن يجيرنا عن اتباع (الأهواء) واقتفاء البدع [والضلالات]، وأن يستر لنا عيوبنا جليها وخفيها، ويغفر لنا ذنوبنا ظاهرها وباطنها؛ إنه ولي الإجابة.

بداية شرح المصنف للكتاب الكلام على مقدمة الشارح ذكر ما يحتاج إلى البيان في عنوان الكتاب قوله: (وربما سميت في بعضها الصحابي الذي يرويه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعنى دعا إليه). تنبيه: يوجد ذلك المعنى على وجوه كثيرة يعسر استيعابها حصرا وتعدادا؛ فنذكر منها أمثلة تحل عقدة الإشكال عن قوله، فنقول: إن الحديث الواحد ربما روى عن جمع من الصحابة بطرق شتى وألفاظ مختلفة يرويه كل واحد منهم على سياق آخر؛ فإذا حدث المحدث به وساقه على سياق واحد: ذكر الصحابي الذي يرويه على ذلك السياق ليتميز حديث بعضهم عن البعض. والوجه الآخر: أن يروي أحد الصحابة حكما مطلقا ويرويه الآخر مقيدا؛ فيذكر الراوي حينئذ رفعا للخلاف، ودفعا للالتباس. والوجه الآخر: أن يسند الحديث إلى جمع من الصحابة بروايات مختلفة، وبعضها لا يكاد يصح؛ إما لضعف في الرجال أو خبط في الإسناد، أو انقطاع فيه، فيعين الصحابي (دفعا للشبهة) وقطعا للاعتراض. والوجه الآخر: أن يعارض الحديث حديث آخر، ويكون في ذكر الراوي حصول معرفة التقدم والتأخر اعتبارا بزمان الصحابة، والاستشهاد في علم الناسخ والمنسوخ، والفرق بين السابق واللاحق فيذكر الراوي الاستدلال والاحتجاج وإن شذ عن هذه الأمثلة ونظارها في القياس شيء؛ فالظاهر أنه أثبت على حاشية الكتاب فألحق بالأصل. ومن الدليل على هذا أنا لا نجد أكثر النسخ في كر الصحابي على وتيرة واحدة، وأن أكثر أحاديث هذا الكتاب مقترن بذكر الصحابي الذي يرويه. والمؤلف أشار بحرف التقليل إلى ما هو دون ذلك فقال (وربما سميت) والله أعلم. قوله: أعني بالصحاح ما أخرجه الشيخان أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري وأبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري- رحمهما الله- في جامعيهما أو أحدهما. وبالحسان ما أورده أبو داود وأبو عيسى وغيرهما في تصانيفهم. أشار بقوله: (أعني) إلى مصطلحه الذي وضعه للتفريق بين الدرجة الأولى من الصحيح التي صنف عليها كل واحد من كتابي إمامي أهل الصنعة وبين ما دون ذلك في الدرجة، ولهذا استدركه بقوله: وأكثرها صحاح، ولم يرد بهذا القول نفي الصحة عما عداها؛ إذ هو قول يفضي إلى تعطيل أبواب كثيرة من السنة.

وقد قال الحاكم أبو عبد الله الحافظ البيع النيسابوري وهو أحد المعتبرين في معرفة أقسام الحديث ورجاله: الصحيح على عشرة أقسام، خمسة منها متفق عليها وخمسة منها مختلف فيها، قلت: ولم يحتو كتاب الشيخين إلا على القسم الأول منها. وأحاديث المصابيح على ما تبين لنا لا تتجاوز عن كتب هؤلاء الأئمة أبي عبد الله البخاري، وأبي الحسين القشيري وأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، وأبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي، وأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، وأبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي السمرقندي، وأبي عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه القزويني رحمهم الله. قوله: (وأكثرها صحاح إذا كثر [......] ثبوتها بطريق حسن) معنى هذا الكلام أن أحاديث كتاب المصابيح ملتقطة [... ذكر الأحكام] التي تقدم ذكرها والأحكام إنما تثبت بأسانيد/ مقبولة عن رجال مرضيين، وبيان ذلك أن كتب الحديث مخرجة لا على الأبواب وإنما على التراجم فما كان منها على تراجم الرجال فإن المؤلف يذكر فيها الغث والسمين؛ لأنه إذا قال مسند أبي بن كعب- رضي الله عنه- يذكر سائر ما انتهى إليه مسندا عن طرق رواة أبي صحيحا كان أم سقيما حتى يأتي على جميعه عن المعدلين والمجروحين وما كان على الأبواب فإنه يذكر باب الطهارة ويأتي فيه من الأحاديث بما يصلح للاستدلال به. فإن قيل: إنا نجد في كتب الأحكام من الأحاديث ما يشهد عليه جامع الكتاب بالضعف فإن المؤلف لا يذكر في مؤلفه حديثا ضعيفا عنده في الأحكام إلا وقد علم أن لغيره فيه متمسكا على حسب المعرفة به والاجتهاد فيه ألا ترى أن المراسيل لا تكون حجة عند كثير من العلماء وعند بعضهم يلزم العمل بها ثم إن أكثر مباني هذا القول على الجرح والتعديل وكلاهما مختلف فيه بين الأئمة فربما يكون ضعيفا عنده قويا عند غيره. قوله: (وما كان فيها من ضعيف أو غريب أشرت إليه) فأما الغريب ما يتفرد به ثقة من الثقات ولا يكون له طرق مخرجة في الكتب وهو نوع من أنواع الصحاح دون النوع الذي يشتمل عليه كتاب البخاري ومسلم. وأما الضعيف فإنه يوجد من وجوه فتارة يكون لضعف بعض الرواة من المردودين بنوع من أنواع الجرح على ما يذهب إليه المجتهد من عدم العدالة أو الرواية عمن لم يره، أو سوء الحفظ أو تهمة في العقيدة أو عدم المعرفة بما يحدث به أو الإسناد إلى من لا يعرف في الرواة/ وتارة لعلل أخر مثل الإرسال والانقطاع والتدليس ونحوها. والإرسال: أن يذكر رواية التابعي عن

النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير ذكر الصحابي. والانقطاع هو انقطاع الإسناد وذلك أن يروي الراوي عمن لا يمكن أنه رآه. والتدليس أن يقول المحدث: قال فلان، أخبرنا فلان، وقد أدرك فلانا الذي رآه إلا أن بينه وبين من يروى عنه الحديث الذي دلس فيه راو آخر ترك ذكره ليوهم أنه سمعه من شيخ شيخه. ومن جملة الوجوه أيضا الاضطراب في الإسناد وهو: أن يروى الحديث عمن دونه (4/ب) أو فوقه، أو يرفع الحديث تارة، ويوقفه أخرى. -والمرفوع ما أسنده إلى النبي (- صلى الله عليه وسلم -)، والموقوف ما لم يتجاوز فيه عن الصحابي إلى النبي (- صلى الله عليه وسلم -). واعلم أن الحديث الضعيف ليس ساقط الاعتبار مطلقا على ما ذكرناه، وربما يكون فيه ما يؤيده القياس الجلي فيعمل به مع ضعف الإسناد. وكثير من المجتهدين عملوا في بعض الأحكام بالحديث الضعيف عند أهل النقل وتركوا العمل بما صح إسناده لما يشهد له قضية الحال ويقتضيه النظر والاستدلال، وإني إنما سلكت هذا المسلك من الإطالة في شرح تلك الكلمات لئلا يجترئ من لا علم له بأساليب الحديث وطرق الرواية بمجرد الوهم الحاصل عن تقليد من يحسن ظنه فيه على الطعن فيما نقل من أحاديث الرسول (- صلى الله عليه وسلم -) والقول الموجز الجامع أن نقول: الحديث على ثلاثة أنواع: صحيح: وهو ما اتصل سنده، وعدلت رواته، وهو النوع المتفق عليه وقد ذكره الحاكم أبو عبد الله في خمسة أقسام. وحسن: وهو ما عرف مخرجه واشتهر رجاله وهو النوع المختلف فيه على ما ذكره الحاكم في خمسة أقسام. وسقيم: وأقسامه ثلاثة: موضوع، ومقلوب، ومجهول. فالموضوع: ما صح عند أهل الحديث وضعه. والمقلوب: ما قلبه القلابون متنا وإسنادا. والمجهول: ما لا يعرف أئمة الحديث مخرجه ويكون مداره على من لم يعرف في رجال الحديث أصلا، فالمنكر الذي أشار إليه الشيخ في عنوان كتابه لا يخرج عن هذين القسمين أعني المقلوب والمجهول، وقد يوجد في كتابه بعض ذلك مع تبريه عنه وسننبه عليه في موضعه إن شاء الله.

كتاب الإيمان

كتاب الإيمان [1] قوله (- صلى الله عليه وسلم -): (إنما الأعمال بالنيات ...) الحديث يرويه عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-. النية: العزيمة، وهي قصد القلب وتوجهه على الشيء. أشار - صلى الله عليه وسلم - بكلمة (إنما) إلى أن قوام الأعمال بالنيات وأن لا عبرة بالأعمال إذا خلت عن النيات؛ لأنها العاملة بركنيها إيجابا ونفيا، فبحرف التحقيق تثبت الشيء وبحرف النفي تنفى ما عداه وهذا كما يقال: إنما الأجساد بالأرواح، أي قيام الأجساد وحيويتها بالأرواح. ولو قيل إنه أراد به [...] فله وجه محمل، كما يقال: إنما المرء بأصغريه. وليس في هذا القول تعريض بتهوين أمر النية وإنما فيه التنبيه على استخلاصها عن النقائص والإتيان بها على صفة الكمال. وقوله (- صلى الله عليه وسلم -): (وإنما لامرئ ما نوى) يؤكد كلا المعنيين، ويشير إلى أن حس القبول منوط بحسن النية، ومقادير المثوبات على مراتب النيات في قوة العزيمة والتخلص عن شوائب الرياء، والتجرد عن دسائس الهوى. وقوله - صلى الله عليه وسلم - (فمن كانت هجرته إلى الله وإلى رسوله) أي فمن كانت نتيه في الهجرة الهجرة إلى الله وإلى رسوله فهي كما نواها، فهجرته إلى الله وإلى رسوله. (ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها): دنيا: مقصورة غير منونة؛ لأنها على بناء فعلي؛ فلا يجوز فيها التنوين. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (أو امرأة يتزوجها): لهذا القول سبب رواه جمع من أئمة الحديث في كتبهم عن عبد الله ابن مسعود- رضي الله عنه- وهو أنه قال: هاجر رجل من مكة إلى المدينة بسبب امرأة يقال لها أم قيس فقالوا له هذا مهاجر أم قيس. فكأنه - صلى الله عليه وسلم - عرض بهذا القول توبيخا على صنيعه وتنبيها له على الإنابة عن ذلك، وتذكيرا لأهل الاعتبار. أورد الشيخ هذا الحديث في عنوان كتابه تأسيا بجمع من العلماء استحبوا تقديم هذا الحديث في كتبهم تفاؤلا بحسن النية وتيمنا بهذا الحديث منهم البخاري رحمة الله عليهم.

[2] حديث عمر بن الخطاب: (بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) إذ طلع علينا بين أوقات جلستنا بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبينا: فعلى. أشبعت الفتحة فصارت ألفا، وبينما: زيدت عليها (ما). والمعنى واحد. يقول: بينا نحن نرقبه أتانا. أي أتانا بين أوقات رقبتنا إياه. وفيه: (إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب). قد علمنا بهذا الحديث وبما ورد في معناه من الأخبار الصحيحة التي تنقطع العذر دونها؛ لحصول التواتر فيها أو في جنسها أن جبريل- عليه السلام- كان يتمثل بشرا، وتلك الهيئة لم تكن مختصة به لما ثبت من نزول الملائكة يوم بدر ويوم حنين وفي غزوة الخندق وغزوة بني قريظة للنصرة متمثلين في صورة الرجال، وقد شهد التنزيل بأن الملك يتمثل بشرا، قال الله تعالى: {فتمثل لها بشرا سويا}. ولكن هل لعموم الملائكة التجلي في صورة البشر أم لا؟ فسبيل ذلك التوقيف وإن كان العقل يجوزه، أو يحكم به؛ لأن الوقوف على أمثال ذلك مقطوعا به لا يحصل إلا من طريق النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومقولات أبناء الضلالة في هذه المسألة بمعزل عن ذلك. مذهب أهل الحق أن الملك إذا تجلى في صورة بشر فذلك بأمر الله- تعالى- وتكوينه لا بقوة الملك وتصرفه في ذاته وقدرته على ذلك واختياره فغنه مقدور مقهور لا يقدر على شيء من ذلك والله القادر على كل شيء. ولو اعتبرت المناسبة بين الهيئة التي تراءى فيها الملك وبين الحالة التي كان عليها لسوغ أن يقال: شدة بياض الثياب لصفاء الأعمال وكمال النورانية، وشدة سواد الشعر مناسب لكمال القوة الملكية. وفيه إشارة إلى طلب العلم في ريعان الإدراك، وعنفوان الشباب، وإلى إيثار النظافة والنقاوة للحضور في المجالس السادة. قوله: (ووضع يديه على فخذيه): الضمير في يديه وفخذيه يعود إلى جبريل، عليه السلام، ولو ذهب مؤول إلى أن الضمير في فخذيه عائد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر عليه لما يدل عليه نسق الكلام من قوله (وأسند ركبتيه إلى ركبتيه) غير أنا نذهب إلى الوجه الأول؛ لأنه أقرب إلى التوقير، وأشبه بسمت ذوي الآداب. ونقوا: إن الراوي استغنى في الكلمتين الأوليين عن الإيضاح بإضافة الثانية إلى مظهر اتكالا على ما

في الركبتين من البيان؛ ثم إنه أجرى الكلمتين الأخريين على تلك الوتيرة معمولا في ذلك على فهم السامع الذي أخبرناه. قوله - صلى الله عليه وسلم - في بيان الإيمان: (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته ... الحديث). هذا حديث جامع لأصول الدين. ولو آثرنا إشباع القول في بيان مسائل الإيمان، واستقصينا البحث عن مواقع الخلاف بين أهل العلم وأهل اللسان؛ كنا قد تعدينا عن شريطة الإيجاز في البيان؛ ثم إن الحديث ذو شجون والأنفاس غير متناهية. والأولى والأمثل لأمثالنا أن نكتفي بما اتفق عليه الأمينان: أمين أهل الأرض، وأمين أهل السماء عليهما السلام. ولقد رأينا أن نستكشف عن حقيقة معنى لفظ الإيمان من طريق الوضع والاشتقاق ليكون طالب معنى الحديث منه على بصيرة، فنقول: الإيمان مشتق من الأمن وهو طمأنينة النفس وزوال الخوف، والتصديق والتحقيق هو الغرض المبتغى عنه عند الإطلاق؛ لأن ما اعتقده الإنسان وصوره في نفسه يدخل فيه الشك واليقين، وما سمعه يحتمل الصدق والكذب؛ لأن الأمر والنهي كل واحد منهما بالنسبة إلى المخاطب به قول يتردد بين الرد والقبول، فمن عرف حقا فأيقن به حتى يجد في نفسه استحالة أن يكون باطلا فكأنما آمن نفسه أن يعتريه فيه شك أو يصده عنه شبهة، ومن سمع خبرا واعتقد أنه صدق حتى لا يستشعر عن نفسه جواز أن يكون كذبا فكأنما آمن نفسه باعتقاد ما اعتقده فيما ألقى من أن يكون مكذوبا أو ملبسا عليه. ومن بلغه أمر أو نهي فاعتقد فيه الطاعة حتى لا يرى لنفسه في الترك أو الإتيان مسلكا؛ فكأنما آمن نفسه باعتقاد ما اعتقده فيما أبلغ إليه من أن يكون مظلوما أو محمولا على ما لا يجب قبوله. وعليه فقول المؤمن: آمنت: أي حق لي ما رأيته بقلبي وأدركته بعقلي وبدا لي صدق ما سمعته بأذني فآمنت نفسي عن الخطأ فيه والارتياب وآمنت الداعي لي إلى سبيل الرشاد عن التكذيب والشقاق بما أضمرت له وأظهرت له من التصديق والوفاق والإيمان بإثبات الباري سبحانه وإثبات وحدانيته وقدمه وعلوه عن سمات الحدوث، وتفرده بالإبداع والاختراع وإثبات أن وجود كل ما سواه كان بعد إيجاده، وأنه مدبر ما أبدع ومصرفه على ما يشاء، وإن كان تقتضيه العقول السليمة، ويستعد لقبوله الأوضاع الفطرية؛ فإن سبيل الوقوف على أسماء الله تعالى وصفاته وموجبات مرضاته وسخطه والاستعداد للمعاد في النشأة الثانية، وغير ذلك من الأمور التي لا يقع تحت الحواس ولا تقتضيها بذاتها العقول هو التوقيف من عند الله بواسطة الأنبياء عليهم السلام، وإنما انتهى علم ذلك إليهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وقد بعثهم الله تعالى إلى عباده بذلك تنبيها لهم على ما ندبوا إليه للبعث بعد الموت. وقد أخبر الله تعالى أنه عالم بما هم عاملون له، وحاكم بما هم صائرون إليه، ولا يمكن أن يكون خلاف ما علم وحكم به، فلم يكن الإيمان بالله وحده ينفعهم دون الإيمان بما أخبر عنه الأنبياء عليهم السلام على ما ذكرنا؛ فلهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ... الحديث). فذكر الأصول الستة التي هي حق اليقين، ومناط الدين، وعروة العرفان، وذكر فيه القدر من [جملة

الأهواء المضاه [لأن مذهب القدرية يضاهي من بعض الوجوه مذهب الثنوية في القول بالأصلين وهما النور والظلمة فإضافة الخير في الفعل إلى النور وإضافة الشر إلى الظلمة، وفي تفسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإيمان بالتصديق بهذه الجملة متمسك لمن يذهب إلى تكفير القدرية قياساً على ما يقدمه من الأصول. وأكثر السلف يتنزهون عن إطلاق القول بذلك وهو الصواب؛ لأنهم تشبثوا بشبه أسندوها إلى ظواهر بعض النصوص واستدلوا على إثبات ما ذهبوا إليه بتأويلات زائغة عن منهج الحق زينت لهم واستحكمت في نفوسهم وليس الأمر في التكذيب بما سواه من الأصول التي ذكرت في الحديث كذلك. قلت: وفي سياق هذا الحديث على هذه الرواية- على ما روى في المصابيح- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر على وتيرة واحدة عطفاً للاسم على الاسم من غير فاصلة فلما انتهى إلى ذكر القدر كرر لفظ الإيمان فقال وأن تؤمن بالقدر خيره وشره ولم يقل والقدر خيره وشره نوع من التنبيه على المعنى الذي أشير إليه والله أعلم. قوله عليه السلام فأخبرني عن الإسلام. الإسلام الانقياد للحق والإذعان له بقبول الشرائع والتزام الفرائض على أنها صواب وحكمة وعدل وهو في الحقيقي إظهار الطاعة لمن آمن به والإتباع لمن آمن به ولابد لإظهار الطاعة من أن يكون مسبوقاً بالتصديق على ما ذكرنا حتى يصح قبول الشرائع عن الله وعن رسوله فلهذا بدأ جبريل عليه السلام بالسؤال عن الإيمان ثم أردفه بالسؤال عن الإسلام مقترناً بفاء التعقيب ليفيد المعنى الذي أشير إليه، فسأل عما يقتضيه الإيمان بالله وبرسوله وبما أخبر الرسول عنه من إعلان كلمة التوحيد وقبول الأمر وإظهار الطاعة وهو الإسلام وأمهات أصوله الأركان الخمسة التي اخبر عنها الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ثم قال (فأخبرني عن الإحسان) وذلك أن المؤمن بالله ورسوله، وبما أخبر هو عنه إذا قام بقبول الأمر وإظهار الطاعة فينبغي أن يطالب نفسه بالاستقامة على حسب الطاقة ببذل المجهود في إخلاص العبادة لوجه الله الكريم ومجانبة الشرك الخفي والعبادة لله الذي لا تنبغي العبادة إلا له على [...] والتعظيم حتى كأنه ينظر إلى الله فرقاً منه وحياء وخضوعاً له وإجلالا وإلى ذلك أشار بقوله - صلى الله عليه وسلم - (اعبد الله كأنك تراه) ولقد وجدت في المتأخرين زماناً ومنزلة ممن أفضى به جهله بأصول الدين وعلوم الشريعة إلى القول بإثبات رؤية الله تعالى للأولياء وخواص المؤمنين في هذه الدار الفانية من يظن أن له متمسكا في قوله - صلى الله عليه وسلم - (فإن لم تكن تراه فإنه يراك) وهذا قول زائغ ومذهب باطل لعدم التوقيف في جوازه ودلالة النص على خلافه وذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - (فإنه لن يرى أحدكم ربه حتى يموت) وقوله - صلى الله عليه وسلم - (الموت قبل لقاء الله) الحديث الأول رواه أبو أمامة والثاني الذي روته عائشة- رضي الله عنها- وكلا الحديثين صحيح أخرجه مسلم في جامعة وهذا المتوهم الذي دحض في قوله أتته المحنة من قبل جهله بوجوه كلام العرب فظن أن في قوله (فإن لم تكن تراه) دليلا على جواز أنه يراه فلم يفهم المراد منه والنبي - صلى الله عليه وسلم - أراد بهذا القول إرشاد العباد إلى رعاية حق التعظيم في عبادته واستشعار الخوف منه والتوجه إليه على حال اليقين حتى كأنهم ينظرون إليه وإلى

هذا المعنى أشار أبي بن كعب- رضي الله عنه- في قوله: (ففضت عرقا وكأني أنظر إلى الله فرقاً). وأراد بقوله (فإن لم تكن تراه) أن العبرة في تعظيم من عظمته وتأديب بين يديه برؤيته إياك وإطلاعه عليك لا برؤيتك إياه فاعبده على يقين من هذه الحالة (فإن لم تكن تراه فإنه يراك) وهذا مثل قول القائل: فإن لم تكن تعلم الغيب فإن الله يعلمه فهل يلزم من هذا القول إثبات علم الغيب لأحد دون الله سبحانه ومن هذا القبيل في هذا الحديث ما يتعمق فيه المتشدقون أبعدهم الله فقد أبعدوا في المرمى ويقولون: إن جبريل قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - حين أخبره عن الإيمان والإسلام صدقت وأمسك عن هذا القول حين أخبره عن الإحسان ولا يخلو هذا عن فائدة فرأيت أن أبينه لئلا يغتر به مغتر ولا يقدم على تأويله متكلف فيضر به نفسه ويفتتن به غيره ولقد فهمت قصدهم فيه ولم أر أن أتعرض لإيضاحه لما فيه من سوء الأدب. فأقول وبالله التوفيق إن هذا الحديث من رواية عمر بن الخطاب رضي الله عنه مخرج في كتب الأئمة مسلم وأبي داود وأبي عبد الرحمن وأبي عيسى وسياقه في كتابي مسلم وأبي داود على هذا الوجه غير أن سؤاله عن الإسلام مقدم على سؤاله عن الإيمان وفي كتاب أبي عيسى وغيره: الأسئلة [... .] بترتيب [... .] في كتاب المصابيح [... .] لم يذكر في شيء من الحديث [... .] وانتهى إلى قوله: (فإن لم تكن تراه فإنه يراك) ثم روى الراوي بعد ذلك عن عمر- رضي الله عنه- أنه قال: في كل ذلك يقول: له: صدقت. وقد أخرج مسلم هذا الحديث في كتابه عن أبي هريرة رضي الله عنه وذكر الأسئلة الثلاثة على هذا الترتيب عن أبي هريرة رضي الله عنه وذكر بعد جواب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن جبريل قال صدقت في الأجوبة الثلاثة فتبين لنا أن جبريل عليه السلام أردف الأجوبة الثلاثة بالتصديق، وإنما وقع الترك فيما اعترض عليه المعترض من قبل بعض الرواة في هذا السياق، إذ قد صح ما ذكرناه بطرق مرضية وروايات صحيحة والعجب من جرأة من تخوض في مثل هذا القول بالظن والتخمين، والحديث الصحيح محكم بخلاف ما يشير إليه وكان من حق الإيمان أن ينتهي عن ذلك وإن لم يبلغه الحديث على ما نقلناه فإن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - هو الصادق المصدوق في سائر ما يخبر به وهو معصوم عن العوج في أمر الدين غير منسوب إلى القصور والتقصير. قوله عليه السلام (فأخبرني عن الساعة) قد علم جبريل عليه السلام أن علم الساعة مما استأثر الله به

وإنما سأل عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - ليسمع الأمة بما يجيب عنه فيعلموا أن العلوم المكنونة مع معرفة أماراتها بمعزل عن دركتها العقول فضلاً عن رجم الظنون فيقفوا على حد الأدب وينتهوا إلى معالم العبودية ولا يتطلعوا إلى

البحث عنه والخوض فيه وقد كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الساعة فانزل الله تعالى: (يسألونك عن

الساعة أيان مرساها). الآية وأنزل: (يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله) الآية فلم يسأل عنها

بعد ورود التنزيل إلا متكلف أو متعنت [... .] أو جاحد وربما كان من الصحابة من خامر ضمائرهم

باب الكبائر وعلامات النفاق

طمع إلى التطلع إليه فتحدثهم [... .] أن علم الساعة وإن كان مكتوماً عن الخلق فليس بمستنكر من فضل الله على نبيه [... ..] قضاء ذلك [... ..] فينهى منه إلينا فيبقى

البواطن نازعة إليه منازعة فيه وذلك في الطباع البشرية والنفوس مجبولة على التطلع إلى معرفة ما غيب عنه

فصل في الوسوسة

وكل ما خفي] عليها فربما ... [ويشير إلى هذا المعنى قوله سبحانه (ثقلت في السموات والأرض). وفي العرض ما بين رمل بيرتي إلى منقطع السماوة اسم بادية في طريق الشام وقال الأصمعي هي إلى أقصى عدن أبين الحائض عدنانين إلى موضع أطراف اليمن حتى تبلغ أطراف بوادي الشام، وهذا القول قريب الحدود التي بيناها بالبحار والأنهار ومنقطع البوادي وقال مالك بن أنس رحمه الله هي مكة والمدينة واليمن قلت وهذا القول لا يخالف ما ذكرناه، لأن المواضع التي بيناها بالحدود منضمة إلى الحجاز أو إلى اليمن والله أعلم.

(من الحسان) [50] حديث عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (إن للشيطان لمة بابن آدم). الحديث. اللمة من الإلمام وهي الخطرة والزورة والأتية ومعناه النزول به والقرب منه أي يقرب من الإنسان] هذين [السبيلين: وقيل اللمة الهمة يقع في القلب والإيعاد في اللمتين من باب الإفعال ومن الناس من يتخبط فيهما فيرويهما على زنة الافتعال ومنهم من يرويه في اللمة الأولى على (الإفعال) وفي الثانية على (الافتعال) والرواية المعتد بها في الموعين على زنة الإفعال، والوعيد في الاشتقاق اللغوي كالوعد إلا أنهم خصوا الوعد بالخير والوعيد بالشر للتفريق بين المعنيين بهذين اللفظين ولما كان المبدوء بذكره في هذا الحديث لمة الشيطان ذكره بلفظ الإيعاد ثم أجرى اللفظ الآخر الذي هو من باب الوعد بالخير في اللمة الثانية مجرى الأول على سبيل الإتباع والازدواج مع حصول الاستغناء عن الفارق بين الوعد والوعيد بكلمة الخير والشر والذي يرى أنه من باب الافتعال فإنه لم يأت بشيء سوى أنه حرف اللفظ عن منهاج الرواية وغير المعنى، لأن الاتعاد يستعمل على وجهين على معنى قبول الوعد وعلى اتعاد القوم بعضهم بعضا في الشر يقال تواعد القوم أي وعد بعضهم بعضا في الخير واتعدوا إذا وعد بعضهم بعضا في الشر ولا وجه لإحدى الصورتين في هذا الحديث.

[52] ومنه حديث عمرو بن الأحوص- رضي الله عنه- سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع) الحديث. قال البخاري إنما سمى حجة الوداع؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قال هل بلغت وقالوا نعم طفق يقول اللهم فاشهد ثم ودع الناس فقالوا هذه حجة الوداع. قلت: وفي حديث أبي أمامة- رضي الله عنه- أنه قال يوم حجة الوداع: يا أيها الناس أنصتوا فإنكم لعلكم لا تروني بعد عامكم هذا) وقد أشبعت القول (8/ب) في معنى حجة الوداع في كتابي الموسوم (بطلب الناسك في علم المناسك) فمن ابتغى الزيادة على ما أشرنا إليه فليطلبه هنالك من كتابنا ذلك. قوله - صلى الله عليه وسلم - (ألا لا يجني جان] إلا [على نفسه) من حق هذا القول من طريق المعنى أن يجعل لا ينهي كيلا يخلو الكلام عن الفائدة؛ لأن الجاني إذا جني فإنما يجني على نفسه وبجنايتها يؤخذ في الدنيا والآخرة فكيف ينفي عنه الجناية، فالظاهر أن إثبات الياء في قوله (يجني) غلط من بعض الرواة أو تركوه على رسم الخط من غير حذف وكثيراً نجد من هذا الباب في كتب الحديث، ومن الدليل على صحة ما ذهبنا إليه أن في بعض طرق هذا الحديث (ألا لا يجني جان إلا على نفسه)، وبيان ذلك: أن أهل الجاهلية كانوا يرون أخذ الرجل بجناية غيره من ذوي الرحم وأولي القرابة فربما قتل الوالد أو الولد فقتل أحدهما مكان الآخر وكذلك القريب والحميم فأعلمهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الجاني إنما يجني على نفسه لا على غيره فلا يؤخذ مولود بجناية والده ولا والد بجناية مولوده وإنما اقتصر على ذكر الوالد والولد؛ لأن نسبهما أقرب الأنساب وسببهما آكد الأسباب وهما الأصلان يتفرع عنهما الأنساب والقرابات فإذا جعل هذا الحكم منفيا عن الأصل فالبحري أن يكون منفيا عن الفرع والله أعلم. الإيمان بالقدر (من الصحاح) [53] من الصحاح (حديث عبد الله بن عمرو- رضي الله عنه- (كل شيء بقدر حتى العجز والكيس) والقدر: اسم لما صدر مقدراً عن فعل القادر والكيس: جودة القريحة وإنما أتى به في مقابلة العجز؛ لأنه هو الخصلة التي تفضي بصاحبها إلى الجلادة وإتيان الأمور من أبوابها وذلك نقيض العجز ولهذا المعنى كنوا به عن الغلبة فقالوا كايسته فكسته أي غلبته والعجز ههنا- عدم القدرة وقيل هو ترك ما يجب فعله

بالتسويف فيه والتأخير له والعجز والكيس روى بالرفع والخفض عطفاً على كل أو على شيء والأوجه أن يكون في الكسر حرف خف بمعنى إلى وكلاهما جائز وفى الرواية الخفض أكثر والمعنى المراد من الحديث يقتضي أن يكون بمعنى الغاية؛ لأنه أراد بذلك أن أكساب العباد وأفعالهم كلها بتقدير خالقهم حتى الكيس الذي يوصل صاحبه إلى البغية والعجز الذي يتأخر به عن درك البغية والله أعلم. [54] ومنه (حديث أبي هريرة رضي الله عنه احتج آدم وموسى)] 9/أ [الحديث. هذا حديث يتمسك به المجبرة ومنكر القدرية وكلا الفريقين على جرف هار من الإفراط والتفريط إذ لا يقدر أحد أن يسقط الأصل الذي هو القدر ولا أن يبطل الكسب الذي هو السبب، فإن ذلك من أصول الدين ومعالم الإيمان وليس معنى قول آدم عليه السلام: (كتب الله على) أي ألزمه إياي وأوجبه على فلم يكن لي في الشجرة كسب ولا اختيار وإنما المعنى: أن الله أثبته في أم الكتاب وكتب في اللوح قبل كونه أنه سيكون وحكم بأن ذلك كائن لا محالة لعلمه السابق في أمري فهل كان يمكن أن يصدر عنى خلاف علم الله السابق في فكيف تلومني على القدر المحتوم وتغفل السبب عن العلم السابق] الذي واقع [على معنى تدبير الربوبية وتذكر الكسب الذي هو السبب وتنسى الأصل الذي هو القدر وأنت من المصطفين الأخيار الذين يشاهدون سر الله وراء الأستار فلا ينبغي لك أن تعود باللائمة على من تنصل وتاب وإنما يلام من جهل حق العبودية وأصر على الذنب أو لم يعترف به أو لم يتب عنه فبذلك جرت سنة الله في عباده فكان الاحتجاج من آدم- عليه السلام- لدفع اللائمة لانكسار ما اجترحه من الزلة ثم إن القضية تشتمل على معان هي المحررة لدعوى آدم عليه السلام المقررة لحجته لم يذكرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اكتفاء بوضوحها واستظهاراً باشتهارها فمنها: أن هذه الحاجة منهما لم يكن في عالم الأسباب الذي لم يجوز فيه قطع النظر عن الوسائط والأكساب وإنما كان في العالم العلوي عند ملتقى الأرواح حيث تنكشف الحقائق وتضمحل الرسوم والأطلال فكانت تلك الملاقاة والمكالمة كملاقاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آدم وغيره من الأنبياء الذين ذكروا في حديث المعراج ومكالمته إياهم ومنها أن آدم احتج بذلك بعد اندفاع مواجب الكسب منه وارتفاع أحكام التكليف عنه، ومنها: أن اللائمة كانت

بعد سقوط الذنب ووجوب المغفرة والاستذراء بجناب القدس وسعة الرحمة حيث لم يبق للنكير موضع ولا للملامة مسلك فلهذا قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لآدم على موسى بالفلج (فقال - صلى الله عليه وسلم - فحج آدم موسى) أي غلب عليه بالحجة فلا تقبل إذاً هذه الحجة عن عموم المكلفين لخلو قضاياهم عن تلك المعاني التي اشتملت عليها قضية آدم وموسى- عليهما السلام- وبعد هذا فليعلم الباحث عن هذا الحديث أنه وإن كان صحيحاً فإنه من جملة] الآراء [التي لا ينقطع] 9/ب [العذر دونها وقد ذكر بعض العلماء في مصنف له في الاعتقاد أن هذا الحديث لم يروه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير أبي هريرة ولعله نسى أو لم يبلغه الحديث يومئذ بطرقه، وهذا الحديث مخرج في كتاب أبي داود من رواية عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد رواه الطبراني في كتابه في مسند جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه. [55] ومنه (قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً). قلت: فسره ابن مسعود وهو الراوي للحديث فقال: إن النطفة إذا وقعت في الرحم فأراد الله أن يخلق منها بشراً طارت إطارة في بشرة المرأة تحت كل ظفر وشعر ثم تمكث أربعين ليلة ثم تنزل دماً في الرحم فذلك جمعها. والصحابة أعلم الناس بتفسير ما سمعوه وأحقهم بتأويله وأولاهم بالصدق فيما يحدثون به وأكثرهم احتياطاً للتوقي عن خلافه فليس لمن بعدهم أن يرد عليهم والله أعلم. [56] ومنه حديث عائشة رضي الله عنها (دعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جنازة صبي .... الحديث) يحتمل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال هذا القول قبل أن] أنزل [عليه في ولدان المؤمنين ما أنزل ويحتمل أنه لم يرتض هذا القول لما فيه من الحكم بالغيب والقطع بإيمان أبوي الصبي أو أحدهما إذ هو تبع لهما وفيه إرشاد للأمة إلى التوقف عند الأمور المبهمة والسكوت عما لا علم لهم به وحسن الأدب بين يدي علام الغيوب.

[75] ومنه حديث علي- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (ما منكم من أحد إلا كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة .. الحديث) المبهم الذي ورد عليه البيان من هذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو أنه بين أن القدر في حق العباد واقع على معنى تدبير الربوبية وذلك لا يبطل تكليفهم العمل لحق العبودية فكل من الخلق ميسر لما دبر له في الغيب فيسوقه العمل إلى ما كتب له من سعادة أو شقاوة فمعنى العمل: التعرض للثواب والعقاب. [58] ومنه حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا ... الحديث) معنى قوله كتب أي أثبت عليه ذلك بأن خلق له الحواس التي يجد بها لذة ذلك الشيء وأعطاه القوى التي بها يقدر على ذلك الفعل فبالعينين وبما ركب فيهما من القوة الباهرة تجد لذة النظر وعلى هذا وليس المعنى أنه ألجأه إليه وأجبره عليه بل] 10/أ [ركز في جبلته حب الشهوات ثم إنه سبحانه يعصم بفضله ورحمته من يشاء ويقرب من هذا المعنى ما وقعت الإشارة إليه في حديث عمران بن حصين تلو هذا الحديث بقوله - صلى الله عليه وسلم -. [59] (وتصديق ذلك في كتاب الله (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها) وتسوية النفس إنشاء خلقتها على سواء من التدبير بحسب ما تقتضيه الحكمة ويستدعيه المصلحة وذلك بما ركب فيها من القوى التي جعلت مقومة للنفس وصارت النفس بها مستعدة لقبول الفهم والإلهام فألهمها فجوزها بالأمور الجبلية والقضايا الطبيعية، وتقواها بالنصوص الشرعية والأدلة العقلية، وقوله يكدحون أي يسعون والكدح السعي والعناء.

[60] ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (جف القلم بما أنت لاق) يقال جف الثوب وغيره يجف بالكسر جفافاً وجفوفاً إذا ابتل ثم جف وفيه ندى فجعل جفاف القلم كناية عن جريانه بالمقادير وإمضائها والفراغ منها تمثيلاً بما عهدناه وذلك أبلغ في المعنى المراد منه؛ لأن الكاتب إنما يجف قلمه بعد الفراغ عما يكتب ولم نجد هذا اللفظ مستعملا على هذا الوجه فيما انتهى إلينا من كلام العرب إلا في كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيمكن أن يكون من الألفاظ المستعارة التي لم يهتد إليها البلغاء فاقتضتها الفصاحة النبوية. وأما ما ذكر عنه في هذا الحديث أنه قال (فاختص على ذلك أو ذر) فالصواب فاختص على ذلك بتخفيف الصاد من الاختصاء وكذلك يرويه المحققون من علماء النقل وقد صحفه بعض أهل النقل فرواه على ما هو في كتاب المصابيح ولا يكاد يلتبس ذلك إلا على عوام أصحاب الرواية أو على من انتهى الحديث إليه مختصراً كما هو في كتاب المصابيح فأما من كان معنيا بضبط الألفاظ وإتباع المعاني فلا يخفي عليه وجه الصواب إذا استوعب طرق هذا الحديث وقد روى هذا الحديث مستوفي في كتب أهل العلم من وجوه أحدها ما أخبرنا به الشيخ العالم المهذب ابن زينة في كتابه قال أنبا أبو الخير الباغبان إجازة قال أنبا سليمان بن إبراهيم إجازة أنبا أبو علي الحسن بن أحمد ابن شاذان البزار ثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي ثنا محمد المثني قال ثنا عباد بن جويرية قال ثنا الأوزاعي قال حدثني الزهري] 10/ب [قال حدثني أبو سلمة قال حدثني أبو هريرة -رضي الله عنه- قال (أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت يا رسول الله إني رجل شاب وإني أخاف العنت ولست أجد طولا أتزوج به النساء فإذن لي أن اختصي قال فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا أبا هريرة جف القلم بما أنت لاق فاختص على ذلك أو دع.) [61] ومنه حديث عبد الله بن عمرو ري الله عنه أنه قال (قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن ... الحديث) ظاهر هذا اللفظ محمول على ضرب من التمثيل ومؤول على نوع من المجاز والمراد منه الاستظهار في القدرة وسرعة نفوذ الأمر والتصرف في القلوب على مقتضى العلم والمشيئة، وعلى نحو ذلك أوله المحققون من السلف والراسخون من علماء الأمة وقد أجرى بعض المؤولين الأصبع في هذا الحديث مجرى قول العرب (للراعي على ماشيته أصبع حسن) أي أثر حسن وذكروا فيه قول القائل: ضعيف العصا بادي العروق تري له .... عليها إذا ما أجدب الناس إصبعا

وهذا من باب التعسف في التأويل؛ لأنه لا يناسب نسق الكلام، قلت وليس هذا الحديث من جملة ما يتنزه السلف عن تأويله كأحاديث السمع والبصر واليد وما يقاربها في الصحة والوضوح فإن ذلك يحمل على ظاهره ويجري بلفظه الذي جاء به من غير أن يشبه بمسميات الجنس ويحمل على معنى الاتساع والمجاز بل يعتقد أنها صفات لله سبحانه لا كيفية لها وإنما تنزهوا عن تأويل هذا القسم؛ لأنه لا يلتئم معه ولا يحمل ذلك على وجه يرتضيه العقل إلا ويمنع منه الكتاب والسنة من وجه آخر، وأما ما كان من هذا الضرب أعني قوله - صلى الله عليه وسلم - (قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن) فإنه ليس في الحقيقة من أقسام الصفات ولكن ألفاظ مشاكلة لها في وضع الاسم فوجب تخريجه على ما يناسب تنسيق الكلام وعلى ما يقتضيه المعنى ليقع الفصل بين هذا الضرب وبين ما لا مدخل فيه للمجاز والاتساع والله أعلم. [62] ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (ما من مولود إلا يولد على الفطرة .... الحديث) الفطر الشق ومنه فطر ناب البعير والفطر الابتداء والاختراع (قال ابن عباس رضي الله عنه كنت لا أدري ما فاطر السموات حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال احدهما أن فطرتها أي أنا ابتدأتها) وقول ابن العباس- رضي الله عنهما- لا أدري ما فاطر السموات) أي لا أعرف مأخذ هذا اللفظ من الاشتقاق اللغوي والفطرة في اللغة] 11/أ [وأما معنى الحديث وتأويله فإن أقاويل أهل الملة مختلفة فيه وقد ذكر فيه عن علماء التأويل وأصحاب المعاني وجوه كثيرة في الإتيان على سائرها بياناً وتفصيلاً عدول عن مقدار الضرورة إلى ما لا تدعو إليه الحاجة في البيان وكل ذلك يرجع إلى أصلين من التأويل، أحدهما: أن المراد بالفطرة هو الدين الذي شرع لأول مفطور من البشر وهو التوحيد الذي لا تشريك فيه ولا تشبيه فالفطرة على هذا التأويل هو الإسلام] والمائلون إلى هذا [التأويل أكثر ممن ينسب إلى مذهب القدر. والآخر: أن يقال المراد بالفطرة ههنا ما فطر الله الخلق عليه من الهيئة المستعدة لمعرفة الخالق وقبول الحق والتمييز بين حسن الأمر وقبيحه بما ركبه في الناس من العقول وإلى هذا المعنى أشار بقوله سبحانه (فطرت الله التي فطر الناس عليها) والقائلون بالتأويل المبدوء بذكره يستدلون بهذه الآية فيما ذهبوا إليه من معنى الحديث، والآية تدل على غير ما ذهبوا إليه؛ لأنه سبحانه يقول: (لا تبديل لخلق الله) فلو كان الماد بالفطرة نفس الإسلام للزم من الحديث تبديل خلق الله، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (فأبواه يهودانه ... الحديث) فتبين إذا أن المراد بالفطرة في هذا الحديث هو المراد به في الآية وذلك ما يتوصل به إلى أن الدين عند الله هو الإسلام فالفطرة هي التي لا يتهيأ لأحد تبديلها وإن ذهب عنها ذاهب كانت هي بحالها حجة عليه وهي الحنفية التي وقعت لأول الخلق في فطر العقول.

ومعنى الحديث: أن المولود لو ترك على ما فطر عليه من العقل القويم والوضع المستقيم ولم يعترضه آفة من قبل الأبوين لم يختر غير هذا الدين الذي حسنه ظاهر عند ذوي العقول وهذا أصوب التأويلين وأولاهما بالتقديم لوجوه أحدها: ما ذكرناه من تأويل الآية ثانيها: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث موسى والخضر: (الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافراً) وهو حديث صحيح. وثالثها: أن الدين المعتد به من باب الإكساب لأنه يثاب على حسنه ويعاقب على قبيحه ولو كان من حكم الجبلة لم يكن كذلك. ورابعها: أن المولود لو ولد مسلماً لم يجعله الشرع تبعاً لأبويه الكافرين في كفرهما كيف وقد حكم الشرع على ولدان المشركين بحكم المشركين وهو أجنة في بطون أمهاتهم. قلت:] 11/ب [وقد ذهب بعض السلف إلى أن المراد بالفطرة العهد الذي أخذ عليهم وهم في أصلاب آبائهم وذلك مفسر في قوله سبحانه (وإذا أخذ ربك) فلا يوجد أحد إلا وهو مقر بأن له صانعاً ودبراً وإن سماه بغير اسمه والحديث الذي أوردناه في الغلام الذي قتله الخضر يدفع ذلك وقد حملنا قوله - صلى الله عليه وسلم - فأبواه يهودانه وينصرانه في الوجه الذي نصرناه على فساد التربية وآفات النشوء والتقليد، ويحتمل وجهاً آخر وهو أن المولود يولد على فطرة سليمة لم يجترح بنفسه سيئة تخرجه إلى دين فاسد وإنما يلحقه اسم اليهودية والنصرانية بعلة الجزؤية وحكم التبعية فيجعل ما كسبه والداه ككسبه ألا ترى أنه إذا خرج عن نفهما بالرق إلى من يملكه من المسلمين صار تبعاً له في الإسلام فإن قيل فإذا كان الكفر والإسلام يلحقان به لعلة الجزؤية وحكم التبعية فلم لم يقل فأبواه يسلمانه كما قال يهودانه فالجواب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يبين أن فساد الدين ضرر يلحق الوالدان من قبل آبائهم وأمهاتهم فذكر الأديان الفاسدة ولم يذكر الدين الصحيح لأن ثبوته للولد بأبويه نفع وصلاح فإن قيل: أمر الغلام الذي قتله الخضر ينقض عليك هذا التأويل؛ لأنه لم يلحق بأبويه بحكم الجزؤية فالجواب أن ذلك الأمر مفارق عما نحن فيه؛ لأنه كان من العلوم المكنونة فعرف بعلم خاص أريه الخضر ولو ترك الأمر فيه على هيئة المكنون لم تفته علة الجزؤية ولم يخطأ حكم التبعية فإن قيل أورد أبو عيسى هذا الحديث في كتابه بغير لفظ الفطرة ولفظه (كل مولود يولد على الملة) فإني يوفق بين الفطر والملة على التأويل الذي نصرتموه. فالجواب أن نقول: يحتمل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تلفظ بهذا اللفظ تارة أخرى وتأويله على هذا التقدير أن المولود يولد على حكم الملة لولا مكان أبويه فأبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه. ويحتمل أن الصحابي أو غيره من رواة الحديث تلفظ بذلك ذهاباً إلى رواية الحديث بالمعنى. ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - (كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء) تروى تنتج على بناء المفعول وعلى هذا البناء يستعمل تقول العرب نتجت الناقة على بناء المجهول تنتج نتاجاً إذا ولدت فهي متوجة كما يقال نفست المرأة فهي منفوسة وعلى هذا فالذي يجعل بهيمة جمعاء حالاً عن البهيمة فلم (....) فيه نظر؛ لأن المثل ضرب للمولود بالبهيمة المولودة وفي تلك] 12/أ [الصيغة البهيمة هي الوالدة المنتوجة وقريب من هذا قول المتنبي: فكأنما نتجت قياماً تحتهم .... وكأنهم ولدوا على صهواتها والوجه الأسد والقول الأقوم، أن يجعل بهيمة جمعاء مفعولا ثانيا ويدل على صحة هذا القول قول الشاعر:

فإن نتجت مهراً كريماً فبالحرى .... وإن يك إقراف فمن قبل الفحل ومثله قول زهير: فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم .... كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم وقد روى لي البيت الأول على القافية المرفوعة وأنشد وما أنا إلا مهرة عربية .... سليلة أفراس تجللها بغل فإن نتجت مهراً كريما فبالحرى .... وإن يك إقراف فقد جره الفحل وقد ذك الواحدى أن البيتين لابنة النعمان بن بشير الأنصاري- رضي الله عنه- وأرى البيت الأول لغيرها فضمنته إلى قولها وذكرت فقد جره الفحل لتتفق القافيتان والله أعلم، ومن الدليل على صحة هذا الوجه من طريق الرواية رواية أبي داود في كتابه كما تناتج الإبل بهيمة جمعاء أي توالدها و (ما) في قوله كما تناتج هي الموصولة أي كالتي تناتجها الإبل ويروى على بناء الفاعل من الإنتاج وفيه نظر؛ لأنهم يقولون أنتجت الفرس إذا حان نتاجها وقيل إذا استبان حملها لم يستعملوه إلا على هذا الوجه فإن قيل أوليس في الباب القياسي له مساغ. قلنا: فيه نظر لأنهم يقولون نتجت الناقة نتاجاً على بناء المجهول ونتجها أهلها نتجاً وزيادة الألف في البناء الأول خلاف المنقول؛ لأنه لم يبن إلا على هذا البناء ولم نجد استعمال القياس في هذا الباب مستفيضاً وزيادته في البناء الآخر أعني نتجها أهلها مستبعد؛ لأنه لا يفيد معنى آخر اللهم إلا أن يكون الإنتاج قد ورد بمعنى الإيلاد في لغة قليلة ولم تشتهر والله أعلم. قلت: ولولا ما علينا من إتباع الرواية دون إتباع الخط لجوزنا أن تفتح التاء من أول الكلمة على خطاب الحاضر من قولهم نتجها أهلها نتجاً مع الدلالة التي فيه من نسق الكلام وذلك ما ورد في بعض طرق هذا الحديث أنه قال - صلى الله عليه وسلم - (هل تحس فيها من جدعاء) وفي الحديث له نظير ذكره أبو عبيد في كتابه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (هل تنتج إبل قومك صحاحاً آذانها) أي تولدها وتلي نتاجها فالناتج للإبل كالقابلة للنساء ويقال لصاحب النتاج الناتج على الاتساع ومنه قول الشاعر: لا تكسع الشول بأغبارها .... إنك لا تدري من الناتج والجمعاء هي السليمة من الآفة لاجتماع السلامة في أطرافها والمعنى البهيمة تولد سوية الأطراف سليمة من الجدع فلولا الناس وتعرضهم لها لبقيت] 12/ب [كما ولدت فالله أعلم. [63] ومنه: حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه (قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخمس كلمات ...

الحديث)، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا وعظ أصحابه ومن حضره من الوفود وغيرهم وذكرهم بأيام الله قام فيهم قياماً وفي حديث أوس بن حذيفة الثقفي رضي الله عنه (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينصرف إلينا بعد العشاء فيحدثنا قائما على رجليه حتى يراوح بين قدميه من طول القيام). فقوله قام فينا كناية عن التذكير أي خطبنا وذكرنا بخمس كلمات وإنما سلكنا هذا المسلك في تأويله لما عرفناه من سنته في ذلك وإن اقتفينا ما يقتضيه ظاهر اللفظ فالمعنى أنه قام بحفظ تلك الكلمات فينا؛ لأن القيام بالشيء هو المراعاة والحفظ له قال الله تعالى: (كونوا قوامين بالقسط) وقال سبحانه (أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت) وقوله (بخمس كلمات) أي بخمسة فصول، وهم يطلقون الكلمة ويعنون به الجملة المركبة المفيدة. ولهذا يسمون القصيدة كلمة وإحدى الكلمات منها: (إن الله تعالي لا ينام). والثانية: ولا ينبغي له أن ينام، والثالثة: يخفض القسط ويرفعه، والرابعة: يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل. والخامسة: حجابه النور ... إلى آخر الحديث. قوله - صلى الله عليه وسلم -: يخفض القسط ويرفعه، فسر بعضهم القسط في هذا بالميزان، ويسمى الميزان قسطاً لما يقع به من المعدلة في القسمة وهذا أولى القولين بالتقديم لما في حديث أبي هريرة (يرفع الميزان ويخفضه فيجوز أن يكون المراد من رفع الميزان ما يوزن من أرزاق العباد النازلة من عنده وأعمالهم المرتفعة إليه. ويحتمل أنه أشار إلى أن الله كل يوم هو في شأن، وانه يحكم في خلقه بميزان العدل، وبين المعنى بما شوهد من وزن الوزان الذي يزن فيخفض يده ويرفعها، وهذا التأويل يناسب الفصل الثاني أعنى قوله: (ولا ينبغي له أن ينام) أي كيف يجوز عليه ذلك وهو الذي يتصرف أبداً في ملكه بميزان العدل. قوله (- صلى الله عليه وسلم -): (يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار) عبارة عن مسارعة ملائكة الله الموكلين بأعمال العباد فيما أمروا به وسرعة خروجهم إلى محال الغرض في مصاعد السموات وقدرتهم على رفع الأعمال في أدنى ساعة؛] 13/أ [؛ لان الليل والنهار يتناوبان لا فاصلة بينهما والعبد يعمل ما دام الليل باقيا، فإذا انقضى أخذ في عمل النهار فمهما رفع إليه عمل الليل قبل أن يأخذ في عمل النهار وخرجت المسارعة في ذلك عن حد اللمحات فضلاً عن الأوقات والساعات هذا إذا جعلنا التقدير في قوله: (قبل عمل النهار) قبل أن يشرع العامل في عمل النهار أو قبل أن يصدر عنه ذلك، فأما إذا جعلنا تقديره قبل أن يرفع إليه عمل النهار، فالمراد منه أن عمل الليل لا يؤخر عن محل العرض حتى ينضم إليه عمل النهار بل يعرض كل واحد منهما على حدة إذ قد] وسد [كل واحد مهما إلى ملائكة يتعاقبون فيكم تعاقب الليل والنهار. وهذا الوجه وإن كان أيضاً صحيحاً، فإنه لا يبلغ- في بيان عظم شان الله وبيان قوة عباده المكرمين وحسن قيامهم بما أمروا- مبلغ الوجه الأول ولكنهما يتقاربان في الفائدة وذلك أن هذا القول مرتب على قوله (- صلى الله عليه وسلم -): (ولا ينبغي له أن ينام) أي كيف ينبغي له ذلك والأرزاق نازلة بأمره والأعمال مرفوعة إليه بعلمه لا يخلو عن ذلك ليل ولا نهار. قوله (- صلى الله عليه وسلم -): (حجابه النور) أشار بذلك إلى أن حجابه خلاف الحجب المعهودة، فهو محتجب عن الخلق بأنوار عزه وجلاله وأشعة عظمته وكبريائه وذلك هو الحجاب الذي تدهش دونه العقول ويذهب

الأبصار وتتحير البصائر، ولو كشف ذلك الحجاب فتجلى بما وراءه من حقائق الصفات وعظمة الذات، لم يبق مخلوق إلا احترق ولا مقطور إلا اضمحل، وأصل الحجاب الستر الحائل بين الرائي والمرئي وهو ههنا راجع إلى منع الأبصار من الإصابة بالرؤية له بما ذكر، فقام ذلك المنع مقام الستر الحائل فعبر به عنه وروى (حجابه النور أو النار) وقد تبين لنا من أحاديث الرؤية وتوقيفات الكتاب على التجليات الإلهية أن الحالة المشار إليها في هذا الحديث هي التي نحن بصددها في هذه الدار المستعدة المعدة للفناء دون التي وعدنا بها في دار البقاء، والحجاب المذكور في هذا الحديث وغيره يرجع إلى الخلق لأنهم هم المحجوبون عنه. وفيه سبحات ومعنى (سبحات وجهه) أي جلالته كذا فسرها أهل اللغة وقال أبو عبيد: نور وجهه، وسبحات بم السين والباء جمع: سبحة كغرفة وغرفات، وقد قال بعض أهل التحقيق إنها الأنوار التي إذا رآها الراؤون من الملائكة سبحوا وهللوا لما يروعهم من جلال الله وعظمته] 13/ب [. [64] ومنه حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يد الله ملأى لا تغيضها نفقة سخاء الليل والنهار) كل ذلك ألفاظ استعيرت لفضل الغنى وكمال السعة والنهاية في الجود وبسط اليد بالعطاء. وفيه (لا تغيضها) من قولهم غاض من السلعة: أي نقص، وغضته أنا قال الله تعالى (وما تغيض الأرحام) أي وما تنقص. وفيه (سحاء الليل والنهار) أي دائمة الصب في الليل والنهار وليس لهذا اللفظ ذكر على أفعل، ومثله: ديمة هطلاء، ولم يرد أهطل، وسح الماء يسح سحاً: أي سال من فوق وكذلك المطر والدمع، وما أتم هذه البلاغة وأحسن هذه الاستعارة فلقد نبه - صلى الله عليه وسلم - بهذا اللفظ من حيث الاشتقاق اللغوي على معان دقيقة وهو انه وصف يد الله في الإعطاء بالتفوق والاستعلاء، فإن السح إنما يكون من عل، ثم أشار إلى أنها هي المعطية عن ظهر غنى؛ لان الماء إذا انصب من فوق انصب بسهولة وعفو ثم إنه أشار إلى جزالة عطاياه سبحانه وغزارتها؛ لأن السح يستعمل فيما ارتفع عن القطر وبلغ حد السيلان يقال: مطر سحساح: أي يسح شديداً وأشار أيضاً إلى أنه لا مانع لعطائه؛ لأن الماء إذا أخذ في الانصباب لم يستطع أحد أن يرده ثم وصف السح بالدوام تشبيهاً، على أن لا انقطاع لمادة عطائه. [65] منه حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: سئل عن دراري المشركين ... الحديث. الذراري: جمع ذزية وهي نسل الثقلين أخذت من ذرا الله الخلق يذرأهم: أي خلقهم وقد تركت

العرب همز الذرية كتركهم في روية وبرية. والذرية أصلها: الصغار وتقع في التعارف على الصغار والكبار ويستعمل للواحد والجمع وأصلها الجمع، وأما معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - (الله أعلم بما كانوا عاملين) فيحتمل أنه لم ينبأ عند حدوث هذا السؤال عن حقيقة أمرهم فتوقف فيه أو علم ولم يؤذن له في الكشف عنه رعاية لمصلحة العباد فأجاب عنه بما أجاب، أي: الله أعلم بما صائرون إليه، وبما هو كائن من أمرهم أيدخلون الجنة آمنين منعمين، ام يردون النار لابثين معذبين أم يتركون ما بين المنزلتين ويحتمل أنه علق أمرهم بما علم الله من عاقبة أمرهم لو تركوا فعاشوا حتى بلغوا الحنث والمعنى أن من علم الله منه أنه إن أمهل حتى بلغ الحنث عبده ثم مات على الإيمان أدخله الجنة ومن علم منه أنه يفجر ويكفر أدخله النار وفي هذا التأويل] 14/أ [- نظر لأنا ننفي في أصل الدين ومنهاج الشرع أن يعذب العصاة على معصية كانت تقع منهم لو طالبت بهم الحياة، فلأن ننفي ذلك عن الأطفال وهم أضعف منه وأقل قوة أحق وأجدر. وبعد فاعلم: أن مبنى اختلاف التأويل في هذا الحديث على اختلاف المسلمين في ولدان المشركين فمنهم من يسكت عنهم ولا يقطع في أمرهم بشيء ومنهم من يعلق أمرهم بما علم الله منهم كما قدمناه ومنهم من يقول: إنهم مع آبائهم وأمهاتهم في النار كما هم يتبعونهم في كفرهم في هذه الدار ومنهم من يقول: إن المولود إذا كانت قبل أن يبلغ مبلغ الاختيار زال عنه ولاية الأبوين فيزول عنه ما كان فيه من تغيير الدين فيرجع إلى ما كان عليه من أصل الفطرة فيصير بذلك من أهل الجنة. ومنهم من يقول: إنهم لم يعملوا ما يثابون به ولم يجترحوا ما يعاقبون عليه ولا مقر في الآخرة إلا في إحدى الدارين، وإحداهما ينفيها العدل والأخرى يقضيها الفضل، فنقول: إنهم يدخلون الجنة لا على سبيل الاستقلال بل يكونون لأهلها كخدام الملوك في قصورهم ومنازلهم. ومنهم من يقول إنهم كائنون بين الجنة والنار لا منعمين ولا معذبين. قلت والقول المبني على قاعدة أصول الدين هو أن لا يقطع في أمرهم بشيء وما عداه فإنه إما مستنبط بالرأي والقياس أو مأخوذ عن الأخبار الواهية وأمثال ذلك لا يلتقي إلا من جهة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالنقل الذي ينقطع العذر دونه ولم يوجد هنالك، فوجب التوقف لعدم التوقيف. (ومن الحسان) [67] حديث عمر رضي الله عنه حين سئل عن قوله تعالى (وإذ أخذ ربك من بني آدم) الآية فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل عنها ...) للحديث

وقوله سبحانه {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم} من ظهورهم بدل من بني آدم وهو بدل البعض من الكل وتقديره: وإذ أخذ ربك من ظهور بني آدم ذريتهم، وقد ذهب كثير من أهل العلم في بيان الآية إلى أنه سبحانه أراد بذلك توليد بعضهم من بعض على ممر الزمان واحتجوا على من خالفهم في هذا التأويل بظاهر الآية وقالوا: لو كان المراد به أنه استخرج الذرية من صلب آدم دفعة واحدة لكان من حق القول أن يقول: (وإذ أخذ ربك من ظهر آدم ذريته) فإن قيل: بيان الآية في الحديث خلاف ما ذهبوا إليه فلهم أن يقولوا إنما يترك ظاهر الآية بالحديث لاسيما في مثل هذه القضية التي هي إخبار عن. 14/ ب الغيب إذا كان الحديث المبين للآية حديثا صحيحا يجب به العلم، [وحديث عمر]- رضي الله عنه- وإن كان حديثا حسنا، فإنه من جملة الآحاد، ثم إن الترمذي رواه في كتابه بإسناده عن مسلم بن يسار، عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- وذكر أن مسلما لم يسمع من عمر- رضي الله عنه- شيئا، وقال ذكر بعضهم بين عمر وبين مسلم رجلا، فلا يترك ظاهر الكتاب بمثل هذا الحديث، مع ما يمكننا من التوفيق بين الآية والحديث أن نقول: إنما اقتصر في الحديث على ذكر آدم دون الذرية؛ لأن هو الأصل، فاكتفى بذكر الأصل عن ذكر الفرع، فإن قيل: فقد روى أبو هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لما خلق الله آدم مسح ظهره، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة) إلى تمام الحديث، وهو حديث صحيح، فلم ذهبتم في حديث عمر- رضي الله عنه- إلى التأويل الذي ذكرتموه؟ فالجواب: أن حديث أبي هريرة لا تعلق له بالآية، ولم يذكر فيه حديث الميثاق والإشهاد، فإنما ذكر فيه أن الله مثل لآدم ذريته، وعرضهم عليه، وهذا غير ذلك. وقد ذهب أهل هذا التأويل إلى أن المراد: بالإشهاد ما ركبه الله فيهم من العقول، وآتاهم من البصائر، فكأنه أشهدهم على أنفسهم وقررهم، فقال لهم {ألست بربكم} فكأنهم قالوا: بلى. فذهبوا في معناه إلى أنه تمثيل وتصوير للمعنى. وهذا الباب واسع في كلام العرب، موجود في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فهذا الذي ذهبوا إليه في تأويل حديث عمر- رضي الله عنه- تأويل حسن مستقيم، لولا مخالفته لحديث ابن عباس- رضي الله عنه- وهو: ما رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان- يعني: عرفة- فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم قبلا، قال: ألست بربكم قالوا بلى شهدنا؛ أن يقولوا يوم القيامة: إنا كنا عن هذا غافلين). وهذا الحديث مخرج في كتاب أبي عبد الرحمن النسائي، فهذا الحديث لا يحتمل من التأويل ما يحتمله

حديث عمر- رضي الله عنه- لظهور المراد منه، ولا نراهم يقابلون هذه الحجة إلا بقولهم إن حديث ابن عباس- رضي الله عنه- من جملة الآحاد، فلا يلزمنا أن نترك به ظاهر الكتاب. قلت: وإنما جدوا في الهرب عن القول في معنى الآية بما يقتضيه ظاهر هذا الحديث لمكان قوله- سبحانه- {أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين}. فقالوا: إن كان هذا الإقرار عن اضطرار، حيث كوشفوا بحقيقة الأمر وشاهدوه عين اليقين، فلهم يوم القيامة أن يقولوا: شهدنا يومئذ فلما زال عنا علم الضرورة ووكلنا إلى آرائنا؛ كان منا من أصاب، ومنا من أخطأ، وإن كان عن استدلال، ولكنهم عصموا عندهم من الخطأ، فلهم أيضا أن يقولوا: أيدنا يوم الإقرار بتوفيق وعصمة، وحرمناهما من بعد، ولو أمددنا بهما أبدا؛ لكانت شهادتنا في كل حين كشهادتنا في اليوم الأول، فقد تبين أن الميثاق: ما ركب الله فيهم من العقول، وآتاهم من البصائر؛ لأنها هي الحجة الباقية المانعة لهم عن قولهم: إنا كنا عن هذا غافلين؛ لأن الله تعالى جعل هذا الإقرار حجة عليهم في الإشراك، كما جعل بعث الرسل حجة عليهم في الإيمان بما أخبروا عنه من الغيوب، ولهم في ذلك كلام كثير، اكتفينا عنه بهذا المقدار، والغرض منه توقيف الطالبين على مواضع الإشكال، وبيان هذا الحديث باستيعاب طرقه، والإتيان على ألفاظه المختلف فيها، والتوفيق بين الآية وحديث عمر- رضي الله عنه- على ما ذكرناه متيسر والتوفيق بين الآية وحديث ابن عباس على الوجه الذي لا يعارضه حجة أخرى من الكتاب مشكل جدا، إلا أن نعلل الحديث بما عللوه به، أو نقول: يحتمل أن بعض الرواة ألحق به ذكر الآية، على سبيل البيان والتفسير، والله أعلم بتأويله. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: (مسح ظهر آدم ..) فذهب بعض المؤولين إلى أن المسح كان من بعض الملائكة، وإنما أسند إلى الله؛ لأنه هو الآمر والمتصرف في عباده بما يشاء، وذلك مثل قوله: {الله يتوفى الأنفس حين موتها ..} وقوله سبحانه: {الذين تتوفاهم الملائكة}. وذهب بعضهم إلى أنه من المساحة، فكأنه أراد أنه قدر وبين ما في ظهره من الذرية، وسبيل السلف في أمثال هذا الحديث أن يمروها كما جاءت إيمانا بظاهر القول واجتنابا عن التعرض لباطنه بالتأويل، مع نفي الكيفية؛ مخافة أن يلحقهم من ذلك درك، وهذا هو الأحوط والأصلح، ولولا الشفق على من يأبى إلا التأويل مع عدم المعرفة بوجوه كلام العرب وكثرة الخوض فيما لا دربة له به من علم الحديث فيدحض في مهواة الجهل لاكتفينا بنقل مذهب/ [15/ ب] السلف ثم لا خفاء أن المفهوم منه أحد المعنيين: إما الأخذ باليمين إظهارا للقدرة، أو التبريك في ظهر آدم، وفي لفظ اليمين تنبيه على تخصيص آدم بالكرامة والفضيلة (وكلتا يديه يمين).

ويحتمل أن يكون اليمين بمعنى القوة. قال الشماخ: إذا ما راية رفعت لمجد .... تلقاها عرابة باليمين [68] ومنه حديث عبد الله بن عمرو- رضي الله عنه- (خرج إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي يده كتابان ..) الحديث أما قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (هذا كتاب من رب العالمين) فالأظهر أنه من باب المجاز الجاري مجرى الحقيقة، وذلك أن المتكلم إذا أراد تحقيق قوله، وتفهيم غيره، واستحضار المعنى له حتى كأنه ينظر إليه رأي عين صوره بصورة، وأشار إليه إشارته إلى المحسوس المشاهد، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - كوشف بحقيقة هذا الأمر، وأطلعه الله عليه إطلاعا لم يبق معه خفاء، مثل المعنى الحاصل في قلبه بالشيء الحاصل في يده، هذا ونحن لا نستبعد أيضا إطلاق ذلك على الحقيقة، فإن الله- تعالى- قادر على كل شيء والنبي - صلى الله عليه وسلم - مستعد لإدراك المعاني الغيبية، ومشاهدة الصور المصوغة لها. وقد سمعت من اشتهر في زماننا بالرسوخ في علم النظر، ثم أيد من مكاشفات الصوفية بما يعز مثله في الشاهد، يقول: من لم يعتقد أن لله عبادا يشاهدون في حال اليقظة ما لا يمكن لغيرهم أن يراه إلا في حالة النوم؛ لم يهتد إلى حقيقة الإيمان بالنبوة. وإذا كان من حق الإيمان ألا يقابل أمثال ذلك في إتباع الأنبياء بالنكير، ولا يستبدع الاطلاع على مثل هذه الأحوال والمكاشفة بنظائر هذه الآيات في حق خواص عباد الله، فكيف بمن هو سيد المرسلين، وأعلاهم رتبة، وأغزرهم علما، وأوفرهم حظا - صلى الله عليه وسلم - أفضل صلاة صلاها على نبي من أنبيائه. وأما قول الصحابة- رضي الله عنهم- (خرج إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي يده كتابان) فإنه أخبر بما

يقتضيه ظاهر قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - مبالغة في التصديق بما يقول، واستقصاء في تحقيق ما يخبر عنه، وهذا هو حق اليقين في أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وواجب الأدب على السامع في استماع ما ينتهي منه إليه. ومن أوتي بصيرة في أمر الدين، فليكن وثوقه بما يخبر عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - أعرق من وثوقه بما يراه ويشاهده. قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ثم أجمل على آخرهم) أجملت الحساب: إذا رددته عن التفصيل إلى الجملة. والمعنى: أن الإجمال وقع على ما انتهى إليه التفصيل، أو ضرب بالإجمال على آخر التفصيل، أو ختم بالإجمال على ذكر آخرهم، وهو من انتهى إليه التفصيل والحساب إنما يختم بذكر الجملة. قوله: (ثم قال بيده) أي: أشار بيده إلى وراء ظهره. والمعنى: أن هذا الأمر فرغ منه فصار بمنزلة ما تخلفه وراء ظهرك. والقول يستعمل من طريق المجاز والاتساع في كثير من الأفعال. يقال: قال برأسه: إذا أشار. وقال برجله: إذا ضرب بها أو مشى. وفي الحديث (فقال بثوبه) وفيه: (فقال برجله) وفيه: (فقال بالماء على يده). (ومن الحسان) [69] حديث أبي خزامة عن أبيه قال: قلت يا رسول الله، (أرأيت رقى نسترقيها ..) الحديث. عرف الرجل أن من واجب حق الإيمان أن يعتقد أن المقدور كائن لا محالة، ووجد الشرع يرخص في الاسترقاء، ويأمر بالتداوي والاتقاء عن مواطن الهلكات، فأشكل عليه الأمر، كما أشكل على الصحابة، حين أخبروا أن الكتاب يسبق على الرجل، فقالوا: ففيم العمل؟ فبين له الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن جميع ذلك من قدر الله، وأن المتقي والمسترقي والمتداوي لا يستطيعون أن يفعلوا شيئا من ذلك إلا ما قدر لهم، وكما أن نفس هذا الفعل بقدر الله، فكذلك نفعه وضره بقدر الله، وكما أن التمسك بأعمال البر مأمور به مهما سبق من القضاء المبرم، فكذلك التعرض للأسباب الجالبة للمنافع، الدافعة للمضار مأمور به، أو مأذون فيه، إن لم يمنع عنها مانع شرعي، مع جريان القدر المحتوم، ولم يكن في هذا الحديث زيادة إشكال وإنما أوردناه لنبين اختلاف أهل الحديث في الصحابي الذي يروي هذا الحديث، فقد اختلفوا فيه جدا، فمنهم من يقول: عن ابن خزامة عن أبيه، وزعموا أن أبا خزامة هذا صحابي، وذكر بعضهم أن اسمه الحارث بن أبي خزامة، ولم نجد في ذلك نقلا يصلح للاعتماد، وقد وجدنا في كتاب المعارف: الحارث بن خزامة. ولعل الوهم اعترض لذلك القائل من هنا.

ومنهم من يقول: عن ابن خزامة بن معمر عن أبيه، والذي عليه الأكثرون من الرواة عن أبي خزامة بني الحارث بن سعد عن أبيه. [70] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- (عزمت عليكم) والمعنى، أقسمت عليكم. [72] ومنه حديث عبد الله بن عمرو- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (إن الله خلق خلقه في

ظلمة ..) الحديث يحتمل أن يكون المراد بالخلق هاهنا الثقلين، وهما الجن والإنس، ويحتمل أن يكون المراد به الإنس. وأما قوله: (في ظلمة) أي كائنين ومترددين فيها، وذلك نحو قوله- تعالى-: {لقد خلقنا الإنسان في كبد} والمراد بالظلمة: ما جبلوا عليه من الأهواء المضلة والشهوات المردية، والأدخنة الثائرة من النفس الأمارة. وفيه تنبيه على أن الإنسان خلق على حالة لا تنفك من الظلمة، إلا من أصابه النور الملقى عليه. وقوله: (من نور) أي: من نور خلقه. قال الله- تعالى- {وجعل الظلمات والنور} فإضافته إلى الله- تعالى- إضافة إبداع واختراع، على سبيل التكريم، والإلقاء في أصل اللغة: هو طرح الشيء حيث نلقاه، ثم صار في التعارف اسما لكل طرح، والنور الملقى عليهم هو: ما بين لهم من الحجج النيرة والشواهد البينة والآيات الباهرة، ثم ما أيدها به من التعريف الإلهي والنور القدسي المنبعث من بصر القلب، فمن جعل مستعدا لقبول ذلك النور الإلهي بصفاء الجوهر وطهارة الطينة؛ تخلص من تلك الظلمة، فاهتدى، ومن لم يساعده ذلك ضل، وإلى مثل هذا المعنى أشير بقوله- سبحانه-: {الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة}. الآية وقوله: {أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس} وقوله تعالى: {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه} ونحوها من الآيات.

[76] ومنه حديث ابن عباس- رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة والقدرية) الصنف: النوع والضرب وفتح الصاد لغة فيه. والمرجئة: مثل المرجية، يهمز ولا يهمز، مشتق من الإرجاء، وهو: التأخير. قال ابن قتيبة: المرجئة هم الذين يقولون: الإيمان قول بلا عمل؛ لأنهم يقدمون القول ويؤخرون العمل، وقد غلط فيه أناس قليلو المعرفة بالحديث، فألحقوا هذا التفسير بالحديث، وذلك موجود في بعض النسخ من المصابيح، وهو باطل لا أصل له، وهذا الحديث مما تفرد أبو عيسى بإخراجه، وسياقه في كتاب أبي عيسى، كما أوردناه، وهذا التفسير أيضا فيه نظر، وقد وجدنا الأكثرين من أهل المعرفة بالملل والنحل ذكروا أن المرجئة هم الفرقة الجبرية الذين يقولون بأن العبد لا فعل له، وإضافة الفعل إليه بمنزلة إضافته إلى الجمادات، كما يقال: جرى النهر، ودارت الرحى، والجبرية- بالتحريك- خلاف القدرية. قال أبو عبيد: هو كلام مولد. قلت: وهذا يدل على أن المرجئة هي اللغة الغريبة، وتسكين الياء، الجبرية لغة فيها، وهو اصطلاح المتقدمين، وفي تعارف المتكلمين يسمون المجبرة وفي التعارف الشرعي المرجئة، وكانت القدرية في الزمان الأول ينسبون من خالفهم إلى الإرجاء، حتى غلط في ذلك جمع من أصحاب الحديث وغيرهم، فألحقوا هذا النبز بجمع من علماء السلف ظلما وعدوانا، [وإنما سموا المرجئة]؛ لأنهم يؤخرون أمر الله، فيرتكبون الكبائر وهم يذهبون في ذلك مذهب الإفراط، كما يذهب القدرية مذهب التفريط، وكلا الفريقين على شفا جرف هار. وأما القدرية، فإنهم منسوبون إلى القدر، وهو ما يقدره الله من القضاء، يقال: قدرت الشيء أقدره أقدر قدرا، وقدرته تقديرا، فهو قدر، أي: مقدور، كما يقال: هدمت البناء فهو هدم، أي: مهدوم، ولك أن تسكن الدال منه، قال الشاعر: ألا يا لقوم للنوائب والقدر .... وللمرء يأتي الأمر من حيث لا يدري وهو في الأصل مصدر، والقدر والتقدير: تبيين كمية الشيء، وأصل دعوى القدرية: أنهم يزعمون أن كل عبد خالق فعله، ولا يرون الكفر والمعاصي بتقدير الله ومشيئته، وكل واحد من الفريقين يتشعب في أصل مذهبه على فرق كثيرة، والقدرية نسبوا إلى القدر؛ لأن بدعتهم وضلالتهم كانت من قبل ما قالوه في

القدر من نفيه، لا لإثباته، وهؤلاء الضلال يزعمون أن القدرية هم الذين يثبتون القدر، كما أن الجبرية هم القائلون بالجبر، فالجواب أن نقول: لم نثبت نحن هذا النبز من طريق القياس حتى تقابلونا بهذه الدعوى، وإنما أخذناه من النصوص الصحيحة، والتوقيف من قبل الرسول - صلى الله عليه وسلم - فمن ذلك قوله- سبحانه- {إنا كل شيء خلقناه بقدر} [ومن بيان الآية] على ما في الحديث يبين لنا ذلك، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: (وأن تؤمن بالقدر خيره وشره) ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: (كل شيء بقدر) ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - للسائل: (بل شيء قضى عليهم). [77] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: (يكون في أمتي خسف ومسخ) وذلك في المكذبين بالقدر) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (القدرية مجوس هذه الأمة). في أحاديث لا تعد كثرة، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: فيه (ليس لهما في الإسلام نصيب) ربما يتمسك به متمسك في تكفير الفئتين، والسبيل ألا يسارع إلى تكفير أهل الأهواء المتأولين؛ لأنهم لا يقصدون بذلك اختيار الكفر ولا الرضا به، وقد بذلوا وسعهم في إصابة الحق، فلم يقع لهم غير ما زعموه، فهم إذا [17/ ب] بمنزلة الجاهل، والتكفير لا يطلق إلا بعد البيان والجلاء، وهذا القول هو الذي يذهب إليه المحققون من علماء الأمة نظرا واحتياطا، وذلك ظاهر أمرهم الذي يهتدي إليه أهل الفتوى، وباطنه موكول إلى علم الله في آخرتهم، فنجري قولهم هذا مجرى الاتساع في بيان سوء حظهم وقلة نصيبهم من الإسلام، وذلك مثل قولك للرجل البخيل المتمول: ليس له من ماله نصيب، وإن كان يأخذ منه حظه من المأكل والملبس، وقد يطلق الكلمة على الشيء لنوع من التمثيل، ولا يقضي منها حقيقة حكمها عند التفصيل، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: (يكون في أمتي خسف ومسخ) وقوله - صلى الله عليه وسلم - (ستة لعنتهم لعنهم الله) وأمثال ذلك، فإنها تحمل على المكذب به، إذا أتاه من البيان ما ينقطع به العذر، أو على من يفضي به العصبية إلى تكذيب ما ورد فيه من النصوص، أو إلى تكفير من خالفه في هذا الاعتقاد، واستباحة دمه وماله. والشارع يأتي بالقول المجمل في أبواب الوعيد؛ ليكون أبلغ في الزجر [وقد ذكر بعض من لم يميز في

نقله بين الصحيح والسقيم: أن الله رفع عن هذه الأمة الخسف والمسخ، وذلك- مع كونه لا يعتد به (....) القول به في هذا الكتاب، وأرى- والله أعلم- أن المكذبين (خلقا ...) خلق الله، فمحقهم وعوقبوا بالمسخ]. وإنما سلكنا هذا المسلك في بيان هذه الأحاديث وتقرير معانيها على هذا النمط؛ لئلا يفضي بنا التجوز في البيان إلى التناقض، والذهاب إلى [ما يليق] بأصول العلم. [78] ومنه حديث ابن عمر- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (القدرية مجوس هذه الأمة .. الحديث) إنما قال لهم: مجوس هذه الأمة؛ لأنهم أحدثوا في الإسلام مذهبا يضاهي مذهب المجوس من وجه ما، وإن لم يشابهه من سائر الوجوه؛ وهو: أن المجوس يضيفون الكوائن في دعواهم الباطلة إلى إلهين اثنين، يسمون أحدهما: يزدان، والآخر: أهرمن، ويزعمون أن يزدان يأتي منه الخير والسرور، ويقولون ذلك في الأحداث والأعيان، فيضاهي مذهب القدرية قولهم الباطل في إضافة الخير إلى الله والشر إلى غيره، غير أن القدرية يقولون ذلك في الأحداث دون الأعيان، والأمران معا- يعني: الخير والشر- مضافان إلى الله تعالى- خلقا وإيجادا، وإلى العباد فعلا واكتسابا. [80] ومنه حديث عائشة- رضي الله عنها- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (ستة لعنتهم، لعنهم الله) وجدت في بعض النسخ من المصابيح وغيره من كتب أصحاب الحديث (وكل نبي مجاب) وعلى هذا (فكل نبي) مبتدأ مضاف و (مجاب) خيره، ولا يستقيم ولا يصح أن يجعل (كل نبي) عطفا [18/ أ] على ضمير المتكلم في (لعنتهم) ومن روى (مجاب) مجرورا على النعت فقد غلط في الرواية، وأحال في المعنى، والرواية المشهورة: (وكل نبي يجاب) على بناء المفعول- والجملة معترضة في كلا الصيغتين، ومعناه: إني دعوت عليهم، ومن شأن كل نبي أن يجاب في دعائه.

وفيه قوله: (الزائد في كتاب الله) أي: في القرآن، أو في حكم الله، وهو أن يدخل في جملته ما ليس منه، وفيه: (والمتسلط بالجبروت) جبروت: فعلوت، من التجبر، وإنما يطلق ذلك في صفة الإنسان على من يجبر نقيصته بادعاء منزلة من التعالي لا يستحقها. وفيه: (والمستحل لحرم الله) يريد به حرم مكة، عظم الله حرمته، ووجدت أناسا ممن لا عناية لهم بهذا العلم يضمون الحاء في (حرم الله) على أنها جمع حرمة، وهو تصحيف، ويحتمل أن يكون المراد من (المستحل) الذي يفعل فيه فعل المستحل، ويعامل عترة الرسول - صلى الله عليه وسلم - معاملة المستحل، ويجوز أن يراد به المستحل دينا واعتقادا، فإن قيل: كل من استحل شيئا حرمه الله عليه بعد بلوغ التحريم إليه كان كافرا بالإجماع، فما وجه تخصيص هذين المستحلين باللعن، إن ذهبتم إلى التأويل الأول، فما وجه لعنهما، وهما مسلمان؟ قلنا على كلا التقديرين فيه وجوه: أحدها: أنه شدد القول في ذلك تأكيدا للحرمة، أو إلزاما للحجة، ومبالغة في الزجر، كقوله - صلى الله عليه وسلم - (لعن الله من سب والديه) فلعن المجترئ على استحلال إحدى الحرمتين، لأن احديهما شرفت باسم الله، والأخرى نسبت إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - والثاني: أن زيادة البيان والتأكيد في التحريم والمبالغة في الوصية بحفظ الشيء موجبة لزيادة العقوبة على المستحل. والثالث: أن هاهنا اجتمع حق التعظيم وحق الحرمة، فوجب على المكلف القيام بحفظه، والاجتناب عما يخل بحرمته لمعنيين، ولا يوجد ذلك في سائر المحرمات، فغضب عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لتعرضه لغضب الله تعرضا بعد تعرض، ووجده مستحقا للعن فدعا عليه بالطرد والمقت في الأولى، والعقوبة في الأخرى؛ ليكون وبالا عليه، ونكالا لغيره. وأما التارك للسنة، فهو الذي يعرض عنها بالكلية، أو الذي يترك بعضها استخفافا بها، أو قلة احتفال بها. [82] ومنه حديث عائشة- رضي الله عنها- (قلت يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذراري المؤمنين؟ قال: من آبائهم) أي: معدودين من جملتهم؛ لأن الشرع يحكم بالإسلام/ 18 ب؛ بإسلام أحد الأبوين، ويأمر بالصلاة عليهم، وبمراعاة أحكام المسلمين فيهم، وكذلك حكم على ذراري المشركين بالاسترقاق، ومراعاة أحكام المشركين فيهم قبل ذلك، بانتفاء التوارث بينهم وبين المسلمين، فهم يلحقون في ظاهر الأمر بآبائهم، والله أعلم بما كانوا عاملين، وقد مر تفسير بقية الحديث فيما تقدم من الباب.

باب: إثبات عذاب القبر

[83] ومنه حديث ابن مسعود- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الوائدة والموءودة في النار) وأد بنته، يئدها وأدا، فهي موءودة: إذا دفنها في القبر وهي حية، وكانت كندة- اسم قبيلة- تئد البنات، وهذا الحديث إنما أوردوه في هذا الباب للاستدلال على تعذيب أطفال المشركين، ولا يجوز أن يقطع في هذه المسألة بمثل هذا الحديث؛ لأنه من جملة الآحاد، (مع ما) فيه من الاختلاف، ثم إنه محتمل لوجه آخر، وهو: أن الحديث ورد في قضية خاصة، فلا يجوز حمله على العموم، وذلك أن ابني مليكة أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألاه عن أم لهما كانت تئد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (الوائدة والموءودة في النار) ومليكة هذه يقال لها: مليكة بنت مالك. وقد ذكر الحديث على نحو ما ذكرناه من المعنى في مسند ابن مسعود، وكذلك رواه أحد ابني مليكة، وهو سلمة بن يزيد بن مشجعة الكوفي، وقيل: يزيد بن سلمة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قلت: ويحتمل أن الموءودة كانت قد بلغت الحنث، فدخلت النار بكفرها. وعن سلمة بن يزيد، في بعض طرق هذا الحديث: (أنها وأدت أختا لنا لم تبلغ الحنث ..) فلو صح، لقلنا: رأينا أنه إخبار عن الغيب على لسان الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حق نسمة بعينها، فلا يقاس عليها ما عداها، فإن الله يحكم في عباده بما يشاء وهو- على تقدير إن يثبت- ملحق بحديث الغلام الذي قتله الخضر، مع ما فيه من الاحتمال أن الراوي حسب أنها لم تبلغ الحنث، وكانت قد بلغت، والمذهب الصحيح المتبوع في هذه المسألة، ما قدمناه في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- والعلة الكبرى فيه عدم التوقيف. ومن باب: إثبات عذاب القبر (من الصحاح) [85] حديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا وضع العبد في قبره .. الحديث) فمنه قوله: - صلى الله عليه وسلم -: (فيقعدانه) الأصل فيه أن يحمل على الحقيقة، على حسب ما يقتضيه الظاهر، ويحتمل أن يراد به التنبيه لما

يسأل عنه والإيقاظ عما هو فيه [19/ أ] بإعادة الروح المميز الإنساني إليه، كالنائم الذي يوقظ، ومن الجائز أن يقال: أجلسته عن نومه أي: أيقظته عن رقدته، على المجاز والاتساع؛ لأن الغالب من حال النائم إذا استيقظ أن يجلس، فجعل الإجلاس مكان الإيقاظ، والظاهر أن بعض الرواة جعل الإقعاد بدل الإجلاس في روايته بالمعنى؛ لأن الحديث ورد بهما ففي هذا الحديث: (فيقعدانه) وفي حديث البراء (فيجلسانه) وهذا اللفظ أولى اللفظين بالاختيار؛ لأن الفصحاء إنما يستعملون القعود في مقابلة القيام، فيقولون القيام والقعود، ولا يسعهم أن يقولوا القيام والجلوس، يقال: قعد الرجل عن قيام، وجلس عن ضجعة واستلقاء، وقد حكى أن النضر بن شميل دخل على المأمون عند مقدمه مرو، فمثل بين يديه وسلم، فقال المأمون: اجلس، فقال: يا أمير المؤمنين، لست بمضطجع فأجلس، قال: فكيف أقول؟ قال: قل: اقعد. فعلى هذا، المختار من الروايتين هو الإجلاس؛ لما أشرنا إليه من دقيق المعنى وفصيح الكلام، وهو الأحق والأجدر ببلاغة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولعل الاختلاف وقع في اللفظين من بعض من روى الحديث بالمعنى، فظن أنهما ينزلان في هذا الموضع من المعنى بمنزلة واحدة. ومن هذا الوجه أنكر كثير من السلف رواية الحديث بالمعنى خشية أن يزل في الألفاظ المشتركة، فيذهب عن المعنى المراد جانبا. قوله - صلى الله عليه وسلم - (لا دريت ولا تليت) هكذا يرويه المحدثون، والمحققون منهم على أنه غلط، والصواب مختلف فيه، فمنهم من قال: صوابه: لا أتليت- ساكنة التاء، دعا عليه بأن لا تتلى إبله. أي: لا يكون لها أولاد تتلوها، فهذا اللفظ على هذه الصيغة مستعمل في كلامهم، لا يكاد يخفى على الخبير باللغة العربية، فإن قيل: هذا الدعاء لا يناسب حال المقبور؛ قلنا: الوجه أن يصرف معناه إلى أنه مستعار في الدعاء عليه بأن لا يكون لعمله نماء وبركة. وقال بعضهم: أتلي: إذا أحال على غيره، وأتلى: إذا عقد الذمة والعهد لغيره. أي: ولا ضمنت وأحلت بحق على غيرك، لقوله: (سمعت الناس) ومنهم من قال: (لا ائتليت) على أنه افتعلت، من قولك: ما ألوت هذا، فكأنه يقول: لا استطعت، ومنهم من قال: (تليت) أصله: تلوت، فحول الواو ياء لتعاقب الياء في دريت. قوله - صلى الله عليه وسلم - (يسمعها من يليه غير الثقلين) إنما صار الثقلان/ 19 ب عن سماع ذلك بمعزل لقيام التكليف ومكان الابتلاء، ولو سمعوا ذلك لارتفع الإيمان به ضروريا، فأخفى عنهم ذلك؛ كيلا يفوتهم حظهم من الإيمان بالغيب.

[86] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (إن كان من أهل الجنة، فمن أهل الجنة) تقدير الكلام: إن كان من أهل الجنة مقعد من مقاعد أهل الجنة يعرض عليه، وفيه (حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة) والهاء ترجع إلى المقعد، ويجوز أن يعود الضمير إلى الله تعالى، هذا لفظ المصابيح. وقد روى أيضا في الأحاديث الصحاح: (حتى يبعثك الله إلى يوم القيامة) أي هذا مستقرك إلى يوم القيامة، ويجوز أن يكون التقدير: حتى يبعثك الله إلى محشر يوم القيامة، فحذف المضاف. [87] ومنه حديث عائشة رضي الله عنها فما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد صلى صلاة، إلا تعوذ من عذاب القبر) فالشكل من هذا الحديث: أنا لا ندري: أكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم ذلك ولا يتعوذ أم كان يتعوذ ولم تشعر به عائشة، أو سمع ذلك ... فتعوذ منه، ولقد وجدت في مسموعات أبي جعفر الطحاوي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع يهودية في بيت عائشة تقول: إنكم تفتنون في القبور فارتاع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: (إنما تفتن يهود) قالت عائشة: فلبثنا ليالي، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أشعرت أنه أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور) فلو صح هذا لذهبنا إلى أنه - صلى الله عليه وسلم - توقف في شأن أمته في فتنة القبر، إذ لم يوح إليه شيء، فلما أوحي إليه تعوذ منه، ووجدنا في حديث آخر، أن عائشة- رضي الله عنها- قالت: فلا أدري: أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ قبل ذلك ولم أشعر به أو تعوذ لقول اليهودية) فعلى هذا يحتمل أنه كان يتعوذ ولم تشعر به عائشة- رضي الله عنها- فلما رأى استغرابها لهذا القول وتعجبها منه أعلى بالتعوذ؛ ليترسخ ذلك في عقائد أمته، ويكونوا من فتنة القبر على خيفة، والله أعلم. [88] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث زيد بن ثابت- رضي الله عنه-: (لولا أن لا تدافنوا؛ لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر) هذا كلام مجمل، والذي يسبق منه إلى الفهم هو: أنهم لو سمعوا ذلك لتركوا التدافن؛ حذرا من عذاب القبر. وفي هذا المعنى نظر؛ لأن المؤمن لا يليق به ذلك، بل يجب عليه

أن يعتقد أن الله تعالى إذا أراد تعذيب أحد عذبه، ولو في بطون الحيتان وحواصل الطيور، وسيان دون القدرة الأزلية بطن الأرض/ 20 أوظاهرها، وبعد ذلك فإن المؤمنين أمروا بدفن الأموات، فلا يسعهم ترك ذلك، إذا قدروا عليه، والذي نهتدي إليه- بمقدار علمنا ومبلغ فهمنا- هو أن الناس لو سمعوا ذلك، لهم كل واحد منهم خويصة نفسه، وعمهم من ذلك البلاء العظيم، حتى أفضى بهم إلى ترك التدافن، وخلع الخوف أفئدتهم، حتى لا يكادوا أن يقربوا جيفة ميت. ويحتمل وجها آخر: وهو أن الأحياء مازالوا يوارون سوءات الأموات طبعا وجبلة، ثم ندبوا إلى ذلك شرعا وملة، فلو سمعوا صياح المعذبين، لكان فيهم من يحمله العصبية وخوف الفضيحة في ذويه وقرابته على أن ينبذهم بالعراء؛ لئلا يخبر عن حالهم مخبر، فإن القبور كالمنازل، لا تكاد تدرس معالمها، أو تنسى مواضعها. [89] ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا قبر الميت؛ أتاه ملكان أسودان أزرقان ... الحديث) يحتمل أن يكون (أسودان) على الحقيقة؛ لما في لون السواد من الهول والنكر،

ويحتمل أن يكون كناية عن قبح المنظر، وفظاعة الصورة، يقال (كلمت) فلانا فلا رد على سوداء ولا بيضاء، أي: كلمة قبيحة ولا حسنة، وأما (أزرقان) فليس المراد منه الزرقة فحسب، بل المراد منه وصفهما بتقليب البصر فيه، وتحديد النظر إليه، يقال: زرقت عينه نحوي: إذا انقلبت وظهر بياضها، ولهذا يوصف العدو بالزرقة، فيقال: أسود الكبد، أزرق العينين؛ لأن من عادة العدو إذا نظر إلى من يبغضه ويعاديه- أن ينظر إليه شذرا؛ بحيث تنقلب عينه ويظهر بياضها، وقد ذهب بعضهم إلى أن العرب إنما وصفوا الأعداء بالزرقة؛ لأن الروم أعداؤهم وهم زرق العيون، والتعليل الذي ذكرنا أوجه، ثم إن الزرقة أبغض شيء من ألوان العيون إلى العرب، والعين إذا (ذهب أزرقت)، قال الله تعالى {يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا} أي: عميا عيونهم لا نور لها، ويجوز أن يكون وصفهما بالعمى، والدليل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث آخر: (أبيض أعمى أصم) قوله: (نم كنومة العروس) العروس: نعت يستوي فيه الرجل والمرأة، ما داما في أعراسهما، يقال: رجل عروس، ورجال عرس وامرأة عروس، في نساء عرائس. ومنه الحديث: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عروسا بزينب) وإنما ضرب المثل بنومة العروس؛ لأن الإنسان أعز [20/ ب] ما يكون في أهله وذويه، وأرغد وأنعم وهو في ليلة الأعراس، وفي أمثالهم: (كاد العروس أن يكون أميرا).

ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث البراء بن عازب- رضي الله عنه-: (فأفرشوه من الجنة) فأفرشوه: بألف القطع، أي: اجعلوا له فرشا من فرش الجنة، ولم نجد الإفراش على هذا المعنى في المصادر، وإنما هو أفرش، أي: أقلع عنه وأقفل فأفرش [بهذا] اللفظ من الباب القياسي، الذي ألحق الألف بثلاثيه، ولو كان من الباب الثلاثي، لكان من حقه أن يروى بألف الوصل، والمعنى: ابسطوا له، ولم نجد في الرواية إلا بالقطع. قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ويفتح له مد بصره) أي: مداه، وهي الغاية التي ينتهي إليها البصر، فإن قيل: كيف التوفيق بين قوله: (ويفسح له في قبره سبعون ذراعا في سبعين) وبين قوله: (فيفتح له مد بصره) قلنا: إنما عبر بقوله: (ويفسح له) عند توسيع مرقده عليه، وبقوله: (ويفتح له مد بصره) عما يعرض عليه وينظر إليه من رياض الجنة ومروجها، ويحتمل أن يكون الكلمتان عبارة عن فسحة القبر، ويكون الفسحة المقدرة بالأذرع لعوام المؤمنين، وذلك أدناها، والفسحة مد البصر لخواص عباد الله الصالحين، فالأول إخبار عن مبدأ الرتبة، والثاني عن منتهاها. قوله - صلى الله عليه وسلم -: (فيقيض له أعمى أصم معه مرزبة) يقيض: أي يقدر، وأصل الكلمة من القيض، وهو: القشر الأعلى من البيض، فقولك: قيض الله لي فلانا. أي أتاحه، فاستولى على استيلاء القيض على البيض، وأما (أعمى أصم) أي: من لا يرى عجزه فيرحمه، ولا يسمع عويله فيرق له، وأما (المرزبة) فإن المحدثين يشددون الباء منها، والصواب تخفيفه، وإنما يشدد الباء، إذا أبدلت الهمزة من الميم، وهي الإرزبة، وهي التي يكسر بها المدر، وأنشد الفراء: ضربك بالمرزبة العود النخر [93] ومنه حديث أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يسلط على الكافر في قبره تسعة وتسعون تنينا .. الحديث) التنين: ضرب من الحيات والوقوف على فائدة التخصيص في تسع وتسعين على الحقيقة، إنما يحصل بطريق الوحي، ويتلقى من قبل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثم إنا نجد وجها من جهة الاحتمال، وهو أن نقول: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن لله تسعة وتسعين اسما ... الحديث) وقال - صلى الله عليه وسلم -: (إن لله تعالى مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة، بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها، وأخر تسعة وتسعين رحمة يرحم بها عباده) فتبين لنا من الحديث الأول أن الله- تعالى- بين لعباده معالم معرفته بهذه الأسماء، وعرفنا من

باب الاعتصام بالكتاب والسنة

الحديث الثاني: أن ما خص الله به المؤمنين من رحمته في الآخرة، بالنسبة إلى ما عم به الخلائق من رحمته في الدنيا نسبة تسعة وتسعين جزءا إلى الجزء الأول من جزء واحد، والكافر حيث كفر بالله، ولم يؤد حق العبودية في هذه الأسماء، ولا في بعضها، حرم الله عليه أقسام رحمته في الآخرة، المعبر عنها بتسع وتسعين، فجعل الله مكان كل عدد في هذه الأعداد تنينا يسلط عليه في قبره، وإن ذهب ذاهب إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عبر عما يلحق به من التبعات، وينزل به من المكروهات بالتنانين، ففيه من طريق العربية مساغ، على وجه المجاز والاتساع، ولكن الأخذ بالظواهر في أمثال هذا الحديث أولى بأولي الألباب حتى تتبين الحقيقة عن المجاز، وأما استحالة أن يكون ذلك على الحقيقة ومدافعته من طريق المعقول، فإنه سبيل من لا خلاق له في الدين، والله يعصمنا من عثرة العقل وفتنة الصدر، ويسلك بنا محجة الكتاب والسنة. ومن باب الاعتصام بالكتاب والسنة (من الصحاح) [94] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عائشة: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد) لفظ الأمر عام في الأقوال والأفعال، وأراد به النبي - صلى الله عليه وسلم - الدين يعني: دين الإسلام، وإنما عبر عنه بهذا اللفظ؛ تنبيها على أن الدين هو أمرنا الذي نهتم له، ونشتغل به، بحيث لا يخلو عنه شيء من أقوالنا ولا من أفعالنا، وقوله: (فهو رد) أي: مردود. [95] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث جابر رضي الله عنه: (أما بعد) هما كلمتان يؤتى بهما لفصل الخطاب. قال سحبان بن وائل: لقد علم الحي اليمانون أنني .... إذا قلت: أما بعد، أني خطيبها

والفاء لازمة لما بعد (أما) من الكلام؛ لما في (أما) من معنى الشرط، وقوله: (خير الهدى) هدى الرجل: سيرته وطريقته، يقال: فلان حسن الهدى، أي: حسن المذهب في الأمور كلها، ويقال: هدى هدى فلان: أي سار سيرته، ويستعمل ذلك في السيرة الحسنة والطريقة المرضية، وقوله: (خير الهدى) على معنى الجمع، و (هدى محمد) على معنى الوحدان، فكأنه [21/ ب] قال: خير الطرائق طريقة محمد - صلى الله عليه وسلم - وفيه: (وشر الأمور محدثاتها) بالنصب عطفا على اسم إن أتمها معنى، وأكثرها رواية، ويجوز فيه الرفع على الابتداء. [96] ومنه حديث ابن عباس- رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم- الحديث) أي ملحد في حق الحرم، وهو أن يستحل ما حرم منه، والإلحاد: الميل عن الحق، مشتق من اللحد، وهو الحفرة المائلة عن الوسط. والإلحاد ضربان: إلحاد إلى الشرك بالله، وإلحاد إلى الشرك بالأسباب، فالأول ينافي الإيمان ويبطله، والثاني يوهن عراه ولا يبطله. وقوله (ملحد في الحرم) من هذا القبيل، قال الله: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} وإذا ذهبنا في التأويل إلى الوجه الذي ذكرناه، فلابد أن نقول: إن قوله - صلى الله عليه وسلم - (أبغض الناس) لا يجري على معنى العموم، بل المراد منه: أبغض الناس إلى الله، من عصاة الأمة، وأهل الملة، قال الله تعالى: {أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله} قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ليهريق دمه) يهريق، بفتح الهاء وأصله: أراق، يريق، إراقة، وأصل أراق أريق، وأصل يريق: يأريق، فأبدلوا من الهمزة الهاء؛ لاستثقالهم الهمزتين في قولهم: أنا أأريقه، ومنه لغة أخرى: أهرق الماء، يهرقه، إهراقا. [98] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث جابر رضي الله عنه: (ومحمد فرق بين الناس) فإن كانت الراء مشددة، من التفريق، فالمعنى: أنه ميز بينهم، فتبين به المطيع عن العاصي، والعاصي عن المطيع، وإن كانت الراء ساكنة فالفرق بمعنى الفارق، وهو في الأصل مصدر، فوصف به كالعدل، ولا أحققه رواية. [99] ومنه حديث أنس- رضي الله عنه- (جاء ثلاثة رهط .. الحديث) الرهط: من الثلاثة إلى

العشرة، وقال الجوهري: الرهط: ما دون العشرة من الرجال، لا يكون فيهم امرأة، وليس له واحد من لفظه، وإنما جاز تمييز الثلاثة بالرهط؛ لأنه في معنى الجماعة، فكأنه قال: ثلاثة أنفس، وقد وجدت في بعض تعليقات أصحاب الحديث أن الرهط الثلاثة علي وعثمان بن مظعون وعبد الله بن رواحة- رضي الله عنهم ولا أثبته رواية فيه: (كأنهم تقالوها) أي: رأوها قليلا، ولم أجد هذا البناء بصيغته في شيء من كتب اللغة وهو وارد في هذا الحديث، وفي حديث آخر كان الرجل يتقالها) أي: يستقلها. [102] ومنه حديث أبي موسى رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به ... الحديث) وفيه: (وإني أنا النذير العريان) هذا مثل سائر بين العرب قبل المبعث، وإنما تكلم به النبي - صلى الله عليه وسلم - ضربا للمثل وفي قوله: (وإني أنا النذير) تنبيه على أنه هو المستحق لضرب هذا المثل له وهو الذي يختص في لإنذاره بالصدق الذي لا شبهة فيه وهو الذي يحرص حقا على خلاص قومه، وقد اختلف في أصل هذا المثل ومعناه، فمن قائل: إن الرجل كان إذا رأى العدو، وقد هجمت على قومه، والغارة قد فجئتهم، تجرد من ثيابه ولوح بها؛ لينذر قومه وينبئهم أن قد فجئهم أمر، وأرى هذا القول أمثل الأقاويل، ومن قائل إن امرأة رقبة بن عامر البهراني، لما أتت الشام من الحيرة منذرة قومها بهرا من الشهباء والدوسر كتيبتي المنذر بن ماء السماء، قالت لهم: أنا النذير العريان، فأرسلتها مثلا، وخص العريان بالذكر؛ لأنه أبين للعين، ومن قائل: إن النذير العريان رجل من خثعم، حمل عليه عوف بن عامر، يوم ذي الخلصة،

- صلى الله عليه وسلم - بمسميات الجنس، فيلزمنا الوقوف على الحد الذي أوقفنا عليه، والتسليم لما يخبر به عن الغيب، فمن ابتغى التجاوز عن الحد المحدود له في هذا القسم؛ فهو مبتغ للفتنة، مبتغ للمتشابه؛ للزيغ الذي في قلبه، عصمنا الله عن ذلك، ووفقنا للانتهاء عما نهينا عنه، والائتمار لما أمرنا به. ومنه قول عبد الله بن عمرو- رضي الله عنه-: هجرت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ..) التهجير: السير في الهاجرة، وكذلك التهجر، ومنه قول النابغة: خليلي غضا ساعة وتهجرا والتهجير أيضا بلوغ النهار وقت الهاجرة، قال امرؤ القيس: فدعها وسل الهم عنك بجسرة .... ذمول إذا صام النهار وهجرا [106] ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ذروني ما تركتكم .. الحديث) قلت: إنما كان كثرة السؤال والاختلاف على الأنبياء سببا للهلاك؛ لأنهما من أمارات التردد في أمر المبعوث، وإساءة الأدب بين يديه، ومن حق المبعوث إليه أن يعلم أن الله بعث نبيه إليه ليعرفه مصالح معاده ومعاشه، ويبصره بمعالم دينه، ولا جائز أن يسكت عند الحاجة، أو يتكلم على خلاف المصلحة، أو يغفل عن مواطن الضرورة، فإن الله- تعالى- لم يجعله مستعدا لنبوته ولا أمينا على وحيه، إلا وقد تكفل له بالإصابة، وأيده بالهداية إلى الأرشد والأصلح، فعلى المبعوث إليه أن يلقي سمعه إليه، ويشهد بقلبه بين يديه، ويغتنم سكوته إذا سكت، وكلامه إذا تكلم، ويسد دونه باب الاختلاف، ويجتنب معه عن مظان الاعتراض، فمهما عود نفسه كثرة السؤال، وفتح عليها باب الاختلاف؛ حرم بركة الصحبة، فابتلي بسوء الأدب، وذلك منشأ الوبال، ومطلع الهلاك، وهؤلاء الصوفية يقولون: من قال لأستاذه: لم، لا يفلح أبدا، فما ظنك بمن تولاه الله بالعصمة في أحواله، وأمر عباده بالتسليم والائتساء دون أقواله وأفعاله - صلى الله عليه وسلم - أبد الآبدين. [107] ومنه: حديث سعد بن أبي وقاص- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما ... الحديث) قد عرفنا- بنص الكتاب- أن قد كان من الطيبات ما حرمه الله- تعالى

[105] ومنه حديث عائشة رضي الله عنها: (تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {هو الذي أنل عليك الكتاب} ... الحديث) قد افتقرنا في بيان هذا الحديث إلى الكشف عن المراد بالحكم والمتشابه؛ ليتبين لنا المحق عن المبطل في أبواب التأويل، فنقول وبالله التوفيق: المحكم ما لا يعرض فيه شبهة من حيث اللفظ، ولا من حيث المعنى، فكأن عبارته أحكمته: بأن حفظت عن الاحتمال والاشتباه، ثم بأن عصمت عن النسخ. وقيل: المحكم، ما أجمع على تأويله. وأما قوله- تعالى-: {هن أم الكتاب} أي: أصله؛ فتحمل المتشابهات عليها، وترد إليها. وقيل: أم الكتاب أي معظمه. ويقال لمعظم الطريق أم الطريق. وأما المتشابه، فإنه من حيث الاعتبار اللفظي: ما أشكل تفسيره؛ لمشابهة غيره، ومن حيث الاعتبار المعنوي: ما لا ينبئ ظاهره عن مراده الذي يقتضيه النظر، وأن المتشابه [23/ ب] على أقسام: فمنها ما يرجع إلى الألفاظ المفردة للاشتراك، ومنها ما يرجع إلى جملة الكلام المركب لاختصار الكلام أو لبسطه، أو للتقديم والتأخير في نظمه، ويدخل في جملتها العموم والخصوص والوجوب والندب، والناسخ والمنسوخ ومنها ما يشتبه من جهة المكان والأمور التي ترد فيها أو في جهة الشروط التي بها يصح الفعل، أو يفسد، وكل هذه أقسام يجوز للعلماء الفحص عنها، بل يجب عليهم بيانها، وكل ذلك متشابه من وجه، وغير متشابه من وجه فلا يسمى متشابها على الإطلاق، بل هو متشابه بالنسبة إلى من لم يتقنه رواية ودراية، وعليه أن يحذر من التعرض له. وهناك قسم آخر، هو المتشابه على الإطلاق فيجب الإيمان به، وترك التعرض به للكيفية، والتوقي عن استعمال القياس فيه، فمنه صفات الله- تعالى- التي لا كيفية لها، وأوصاف القيامة التي لا سبيل إلى إدراكها بالقياس والاستنباط، ولا سبيل إلى استحضارها في النفوس، إلا أنها معرفة على لسان الشارع-

وفيه: (فتغلبوني وتقحمون فيها) فتغلبوني: النون مشددة منه؛ لأن أصله: فتغلبونني، فأدغم إحدى النونين في الأخرى. وقوله: (تقحمون) أي: ترمون بأنفسكم فيها، والتقحم: الدخول في الشيء من غير روية، وأكثر ما يستعمل في الشدة والأهوال المخيفة، والأخطار الشاقة، فهذه أمثال ضربت لمن جل انتفاعه بالعلم والهدى، فعلم وعلم فانتفع بعلمه، وانتفع به غيره، ولمن قل حظه من الانتفاع بالعلم في نفسه، وانتفع به غيره، ولمن لم يستعد أصلا لقبول العلم والهدى، فلم ينتفع بهما. [104] ومنه حديث أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث ..) يقال: مثل الشيء: إذا انتصب وتصور، وأصل المثول: الانتصاب، والممثل المصور، والمثل: عبارة عن قول في شيء يشبه قولا في شيء آخر، بينهما مشابهة، ليبين أحدهما الآخر ويصوره، والغيث: المطر، وإنما ضرب المثل بالغيث؛ للمشابهة التي بينه وبين العلم، فإن الغيث يحيي البلد الميت، والعلم يحيي القلب الميت، وقد كان الناس في الزمان الأول قبل المبعث، وهم على فترة من الرسل قد امتحنوا بموت القلب/ 23 أونضوب العلم، حتى أصابهم الله برحمة من عنده، فأفاض عليهم سجال الوحي السماوي، فأشبهت حالهم حال من توالت عليهم السنون وأخلفتهم المخايل، حتى تداركهم الله بلطفه، وأرخت عليهم السماء خزاليها ثم كان حظ كل فريق من تلك الرحمة على ما ذكره من الأمثلة والنظائر، وفيه: (فكانت منها طائفة طيبة) الطائفة من الشيء: قطعة منه. وفيه: (وكانت منها أجادب) الأجادب: صلاب الأرض التي تمسك الماء فلا يسرع إليه النضوب. وقد اختلف في هذا الحرف، فمنهم من رواه بالحاء والراء، وليس ذلك بشيء، ومنهم من قال: إنما هي: أجارد، بالجيم والدال، جمع جرداء وهي التي لا تنبت الكلأ فيسترها النبات، وقال بعضهم: إنما هي أخاذات، سقط منها الألف، فصحفت، والأخاذة: شيء كالغدير، وجمعها السماعي أخاذ، وقد رواها أناس أخاذات كذلك، حتى خرجت من جملة الشذوذ، وأوضح هذه الألفاظ من طريق الرواية الأجادب، وأقومها من طريق اللغة الأجارد، غير أنها لا تثبت رواية. وفيه: (إنما هي قيعان) القاع: المستوى من الأرض، والجمع: أقوع وأقواع وقيعان، لم نجد أهل اللغة يزيدون في تفسير القيعان على هذا شيئا، والذي يدل عليه نسق الحديث هو أن القاع هي الأرض المستوية الملساء، التي لا تنبت؛ لأن الغالب على هذا النوع أن لا تنبت، ومنها السراب اللامع، قال الله تعالى: {كسراب بقيعة} والقيعة، مثل القاع، وأصلها الواو، وكذلك القيعان، وإنما صارت الواو ياء لكسرة ما قبلها.

فقطع يده ويد امرأته، فأتى قومه ينذرهم، فضرب به المثل، وأول أوجه؛ للمطابقة التي بين اللفظ والمعنى. والظاهر أن قوما سمعوه من البهرانية، فأسندوه إليها، وقوم سمعوه من الخثعمي فأسندوه إليه، وقد كان مبنى القول على ما ذكرناه من التخريج، ثم صار مثلا لكل أمر يخاف مفاجأته، ولكل أمر لا شبهة فيه، والأمران معا اجتمعا في إنذار النبي - صلى الله عليه وسلم - لظهور الصدق في قوله واستبانة مظان الخوف عن وقوع ما ينذر به. وفيه: (النجا النجا) أي: انجوا انجوا، يقال: نجوت من كذا نجاء- ممدود- ونجا، مقصور. وفيه: (على مهلهم) أي: على هينتهم وسكونهم، والمهل- بالتحريك- التؤدة والسكون، والإمهال والتمهيل: الإنظار، والاسم منه المهلة وفيه: (واجتاحهم) أي: استأصلهم يقال: جاحتهم الجائحة واجتاحهم، وجاح الله- عز وجل ماله، وأجاحه بمعنى، أي أهلكه بالجائحة. [103] ومنه حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (مثلي كمثل رجل استوقد نارا، فلما أضاءت ما حولها ... الحديث) الإضاءة: فرط الإنارة، واشتقاقه من الضوء، وهو ما انتشر من الأجسام النيرة، يقال: ضاءت النار، واضاءت غيرها، يتعدى ولا يتعدى. وحول الشيء: جانبه الذي يمكنه أن يحول إليه، أو سمي بذلك اعتبارا بالدوران [22/ ب] والإطافة، ويقال للعام حول؛ لأنه يدور، ويجوز أن يكون (أضاءت) غير متعدية، مستندة إلى (ما حولها) والتأنيث للحمل على المعنى؛ لأن ما حول النار أماكن وأشياء، وفي كتاب الله: {ما حوله} لأن المثل ضرب بحال المستوقد، فرجع الضمير إليه، وهاهنا ضرب المثل بوقوع الفراش في النار؛ لجهله بما يعقبه التقحم فيها، فرجع الضمير إلى النار، وفيه: (أنا آخذ بحجزكم). حجزة الإزار: معقده، واستعير الأخذ بالحجزة للمنع الشديد؛ لأن الذي يمنع صاحبه عن الشيء يتمسك به؛ ليكون المنع أقوى وأشد، مع أن المأخوذ إذا أخذ بحجزته امتنع مما يمنع منه؛ حذرا من انحلال عقدة الإزار، وبدو السوءة، والحجزة أخذت من الحجز، وهو المنع بين الشيئين والفاصل بينهما، ومنه الحاجز. وفيه: (هلم عن النار) قال الخليل: أصله: لم، أراد: لم نفسك إلينا بالقرب منا، و (ها) للتنبيه، وإنما حذفت الهاء لكثرة الاستعمال، وجعلا اسما واحدا، يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث في لغة أهل الحجاز، قال الله- تعالى-: {والقائلين لإخوانهم هلم إلينا} وقيل: أصله: هل أم، أي: هل لك في كذا، أمه: أي اقصده، فركب الكلمتان، فقيل: هلم ومعناه: هلم إلى واغرب عن النار.

- عقوبة للمكلفين على ما اجترحوه من الذنوب، وذلك قوله- سبحانه-: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم} فالسائل عن شيء لم يحرم سلك في سؤاله ذلك ملك الاختلاف على الأنبياء، وهو في ذلك متعد طوره، متجاوز حده، التي ذكرناها قبل هذا الحديث. ثم إنه أذنب حين أقدم على ما نهي عنه، ونطق حيث أمر بالسكوت، فأصبح مستحقا للعقوبة، على ما ارتكبه، فعاقبه الله بتحريم ما سأل عنه، فجنى على نفسه، وجر جريرة إلى من سواه من أهل دينه، بسؤاله ذلك، فصار أعظم المسلمين في المسلمين جرما، لا لأن جريمته أعظم الجرائم، بل لما عمهم من البلوى، وبيان ذلك: أن القتل أكبر الكبائر بعد الشرك، فلا يمكن أن يكون جرم هذا السائل أعظم من القتل، ولكنه لما جنى جناية تعدت منه إلى سائر المسلمين أولهم وآخرهم؛ صار أعظم المسلمين في حق المسلمين جرما، والقتل- وإن كان أعظم منه، فإنه يتعدى إلى القاتل وإلى عاقلته، وإلى قبيلته أو إلى أهل قريته، ولا كذلك جرم الذي حرم ما سأل عنه لأجل مسألته، فإنه تعدى إلى سائر المسلمين، فلا يمكن أن يوجد جرم ينتهي في معنى العموم إلى هذا الحد، فإن قيل: اليهود لما ظلموا عمهم الله بالعقوبة، فحرم عليهم طيبات أحلت لهم، وهذا السائل إنما جنى جناية لم يشاركه في اجتراحها أحد، فما بال سائر المسلمين يشاركونه في العقوبة؟ قلنا: لقد كان أيضا في اليهود من لم يشاركهم [24/ ب] في ظلمهم، كيف وقد كان فيهم الأنبياء والصديقون، ثم إن التحريم لم يختص بالظالمين منهم، بل كانوا سواء في حكم التحريم، وإنما عوقب به الظالم، وابتلى به الصابر، والظالمون قد جنوا على أنفسهم بالظلم، فاستحقوا العقوبة بالتحريم، وتعدى إلى غيرهم، ثم أضيف التحريم إلى الظالمين؛ لأن ظلمهم كان السبب، فكذلك ها هنا. [111] ومنه حديث عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي ... الحديث) هذا الحرف.

أعني: (في أمة قبلي) - وجدناه في النسخ من المصابيح: (في أمته قبلي) بزيادة الهاء، ونحن نرويه بغير هاء عن كتاب مسلم وغيره، وهو الصواب والأمثل في فصيح الكلام. وفيه (إلا كان له من أمته حواريون) يذهب كثير من أهل العلم إلى أن الأصل في تسمية الناصر بالحواري، أن أصحاب عيسى- عليه السلام- كانوا قصارين يحورون الثياب، أي: يبيضونها، فلما كانوا أنصاره دون الناس؛ قيل لكل ناصر نبيه حواري، تشبها بأولئك، وقال بعض المتعمقة: إنما سموا حواريين؛ لأنهم كانوا يطهرون نفوس الناس عن دنس الجهل وأوضار الذنوب، بإفادة الدين والعلم. والمعنى المستقيم على الوضع اللغوي أنهم خلصان الأنبياء؛ لأن حواري الرجل صفوته وخلاصته الذي أخلص ونقى من كل عيب، ومنه قيل للحضريات: الحواريات؛ لخلوص ألوانهن ونظافتهن. قال أبو جلدة: فقل للحواريات يبكين غيرنا .... ولا تبكنا إلا الكلاب النوابح وفي وزنه الحواري، وهو: كثير الحيلة، ويحتمل أنه سمي حواريا؛ لأنه روجع في اختياره مرة بعد أخرى، كالدقيق الحواري، الذي نقى ونخل. وفيه: (ثم يخلف من بعدهم خلوف) خلف فلان فلانا: إذا كان خليفته، قال الله تعالى-: {وقال موسى لأخيه هارون أخلفني في قومي} ويقال: خلفه، أي: جاء بعده، والمراد به ها هنا جيئة الخلوف بعد السلف، والخلوف: الحضور المتخلفون، ويقال أيضا: حي خلوف، أي: غيب، وهو من باب الأضداد، ويقال أيضا: حي خلوف: إذا ذهب الرجال وبقي النساء، فيحتمل أنه استعير في صفتهم إشارة إلى أنهم لا يغنون في أمر الدين غناء كالنساء والصبيان. ومنه الحديث: (أن اليهود قالت: لقد علمنا أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لم يترك أهله خلوفا). أي: لم يتركهن لا راعي لهن ولا حامي، والظاهر أن الخلوف ها هنا جمع خلف، قال الله - تعالى: {فخلف من بعدهم خلف}. والخلف والخلف: ما جاء بعد، ويجوز فيه التحريك والتسكين، إلا أنه يقولون: حلف سوء- بالتسكين- وخلف صدق- بالتحريك. يريدون الفرق بينهما، كما قالوا: وعد في ضمان الخير، ووعيد في ضمان الشر، فنجمع حلف على أخلاف، كما نقول: سلف وأسلاف، وخلف على خلوف كما نقول عدل وعدول، والخلف أيضا: الرديء من كل شيء، يقال: سكت ألفا ونطق خلفا. أي رديئا من القول. والمعنى: أنه يجيء من بعد أولئك السلف الصالحين أناس لا خير فيهم، ولا خلاق لهم في أمور الديانات. وفيه: (ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) والمعنى أن أدنى مراتب أهل الإيمان أن تضطرب قلوبهم لظهور المنكر، ويكون منه في جهد وعناء، حتى لا يستقر، ولا تنقطع النزاع عنها، فإن استقرت

على ذلك، وانقطع عنها النزاع الذي هو حق الإيمان، وسمت المؤمنين وسمتهم؛ آذنت بأنها خالية عن القوى الإيمانية، عرية عن الصفات النورانية. [112] ومنه حديث معاوية- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله) قد ذكرنا معنى الأمة، والوجوه التي تتصرف عليها، فالمرادون بقوله: (أمتي) هم المجيبون لدعوته، وبقوله: (أمة) هم المؤثرون لهديه الآخذون بسنته، ووصفهم بقوله: (قائمة بأمر الله) وهم المراعون لطاعته، الحافظون عليها. وقوله: (حتى يأتي أمر الله) أي: القيامة، كقوله- تعالى-: {أتى أمر الله}. [113] وقوله- في حديث جابر- رضي الله عنه- الذي يتلو هذا الحديث: (لا يزال طائفة من أمتي) فالمراد بهم: المجاهدون في سبيل الله، وقد حمل الحديثان على جيوش الشام المرابطة في سبيل الله، نضر الله بها وجه الإسلام، فقيل: المرادون بالأمة القائمة هم المجاهدون، ومنهم من قال: هم العلماء، ومنهم من قال: هم أصحاب الحديث. والأظهر أن يحمل حديث معاوية على السواد الأعظم الذي يقيمون كتاب الله وسنة رسوله، وأولاهم بذلك العلماء الربانيون، والأئمة المقسطون، وعباد الله المقربون. وحديث جابر وما جرى مجراه من الحديث كحديث عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص وعمران بن حصن والمغيرة ابن شعبة وابن عمر وأبي الدرداء وأبي هريرة وأبي أمامة وثوبان وجابر بن سمرة، وسلمة بن نفيل الكندي- رضي الله عنهم- على الفئة الغازية بالثغور الشامية، نصر الله أهلها وجمع شملها. [115] ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-: (بدأ الإسلام غريبا ... الحديث) معنى هذا الحديث أن الإسلام لما بدأ في أول وهلة نهض بإقامته والذب عنه أناس قليلون من أشياع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثم من أفناء الناس ونزاع القبائل فشردوهم عن البلاد، ونفوهم عن عقر الديار، يصبح أحدهم معتزلا مهجورا، ويبيت منتبذا وحدانا، ينكره الأهلون، ويباعده الأقربون، فهو بين الناس كالغريب؛ لقلة الأشكال وعوز الآلاف، لا يخالطه أحد، ولا يستأنس هو بأحد، فأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن أمر الإسلام في الآخر يعود

إلى ما كان عليه في الأول، لا يكاد يوجد من القائمين له إلا الأفراد الذين يتعيشون بين ذويهم وقراباتهم بعيش الغرباء؛ لاختلاف ما بين الفئتين من المقاصد، ويمكن أن يكون المماثلة بين الحالة الأولى والحالة الآخرة لقلة بمن كانوا يتدينون به في الأول وقلة بمن كانوا يعملون به في الآخر. قال: (فطوبى للغرباء) فأثنى على أولئك النفر بقوله هذا، وطوبى فعلى من الطيب، قلبوا الياء واو للضمة قبلها، ويقال: طوبى لك، وطوباك، بالإضافة. [119] ومنه حديث المقدام بن معد يكرب- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه ... الحديث) أشار - صلى الله عليه وسلم - بقوله هذا إلى ما آتاه الله من الفهم في الكتاب والهمة من بيان الأحكام

وتفصيل الحلال والحرام، أو أراه في المنام، أو نفث في روعه روح القدس من الحكم والأمثال، فكل ذلك من أقسام الوحي الذي آتاه الله، سوى القرآن، والقرآن من تلك الأقسام مخصوص بالرتبة العظمى، والمنزلة الكبرى؛ لأنه كلام الله: وحيه وتنزيله، ثم إنه يمتاز عما سواه من هذه الأقسام في أحكام التلاوة، ومس المكتوب منه، وكل ذلك في حق العمل والحكم به سواء؛ لأن الكل من عند الله، وقد نزه نطق نبيه عن الهوى، وأمر بإتباعه فيما يأمر وينهي، فقال سبحانه-: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} ولما كان المثل من أعم الألفاظ الموضوعة للمشابهة، ساغ من طريق الاحتمال أن يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ومثله معه) للمشابهة التي بين الكتاب والسنة من طريق الحكم، وباب العمل به، غير أن الأظهر أنه أراد به الكمية لما يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث العرباض- رضي الله عنه- وهو تلو هذا الحديث: (ألا إني والله)، قد أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء، إنها لمثل القرآن أو أكثر) فإن قيل: كيف التوفيق بين قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ومثله معه) وبين قوله: (أو أكثر) والجواب: أن نقول: يحتمل أنه كوشف بذلك، حين كان جماع ما علمه الله سوى القرآن مثل القرآن دراسة وكتابة، ثم كاشفه الله بالمزيد من عنده؛ فقال: (أو أكثر) والمعنى: بل أكثر، ويحتمل أن حديث المقدام- رضي الله عنه- للمشابهة في حق العمل والحكم به، ولهذا قال: (إنما حرم رسول الله كما حرم الله) وحديث العرياض- رضي الله عنه- للمشابهة بينهما في الكمية على سبيل التقدير، وإنما قال ذلك لئلا يسارع ذوو الأفهام القاصرة إلى رد ما لا يجدونه في الكتاب، ولا يستطيع أعداء الكتاب والسنة أن يصرفوهم عن أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - بهذا التمويه. قلت: وللمجوز نسخ الكتاب بالسنة أن يعارض بحديث المقدام من استدل عليه بقوله- سبحانه-: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها} ذهابا إلى المثلية في الحكم في هذا الحديث. وفيه: (ألا يوشك رجل شبعان على أريكته) والمعنى: إن أشر النعمة وبطر الحشمة يحمله على الخوض فيما لا يعلمه والدفاع لما لا يريده، متسترا في ذلك بتعظيم القرآن، وهذه شنشنة عرفت في الإسلام قديما وحديثا عن علماء السوء وولاة الجور، والأريكة: سرير منجد مزين في قبة أو بيت. وفيه: (ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي ... الحديث) ذكر هذه النظائر لبيان القسم الذي ثبت بالسنة ولم يوجد له ذكر في الكتاب. وفيه: (فعليهم أن يقروه) يقروه- بفتح الياء- أي: يحسنوا إليه، يقال: قريت الضيف قرى، مثل: قليته قلى، وقريته قرأ: إذا أحسنت إليه، فإذا كسرت القاف قصرت، وإذا فتحت مددت وفيه: (فله أن يعقبهم بمثل قراه) أي: يجازيهم من صنيعهم: بأن يأخذ مثل قراه من مالهم، يقال: أعقبه بطاعته، أي: جازاه، وقد قيل: إن هذا في المضطر الذي لا يجد طعاما، ويخاف على نفسه التلف، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يبعث السرايا والقوم مسنتون، وكانوا سكان البوادي والمفاوز لا يقام لهم

سوق، فشدد عليهم في القرى؛ ليقيموا للسرية الغازية ما يتبلغون به، ولعل الأمر بأخذ مقدار القرى من مال المنزول به كان من جملة العقوبات التي شرعت في الأموال زجرا للمتمردين، ثم نسخت، كالأمر بتحريق متاع الغال، وأخذ نصف المال [26/ ب] من مانع الزكاة، مع ما لزمه من مال الزكاة. [121] ومنه حديث العرياض بن سارية- رضي الله عنه-: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة بليغة، ذرفت منها العيون .... الحديث). بليغة: أي: بالغ فيها بالتخويف والإنذار، كقوله تعالى-: {وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا} والبلوغ والبلاغ؛ الانتهاء إلى أقصى المقصد والمنتهى ومنه البلاغة والأصل فيه أن يجمع الكلام ثلاثة أوصاف: صوابا في موضوع اللغة، وطبقا للمعنى المراد منه، وصدقا في نفسه. وكلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحق بهذه الأوصاف من بين كلام سائر الخلق، وقوله: (ذرفت) أي سال منها الدمع، وكان ذلك لاستيلاء سلطان الخشية على القلوب، وتأثير الرقة فيها، وفيه: (وإن كان عبدا حبشيا) معنى هذا الكلام: أن السلطان لو ولى عليكم عبدا حبشيا فاسمعوا له وأطيعوا، وتقدير الكلام، وكان المولى عبدا حبشيا ويحتمل أنه أراد بذلك المبالغة في طاعة ذوي الأمر، دون ما يقتضيه ظاهر اللفظ والعرب تضرب المثل في أبواب المبالغة بما لا يكاد يكون، ومن هذا الباب قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من بنى لله مسجدا، ولو كأفحوص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة). وفيه: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين) المعنيون بهذا القول هم الخلفاء الأربعة؛ لأنه قال في حديث آخر: (الخلافة بعدي ثلاثون سنة) وقد انتهت الثلاثون بخلافة علي- رضي الله عنه- وليس معنى هذا القول انتفاء الخلافة عن غيرهم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يكون في أمتي اثنا عشر خليفة) وإنما المراد تفخيم أمرهم، وتصويب رأيهم، والشهادة لهم بالتفوق فيما يمتازون به عن غيرهم من الإصابة في

العلم، وحسن السيرة، واستقامة الأحوال، ولهذا وصفهم بالراشدين، وهم: الذين أوتوا رشدهم في مقاصدهم الصحيحة، وهدوا إلى الأقوم والأصلح في أقوالهم وأفعالهم، وإنما ذكر سنتهم في مقابلة سنته لأمرين: إحداهما: أنه علم أنهم لا يخطئون سنته، فيما يستخرجونه من سنته بالاجتهاد. ومن هذا الباب قتال أبي بكر- رضي الله عنه- مانعي الزكاة، وقتال علي- رضي الله عنه- المارقة، وقد تعلق بذلك أحكام كثيرة، وقد بلغنا عن أبي حنيفة- رحمة الله عليه- أنه قال: لولا علي ما كنا ندري أحكام أهل البغي. والثاني: أنه - صلى الله عليه وسلم - علم أن بعضا من سنته لا يشتهر في زمانه، وإن علمه الأفراد من صحابته، ثم يشتهر في زمان الخلفاء، فيضاف إليهم، فربما يتذرع أحد إلى رد تلك السنة بإضافتها إليهم، فأطلق القول بإتباع سنتهم؛ سدا لهذا الباب، ومن هذا النوع منع عمر- رضي الله عنه- عن بيع أمهات الأولاد، وله نظائر كثيرة. وفيه: (عضوا عليها بالنواجذ) اختلف أهل اللغة في النواجذ، فمن قائل: إنها الأضراس. ومن قائل: إنها المضاحك. ومن قائل: إنها الأنياب. والأكثرون على أن الناجذ آخر الأضراس من الإنسان وهي أربعة نواجذ، ومن الفرس: أنيابه، فلعل بعضهم استعملها في أنياب الإنسان على طريق التوسع، ومعنى هذا الكلام: المبالغة في التمسك بهذه الوصية، بجميع ما يمكن من الأسباب المعينة عليه، كالذي يتمسك بالشيء، ثم يستعين عليه بأسنانه، استظهارا للمحافظة، وعلى هذا التأويل، فالنواجذ هي الأنياب، ويجوز أن يكون معناه المحافظة على هذه الوصية، بالصبر على مقاساة الشدائد، كمن أصابه ألم فأراد أن يصبر عليه، ولا يستغيث منه بأحد، ولا يريد أن يظهر ذلك عن نفسه، فجعل يشتد بأسنانه بعضها على بعض، وكل ما حمل عليه النواجذ من الأقاويل، فإنه يستقيم على هذا التأويل، والله أعلم. [123] ومنه حديث عبد الله بن عمرو- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به) إن حمل قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يؤمن أحدكم) على معنى الاتساع فيه، كقوله:

(ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه) فمعناه: أنه لا يستكمل درجات أهل الإيمان، حتى يخالف هواه في إتباع الشرع، فلا يسلط هواه على الحق، بل يكون الحق الذي جئت به مسلطا عليه. وإن قيل: معناه: أن يوافقه الهوى على إتباع الشرع موافقته على ما لو فاته فيستمر على الطاعة من غير كراهة في النفس، ويذهب عنه كلفة التكليف، وذلك حين يذهب كدر النفس، ويبقى صفوتها، فتتحلى بالصفات النورانية، وتؤيد بالقوى الروحانية، فله وجه، إلا أنها حالة نادرة لا توجد إلا في المحفوظين من أولياء الله، ومن الله المعونة في تيسير كل عسير. وإن حمل على ظاهر اللفظ، فمعناه: أنه لا يؤمن حتى يعتقد مخالفة هواه، فإنه إذا اعتقد ذلك وعرفه بالفرضية على نفسه، فقد جعل هواه تبعاً للشرع، وإن لم يستقم في المعاملة به. (ومن الحسان) [125] حديث عمرو بن عوف المزني - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن الدين ليأرز إلى الحجاز .. الحديث) يأزر أي: ينضم إليها، ويجتمع بعضه إلى بعض فيها، والمأرز: الملجأ. والحجاز: مكة وما ينضم إليها من البلاد، سميت بذلك لأنها حجزت بين نجد والغور. وقال الأصمعي: لأنها احتجزت بالحمراء والخمس. وفيه: (وليعقلن الدين من الحجاز معقل الأروية من رأس الجبل) وليعقلن: أي: ليمتنعن به، فيتخذه معقلاً، أي: ملجأ، كما تتخذه الأروية من رأس الجبل. والأروية: الأنثى من الوعول.

وثلاث أراوي، على أفاعيل، فإذا كثرت، فهو الأروى، يقال: عقل الوعل: أي: امتنع في الجبل العلي، يعقل عقولا، وبه سمي الوعل عاقلا، ولعله - صلى الله عليه وسلم - ضرب المثل بالأروية دون الوعل؛ لأنها أقدر على التمكن مما توعر من الجبال، والمعنى: أن الدين في آخر الزمان يعود إلى الحجاز، كما بدأ منه، وذلك حين تظهر الفتن، ويستولي أهل الكفر على بلاد الإسلام، فينضم الفرارون بدينهم إلى الحجاز ممتنعين بها، وقد مر بيان قوله (إن الدين بدأ غريبا) ولقد حرف اسم الصحابي الذي يروي هذا الحديث في سائر النسخ من المصابيح إلا ما أصلحه أهل المعرفة بأسماء الرجال، وذلك أن زيد بن ملحة جاهلي لم يدرك الإسلام، والراوي سبطه وهو عمرو بن عوف، زيد بن مالحة المزني، والصواب فيه رواه كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه عن جده. [126] ومنه حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ليأتين على أمتي كما أتى على بني إسرائيل، حذو النعل بالنعل) تقول: حذوت النعل بالنعل: إذا قدرت كل واحدة من طاقاتها على صاحبتها؛ ليكونا على سواء، وقد بين - صلى الله عليه وسلم - المعنى المراد منه فيما يتبعه من الحديث. ومنه: (تفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة) قد ذكرنا في الباب الأول معنى الأمة، وما يتصرف عليها من الوجوه. والمراد به هاهنا من تجمعهم دائرة الدعوة من أهل القبلة؛ لأنه أضافهم إلى نفسه، فقال:: (أمتي) وأكثر ما ورد في الحديث على هذا الأسلوب، فإن المراد منه أهل القبلة، كقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الشفاعة: (أمتي أمتي) وقوله: (أمتي أمة مرحومة) ونحوها مما لا يجوز إطلاقه إلا على من أجاب دعوته نعم، وقد ورد أيضا في الحديث ما يصح أن يحمل على من انتهى إليه الدعوة كقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الشفاعة (فهي نائلة - إن شاء الله - من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً) وعلى هذا فإن ذهب ذاهب في تأويل الأمة في هذا الحديث إلى أنه أراد به من توجه عليهم الإجابة لانخراطهم في سلك واحد من بلوغ الدعوة، فله وجه، وحينئذ يتناول أصناف أهل الكفر وفرق أهل الضلالة. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: (سبعين ملة) فإن الملة في الأصل: ما شرع الله لعباده على ألسنة الأنبياء، ليتوصلوا به إلى جوار الله، ويستعمل في جملة الشرائع دون آحادها ولا يكاد يوجد مضافاً إلى الله، ولا إلى آحاد أمة النبي - صلى الله عليه وسلم - بل يقال: ملة محمد - صلى الله عليه وسلم - وملتهم كذا، ثم إنها اتسعت، فاستعملت في الملل الباطلة، حتى قيل: الكفر كله ملة واحدة والمعنى: أنهم يفترقون فرقاً تتدين كل واحدة منها بخلاف ما تتدين به الأخرى، فسمي طريقتهم ملة، على الاتساع.

وفيه: (كلهم في النار، إلا ملة واحدة) إذا أطلق الحديث على أهل القبلة، فمعنى قوله - صلى الله عليه وسلم - (كلهم في النار) أنهم يتعرضون لما يدخلهم النار، وذلك مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: (القاتل والمقتول في النار) ومن الجائز أن يغفر الله للمقتول، فلا يدخلها، أو يدخلها القاتل ثم يخرج منها، فأشار بذلك إلى أن المقتول عرض نفسه للنار بالقصد الذي قصده، وكذلك القاتل استحق الدخول بالفعل الذي فعله، أو يكون معناه: أنهم يدخلونها بذنوبهم، ثم يخرج منها ما لم يفض به بدعته إلى الكفر برحمة الله. [127] ويقرب من هذا المعنى قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي يتلو هذا الحديث، وهو حديث أنس - رضي الله عنه: (ويد الله على الجماعة)، ومن شذ شذ في النار) أي: يمن عليهم - سبحانه - بالنصرة والحفظ، أو منته عليهم بالتوفيق لموافقة الجماعة، ومن شذ، أي: انفرد عن الجمهور والسواد الأعظم، فقد شذ فيما يدخله النار، أو شذ في أمر النار. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إلا ملة واحدة) يعني: إلا أهل ملة واحدة. وفيه: قالوا: من هي يا رسول الله، قال: ما أنا عليه وأصحابي) قولهم: (من هي) لأنهم سألوه عن أهل الملة المستثنى بها. وقوله: (ما أنا عليه) لأنه كشف عما سألوه، ببيان الملة؛ لأن تعريف أهل الملة حاصل بتعريف ملتهم، وفيما ألحقه بهذا الحديث من رواية معاوية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سيخرج في أمتي قوم تجارى بهم تلك الأهواء) أي: سرت في عروقهم ومفاصلهم، فاستمرت بهم وتمادت أو ذهبت بهم تلك الأهواء في كل واد، وأكثر ما يستعمل التجاري في الحديث، يقال: تجاروا في هذا الحديث أي: جرى كل واحد مع صاحبه، وجاراه أيضا. والأهواء جمع هوى، وهو: ميل النفس إلى ما تشتهيه، ويقال: سمي بذلك لأنه يهوى بصاحبه في الدنيا إلى كل داهية، وفي الآخرة إلى الهاوية، وإنما قال بلفظ الجمع

تنبيها على أن لكل واحد من هؤلاء القوم هوى من غير هوى الآخر، ثم هوى كل واحد لا يتناهى، فيسلك كل منهم فجا غير فج الآخر، ولا يتناهى حيرتهم وضلالهم أبدا، فلا يتفق كلمتهم. وفيه: (كما يتجارى الكلب بصاحبه ..) الكلب: داء يعتري الإنسان من عضة الكلب الكلب، وهو الذي يأخذه شبه جنون فيكلب بلحوم الناس، فإذا عقر إنسانا كلب، ويستولي عليه شبه الماليخوليا، لا يكاد يبصر الماء، وإذا أبصره فزع، وربما مات عطشا ولم يشرب، وهذه علة تستفرغ مادتها على سائر البدن، ويتولد منها أعراض رديئة وإنما شبه حالهم بحال صاحب الكلب؛ لاستيلاء الأهواء عليهم استيلاء تلك العلة على صاحبها ولما فيها من المعرة المعدية، ولما يتولد منها من المضرة المردية، ولتنفرهم من العلم، وامتناعهم من قبوله تنفر صاحب الكلب عن الماء، وامتناعه عنه حتى يهلك عطشا، فكذلك هؤلاء يمتنعون عن قبول العلم، مع امتساس حاجتهم إليه، حتى يهلكوا جهلا في مهواة البدعة، وتيهة الضلال، أعاذنا الله وسائر المسلمين عن الهوى المتبع، والسلام. [131] ومنه: حديث جابر- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أتاه عمر- رضي الله عنه- فقال: (إنا نسمع أحاديث من يهود تعجبنا) يهود: لا ينصرف، والسبب فيه العلمية؛ لأنه يجري في كلامهم مجرى القبيلة، قال الشاعر: فرت يهود وأسلمت جيرانها .... صمى لما فعلت يهود صمام وقال الزمخشري: الأصل في يهود ومجوس أن يستعملا بغير لام التعريف؛ لأنهما علمان خاصان لقومين كقبيلتين، وإنما جوز تعريفهما باللام، لأنه أجرى يهودي ويهود مجرى شعيرة وشعير. وفيه: (أمتهوكون أنتم)) أي: متحيرون والتهوك التحير، وهو أيضا مثل التهوز، وهو الوقوع في الشيء بقلة مبالاة. وفيه: (لقد جئتكم بها بيضاء نقية) الضمير للملة. ووصفها بالبياض؛ تنبيها على كرمها وفضلها؛ لأن البياض لما كان أفضل لون عند العرب عبر به عن الكرم والفضل، حتى قيل لمن لم يتدنس بمعاب هو أبيض الوجه. ويجوز أن يحمل على هذا النحو من المعنى قوله- سبحانه-: {بيضاء لذة للشاربين} و (نقية)، قريب من هذا المعنى، ويحتمل أن المراد منها كونها مصونة عن التبديل والتحريف، خالية عن التكاليف الشاقة، وأشار - صلى الله عليه وسلم - بذلك إلى أنه أتاهم بالأعلى والأفضل، واستبدال الأدنى عنه مظنة للتحيز، سيما وقد شهد التنزيل على نقلة تلك الأحاديث بالفسق بالأعلى والفرية، فلا يؤمن عليهم أن يدسوا في تلك الأحاديث ما يلبس على المؤمنين أمر دينهم.

[132] ومنه: حديث أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من أكل طيبا ... الحديث) أي: أكل حلالا، وعمل في موافقة سنة، وإنما نكر السنة؛ لأن كل عمل يفتقر إلى معرفة سنة وردت فيه. وقوله: (أمن الناس بوائقه) فإنه مفسر في بعض الأحاديث، فروى: (ظلمه وغشمه) وقيل: غوائله وشره. والبائقة: الداهية. وفيه: (يا رسول الله، إن هذا اليوم في الناس لكثير) والمعنى: إن هذا الذي تذكره وتصفه، وهذا كلام يشكل؛ لبعد التناسب بينه وبين ما تقدمه من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثم لإبهام قوله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك: (وسيكون في قرون بعدي) فيحتمل أن الرجل قال هذا القول حمدا لله- تعالى- وتحدثا بنعمته في هذه الأمة حيث كثر فيهم من الموصوفين بالوصف الذي ذكره، ثم قال: (وسيكون في قرون بعدي) ليعلم المخاطب أن ذلك غير مختص بالقرن الأول، ويحتمل أن الرجل لما سمع هذا القول، فهم عنه التحريض على الخصال المذكورة، والزجر عن مخالفته، وقد وجد الناس يتدينون بذلك، ويحرصون عليه، فخاف أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - اطلع على خلاف ذلك في مستقبل الأمر منهم، فأحب أن يستكشف عنه فقال هذا القول، ثم إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عرف مصدر قوله هذا، فأجابه بقوله: (وسيكون في قرون بعدي) فاختصر الكلام اعتمادا على فهم السائل، وتهويلا للأمر الذي يحذر عنه، فإن قيل: قد ذكرت في قوله: (وسيكون في قرون) إحدى وجهين متناقضين، لا يمكن التوفيق بينهما، وذلك قولك: وسيكون في قرون بعدي على ما وصفته، وقولك: (وسيكون في قرون بعدي) على خلاف ما وصفته، وكل واحد من الوجهين يدافع الآخر. فالجواب: أن تقرير المعنى على كل واحد منهما صحيح، والتوفيق بينهما هين، وهو: أن نقول: قد خلت قرون بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم على النعت المذكور، ثم مضت قرون أخرى، وقد ذهبت الديانات وضاعت الأمانات فيصح إذا صرف هذا القرن إلى كلتا الفئتين، والله أعلم. [133] ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إنكم في زمان من ترك منكم عشر ما أمر به هلك .. الحديث) لا يجوز صرف هذا الحديث إلى عموم المأمورات لأنا قد عرفنا

بأصل الشرع أن أحدا من المسلمين لا يعذر فيما يهمل من الفرض الذي تعلق بخاصة نفسه، وإنما ورد هذا الحديث في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والمعنى: أنكم في زمان من ترك منكم عشر ما أمر به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ هلك؛ لأن الدين عزيز، والحق ظاهر، وفي أنصاره كثرة، فلا يعذر أحد منكم في التهاون والأمر على ذلك، ولكن إذا فسد الزمان، وشاعت الفتن، وتوارى الحق وقل أنصاره، كان للمسلمين عذر فيما أهملوه من هذا الباب.

كتاب العلم

ومن باب العلم (من الصحاح) [138] حديث عبد الله بن عمرو- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (بلغوا عني ولو آية) أي: بلغوا عني ما أمكنكم، أو استطعتم، ولو كان آية؛ لأن الآية أقل ما يكون مفيدا في باب التبليغ، فإن قيل: فلم لم يقل: ولو حديثا، مع أن هذا النوع من الشرط إنما يرتب على الأقل والأدنى، كقوله - صلى الله عليه وسلم - (تصدقوا ولو بشق تمرة) وقوله: (اطلب ولو خاتما من حديد) قلنا: ليس في هذا الحديث استقصار لشأن الآية، ولا استقلال لحقها في باب التبليغ، ولكنه أشار بذلك إلى تبليغ الآية دون تبليغ الحديث؛ لأن في حملة الكتاب كثرة، وما من آية إلا وقد ثبت فيها التواتر، وقد تكفل الله بحفظ كتابه عن التحريف والتبديل والضياع، فقال- عز من قائل-: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} وقد قام بحفظها أمة بعد أمة، فالآية- لهذه المعاني؛ ولإجماع الأمة على قبولها، وصحة الرواية فيها- مستغنية عن المبالغة في التبليغ، والغالب على الحديث أن يرويه الأفراد من الصحابة، والمعتبر منه ما نقله صحابيان، وقليل منه ما يدور روايته على عصبة من الصحابة، فصار الأمر بتبليغ الحديث أكد من الأمر بتبليغ الآية؛ لأن تبليغ السنة أكثر مؤونة [30/ أ] وأعظم جدوى إذا لم تبلغ في المعاني التي ذكرناها مبلغ الكتاب، ولولا مكان هذه العلل لم يعدل بتبليغ الآية شيء، والله أعلم. وفيه: (وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) يحتمل أن القوم لما سمعوا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أمتهوكون أنتم) وما يجري مجراه، تحرجوا عن التحدث عن بني إسرائيل، فرخص لهم في الحديث عنهم، ويحتمل أنهم تعجبوا مما حدثوا به عن بني إسرائيل، فرخص لهم في الحديث عنهم، ويحتمل أنهم تعجبوا مما حدثوا به عن بني إسرائيل من جلائل الأمور وعظائم الشيءون حتى تحرجوا عن التحدث به، خشية أن يفضي بهم ذلك إلى التفوه بالكذب، فقال: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) فقد كان فيهم الآيات الغريبة، والوقائع العجيبة وهو مثل قولهم: حدث عن البحر ولا حرج فيه: (من كذب علي متعمدا) الحديث زيادة في بيان الكذب على وجه التأكيد، قوله: (فليتبوأ) أي: لينزل منزلة منها. وظاهر هذا الكلام أمر ومعناه خبر، يريد أن الله- تعالى- يبوئه منها وتبوأ الدار: أي: اتخذها مسكنا، وأصله البواء، وهو: مساواة الأجزاء في المكان، يقال: مكان بواء، إذا لم يكن نائيا بنازله. وقوله هذا- (من كذب علي متعمدا ...) - إلى آخره، قد بلغ غاية الاشتهار، ولم نجد في أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما يرويه العشرة المبشرة بالجنة إلا هذا الحديث، وفيه قصة عدلنا عن ذكرها حذرا عن الإطالة، والله أعلم.

[139] ومنه: حديث سمرة بن جندب- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من حدث بحديث يرى أنه كذب ... الحديث) (يرى) يجوز فيه فتح الياء وضمها، والرؤية يستعمل على معنى الوهم والتخيل، نحو: أرى أن زيدا منطلق، ومثل هذا المعنى أريد منه ها هنا، وكذلك. أريت، ويجوز أن يكون من (الرأي) الذي هو اعتقاد النفس أحد النقيضين عن غلبة الظن، وإنما سمي المحدث به كاذبا؛ لأنه رأى أن ذلك كذب ثم سعى بالتحدث به في نشره، فصار معينا لمن افتراه على فريته، فاشترك معه في الوزر، كمن أعان ظالما على ظلمه، وعلى هذا فالأصوب الأشهر فيه أن يكون (يرى) بمعنى: يعلم، إذ ليس لأحد أن يدع الرواية بمجرد الوهم والتخيل، ثم عن كذب الأول ثبت بقوله - صلى الله عليه وسلم - (أحد الكاذبين) ولا أدري بماذا يتمسك المحدث بالموضوعات، وأنى يتخلص من عهدة ذلك بعد سماعه هذا الحديث. [140] ومنه حديث معاوية رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -[30/ ب] (من يرد الله به خيرا يفقه في الدين). الفقه هو: التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد، ويسمى العلم بأحكام الشريعة فقها، والفقيه: هو الذي علم ذلك، واهتدى إلى استنباط ما خفي عليه. ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: (يفقهه في الدين) أي: يجعله عالما بأحكام الشريعة ثقفا ذا بصيرة فيه؛ فيصير قلبه ينبوع العلم يستخرج بفهمه المعاني الكثيرة من اللفظ الموجز. وفيه: (وإنما أنا قاسم، والله يعطي) وجدت بعض العلماء المتبحرين في علم البيان وقد حمل قوله هذا على ما كان يقسمه بينهم من الأموال، وذكر كلاما معناه: أنه قال هذا القول؛ لئلا يكون في قلوبهم سخطة وتنكر عن التفاضل في القسمة؛ فإنه بأمر الله، وإن الله معطيه. وهذا كلام صحيح، ولكنه لو اعتبر نسق الكلام، ونظر إلى ما يوجبه التناسب بين الكلمات لم يقطع القول بهذا المعنى؛ فإن هذا الحديث ما دام في الرواية على هذا النمط: فالوجه فيه: أن نقول: أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (وإنما أنا قاسم) إلى ما يلقى إليهم من العلم والحكمة، وبقوله: (والله يعطي) إلى الفهم الذي يهتدي به إلى خفيات العلوم في كلمات الكتاب والسنة؛ وذلك انه لما ذكر الفقه في الدين، وما فيه من الخير، أعلمهم أنه لم يفضل في قسمة ما أوحي إليه أحدا من أمته على آخر؛ بل سوي في البلاغ وعدل في القسمة، وإنما التفاوت في الفهم، وهو واقع من طريق العطاء، ولقد كان بعض الصحابة

يسمع الحديث فلا يفهم منه إلا الظاهر الجلي، ويسمعه آخر منهم أو من القرن الذي يليهم، أو ممن أتى بعدهم؛ فيستنبط منه مسائل كثيرة؛ وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. هذا هو المعنى، اللهم إن كان هذا المؤول قد وجد زيادة في رواية أخرى؛ فاستدل بها على ما ذهب إليه من المعنى، وفي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، وإن هذا المال حلوة خضرة؛ فمن أخذها بحقها، بارك الله له فيها، وإياكم والتمادح؛ فإنه الذبح) ولم يذكر فيه: (وإنما أنا قاسم) فإن وردت الرواية بجميع ذلك في حديث واحد، فالحديث محتمل للتأويلين، ويكون الذي ذهب إليه أقرب من الذي ذهبنا إليه، وإن لم يوجد ذلك في حديث واحد، فالظاهر أنهما حديثان: أحدهما- وهو الذي نحن في بيانه- ينبئ عن المعنى الذي ذكرناه. والآخر [31/ أ]- وهو أيضا روي عن معاوية، رضي الله عنه- يشير إلى أن الخير في الفقه؛ فينبغي أن يحرص عليه، لا على المال الذي نعته كذا وكذا. وهذا الحديث على هذا الوجه يرويه عن معاوية معبد الجهني، وهو أول من تكلم في القدر بالبصرة، وقد ذكره البخاري في كتاب (الضعفاء). وبيان بقية الحديث قد مر فيما تقدم. [141] ومنه: حديثه الآخر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الناس معادن .. الحديث)، ويرويه- أيضا- أبو هريرة- رضي الله عنه-: (المعدن مستقر الجوهر) من قولهم: عدن بمكان كذا أي: استقر به. والمعنى أن الناس يتفاوتون في مكارم الأخلاق، ومحاسن الصفات، وفيما يذكر عنهم من المآثر على حسب الاستعداد، ومقدار الشرف- تفاوت المعادن؛ فإن منها ما يستعد للذهب، ومنها ما يستعد للفضة، وهلم جرا، إلى غير ذلك من الجواهر المعدنية حتى ينتهي إلى الأدنى فالأدنى؛ كالحديد، والكحل، والزرنيخ والنورة. ولما دخلوا في دين الله، وفقهوا فيه، وكان ذلك من أتم المآثر، وأعظم موجبات التبجيل- تعزز به كل صعلوك من أفناء الناس، ونزاع القبائل حتى فاق سائر أقرانه في الجاهلية من ذوي المآثر، فربما ظن أحدهم أن المآثر والمكارم لا عبرة بها في حكم الدين؛ فنبأهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن الله تعالى- كما جعل التفاوت في الجواهر المعدنية- جعل التفاوت في الأوضاع البشرية، وإنما صار ساقط الاعتبار؛ لانعدام الدين، فإذا دخل الرجل في دين الله، وفقه فيه، وكان في الجاهلية من ذوي المآثر؛ فإنه من خيار الناس في الإسلام؛ كما كان من خيارهم في الجاهلية، ويفضل بتلك المآثر على أقرانه في الدين والعلم إذا لم يكن لهم ذلك. [142] ومنه: حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا حسد إلا في اثنتين ..

الحديث): من الناس من يرويه: (لا حسد إلا في اثنين) أي: في شيئين اثنين، ومنهم من يرويه: (إلا في اثنتين) أي في خصلتين. (رجل): مجرورا على البدل من (اثنين)، ومن رواه (اثنتين)، فإنه يبتدئ فيقول: (رجل)؛ فكأنه يشير إلى الخصلتين بما يصفه في حال الرجلين، ويجوز أن يقام مقام المحذوف في الإعراب، والتقدير: خصلة رجل. وقد اختلف رواة (كتاب البخاري) في هذه الألفاظ على ما ذكرناه. وأوثق الروايات التي تروى: (إلا في اثنين: رجل) على البدل. وقيل: الحسد فيهما بمعنى: الاغتباط، والظاهر أن المراد مدى صدق الرغبة وشدة الحرص. ولما كان هذان السببان هما الداعيين إلى الحسد، كني عنهما ب (الحسد). ومعنى قوله: (لا حسد) أي: لا رخصة في شيء من أنواع الحسد إلا فيما كان هذا سبيله. وقيل: إن الحسد في هذا الباب مرخص فيه، لما يتضمنه من المصلحة في الدين، وفي معناه نشيد أبي تمام الطائي: ......... وما حاسد في المكرمات بحاسد والتأويل المستقيم هو الأول. وقوله: (آتاه الله حكمة) فالحكمة: إصابة الحق بالعلم والعقل، ويحتمل أن يكون معناه: آتاه الله فقها في الدين. [143] ومنه: حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا مات الإنسان ... الحديث): سئل الشيخ أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي- رحمه الله- عن هذا الحديث، وعن قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجره وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة)، وعن قوله - صلى الله عليه وسلم -: (كل ميت يختم على عمله، إلا المرابط في سبيل الله؛ فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة)، فقيل: القسمان المذكوران في هذين الحديثين زائدان على الثلاثة المذكورة في حديث أبي هريرة؛ فكيف التوفيق بينهما؟ فكان من جوابه: أن السنة المسنونة من جملة العلم المنتفع به، والذي ذكر عن المرابط: فإنه عمله الذي قدمه في حياته، فينمو له إلى يوم القيامة، وأما الثلاثة المذكورة في حديث أبي هريرة: فإنها أعمال تحدث بعد وفاته× فلا تنقطع عنه؛ لأنه سبب تلك الأعمال، وهذه الأشياء يلحقه منها ثواب طارئ خلاف أعماله التي مات عليها× فإذا: لا اختلاف بين هذه الأحاديث، والله أعلم.

[144] ومنه: حديث أبي هريرة- رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من نفس عن مؤمن كربة ... الحديث): نفست عنه تنفيسا، أي: رفهت؛ يقال: نفس الله عنه كربته، أي: فرجها، وكأنه مأخوذ من قولهم: (أنت في نفس من أمرك) أي: في سعة؛ فالذي يفرج عنه: كأنه يجعل في سعة من أمره، بخلاف المكروب الذي يصبح ويمسي كالذي ضيق عليه الأرض برحبها، وسد عنه مداخل الأنفاس ومصائدها. وفيه: (إلا نزلت عليهم السكينة) أي: الحالة التي تطمئن بها القلب، ويسكن بها القلب؛ فيسكن عن الميل إلى الشهوات، وعن الرعب، والأصل فيه: الوقار. وقيل: السكينة ملك يسكن قلب المؤمن، ويؤمنه. وفيه: (ومن بطأ به عمله، لم يسرع به نسبه): البطؤ نقيض السرعة؛ يقال: ما بطأ بك [32/ أ]، وما بطأك: بمعنى.

ومنه: (إن من أخره العمل، لم يقدمه النسب)؛ وذلك: أن الرجل إذا قصر في الأعمال الصالحة، لم تجبر نقيصته بكونه نسيبا في قومه. [147] ومنه: حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخولنا بالموعظة ... الحديث). التخول: التعهد، وحسن الرعاية؛ يقال: تخولت الريح الأرض: إذا تعهدتها، والخائل: المتعهد للشيء الحافظ له، والمعنى: انه كان يتفقدنا بالموعظة في مظان القبول، ولا يكثر علينا؛ لئلا نسأم، وكان أبو عمرو يقول: (إنما هو يتخوننا)، والتخون: التعهد؛ قال ذو الرمة: لا ينعش الطرف إلا ما تخونه .... داع يناديه باسم الماء مبغوم وقد رد على الأعمش روايته باللام، وكان الأصمعي يقول: (ظلمه أبو عمرة، يقال: يخولنا ويخوننا جميعا). قلت: والراوية باللام أكثر. وزعم بعضهم: أن الصواب: (يتحولنا) بالحاء المهملة، وهو أن يتفقد أحوالهم التي ينشطون فيها للموعظة؛ فيعظهم فيها، ولا يكثر عليهم فيملوا، ومن الناس من رويه كذلك؛ ولكن الرواية في الصحاح بالخاء المعجمة، والله أعلم. [148] ومنه: حديث أنس رضي الله عنه: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا تكلم بكلمة، أعادها ثلاثا ... الحديث): أراد بـ (الكلمة): الجملة المفيدة، قوله: (أعادها ثلاثا) فإنه مبين بقوله: (حتى يفهم عنه)، وأما قوله: (إذا سلم، سلم عليهم ثلاثا) فإنه يفتقر إلى البيان؛ لأنا لم نجدها سنة متبوعة. وقد ذهب بعض العلماء في معناه: إلى تسليم الاستئذان؛ ويستدل بحديث سعد بن عبادة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءه- وهو في بيته- وسلم، فلم يجبه، ثم سلم ثانيا، ثم ثالثا ... الحديث): وفي هذا التأويل نظر؛ لأن تسليمة الاستئذان لا يثنى إذا حصل الإذن بالأولى، ولا يثلث إذا حصل

بالثانية، ثم إنه ذكره بحرف (إذا) المقتضية لتكرار الفعل كرة بعد أخرى، وتسليمه ثلاثا على باب السعد، أمر نادر لم يذكر عنه - صلى الله عليه وسلم - في غير هذا الحديث. والوجه فيه: أن نقول: معناه: كان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أتم على قوم، سلم عليهم تسليمة الاستئذان وإذا دخل، سلم تسليمة التحية، ثم إذا قام من المجلس، سلم تسليمة التوديع؛ وهي في معنى الدعاء، وهذه التسليمات كلها مسنونة، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يواظب عليها، ولا مزيد في السنة على هذه الأقسام. [150] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث جرير رضي الله عنه: (من سن في الإسلام سنة حسنة، [32/ب] فله أجره ... الحديث) أي: أتى بطريقة مرضية يبتدأ به فيها. وفي عامة نسخ (كتاب المصابيح): (فله أجرها) وهو غير سديد رواية ومعنى، وإنما الصواب: (أجره)، والضمير يعود إلى صاحب الطريقة، أي: له أجر عمله، وأجر من عمل بسنته، وظن بعض الناس: أن الضمير راجع إلى السنة، وقد وهم فيه- أيضا- بعض المتأخرين من رواة الكتابين، وليس ذلك من رواية الشيخين في شيء، والله أعلم. [151] ومنه: حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تقتل نفس ظلما، إلا كان على ابن آدم الأول: كفل من دمها). إنما قيد (ابن آدم) بـ (الأول)؛ لئلا يشتبه لأن في بني آدم كثرة؛ وهذا يدل على أن قابيل كان أول مولود من بني آدم. ويحتمل أنه قال: ابن آدم الأول) باعتبار البطن الأول من بني آدم. ومعنى قوله: (كفل من دمها) أي: نصيب؛ وهو مثل قوله سبحانه: (ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها)، وقد زعم بعض أصحاب المعاني: أن الكفل في هذه الآية ليس بمعنى النصيب، بل هو مستعار من الكفل، وهو: الشيء الرديء، واشتقاقه من الكفل، وهو أن الكفل لما كان مركبا ينبو براكبه، صار متعارفا في كل شدة؛ كالسيساء، وهو: العظم الناتئ من ظهر الحمار؛ فيقال: (لأحملنك على الكفل وعلى السيساء، ولأركبنك الحسرى الرزايا). قال: ومعنى الآية: من ينضم إلى غيره معينا له في فعلة سيئة، ينله منه شدة. قلت: ولعل هذا القائل إنما توغل في استنباط هذا المعنى؛ هربا من المفهوم عن لفظ الكفل، الذي هو

بمعنى النصيب؛ فإن الكفل يقال للحظ الذي فيه الكفاية؛ كأنه تكفل بأمر صاحبه، وكم من مثل هذه الألفاظ قد استعملت في معاني قد اختصت بها، ثم شاعت واتسعت في غيرها؛ فكذلك ههنا. وحقيقة المعنى في قوله: (كفل من دمها) أي: نصيب يكفل بأمره؛ فيوفيه جزاء ما ارتكبه من الإثم، وعقوبة ما سنه من القتل. ويجوز أن يكون (الكفل) بمعنى الكفيل، والمراد منه: أن أقام كفيلا بفعله الذي سنه في الناس يسلمه إلى عذاب الله، كما قيل: (من ظلم، فقد أقام كفيلا بظلمه). (ومن الحسان) [152] حديث أبي الدرداء: رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من سلك طريقا ... الحديث). إنما نكر (علما) في قوله: (من سلم طريقا يلتمس فيه علما)؛ ليتناول كل نوع من أنواع علوم الدين، ويندرج تحته قليل العلم وكثيره. وفيه: (وإن الملائكة لتضع أجنحتها ...)، يحتمل: أنه - صلى الله عليه وسلم - أراد به تليين الجانب والانقياد، فألقى عليه بالرحمة والانعطاف؛ وذلك مثل قوله سبحانه: {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة} ويحتمل أن المراد منه: فرش الأجنحة تواضعا لطالب العلم؛ حيث يبذل وسعه في استغاء مرضاة الله، سيما إذا وجدت سائر أحواله مشاكلة لطلب العلم. ويحتمل: أن المراد من الملائكة- ههنا- العموم. ويحتمل: أن المراد منها الكرام الكاتبون. ويحتمل: أن يكون صنيعهم هذا في الدنيا، ويحتمل: أن يكون في الآخرة. ويحتمل: أن يكون في الدارين جميعا. وكل ذلك: توقير الملائكة طلاب العلم، والاستشعار في أنفسهم تعظيما لهم، والنظر إليهم بعين المهابة والجلال؛ فضرب المثل بما ضرب؛ تحقيقا لتلك المعاني! وفيه (وإن العالم ليستغفر له من في السموات والأرض .. الحديث).

يحتمل: أن يكون استغفار هذه الأصناف المذكورة من الخلائق بعضه على الحقيقة، وبعضه على المجاز، وهو أن يتكسب الله تعالى له بعدد كل حيوان من الأنواع المذكورة- كالحيتان وغيرها- مغفرة، ووجه الحكمة فيه: أن صلاح العالم: بالعلم، وما من شيء من الأصناف المذكورة إلا وله مصلحة معقودة بالعلم؛ وقد كان أبو ذر رضي الله عنه يقول: (تركنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وما من طائر يحرك جناحيه في الهواء، إلا وقد أذكرنا منه علما)؛ فكتب الله على كل نوع منها لطالب العلم استغفارا؛ جزاء له عنها بعلمه المعقود به صلاحها. ولم نستوعب بيان مصالحها المعقودة بالعلم اكتفاء بما أشرنا إليه، والله أعلم. [153] ومنه: حديث أبي أمامة- رضي الله عنه: (ذكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلان، أحدهما: عابد، والآخر: عالم ...) الحديث. يريد: رجلين يكون أحدهما كذا، والآخر كذا؛ على سبيل التمثيل، ولم يرد رجلين بأعيانهما. [154] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه: (استوصوا بهم خيرا). والاستيصاء: قبول الوصية، والاستيصاء: طلب الوصية من نفسه أو من غيره، بأحد أو بشيء، وهو في المعنى قريب من التواصي، وهو أن يوصى بعضهم بعضا، ومعناه: الأمر بمراعاة أحوالهم والتعهد لهم. و (وصى): حكمه حكم (أمر)؛ يقال: (وصيت زيدا بأن يفعل خيرا) كما يقال: (أمرته بأن يفعل خيرا، وقولك: (وصيت زيدا بعمرو) أي: وصيته بتعهد عمرو ومراعاته؛ قال الله تعالى: (ووصينا الإنسان بوالديه حسنا) أي: وصيناه بإيتاء والديه حسنا، وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: (فاستوصوا بهم خيرا) أي: بإيتائهم خيرا، واقبلوا وصيتي بإيتائهم خيرا. [155] ومنه [33/ب]: حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الكلمة الحكمة ضالة

الحكيم) أراد بـ (الكلمة) - ههنا- الجملة المفيدة، وبـ (الحكمة): التي أحكمت معانيها بالعلم والعقل، مصونة معانيها عن الاختلال والتهافت، والحكيم: هو المتقن للأمور، والمعنى أن كلمة (الحكمة) إن تكلم بها من ليس لها بأهل، ثم وقعت بأهلها فهو أولى بها من الذي قالها؛ كصاحب الضالة إذا وجدها صاحبها؛ فإنه أحق بها من غيره، وإنما قال هذا؛ تنبيها على أن من سمع كلمة مفيدة ممن لا يعبأ به، ولا يهتدى إلى حقيقة ما حدث؛ فلا يحجزنه انتماء الكلمة إلى ذلك القائل عن الانتفاع بها؛ لأنه أولى بها وأحق من الذي قالها. [165] ومنه: حديث أنس رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (طلب العلم الشرعي النافع فريضة على كل مسلم). هذا حديث أكثر الناس فيه من الأقاويل، وضربوا يمينا وشمالا في بيانه، وهو ظاهر واضح. والمراد بـ (العلم) - ههنا: القسم الذي فرض على العبد معرفته في أبواب المعارف، ويفتقر إليه في معاملة الله، ويتعين عليه العمل به؛ لأنه قال: (على كل مسلم)؛ فهو- إذن- محمول على العلم الذي لا يعذر العبد في الجهل به. [158] ومنه: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (خصلتان لا تجتمعان في منافق: (حسن سمت ... الحديث). السمت: الطريق، والسمت: هيئة أهل الخير؛ لأنه طريقهم، يقال: ما أحسن سمته، أي: هديه. وقوله: (ولا فقه في الدين)، حقيقة الفقه في الدين: ما وقع في القلب، ثم ظهر على اللسان؛ فأفاد

العمل، وأورث الخشية والتقوى، وأما الذي يتدارس أبوبا منه؛ ليتعزز به ويتأكل: فإن بمعزل عن هذه الرتبة العظمي؛ لأن الفقه تعلق بلسانه دون قلبه؛ ولهذا قال علي رضي الله عنه: (ولكني أخشى عليكم كل منافق عليم اللسان). [162] ومنه: حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من سئل عن علم علمه، ثم كتمه .... الحديث): هذا الذي قاله: أنه يلجم بلجام من نار، من باب المقابلة في العقوبة؛ وذلك أنه ألجم نفسه بالسكوت حيث فرض الله عليه البيان؛ فألجم بلجام من نار عقوبة له على ذلك. [163] ومنه: حديث كعب بن مالك رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من طلب العلم ليجارى به العلماء .... الحديث). (المجاراة: أن يجرى الإنسان مع آخر؛ فيماريه في جريه، والمعنى: أنه يطلب العلم؛ ليعدل بنفسه في العلماء ترفعا ورياء وسمعة؛ كما أخبر عنه في حديث آخر: (إنما قرأت القرآن ليقال: إنك عالم؛ وقد قيل) [34/أ]. والمماراة: المجادلة والمحاجة فيما فيه مرية، وهي التردد في الأمر، والاسم منه: المراء وأصل ذلك من: (مريت الناقة): إذا مسحت ضرعها. وفي هذا الحديث- سوى الوعيد الوارد فيمن لم يكن له غرض صحيح في طلب العلم- تنبيه على فائدة صحة المقاصد وفسادها؛ حيث بين أن العلم- الذي طلبه مكفرة للذنوب، ومعاة للفلاح، ومئنة لرضا الرب هو الآخذ بيد صاحبه إذا زلت به القدم، ويكون وبالا على صاحبه، وتنقلب تلك القضايا عليه إذا لم يكن له في طلبه قصد صحيح، فيا هنتاه! كم من بلية دخلت علينا من تلكم الأبواب، ولم نشعر بها، ومن الله المعونة، وإليه المشتكى!

[164] ومنه: حديث أبي هريرة- رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله ... الحديث). هذا الحديث وأمثاله يحمله كثير من الجهال- لاسيما المبتدعة الضلال- على المبالغة في تحريم الجنة على المختص بهذا الوعيد؛ كقوله: (ما شممت قتار قدره)؛ للمبالغة في التبرى عن تناول طعامه، أي: ما شممت رائحته؛ فكيف بالتناول عنها. وليس المعنى كذلك؛ فإن المختص بهذا الوعيد- إذا كان من أهل الإيمان- لابد وأن يدخل الجنة؛ عرفتا ذلك بالنصوص الصحيحة التي ثبت التواتر فيها، أو في جنسها. ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل: (إنه لا يجد عرفها على الإطلاق)، وإنما قال: (لا يجد عرفها يوم القيامة)، وهو اليوم الموصوف بقوله سبحانه: {يوم يقوم الناس لرب العالمين}؛ وذلك من حين يحشرون إلى أن ينتهى بهم الأمر إما إلى جنة، وإما إلى نار؛ وذلك: أن الآمنين من الفزع الأكبر، المتلقين بالبشرى والرضوان- وخاصة العلماء الذين لهم الدرجات العلا- إذا وردوا القيامة يمدون برائحة الجنة؛ تقوية لقلوبهم وأبدانهم، وتسلية لهمومهم وأشجانهم، ويكون احتفاظهم بتلك الرائحة على مقدار حالهم في المعرفة وعلو منزلتهم في العبودية. وهذا البائس الذي تعلم العلم ليبتغى به أعراض الفانية، وكان من حقه: ألا يتعلمه إلا ابتغاء وجه الله: يكون- يومئذ- كصاحب الأمراض الحادثة في تضاعيف الدماغ المانعة عن إدراك الروائح، لا يجد رائحة الجنة، ولا يهتدى إليها سبيلا من الأمراض الكائنة في القلب المخلة بالقوى الإيمانية، أعاذنا الله عن ذلك! [165] ومنه: حديث ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نضر الله عبدا سمع مقالتى ..

الحديث): النضرة: الحسن والرونق، ويقال: نضر الله وجهه، ونضر وجهه [34/ب]؛ يتعدى ولا يتعدى، وروى في هذا الحديث بالتخفيف والتشديد، وفي التشديد أنشد الأصمعي: نضر الله أعظما دفنوها .... بسجستان طلحة الطلحات ومعنى قول: (نضر الله عبدا) أي: خصه بالسرور والبهجة بما رزق بعلم ومعرفته من القدر والمنزلة بين الناس في الدنيا، وبنعمة في الآخرة، حتى يرى عليه رونق الرخاء ورفيق النعمة، وإنما خص حافظ سنته ومبلغها بهذا الدعاء؛ لأنه سعى في نضارة العلم، وتجديد السنة؛ فجازاه في دعائه له بما يناسب حاله في المعاملة. وفيه: (ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم): (لا يغل) يروى بفتح الياء وضمها، وكسر الغين على الصيغتين؛ فالأول: من الغل، والثاني: من الإغلال؛ يقال: غل يغل: إذا كان ذا ضغن أو غض أو حقد، وأغل يغل: إذا خان، والإغلال: الخيانة وأما بفتح الياء وضم الغين: فإنه من الغلول، ولا معنى له ههنا؛ لأن الغلول من الغنم خاصة. والمعنى: أن المؤمن لا يخون في هذه الأشياء الثلاثة، ولا يدخله ضغن يزيله عن الحق حتى يفعل شيئا من ذلك. وذكر أبو سليمان الخطابى: أن أبا أسامة حماد بن أسامة القرشى كان يرويه: (يغل) مخفف اللام؛ يجعله من (وغل يغل وغولا)؛ يقال: وغل الرجل: إذا دخل في الشجر، وتوارى فيه. وفيه: (فإن دعوتهم تحيط من ورائهم): المعنى: أن دعاء الجماعة لأنفسهم قد أحاطته بهم؛ فيحرسهم ويحوطهم؛ فلا يكاد الشيطان ينتهز منهم فرصة بطريق الحقد، أو تسويل الخيانة، كانتهازه من غيرهم. وفي قوله: (أحاطت بهم): تنبيه منه على أن من خرج من جماعتهم لم ينله بركة دعائهم؛ لأنه خارج عما أحاطت بهم من ورائهم، وقد قال بعض العلماء لا نصيب لمن غير ويدل في دعاء الجماعة؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: (السلام علينا وعلى عبد الله الصالحين).

ووجه دخول الفاء في قوله: (فإن دعوتهم) هو أن المؤمن لا يغل على لزوم الجماعة؛ فإن دعوتهم تحيط بهم، وهو في جملتهم؛ فلا يتأتى منه ذلك. ويحتمل: أن يكون المراد منه: أنه إذا دخل في جملتهم بالاعتقاد، لم يجد الغل على مفارقتهم؛ فإن الله يكلؤه ويمنعه عن مفارقتهم لإحاطة الدعوة بهم. ويحتمل: أن يكون تقدير الكلام: (فلا يغلن؛ فإن دعوتهم تخيط من ورائهم) أو يكون تقديره: (وعليه أن يلزم الجماعة؛ فإن دعوتهم تحيط من ورائهم). وأما وجه التناسب من قوله - صلى الله عليه وسلم -: (نضر الله عبدا ... الحديث)، وبين قوله (ثلاث لا يغل عليهن ... الحديث) هو أن نقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حث من سمع مقالته [35/أ] على أدائها إلى من لم تبلغه- أعلهم أن قلب المسلم لا يغل على هذه الأشياء؛ خشية أن يضنوا بها على ذوى الإحن والترات؛ لما يقع بينهم من التحاسد والتباغض، وبين أن أداء مقالته إلى من لم يسمعها من باب إخلاص العمل لله؛ كالنصيحة للمسلمين، وهو أيضا من الحقوق الواجبة المتعلقة بأحكام لزوم جماعة المسلمين فلا يحل له أن يتهاون به؛ لأنه مخل بالخلال الثالث والله أعلم. [169] ومنه: حديث جندب بن عبد الله البجلى رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من قال في القرآن برأيه فأصاب- فقد أخطأ): المراد منه: قول لا يكون مؤسسا على علوم الكتاب، ولا مستفادا من قبل الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ بل يكون قولا يقوله برأيه؛ على حسب ما يقتضيه عقله؛ ويذهب إليه وهله. وعلم التفسير: علم يؤخذ من أقوال الرجال، ثم ينظر فيه بالمقاييس العربية، ثم يتكلم فيه على حسب ما تقتضيه أصول الدين، ويئول القسم الذي يفتقر منه في بيانه إلى التأويل على وجه يشهد بصحته ظاهر التنزيل؛ فمن لم يستجمع هذه الشرائط، وخاص في بيان كتاب الله بالظن والتخمين؛ فبالحرى أن يكون قوله مهجورا، وسعيه مثبورا، وحسبه من الزاجر: أنه مخطئ عند الإصابة؛ فيا بعد ما بين المجتهد والمتكلف؛ فإن المجتهد مأجور على الخطأ، والمتكلف مأخوذ بالصواب!! والله أعلم. [170] ومنه: حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (المراء في القرآن كفر). المراء: اسم من المماراة، وهو المجادلة فيما فيه مرية، وقد ذكرنا أصل الكلمة واشتقاقها. ويحتمل: أنه سماه كفرا؛ لأنه من عمل الكفار، ولأنه ربما يفضى بصاحبه إلى الكفر: إذا عاند صاحبه الذي يماريه على الحق، ثم لابد أن يكون أحد الرجلين محقا، والآخر مبطلا، ومن جعل كتاب الله سناد باطله، فقد باء بالكفر!

[171] ومنه: حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه: (سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - قوما يتدارءون ... الحديث). يتدارءون، أي: يتدافعون؛ وذلك أن يدفع كل واحد منهم قول صاحبه بما يقع له من القول، والدرء: الدفع؛ قال الله تعالى: {ويدرءون بالحسنة السيئة}، وقد تبين لنا من بقية الحديث، أن القوم كانت بينهم محاجة في القرآن؛ فطفوا يتدافعون بالآيان؛ وذلك أن يسند أحدهم كلامه إلى آية، ثم يأتى صاحبه بآية أخرى مدافعا له؛ كأنه يزعم: أن الذي (أتيت به) نقيض ما استدللت به؛ ولهذا شبه حالهم بحال [35/ب] من قبلهم، فقال: (ضربوا كتاب الله بعضه ببعض)، ومعناه: أنهم خلطوا بعضه ببعض فلم يميز بين الحكم والتشابه، والناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيد من قولهم: (ضربت اللين بعضه ببعض) أي: خلطته، ومنه: الضريب. ويحتمل أن يكون المراد منه: الصرف؛ فقد استعمل الضرب موضع الصرف والعدل؛ باعتبار: أن الراكب إذا ركب دابة، فأراد أن يصرفها عن جهتها ضربها بعصاه ليعدلها عن جهتها إلى الجهة الأخرى التي يريدها، أي صرفوا كتاب الله بعضه ببعض، عن لمعنى المراد منه، إلى ما مال إليه هواهم؛ كالذي يستدل في مسألة القدر بقوله سبحانه: {قل كل من عند الله}؛ فيرده القدرى بقوله سبحانه: {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك}، في نظائر كثيرة. [172] ومنه: حديث جابر رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ألا سألوا إذ لم يعلموا؛ فإنما شقاء العى السؤال): أريد بـ (العى) ههنا: الجهل، والعى: عجز يلحق من تولى الأمر والكلام، ولما كان الجهل أحد أسباب العى، عبر عنه بـ (العى). والمعنى: أن الذي عيى فيما يسأل عنه، فلم يدر بماذا يجيب- فشفاؤه بالسؤال عمن يعلم. والحديث ههنا مختصر؛ وقد ذكر بتمامه في (باب التيمم). [173] ومنه: حديث ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أنزل القرآن على سبعة أحرف ... الحديث): حرف الشيء: طرفه، وحروف التهجي سميت بذلك؛ لأنها أطراف الكلمة.

والمراد بـ (الأحرف) - في هذا الحديث- أطراف اللغة العربية؛ فكأنه قال: على سبع لغات من لغات العرب؛ كلغة قريش، ولغة ثقيف، ولغة طيئ، ولغة هوازن، ولغة أهل اليمن؛ على هذا النحو فره أبو عبيد. ويحتمل: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد بـ (السيع): بيان التوسعة: لا نفس العدد؛ والعرب تضع السبع موضع الأعداد التامة؛ لأنها قواعد الزمان والمكان. ويحتمل: أنه أراد به سبع لغات متفرقة في القرآن. وليس المعنى: أن الحرف الواحد نزل على سبعة أوجه؛ ومن أصحاب الغريب من ذهب إلى ذلك، ويستدل بالمختلف فيه من القرآن في قوله سبحانه: {وعبد الطاغوت}، وقوله تعالى: {أرسله معنا عدا يرتع ويلعب} [يوسف: 12]، وقوله تعال: {وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس}. وليس هذا القول مما يعبأ به، وقد قال بعض من تكلم في رد هذا القول: لو كان الأمر على ما توهمه، لكان من حقه أن يقول: (بسبع لغات)، وإنما قال: (على سبع لغات) أي: [36/أ] على هذا من الشرط وعلى هذا من الرخصة والتوسعة. قلت: وأمثال هذه الحروف في القرآن من النوادر. ثم إن الأحاديث التي وردت في هذا الباب عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، والمنقول من أقاويل الصحابة- رضوان الله عليهم- فيه ينقض قوله هذا عليه. ولقد اختار التأويل الذي قدمناه جمع من أصحاب المعاني، منهم: أبو محمد القتيبي، أبو جعفر الطحاوي، وقد تكلم كل واحد منهما على هذا الحديث؛ فشفى واشتفى؛ أما أبو محمد: فببيان وجوهه، وتقرير المراد منه، وأما أبو جعفر: فباستيعاب الروايات، غير أن كل واحد منهما سلك مسلك الإطناب؛ فرأيت أن أبين معنى هذا الحديث- إن شاء الله- بيانا واضحا؛ آتيا فيه على زبدة ما أورداه مقررا للمعنى الذي توخياه بما يفتح الله على من زيادة البيان؛ فأقول- وبالله التوفيق: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل إلى كافة الخلائق، بهذا الكتاب المبارك، وعامة من أجابه- يومئذ- العرب، وكانت قبائلهم شتى، ولغاتهم مختلفة، ومنازلهم في الحفظ والإتقان متفاوتة، ثم إنهم كانوا أمة أمية لا يكتبون كتابا، ولا يقرءونه؛ فلو كلفوا أن يقرءوه على حرف واحد- لشق عليهم الأمر، وتعذر الضبط، مع أن كل فريق منهم كان تختلف لغته؛ فلو كلف أن يتحول عن لغته إلى لغة أخرى لم يستطع ذلك فإن تغيير اللهجة والتحول عن لغة معهودة إلى لغة أخرى أمر عسير؛ فلو اجتهد فيه مجتهد مبلغ الجهد، لم ينته إليه إلا بالكد المعجز والمشقة البليغة.

ومن نظائره: القسم المشترك؛ نحو: الإمسالة، والوقف، وتخفيف الهمزة، والتقاء الساكنين، وزيادة الحروف، وإبدالها، والإدغام؛ فلو كلفوا أن يعدلوا في قراءاتهم عن النظائر التي ذكرناها، أو يقرءونها: لشق أن يتحول عن لغته إلى لغة أخرى. وعلى هذا القياس في كل فريق، من المختلفين في اللغة التي لقنها المتكلم بها طفلا، وتربى عليها ناشيءا، واعتادها كهلا. ذلك على من لم يكن المأمور به من لغته؛ فظل مشقوقا عليه، ممنوا بقراءة لا يطاوعه عليها لسانه؛ كالقرشى إذا كلف الهمز، والتميمي إذا كلف تركه، والأسدى إذا كلف الفتح في الحروف الزوائد من (باب المضارع)، وقد قال الله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج}؛ فكان [36/ب] من فضل الله ورحمته على هذه الأمة المرحومة أن ألهم (الله نبيهم) - صلى الله عليه وسلم - فسأله التخفيف عن أمته في أمر الكتاب، وتيسير أخذه وتلقيه عليهم، حتى رخص لهم في الأخذ عنه بالألفاظ المختلفة إذا كان المعنى واحدا. ومن الدليل على صحة ما نريد تقريره: ما أخبرني به والدي أبو سعد بن الحسين بن يوسف التوربشتى- جزاه الله عنا خير جزاء- قال أخبرنا الحافظ أبو موسي (إجازة إن لم يكن سماعا) أخبرنا القاضي أبو عبد الله محمد- في كتابه- أخبرنا والدي القاضي أبو ذكر أحمد بن علي بن بندار اليزدي، أخبرنا أبو عمرو عثمان بن محمد بن إبراهيم المالكي، أخبرنا محمد بن علي بن أملي الأصفهاني، أخبرنا أبو القاسم هشام بن محمد بن قرة الرعيني، ثنا محمد أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة بن سلمة الأزدى الطحاوي، حدثنا الحسين بن نصر، ثنا شبابة بن سوار، ثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد عن ابن أبي ليلى، عن أبي اين كعب رضي الله عنه: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان على أضاة بني غفار، فأتاه جبريل، فقال: إن الله- تبارك وتعالى- يأمرك أن تقرأ أنت وأمتك على حرف واحد؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسأل الله معافاته ومغفرته؛ إن أمتى لا تطيق ذلك ثم أتاه الثالثة، فقال له مثل ذلك، فأتاه الرابعة، فقال: إن الله- عز وجل- يأمرك وأمتك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف كلما قرءوا بها، فقد أصابوا). قال الشارح- رحمه الله عليه: على هذا الوجه وجدت حديث أبي، وأرى الصواب فيه، وصوابه: (كل ما قرءوا به منها، فقد أصابوا). وبالإسناد الذي ذكرناه، عن أبي جعفر الطحاوي أنه قال: حدثنا أبو أمية، حدثنا منصور بن شقير، حدثنا حماد بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة، عن زر بن حبيش، عن حذيفة رضي الله عنه: (أن النبي

- صلى الله عليه وسلم - لقى جبريل عليه السلام- فقال: إني أرسلت إلى أمة فيهم الشيخ الكبير، والعجوز، والغلام، والخادم، والشيخ الفاني الذي لم يقرأ كتابا قط! فقال: إن القرآن نزل على سبعة أحرف). قلت: فقد تبين لنا مما رويناه- ومما هو في معناه- أن القرآن الأول رخص لهم في القراءة على ما تيسر لهم من اللغات العربية، وأن القرآن نزل بجميع ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تارة في المبدأ الأول [37/أ]، وأخرى في سنى الوحى إبان العرض؛ على ما صح في الحديث؛ (إن جبريل كان يعارضني القرآن في كل عام مرة، وإنه عارضني العام مرتين). وعلمنا من الأحاديث التي وردت في هذا الباب: أن الصحابة كانوا يقرءونه على اختلاف الألفاظ وتوافق المعاني، والدليل على أنهم كانوا يقرءونه على هذا النحو: حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ أنه قال: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ (سورة الفرقان) على خير ما أقرؤها عليه، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقرأنيها؛ فكدت أعجل عليه، ثم أمهلته حتى انصرف، ثم لببته بردائه؛ فجئت به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت إني سمعت هذا يقرأ (سورة الفرقان) على خير ما أقرأتنيها؟! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اقرأ)، فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (هكذا أنزلت)، ثم قال لي (اقرأ)، فقرأت، فقال: (هكذا أنزلت؛ إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف؛ فاقرءوا ما تيسر منه). وحديث أبي رضي الله عنه قال: قرأ أبي آية، وقرأ ابن مسعود خلافها، وقرأ رجل آخر بخلافهما؛ فأتينا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلت له: ألم تقرأ آية كذا وكذا: كذا وكذا! وقال ابن مسعود: ألم تقرأ آية كذا وكذا: كذا وكذا؟! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كلكم محسن مجمل). وحديث أبي جميم الأنصاري رضي الله عنه، قال: إن رجلين اختلفا في آية من القرآن؛ فقال هذا: تلقنتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟! وقال الآخر: تلقنتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟! فسألا رسول الله عنها؟ فقال رسول الله: (إن القرآن نزل على سبعة أحرف؛ فلا تماروا في القرآن؛ فإن المراء فيه كفر). وحديث ابن مسعود: (إني قد سمعت القراءة)، فوجدتهم متقاربين؛ فاقرءوا كما علمتم؛ إنما هو كقول أحدكم هلم، وتعال، وأقبل!). فإن قيل: فهل يجوز اليوم لأحدنا أن يقرأ على ذلك؟ فالجواب أن نقول: كان الأمر على ذلك زمان نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، وبعده إلى إمرة عثمان رضي الله عنه، فكان كل منهم يقرؤه على ما انتهى إليه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو ممن سمع منه، وكانوا لا يتعدون المسموع، ولم يكن أحد منهم ليجعل أحد الحرفين- المختلفين في اللفظ المتفقين في المعنى- مكان الآخر من تلقاء نفسه، وما كان ينبغي له! ولما كان مقتل أهل اليمامة، واستشهد بها القبيل من فضلاء الصحابة- أشار عمر على أبي بكر رضي الله عنهما بجمع القرآن شفقا على ذهابه بذهاب حملته [37/ب]، فتحرج أبو بكر- رضي الله عنه- عن ذلك، ثم شرح الله صدره للذي شرح له صدر عمر؛ فأمر زيد بن ثابت بجمع؛ فإنه كان كاتب الوحى،

وقد أخذه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجمعه على وفاق من الشيخين منضما إلى علمه وحفظه شهادة الأثبات من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد كان المجموع كله في صحيفة واحدة عند عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- فلما استشهد، أخذته أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها، فقدم حذيفة- رضي الله عنه- في خلافة عثمان- رضي الله عنه- عن غزوة غزاها بثغر أرمينية فدخل عليه، وقال: يا أمير المؤمنين! أدرك الناس!! فقال: وما ذاك؟! فقال: غزوت فرج أرمينية، فحضرها أهل العراق، وأهل الشام؛ فإذا أهل الشام يقرءون بقراءة أبي، فيأتون بما لم يسمع أهل العراق؛ فيكفرهم أهل العراق، وإذا أهل العراق يقرءون بقراءة عبد الله بن مسعود، فيأتون بما لم يسمع أهل الشام؛ فيكفرهم أهل الشام! فأمر عثمان رضي الله عنه زيد بن ثابت أن يكتب له مصحفا، وقال: إني جاعل معك رجلا لبيبا فصيحا، فجما اجتمعتما فيه: فاكتباه، وما اختلفتما فيه: فارفعاه إلى. قلت: وإنما أراد بالاجتماع والاختلاف: على اللفظ. وفيه القسم الذي أتى نظيره في الحديث؛ وذلك يتعلق برسم الخط فيما يكتب بالألف، أو بالواو، أو بالياء، أو بالتاء، وإلحاق النون بلفظ المنون، وغير ذلك من أخواتها التي ينبئ عنا رسم الخط في المصحف الإمام. رجعنا إلى ما بدأنا به من الحديث، قال: فجعل معه أبان بن سعيد بن العاص، فلما بلغ: {إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت} فقال زيد: (التابوه)، وقال أبان: (التابوت)؛ فرفعا ذلك إلى عثمان؛ فكتب: (التابوت). قال زيد: ثم عرضت المصحف عرضة أخرى؛ فلم أجد فيه شيئا، وأرسل عثمان إلى حفصة: أن تعطيه الصحيفة، وحلف لها ليردنها إليها؛ فأعطته، فعرضت المصحف عليها، فلم يختلفا في شيء. قلت: وقد وجدت في بعض الروايات: أن الصحيفة كان عمر- رضي الله عنه- كتبها بعد أن جمعها زيد، ثم إن عثمان- رضي الله عنه- أمر الناس أن يكتبوا المصاحف، وبعث بالنسخ إلى بلاد الإسلام؛ فاجتمع الناس على ما جمعه زيد، بأمر أبي بكر، واستصواب عمر رضي الله عنهما، ومشهد من فضلاء الصحابة وأمر عثمان- رضي الله عنه- بمحو ما عداه؛ رفعا للخلاف. وكان من بقى من قراء الصحابة على قراءته، حتى انقرض زمانهم، وتركت قراءته، حتى انقرض زمانهم، وتركت قراءتهم، ولم يبق من لحروف المختلف فيها [38/أ] على نهج التواتر إلا شيء لم يخالف رقوم المصحف، وبقى المختلف فيه من: الإدغام، والإمالة، والوقف، وغير ذلك- من القسم المشترك الذي اشتهر عند القراء السبعة؛ لاتصال سنده على أصله معزورا به، وما عدا ذلك: فإنه متروك لا يقرأ، ولا يحتج به؛ لفقدان الضرورة التي دعت إليه من أول الوهلة؛ لسقوط الرواية عنه، وعدم التواتر فيه. وهذه العلة هي التي نعتمد عليها في ترك القراءات التي تخالف نظم المصحف المجمع عليه.

ولقد تجاوزنا عن مقدار الضرورة في بيان هذا الحديث، وإنما سلكنا هذا المسلك بالتماس بعض الراغبين، وقد سألنا أن نبسط له القول في بيانه، ونتركه على منهاج واحد؛ فأسعفنا بحاجته؛ احتسابا للأجر، وادخارا لصالح الدعاء، والله الموفق لإصابة الحق. وفيه: (لكل آية منها ظهر وبطن) الظهر: ما ظهر تأويله، وعرف معناه، والبطن: ما بطن تفسيره، وأشكل فحواه؛ فظهره لفظه، وبطنه معناه. وقيل: قصصها في الظاهر أخبار؛ وفي الباطن اعتبار. ويحتمل أن يكون المراد من الظهر: التلاوة والرواية، ومن البطن الفهم والدراية. وفيه: (ولكل حد مطلع): ذكر بعض الحفاظ- في تفسيره- أن الحد في التلاوة: ألا يجاوز المصحف، وفي التفسير: المسموع قال، والمطلع: المصعد الذي يصعد إليه في معرفة علمه. قلت: وهذا معنى لا يطابق اللفظ، ولا يكاد يلتئم، ولعله قول سقط عنه من غير روية، وإنما المراد بـ (الحد) - ههنا- ما شرع. الله تعالى لعباده، قال الله سبحانه: {وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله} أي: أحكامه، وقيل: حقائقه ومعانيه، والمطلع: المأتى والمصعد. وقال الأصمعي: هو موضع الاطلاع من إشراف إلى انحدار؛ ومنه الحديث: (لا فتديت به من هول المطلع)؛ شبه ما أشرف عليه من أمر الآخرة بذلك. والمعنى: أن لكل حد من حدود الله- وهي ما شرعها لعباده من أحكام الدين- موضع اطلاع من القرآن؛ فمن وفق أن يرتقى ذلك المرتقى، اطلع منه على الحد الذي يتعلق بذلك المطلع، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الذي رزق الارتقاء إلى مطلع كل حد من القرآن. وقد قال بعض العلماء: إن عامة سنن الرسول - صلى الله عليه وسلم - راجعة إلى القرآن، ولا يقف العلماء على أصل كل شيء منها من القرآن؛ ولكنهم على طبقاتهم ومنازلهم في العلم والفهم. والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدرك من معاني الوحي ما لا يبلغه فهم غيره. [174] ومنه: حديث [38/ب] عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (العلم ثلاثة ... الحديث). أما قوله - صلى الله عليه وسلم -: (آية محكمة): فقد سبق بيان المحكم فيما مضى.

وأما قوله: (سنة قائمة): فهي الثابتة المعمول بها. وقوله: (فريضة عادلة): فقد قيل: إنه أراد به: العدل في القسمة، أي: معدلة على السهام المذكورة في الكتاب والسنة. وقيل: المراد بـ (العادلة): المستنبطة عن الكتاب والسنة، وتكون هذه الفريضة- وإن لم ينص عليها في الكتاب والسنة- معدلة بما أخذ منهما؛ قال زيد بن ثابت: في زوج وأبوين، للأم ثلث ما يبقى بعد فرض الزوج؛ أقوله برأيى لا أفضل أما على أب. هذا من باب تعديل الفريضة، لما لم يكن فيها نص، اعتبرها بالمنصوص عليه، وهو قوله تعالى: {وورثه أبواه فلأمه الثلث}، فلو أعطاها ثلث المال، لكان للأب السدس؛ وهذا خلاف النص. قلت: الفريضة- على التأويلين- محمولة على السهام المقدرة في المواريث؛ وفيه نظر؛ لأنه إذا أول على العدل في القسمة على الهام المذكورة في الكتاب والسنة: فإنه داخل في الآيات المحكمات، والسنن القائمة؛ فلا فائدة- إذا- في تخصيصها بالمواريث، ولا يجعل عاما في سائر ما يشبهه من الأحكام، وليس أحد الأحكام المستنبطة بأولى من غيره في هذا التأويل؟ فالسبيل أن نقول: الفريضة العادلة: هي المحكومة المصدرة المعدلة بالكتاب والسنة، وهي المستنبطة بالقياس. وهذه الثلاث هي قواعد الدين، ومعاقد أحكام الشرع. ونقل عن عبد الله بن عروة؛ أنه قال: الفريضة العادلة: ما اتفق عليه المسلمون؛ وهذا- أيضا- تأويل قويم، ومعناه- على هذا القول: الحكومة المبنية المقدرة على منهاج العدل، وأولى ما يوصف بهذه الصفة: الإجماع، ولا يتقدمه شيء بعد الكتاب والسنة. [175] ومنه: حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، (لا يقص إلا أمير، أو مأمور أو مختال).

قال بعض العلماء: هذا في الخطبة؛ لأن الأمر فيها إلى الأمراء وإلى من يتولاها من قبلهم. قلت: وكل من تكلم على الناس بالمواعظ والقصص، فإنه داخل في غمار القوم، وأمر ذلك موكول إلى ولاة الأمر؛ فالثالث مختال؛ لأنه نصب نفسه حيث لم يبلغه؛ اختيالا وتكبرا وطلبا للرياسة واتباعا [39/أ] للهوى، ولو وقف حيث أوقفه الشرع، فلم يتكلف فيما لم يكلف- لكان خيرا له، والله أعلم. [177] ومنه: حديث معاوية رضي الله عنه: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الأغلوطات). الأغلوطة: ما يغلط به من المسائل؛ أفعولة من الغلط؛ كالأحدوثة، والأحموقة؛ ومنه قول حذيفة رضي الله عنه: (حدثته حديثا ليس بالأغاليط)، ويروى: (أنه نهى عن الغلوطات) جمع غلوطة، وهي المسألة التي يعيا بها المسئول؛ فيغلط فيها؛ كره - صلى الله عليه وسلم - أن يغالط بها العلماء؛ ليستنزلوا، ويستسقطوا بها عن رأيهم. [178] ومنه: حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (تعلموا الفرائض والقرآن؛ فإني مقبوض). يذهب بعض الناس إلى أن المراد بـ (ألفرائض) في هذا الحديث- علم المواريث؛ ولا دليل معه في هذا التخصيص، والظاهر أن المراد منها: الفرائض التي فرضها الله تعالى على عباده، وإنما حث على هذين القسمين؛ لأن أحدهما: الوحى، والآخر: لا سبيل إلى معرفته إلا بالتوقيف من قبل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا يتلقف القسمان إلا منه، فإذا قبض، لم يحصل الناس منهما على شيء بعده. ومثل هذا: قوله في الحديث الذي يليه، وهو. [179] حديث أبي الدرداء رضي الله عنه: (هذا أوان يختلس العلم من الناس).

أراد به علم الوحى، وكأنه - صلى الله عليه وسلم - لما شخص ببصره إلى السماء، كوشف باقتراب أجله؛ فاعلم الأمة أنه مقبوض، وأن علوم النبوة، ومعالم الكتاب والسنة، تقبض بقبضه، وتختلس باختلاسه. [180] ومنه: حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل ... الحديث). وشك ذا خروجا، يوشك- بضم الشين فيهما- وشكا، أي: سرع؛ فهو وشك، ووشك البين: سرعة الفراق، وأوشك فلان يوشك إيشاكا، أي: أسرع السير، ومنه قولهم: (يوشك أن يكون كذا) أي: يقرب، والعامة تقول: يوشك- بفتح الشين- لغة رديئة. والمعنى: يقرب أن يرحل الناس في طلب العلم؛ يقال: فلان تضرب إليه أكباد الإبل، أي: يرحل إليه في طلب العلم وغيره؛ وفي الحديث: (لا تضرب أكباد المطى إلا إلى ثلاثة مساجد). ولم أجد أصحاب الغريب تعرضوا لتحقيق هذا القول، وكأن عبارة عن سرعة السير، وإدمان الإدلاج، والتأويب، وقطع الشقة الشاسعة حتى يستقر ذلك بالمطى؛ فتقطع أكبادها من قطع المسافة، وتذوب من طول السفر، وتمسها [39/ب] الأدواء من شدة العطش؛ فتصير كأنما ضربت أكبادها مكان ضربها على السير. وفي إيراد هذا القول في هذا الموضع تنبيه على أن طلبة العلم أشد الناس حرصا، وأعزهم مطلبا؛ لأن الجد في طلب الشيء إنما يكون على قدر شدة الحرص، وعظم الرغبة، وعزة المطلوب. وفي إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عالم المدينة- سوى ما فيه من التوقيف على فضله- فائدة أخرى، وهي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما علم أصحاب يتفرقون بعده في أقطار الأرض؛ فينشر كل واحد منهم ما انتهى إليه من علوم الوحى في الأرض التي سكن فيها فيتأهب طلاب العلم للنهوض إلى كل صقع من أصقاع الأرض، ويترحل سكان المدينة إلى تلك البلاد؛ فأعلمهم - صلى الله عليه وسلم - عن حال عالم المدينة؛

لئلا تسول لهم أنفسهم الخروج عنها بعلة طلب العلم، بل تستقر فتجمع بين الفضيلتين: طلب العلم، والتلبث بحرم الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وأما ما ذكره الشيخ أبو محمد في كتابه عن ابن عيينة؛ أنه قال: (هو مالك)، وعن عبد الرزاق؛ أنه قال: (هو العمري الزاهد)؛ فإن ذلك محمول منهما- رحمة الله عليهما- على غلبة الظن دون القطع به فقد كان مالك- رحمه الله عليه- حقيقا بمثل هذا الظن؛ فإنه كان إمام دار الهجرة المرجوع بها إليه في علم الفتيا، وكذلك العمرى الزاهد- رحمه الله- وهو عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد كان يسيح مدة، وكان من عباد الله الصالحين المشائين بالنصيحة في عباده وبلاده. ولقد بلغنا أنه كان يخرج إلى البادية؛ ليتفقد أحوال أهلها شفقة منه عليهم، وأداء لحق النصيحة فيهم، فيأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويعرف الجاهل حقوق ربة، ويبصره بمعالم دينه، وكان يقول لعلماء المدينة: (شغلكم حب الجاه، وطلب الرياسة، عن توفية العلم حقة في إخوانكم من المسلمين؛ تركتموهم في البوادي والفلوات يعمون في أودية الجهل، ومتيهة الضلال) أو كلاما هذا معناه. قلت: ولو جاز لنا أن نتجاوز الظن في مثل هذه القضية، لكان قولنا: (إنه عمر) أولى من قوله: (إنه العمرى)، مع القطع به؛ فلقد لبث بالمدينة أعواما يجتهد في تمهيد الشرع، وتبيين الأحكام، ولقد شهد له أعلام الصحابة- رضوان الله عليهم أجمعين- بالتفوق في العلم حتى قال ابن مسعود- رضي الله عنه-[40/أ] وهو أحد فقهاء الصحابة؛ بل واحدهم، ثم هو من النجباء الفضلاء- يوم استشهد عمر رضي الله عنه: (لقد دفن بموته تسعة أعشار العلم). [182] ومنه: حديث إبراهيم بن عبد الرحمن العذري رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يحمل هذا العلم من خلف عدوله ... الحديث). (من هذا العلم): إشارة إلى جنس العلم الذي انتهى منه - صلى الله عليه وسلم - إلى الأمة، وهو: علم الكتاب والسنة. و (من كل خلف عدول) أي: من كل قرن يخلف من قبله، وهو بتحريك اللام، وقد رواه بعض من لم يتقنه بسكون اللام؛ فأخطأ فيه وأزال الخبر عن جهته، وقد ذكرنا الفرق بين اللفظين؛ فلا نرى أن نعيده.

وأما معنى (تحريف الغالين): فإن الغلو هو التجاوز عن القدر، والغالي هو الذي يتجاوز في أمر الدين عما حد له وبين؛ قال الله: {لا تغلوا في دينكم}؛ فالمبتدعة غلاة في الدين يتجاوزون في كتاب الله وسنة رسوله عن المعنى المراد يحرفونه عن جهته. وأما معنى (انتحال المبطلين): فإن الانتحال ادعاء قول أو شعر يكون قائله غيره، وفلان ينتحل مذهب كذا، وقبيلة كذا: إذا انتسب إليه: فالمعنى: أن المبطل إذا انتحل قولا من علمنا؛ ليستدل به على باطله، واعتزى إليه ما لم يكن من نفوا عن هذا العلم قوله ونزهوه عما ينتحله. قلت: وتقول العرب: نحلته القول أنحله نحلا- بالفتح: إذا أضفت إليه قولا قاله غيره، وادعيته عليه، فلو وجدنا (انتحل) في الاستعمال بمعنى (نحل) - لذهبنا في معناه إلى الوضع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واعتزاء ما قاله غيره إليه، وهذا من أولى المعاني بهذا القول إن وجد له سناد من كلام العرب، والله أعلم [40/ب].

كتاب الطهارة

ومن كتاب الطهارة (من الصحاح) [183] حديث أبي مالك الأشعري- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (الطهور شطر الإيمان ... الحديث)، الرواة يروون هذا اللفظ- أعني الطهور في هذا الحديث وفي غيره- على فعول بفتح الفاء، ولا يفرقون بين المصدر والاسم، وقد حكى عن سيبويه أنه قال: الطهور قد يكون مصدرا من قولهم: تطهرت طهورا وتوضأت وضوءا، فهذا مصدر على فعول، ويكون اسما غير مصدر كالفطور في كونه اسما لما يفطر به، ويكون صفة كالرسول ونحو ذلك من الصفات، وعلى هذا قوله سبحانه وتعالى، {وسقاهم ربهم شرابا طهورا}. ونقل عن أبي عمرو بن العلاء ما هو مشعر بالرد على من يزعم كون [40/ب].

[187] من نسخ المصابيح: (ما لم يأت كبيرة) ولم نجد الرواية فيه. وهذا الحديث على هذه الوجه مما تفرد به مسلم، وفي كتابه (ما لم يؤت) على بناء الفاعل. ومنهم من يرويه على بناء المفعول، والمعنى: ما لم يعمل كبيرة أو لم يعمل كبيرة. وضع الإتياء موضع العمل لأن العامل يعطى العمل من نفسه؛ قال الله تعالى: {ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها} أي: لأعطوها ذلك من أنفسهم ويحتمل في بناء المفعول أن يكون المعنى: ما لم يصب كبيرة، من قولهم: أتى فلان في بدنه، أي أصابته علة، وأتيت من قبل فلان، أي كان هو سبب ذلك، ويكون التقدير: ما لم يؤت من فعل كبيرة. والذي يستقيم من جهة المعنى، ويعتمد عليه من جهة الرواية: هو بناء الفاعل، وإن كانت الرواية وردت: ما لم يأت، فإنه وإن كان أصح معنى من قولهم أتى فلان حدا وأتى منكرا؛ فإن إثباته في كتاب المصابيح غير سديد؛ لأن الحديث من مفاريد مسلم، ولم يروه مسلم إلا من الإتياء. وفيه: (وذلك الدهر كله) يحتمل أن تكون الظرفية متعلقة بتكفير الذنوب، ويحتمل أن يكون متعلقة باتقاء الذنوب. ومنه- حديثه الذي يتلو هذا الحديث. [188] (ثم استنثر)، الاستنثار: نثر ما في الأنف بالنفس، وهو أبلغ في سنن الوضوء من الاستنشاق؛ لأن الاستنثار إنما يوجد بعد الاستنشاق، وقال الهروى: استنثر إذا حرك النثرة في الطهارة، وهي طرف

الأنف. وقد ذكر الجوهري: أن النشرة هي الفرجة ما بين الشاربين حيال وترة الأنف. وذهب الهروى فيه إلى قولهم نثرت الشاة إذا ماحت من أنفها الأذى، وأكثر ما يستعمل ذلك في الدواب، وهي منها بمثابة العطسة من الإنسان. والوجة هو الأول، لأنه مع استقامته على اللغة العربية، مفهوم من الأحاديث التي وجدت في هذا الباب. منها قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا استنشقت فانثر)، وقوله: (إذا توضأ أحدكم فليجعل الماء في أنفه ثم لينثر)، ومنها قول الصحابي: (كان يستنشق المثاكل مرة ويستنثر). [190] ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (إن أمتى يدعون يوم القيامة غرا محجلين ... الحديث)، غرا محجلين، أي: بيض الوجوه بيض مواضع من الأيدي والأقدام، إذا دعوا على رءوس الأشهاد أو إلى الجنة كانوا على هذه الشية، وانتصابها بالحال، ويحتمل أن يقال: غرا مفعول ثاني لقوله يدعون [41/أ] كما تقول يدعى فلان عليا، والمعنى أنه يسمون بهذا الاسم لما يرى عليهم من آثار الوضوء، والمعنى هو الأول، ويدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: (يأتون يوم القيامة غرا محجلين)؛ في حديثه الآخر. [191] وفيه: (تبلغ الحلية من المؤمن)، قال أبو عبيد: الحلية هاهنا: التحجيل يوم القيامة من أثر الوضوء، قلت: وإنما عبر عن التحجيل بالحلية لأنه العلامة الفارقة بين هذه الأمة وبين سائر الأمم، ويبين هذا المعنى قوله - صلى الله عليه وسلم - (لكم سيماء ليست لأحد غيركم) وقد اعترض بعض الحفاظ في ذلك على أبي عبيد وقال: لو حمله على ما في القرآن من قوله تعالى {يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا} لكان أولى. وهذا تأويل غير مستقيم لا قبلية منه في اللفظ، ولا أدرى ما الرابطة بين الحلية والحلى. (ومن الحسان) [192] حديث ابن عمر- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (استقيموا ولن تحصوا)، معناه: الزموا

باب ما يوجب الوضوء

المنهج المستقيم ولن تطيقوا توفية حقه، لأن الإصابة فيه شديد، وفي أمره غموض ودقة، فإن قيل كيف يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بما يخبر عنه أنهم لا يطيقونه، فالجواب أنه - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بالمستطاع منه، فإن الله تعالى يقول {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}، ثم بين لهم بقوله (ولن تحصوا) أن توفية حق الاستقامة على الدوام فيه عسر، وكان القصد في هذا القول تنبيه المكلفين على روية التقصير من أنفسهم، وتحريضهم على الجد والانكماش مع دوام اللجأ إلى الله تعالى؛ لأن ما كان هذا سبيله لا ينبغي للإنسان أن يغفل عنه أو بداله في المحافطة عليه فترة. وقد قال بعض أهل اللغة: (ولن تحصوا)، أي: لن تحصوا ثوابة، والإحصاء: التحصيل بالعدد وهو من لفظ الحصى، واستعمال ذلك فيه من حيث أنهم كانوا يعتمدونه بالعد اعتمادنا فيه على الأصابع، والله أعلم. ومن باب ما يوجب الوضوء (من الصحاح) [195] حديث علي- رضي الله عنه- (كنت رجلا مذاء)، أي: كثير المذي، وهو أدق ما يكون من النطفة ويخرج عند الملاعبة والتقبيل والخطرات الشهوانية، وإنما استحيا من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يسأله عنه لمكان فاطمة- رضي الله عنها- منه. وقد ذكر ذلك في الحديث مع أن القضية من حمله ما يستحيا منه؛ لأنها من الأطوار النفسانية والتأثيرات الشهوانية، وذلك مما لا يكاد يفح به أولو الأحلام وخاصة بحضرة الأكابر. قوله: (يغسل ذكره) فقد قال فيه الشيخ أبو جعفر الطحاوي: إنما أمره يغسل المذاكير [41/ب] لتتقلص العروق فينقطع المذي، وذلك مثل ما أمر به من نضح ضرع البدنة التي تساق للهدى بالماء كيلا يسيل منه اللبن؛ قال: فالإنسان إذا لم يؤمر بغسل الذكر من البول فبالحرى أن لا يؤمر بغسله من المذي. قلت: ويحتمل أنه أمر بغسله من المذي ولم يأمر بغسله من البول؛ لأن البول يخرج عن اختيار فيبقى في الإنسان

منه، وقلما يتجاوز عن الحد الذي يجزئ فيه التمسح بالأحجار أو غيره، أما المذي فإنه يسيل من غير اختيار ثم يتفاحش بامتساس الثوب، ويحتمل أنهن كانوا لا يتنزهون عن المذي تنزههم عن البول ولا يرونه بمثابة البول في التغليز، فأمرهم بغسل المذاكير تنبيها على أنه في سائر الأحكام ملحق بالبول. [196] ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (توضئوا مما مست النار)، أصل التوضؤ من الوضاءة وهو الحسن والنظافة، والوضوء كان مستعملا في كلامهم، وكانوا يستعملونه في عضو واحد، كما كانوا يستعملونه في سائر الأطراف، فلما جاء الله بالإسلام استعمل في الطهارة المعتد بها في الشرع. فقوله - صلى الله عليه وسلم -: (توضئوا) محمول على المعنى المتعارف قبل الإسلام، وهو الوضوء على معنى النظافة ونفي الزهومة، دون الوضوء الذي هو من أجل رفع الحدث لعدم سببه، ولو قدر أن المراد منه الوضوء المعتد به في الشرع، فإن الأمر به محمول على معنى الاستحباب دون الإيجاب، ومن الدليل على ذلك حديث ابن عباس- رضي الله عنه- الذي يتلوا هذا الحديث. وحديث المغيرة بن شعبة- رضي الله عنه: (ضفت النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فأمر بجدى فشوى فأخذ الشفرة فجعل يحز لي بها منه، قال: فجاء بلال فآذنه بالصلاة، قال: فألقى الشفرة وقال: ماله تربت يداه فقام يصلى). وحديث عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر برجل وبرمته على النار فقال أطابت برمتكم، قال نعم بأبي أنت وأمي، فتناول منها بضعة فلم يزل يعلكها حتى أحرم بالصلاة)، وفي قول الشيخ في كتابه: هذا منسوخ- فيه نظر؛ لأن النسخ إنما يطلق على الحكم الثابث الظاهر، وهذا شيء لم يثبت ثبوتا بينا، فكيف يعارض بالنسخ وأكثر الفقهاء من ذوي النظر والفهم يأولون الحديث وما يناسبه في هذه المسألة على ما ذكرناه، ومن خالفهم فيه من أصحاب الحديث فإنه يقول بظاهر الحديث. [42/أ]. [197] ومنه حديث جابر بن سمرة- رضي الله عنه- (أن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيتوضأ من لحوم الغنم ... الحديث) إنما فرق بين الأمرين في الصورتين لما في لحوم الإبل من الزهومة الغالبة عليها ولما فيها من الشراد والاستعصاء. وفي هذا الحديث أيضا دليل على المعنى الذي ذكرناه في قوله - صلى الله عليه وسلم - (توضئوا مما مست النار).

[201] ومنه حديث سويد بن النعمان- رضي الله عنه-: (فلم يؤت إلا بالسويق فأمر به فثرى ... الحديث) ثريت السويق تثرية، وثريت الموضع أيضا) أي: رشيءته. (من الحسان) [206] حديث علي- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: _وكاء السه العينان)، الوكاء: الرباط الذي يشد

به الأوعية، واله: اسم من أسماء الدبر، وأصله سته- على فعل- بالتحريك فحذف منه عين الفعل، ويروى: (وكساء الست) بحذف لام الفعل، ومعناه أن الإنسان يمسك ما في بطنه ما لم تنم عيناه، فإذا نامت عيناه فالغالب من حاله أن تنتقض طهارته، لإمكان انحلال الوكاء بالنوم. وفي معناه قوله - صلى الله عليه وسلم -: (فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله). ويلحق بهذه الصورة كل ما كان في الغالب مظنة للحدث، موهما لوقوعه من أحوال النائم، كالميل إلى أحد الشقين، والزوال عن مستوى القعود والاتكاء والاستناد إلى الشيء بالكلية، وقد كان نوم الصحابة- رضوان الله عليهم- في المسجد قبل العشاء على هيئة القعود خاليا عن هذه العلل، فصح أن النوم عينه ليس بحدث وأن ما كان منه على هيئة ينتقض به الطهر في غالب الأحوال، فإن أمر صاحبه محمول على أن قد أحدث. ومعنى قول أنس- رضي الله عنه- (تخفق رءوسهم) أي: تسقط أذقانهم على صدورهم. [209] ومنه قول الشيخ أبي محمد بعد حديث بسرة- رضي الله عنها، وما روى عن طلق بن على أن

النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عنه؛ فقال: (هل هو إلا بضعة منك؟) منسوخ؛ لأن أبا هريرة أسلم بعد قدوم طلق. قلت: قوله في إسلام أبي هريرة وقدوم طلق قول صحيح لا اختلاف فيه، فإن طلقا قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبنى مسجد المدينة، وذلك في السنة الأولى من الهجرة، وأسلم أبو هريرة عام خيبر وذلك في السنة السابعة، ولكن ادعاء النسخ فيه قول مبنى على الاحتمال، وإطلاق النسخ على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - من طريق الاحتمال خارج عن الاحتياط، مع أن حديث أبي هريرة هذا قد تكلموا في إسناده من جهة يزيد بن عبد الملك النوقلي، ولو صح لم يلزم [42/ب] منه النسخ إلا أن يثبت هذا القائل أن طلقا توفى قبل إسلام أبي هريرة أو رجع إلى أرضه ولم تتفق له صحبة بعد ذلك، وهذا شيء لا سبيل له إلى إثباته لعدم النقل فيه، وما يدريه لو أن طلقا سمع هذا الحديث بعد إسلام أبي هريرة؛ نعم وقد روى بعض المحدثين بإسناد له عن طلق عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: من (مس ذكره فليتوضأ) ثم قال أن يكون طلق سمع هذا الحديث

بعد أن سمع منه الحديث الأول فسمع المنسوخ والناسخ، ولم ينصف هذا القائل، فإن هذا الحديث الذي زعم أنه ناسخ هو من جملة ما لا عبرة به. وقد روى حديث مس الذكر في باب نقض الطهارة عن ابن عمر وجابر بن عبد الله وزيد بن خالد الجهنى وأبي هريرة، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وعن عائشة وأم حبيبة وبسرة- رضي الله عنهم، وفي إسناد سائرها مقال إلا في إسناد حديث بسرة فإنه حديث حسن، وحديث طلق أيضا حديث حسن. وقد ذكر الخطابى في كتاب (معالم السنن) أن أحمد بن حنبل كان يرى الوضوء من مس الذكر، وكان ابن معين يرى خلاف ذلك؛ فتذاكرا وتكلما في الأخبار التي رويت في هذا الباب؛ فكان عاقبة أمرهما أن اتفقا على سقوط الاحتجاج بالخبرين معا- حديث طلق وحديث بسرة- ثم صارا إلى الآثار التي رويت عن الصحابة. قلت: فهما الرجلان لا يدرك شأوهما في معرفة الحديث ورجاله وطرقه، وفي اتفاقهما على إسقاط الاحتجاج بالخبرين دليل ظاهر على أن لا سبيل إلى معرفة الناسخ والمنسوخ منهما، وعلى أنهما متقاربان في السند لا مزية لأحدهما على الآخر، وعلى أن ما عدا هذين الحديثين لم يثبت ثبوتا معتدا به عندهما. وأما الآثار التي رويت في هذا الباب، فقد نقل عن بعض الصحابة ما يؤيد حديث بسرة، منهم: سعد بن أبي وقاص وابن عمر وابن عباس وأبو هريرة- رضي الله عنهم، وإليه ذهب الأوزاعي والشافعي وأحمد، وروى خلاف ذلك عن جمع من الصحابة، منهم: على بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان وعمران بن حصين رضوان الله عليهم أجمعين. وقد أخذ أبو حنيفة وأصحابة بحديث طلق ترجيحا لرواية الرجال على النساء، ولما يؤيده النظر، وبه يقول الثورى أبو سعيد، وكان مالك يذهب إلى أن الأمر بالوضوء من مس الذكر على الاستحباب لا على الإيجاب. قلت: ويؤيد ذلك ما ورد في [43/أ] الحديث (من مس ذكره أو أنثييه أو رفغه فليتوضأ)، ولا سبيل في الوضوء عن مس الرفغ وهو أصل الفخذ، إلا أن يحمل على الاستحباب لانعدام القول بوجوبه إجماعا، ولو قيل المراد منه غسل اليد فهو يحتمل كما في قوله (الوضوء قبل الطعام) فكل ذلك حسن لما فيه من الجمع بين الحديثين، ولكل متمسك فيما ذهب إليه، وإنما أطنبنا القول فيه توقيفا للطالبين على معالم علم الحديث أولا وتنبيها لهم على محل النظر [لنفى] الخلاف ثانيا. والله أعلم.

باب آداب الخلاء

ومن باب آداب الخلاء (من الصحاح) [214] حديث عبد الله بن عمر- رضي الله عنه: (ارتقيت فوق بيت حفصة لبعض حاجتي ... الحديث) ذهب ابن عمر- رضي الله عنهما- إلى أن النهى ورد في الصحارى دون الأبنية لحديثه؛ هذا وذهب إلى قوله جمع من العلماء، نظرا منهم إلى الجمع بين الأخبار المختلفة، وخالفهم فيه آخرون. وقد روى حديث النهى عن استقبال القبلة واستدبارها بغائط أو بول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع من الصحابة، منهم: أبو أيوب وسليمان وأبو أمامة وعبد الله بن الحارث ومعقل بن الهيثم ويقال معقل بن أبي معقل وأبو هريرة وسهل بن حنيف- رضي الله عنهم، ولم يذكر أحد منهم في روايته ما يدل على التفريق بين الصحاري والأبنية، بل بذكر أبو أيوب ما يد على تعميم النهى والتسوية بين الصحاري والأبنية، وهو قوله: (فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت قبل القبلة فننحرف عنها ونستغفر الله) وإنما استغفر مع الانحراف عنها لأنه اعتقد أنه منكر، فاستغفر عن رؤيته وترك التشدد في تغييره. وقال الترمذي حديث أبي أيوب أحسن شيء في هذا الباب وأصح. قلت: والنظر يقتضي التسوية بين الصحاري والأبنية لأنا لم نحد للنهى وجها سوى احترام القبلة، ومما يؤيد ذلك كراهية مواجهة تلك الجهة الشريفة بالبزاق والنخامة واستحباب صيانتها، عما يستخف بالحرمة، وهذا حكم لا يتغير بالبناء. وأما حديث ابن عمر- رضي الله عنه- ففي بعض طرقه الصحاح أنه قال: (يقول ناس إذا قعدت للحاجة، فلا تقعد مستقبل القبلة ولا بيت المقدس، ولقد رقيت على ظهر بيت فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على لبنتين مستقبلا بين المقدس لحاجة) ففي هذا الحديث لم يذكر استدبار الكعبة، وإنما أنكر على من قال بالنهي عن استقبال بيت المقدس.

وأما حديثة الذي ذكرناه وفيه استدبار الكعبة فيحتمل أنه كان [43/ب] قبل النهي، ويحتمل أنه كان قد انحرف عن سمت القبل شيئا يسيرا بحيث خفى على ابن عمر أمره؛ ومما يدل على ذلك أن سمت القبلة بالمدينة لا يقع على السواء من سمت بيت المقدس بل بينهما مباينة، ولقد وجدت بعض أهل العلم ذكروا في كتبهم أن من استقبل بيت المقدس بالمدينة فقد استدبر الكعبة، وكنت أرى الأمر بخلافه لما شاهدت من التفاوت بين الموضعين في القبلة باستبانة آياتها من مطالع البروج ومغاربها، ومع ذلك فلم أعتمد على تلك المفايسة والشواهد الحسية حتى سألت أهل المعرفة بطول البلدان وعرضها عن ذلك، فبينوا لنا بالشواهد الهندسية تفاوت ما بين البلدين أعني: المدينة وبيت المقدس، فوجدنا طول المدينة على خمس وسبعين درجة وعشرين دقيقة، وعرضها على خمس وعشرين درجة، وطول بيت المقدس على ست وستين درجة وعشرين دقيقة وعرضها على اثنين وعشرين درجة ودقيقتين، وطول مكة على سبع وستين درجة وثلاث وثلاثين دقيقة وعرضها على إحدى وعشرين درجة وأربعين دقيقة، وإنما أضربنا عن بيان ذلك تخفيفا؛ لأنا لم نقتبس من ذلك العلم ما يحل به عقدة الإشكال ولا نحب أن يكون بصدده فاكتفينا بالنقل عمن يتعاطاه، فمن أحب الوقوف عليه بالبرهان من طريق الحساب فليراجع أهل هذا الفن فإنه يجد الأمر على ما ذكرناه. قلت: قد روى عن جابر- رضي الله عنه- أنه قال: (نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تستقبل القبلة ببول فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها)، وقد حمل جابر الأمر في ذلك على النسخ، وحديثه هذا لا يقاوم في الصحة حديث أبي أيوب، ولو ثبت فلعله - صلى الله عليه وسلم - انحرف عناه يسيرا ولم يشعر به جابر، أو كان في بعض أسفاره بحيث تشتبه القبلة على كثير من الناس، فحسب أنه متوجها إلى جهة الكعبة ولم يكن كذلك، وإنما أولناه على هذا للجمع بين الأحاديث، ولما في هذين الحديثين، أعني حديث ابن عمر وجابر من احتمال التأويل، مع أن أحاديث النهي مشتملة على ذكر الاستقبال والاستدبار والغائط والبول، ولم نجد في حديث ابن عمر أنه استقبل الكعبة وفي هذا نوع من الترجيح، والله يعلم أنا لم نسلك هذا المسلك اعتداء ولا عصبية بل تقريرا لما هو الأحوط والأولى بأولى العزائم، والله يتولى السرائر. [216] ومنه حديث أنس- رضي الله عنه- (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد [44/أ] أن يدخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث). قال الخطابي: أصحاب الحديث يروونه (الخبث) ساكنة الباء، وكذلك رواه أبو عبيد في كتابه وقد فسره فقال: أما الخبث فإنه يعني به الشر، والخبائث فإنها الشياطين؛ قال أبو سليمان: وإنما هو الخبث مضمومة الباء جمع خبيث، وأما الخبائث فإنها جمع خبيثة، استعاذ بالله من مردة الجن ذكورهم وإنائهم، فأما الخبث ساكنة الباء فهو مصدر خبث يخبث خبثا، قلت: لقد أحسن

فيما ذكره مع معنى الحديث وفي إيراده هذا اللفظ في جملة الألفاظ التي يرويها الرواة ملحونة فنظر لأن الخبيث إذا جمع على ما ذكره يجوز أن يسكن منه الباء للتخفيف كما يفعل في سبيل سبل وسبل، ونظائرها من الجموع، وهذا الباب مستفيض في كلامهم غير نادر، ولا يع لأحد مخالفته إلا أن يزعم أن ترك التخفيف فيه أولى؛ لئلا يشتبه بالخبث الذي هو مصدر. [217] ومنه حديث ابن عباس- رضي الله عنه: (مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقبرين فقال: إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير)، أي: في أمر شاق عليهما؛ قال الله تعالى {وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} أي شاقة، والمعنى: إنهما يعذبان فيما لم يكن يكبر عليهما؛ تركه، ولا يجوز أن يحمل على أن الأمر في النميمة وترك التنزة عن البول ليس بكبير في حق الدين. وفيه: (لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا)، وجه هذا التحديد أن نقول: إنه سأل الله التخفيف عنهما مدة بقاء النداوة فيهما، وقول من قال: وجه ذلك أن الغصن الرطب يسبح الله ما دام فيه النداوة فيكون مجيرا عن عذاب القبر، قول لا طائل تحته ولا عبرة به عند أهل العلم. [218] ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (اتقوا اللاعنين) أي: الأمرين الجالبين للعن، وإنما أضاف الفعل إليهما على سبيل السببية؛ لأنهما لما صارا سببا لذلك كانا كأنهما اللاعنان، ومنه: حديث معاذ- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اتقوا الملاعن الثلاث)، الملاعن: جمع ملعنة وهي الفعلة التي يلعن فاعلها كأنها مظنة اللعن ومعلم له، كما يقال: (ترك العشاء مهرمة)، (وأرض مأسدة) وفيه: (الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم)، أي تخلى الذي يتخلى في طريق الناس، عبر عن الفعل بفاعله، ومعنى أو في ظلهم أي: متظلمهم الذي اتخذوه مناخا ومقيلة، وفي هذا النوع من الظل ورد النهي دون سائر الظلال، فقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم -[44/ب] قعد تحت حائش من النخل لحاجته، وهو المجتمع من الشجر نخلا كان أو غيره، ولابد أن يكون للحائش ظل.

[220] ومنه: حديث أبي هريرة- رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من توضأ فليستنثر، ومن استجمر فليوتر): قد ذكرنا معنى الاستنثار، فأما الاستجمار فالمراد به: الاستنجاء، ومعناه: التمسح بالجمار، وهي الأحجار الصغار، والإيتار: أن يتحراه وترا، ثلاثا أو خمسا، أوتر فلان الشيء: إذا أفذه، وأوتر صلاته: إذا أتى بها وترا. [221] ومنه: حديث أنس- رضي الله عنه: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخل الخلاء، فأحمل أنا وغلام إداوة من ماء، وعنزة، يستنجى بالماء). الخلاء: المتوضأ، سمى بذلك؛ لأن الإنسان يخلو فيه بنفسه- وهو ممدود- والخلاء، أيضا: المكان الذي لا شيء فيه، والإداوة: المطهرة، والعنزة بالتحريك: أطول من العصا، وأقصر من الرمح، وفيها سنان مثل سنان الرمح، وإنما كانوا يجعلون العنزة مع - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه كان إذا أتى الخلاء، أبعد حتى لا تراه عيون الناظرين؛ فيتخذون العنزة؛ لمقاتلة عدو إن حضر، ومساورة سبع، ومدافعة هامة، ثم لنبش الأرض إذا كانت صلبة؛ لئلا يرتد إليه البول. والاستنجاء: إزالة النجو، وهو العذرة، والنجوة: ما ارتفع من الأرض، جعل كناية عن الحدث؛ لأن صاحب الحاجة كان يتستر بها، فيقضى حاجته تحتها؛ كما جعل الغائط كناية عنه، وهو المطمئن من الأرض، وكانوا ينتابونه للحاجة. وقيل: أصل الاستنجاء: نزع الشيء من موضعه، وتخليصه منه؛ يقال: نجوت غصون الشجرة: إذا قطعتها، واستنجيت الشجر: قطعته من أصله، والنجاة: الغصن؛ يقال: فلان في أرض نجاة: يستنجى من شجرها العصي والقسي.

(ومن الحسان) [223] حديث جابر:- رضي الله عنه: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد البراز ... الحديث). البراز- يفتح الباء- اسم للفضاء الواسع؛ كنوا به عن حاجة الإنسان؛ كما كنوا بالخلاء والحش عنه، يقال: تبرز: إذا تغوط. وللعرب عادة حسنة في هذا الباب وأمثاله مما يفحش ذكره، أو يستحيا منه؛ فيتعففون في ألفاظها باستعمال الكناية؛ صيانة للألسنة عما تصان عنه الأبصار والأسماع؛ أو يتنفر عنه الطباع. وكسر الباء من (البراز) غلط، وكذلك يرويه عوام المحدثين؛ فيحرفون اللفظ والمعنى؛ فإن (البراز) - بالكسر: مصدر المبارزة في الحرب. [224] ومنه: حديث أبي موسى- رضي الله عنه: (كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأراد أن يبول، فأتى دمثا ... الحديث). الدمث: المكان السهل [45/أ] اللين الذي يخمد فيه البول. وقوله: (ليرتد) أي: ليطلب. قال الخطابي: ويشبه أن يكون الجدار الذي قعدت إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - جدارا عاديا غير مملوك لأحد؛ فإن البول يضر بأصل البناء، ويوهى أساسه، وهو - صلى الله عليه وسلم - لا يفعل ذلك في ملح أحد، إلا بإذنه، أو يكون قعوده متراخيا عن جذم البناء، ولا يصيبه البول، فيضر به. [226] ومنه: حديث أبي هريرة- رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: (إنما أنا لكم مثل الوالد ... الحديث).

إنما: افتتح الكلام في هذا الموضع بهذا القول؛ رفعا للخشية، ودفعا للاستحياء عن هذه المسألة. و (الرمة) - بكسر الراء، وتشديد الميم-: العظم البالي، والجمع: رمم ورمام؛ تقول منه: رم العظم يرم- بالكسر- رمة؛ فهو رميم، ويقال: إنما سميت (رمة)؛ لأن الإبل ترمها، أي: تأكلها. [228] ومنه: حديث عائشة- رضي الله عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إذا ذهب أحدكم إلى الغائط، فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب بهن). (يستطيب بهن) أي: يستنجى بهن، وسمي الاستنجاء استطابة؛ لما فيه من إزالة النجاسة، وتطهير موضعها من البدن. [230] ومنه: حديث رويفع بن ثابت- رضي الله عنه، قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا رويفع، لعل الحياة ستطول بك بعدي؛ فأخبر الناس أن من عقد لحيته ... الحديث) (طال الحياة به) أي: امتد، والباء في قوله: (بك بمعنى الإلصاق، وتقدير الكلام: لعل الحياة سيمتد ملتصقا بك، ومستمرا. وعقد اللحية: معالجتها حتى تنقعد وتتجعد من قولهم: جاء فلان عاقدا عنقه: إذا لواه كبرا، والذئب الأعقد: الملتوى الذنب. والمعنى: من لواها وجعدها. وإنما كره ذلك؛ لما فيه من التوضيع والتأنيث والتشبيه بمن ليس من أهل الملة. ويقال: إن أهل الجاهلية كانوا يعقدونها في الحروب، وكذلك الأعاجم.

والأول هو الأوجه. وفيه: (أو تقلد وترا): أراد به وتر القوس، وقد كانوا يفعلون ذلك، ويزعمون أنه يرد العين، ويعصم عن الآفات، ويجعلونه في عنق الخيل؛ ومنه الحديث: (قلدوا الخيل، ولا تقلدوها الأوتار). كان مالك- رحمه الله- يقول: كانوا يقلدونا أوتار القسى، لئلا تصيبها العين، يعني: على حسب ما كانوا يعتقدونه، فأمرهم بقطعها؛ إعلاما من بأن ذلك لا يرد من أمر الله شيئا. قلت: وقد قيل: إنه نهى عن ذلك؛ حذرا عن اختناق الخيل عند شدة الركض. وقيل: إنه أراد بـ (الوتر) الذحل، أي: لا تطلبوا عليها الذحول التي وترتم بها في الجاهلية. وقيل: لأنهم كانوا يعلقون الأجراس عليها. وفيه: (أو استنجى برجيع دابة [45/ب] قال أبو عبيد: الرجيع يكون الروث والعذرة جميعا؛ لأنه رجع عن حاله الأولى بعد أن كان طعاما أو علفا، إلى غير ذلك. وفيه: (فإن محمد منه بريء): البراء والتبرى: التقصى مما تكره مجاورته، وهذا من باب الوعيد والمبالغة في الزجر. [231] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة - صلى الله عليه وسلم -: (فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم). فسره أبو سليمان، فقال: أمر - صلى الله عليه وسلم - بالتستر ما أمكن، وأن لا يكون قعود الإنسان في براح من الأرض تقع عليه أبصار الناظرين، فيتعرض لانتهاك الستر، أو تهب عليه الريح، فيصيبه نشر البول، فيلوث ثيابه وبدنه؛ وكل ذلك من لعب الشيطان به وقصده إياه بالأذى والفساد.

[233] ومنه: حديث عبد الله بن سرجس- رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يبولن أحدكم في جحر). وجه النهى: أن الجحر مأوى الهوام المؤذية وذوات السموم؛ فلا يؤمن أن تصيبه مضرة من قبل ذلك. ويقال: إن الذي يبول في الجحر، يخشى عليه عادية الجن، وقد نقل أن سعد بن عبادة الخزرجي قتلته الجن؛ لأنه بال في جحر بأرض حوران. [235] ومنه: حديث أبي سعيد الخدري- رضي الله عنها- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ أنه قال: (لا يخرج الرجلان يضربان الغائط ...). معنى قول: (يضربان الغائط) أي: يأتيانه، والضرب: الإسراع في السير، والأصل فيه: أن الذاهب في الأرض يضربها برجليه، ويقال: ضربت الأرض: إذا أتيت الخلاء، وضربت في الأرض: إذا سافرت. [236] ومنه: حديث زيد بن أرقم- رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن الحشوش محتضرة). الحش يفتح الحاء وضمها: بستان النخيل، والجمع: الحشان، مثل: ضيف وضيفان، والحش- أيضا: المخرج؛ لأنهم كانوا يقضون حوائجهم في البساتين، والجمع: حشوش.

ومعنى قوله: (محتضرة) أي: تحضرها الشياطين، وترصد بني آدم بالأذى والفساد؛ لأنها مواضع تكشف فيها العورات، وتهجر عن ذكر الله؛ فيتمكنون عنهم في تلك المواضع ما لا تتمكن في غيرها من المواضع. [238] ومنه: حديث عائشة- رضي الله عنها: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج من الخلاء، قال: غفرانك!). الغفران: مصدر كالمغفرة، والمعنى: أسألك غفرانك، وقد ذكر العلماء في تعقيبه - صلى الله عليه وسلم - الخروج من المتوضأ بهذا الدعاء وجهين: أحدهما: أنه استغفر من الحالة التي اقتضت هجران ذكر الله؛ فإنه كان يذكر الله على سائر أحواله، إلا عند الحاجة. والآخر: أنه وجد القوة البشرية قاصرة عن الوفاء بشكر ما أنعم الله عليه، من تسويغ الطعام والشراب، وتقديره القوى المفطورات [46/أ] لمصلحة البدن، وترتيب الغداء من حين التناول إلى أوان المخرج؛ فلجأ إلى الاستغفار؛ اعترافا بالقصور عن بلوغ حق تلك النعم. [239] ومنه: قول أبي هريرة- رضي الله عنه: (فأتيته بماء في تور). قال الجوهري: (هو إناء يشرب فيه). وقيل: هو شبه إجانة من صفر، أو حجارة يتوضأ فيه ويؤكل؛ وهذا أشبه لما في حديث أم سليم؛ أنها صنعت حيسا في تور. [340] ومنه: حديث الحكم بن سفيان الثقفى- رضي الله عنه- (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا بال، توضأ، ونضح فرجه). قيل: إنه كان يفعل ذلك؛ قطعا للوسوسة. وقد أجاره الله تعالى عن تسلط الشيطان؛ فلعله كان يفعل ذلك؛ تعليما للأمة، أو يفعل ذلك؛ ليرتد البول، ولا ينزل منه الشيء بعد الشيء. ويحتمل: أن يكون النضح في هذا الحديث- بمعنى الغسل، وسنذكر بيان ذلك في موضعه؛ إن شاء الله.

[241] ومنه: قول أميمة بنت رقيقة في حديثها: (كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - قدح من عيدان ...) الحديث العيدان جمع عود [46/ب] (.....) كالأعواد، وإنما جمعته إرادة لبيان الجنس أي مما يتخذ من العيدان ويعمل. [242] ومنه: قول المؤلف- بعد حديث عمر- رضي الله عنه: (قد صح عن حذيفة- رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى سباطة قوم، فبال قائما). قلت: أورد هذا الحديث مورد الناسخ لحديث عمر- رضي الله عنه. والأظهر: أن النهي عن البول قائما باق على ما كان، وإنما بال قائما حين أتى سباطة قوم، وهو: ملقى التراب والقمام ونحوه؛ لأنه لم يجد للعقود مكانا؛ فاضطر إلى القيام؛ لأن السباطة لا تمكن الشخص من القعود، إلا إذا جعل الطرف المرتفع منها وراء ظهره، وحينئذ: تبدو للمارة عورته، وإن استقبلها بوجهة، خيف عليه أن يقع على ظهره، مع احتمال ارتداد البول على وجهه. وإضافة السباطة إلى القوم ليست بإضافة ملك، بل كانت في ديارهم ومحلتهم، وكانت مواتا مباحة. وقد قيل: إن العرب كانت تستشفى بالبول قائما لوجع الصلب؛ فيمكن أنه بال قائما لعلة به إذ ذاك من وجع الصلب. وتعليل حديث حذيفة بما بدأنا بذكر أولى من تعليله بهذا القول؛ لأنه الأظهر. وأما بوله قائما لعلة به فقد رواه أبو هريرة، وقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بال قائما لجرح بمآبضه، والمآبض: باطن الركبة من كل دابة؛ فالبول قائما منهى عنه، إلا إذا كان لعذر، ففي حديث حذيفة، والمغيرة بن شعبة: يحمل الأمر على ما ذكرنا من العلة؛ لأنها علة مستخرجة من نفس الحديث، والعلة في حديث أبي هريرة: مذكورة فيه، وقد وجدنا في حديث آخر: أن عمر- رضي الله عنه- بال قائما، وقال: البول قائما أحصن للدبر؛ فلابد أن يكون فعله هذا مقترنا بعذر؛ لأنه من جملة رواة حديث النهي عن [46/ب] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يكن ليخالفه به، فيحمل ما روى عنه أنه بال قائما على أنه كان على حال لم يأمن معها استرخاء، ويدل على ما ذكرناه قوله: البول قائما أحصن للدبر، هذا هو الوجة لئلا يلزم من وجه يخالفه تعطيل أحد الخبرين والله أعلم.

باب السواك

ومن باب السواك (من الصحاح) [243] حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (لولا أن أشق على أمتي ... الحديث) شق على الشيء يشق شقا ومشقة والاسم منه الشق بالكسر. والمعنى لولا أن أثقل عليهم قال الله تعالى {وما أريد أن أشق عليك} أي لا أحملك من الأمر ما يشق عليك. [245] ومنه حديث حذيفة- رضي الله عنه- (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام للتهجد من الليل يشوص فاه بالسواك) أخذ التهجد من الهجود وهو النوم يقال: هجدته فتهجد أي أزلت هجوده نحو مرضته فالتهجد التيقظ قال الله تعالى: [ومن الليل فتهجد به} أي تيقظ بالقرآن ولما كان الذي يريد التعبد لرب في جوف الليل يتيقظ ليصلى، عبر عن صلاة الليل بالتهجد. وقوله: (يشوص فاه) أي يغسله وينقيه والشوص الغسل والتنظيف وكل شيء غسلته فقد شصته ومصته وقيل: الشوص الدلك والموص الغسل. [246] ومنه حديث عائشة- رضي الله عنه- قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عشر من الفطرة ... فسر كثير

من العلماء الفطرة في هذا الحديث بالسنة والمعنى أنها من سنة- إبراهيم عليه السلام- ولو فسرت الفطرة ههنا بالدين لكان أوجه؛ لأنها مفسرة في كتاب الله بالدين قال الله تعالى {فطرت الله التي فطر الناس عليها}. قيل أي دين الله الذي اختاره لأول مفطور من البشر أو يكون المراد بالفطرة ما كان إبراهيم عليه السلام يتدين به على ما فطره الله عليه ويكون معنى الحديث عشر من توابع الدين ولواحقه ولمعدودات في جملته أو مما ركب في العقول التي فطر الله عليها استحسان ذلك. وفيه (وإعفاء اللحية) أي: توفيرها وإرسالها يقال: عفا الشعر والنبت إذا كثر وعفوته أنا وأعفيته أيضا لغتان إذا فعلت به ذلك، وقص اللحية كان من صنع الأعاجم وهو اليوم شعار كثير من أهل الشرك وعبدة الأوثان كالإفرنج والهنود ومن لا خلاف لهم في الدين من الفرقة الموسومة بالقلندرية في زماننا هذا طهر الله عنهم حوزة الدين وبيضة الإسلام. وفيه (وغسل البراجم) وهي مفاصل الأصابع التي بين الأشاجع [47/أ] والرواجب، فالرواجب، مفاصل الأسابع اللاتي تلين الأنامل وبعدها البراجم وهن رءوس السلاميات من ظهر الكف إذا قبض القابض كفه شرت وارتفعت وبعدها الأشاجع وهن أصول الأصابع اللاتي تلين الكف وإنما خص البراجم بالحث على غسلها لأن مكاسر الجلد عليها أكثر وأغلظ فكان امتساس الحاجة إلى غسلها أشد لاسيما لمن كان شيءن الأصابع خشن الجلد يعمل في المهنة فيكون براجمه أكثر شنجا. وفيه (وانتقاص الماء) يعني الاستنجاء هذا التفسير من قول بعض الرواة وقد فسره الزمخشري في كتاب الموسوم بالفائق انتقاص الماء هو أن يغسل مذاكيره بالماء ليرتد البول؛ لأنه إذا لم يغسل نزل منه الشيء فيعسر استبراؤه فلا يخلو الماء من أن يراد به البول فيكون المصدر مضافا إلى المفعول وأن يراد به الماء الذي يغسل به فيكون مضافا إلى الفاعل على معنى التعدية. والانتقاص يكون متعديا وغير متعد. قال عدى بن الرعلاء: لم ينتقص منى المشيب قلامة .... الآن حين بدا ألب وأكيس وقيل هو تصحيف والصواب انتفاص الماء بالفاء والصاد المهملة والمراد نضحه على الذكر من قولهم لنضح الدم القليل نفص الواحدة نفصة. قلت وهذا أقرب من تأويله الأول لأن في كتاب أبي داود والانتضاح ولم يذكر أبو داود انتقاض الماء هذا وقد تبين لنا أن اختلاف الألفاظ في هذا الحديث من بعض الرواة حيث رووه بالمعنى. (من الحسان) [248] حديث أبي أيوب- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (أربع من سنن المرسلين الحياء) ويروى الختان قد افترق أهل الرواية في هذا اللفظ على ثلاث طرائق.

فمنهم من يرويه الختان وهو أشبه الألفاظ بهذا المكان ويحتمل أن النون سقط منه في بعض نسخ أهل الرواية فروى على رسم الخط والختان لم يزل مشروعا في الرسل عليهم السلام من لدن إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - إلى زمان نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -. فإن قيل إن النصارى ما كانوا يختنون؟ فالجواب أن كلامنا في الرسل بين إبراهيم ونبينا محمد عليهما السلام وعيسى عليه الصلاة ولد على شريعة موسى عليه الصلاة وكان الختان مشروعا في دينه وقد ذكر أن عيسى عليه السلام ولد مختونا وقد وجدت في بعض كتب أهل العلم بالرواية أن أربعة عشر من الأنبياء عليهم السلام ولدوا مختونين وهم آدم وشيث [47/ب] ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب ويوسف وموسى وعيسى وسليمان وزكريا وحنظلة بن صفوان نبي أصحاب الرس ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى سائر إخوان من الأنبياء والمرسلين، ومنهم من رويه بالحاء والياء وعلى هذا قرأته على بعض علماء المحدثين في كتاب المعجم الكبير للطبراني. فإن قيل الحياء خلق غريزي فكيف يدخل في جملة السنن والأخذ بها من الأكساب فالجواب أن المراد من الحياء ههنا ما يقتضيه الحياء وهو التستر والانقباض عما يفحش ذكر ويستقبح فعله والتنزه عما يأباه المروءة ويذمه الشرع ومنهم من رويه بالنون بعد الحاء وقد قيل إنه تصحيف ومن الشواهد على أنه تصحيف أن الختان والحياء من أسماء المصادر يفيد المعنى المراد منهما ولا كذلك الحناء ولو كان الأمر على ما زعموه لكان من حقه أن يقول التحنية أو استعمال الحناء أو الخضاب به من سنن المرسلين ونحن لا ننكر جواز الحذف والاختصار في مثل ذلك ولكن لا ضرورة بنا إلى هذا التقدير مع الدليل المانع عن القول به من قبل الدين وهو أنه قال أربع من سنن المرسلين. والخضاب بالحناء إما أن يكون في الأطراف أو في الشعور أما في الأطراف فمنفى في حقهم؛ لأن ذلك من دأب أهل التوضيع والتأنيث وقد نزه الله أقدارهم عن ذلك وإنما نعده من شعار أهل التوضيع لقوله - صلى الله عليه وسلم - (طيب الرجاب ما خفى لونه وظهر ريحه وطيب النساء ما ظهر لونه وخفى ريحه) وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر النساء بتغيير أظفارهن بالحناء حتى أنكر على المرأة المبايعة تركها الخضاب في أظافرها وقال في كفيها كأنهما كفا سبع ولم يكن للرجال أن يتشبهوا بالنساء. وأما في الشعور فإن الخضاب فيا من شعار هذه الأمة لم يشاركهم فيه أحد وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أهل الكتاب ما كانوا يخضبون ولم يبلغنا عن أحد من الرسم قبل نبينا - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يخضب فليس لنا مع ما ذكرنا أن نعده من سنن المرسلين وإنما شددنا في توهين هذه الرواية مع

باب الوضوء

استغنائنا عنه بأن نقول هذا اللفظ غير محفوظ والجمهور على أنه تصحيف؛ لأن بعضا من الجهال والغلاة في الباطل أغروا بإثبات ذلك حتى جعلوا تحنية الأيدي والأرجل منارا لطريقهم وعلما لمذهبهم ولا يرضون مع تشبههم بالنساء وذوي الخنوثة حتى (يضيفون) بدعتهم إلى الأنبياء ويزعمون أنها من جملة السنن [48/أ] ثم لا يزالون يرددون ذلك على أسماع العوام قصدا منهم إلى التضليل وترويح التموية أعاذنا الله عن الزيغ عن سواء السبيل. ومن باب الوضوء (من الصحاح) [251] قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة (فإنه لا يدري أين باتت يده) كان أكثرهم يومئذ من يستنجى بالأحجار فيقتصر عليها لإعواز الماء بحضرته وقلته بأرض الحجاز فإذا نام عرق منه محل الاستنجاء، وكان أحدهم إذا أتى المضجع حل إزاره ونام معروريا، فربما أصابت يده ذلك الموضع ولم يشعر به فأمرهم أن لا يغمسوها في الإناء حتى يغسلوها ثلاثا لاحتمال ورود النجاسة عليها في غالب الأمر وهو أمر ندب واستحباب حث به على الاحتياط في أبواب العبادات وصيانة المياه عن مظان النجاسات ويتأكد الاستحباب في حق من باب على الصفة التي ذكرناها فأما من بات وحاله على خلاف ذلك ففي أمره سعة ويستحب له أيضا أن يغسلها؛ لأن السنة إذا وردت لمعنى لم تكن لتزول بزوال ذلك المعنى الله أعلم. [252] ومنه: حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إذا استيقظ أحدكم من منامه فتوضأ فليستنثر ثلاثا فإن الشيطان يبيت على خيشومه). الخيشوم أقصى الأنف وباطنه،

والمراد من بيتوتة الشيطان عليه- والله أعلم- أن الإنسان إذا نام تعلق الخشام بخيشومه ويبس عليه المخاط حتى تنسد مجاري الأنفاس منه وينقطع عن الدماغ ما كان يجده من الراحة باستنشاق الهواء فيكون في رقدته كالمعذب في يقظته فتتغير الطبيعة عن حالها ويتعرض له الشيطان بما يكرهه من أضعاث الأحلام وإذا هب من نومه حب لقس النفس متعوب الطبيعة ولا تستقيم له القراءة في الصلاة مع ترك الخيشوم على تلك الحالة، لأنها تمنع عن تأدية الحروف من مخارجها على شرط الصحة فأمره بالاستنثار لإزالة هذه العوارض وصار ذلك الموضع بيته؛ لأنه يستحلى تلك القواطع التي يتمكن منها هناك وذلك مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - حكاية عن الشيطان إذا دخل البيت الذي لم يذكر اسم الله فيه على الطعام: (أدركتم العشاء والمبيت) ويحتمل وجها آخر وهو أن الإنسان ما دام متيقظا وسوس إليه الشيطان بطريق ما يرد على السمع ويتراءى للبصر ويترقب الفرصة منه عند النطق، إلى غير ذلك من الأحوال فإذا نام انسدت [48/ب] فيه تلك المداخل ولم يبق إلا مدخل النفس من الخيشوم فيترصد هنالك للتعرض له بما يؤذيه ثم إن الخيشوم باب مفتوح إلى قبة الدماغ وفيه محل القسوة المتخيلة التي هي مناط الرؤيا الصالحة ومثار الأحلام الكاذبة، فلا يزال بائتا دون ذلك الباب يعبث ينفخه ونفثه في عالم الخيال فرأى الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يمحو باستعمال الطهور المبارك على وجه التعبد آثار تلك النفخات والنفثات عن مجاري الأنفاس والله أعلم. وتقرينا الكلام على الوجهين من طريق الاحتمال وحق الأدب دون الكلمات النبوية التي هي مخازن أسرار الربوبية ومعادن الحكم الإلهية أن لا يقطع في ذا الحديث وأخواته بشيء فإن الله تعالى خص رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غراب المعاني وكاشف من حقائق الأشياء بما يقصر عن بيانه باع الفهم ويكل عن إدراكه بصر العقل والله أعلم. [256] ومنه: حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (رأي أقواما وأعقابهم تلوح ... الحديث. كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أبر وأتقى من أن يتساهلوا في أمر الدين حتى يفضى بهم ذلك إلى ترك الواجب ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرهم فالظاهر أن القوم المذكورين في الحديث كانوا قوما حديثا عهدهم بالإسلام من سكان البوادي وجفاة الأعراب تجوزوا في غسل أرجلهم

لجهلهم بأحكام الشرع فزجرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا الوعيد عن ترك الواجب والله أعلم وقول (ويل للأعقاب) أي لأصحاب الأعقاب ويحتمل أن يخص العقب نفسها بألم من العذاب عند تعذيب صاحبها والله أعلم. ومنه حديث المغيرة بن شعبة- رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (توضأ فمسح بناصيته وعلى عمامته وخفيه) إنما قال: فمسح بناصيته تنبيها على أن المسح كان ملصقا بالرأس من غير حائل. وقوله (على عمامته) يحتمل أنه حيث مسح بناصيته سوى عمامته بيديه فحسب الراوي أنه مسح عليها، وحديث ثوبان يدل على خلاف ذلك وهو ما روى عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث سرية فأصابهم البرد فلما قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين يعني العمائم والخفاف وقد جوز المسح على العمامة جمع من فقهاء أصحاب الحديث وأكثر من يدور عليهم علم الفتيا في بلاد الإسلام على خلاف ذلك فمنهم من يقول إن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص لهم بعد مسح الواجب أن يقتصروا من الاستيعاب على مسح العمائم ويجعل حديث المغيرة كالمفسر لحديث ثوبان وهذا التأويل لا يستقيم على مذهب من يرى استيعاب جميع الرأس بالمسح واجبا وله أن يقول العمل بحديث ثوبان غير [49/أ] واجب، لأن الله فرض مسح الرأس وقال {وامسحوا برءوسكم} ذاكرا بحرف الإلصاق فلا يجوز تركه بحديث غير متواتر محتمل لأقاويل. قلت: ومن الاحتمال الجائز في حديث ثوبان أن يكون القوم قد أصابتهم الجراح فعصبوها بالعصائب فأمرهم أن يمسحوا عليها ويحتمل أن ذلك كان قبل نزول الآية وعلى الأحوال فالأخذ بظاهر التنزيل في مصل هذه المسألة أولى كيف وقد ذكر العلماء بأيام الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأساب النزول أن المائدة آخر ما نزل من سور القرآن والله أعلم. [258] ومنه: حديث عائشة- رضي الله عنها- (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحب التيمن ما استطاع في شأنه كله) التيمن في اللغة المشهورة هو التبرك بالشيء من اليمن وهو البركة، والمراد به في هذا الحديث البدء بالأيامن ولم أجد له شاهدا في كتب العربية، وقولها (يحب التيمن) أي يؤثره ويختاره عبرت عن ذلك بالمحبة؛ لأن من شأن المحب للشيء أن يؤثره ويختاره. وفيه (في طهوره) الطهور ههنا بمعنى المصدر والقول فيه على ما ذكرناه في أول كتاب الطهارة، وأرادت بالترجل امتشاط الشعر وشعر مرجل أي مسرح والمرجل والمسرح: المشط. (من الحسان) [259] قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- كابدوا بأيمانكم) كذا وجدناه

في نسخ المصابيح والرواية المعتد بها (بميامنكم) ولا فرق بين اللفظين من طريق العربية فإن الأيمن والميمنة خلاف الأيسر والميسرة غير أن هذا الحديث [تفرد] بإخراجه أبو داود في كتابه ولفظه (بميامنكم) فعلينا أن نتبع لفظه والله أعلم [260] ومنه: حديث سعيد بن زيد- رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) عنى بهذا النفي نفي الكمال كقوله (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد) وقد ذهب بعض علماء الحديث إلى وجوب التسمية عند الوضوء منهم الإمام أحمد- رضي الله عنه-

ومنه قول علي- رضي الله عنه- في الحديث الذي يرويه أبو حية (أحببت أن أريكم كيف كان طهور رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قد ذكرنا فيما مضى من الكتاب أن أبا عمرو بن العلاء كان يذهب إلى تخطئة من رواه يفتح الطاء وأبو حية بالياء ذات النقطتين تحتها هو الوادعي همداني، وهو الخارفي وهمدان قبيلة من اليمن وخارف بطن منها. [268] ومنه: حديث ابن عباس- رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (مسح برأس وأذنيه باطنهما بالسبابتين وظاهرهما بإبهاميه) يعني بالسبابتين المسبحتين وهما السبابتان والسبابة والمسبحة [49/ب] من التسميات الإسلامية، وضعوها مكان السباسة لما في السبابة من المعنى المكروه. والإبهام الإصبع العظمى وهي مؤنثة والجمع أباهيم. [270] ومنه: حديث عبد الله بن زيد- رضي الله عنه- في حديثه أنه يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - (مسح رأسه بماء غير فضل يديه) أي أخذ له ماء جديدا ولم يقتصر على البلل الذي بيديه وفيما رواه ابن لهيعة (بماء غبر من فضل يديه) أي بقى على يديه من الماء الذي غسل به يديه ولا عبرة بهذه الرواية فقد روى عن عبد الله بن زيد وغيره بطرق شتى وأسانيد مرضية أنه أخذ لرأسه ماء جديدا ولم يقتصر على البلل الذي بيديه ومن ترك مثل هذا الحديث واتبع الرواية الشاذة الواهية فهو غير موفق ولا صاحب نظر في الدين وعبد الله بن زيد هذا هو عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري المازني مازن بني النجار وكل ما روى في كتاب المصابيح عن عبد الله بن زيد فهو الذي رواه، سوى حديث الأذان فإن الذي رواه هو عبد الله بن زيد بن عبد ربه وهو أنصاري خزرجي شهد بدرا وهو صاحب رؤيا الأذان، وحديث عبد الله بن زيد بن عاصم هذا مخرج في كتاب مسلم ولا شك أن المؤلف لم يشعر أنه في كتاب مسلم ونقله عن كتاب الترمذي فجعله في جملة الحسان. [271] ومنه: حديث أبي أمامة- رضي الله عنه- (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح المآقين) المأق على مثال المعق طرف العين الذي يلي الأنف قاله أبو عبيد الهروى وفي كتاب الجوهري: الذي يلي الأنف والأذن واللغة المشهورة موق العين وفيه لغة أخرى وهي ماق على مثال قاض، وإنما مسحهما

على وجه الاستحباب مبالغة في الإسباغ ونظرا إلى حد الكمال وذلك لأن العين قلما تخلو من قذف ترميه من كحل وغيره أو رمص يسيل منها فينعقد على طرف العين فيفتقر إلى تنقيته وتنظيفه بالمسح والذي يقتضيه تفسير أبي عبيد مسح طرف العين مما يلي الأنف والذي يقتضيه قول الجوهري مسح المآقين من كل عين وهذا أمثل وأحوط؛ لأن المعنى الذي وجدناه في مسح الطرف الذي يلي الأنف وجدناه في مسح الطرف الآخر. [272] ومنه: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي يرويه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (فقد أساء وتعدى وظلم) إنما ذم هذا الفعل بالكلمات الثلاثة إظهارا لشدة النكير على فاعله وزجرا لأولى البصائر عن ذلك ثم إنه قال: (أساء) لأنه أساء الأدب بين يدي الله ورسوله؛ حيث تساهل في حق الاتباع وتعدى؛ لأنه تجاوز عن الحد المحدود له وظلم؛ لأنه وضع الشيء في غير موضعه وهو الطهور الذي استعملهه بعد حصول الكمال ثم ظلم نفسه بمخالفة السنة. وفي قول الراوي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده احتمال أن يكون الضمير في جده راجعا إلى عمرو وأن يكون راجعا إلى أبيه شعيب، فإن يك راجعا إلى عمرو بالحديث يكون مرسلا؛ لأن جد عمرو هو محمد بن عبد الله بن عمرو وهو تابعي، وإن يك راجعا إلى شعيب فالحديث متصل؛ لأن جد شعيب عبد الله بن عمرو ولهذه العلة تكلموا في صحيفة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده لما فيها من احتمال التدليس. [273] ومنه: حديث عبد الله بن مغفل- رضي الله عنه- لابنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول (إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الدعاء والطهور). قلت أنكر الصحابي على ابنه في هذه المسألة لأنه طمح إلى ما لم يبلغه عملا وحالا؛ حيث سأل منازل الأنبياء والأولياء وجعلها من باب الاعتداء في الدعاء لما فيها من لتجاوز عن حد الأدب ونظر الداعي إلى نفسه بعين الكمال. والاعتداء في الدعاء يكون من وجوه كثيرة والأصل فيه أن يتجاوز عن مواقف الافتقار إلى بساط الانبساط أو يميل إلى أحد شقى الإفراط والتفريط في خاصة نفسه وفي غيره إذا دعا له أو عليه، والاعتداء في الطهور استعماله فوق الحاجة والمبالغة في تحري طهوريته حتى يفضى به إلى الوسواس.

باب الغسل

وفي كتاب المصابيح عدة أحاديث عن عبد الله بن مغفل رأيت كثيرا من المحصلين يتخبطون في اسم أبيه فتارة يروون بالعين والقاف وتارة يزيدون فيها الألف واللام ويروونه بالفاء ظنا منهم؛ لأن لام التعريف فارق بين ما هو بالفاء وبين ما هو بالقاف وهم غير مصيبين في الصورتين وكل ما في المصابيح على هذا الرسم فهو عبد الله بن مغفل بالغين المعجمة والفاء المشددة. وعبد الله بن معقل بالعين والقاف غير موجود في الصحابة وإنما هو في التابعين. [274] ومنه: حديث أبي بن كعب- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (إن للوضوء شيطانا يقال له الولهان ... الحديث) الولهان على مثال الوحدان. مصدر قولك وله يوله ولها، وولهانا، وهو ذهاب العقل والتحير من شدة الوجد فسمي به شيطان الوضوء والله أعلم بحقيقته إما لشدة حرصه على طلب الوسوسة في الوضوء وإما لإلقائه الناس بالوسوسة في مهواة الحيرة حتى يرى [50/ب] صاحبها حيران ذاهب العقل لا يدري كيف يلعب به الشيطان. ومن باب الغسل (من الصحاح) [277] حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها. شعبها الأربع قيل: هي اليدان والرجلان، وقيل: بين رجليها وطرفي يديها، وأرى هذا أشبه التأويلين وأقربهما؛ لأنه يتناول سائر الهيئات التي يتمكن بها المباشر عن إربه، وإذا فسر [بيدين] والرجلين اختص بهيئة واحدة، والظاهر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما عدل إلى الكناية بذكر شعبها الأربع لاجتنابه عن التصريح بذكر الشفرتين، ولو أراد بها اليدين والرجلين لصرح بها.

وفيه (ثم جهدها) بفتح الهاء أي: جامعها على قول ابن الأعرابي؛ لأنه قال الجهد من أسماء النكاح وقيل حفزها ودفعها، وأرى أصل الكلمة من الجهد الذي هو الجد في الأمر وبلوغ الغاية؛ لأن إذا انتهى الأمر به إلى ذلك فقد جد وبلغ الغاية، وإنما عبر عنه بهذا اللفظ المبهم؛ لأنه كان يتنزه عن التفوه بما يفحش ذكره صريحا ما وجد إلى الكناية سبيلا، إلا في صورة تدعو الضرورة إلى التصريح على ما ذكر في حديث ما عز ابن مالك وغيره لتعلق الحد بذلك، وقد اعتمد في هذا الحديث على فهم المخاطبين فعبر عنه بالجهد، والمراد منه: التقاء الختانين عرفنا ذلك بحديث عائشة- رضي الله عنها- حيث سألها أبو موسى الأشعري- رضي الله عنه- عن ذلك فقالت: على الخبير سقطت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان فقد وجب الغسل) وهو حديث صحيح. ومنه حديث أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الماء من الماء) أحد الماءين هو المني والآخر هو الغسول الذي يغتسل به أي وجوب الاغتسال بالماء من أجل خروج الماء الدافق، وقد صح أنه منسوخ، ومن جملة الأحاديث التي تصرح وتحكم بنسخ هذا الحديث حديث أبي بن كعب- رضي الله عنه- هو أنه قال: إن الفتيا التي كانوا يفتون أن الماء من الماء كانت رخصة رخصها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بدء الإسلام، ثم أمر بالاغتسال منه. قلت: والذي ذكره المؤلف عن ابن عباس أن الماء من الماء في الاحتلام، فإن قول قاله ابن عباس من طريق التأويل والاحتمال، ولو انتهى الحديث بطول إليه لم يكن ليأوله هذا التأويل [51/أ]، وذلك أن أبا سعيد الخدري قال: خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين إلى قباء حتى إذا كان في بني سالم وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على باب عتبان فصرخ به فخرج يجر إزاره فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أعجلنا الرجل) فقال عتبان: يا رسول الله أرأيت الرجل يعجل عن امرأته ولم يمن ماذا عليه؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إنما الماء من الماء) وهو حديث صحيح أخرجه مسلم في كتابه. [278] ومن حديث أم سلمة- رضي الله عنها- قالت أم سليم: يا رسول الله إن الله لا يستحى من الحق ... الحديث. أي لا يمتنع منه ولا يتركه ترك الحيى منا، وإنما قدمت هذا الكلام بين يدي حاجتها على وجه الاعتذار عن تصريحها بما تنقبض عنه النفوس البشرية وتتوقى عن ذكرها سيما بحضرة الرسالة، والمعنى أن الله بين لنا أن الحق ليس من جملة ما يستحيا منه، وحثنا على الاستفادة بذكره وترك التنزه

عنه، وسؤالها هذا كان من الحق الذي ألجأتها الضرورة إلى السؤال عنه، وكانت عائشة رضي الله عناه تقول: (نعم النساء نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين) وأم سليم هذه بنت ملحان الأنصارية أم أنس بن مالك ويقال لها الغميصاء والرميصاء كانت من عقلاء النساء. وفيه (نعم تربت يمينك) ترب الشيء بالكسر أصابه التراب ومنه ترب الرجل أي: افتقر كأنه لصق بالتراب يقال: تربت يداك هو في الأصل على الدعاء، أي لا أصبت خيرا، وليس المراد منه الدعاء بل هي كلمة من جملة الكلمات التي يطلقها العرب في مخاطباتهم عند التعجب والحث على الشيء والتنبيه عليه والتلزم به وغير ذلك ولا يريدون بها وقوع الأمر، وقد ذكر أبو عبيد اختلاف أهل العلم في معنى تلك الكلمات، واستشهد عليها بالشواهد والقول الجامع بين تلك المعاني أن نقول: اختلاف أقاويلهم يتعلق باختلاف مواضع الاستعمال وذلك مثل قولهم للرجل: قاتله الله ما أفطنه وما أعقله، والآخر: قاتله الله ما أخبثه، فقولهم هذا على معنى الدعاء عليه والذم له، والأول على معنى المدح والتعجب من فطنته وعقله، وذلك يقع موقع قولك: لله دره. وقوله - صلى الله عليه وسلم - (تربت يمينك) كلمة لم يرد بها الدعاء عليها وإنما خرجت مخرج التعجب من سلامة صدرها، وقد روى حديث أم سليم هذا من طريق صحيح أيضا وفيه [51/ب] فغطت عائشة وجهها، وذكر فيه مثل حديث أم سلمة، ووجه التوفيق بينهما أن عائشة وأم سلمة- رضي الله عنهما- حضرتا حينئذ عنده، وتكلمت كل واحدة منهما مثل كلام صاحبتها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (تربت يمينك) جوابا لمن سبق منهما القول أو لصاحبتها وحسبت كل واحدة منها أنها هي المعنية بهذا القول فنقلته على ما سمعته. [280] ومنه حديث ميمونة- رضي الله عنها- (وضعت للنبي - صلى الله عليه وسلم - غسلا) الحديث. الغسل بضم الغين كالمغسول والمغتسل، وهو الماء الذي يغتسل به كالأكل لما يؤكل والغسل أيضا الاسم من غسلت الشيء غسلا بالفتح، والغسل الذي هو الاسم من غسلت يقال بتسكين السين وتحريكه بالضم، ووجدت كثيرا من الناس يكسرون الغين من قول ميمونة- رضي الله عنها - صلى الله عليه وسلم - غسلا وهو خطأ، وإنما الغسل بكسر الغين ما يغسل به الرأس من خطمى وغيره، وفيه (ثم أفرغ على رأسه ثلاث حفنات ملء كفيه) أفرغ أي: صب، والحفنة ملء الكفين من طعام وغيره، وقلما يستعملونها إلا في الشيء اليابس كالدقيق ونحوه، ولعلها استعملتها في الماء على طريق الاتساع وقالت ملء كفيه والحفنة لا يكون إلا ملء الكفين على وجه التأكيد، ويمكن أنها قالت: ثلاث غرفات ملء كفيه فعبر عنها بعض الرواة بما تيسر له من اللفظ. وفيه (وهو ينفض يديه) أي يحركهما، يقال: نفضت الثوب والشجر أنفضه إذا حركته لينتفض، وليس المعنى أنه نفض يديه لينفض منهما ما بقى عليهما من الطهور، فإن ذلك منهى عنه في الوضوء

والغسل، وإنما أريد به في هذا الحديث تحريك اليدين في المشي كما في المعهود من مشية أولى القوة وذوي الصلابة. [281] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي روته عائشة- رضي الله عنها- (خذي فرصة من مسك فتطهري بها) الفرصة بالكسر قطعة قطن أو خرقة تمسح بها المرأة من الحيض، وقد أشكل قوله (من مسك) فإن الفرصة لا تكون من مسك، الاحتمال أن هناك حذفا، وتقديره: مطيبة من مسك، وزعم بعضهم (من مسك) أنه بفتح الميم وليس بشيء. وهذا الحديث وإن كان صحيحا فقد ورد أيضا في الصحاح: (فرصة ممسكة) وهذه الرواية أكثر وقد فسرها بعض أهل العلم فقال: أي مطيبة مأخوذ من المسك فكأنه [52/أ] اختار ذلك للتوفيق بين اللفظين، وقد أنكر بعض أصحاب المعاني هذا التفسير وقال: متى كان المسك عندهم بالحال التي تمتهن هذا الامتهان فيستعمل في المحيض؟! وقد فسر بعضهم فقال: هو من التمسك باليد فقال القتيبي: ممسكة أي: محتملة يقول: تحملينهما معك تعالجين بها قبلك، قال: والعرب تقول مسكت كذا بمعنى: أمسكت وتمسكت، وذكر الزمخشري في كتاب الفائق أن الممسكة الخلق التي أمسكت كثيرا، كأنه أراد أن لا يستعمل الجديد للارتفاق به في الغزل وغيره، ولأن الخلق أصلح لذلك وأوفق، وهذا القول أمتن وأحسن وأشبه بصورة الحال، هذا وقد نظرنا في اختلاف اللفظين فوجدنا الرواية فيهما مسندة إلى عائشة- رضي الله عنها- ووجدنا القضية قضية واحدة والتي سألت عن ذلك أسماء الأنصارية ولم تنسب في الحديث، وقد عرفنا كونها من الأنصار من متن الحديث وهو أن عائشة- رضي الله عنها- قالت: (إن أسماء سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... الحديث). ثم قالت بعد سياق الحديث (نعم النساء نساء الأنصار لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين) وقد وجدنا هذا الحديث أيضا في مسند أسماء بنت أبي بكر فقالت (سألت امرأة عن غسلها من المحيض الحديث). ولابد وأن يكون اختلاف اللفظين في حديث واحد في قضية واحدة من بعض الرواة لروايته الحديث بالمعنى، فالظاهر أن بعض الرواة سمع (فرصة ممسكة) ففهم منه التطيب ولم يضبط اللفظ، فرواه المعنى على هذا اللفظ، وإنما نصرنا هذه الرواية لأنها أكثر، واخترنا المعنى الذي ذكرناه؛ لأنه أوجه وأقرب، ومن الدليل على صحة ذلك أن (الفرصة) في كلام العرب ما تستعمله الحائض وتمسح به الدم على ما نقلناه من كتب اللغة ثم ما في هذا الحديث من قوله (فتطهري بها) ولو كان المعنى على ما ذهبوا إليه لكان (فتطيبي بها) ولأنه - صلى الله عليه وسلم - أمرها بذلك لإزالة أثر الدم عن التطهر، ولو كان لإزالة الرائحة الحاصلة من المحيض لأمر بعد إزالة أثر الدم، ثم إن هذا اللفظ أعنى: (فرصة من مسك) هو ما تقضية طرق النظم على ما ذكرناه. والله أعلم.

[282] ومنه حديث أم سلمة- رضي الله عنها- (يا رسول الله إني امرأة أشد ضفر رأسي) الضفر بفتح الضاد وسكون الفاء نسج الشعر وإدخال بعضه في بعض [عريضا] (52/ب) ومنه قيل للبطان المعرض ضفر وضفير، وللذؤابة ضفرة. وفيه (إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات) الحثو والحثى الإثارة يقال: حثا يحثو حثوا وحثى يحثى حثيا، يقال أحثت الخيل البلاد وأحاثتها: إذا دهمتها وأثارتها، ومعنى الحثيات الثارات التي يثير فيها الماء بيديه ويفيضها على رأسه، فإن كان المراد من الحثيات هذا الذي ذكرناه في تفسير ظاهر اللفظ فإنما نص فيه على الثلاث؛ لأن الكفاية في إفاضة الماء على سائر الجسد يحصل به في غالب الأحوال، ويمكن أنه أراد بالحثية الفيضة الواحدة التي تعم سائر البدن، وهذا المعنى أقرب وعلى هذا فالحثيات في معنى الغلات الثلاث، وحينئذ يكون التنصيص فيها على الثلاث على وجه الاستحباب لا على الوجوب. [258] ومن الحسان قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي ترويه أم سلمة رضي الله عنها (إن النساء شقائق الرجال) أي: نظائرهم وأمثالهم في الخلق والطباع كأنهن شققن منهم، ولأن حواء خلقت من آدم عليه السلام وشقت منه. يقال: فلان شق نفسي وشقيق نفسي أي كأنما شق مني لمشابهة بعضنا بعضا، وشقيق الرجل أخوه لأن نسبة شق من نسبه، وكثيرا يستعملون ذلك في بني الأب والأم كقولهم في عبد الرحمن بن

أبي بكر- رضي الله عنه- هو شقيق عائشة- رضي الله عنها-، وذلك باعتبار أنهما شقا من ماء واحد بالنسبة إلى كل واحد من الأبوين في رحم واحد، قال الشاعر: يا بن أمي ويا شقيق نفسي .... أنت خليتني لأمر شديد [288] ومنه حديث على رضي الله عنه (فمن ثم عاديت رأسي) عبر عن تعرية الرأس عن الشعر واستئصال ذلك بالجز ليصل الماء بالمعاداة على وجه الاتساع إلى عاملت مع رأسي معاملة المعادى، وقد ذهب بعض أهل العلم في معناه إلى الاستقصاء في إيصال الماء إلى أصول الشعر، وقد تعمق في تحقيق قوله (عاديت) حتى كان أن يفضى به إلى التكلف بل أفضى (...) هو الذي ذكرناه، ومما حملنا على اختيار هذا القول بعد مراعاة الظاهر ما رواه أبو محمد (...) الدرامي في كتابه من الزيادة بعد حديث علي رضي الله عنه هذا وكان علي- رضي الله عنه- يجز شعره، فأورد هذا القول مورد البيان لقول علي- رضي الله عنه- وقد روى مثل ذلك عن حذيفة- رضي الله عنه- وذلك (53/أ) أنه خرج وقد طم رأسه فقال (إن تحت كل شعرة لا يصيبها الماء جنابة فمن ثم عاديت شعري كما ترون) قال شمر: معناه أنه طمه واستأصله ليصل الماء إلى أصول شعره، ولم يفسر قوله (عاديت) وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: (عاديت شعري) أي رفعته وعاديت الشيء أي باعدته، وهذا التفسير قريب مما ذكرناه في حديث علي- رضي الله عنه- ولو قدر معنى الرفع والمباعدة في حديث علي رضي الله عنه لم يستقم معناه إلا إذا قيل إنه حذف المضاف، وتقدير الكلام (فمن ثم عاديت شعر رأسي) ولو زعم زاعم أن المراد من الرفع في تفسير حذيفة رفع الشعر؛ لإيصال الماء في أصوله فقد أحال، وكذلك الذي فسر عاديت رأسي بالاستقصار في إيصال الماء إلى أصول الشعر؛ لأن في حديث حذيفة (وقد طم رأسه) أي استأصل شعره، وفي كتاب الدرامي (وكان يجز شعره) فأني يصح معنى الحديثين على قدر من الاستقصاء والمبالغة بعد استئصال الشعر بالجز. [290] ومنه حديث عائشة- رضي الله عنها- (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغسل رأسه بالخطمى وهو جنب) الحديث. الخطمى بكسر الخاء الذي يغسل به الرأس، ومعنى الحديث أنه كان يكتفى بالماء الذي يغسل به الخطمى عن رأسه، ولم تبينه كل التبيين؛ لأن من المعلوم أن الذي يغسل رأسه بالخطمى لابد وأن يغسله بالماء حتى يزيل عنه أثره.

باب مخالطة الجنب وما يباح له

ومنه حديث يعلى- رضي الله عنه- أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله حيى ستير) الحديث. المعنى: إن الله تبارك وتعالى تارك للمقابح ساتر للعيوب والفضائح يحب الحياء والتتر من العبد؛ لأنهما خصلتان تفضيان به إلى التخلق بأخلاق الله، ويعلى راوي هذا الحديث هو يعلى بن أمية أبو صفوان التميمي وقد ينسب أيضا إلى أمه فيقال يعلى بن منية. [289] ومنه حديث ابن عباس- رضي الله عنه- (خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من الخلاء فأتى بطعام فذكر له الوضوء فقال: أريد أن أصلي فأتوضا) المعنى: أريد أن أصلي حتى أفتقر إلى الوضوء، حذف عنه همزة

الاستفهام إيثارا للتخفيف، والفاء في قوله (فأتوضأ) هي الناصبة بعد الاستفهام أشار بقوله هذا إلى أن الوضوء شرع لإقام الصلاة لا لأكل الطعام، وإنما قال لذلك لئلا يشق على الأمة، وليفتح عليهم باب التيسير والرخصة، ولم يرد به نفي الفضيلة كيف وقد علمنا بأصل السنة (53/ب) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحب أن يذكر الله على طهر، ومن سنته أن يبدأ عند الطعام بذكر الله ويختم الأمر فيه الحمد الله وثنائه، فعرفنا بذلك استحباب الطهارة حالة الأكل، وأنها من أبواب العزيمة، وأن الثواب مرجو فيها والبركة مغتنمة. [299] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ميمونة- رضي الله عنها- (إن الماء ليس عليه جنابة) معناه: إن الماء إذا غمس فيه الجنب يده لم ينجس، وإنما قال ذلك؛ لأن القوم كانوا حديثي عهد بإسلام، وقد أمروا بالاغتسال عن الجنابة كما أمروا بتطهير البدن عن النجاسة، فربما يسبق إلى فهم أحدهم أن العضو الذي عليه الجنابة في سائر الأحكام كالعضو الذي عليه النجاسة فيحكم بجنابة الماء من غمس عضو الجنب فيه كما يحكم بنجاسته من غمس العضو النجس، فبين لهم أن الأمر بخلاف ذلك. [300] ومنه حديث عائشة- رضي الله عنها- (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجنب فيغتسل ثم يستدفئ بي قبل أن أغتسل) جنب الرجل وأجنب واجتنب وتجنب إذا صار جنبا، ورجل جنب وامرأة جنب وقوم جنب، وربنا قالوا في جمعه أجناب وجنبون، وسميت جنابة لكونها سببا لتجنب الصلاة؛ ولأن الجنب نهى أن يقرب مواضع الصلاة ما لم يتطهر، فتجنبها وأجنب عنها أي: تباعد منها تقولها يجنب بضم الياء وكسر النون، ويجوز أن يفتح منه الياء ويضم النون. وقولها (يستدفئ بي) الدفء السخونة يقال منه دفئ الرجل دفاءة مثل كره ودفأ مثل ظمئ ظمأ واستدفأ به وهو افتعل أي لبس ما يدفئه، ومعنى اللفظ أنه كان يجعلها من نفسه مكان الثوب الذي يستدفئ به ليجد السخونة من يديها، وإنما ذكرت ذلك في استدفاء الرجل بامرأته وهي جنب في حالة التعري بحيث تمس بشرتها- وهي جنب- بشرته، وقد اغتسل؛ لأن استدفاءه بها بن البشرتين ما يمنع عن الامتساس مما لا حاجة إلى بيانه.

[301] ومنه حديث علي- رضي الله عنه- (وكان لا يحجبه أو يحجزه عن قراءة القرآن شيء ليس الجنابة) يعني إلا الجنابة، وقد يستثنى بليس تقول: جاءني القوم ليس زيدا بضم اسمها منها وبنصب خبرها كأنك قلت: ليس ما جاءني زيدا مكان قولك: جاءني القوم ليس زيدا، وقد زعم بعض المعتبرين من علماء البيان وأهل المعرفة بالحديث (54/ب). أن ليس ههنا بمعنى: غير وهي تجر ما بعدها كما تجر غير فروى الجنابة مجرورة، ولم نجد لقوله هذا سنادا في كتب علماء العربية. [303] ومنه: حديث علي- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا تدخل الملائكة بيتا) الحديث. ظاهر اللفظ يقتضى عموم الملائكة، وقد عرفنا بنص الكتاب أن كتبة الأعمال غير داخلين في جملتهم، وذلك قوله سبحانه {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} في آيات أخر، وقد بينها قوله - صلى الله عليه وسلم - (فإن معكم من لا يفارقكم فاتقوا الله واستحيوا منهم) وأن المرادين بذلك هم الذين ينزلون بالبركة والرحمة ويطوفون على عباد الله المؤمنين ويستمعون الذكر ويؤمنون على دعاء المؤمنين ويزورون عباد الله الصالحين فإذا رأوا في موضع منكرا أو شيئا لا يناسب حالهم امتنعوا عن دخول ذلك الموضع. ويحتمل أن يكون المعنى: لا يدخله بالخير، وامتناعهم عن دخول البيت الذي فيه الصورة لما في الصورة من التشبه بخلق الله والإقدام على المنكر الفظيع الذي منع منه الشرع، وظاهر هذا اللفظ يقتضى تناول سائر التصاوير المنصوبة القائمة التي لها شخص والتي لا شخص لها من المنقوشة في الجدر والمصورة فيها وفي الفرش والأنماط، وقد رخص من التصاوير فيما لا شبح لها وكان منبوذا توطأ وتداس لأحاديث دلت على الرخصة لمن كانت في بيته، فأما في حق المصور فلا، وأما البيت الذي فيه الكلب؛ فلأن الكلب نجس خبيث بلغ في المرتبة الحيوانية إلى النهاية في الخساسة، والملائكة أشراف خلق الله، وهم المكرمون المتمكنون من أعلى مراتب الطهارة، وبين الحالين تضاد كما بين النور والظلمة، ثم إن الذي يؤوى الكلب في بيته من غير حاجة إنما يتخذه للهو والاستئناس به مع ترك الاحتراز عن رجسه وتسامحه في أمر في بيته من غير حاجة إنما يتخذه للهو والاستئناس به مع ترك الاحتراز عن رجسه وتسامحه في أمر الدين. ومن سوى نفسه بالكلاب ولم يمتنع عن مقاربتها بالزاجر الشرعي فحقيق أن ينفر الملك عن منزله

ويأنف عن إتيانه وزيارته، وقد استثنى من جملتها ما دعت المصلحة إليه ككلب الزرع والماشية والصيد، وأما الذي فيه الجنب فلأن الجنب ممنوع عن معظم العبادات، وهذا الجنب هو الذي يتهاون بإزاحة العلة عن نفسه بعد أن يتجاوز الوقت فيها عن الحد المحدود مع الإمكان عرفنا ذلك بأصل السنة وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (55/ب) كان يطوف على نسائه بغسل واحد وفي هذا تأخير الاغتسال، وقد صح عن عائشة- رضي الله عنها- أنها قالت (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينام وهو جنب) فعلمنا أن المراد من الجنب في هذا الحديث هو الذي يتخذ ترك الاغتسال دأبا وديدنا حتى يمر عليه وقت صلاة مفروضة. [304] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عمار- رضي الله عنه- (والمتضمخ بالخلوق) التضمخ التلطخ والإكثار منه حتى يكاد يقطر، والخلوق: طيب معروف يتخذ من الزعفران وغيره، وإنما استحق أن لا يقربه الملائكة؛ لأنه توسع في الرعونة وتشبه بالنساء مع أنه خالف الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلم ينته عما نهاه. [306] ومنه حديث ابن عمر- رضي الله عنهما- (مر رجل على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبول) الحديث. التوفيق بين هذا الحديث وحديث علي- رضي الله عنه- (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخرج من الخلاء فيقرأ بنا القرآن) هو أن نقول: النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مبعوثا بالحنيفية السهلة: بحب التيسير على الأمة فلو أخذ في هذه القضية ونظائرها بالعزيمة لشق على الأمة وتعذر اتباعه بما شرع على أكثر الناس، فشرع لهم الرخصة فيما رواه على- رضي الله عنه-، وبين لهم سبيل العزيمة بما رواه ابن عمر- رضي الله عنهما- ليأخذ كل منهم بحظه، ويحتمل أن يكون آخر الأمرين ما رواه ابن عمر- رضي الله عنه- والمسلم به قيل: هو المهاجر بن قنفذ بن عمير جذعان القرشي التيمي، وهو من مسلمة الفتح وعلى هذا فحديث ابن عمر غير حديث أبي

باب أحكام المياه

الجهيم بن الحارث بن الصمة وهو في باب التيمم من هذا الكتاب ويلزم من الحديثين أن هذا لم يكن بالنادر من أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بل فعله كرة بعد أخرى. ومن باب أحكام المياه (من الصحاح) [310] حديث السائب بن يزيد- رضي الله عنه- (ذهبت بي خالتي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -) الحديث. أبو السائب هو يزيد بن عبد الله الكناني وهو صحابي وخالته هي أخ النمر بن قاسط الكندي، ولم يقيض لنا الوقوف على اسمها فيما انتهى إلينا من كتب أصحاب الحديث. وفيه وجه الوجع المرض، وجع فلان يوجع وييجع وياجع فهو وجع أي: مريض وفيه (فنظرت إلى خاتم النبوة مثل زر الحجلة) خاتم النبوة طابعه الذي ختمت به النبوة وسمي أيضا خاتما؛ لأنه كان يصون النبوة عن فرية المفترين صيانة الخاتم للكتاب وقد كان علما من أعلام نبوته مذكورا في الكتب المنزلة و (زر الحجلة) الرواية بتقديم الزاي المنقوطة على (56/أ) الراء المهملة المشددة، والحجلة بتحريك الجيم، فذهب قوم إلى أن المراد به واحد الأزارار التي تشد على ما يكون في حجال العرائس من الكلل والستور ونحوها، وهذا وصف مستبعد من طريق البلاغة قاصر في فن التشبيه والاستعارة ثم إنه لا يلائم الأحاديث التي ذكرت في وصف خاتم النبوة، وذهب آخرون إلى أن المراد منه بيضة الحجلة، بتسكين الجيم والذكر منها يقال له يعقوب، وهي القبجة وهذا القول يوافق بعض الأحاديث التي وردت في هذا الباب ويقارب بعضها غير أن الزر بمعنى البيضة لم يوجد في كلام العرب، وقال إبراهيم بن حمزة: إنما هو

رز بتقديم الراء المهملة يعني أنه مأخوذ من قولهم رزت الجرادة وهو أن تدخل ذنبها في الأرض فتلقى بيضها، وهذا أشبه لما في الحديث (مثل بيضة الحمامة) ولا تباعد بين اللفظين في التشابه إلا أن الرواية لم تساعده، ومما روى في وصف خاتم النبوة حديث عائشة- رضي الله عنها- (كان مثل التينة يضرب إلى الدهمة مما يلي الفقار من أصله كتفه اليمنى) وحديث أبي سعيد الخدري- رضي الله عنهما- فيما سأله أبو بصرة (كان بضعة ناشرة) وحديث جابر بن سمرة- رضي الله عنه- (كان خاتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني الذي بين كتفيه غدة حمراء مثل بيضة الحمام) وحديث عبد الله بن سرجس- رضي الله عنه- (كان مثل الجمع يعني: الكف حوله حيلان كأنها كأنها الشآليل على نغض كتفه)، وحديث عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما (كان شعرات مستطيرات متفرقات كأنهن في عرف فرس) وفي حديث العبد الصالح بحيرا الراهب (كأنه تفاحة أسفل من غضروف كتفه) فهذه جوامع ما وجدناه في وصف خاتم النبوة وهي مبينة لما أخبرنا عما قيل في زر الحجلة. (ومن الحسان) [312] حديث أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- (قيل يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة) الحديث. بضاعة دار بني ساعدة بالمدينة وهم بطن من الخزرج، وأهل اللغة يضمون الباء ويكسرونها، والمحفوظ في الحديث الضم، وقد حكى عن بعضهم بالصاد المهملة، وليس ذلك بالمحفوظ. وفيه (وهي بئر تلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن) الحيض جمع حيضة بكسر الحاء وهي الخرقة التي تستثفرها المرأة في المحيض، ومنه حديث عائشة- رضي الله عنها- (ليتني كنت حيضة ملقاة) وتسمى تلك الخرقة أيضا، المحيضة، والنتن: الرائحة (56/ب) الكريهة، وقد نتن الشيء وأنتن منتن، وأراد به ههنا الشيء المنتن، كالعذرة والجيفة، ووجه قول القائل: يلقى فيها، هو لأن البئر كانت بمسيل من بعض

الأودية التي تحل بها البادية، فتلقى تلك القاذورات بأفنية منازلهم، فإذا جاء السيل وكسح الوادي، احتمل الحيض والنتن ولحوم الكلاب فأنهت بها إلى البئر، فعبر السائل عن ذلك بقوله على وجه يوهم أن الإلقاء كان من الناس، وأن الناس كانون لا يتدينون بصيانة الماء عن العذر والنتن، وهذا مما لا يجوزه مسلم؛ بل لا يرتضيه المجوس وعبدة الأوثان. وقد جرت العادة بخلاف ذلك في الناس مسلمهم وكافرهم، فأني يظن ذلك بمن هم أفضل القرون وأزكاهم وأطهرهم، وعلى هذا النحو فسره أبو سليمان الخطابي. وفيه: (إن الماء طهور لا ينجسه شيء) اللام فيه للعهد، أي الماء الذي وقع السؤال عنه طهور لا ينجسه شيء؛ لكثرته ثم لكونه في حكم المياه الجارية، فإن السيل إذا ألقى في مثل تلك البئر قذرا ونتنا ثم طفح عليها، احتمل بعيابه ما ألقى فيها، فلا يسلب إذا من ذلك الماء حكم الطهورية. [316] ومنه: حديث أبي قتادة- رضي الله عنه- الذي ترويه كبشة بنت كعب وكانت تحت ابن أبي قتادة وهو عبد الله، وفي اسم أبي قتادة اختلاف كثير وهو مشهور بكنيته، وهو أبو قتادة بن ربعي الأنصاري السلمي فارس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفيه: (إنها ليست بنجس) قال أبو جعفر الطحاوي: يحتمل أنه أراد أنها ليست بنجس في كونها في البيوت هو في مماستها الثياب لا في طهارة سؤرها، والذي يدل على طهارة سؤرها من هذا الحديث فعل أبي قتادة، وقد خالفه في ذلك ابن عمر وأبو هريرة وجمع من علماء التابعين. وذكر أبو جعفر في حديث عائشة رضي الله عنها: (رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ بفضلها) أن مداره على أم داود بن صالح وليست هي من ذوي الرواية بمكان يؤخذ عنها أمثال ذلك. وقد استدل أيضا بحديث جابر- رضي الله عنه-: (نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب والسنور) وإنما تكلم على هذا النمط بناء على ما كان يذهب إليه من مذهب أبي حنيفة رحمة الله عليه، ونظرا لأنها تأكل الميتة، وأما أصحاب الحديث، وكثير من أهل الاجتهاد فإنهم يذهبون إلى طهارة سؤرها لهذا الحديث، وجوابهم عن التأويل الذي ذكرناه عن الطحاوي هو أن الصحابي بين معنى الحديث بالعمل، والصحابي أعرف. [57/أ] بتأويل ما يرويه، ولكل وجهة هو موليها. وفيه: (إنها من الطوافين عليكم والطوافات)، قال أبو الهيثم: الطائف الخادم الذي يخدمك برفق وعناية، وجمعه الطوافون. قال الخطابي: ويجوز أن تكون شبيهة بالطوافين من ذوي الحاجة والمسكنة لطلب الرزق، والمراد منه التنبيه على الرفق بها واحتساب الأجر في مواساتها.

باب تطهير النجاسات

قلت: ويحتمل أنه قال هذا القول على وجه البيان، لقوله: (إنها ليست بنجسة) والمعنى أنها تطوف عليكم في منازلكم ومساكنكم [فتمسحونا بأيديكم] وثيابكم، ولو كانت نجسة لأمرتم بالمجانبة عنها والاحتراز عن مماستها وتخلية البيوت عنها، وهذا المعنى أشبه بنسق الكلام. [317] ومنه حديث جابر- رضي الله عنه-: (سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنتوضأ بما أفضلت الحمر ... الحديث) أفضلت، أي: أبقت من فضالة الماء الذي تشربه، وهو مثل أسأرت من السؤر. قلت: وأصحاب الحديث لم يذهبوا إلى العمل بهذا الحديث ذهابهم إلى العمل بحديث أبي قتادة، وذلك لمكان اختلافهم في الجرح والتعديل. فربما كان الحديث ثابتا عند قوم متروكا عند آخرين. وكلمة (بما) في الموضعين بمعنى بالذي وقد رواه بعض الناس بالمد في الموضعين ولا أراه إلا تصحيفا. ومن باب تطهير النجاسات (من الصحاح) [321] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- (دعوه وأريقوا على بوله سجلا أو ذنوباً من

ماء) يحتمل أن يكون سجلا أو ذنوبا على الشك من قول الراوي ويحتمل أن يكون على معنى التخيير من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فأما وجه احتمال أن يكون من قول الراوي فظاهر وأما وجه القول الآخر فهو أن بين اللفظين قربا ما، وذلك أن السجل هو الدلو إذا كان فيه ماء قل أم كثر، والذنوب الدلو الملئ ماء فخيرهم بين الأمرين والأول أوضح وقوله (من ماء) زيادة وردت مورد التأكيد والتفهيم لمن لم يكن ذا فهم وذلك لأن السجل والذنوب لا يستعملان إلا في الدلو التي فيها الماء ولا يقال لها وهي فارغة سجل ولا ذنوب والسجل مذكر والذنوب يذكر ويؤنث وأما قوله في هذا الحديث (فإنما بعثتم ميسرين) أي بعثتم أيتها الأمة من بين سائر الأمم ميسرين فعليكم بالتيسير فإن الله تعالى بعث إليكم نبيكم بالتيسير فوضع عنكم الآصار التي كانت على من قبلكم. [322] ومنه حديث أسماء بن أبي بكر- رضي الله عنه- (سألت امرأة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرأيت إحدانا إذا أصاب ثوبها الدم من الحيضة .. الحديث) الحيضة [57/ب] هاهنا بكسر الحاء وهي الاسم من الحيض والحيضة بفتح الحاء المرة الواحدة منه ولا معنى لها في هذا الحديث. وفيه (فلتقرصه ثم لتنضحه بماء) قد يتوهم بعض الناس أن المراد منه أن تفرك فرك المني ثم تنضح بماء وليس الأمر على ما توهم؛ لأن النضح لا يجدى مع إبقاء أثر الدم من غير مبالغه في الغسل بل لا يزداد الثوب إلا نجاسة وإنما المراد أن تغسله بأطراف أصابعها وأظافرها، ثم تصب عليه الماء حتى يذهب أثره وذلك أبلغ في غسل الدم من أن يغسل باليد ويروى أنه قال للمرأة (قرصيه بالماء) بالتشديد أي قطعيه وقوله (ثم لتنضحه بماء) النضح أكثر ما يستعمل على الرش ويستعمل أيضا بمعنى الصب ولعله أراد بقوله هذا أن تثب الماء عليه شيئا فشيئا حتى يذهب أثر الدم. [325] ومنه قول أم قيس بنت محصن- رضي الله عنها- في حديثها (فدعا بماء فنضحه ولم يغسله)

أريد بالنضح ههنا إسالة الماء على الثوب الذي أصابه البول حتى يغلب عليه من غير أن يبالغ في الغسل بالمرس والدلك وذلك لأن الغلام لم يكن يأكل الطعام فيكون لبوله عفونة يفتقر في إزالة ذلك إلى مبالغة، ثم إن الذكور في أصل الفطرة أصح مزاجا وأقوى بنية من الإناث فيكون التي تخرج من أبدانهم أيسر مؤونة عند الإزالة، والأنثى حيث كانت بصدد أن تحيض وكانت الرحم منها مستعدة لانصباب المواد إليها كانت بولها أنتن رائحة وأشد صبغة فاستدعى ذلك إلى مبالغة في الغسل ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث لبابة بنت الحارث وهي أم عبد الله بن عباس- رضي الله عنه- (إنما يغسل من بول الأنثى وينضح من بول الذكر) فلم يرد أنه لا يغسل وإنما أراد بها التفريق بين الغسلين والتنبيه على أنه غسل دون غسل بعبر عن أحدهما بالغسل وعن الآخر بالنضح وحديث لبابة يبين أن علة النضح في حديث أم قيس هي الذكورة وقولها: لم يأكل الطعام شيء حسبته من تلقاء نفسها لم يكن في ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برهان وأم قيس هذه أخت عكاشة واسمها آمنة على ما قيل. (ومن الحسان) [330] حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (إذا وطئ بنعله أحدكم الأذى فإن التراب له طهور) ذهبت جمع من العلماء إلى أن النعل إذا أصابتها نجاسة فمسحت بالأرض حتى ذهب أثرها جازت

الصلاة وحملوا قوله - صلى الله عليه وسلم - (فإن التراب له طهور) على هذا المعنى ويستخرج من هذا الأصل أن النعل إذا كانت ذات نقائل ومخارز يتعلق بها النجاسة فلا يذهب أثرها [58/أ] بالدلك ولا تجوز الصلاة معها إذا تجاوزت النجاسة عن القدر المعفو. وقد ذهب جمع إلى خلاف ما ذهب إليه الأولون وتأويل الحديث على وفق مذهبهم هذا أن يقال معنى قوله: (فإن التراب له طهور) هو أن المتنعل إذا وطئ القذر ثم أزال أثرها بالتراب فله أن يطأ بها أرض المسجد ويمسحها بيده [...] بثوبه ويكون استعمال الطهورية فيها على طريق الاتساع والمجاز المتعارف بين الناس، أو يأولونه على ما ما يأول عليه حديث أم سلمة الذي يتلوه وذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - (يطهره ما بعده) وهذا محمول على أن السؤال صدر فيما جف من الثياب على ما كان يابسا من القذر فربما تشبث بها شيء منه فأخبر أن لا حرج في ذلك ولو تشبث بها شيء فإن المكان الذي بعده يطهره أي يزيل ذلك عنه. قلت وفي تأويل حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- على هذا الوجه الذي ذكرناه في حديث أم سلمة نظر؛ لأن بين الحديثين بونا بعيدنا وهو أن حمل حديث أم سلمة على ما يقتضيه الظاهر مخالف للإجماع وذلك لأن الثوب إذا أصابته نجاسة لم يطهره إلا الغسل. وأما حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- فقد أخذ به غير واحد من فقهاء التابعين ومن بعدهم ثم إنه حديث حسن لم يطعن فيه. وأما حديث أم سلمة ففي إسناده مقال من قبل من يرويه عن أم سلمى وهي أم ولد لإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف وهي مجهولة لم يعرف حالها في الثقة والعدالة. [333] ومنه حديث أبي المليح عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (نهي عن جلود السباع أن تفترش) إنما نهى عن لبس جلود السباع وافتراشها والركوب عليها؛ لأن ذلك من سنن الجبابرة ودأب المتكبرين وعمل المسرفين وسجية المترفين وعلى هذا فالنهي نهي تنزيه وأما من يذهب إلى نجاسة شعور الميتة، أو يذهب إلى أن جلود الميتة لا يطهر بالدباغ فإن النهي عنده نهي تحريم وأبو المليح أو أسامة بن عمير الهذلي رضي الله عنه وأحاديثه التي رواها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا راوي لها عنه غير ابنه أبي المليح واسمه عامر والمليح بفتح الميم وكسر اللام. [334] ومنه حديث عبد الله بن عكيم (أتانا كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... الحديث) ذهب بعض أهل العلم

باب المسح على الخفين

من أصحاب الحديث إلى القول به وجعله ناسخا للأخبار الواردة في الدباغ لما في بعض طرقه (أتانا كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل موته بشهر). والجمهور من العلماء على خلاف ذلك لا يرون القول بحديث [58/ب] ابن عكيم لأنه لا يقاوم الأحاديث التي وردت في هذا الباب صحة واشتهارا ثم إن عبد الله بن عكيم لم يلق النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما حدث عن حكاية حاله ولو ثبت لكان من حق أن يؤول على أنه نهي عن الانتفاع به قبل الدباغ؛ لئلا يخالف الثابت الصحيح. [335] [ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ميمونة رضي الله عنها (لو أخذتم إهابها) (لو) هذه بمعنى (ليت، والذي لاقى بينهما أن كل واحدة من الكلمتين في معنى التقدير، ومن ثم أجيبتا بالفاء].

باب التيمم

ومن باب المسح على الخفين (من الصحاح) [340] حديث المغيرة بن شعبة- رضي الله عنه- وضأت النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك أي سكبت الوضوء على يده وقول المؤلف هذا مرسل كلام مستدرك؛ لأن المرسل ما أسنده التابعي أو تابع التابعي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير أن يذكر الصحابي الذي يروي الحديث مسندا إلى المغيرة. وهذا الحديث أسنده إلى الصحابي ثم قال هذا مرسل وكان من حقه أن يقول لم يثبت هذا الحديث مسندا إلى المغيرة وإنما روى مرسلا عن وراد كاتب المغيرة ومولاه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (مسح أعلى الخف وأسفله) وقد قال أهل العلم بالرواية إن هذا حديث معلول. قلت: وقد رواه رجاء بن حيوة عن كاتب المغيرة فقال: حدثت عنه فهو إذا مع الإرسال منقطع. ومن باب التيمم (من الصحاح) [345] حديث عمار بن ياسر- رضي الله عنه- (كنا في سرية فأجنبت فتمعكت ... الحديث) تمعكت

أي تمرغت يقال تمعكت الدابة وتمرغت إذا انقلبت في التراب وإنما تمرغ عمار لتوهمه أن التيمم للجنابة غير التيمم لحدث قياسا على الغسل والوضوء فنبأه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهما سيان، وقد ذهب جماعة إلى أن التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين عملا بهذا الحديث والأكثرون من فقهاء الأمصار على أنه ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين فقد روى عن عبد الله بن عمر والأسلع بن الأسقع التميمي رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (تيمم بضربتين ضربة للوجه وضربة لليدين). قلت: وهذان الحديثان أغني حديث ابن عمر، والأسلع ليا كحديث عمار في صحة الإسناد ولكن

باب الغسل المسنون

(الأكثرون) ذهبوا إلى حديثهما وقد قال الخطابي: مذهب من ذهب إلى حديث عمار أصح في الرواية ومذهب من يخالفهم أشبه بالأصول وأصح في القياس فإن قيل كيف تخالفون حديث عمار وقد عرفتم صحته وإذا أخذتم بحديث ابن عمر مع ضعف إسناده من قبل محمد بن ثابت العبدي وبحديث الأسلع مع (60/أ) ضعف إسناده من قبل الربيع بن بدر إذ لم يروه عن أسلع غيره وهو من الضعفاء فأني لكم بالتوفيق بين الحديثين وحديث عمار. قلنا: الأخذ بهما أحوط؛ لأن المتيمم إذا تيمم بضربتين ومسح بإحدايهما وجهه وبالأخرى يديه إلى المرفقين أجزأه ذلك وسقط عنه الفرض بالإجماع، ولا كذلك من مسح وجهه وكفيه بضربة واحدة. وأما التوفيق بين المختلفين فهو أن يقال يحتمل أن الأمر كان على ذلك في أول ما شرع التيمم ثم صار إلى ما أخبرا عنه، فإن قيل: فلم لا تقدرون الأمر على خلاف ذلك. قلنا: لأنا قد عرفنا من حديث عمار أن أحكام التيمم لم تكن مستفيضة فيما بينهم حينئذ وذلك ينبثنا عن تقدم حديث عمار والتيمم شرع في غزوة المريسيع في السنة الخامسة من الهجرة وكان إسلام بني تميم متأخرا وأول ما قدم وقد بني تميم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع قيس بن عاصم المنقري التميمي في السنة التاسعة وهذا الذي ذكرناه وإن لم يبلغ مبلغ الفصل والقطع، فإنه كالسناد لما قدمناه، هذا وقد قال أبو جعفر الطحاوي: رأينا الوجه يمسح بالصعيد كما يغسل بالماء، ورأينا الرأس والرجلين مما لا يمسحان فكان ما سقط التيمم عن بعضه سقط عن كله وكان ما وجب فيه التيمم كان كالوضوء سواء؛ لأن جعل بدلا منه. ومن باب الغسل المسنون (من الصحاح) [350] حديث أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (غسل الجمعة واجب على كل محتلم) قيل معناه وجوب الاختيار والاستحباب دون وجوب الفرض كما يقال (فلان يجب علينا رعايته فلت وإنما يذكر أمثال ذلك بلفظ الوجوب على وجه التأكيد والمبالغة في الاستحباب وقد كان القوم عمال أنفسهم يعملون في المهنة ويلبسون الصوف وكان المسجد [...] مقارب السقف فإذا عرفوا تأذى بعضهم برائحة بعض فندبهم إلى الاغتسال بلفظ الوجوب ليكون أدعى إلى الإجابة. قد علم هذا المعنى بالأخبار التي تنفى الوجوب وقد أتى العلماء على جميع ذلك شرحا وبيانا، فإن قيل: فماذا يقولون في قوله - صلى الله عليه وسلم - (غسل الجمعة واجب كغسل الجنابة)؟ قلنا: معناه كصفة غسل الجنابة أدخل الكاف فيه لبيان صيغة غسل الجمعة لا لبيان الوجوب كأنه قال: وهو كغسل الجنابة.

باب الحيض

(ومن الحسان) [352] حديث جابر بن سمرة- رضي الله عنه- (60/ب) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (من توضأ يوم الجمعة فيها ونعمت) قيل الضمير في قوله فيها للسنة أي بالسنة أخذ ونعمت الخصلة هي. قلت: قد روى عن ذلك عن الأصمعي والسنة وإن صح استعمالها بمعنى الشريعة فإن تقديرها في هذا الموضع يوهم خلاف المراد منها وهو أن إصابة السنة في الاغتسال نفي للوضوء الذي فرض على العباد؛ لإقام الصلاة. وقد نقل عن بعض أهل العم أنه قال فيها ونعمت فبالرخصة أخذ، ونعمت السنة التي ترك، وفي هذا القول وإن استحسنه من شغله المعنى عن مراعاة حق اللفظ نظر؛ لأن الكلمتين وجدتا مستعملتين في كلام العرب قبل الإسلام كان القائل يقول: إن فعلت كذا فيها ونعمت مرتبة إحداهما على الأخرى فكأن المشار إليه بالكلمة الثانية هو المشار إليه بالكلمة الأولى، فصرف إحدى الكلمتين إلى غير ما

صرفت الأخرى على خلاف استعمالهم غير صحيح، لاسيما وقد عدمت الدلالة فتبقى الثانية معطلة ملغاة، وأولى من هذا أن يقال فبالشريعة تمسك ونعمت الخصلة التمسك بها، وأشبه التقديرات بنسف هذا الكلام أعنى قولهم إن فعلت كذا فيها أي فألا بتلك الفعلة ونعمت الفعلة هي ونحو ذلك، وأرى حقيقة المراد منهما في الحديث نفي السخطة والنكير عن صنيعه ذلك، فكأنه قال من توضأ لصلاة الجمعة فاقتصر عليه فبالشريعة تمسك أو أهلا بتلك الخصلة ونعمت الخصلة هي، ومن اغتسل لها فذلك أفضل (ونعمت) المختار فيها كسر النون وسكون العين والتاء، ومن الرواة من يرويها بفتح النون وكسر العين وذكرها الخطابي في جملة الألفاظ التي يرويها عوام الرواة ملحونة أو محرفة وقد روى أيضا بفتح التاء على ضمير المخاطب والمعنى: نعمك الله والصحيح هو الأول. ومن باب الحيض (من الصحاح) [357] حديث عائشة- رضي الله عنها- (وكان يأمرني فأتزر ... الحديث) صوابه فأئتزر بهمزتين فإن إدغام الهمزة غير جائز ولما كانت أم المؤمنين- رضي الله عنها- من البلاغة بحيث لا يخفى على ذوي المعرفة بأساليب الكلام علمنا أنه خطأ وقع من بعض 61/أالرواة ولذا أورد الحافظ أبو موسى في كتابه فقال هو من تحريف الرواة. قلنا: وقد أمرها بالإئتزار اتقاء عن موضع الأذى وأرادت بالمباشرة ما هو مفهوم من ظاهر اللفظ وهو الإفضاء بالبشرتين دون الكناية التي هي الجمع والمعنى أنه كان يدخل معي في اللحاف فيمس بشرته بشرتي. [358] ومنه قوله في حديثها الآخر (وأتعرق العرق) أي آخذ اللحم من العظم بأسناني والعرق بفتح العين وسكون الراء العظم الذي يأخذ عنه معظم اللحم وقد بقيت عليه بقية وجمعه عراق بالضم وهو جمع نادر، والعرق أيضا مصدر قولك عرقت العظم أعرقه بالضم عرقا ومعرقا: إذا أكلت ما عليه من اللحم وفي معناه تعرقت أتعرق. [360] ومنه حديثها الآخر قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم - (ناوليني الخمرة ... الحديث) الخمرة سجادة من حصير أو

باب المستحاضة

نسيجة خوص وهي مقدار ما يضع عليه الساجد حر وجهه وأصل الخمر ستر الشيء ومنه الخمار، لأنه يغطي الرأس وخمرت الإناء غطيته فسميت خمرة، لأنها تستر موضع السجود. وفيه (إن حيضتك ليست في يدك) الحاء منها مكسورة يريد حالة الحيض وممن صوب ذلك الخطابي وأكثر الرواة يفتحون الحاء في هذا الحديث وفي عدة أحاديث سنشير إليها في مواضعها وهي الاسم من الحيض ومن عوام الرواة من يفتحها في هذا الحديث وفي عدة أحاديث سنشير إليها في مواضعها وكل ذلك خطأ. (ومن الحسان) [362] حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (من أتى حائضا أو امرأة في دبرها أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمد). قلت: إن صح الحديث فإنه يؤول على أن المسلم إذا فعل ذلك مستبيحا أو مصدقا وإنما لم يفصله ليكون أبلغ في الوعيد. ومن باب المستحاضة (من الصحاح) [365] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث فاطمة بنت أبي حبيش رواية عائشة- رضي الله عنها- (إني امرأة استحاض) هذه الكلمة ترد على بناء المفعول يقال استحيضت المرأة إذا استمر بها الدم بعد أيامها.

وفيه (إنما ذلك عرق) أي الذي تشتكينه عرق قد انفجر منه الدم لانشقاقه، وفي حديث أم حبيبة بنت جحش أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إنها ليست بالحيضة ولكنه عرق فتقه إبليس، قدم الاستحاضة ينفجر من العروق غير عرق الحيض وذلك من جملة الأمراض، وأما دم الحيض فإنه ينصب في مجاريه المعتادة إلى الرحم فيخرج من الرحم على وصف [61/ب] مخصوص في وقت مخصوص وإنما سمي ذلك الدم حيضا لاجتماعه في الرحم اجتماع الماء في الحوض يقال: استحوض الماء أي اجتمع. وفيه (فإذا أقبلت حيضتك) الحيضة بكسر الحاء على ما ذكرنا. وقد اختلف العلماء في تأويل ذا الحديث فمنهم من قال: إنها كانت تعرف أيامها فلهذا أمرها بترك الصلاة في أيام الحيضة، ومنم من قال لم تكن تعرف أيامها فلهذا أمرها أن تعتبر أيامها بلون الدم وذلك مذكور في حديث عروة الذي يتلو هذا الحديث فأصحاب المقالة الأولى يقولون إن الحديث الذي تمسكتم به مرسل وقد روى أيضا من طريق آخر متصلا عن عروة عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن في إسناده اضطراب ولم يذكر الاعتبار بلون الدم إلا في حديث فاطمة بنت أبي حبيش وحديثها يروي من طريقين: أحدهما مرسل، والآخر مضطرب الإسناد والحديث الذي تمسكنا به أولى بالتقديم وأحق بالاتباع؛ لأنه حديث صحيح، وأصحاب المقالة الأخرى

يقولون حديث عروة لا يناقض الحديث الذي استدللتم به وإنما فيه زيادة بيان والزيادات إذا لم يلزم منها تناقض فإنها مقبولة. (ومن الحسان) [369] حديث حمنة بنت جحش- رضي الله عنها- (كنت أستحاض حيضة كثيرة شديدة) استحيضت المرأة إذا سأل عنها الدم في غير أيام معلومة ومن غير عرق المحيض وحيضة بفتح الحاء وإنما قالت حيضة على المرة الواحدة ولم تقل حيضا لتميز تلك الحالة التي كانت عليها من سائر أحوال المحيض في الشدة والكثيرة والاستمرار وفيه (إني انعت لك الكرسف) والكرسف القطن ومنه كرسف الدواة والمعنى أصفه لك لتعالجين به مقطر الدم وإنما قال أنعت إشارة إلى حسن أثر الكرسف وصلاحه لذلك الشيء؛ لأن النعت أكثر ما يستعمل في وصف الشيء بما فيه من حسن، ولا يقال في المذموم إلا أن يتكلف متكلف فيقول نعت سوء. وفيه (إنما أثج تجا) الثج شدة سيلان الدم، ومطر ثجاج إذا انصب جدا والثج سيلان دماء الهدى ويقال أيضا ثججت الماء والدم إذا سكبته وعلى هذا فالمفعول محذوف أي أثج الدم ثجا ويحتمل أن يكون بمعنى السيلان وإنما اضافت السيلان إلى نفسها على معنى أن النفس جعلت كأنه كلها دم ثجاج وهذا أبلغ في المعنى وهو مثل قولهم فاضت عيني من الدمع. وفيه (إنما هي ركضة من ركضات الشيطان) أي تلك العلة دفعة وحركة من دفعات الشيطان وحركاته وإنما أضافها إلى الشيطان؛ لأن الشيطان وجد بذلك طريقا إلى التلبس عليها في أمر دينها وذلك مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - (الرعاف في الصلاة من الشيطان) ويحتمل أن يكون الضمير للحالة أي الحالة التي ابتليت بها من الخبط والتحير ركضة من ركضات الشيطان. وفيه (فتحيضى ستة أيام أو سبعة في علم الله) تحيضت المرأة أي قعدت أيام حيضها عن الصلاة، وقد

اختلف العلماء في تأويل قوله ستة أيام أو سبعة فمنهم من ذهب إلى أن (أو) للشك من بعض الرواة وإنما يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ذكر أحد العددين اعتبارا بالغالب من حال نساء قومها، ويدل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - (كما تحيض النساء وكما يطهون) ويحتمل أنها أخبرته بعادتها قبل أن يصيبها ما أصابها، ومنهم من قال إن ذلك من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد خيرها بسين كل واحد من العددين؛ لأنه العرف الظاهر والأمر الغالب من أحوال النساء، وقد قيل إن أمرها بذلك على اعتبار حالها بحال من هي مثلها إن ستا فستا وإن سبعا فسبعا، وقيل أمرها ببناء الأمر على ما يتبين لها من أحد العددين على سبيل التحري والاجتهاد ويقول هذا القائل في علم الله أي فيما علم الله من أمرك من ستة أو سبعة، ومن قال (أو) للشك من بعض الرواة فإن له أن يقول في علم الله أي في علمه الذي بينه وشرعه لنا كما يقول في حكم الله وفي كتاب الله تعالى وقد روى هذا الحديث أيضا من غير هذا الوجه على غير هذا السياق ويقع الاختلاف في تأويله على حسب الاختلاف في ألفاظه ففي بعض طرقه لأهل الرواية مقال. قلت: ومن ذوات الاستحاضة في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - سهلة بنت سهيل بن عمرو وفاطمة بن أبي حبيش وحمنة بن جحش وأم حبيبة بنت جحس. وأهل السير يزعمون أن المستحاضة منهما حمنة وأم حبيبة غلط والصحيح عند أهل الحديث أنما كانتا تستحاضان جميعا ولقد أردنا أن نبسط القول في بيان تلك الأحاديث وتقرير كل منا على الوجه الأوضح والتأويل الأقوم ثم إنا رأينا أنه يفضى بنا إلى ما يتعلق بشأن أحاديث كتاب المصابيح فاقتصرنا على المشار إليه مجملا وليعلم المتطلع إلى معرفة أحاديث هذا الباب أن اختلاف الأحكام فيها لاختلاف أحوالهن 62/ب في تلك العلة وليعلم أن الاعتبار بلون الدم ولم يذكر في شيء منه إلا في حديث فاطمة وذكرنا في مرسل رواه الزهري عن عروة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الأقرب عند علماء الحديث.

كتاب الصلاة

ومن كتاب الصلاة (من الصحاح) [374] حديث ابن مسعود- رضي الله عنه- (سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي الأعمال أحب إلى الله ... الحديث) قلت: ظاهر هذا الحديث غير مفتقر إلى التفسير على وضوحه وإنما يتفقر إلى التقرير لما يعترضه من الأحاديث الواردة في أفضل الأعمال وأحبها إلى الله ثم للاختلاف الذي يقع في الترتيب بين تفاصيلها ففي هذا الحديث (أي الأعمال أحب إلى الله قال الصلاة لوقتها) وفي حديث أبي ذر أنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أي العمل خير قال إيمان بالله وجهاد في سبيل الله) وفي حديث أبي سعيد الخدري سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أي الناس أفضل قال: رجل مجاهد في سبيل الله)، وفي حديث عائشة (قلت يا رسل الله ألا نخرج فنجاهد معك فإنا ترى الجهاد أفضل العمل فقال لكن أحسن العمل وأجمله الحج حج مبرور) وروى عنه - صلى الله عليه وسلم - (أنه سئل ما أفضل الأعمال فقال جهاد لا غلول فيه وحجة مبرورة).

ووجه التوفيق بين هذه الأحاديث: أن نقول إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أجاب في كل منها بما علن أنه يوافق غرض السائل، أو أجاب بما كان ترغيبا للسائل فيما هو بصدده أو أجابه على حسب ما عرف من حاله توقيفا له على ما خفى عليه من باب الفضيلة أو إرشادا له إلى ما هو الأصلح له والأحرى به ففي حديث ابن مسعود علم أن السائل يسأل عن الأعمال البدنية المفروضة على الإنسان كالصلاة والزكاة والصوم والحج فقال الصلاة لوقتها. وفي حديث أبي ذر علم أنه يسأل عن كل ما يتقرب به إلى الله فذكر الإيمان الذي هو من أعمال القلوب المعبر عنه بالألسنة وذكر الجهاد بعد الإيمان دون سائر الأعمال المفروضة لأحد المعنيين إما لاكتفائه بذكر الإيمان عنها؛ لأنها من لواحق الإيمان وتوابعه المنصوصة عليها أو لأنه أراد أن يعرف السائل موقع الجهاد من الدين فجعله في الخيرية مقترنا بالإيمان؛ لأنه السبب الداعي إلى الإيمان والخلة المظهرة لكلمة الله العليا لاسيما في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه كان من أجل القربات وأعظم المثوبات؛ لاشتماله على إظهار الدين ونصرة [63/أ] الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهذا المعنى أقرب من الأول، وفي معناه حديث أبي سعيد الخدري. وفي حديث عائشة أجاب على ما وجده ملائما لحال السائل وجعل الجعل أحسن من الجهاد نظرا إلى ضعف منتهن عن القيام به وإشارة إلى أن الحج أليق بهن وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث آخر: (إنما جهادكن الحج). وأما الحديث الآخر أنه - صلى الله عليه وسلم - (سئل ما أفضل الأعمال فقال جهاد لا غلول فيه وحجة مبرورة) وأراه من رواية عبد الله بن حبشي رضي الله عنه فإنه يطلق على أفضل ما كان الرجل بصدده من الأعمال وقد يقول القائل خير الأشياء كذا ولا يريد تفضيله في نفسه على جميع الأشياء ولكن يريد أنه خيرها في حال دون حال ولواحد دون آخر وذلك مثل قول في موضع يحمد فيه السكوت ولكن يريد أنه خيرها في حال دون حال لواحد دون آخر وذلك مثل قولك في موضع يحمد فيه السكوت لا شيء أفضل من السكوت وقولك حيث يحمد الكلام لا شيء أفضل من الكلام وقد تعاضدت النصوص وتعاونت على فضل الصلاة على الصدقة ثم إن تجددت حال تقتضى مواساة مضطر أو يفتقر معا إلى الماء لإصلاح ذات البين فيكون الصدقة حينئذ أفضل من الصلاة هذا وقد ورد في أحاديث أخر ما يدل على فضل الحج على الجهاد تارة وعلى فضل الجهاد على الحج تارة أخرى. ووجه التوفيق بينهما أن نقول الأمر في كل واحد من الحديثين مبنى على اختلاف أحوال العباد فمن أدركته فريضة الحج فالحج أفضل له؛ لأن ما هو فرض على الكفاية لا يقاوم ما هو فرض لعينه وإن لم يتعين عليه وكان من ذوي النجدة والبأس فالجهاد في حقه أفضل وإن كان ممن لا يسد مسدا ولا يغنى غناء بحيث لا يكون بالمسلمين حاجة إليه فالحج أفضل له وإذا استوت الحالان وكان في كل واحد من الأمرين متبرعا فلا شك أن الجهاد أفضل لعموم نفعه وشمول فائدته في صلاح العباد والبلاد وإلى مثل هذه الحالة أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث النضير بن حارث القرشي العبدري- رضي الله عنه- حيث قال: يا رسول الله أي الأعمال أحب إلى الله قال (الجهاد والنفقة في سبيل الله). قلت وكل ما لم يذكره من الأحاديث الواردة في أفضل الأعمال فالسبيل إلى استخراج معانيها على ما ذكرناه في تلك النظائر وقد أوضحت مبان هذا الحديث بابا معظما من علم المعاني لم تدبره من ذوي الفهم [63/ب] والله الواهب المنان الملهم للصواب.

[375] ومنه: حديث جابر- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة) معنى هذا القول أن العبد إذا ترك الصلاة لم يبق بينه وبين الكفر فاصلة فعلية تؤنس منه؛ لأن إقامة الصلاة هي الخلة الفارقة بين الفيئين والحكم الحاجز بين الأمرين وإذا لم يكن بين المنزلتين منزلة أخرى والتهاون بحفظ حد الشرع كاد أن يفضى بصاحبه إلى حد الكفر عبر عنه بارتفاع البنيونة وقد علمنا بأصل الشرع أن المراد منه المقاربة والمداناة من الكفر لا الدخول فيه. (ومن الحسان) [376] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبادة بن الصامت- رضي الله عنه- (كان له على الله عهد) العهد: حفظ الشيء ومراعاته حالا بعد حال ومنه سمي الموثق الذي يلزم العباد مراعاته عهدا وعهد الله ما أوصاهم بحفظه فلا يسعهم إضاعته ثم سمي ما كان من الله تعالى على طريق المجازاة لعباده عهدا على نهج الاتساع؛ لأنه وجد في مقابلة عهده على العباد ولأن الله تعالى وعد القائمين بحفظ عهده أن لا يعذبهم وهو بإنجاز وعده ضمين وبأن لا يخلفه حقيق فسمي وعده عهدا؛ لأنه أوثق من كل عهد. [379] ومنه: حديث بريدة بن الحصيب الأسلمي- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة ... الحديث) الضمير في قولهم (وبينهم) راجع إلى المنافقين وردت به الرواية ومعناه أن الصلاة هي الموجبة لحقن دمائهم ومراعاة ذمتهم فإذا تركوها برئت عنهم الذمة ودخلوا في حكم الكفار فنرى سفك دمائهم كما نرى سفك دماء من لا عهد له من الكفار ولا أمان أشار إلى أن المانع عن قتل المنافقين هي الصلاة، فإذا ارتفع المانع رجع الحكم إلى أصله كما أن المانع عن قتل المعاهدين هو العهد فإذا انقضى العهد الذي بيننا وبينهم أو أخل به النقض من قبلهم أبيحت لنا دماؤهم، وقيد هذا المعنى قوله - صلى الله عليه وسلم - لما استؤذن في قتل المنافقين: (إلا إني نهيت عن قتل المصلين) والله أعلم.

باب المواقيت

ومن باب المواقيت (من الصحاح) [380] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبد الله بن عمر- رضي الله عنه- (فإذا طلعت الشمس فأمسك عن الصلاة فإنها تطلع بين قرني الشيطان) ذكر أصحاب المعاني وغيرهم من المبرزين في تفسير غريب الحديث في ذلك وجوها، أحدها: أن الشيطان يرصد وقت [64/أ] طلوع الشمس فينتصب قائما في وجه الشمس ليكون طلوعها بين قرنيه وهما فوداه فيكون مستقبلا لمن يجد للشمس فينقلب سجود الكفار للشمس عبادة له فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته عن الصلاة في ذلك الوقت، ليكون صلاة من عبد الله في غير وقت عبادة من عبد الشيطان. وثانيها: أنه أراد بقرنيه حزبيه الأولين والآخرين، يقال هؤلاء قرن أي نشيء: وذلك لأنهم يبعثون في ذلك الوقت لإضلال البشر، ويؤيد هذا المعنى قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث آخر (إن الشمس تطلع ومعها قرن الشيطان). قلت: والقرن في هذا الحديث يحتمل أن يكون بمعنى الاقتران أي: يظهر الشيطان مع الشمس مقارنا لها. وثالثها: أنه من باب التمثيل شبه الشيطان فيما يسوله لعبدة الشمس ويدعوهم إليه من معاندة الحق، بذوات القرون التي تعالج الأشياء وتدفعها بقرونها، ويحتمل أنه أراد بالقرن القوة، من قولهم أنا مقرن له أي مطيق وإنما ذكره بلفظ التثنية تشبيها له بذوات القروت التي تعتد بقرونها اعتداد ذوي الشوكة بشوكتهم. ونرى المختار من هذه الوجوه الوجه الأول؛ لما روى في الحديث (أن الشيطان يقارنها إذا طلعت فإذا ارتفعت فارقها فإذا استوت قارنها فإذا زالت فارقها غربت قارنها)، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عمرو بن عبسة- رضي الله عنه- (فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار). ومن الرواة من يروى بين قرني الشيطان بالألف واللام ومنهم من يرويه بغير ألف ولام وقد ورد بهما الرواية عن الصحابة في الأحاديث الصحاح. وفي صيغتي التعريف والتنكير تنبيه على أن الشيطان يباشر هذا الأمر بنفسه ويوليه كل شيطان مريد من أعوانه على حسب اختلاف المطالع في البلدان، والوقت المنهى عنه للصلاة يختلف على حسب ذلك الاختلاف.

[381] ومنه: قول بريدة- رضي الله عنه- في حديثه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (فأبرد بالظهر فأنعم أن يبرد بها). الإبراد: انكسار وهج الحر. والمعنى أنه صلى الظهر حين انكسر الوهج. وقال بعض أهل اللغة في قوله - صلى الله عليه وسلم - (أبردوا بالظهر) أي صلوها في أول وقتها، وبرد النهار أوله. ولم يصب في تأويله هذا لأن الإبراد في حديث بريدة وفي عدة أحاديث ذكر لبيان ما اختاره - صلى الله عليه وسلم - من الوقت الآخر في أوآن الحر؛ ثم إن قوله - صلى الله عليه وسلم - (فإن شدة الحر من فيح [64/ب] جهنم) بعد قوله: (أبردوا بالظهر) على وجه التعليل: ينقض على هذا المؤول تأويله. وقوله (فأنعم) أي: زاد على الإبراد؛ وهذا أيضا يرد عليه ما توهمه؛ لان الزيادة على أول الوقت أمر غير مشروع، وقول غير مسموع، يقال: أحسنت إلى، وأنعمت أي: زدت على الإحسان. وقد وجدت قوله: (فأبردوا بالظهر) في نسخ المصابيح بغير حرف الجر، وإثبات حرف الجر هو الصواب رواية ومعنى. [382] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس رضي الله عنه: (وكان الفئ مثل الشراك). الفئ: هو الظل، ولا يقال إلا لراجع منه، وذلك بعد الزوال، قال حميد بن ثور: فلا الظل من برد الضحى تستطيعه .... ولا الفئ من برد العشي تذوق وقال ابن السكيت: (الظل: ما نسبخته الشمس، والفئ: ما نسخ الشمس)، وإنما سمي: فيئا؛ لرجوعه من جانب إلى جانب، ثم إن الظل الباقي بعد الزوال يتفاوت في البلدان تارة على حسب الطول والعرض،

باب تعجيل الصلاة

وأخرى على مقدار قصر النهار وطوله، وقد تبين لنا من متن الحديث: أن ذلك كان بمكة، وتبين لنا من فحواه: أنه كان في الأيام التي تتقارب عن أطول يوم من السنة؛ لأن كون فئ الشخص بعد الزوال على مقدار الشراك: يدل على اضمحلال الظلال قبل الزوال. ولقد رأيت الكعبة في بعض تلك الأيام حين قام قائم الظهيرة، والظل قد تقلص من جوانبها حتى لا يرى لها ظل؛ فبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أول وقت الظهر على ما قدر له يوم أمه جبرئيل- عليه السلام- بمكة في النهار الذي ينتعل فيه الشخص ظله، فإذا زالت الشمس، وأخذ الظل في الازدياد، كان ظل الشخص على الأرض كهيئة الشراك، وهذا على وجه التقريب على وجه التحديد. والمراد منه: أن أول وقت الظهر حين يأخذ الظل في الزيادة بعد الزوال. ومن باب تعجيل الصلاة (من الصحاح) [383] حديث أبي برزة الأسلمي- رضي الله عنه: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الهجير التي تدعونها الأولى ..) الحديث. الهجير والهاجر وهي نصف النهار عند اشتداد الحر، وإنما قال: (الهجير التي) بلفظ التأنيث؛ لأن المراد منه: الهاجرة، أو حذف منه الصلاة، وتقديره: صلاة الهجير. وفيه (تدحض الشمس) أي: تزول؛ يقال: دحضت الشمس عن كبد السماء: إذا زالت. وفيه: (والشمس حية)، يتأول ذلك على وجهين: أحدهما: أنه أراد بحياتها: شدة وهجها، وبقاء حرها. والآخر: أنه أراد به صفاء لونها عن التغير والاصفرار؛ وهذا أقرب التأويلين. [384] ومنه: حيث جابر رضي الله عنه [65/أ] في حديثه: (والمغرب إذا وجبت)

ومعناه: إذا سقطت في المغيب، والوجوب: السقوط؛ قال الله تعالى: {فإذا وجبت جنوبها}. [386] ومنه: حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (واشتكت النار إلى ربها ... الحديث)، ذكر في أول الحديث: (إن شدة الحر من فيح جهنم)، أي: من سطوع حرها، وكانت هذه الصيغة محتملة للمجاز على معنى أنها تعد من جملتها، لا بينهما من مشاكلة ما؛ فبين بالبيان الذي ذكره: أن المراد منه الحقيقة لا غير، ثم نبه على أن أحد النفسين: يتولد منه (أشد ما تجدون من الحر)، والآخر: يتولد منه (أشد ما تجدون من الزمهرير). وأشار بقوله (أشد) إلى أن هذين النفسين ليسا- على الإطلاق- بموجبين للحر والبرد في فصلي الشتاء والصيف؛ فإن الله سبحانه جعل ذلك مربوطا بالآثار العلوية على السنة التي أجرى عليه أمر العالم، بل ينشأ من أحد النفسين أشد ما تجدون من الحر في أوان الحر، وينشأ من الآخر أشد ما تجدون من الزمهرير في أوان البرد. وهذه من مقتضيات حكمة الله البالغة؛ حيث أظهر آثار فيح جهنم في زمان الحر، وآثار الزمهرير في زمان البرد، ولم يجعلهما على العكس؛ فيتولد منهما وخامة في الأهوية، وفساد في الأمزجة، ثم إن المنفعة العظمى، والمصلحة الكبرى في ذلك: أن المكلف إذا صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الخبر من غير أن يشاهد أثرا

من فيح جهنم في أوان البرد، أو يجد أثرا من الزمهرير في أوان الحر، كان تصديقه ذلك أقوى وأكمل في باب الإيمان بالغيب، لخلوه عن الشواهد الحسية. [390] ومنه: حديث بريدة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من ترك صلاة العصر، حبط عمله). حبط حبطا وحبوطا، أي: بطل ثوابه، وليس ذلك من إحباط العمل الذي عمله قبل ذلك في شيء؛ لأن ذلك غير جائز في حق المسلم بما قد تبين لنا من أصول الشرع، وليس هذا الموضع موضع إيراده، ثم لا حاجة بنا إليه؛ لاشتهار تلك الأدلة بين الفئة المنصورة من أهل السنة، وإنما نحمل الحبوط في هذا الحديث على نقصان عمل يومه ذلك بترك العصر التي هي الصلاة الوسطى، وخاتمة فرائض النهار؛ فإنه لو أقام تلك الفريضة، رفع عمل نهاره ذلك مكملا؛ فأثيب عليه ثوابا موفرا، فلما ترك صلاة العصر، نقص ثواب عمله عما كان عمل النهار لو أتمه، ونظائر هذا القول في طرق المجاز كثيرة. ويحتمل- والله أعلم- وجها آخر، وذلك أن نقول: أهل الإيمان يتفاوتون في درجات الثواب؛ فمنهم من إذا عمل حسنة، جوزى عليها عشرا [65/ب]؛ وذلك أدناهم، ومنهم من يرتفع عن هذه المرتبة إلى الضعف، وإلى الأضعاف، وإلى أضعاف كثيرة لا يعلم عددها إلا الله؛ فالذي ترك صلاة العصر إذا عمل حسنة بعد ذلك، لا يثاب عليها إثابة من يقوم بها إذ عمل مثل تلك الحسنة، بل يتأخر عنه في مراتب الثواب حيث لا يلحق شأوه؛ فلذلك هو المراد عن حبوط العمل في هذا الحديث، والله أعلم. [393] ومنه: قول عائشة رضي الله عنها، (متلفعات بمروطهن). يقال: تلفعت المرأة بمرطها: إذا تلحفت به. وفيه: (من شدة الغلس). الغلس: ظلمة آخر اليل؛ قال الأخطل: كذبتك عينك أم رأيت بواسط .... غلس الظلام من الرباب خيالا ثم إنه يستعمل على الاتساع فيما بقى منه بعد الصباح.

[394] ومنه: حديث أنس- رضي الله عنه- (أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وزيد بن ثابت تسحرا، فلما فرغا من سحورهما، قام نبي الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الصلاة فصلى ...) قلت: هذا تقدير لا يوغ لعموم المسلمين الأخذ به في أمر الصوم والصلاة، وإنما أخذ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لإطلاع الله إياه، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - معصوما عن الخطأ في أمر الدين، فأما غيره: فليس له ذلك؛ لما في معرفة آخر الليل وأول النهار- بحيث تقع الفاصلة بينهما بزمان يقرأ الرجل فيه بخمسين آية- من الغموض؛ اللهم إلا أن يستبين ذلك لمن كان راسخا في علم النجوم، ومعرفة المواقيت، وذلك من النادر الذي لا عبرة به. وفيه: (فلما فرغا من سحورهما): المحفوظ عند رواة الحديث بفتح السين، ولو ضم منه لجاز في اللغة؛ وقد ذكرنا اختلاف أهل العربية في الفرق بين المصدر والاسم في أول (كتاب الطهارة) في لفظ (الطهور)، ولا خلاف أن (السحور) بفتح السين: هو الاسم لما يتسحر به، وبالضم: هو المصدر، وفي هذا الحديث، كلا الصيغتين جائز من حيث المعنى، ولكن الرواية على ما ذكرناه. [395] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي ذر- رضي الله عنه-: (فإن أدركتها معهم، فصله): هذه الهاء لا تزال ساكنة؛ لأنها للوقف، لا للكناية، ولا أحققها في هذا الحديث، إلا أنى وجدتها في نسخ (المصابيح) كذلك، ولم أجدها في كتابي (البخاري) و (مسلم)، واتباع الكتابين هو الصواب.

[399] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي قتادة- رضي الله عنه- (فإن الله تعالى قال: {وأقم الصلاة لذكرى}. هذه الآية- وإن كانت محتملة لوجوه كثيرة من التأويل [66/أ]؛ فإن العدول عن سائرها إلى الوجه الذي يطابق معنى الحديث لازم؛ لأنه حديث صحيح، وقد روى- أيضا- في (الصحيحين)، عن أنس وأبي هريرة رضي الله عنهما، وفيه: (فليصلها إذا ذكرها)؛ فإن الله يقول: {وأقم الصلاة لذكرى}. وعلى ذوي الأقاويل- في التفسير والتأويل- أن ينتهوا إلى المعنى الذي أشار إليه صاحب التنزيل - صلى الله عليه وسلم -، فنقول، وبالله التوفيق: معنى قوله تعالى {وأقم الصلاة لذكرى} أي: لذكر الصلاة؛ لأنه إذا ذكر الصلاة، فقد ذكر الله، أو يكون المضاف قد حذف منه، والتقدير: لذكر صلاتي، وأضاف الذكر إلى نفسه إضافة تعظيم وخصوصية وإن كان الذكر والنسيان- في الحقيقة- من الله تعالى. ومما يؤيد هذه الوجوه: قراءة من قرأ: {أقم الصلاة للذكرى}، وقد ذكر مسلم في (كتابه): أن ابن شهاب كان يقرؤها: {للذكرى}. قلت: وهو الراوي لهذا الحديث في (كتاب مسلم)، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد ذكر أبو عبد الرحمن النسائي في كتابه: أن ابن شهاب الزهري روى عن سعيد بن المسيب: {وأقم الصلاة لذكرى}، فقيل له: أكان سعيد بن المسيب يقرؤها كذلك؟ قال: نعم. وهذه الوجوه كلها راجعة إلى معنى واحد، وهو أن المراد منه: أقم الصلاة لذكرها؛ ليطابق قوله - صلى الله عليه وسلم -: (فليصلها إذا ذكرها) أي: إذا ذكر الصلاة، واللام في قوله: {لذكرى} أي: لأوقات ذكرى، ومثله قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي ذر- رضي الله عنه: (صل الصلاة لوقتها)؛ وذلك مثل قول القائل: جئتك لعشر مضين من شعبان. (ومن الحسان) [400] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث علي- رضي الله عنه: (الصلاة إذا أتت ....).

وجدت في أكثر النسخ المقروءة على المشهورين من أهل العلم: (الصلاة إذا أتت) بتاءين من الإتيان، وقد رواه كثير من المحدثين كذلك، وهو تصحيف، وإنما المحفوظ من ذوي الإتقان في الرواية: (إذا آنت) على وزن (حانت)، وفي معناه تقول: أنى يأنى إنى، أي: حان. وفيه: (والأيم إذا وجدت لها كفؤا): يقال: امرأة أيم: إذا لم يكن لها زوج، بكرا كانت أو ثيبا، وقد آمت المرأة من زوجها تئيم أيمة وأيما وأيوما، ورجل أيم أيضا، سواء كان تزوج من قبل أو لم يتزوج. [406] ومنه: حديث معاذ بن جبل- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أعتموا بهذه الصلاة ... الحديث). أعتم الرجل؛ من العتمة؛ كما يقال [66/ب]: أصبح؛ من الصبح، قال الخليل: العتمة من الليل بعد غيبوبة الشفق، أي: صلوها وأنتم داخلون في العتمة. والمعنى الذي يقتضيه لفظ الحديث: أدخلوها في العتمة، ويحتمل أن يكون الإعتام- في هذا الحديث- على معنى التأخير من العتم الذي هو الإبطاء؛ يقال: جاءنا ضيف عاتم، وقرى عاتم، أي: بطئ ممس، وأعتم الرجل قرى الضيف: إذا أبطأ به. وفيه: (ولم تصلها امة قبلكم). إن قيل: (إذا صح حديثان من باب الأخبار، فلا سبيل إلى رد أحدهما بالآخر، لعدم قابلية النسخ؛

فكيف التوفيق بين قوله: (لم تصلها امة قبلكم)، وبين قول جبرئيل- عليه السلام-: (يا محمد، هذا وقتك ووقت الأنبياء قبلك)؟). قلت: الوجه فيه: أن قوله يحتمل أن الأنبياء كانوا يصلونها، ثم إنها لم تفرض على أمة من الأمم، إلا على هذه الأمة؛ فلا اختلاف بينهما إذن. ويحتمل أنه أراد: لم تصلها أمة قبلكم على النمط الذي تصلونها؛ من التأخير، وانتظار وقت الفضيلة، والاجتماع لها في وقت ارتكام الظلام؛ وغلبة المنان على الأنام؛ والله أعلم. [407] ومنه: حديث رافع بن خديج- رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أسفروا بالفجر). أي: صلوا صلاة الفجر مسفرين. ويقال: طولوها إلى الإسفار؛ وهذا التأويل اختيار أبي جعفر الطحاوي وهو أقوى التأولين؛ لأنه يوفق بين الأحاديث التي وردت في التغليس والإسفار. ومن الفصل الذي يليه (من الصحاح) [409] حديث أبي موسى- رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (من صلى البردين، دخل الجنة). البردان: العصران، وذلك الأبردان، وهما الغداة والعشى، وأراد به المحافظة على صلاتي الصبح والعصر؛ لما في حديث فضالة بن عبيد- رضي الله عنه: (حافظ على العصرين) قال وما كانت لغتنا، فقلت: وما العصران؟ قال: صلاة قبل طلوع الشمس، وصلاة قبل غروبها. ومن المفهوم الواضح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخصص هاتين الصلاتنين بالمحافظة؛ تسهيلا للأمر في إضاعة

غيرهما من الصلوات، أو ترخيصا لتأخيرها عن أوقاتها، وإنما أمر بأدائهما في الوقت المختار، والمحافظة عليهما في جماعة؛ لما فيهما من الفضل والزيادة في الأجر؛ فإن صلاة الفجر تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار؛ قال الله تعالى: {إن قرآن الفجر كان مشهودا}، وصلاة العصر: هي الصلاة الوسطى؛ نص عليها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح، ويجتمع فيها- أيضا- ملائكة الليل وملائكة النهار. ثم إن إحداهما تقام في وقت تثاقل النفوس؛ لتراكم الغفلة، واستيلاء النوم، والأخرى تقام عند قيام الأسواق في البلدان، واشتغال الناس بالمعاملات؛ فنبه المكلفين على هذه المعاني بزيادة تأكيد؛ وقال - صلى الله عليه وسلم -: (من صلى البردين، دخل الجنة). وهذا الذي ذكرناه من طريق المفهوم في تفسير هذا الحديث- معظمه مذكور في حديث فضالة؛ فإنه لما قال له: النبي - صلى الله عليه وسلم -: (حافظ على الصلوات)، قال: إن هذه ساعات لي فيها أشغال؛ فمرني بأمر جامع إذا أنا فعلته، جزي عني؟ فقال: (حافظ على العصرين)، وقد علم - صلى الله عليه وسلم - أنه إذا حافظ عليهما- مع ما في وقتهما من الشواغل [67/أ] والقواطع- لم يكن ليضيع غيرهما من الصلوات، والأمر في إقامة ذلك أيسر. [411] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه: (فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء). أي: لا تتعرضوا لمن صلى الصبح، ولا تعاملوه بمكروه؛ فإنه في ذمة الله، فمتى فعلتم ذلك، تعرضتم لمطالبة الله إياكم بنقض عهده، وإخفار ذمته. ويحتمل وجها آخر، وهو: أن يراد بـ (الذمة): نفس الصلاة من حيث إنا الموجبة للذمة، أي: لا تضيعوا صلاة الصبح، ولا تتهاونوا بشيء منها؛ فيطلبنكم الله به. وفي سائر النسخ: وجدنا بعد هذا الحديث: (رواه جندب القشيري)؛ وهو غلط؛ والراوي هو جندب بن عبد الله بن سفيان البجلي العقلي، وعلقة: بطن من بجيلة؛ كذاك نسبه أصحاب الحديث في كتب المعارف. قلت: في بجيلة بطن يسمى قسرا، وهم رهط خالد بن عبد الله القسري: فيحتمل أنه نسب إليها؛ فيصحف بـ (القشيري) غير أني لم أجد في شيء من كتب أصحاب الحديث؛ أنه ينسب إلى قسر. [412] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (إلا أن يستهموا ...).

أي: يقترعوا؛ يقال: ساهمته، أي: قارعته، فسهمته أسهمه- بالفتح- وأسهم بينهم، أي: أقرع، وتساهموا، أي: تقارعوا. وفيه: (ولو تعلمون ما في التهجير). التهجير: السير في الهاجرة إلى صلاة الظهر للجماعة، وإلى صلاة الجمعة، وقد فسره الأكثرون بـ (التبكير): فمنهم من قال: إلى الجمعة، ومنهم من قال: إلى كل صلاة. ومما يدل على أن المراد منه: التبكير إلى الجمعة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ومثل المهجر كالذي يهدى بدنة). ثم إن التهجير على معنى: السير في المهاجرة- غير مستقيم في هذا الحديث؛ لأن الهاجرة: نصف النهار عند اشتداد الحر، وهذا الوقت إنما يكون بعد الزوال، وليس بوقت فضيلة في التبكير إلى الجمعة. وفيه: (ولو حبوا). يقال: حبا الصبي على استه: إذا زحف [415] ومنه: حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء ... الحديث). كانت الأعراب يحلبون الإبل بعد غيبوبة الشفق حين يمد الظلام رواقه، ويسمى ذلك الوقت: العتمة،

وكان ذلك مستفيضا في اللغة العربية، فلما جاء الإسلام، وتمهدت قواعده، وأكثر المسلمون أن يقولوا: (صلاة العتمة) بدل (صلاة العشاء)؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: (لا يغلبنكم الأعراب ... الحديث) أي: لا تطلقوا [67/ب] هذه التسمية على ميقات صلاتكم؛ فتجرى به ألسنتكم؛ فيغلب مصطلحهم في ميقات حلاب الإبل على الاسم الذي جئتم به من الله. وقوله: (فإنها في كتاب الله تعالى) أي: في القرآن؛ وذلك قوله سبحانه في سورة النور: {ومن بعد صلاة العشاء}. وإن قدرنا أن هذا القول ربما كان قبل نزول الآية، فمعنى قوله: (في كتاب الله) أي: في حكمه الذي أوحاه إلى. فإن قيل: (ما وجه التوفيق بين هذا الحديث والحديث الذي يرويه أبو هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ولو يعلمون ما في العتمة والصبح، لأتوهما ولا حبوا)، والحديثان صحيحان، وليس لأحد أن يرد أحدهما بالآخر)؟ قلنا: قد ذكر بعض العلماء- من أصحاب المعاني- في ذلك قولا، يرجع حاصله إلى أن أبا هريرة سمع هذا الحديث قبل نزول الآية التي في سورة النور، وهي قوله سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم} الآية، وكان الأصل الذي تعرفه في اسم هذه الصلاة: العتمة؛ حتى نزلت الآية، فلما نزلت، قال - صلى الله عليه وسلم - قوله الذي رواه ابن عمر. وهذا وجه مرضي، لولا أن القضية تحكم بخلاف ذلك، وهي أن العتمة لم توجد في شيء من الحديث، إلا فيما رواه أبو هريرة، وفي غير ما رواه سميت: صلاة العشاء، لاسيما في أحاديث بيان المواقيت، وهي الحجة على هذا القائل بما ذكرناه؛ لتقدمها؛ وذل لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ليأمرهم بالصلاة من غير أن يبين لهم ميقاتها، ثم إن أبا هريرة أسلم عام خيبر، وهي السنة السابعة من الهجرة، والآية نزلت عام المريسيع بعد حديث الإفك، وهي في السنة الخامسة أو السادسة من الهجرة على اختلاف فيه من أصحاب السير. فالوجه فيه: ألا نعلل الحديث بنزول الآية من غير تحقيق، سيما وقد ظهر لنا خلاف ذلك. نقول: يحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - لما وجد لفظ (العتمة) قد تداولته ألسنة الناس حتى كثر استعمالهم لها في (صلاة العشاء) - كره أن يغلب الوضع الجاهل على الوضع الشرعي؛ فنهاهم عن ذلك؛ وكان قبل ذل لا يرى به بأسا؛ فرواه أبو هريرة؛ على ما سمعه قبل النهي.

باب الأذان

ويحتمل: أنه نهى عن المفاوضة بهذا الاسم في أغلب الأحوال حتى يغلبوا على اسم صلاتهم؛ ولهذا قال: (لا يغلبنكم الأعراب ... الحديث)، وكانوا في سعة مما يقع عنهم في الندرة. ويحتمل: أن أبا هريرة سمعه بلفظ (العشاء)، ولم يبلغه النهي الذي رواه ابن عمر؛ فلم يراع اللفظ، وروى [68/أ] الحديث بالمعنى، وما أكثر ما يوجد من هذا النمط في أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ومن باب الأذان (من الحسان) [425] قوله - صلى الله عليه وسلم - لبلال رضي الله عنه: لا تثوبن في شيء من الصلوات، إلا في أذان الفجر).

باب فضل الأذان، وإجابة المؤذن

التثويب: قول المؤذن في أذان الفجر- بعد قوله: (حي على الفلاح) - (الصلاة خير من النوم)؛ وإنما سمي تثويبا؛ أنه رجوع إلى الأمر بالمبادرة إلى الصلاة، والراجع هو ثائب؛ يقال: ثاب الرجل: إذا رجع بعد ذهابه، والمؤذن إذا قال: (الصلاة خير من النوم)، بعد قوله: (حي على الصلاة)، حي على الفلاح) فقد رجع إلى كلام يثول إلى الأمر بالمبادرة إلى الصلاة. ويحتمل: أن سمي تثويبا؛ لأنه وضع موضع المبالغة في الدعاء. والتثويب- في كلامهم- ورد بهذا المعنى، والأصل في المستصرخ كان إذا بالغ في الدعاء للكشف فيما نابه- لوح بثوبه؛ ليراه من لم يكد أن يبلغه صوته؛ فيغيثه؛ فاستعمل ذلك في الدعاء إلى الصلاة؛ لأنها الأمر العظيم، والمبالغة في الدعاء إليها هي الأمر المندوب إليه؛ يقال: ثوب فلان بالصلاة: إذا دعا إليها، ولهذا أطلق التثويب على الإقامة. ومن باب فضل الأذان، وإجابة المؤذن (من الصحاح) [428] حديث معاوية- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (المؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة): يحتمل: أنه - صلى الله عليه وسلم - وصفهم بطول الأعناق؛ لما يمتد إليه أعناقهم من ثواب الله، أو: لأنهم يشرئبون يومئذ تحقيقا لطعمهم في دخول الجنة. وقال ابن الأعرابي: معناه: أكثر الناس أعمالا. يقال: (لفلان عنق من الخير) أي: قطعة. وقد قيل: إن طول الأعناق في هذا الحديث عبارة [68/ب] عن حلو الدرجة، وحسن السابقة، والتقدم في المنزلة؛ فإن العرب تصف السادة والرؤساء بطول الأعناق حتى قال قائلهم:

يشبهون سيوفا في صمامهم .... وطول أنصبة الأعناق في الأمم وتصف من ألم به الهوان والذلة، ووقع في مهواة الحيرة: والانمطاع والإقناع وخضوع الأعناق؛ قال الله تعالى: {فظلت أعناقهم لها خاضعين}. وهذا وجه حسن؛ وكذلك الوجه الذي قدمناه؛ لما فيهما من مراعاة حق العباة والمطابقة بين حال المؤذنين وبين ما وصفوا به؛ وذلك أنهم يمدون أعناقهم إذا رفعوا أصواتهم بالأذان؛ فيجازون في القيامة بما يناسب حالهم في العبادة. ومن الناس: من يقول: (إعناقا) مكسورة الهمزة على المصدر، أي: إسراعا إلى الجنة؛ وهو قول غير معتد به رواية ومعنى. [429] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة: (حتى إذا ثوب بالصلاة، أدبر). يعني: الإقامة؛ لأنه ذكر التأذين قبله، فعلمنا من هذين الحديثين- أعني حديث بلال، وحديث أبي هريرة- أن التثويب المنهى عنه- فيما عدا صلاة الفجر- هو ما يزيده المؤذن في أذانه من قول يرجع إلى معنى المبالغة في الدعاء، والتثويب الذي بمعنى الإقامة: خارج من جملته. فأما النداء بالصلاة الذي يعتاده الناس بعد الأذان على أبواب المساجد- فغنه بدعة يدخل في القسم المنهى عنه، وقد نقل عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ أنه دخل مسجدا في بعض مغازيه، فسمع مناديا ينادى: (الصلاة الصلاة!)، في غير أذان ولا إقامة؛ فخرج ولم يصل فيه، وقال: هذه بدعة! [430] ومنه: حديث أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يسمع مدى صوت المؤذن ... الحديث).

مدى صوت المؤذن، أي: غاية صوته، وإنما ورد البيان على الغاية من حصول الكناية، بقوله: (لا يسمع صوت المؤذن)؛ تنبيها على أن آخر من ينتهى إليه صوت المؤذن يشهد له؛ كما يشهد الأولون، وفيه حث على استفراغ الجهد في رفع الصوت بالأذان. والمراد من شهادة الشاهدين له- وكفي بالله شهيدا!: اشتهاره يوم القيامة فيما بينهم بالفضل وعلو الدرجة، ثم إن الله سبحانه، كما يهين قوما بشهادة الشاهدين عليهم؛ تحقيقا لفضوحهم على رءوس الأشهاد، وتسويدا لوجوهم، فكذلك يكرم قوما بشهادة الشاهدين؛ تكميلا لسرورهم، وتطييبا لقلوبهم، وبكثرة الشهود تزداد قرة عيونهم؛ فأخبر أن المؤذنين كلما كانت أصواتهم أجهر، كانت شهودهم أكثر. [433] ومنه: حديث جابر- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من قال حين يسمع المؤذن: (اللهم، رب هذه الدعوة التامة). قيل: إنما وصف (الدعوة) بـ (التمام)؛ لأنها ذكر الله- عز وجل- يدعى بها إلى عبادته، وهذه الأشياء وما والاها: هي التي تستحق صفة الكمال والتمام، وما سوى ذلك من أمور الدنيا يعرض النقص والفساد.

ويحتمل: أنها وصفت بـ (التمام)؛ لكونها محمية عن النسخ والإبدال، باقية إلى يوم التناد، ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم - (والصلاة القائمة) أي: الدائمة التي لا تغيرها ملة، ولا تنسخها شريعة. وفيه: (آت محمدا الوسيلة). الوسيلة: ما يتقرب به [69/أ] إلى الغير؛ يقال: وسل فلان إلى ربه وسيلة، وتوصل إليه بوسيلة: إذا تقرب إليه بعمل، والمراد بها في الحديث: منزلة في الجنة مفسرة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (ثم سلموا الله لي الوسيلة؛ فإنها منزلة في الجنة). وإنما سميت (وسيلة)؛ لأن خصيصى القربة أفضت به إلى تلك المنزلة، ولما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في مقام القربة وحال التوسل إلى الله؛ بحيث لا يناهضه أحد خص في الجنة بمنزلة لا يناصبه فيها أحد. [436] ومنه: حديث عبد الله بن مغفل، رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (بين كل أذانين صلاة ... الحديث). أراد بـ (الأذانين): الأذان والإقامة، والعرب قد تحمل أحد الاسمين على الآخر؛ فتجمع بينهما في التسمية؛ طلبا للتخفيف؛ كقولهم: (سنة العمرين)، وكقولهم: (العصران): للغداة والعشى. و (الأسودان): للماء والتمر، والحية والعقرب. وقد ذهب بعض من يرى كراهة الضلاة بين أذان المغرب وإقامتها: إلى أن المراد منهما: الأذان الحقيقي، ويقضى على هذا التأويل: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لمن شاء)، وهذا يدل على أن الأمر إليه: إن شاء صلى، وإن شاء لم يصل، ولو صرف إلى الأذان الحقيقي، لم يجز أن يكون المأمور بها مخيرا فيها. ولو قال هذا القائل: أنه يحمل على السنن، لم يصح- أيضا؛ لأن الصحابي الذي يرويه يقول: (كراهية أن يتخذها الناس سنة). فصح أن المراد منهما: الأذان والإقامة. وإنما ذهب أبو حنيفة- رحمة الله عليه- إلى كراهة النافلة قبل صلاة المغرب؛ لحديث بريدة الأسلمي رضي الله عنه؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن عند كل أذان ركعتين ما خلا صلاة المغرب)، وقد روى عن النخعي أنه قال: ركعتان قبل المغرب بدعة؛ وقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر لم يصلوها. قلت: وقد نقل خلاف ذلك عن عبد الرحمن بن عوف، وأبي، وأنس، وغيرهم من الصحابة، رضي الله عنهم

قال الطحاوي: يحمل الأمر فيه على أنهم لم يعلموا بالنسخ الذي علمه بريدة، وقد سقط نسخ التطبيق في الصلاة عن ابن مسعود، وسقط عن علي وابن عمر إباحة لحوم الأضاحي بعد ثلاث، مع جلالة أقدارهم في العلم، رضي الله عنهم؛ فكذلك سقط عن المذكورين نسخ الركعتين قبل المغرب. (ومن الحسان) [437] حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الأئمة ضمناء ... الحديث). معناه: أن الأئمة متكلفون بمصالح دينكم في أمر الصلاة، فيتحملون عنكم القراءة، ويتحملون عنكم القيام إذا أدركتموهم راكعين، ثم إنهم يحفظون عليم أعداد الركعات، ويتولون السفارة بينكم وبين ربكم عند الدعاء. ومعنى الضمان- في هذا الحديث- راجع إلى معنى الحفظ والرعاية، وليس من الغرامة في شيء [69/ب]. وفيه: (والمؤذنون أمناء). أي: على الأوقات؛ فيعمل الناس على أذانهم في صلاتهم وصومهم وفطرهم وغير ذلك. (فأرشد الله الأئمة)، أي: آتاهم رشدهم؛ فجعلهم راشدين فيما تكلفوا به وتولوا رعايته من أمر الدين وتدار المؤذنين بمغفرته؛ جزاء على ما تحملوه من الأمانة. [439] ومنه: حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: يعجب ربك ... الحديث).

أي: يعظم ذلك عنده؛ فإن من شأن المتعجب عن الشيء أن يعظم عنده ذلك الشيء. وقيل: يرضى بك. وفيه: (في رأس شظية من الجبل). قال الأزهري: الشظية والشنظية: فنديرة من فنادير الجبل، والفندير والفنديرة: هي الصخرة العظيمة تندر من رأس الجبل. [441] ومنه: حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يغفر للمؤذن مدى صوته). مدى الشيء: غايته، والمعنى: أنه يستكمل مغفرة الله إذا استوفى وسعه في رفع الصوت؛ فبلغ الغاية من المغفرة إذا بلغ الغاية من الصوت. على هذا الوجه فسره أبو سليمان الخطابي، قال: وفيه وجه آخر، وهو أنه كلام تمثيل وتشبيه، يريد أن المكان الذي ينتهى إليه الصوت لو يقدر أن يكون ما بين وبين مقامه الذي هو فيه ذنوبا تملأ تلك المسافة- لغفرها الله. [442] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عثمان بن أبي العاص، رضي الله عنه: (واقتد بأضعفهم). المراد من الاقتداء- في هذا الحديث- متابعة الإمام أضعف المقتدين به في تخفيف الصلاة على ما يحتمله: متنه، وتقتضيه حاله التي هو عليها، وإنما ذكره بلفظ (الاقتداء)؛ تأكيدا للأمر المحثوث عليه؛ لأن من شأن المقتدى أن يتابع المقتدى به، ويجتنب خلافه.

[446] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث سهل بن سعد- رضي الله عنه: (حين يلحم بعضهم بعضا): ذكر بعض الحفاظ في مصنفه تفسير ذلك فقال: أي تشتبك الحرب فيلزم بعضها بعضا. يقال: ألحمه القتال ولحمه، أي: لزبه وغشيه؛ وكذا إذا نشب فيه فلم يبرح.

باب المساجد ومواضع الصلاة

قلت: ولم يرد (ألحم ولحم) بمعنى: لزم، ولو كان بمعنى اللصوق والالتزاز، لكان من حقه أن يقول (يلحم بعضهم ببعض)، ولو قال في تفسيره: (أي: يقتل بعضهم بعضا) - لكان أشبه بسياق اللفظ. فإن قيل: (إنما يستعمل اللحم بمعنى: القتل، على بناء المفعول؛ فيقال: لحم الرجل؛ فهو ملحوم ولحيم)؛ قلنا: قد وجدناه في الحديث مستعملا على بناء الفاعل، وذلك في حديث أسامة- رضي الله عنه، ولفظ الحديث: (إن أسامة لحم رجلا من العدو) أي: قتله. ويجوز أن يكون المراد من قوله: (يلحم بعضهم بعضا) أي: يقاتل؛ فيون عبر [70/أ] (بالقتل) عن القتال، وكثيرا يرد القتل بمعنى القتال. وقد وجدنا الرواية بفتح الياء والحاء، وإن كانت الرواية وردت بضم الياء وكسر الحاء- فالمعنى: يتقل بعضهم بعضا، أي: يجعله لحما. ومنه: حديث عمر رضي الله عنه في صفة الغزاة: (ومنهم من ألحمه القتال). ومن باب المساجد ومواضع الصلاة (من الصحاح) [455] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس- رضي الله عنه: (هذه القبلة).

المعنى: أن أمر القبلة قد استقر على ما شرعت لكم- من التوجه إلى هذا البيت استقرار لا يزيله النسخ. وقول ابن عباس: (في قبل الكعبة) هو نقيض الدبر، والمراد منها: الجهة التي فيها الباب، والباء من (قبل) تحرك وتسكن. [458] ومنه: حديث أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد). قيل: لفظه خبر، ومعناه نهي؛ وذلك لأن ما عدا هذه المساجد الثلاثة متساو في الرتبة، غير متفاوت في الفضيلة؛ ففي أي صلى، كتب له مثل ما في غيره، وحمكم المساجد الثلاثة على خلاف ذلك؛ لما بين الله لنا على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - من مقادير تضعيف الثواب للمصلى في كل واحد منها. وذهب جمع من العلماء إلى أن معناه الإيجاب فيما ينذر من الصلاة في المساجد؛ يقولون مهما نذر الإنسان أن يصلى في موضع من غير هذه المساجد الثلاثة- لا يلزمه الوفاء بذلك؛ بل يصلى حيث شاء، وإنما يلزمه ذلك في المساجد الثلاثة. قلت: ويرجع معنى ذلك- أيضا- إلى ما ذكرنا من استواء الأماكن في حق المصلى، إلا المساجد الثلاثة؛ للمعنى الذي ذكرناه. وقال بعض أهل العلم: هو ألا يرحل في الاعتكاف إلا إليها؛ وكان بعض السلف يرى أن الاعتكاف لا يصح إلا في هذه المساجد الثلاثة. [458] ومنه: حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة).

إنما سمى تلك البقعة المباركة روضة؛ لمعنيين: أحدهما: أن زوار قبره - صلى الله عليه وسلم -، وعمار مسجده من الملائكة والجن والإنس- مكبون فيها على ذكر الله وعبادته؛ إذا صدر منها فريق، حل بها آخرون، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (إذا مررتم برياض الجنة، فارتعوا)، قيل: يا رسول الله: وما رياض الجنة؟ قال: (حلق الذكر). والآخر: أن من شهدها- لمجاورة، أو زيارة، أو اعتكاف- أفضى به ذلك إلى روضة من رياض الجنة؛ ويقرب من هذا المعنى: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ومنبري على حوضي) أي: على حافته وعقره؛ فمن شهده مستمعا إلي أو متبركا بذلك الأثر شهد الحوض [70/ب]. ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - نبه بهذا القول على المناسبة الواقعة بين المنبر والحوض، وهي: أن المنبر مورد القلوب الصادية في بيداء الجهالة؛ كما أن الحوض مورد الأكباد الظامية من حر القيامة، وهما متلازمان لا مطمع لأحد في الآخر دون انتفاعه بالأول، وفي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن منبري هذا على ترعة من ترع الجنة)، والترعة: الباب. ويقال: الروضة إذا كانت على مكان مرتفع، ويقال: الدرجة. ويروى: (على ترعة من ترع الحوض)، والترعة: أفواه الجداول. وقيل: ترعة الحوض مفتح الماء إليه؛ وذلك لصحة المناسبة بينهما. هذا ونحن لا نقطع بشيء من هذه الأقاويل؛ بل نذهب فيها مذهب الاستنباط والتأويل، ونعتقد أن المراد منه على ما أراده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الحق وإن لم تهتد إليه أفهامنا، ولم تسع له عقولنا. [465] ومنه: حديث جابر- رضي الله عنه: (أراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد ... الحديث).

بنو سلمة- بكسر اللام- بطن من الأنصار، وليس في العرب (سلمة) - بكسر اللام- غيرهم. وفيه: (دياركم تكتب آثاركم). أي: الزموا دياركم تكتب آثاركم، أي: خطاكم التي تخطونها إلى المسجد؛ قال الله تعالى: {ونكتب ما قدموا وآثارهم} أي: ما قدموه من الأعمال، وسنوه بعدهم من السنن، وكانت ديار بني سلمة على بعد من المسجد، وكانت المسافة تجهدهم في سواد الليل، وعند وقوع الأمطار، واشتداد البرد؛ فأرادوا أن يتحولوا إلى قرب المسجد؛ فكره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تعرى المدينة؛ فرغبهم فيما عند الله من الأجر على نقل الخطا إلى المسجد. [468] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي يرويه أبو هريرة- رضي الله عنه: (ولا تزال الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في المسجد: اللهم اغفر له! اللهم ارحمه! ما لم يحدث).

(يحدث) - بتخفيف الدال من الحدث، ومن شددها فقد أخطأ، وقد روى هذا الحديث أبو عيسى في (كتابه). وفيه: (فقال رجل من حضرموت: وما الحدث، أبا هريرة؟ فقال: فساء أو ضراط). قلت: ولعل الرجل إنما استفسره؛ لأن الإحداث يستعمل على معنى إصابة الذنب؛ فاشتبه عليه المعنى؛ للاشتراك. [476] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه: (ولا عن يمينه؛ فإن عن يمينه ملكا). إن قيل: (ما وجه تخصيص يمين المصلي بأن عليها ملكا، وقد قال الله تعالى: {إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد}). قلنا: يحتمل أن المراد منه: الملك الذي يحضره عند الصلاة؛ من جهة التأييد، والإلمام بقلبه؛ لإيعاده بالخير- على ما ذكر في الحديث- والتأمين على دعائه، ويكون سبيل هذا سبيل الزائر من الإخوان الصالحين، والأضياف المكرمين، ومن حق ذلك أن يكرم فوق إكرام من يختص المرور ويدخل في خدمته. ويحتمل أنه خص صاحب اليمين بالكرامة؛ تنبيها على ما بين الملكين من المزية؛ كما هي بين اليمين والشمال، وتمييزا بين ملائكة الرحمة وملائكة العذاب؛ ولهذا نكره؛ كأنه أراد ملكا مكرما مفضلا، أو ملكا غير الذي يعلمون، والله أعلم. [477] ومنه: حديث عائشة- رضي الله عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لعنة الله على اليهود والنصارى ... الحديث).

معنى إنكار النبي - صلى الله عليه وسلم - على اليهود والنصارى صنيعهم هذا مخرج على وجهين: أحدهما: أنهم كانوا يسجدون لقبور الأنبياء؛ تعظيما لهم. والثاني: أنهم كانوا يتحرون [71/أ] الصلاة في مدافن الأنبياء، والسجود على مقابرهم، والتوجه إلى قبورهم حالة الصلاة؛ نظرا منهم بأن ذلك الصنيع أعظم موقعا عند الله؛ لاشتماله على الأمرين: عبادة الله سبحانه، والمبالغة في تعظيم الأنبياء. وذهابا إلى أن تلك البقاع أحق البقاع بإقامة الصلاة، والتوسل بالعبادة فيها إلى الله؛ لاختصاصها بقبور الأنبياء. وكلا الطريقين غير مرضية: أما الأولى: فلأنها من الشرك الجلي. وأما الثانية: فلأنها متضمنة معنى الإشراك في عبادة الله؛ حيث أتى بها على صيغة الاشتراك والتبعية للمخلوق. والدليل على تقرير الوجهين: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم! لا تجعل قبري وثنا يعبد؛ اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، والوجه الأول أشبه به. وأما نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته عن الصلاة في المقابر: فإنه لمعنيين: أحدهما: لمشابهة ذلك الفعل سنة اليهود وإن كان القصدان مختلفين. والثاني: لما يتضمنه من الشرك الخفي؛ حيث أتى في عبادة الله بما يرجع إلى تعظيم مخلوق فيما لم يؤذن له. وهذا الحديث حجة على من يرى أن علة النهي عن الصلاة في المقابر هي النجاسة الحاصلة بالنبش؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لعن اليهود على صنيعهم ذلك، ثم نهى أمته عن الصلاة في المقابر، نهيا متسقا على ما ذكره من اليهود؛ أنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد؛ ومن الواضح المعلوم: أن قبور الأنبياء- عليهم السلام- لا تنبش، ولو نبشت لم يزدها ذلك إلا طهارة، وقد نزه الله تعالى أقدارهم عن ذلك، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء، الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون)، وثبت: (أنه - صلى الله عليه وسلم - لعن زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج)؛ فالنهي- في الحديث- على الإطلاق، من غير تفصيل بين المنبوش وغير المنبوش. فعلمنا أن علة النهي ما ذكرناه. والصلاة في المواضع المتبركة بها من مقابر الصالحين: داخلة في جملة هذا النهي، لاسيما إذا كان الباعث عليها تعظيم هؤلاء، وتخصيص تلك المواضع؛ لما أشرنا إليه من الشرك الخفي. فأما إذا وجد بقربها موضع بني للصلاة، أو مكان يسلم المصلي فيه عن التوجه إلى القبور، فإنه في

فسحة من الأمر، وكذلك إذا صلى في موضع قد اشتهر بأن فيه مدفن نبي، ولم ير للقبر فيه علما، ولم يكن ما ذكرناه من العمل الملتبس بالشرك الخفي؛ إذ قد تواطأت أخبار الأمم على أن مدفن [71/ب] إسماعيل- عليه السلام- في المسجد الحرام عند الحطيم، وهذاك المسجد أفضل مكان تتحرى الصلاة فيه. [479] ومنه: حديث ابن عمر- رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم، ولا تتخذوها قبورا): الحديث محتمل لمعان: أحدها: أن القبور هي التي لا يصلى فيها؛ لأنها مساكن الأموات الذين سقط عنهم التكليف، وسد عنهم باب العمل، فأما البيوت: فصلوا فيها؛ إذ أنتم أحياء مكلفون ممكنون عن العمل. وثانيها: أنكم نهيتم عن الصلاة في المقابر؛ فلا تتركوا الصلاة في منازلكم؛ فتكونوا قد شبهتم منازلكم بالمقابر. وثالثها: أن مثل الذاكر والذي لا يذكر الله: ضرب بالحي والميت، والأحياء يسكنون البيوت، والأموات يسكنون القبور؛ فالذي لا يصلي في بيته جعل بيته بمنزلة القبر؛ كما جعل نفسه بمنزلة الميت. ورابعها: وقد ذكره أبو سليمان الخطابي- أن يكون معناه: لا تجعلوا بيوتكم أوطانا للنوم لا تصلون فيها؛ فإن النوم أخو الموت. وقد حمل بعض الناس قوله: (ولا تتخذوها قبورا): على النهي عن الدفن في البيوت؛ وذلك ذهاب عما يقتضيه نسق الكلام إلى ما ورد بخلافه إجماع الصحابة- رضي الله عنهم- حيث دفنوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيت عائشة- رضي الله عنها. (ومن الحسان) [481] حديث أبي هريرة- رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ما بين المشرق والمغرب قبلة): الحد الأول

من المشرق: مشرق الشمس في أطول يوم من السنة قريبا من مطلع السماك الرامح؛ وعلى هذا السمت، أول المغارب: مغرب الصيف، وهو مغيب الشمس عند مغرب السماك الرامح. وآخر المشارق: مشرق الشتاء، وهو مطلع الشمس في أقصر يوم من السنة قريبا من مطلع قلب العقرب؛ وعلى هذا السمت: آخر المغارب: مغرب الشتاء، وهو مغيب الشمس عند مغرب قلب العقرب. والظاهر: أن المعنى بـ (القبلة) في هذا الحديث- قبلة المدينة؛ فإنها واقعة بين المشرق والمغرب، وهي إلى طرف الغربي أميل. وقد قيل: إنه أراد به: قبلة من اشتبه عليه القبلة؛ فإلى أي جهة صلى بالاجتهاد: كفته. وقد قيل: المراد منه: توجه المتنقل على الدابة إلى أي جهة كانت. وعلى هذين الوجهين: فالمراد من قوله: (ما بين المشرق والمغرب): قبلة الجهات الأربع، ويجوز ذلك على وجه الاتساع؛ لأن الأقطار كلها شرقيها وغربيها، وجنوبيها وشماليها- واقعة بين المشرق والمغرب. وعلى [72/أ] هذا، فالحديث يحتمل وجها آخر، وهو أن نقول: ليس من جهة من الجهات ما بين المشرق والمغرب إلا وهي قبلة بحسب توجه المصلي إلى الكعبة من مكانه الذي هو فيه: فالمشرقي قبلته المغرب، والمغربي قبلته المشرق؛ وعلى نحو ذلك الجنوب والشمال. [482] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث طلق بن علي- رضي الله عنه-: (وانضحوا مكانها بهذا الماء). ذكر بعض العلماء في كتاب له: أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: (بهذا الماء) إشارة إلى جنس الماء، أي: انضحوا مكان بيعتكم بالماء. وليس المعنى على ما توهمه؛ بل هو إشارة إلى ماء بعينه، وإنما أتى فيه؛ من حيث إن الحديث لم ينته إليه بتمامه؛ فأول الحديث على ما استبان له، ولا شيء في استخراج معنى الحديث كاستيفاء طرقه؛ لأن منه المرتقى إلى معرفة معناه؛ وقد روي في حديث طلق: أنه قال: (واستوهبناه فضل وضوئه، فدعا بماء؛ فتوضأ منه، وتمضمض، ثم صبه في إداوة، وقال: اذهبوا بهذا الماء، فإذا قدمتم بلدكم، فاكسروا بيعتكم، ثم انضحوا مكانها بهذا الماء، واتخذوا مكانها مسجدا، فقلنا: يا نبي الله! البلد بعيد، والماء ينشف؟ فقال: أمدوه من الماء؛ فإنه لا يزيده إلا طيبا). فعلمنا بهذا السياق: أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: (بهذا الماء) إشارة إلى فضل وضوئه، لا إلى جنس الماء.

[483] ومنه: حديث عائشة- رضي الله عنها: (أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببناء المسجد في الدور). معناه: في المحلات. الدار- من جهة اللغة: تقع على العامر المسكون، والغامر المتروك، وهي من الاستدارة؛ وذلك لأن الواحد منهم كان يخط بطرف رمحه قدر ما يريد أن يتخذه دارا، ويدور حوله، ولذلك قيل: الدار دار وإن زالت حوائطه .... والبيت ليس ببيت وهو مهدوم وكانوا يسمون المحلة قد اجتمعت فيها قبيلة: دارا؛ ومنه الحديث: (ما بقيت دار إلا بني فيها مسجد). [488] ومنه: حديث أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا رأيتم الرجل يتعاهد المسجد ... الحديث)، التعاهد: بمعنى التعهد، وهو التحفظ بالشيء، وتجديد العهد به، وتعهدت فلانا، وتعهدت ضيعتي؛ وهو أفصح من (تعاهدت)؛ لأن [72/ب] التعاهد إنما يكون من اثنين. وهذا الحديث رواه أبو عيسى في (كتابه)، عن أبي كريب، عن رشدين بن سعد، عن عمرو بن الحارث، عن دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، وفي روايته: (يعتاد المسجد). ورواه- أيضا- عن ابن أبي عمر، عن عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، وفي روايته: (يتعاهد المسجد) فالاعتياد معاودته إلى المسجد كرة بعد أخرى؛ لإقام الصلاة، والتعاهد: التحفظ به، وتجديد العهد به كذلك، وكلاهما حسن، وأولى الروايتين بالتقديم على ما شهد لها البلاغة لا السند: (يعتاد المسجد).

[489] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عثمان بن مظعون رضي الله عنه: (ليس منا من خصى ولا اختصى): تقديره: ولا من اختصى، فحذفه؛ لدلالة ما قبله عليه؛ يقال: خصيت الفحل خصاء، أي: سللت خصيته، واختصيت: إذا فعلت ذلك بنفسك. أي: ليس هو ممن يقتدى بهدينا، ويتمسك بسنتنا؛ إذا فعل ذلك بنفسه أو بغيره. [490] ومنه: الحديث الذي أسنده المؤلف إلى عبد الرحمن بن عائش الحضرمي مرسلا، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (رأيت ربي- تبارك وتعالى- في أحسن صورة .... الحديث). هذا الحديث مستند إلى رؤيا رآها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ روى ذلك عنه: معاذ بن جبل، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وأتم الروايتين رواية معاذ.

وقد أورد الطبراني هذا الحديث في (كتابه)؛ فرواه- بإسناده- عن مالك بن يخامر، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: (احتبس علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الغداة حتى كادت الشمس تطلع، فلما صلى الغداة، قال: إني صليت الليلة ما قضي لي، ووضعت جنبي في المسجد، فأتاني ربي في أحسن صورة ... الحديث). ورواه أبو عبد الله أحمد في (مسنده) عن أبي سعيد مولى بني هاشم، عن جهضم اليماني، عن يحيى بن أبي كثير، عن زيد بن سلام، (عن أبي سلام)، عن عبد الرحمن بن عائش الحضرمي، عن مالك بن يخامر؛ أن معاذ بن جبل قال: (احتبس علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات غداة عن صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى قرن الشمس؛ فخرج سريعا، فثوب بالصلاة، وصلى، وتجوز في صلاته، فلما سلم قال: كما أنتم على مصافكم، كما أنتم! ثم أقبل علينا، فقال: إني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة؛ إني قمت من الليل فصليت ما قدر لي فنعست في صلاتي، حتى استيقظت فإذا أنا بربي- عز وجل- في أحسن صورة ...) وساق الحديث. وأصح طرق هذا الحديث: ما رواه أبو عبد الله في (مسنده). وإذ قد بينا أن الحديث يتعلق بحال أريها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رؤيا منام- فالآن نأخذ في بيانه على مقدار فهمنا، ومبلغ علمنا. ونقول- قبل البيان: مذهب أكثر أهل العلم من السلف في أمثال هذا الحديث- إذا صح- أن يؤمن بظاهره، ولا يفسر بما يفسر به صفات الخلق، بل تنقى عنه الكيفية، ويوكل علم باطنه إلى الله سبحانه، يرى رسوله ما يشاء من وراء أستار الغيب مما لا سبيل [73/أ] لأحد إلى إدراك حقيقته بالجد والاجتهاد، فالأولى: ألا نتجاوز هذا الحد؛ فإن الخطب فيه جليل، والإقدام على مزلة اضطربت عليها أقدام الراسخين شديد، ولأن نرى أنفسنا أحقاء بالجهل والنقصان أزكى وأسلم من أن ننظر إليها بعين الكمال، وهذا- لعمر الله! - هو المنهج الأقوم، والمذهب الأحوط! غير أن في زماننا هذا: اتسع الخرق على الراقع إذ كانت نعرة الخلاف في رءوس أكثر أبناء الزمان جملتهم، داعية الفتن المستكنة في نفوسهم على الخوض في هذه الغمرة، حتى لو ذكر لهم مذهب السلف، سارعوا إليه بالطعن، وقابلوه بالإنكار والاستكبار؛ إذا عجزوا عن التأويل لنهوض المراد، وقصورهم في علم البلاغة أفضى بهم ذلك إلى التكذيب على وجه الرد والإنكار، حتى صار العدول عن التأويل في هذا الزمان مظنة للتهمة في العقائد، وذريعة للمضلين إلى توهين السن؛ فأدت بنا هذه القضية إلى سلوك هذا المسلك الواعر، واختيار التأويل في القسم الذي نجد للتأويل فيه مساغا، وهذا الحديث من جملته. وقد بينا أنه ذكر ذلك عن رؤيا منام، ورؤيا الأنبياء- عليهم السلام- وإن كانت مصونة عن الاختلال: فإن فيها ما يبين بالتعبير والتأويل؛ فنقول- والله الموفق لإصابة الحق: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (رأيت ربي في أحسن صورة):

يحتمل- من طريق علم البيان- أن يكون (في أحسن صورة) حالا من الرائي وفيه احتمال: أن يكون حالا من المرئي. وإذا حملناه على الوجه الأول: لم يبق فيه إشكال؛ وذلك مثل قول الرجل: (رأيت الأمير في أحسن هيئة)؛ وهو يريد: أني كنت في أحسن هيئة. ولو رده إلى الرؤيا: فله وجه، ومعناه: أن رؤياي كانت في أحسن صورة؛ تقول: صورة الحال كذا، وصورة المسألة كذا. ولو تنزه متنزه عن هذين التأويلين، ويقول: أنا أعتقد أن الله سبحانه متنزه عن الصورة التي نعرفها ونتصورها، ثم أكل معناها- في هذا الحديث- إلى علم الله الذي وسع كل شيء، فله التسليم، وباب الاعتراض عليه مسدود. وفيه: (فيم يختصم الملأ الأعلى). اختصم القوم، وتخاصموا: بمعنى، و (الملأ): الجماعة، وأكثر ما ورد في التنزيل ورد في جماعة يجتمعون على رأي، ولو ذهب ذاهب من حيث الاعتبار اللغوي، إلى أن (الملأ) هي الجماعة التي تملأ العيون رواء، والقلوب مهابة وبهاء فله وجه. وأراد بـ (الملأ الأعلى): الملائكة؛ وصفوا بذلك: إما اعتبارا بمكانهم، وإما اعتبارا بمكانتهم [73/ب]، والمراد بـ (الاختصام): التقاول الذي كان بينهم في الكفارات والدرجات؛ شبه تقاولهم في ذلك وما يجري بينهم من السؤال والحوار بما يجري بين المتخاصمين. وفيه: (فوضع كفه بين كتفي). السبيل: أن نحمل هذه الألفاظ على معنى التأييد من الله سبحانه لنبيه - صلى الله عليه وسلم -، والتخصيص له بمنزلة الفضل المقتضى لمزيد العلم؛ فإن من شأن المتلطف بمن يحنو عليه: أن يضع كفه بين كتفيه؛ تنبيها له على أنه يريد بذلك: تكريمه وتأييده. وفيه: (حتى وجدت برد أنامله بين ثديي). عبر بذلك على وجده من تنزل الرحمة على فؤداه، وانصباب العلوم الوجدانية إلى ساحة صدره، وللعرب- في هذا الأسلوب من الاستعارة والاتساع- مذاهب فسيحة، وطرق مشهورة، لا ينكرها أهل العلم بطرق كلامهم، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يخاطب بهذا القول وأمثاله رجالا ترسخت في العلم أقدامهم، وتأصلت في البلاغة أعراقهم؛ فلم يكونوا ليعدلوا عن سواء السبيل، ويخطئوا الغرض من الخطاب، وانتهت النوبة إلى أناس تأخروا عنهم في المنزلتين؛ فصاروا فرقتين: فرقة: قابلت الحديث بالرد والإنكار. وفرقة: صرفوه عن الوجه المستقيم. ونعوذ بالله أن ننخرط في سلك إحدى الطائفتين. ثم إنا لا ننكر على من تنزه عن تأويل هذا الحديث وأمثاله، ونمضه على مراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مراعيا

الأصل الذي ذكرناه، وهو نفي التشبيه بصفات العبيد؛ غير أن عليه أن يعلم؛ هذا الحديث لا يدخل في جملة أخبار الصفات التي لا محيد لأحد منها؛ لأن السبيل إلى إثبات ذلك القسم: النقل الصحيح المتواتر الموجب للعلم، وهذا الحديث من جملة الآحاد؛ ثم إنه من أحاديث الرؤيا، ومبنى الرؤيا- في الغالب من الأحوال- على التعبير والتأويل. نسأل الله ألا يدفع بنا عن منهج الحق أي واد سلكناه؛ إنه الهادي إلى سواء السبيل! وفيه: (فعلمت ما في السموات والأرض)، وفي إحدى الروايتين عن ابن عباس: (فعلمت ما في السموات والأرض)، وفي الأخرى: (فعملت ما بين المشرق والمغرب)، وفي رواية معاذ: (فتجلى لي كل شيء وعرفته). وكل هذه الألفاظ راجعة إلى معنى سعة علمه الذي فتح الله به عليه. وفي تلاوته- بعد هذا القول- قول الله سبحانه: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض} - إشارة إلى أن الله تعالى أراه من آياته الكبرى، حتى علم ما في السماء والأرض؛ كما أرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض [74/أ]. فإن قيل: (ما يمنعك أن تقول: إن الآية نازلة في بيان تلك الحالة، والمعنى: كما أريناك هذه الرؤيا- نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض؟). قلنا: لو كان الأمر على ذلك، لكان من حق الآية: أن تكون نازلة عقيب هذه القصة، ولم يختلف العالمون بأسباب النزول، في كون هذه الآية من جملة ما نزل بمكة، وهذه الرؤيا التي ذكرناها إنما أريها بالمدينة؛ فيكون- إذا- وجه التوفيق بين الآية والحديث على ما ذكرناه. وفيه: (ثم قال: فيم يختصم الملأ الأعلى، يا محمد؟ قلت: في الكفارات). على هذا السياق نقط (كتاب المصابيح)؛ وذلك وجدناه فيما رواه أبو قلابة، عن ابن عباس، وفي الرواية المعتد بها عن معاذ بن جبل، وفي رواية أخرى عن أبي قلابة، عن خالد بن اللجلاج: عن ابن عباس: (قلت: في الدرجات والكفارات). فتبين لنا من الروايتين سقوط (الدرجات) عن رواية ابن عائش التي في (كتاب المصابيح)، وعن رواية أبي قلابة، عن ابن عباس. ومعنى اختصام الملائكة في الدرجات والكفارات: تفاوضهم في فضل كل واحد من الجنسين، أعني: الدرجات والكفارات. ويحتمل: أن يكون المراد منه: اغتباط الملائكة ببني آدم بهذه الفضائل؛ لاختصامهم بها، أو تقاولهم في فضل البشر، والسبب الموجب لذلك، مع تهافتهم في الشهوات؛ وتماديهم في الجنايات؛ وذلك لما أيدوا به من الكفارات والدرجات؛ فإن أحدهم إذا تقرب إلى ربه بالمشي إلى المساجد؛ لإدراك فضيلة الجماعة، أو جلس في المسجد بعد أداء الفريضة منتظرا لفريضة أخرى، أو أبلغ الماء حيث أمر بإبلاغه على وجه الإسباغ

في أوان يدخل منه على النفوس كراهية- فإن الله يمحو به خطاياه؛ لما فيه من مجاهدة النفس، ومخالفة الهوى، ومصارعة الطباع البشرية، وإذا أطعم الطعام؛ ولم يطع الشح الذي جبل عليه، أو بذل السلام؛ تواضعا لمن هو مثله، وتوددا إلى عباد الله المؤمنين، أو قام بالليل؛ إيثارا للمكايدة على الاستراحة في جنب طاعة الله، فإن الله يرفع درجاته بذلك، ويمحو به خطاياه. فإن سأل سائل عن الاختصام المذكور في الحديث: (هل هو الاختصام المذكور في الآية من قوله تعالى: {ما كان لي من علم الملأ الأعلى إذ يختصمون}، أم كل واحد منهما في قضية أخرى؟). فالجواب- وبالله التوفيق- أن نقول: يحتمل أنهما في قضية واحدة؛ وقد ذهب إلى ذلك بعض أهل العلم من المفسرين [74/ب] وأصحاب الحديث؛ فذكروا هذا الحديث في تفسير الآية، غير أنهم لم يبينوا وجه التناسب بين الآية والحديث، وهو يسير على من يسره الله، وهو: أن الملائكة لما استقصروا الأوضاع البشرية؛ فلم يهتدوا إلى وجه الحكمة في تكريم آدم وسجودهم له، نبأهم الله تعالى عما أيدوا به من الدرجات والكفارات. على ما ذكرنا قبل فتقاولوا يف فضلا البشر واحتجوا على (من اشتبه عليه .... الحكمة في ... الأرض ... والدعاء بما .... الله لهم من الدرجات والكفارات). فذكر الله تعالى في كتابه اختصامهم عند خلق آدم، ولم يبين فيه ما اختصموا فيه، ثم نبأ عنه نبيه - صلى الله عليه وسلم -؛ فأخبر عنه في هذا الحديث. والأظهر: أن نقول: الاختصام المذكور في الآية غير الاختصام المذكور في الحديث؛ وذلك لأن الاختصام المذكور في الآية: هو تقاول الملائكة في أمر السجود، وقد أمر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يحتج على منكري نوبته بما أوحى الله تعالى إليه من قصة الملائكة وآدم على ما كان؛ ليكون علما لنبوته؛ فإنه لم يكن يعلم ذلك قبل الوحي، ولم يكن يقرأ كتبا؛ بل كان أميا بين قوم أميين، وأما الحديث: فإنه إخبار عن حال كوشف بها في المنام، فعلم ما لم يكن ليعلمه من تلقاء نفسه. ومما يدل على التغاير بين الآية والحديث: أن في الآية نفي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - العلم باختصام الملائكة وفي الحديث: لم ينف هو عن نفسه علم الاختصام، وإنما نفى عنه علم ما كانت الملائكة يختصمون فيه. ومما يدل عليه- أيضا- كشف الآية عن اختصام قد مضى، وإخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - عن اختصام لم يمض؛ إذ قال له ربه: (فيم يختصم الملأ الأعلى)؛ تنبيها على أن حال الاختصام باقية. فإن قيل: فلعل التقدير: فيم كان يختصم الملأ الأعلى؟. قلنا: يصح ذلك على ضرب من الاحتمال، والذهاب إلى ما يقتضيه الظاهر أولى؛ فإن التقدير إنما يحسن عند الضرورة إليه؛ لاختلال المعنى أو الدلالة؛ حال موجب ذلك، ولا ضرورة بنا إلى ذلك في هذا الحديث. ومما يدل على استقامة الوجه الذي اخترناه: أن سورة (ص) مكي باتفاق المفسرين، والحديث دل على أن تلك الحالة أريها النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة بالمدينة؛ فحدث بها في صباحها بعد أن صلى الصبح. فصح أن الذي ذهبنا إليه: أظهر الوجهين.

[491] ومنه: حديث أبي أمامة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ثلاثة كلهم ضامن على الله). (كلهم) أي: كل واحد (ضامن على الله أي: ذو ضمان، وقيل: فاعل بمعنى مفعول، أي: مضمون. ومعناه: أن الله تعالى تكفل له بما ذكر من الجنة أو الأجر والغنيمة؛ فيوفيه إحدى [75/أ] الحسنيين. وإنما ذكر الشيء المضمون به في أول الثلاثة؛ ولم يذكره في الثاني والثالث؛ اكتفاء بما دل عليه المضمون به في الأول، وبيان ذلك: أن الذي يجاهد في سبيل الله إنما يبتغي الشهادة وثواب الجهاد في سبيل الله والغنيمة؛ فذكر - صلى الله عليه وسلم -: أن الله تعالى تكفل له بإحدى الحسنيين؛ فكذلك الذي يروح إلى المسجد: فإنه يبتغي فضل الله ورضوانه ومغفرته فهو ذو ضمان على الله ألا يضل سعيه، ولا يضيع أجره؛ بل يؤتيه من فضله ورحمته على حسب ما يليق به سبحانه إذا تكفل بشيء! وفيه: (ورجل دخل بيته بسلام): الأكثرون يذهبون إلى أن الذي دخل بيته بسلام هو الذي يسلم على أهله إذا دخل بيته. وقد ذهب بعض أصحاب المعاني: إلى أنه هو الذي يلزم بيته؛ طلبا للسلامة، وهربا من الفتن، ويكون المعنى: دخل بيته سالما من الفتن؛ كقوله تعالى: {ادخلوها بسلام} أي: سالمين من العذاب والعوارض والآفات. قلت: وكأن في الوجه الأول- وإن كان ظاهرا من حيث اللفظ- عدولا من حيث المعنى عن طريق المناسبة، وشذوذا عن جوار المشاكلة والمجانسة. وأرى الوجه الآخر أولى بالاختيار، لتناسب ما بين المعاني الثلاثة، وهي: الجهاد في سبيل الله، والرواح إلى المسجد لإقامة الفريضة، ولزوم البيت اتقاء الفتن. وعلى هذا فالمضمون به: ضمان الله له، ورعايته، وجواره عن الفتن. وعلى الوجه الأول: فالمضمون به: أن يبارك عليه وعلى أهل بيته؛ للحديث الذي يرويه أنس رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ أنه قال له: (يا بني، إذا دخلت على أهلك فسلم- يكون بركته عليك وعلى أهل بيتك). [492] ومنه: حديثه الآخر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ أنه قال: (من خرج من بيته متطهرا ... الحديث): لم أر

أحدًا ممَّن يتعنى باستخراج معاني أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتعرض لبيان هذا الحديث وأمثاله؛ فكأنهم يعدونه من جملة الواضحات، وأرى الأمر بخلاف ذلك؛ إذ الاعتبار في الأعمال البدنية- بعد إخلاص النية، والسبب الباعث عليها- بكد العامل ونصبه، وامتداد زمان الأعمال، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (أجرك على قدر تعبك). وإذا حملنا الحديث على المعنى الذي يقتضي التسوية بين العملين- أعني: الخروج إلى الحج، والخروج إلى الصلاة المكتوبة- أفضى ذلك إلى إهمال أبواب كثيرة من الأعمال، ومخالفة أحكام جمة من السنن، وأدنى ما فيه أن القصاص إذا ألقوا على العامة ظواهر تلك الأحاديث من غير بيان [75/ب] وتفصيل دخل عليهم الدواخل من الشك والغرور والاكتفاء بيسير من العمل وغير ذلك مما لا يخفى على أرباب البصيرة بآفات النفوس وكنت أتعنى كثيرا باستنباط معاني أمثال هذا الحديث على وجه لا يخل بشيء من الأبواب التي ذكرناها فوقع لي أن النظائر التي يذكرها الشارع - صلى الله عليه وسلم - في أمثال ذلك أمثلة لبيان استكمال المثوبات واستيفاء الأجر من جهة التضعيف، لا لبيان المماثلة من سائر الوجوه. وأمثال ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في فضل عشر ذي الحجة (يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة) أي ينتهي ثوابه ذلك من حيث التضعيف إلى هذا القدر، وبيان ذلك أن كل عمل له عند الله قدر مقدر من الثواب فهو مجازى عليه عشرا من ذلك القدر ثم فوق ذلك إلى ما لا سبيل إلى معرفته. فقوله (يعدل صيام كل يوم بصيام سنة) أي ينتهي ثوابه من حيث التضعيف إلى مقدار من الثواب يوازي صيام سنة لم يدخله التضعيف. فبين - صلى الله عليه وسلم - مقدار الفضل الذي أوتيه هذا العامل بزمان العمل. والمعنى: هذا العامل ينال من فضل ربه بهذا العمل في يوم واحد ما لو كدح فيه من طريق الكسب المجرد عن الفضل لم ينله إلا بصيام سنة. ولما انتهيت إلى شرح هذا الحديث أعملت الفكر فيه أخرى فظفرت فيه بمعنى أظهر من الأول وهو أن نقول: شبه النبي - صلى الله عليه وسلم - أجر المتطهر الذي يخرج من بيته للصلاة المكتوبة بأجر الحاج المحرم من حيث أنه يستوفي أجر المصلين من لدن يخرج من بيته للصلاة المكتوبة بأجر الحاج إلى أن يرجع إليه وإن لم يكن

مصلياً في سائر تلك الأوقات كالحاج المحرم فإنه يستوفي أجر الحجاج من حين يخرج إلى أن يرجع إلى بيته وإن كان الحج بعرفة. وذلك مثل قولنا فلان كالأسد فلا يقتضي تشبيهه بالأسد من سائر الوجوه بل يحمل ذلك على الجرأة والشجاعة فكذلك قوله: (فأجره كأجر الحاج) لا يقتضي مشابهة الأجرين من سائر الوجوه بل من الوجه الذي ذكرناه، ثم إنه ضرب المثل بالحاج المحرم؛ لكون التطهر من الصلاة بمثابة الإحرام من الحج، فكما أن الصلاة لا تصح بغير طهر فكذلك الحج لا ينعقد بغير إحرام، ثم إن الحاج إذا كان في حالة الإحرام كان أجره أتم وسعيه أكمل، فكذلك الخارج إلى الصلاة إذا كان متطهرا كان ثوابه أوفر وسعيه أفضل، ومن تدبر هذا القول الذي [76/أ] ذكرناه في بيان هذا الحديث عرف السبيل إلى استنباط معاني ما ورد من الأحاديث في هذا الباب. وفيه (ومن خرج إلى تسبيح الضحى) يريد به صلاة الضحى وكل صلاة يتطوع بها فهي تسبح وسبحة. وفيه (لا ينصبه إلا إياها) ينصبه بضم الياء أي لا يزعجه ولا يحمله على الخروج إلا ذلك. وأصله من النصب وهو المعاناة والمشقة، يقال أنصبني هذا الأمر وهو أمر منصب. وإن كانت الرواية وردت بفتح الياء فمعناه لا يقيمه إلا ذلك، من قولهم نصبت الشيء نصبا إذا أقمته ورفعته. ولا أحقق ذلك رواية بل أوردته من طريق الاحتمال اللغوي. وفي قوله (فأجره كأجر المعتمر) إشارة إلى أن فضل ما بين المكتوبة والنافلة والخروج إلى كل واحد منهما كفضل ما بين العمرة والحج والخروج إلى كل واحد منهما، فإن سأل سائل عن قوله - صلى الله عليه وسلم - (ومن خرج إلى تسبيح الضحى) وعن قوله (أيها الناس صلوا في بيوتكم فإن خير صلاة الرجل في بيته إلا المكتوبة)؛ فقال كيف أمر بأداء النوافل في البيوت ثم وعد الثواب على الخروج إليها وكيف السبيل إلى الجمع بين الحديثين على وجه لا يلزم منه إخلاف ولا تضاد؟ فالجواب أن نقول يحتمل أن يكون قوله - صلى الله عليه وسلم - مختصا بصلاة الليل وإن كان ظاهر لفظه يقتضي العموم وذلك لأنه قال هذا القول بعد أن قام بهم ليالي من رمضان فلما رآهم يجتمعون إليه (ويتنحنحون ليخرج إليهم قال (ما زال بكم الذي رأيت من صنيعكم حتى خشيت أن يكتب عليكم ولو كتب عليكم ما قمتم به فصلوا أيها الناس في بيوتكم ... الحديث). فاكتفى عن ذكر صلاة الليل بما دل عليه صيغة الحال. ومن الدليل على صحة ما ذهبنا إليه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقعد في مصلاه حتى تطلع الشمس ثم يركع ركعتين وقد قال - صلى الله عليه وسلم - (من قعد في مصلاه حين ينصرف من صلاة الصبح حتى يسبح ركعتي الضحى لا يقول إلا خيرا غفر له خطاياه) وكان - صلى الله عليه وسلم - (إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين) وكان - صلى الله عليه وسلم - (يأتي مسجد قباء كل سبت ماشيا وراكبا فيصلي فيه ركعتين) ولو كانت صلاته هذه في البيت خيرا لم يكن ليأخذ بالأدنى ويدع الأعلى والأفضل؛ وإذ قد ثبت هذا فنقول: الظاهر أنه أمرهم بالصلاة في بيوتهم لمعان ثلاثة أو لبعض تلك [76/ب] المعاني، أحدها: وهو آكد الوجوه أنه أحب أن يصلوا في بيوتهم عملا بالرخصة التي من الله تعالى بها على هذه الأمة ومخالفة لأهل الكتاب فإنه لم يكن لهم أن يصلوا إلا في كنائسهم وبيعهم. والثاني: أحب أن يتنفلوا في بيوتهم لتشملها بركة الصلاة فيرتحل عنها الشيطان وينزل فيه الخير والسكينة ولهذا المعنى قال - صلى الله عليه وسلم - (إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبا من صلاته فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيرا). والثالث: أنه رأى النافلة في البيت أفضل حذرا من دواعي الرياء وطلب

المحمدة الذي جبل عليه الإنسان، ونظرا إلى سلامته من العوارض والموانع التي تصيبه في المسجد، بخلاف البيت فإنه يخلو هنالك بنفسه فيسد مداخل تلك الآفات والعوارض. فعلى الوجه الأول والثاني إذا أدى الإنسان بعض نوافله في البيت فقد خرج من عهدة ما شرع له، وعلى الوجه الثالث فإنه إذا تمكن عن أداء نافلته في المسجد عارية عن تلك القوادح والعوارض لم تتأخر صلاته تلك عن صلاته في البيت فضيلة. وأرى في قوله - صلى الله عليه وسلم - (لا ينصبه إلا إياها) إشارة إلى هذا المعنى وهو أن لا يشوب قصده ذلك شيء آخر فلا يزعجه إلا القصد المجرد لخروجه إلى الصلاة سالما عن الآفات التي أشرنا إليها. وفيه (وصلاة على إثر صلاة كتاب في عليين) أي: عمل مكتوب في عليين أو مرفوع، وقد اختلف في معنى عليين فقيل هو اسم أشرف الجنان كما أن سجين اسم شر النيران، وقيل هو في الحقيقة اسم سكانها وقيل هو علم لديوان الخير الذي دون فيه أعمال الصالحين من ذوي التكليف منقول من جمع على فعيل من العلو وهذا أولى الأقاويل بالتقديم وإنما سمي عليون لأنه مرفوع في السماء السابعة تكريما وتبجيلا له أو لأنه سبب الارتفاع إلى أعلى الدرجات وأرفع المقامات في الجنة. [496] ومنه: حديث عبد الله بن عمرو- رضي الله عنه- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن تناشد الأشعار في المسجد. قلت: التناشد أن ينشد كل واحد من المتناشدين صاحبه [نشيدا] لنفسه أو لغيره وأكثر ما يوجد ذلك على وجه المباهاة والعصبية أو على وجه التفكه بما يستطاب من تزجية للوقت بما تركن إليه النفس ويستحليه الطبع [77/أ]؛ وأما ما كان منه في مدح الحق وأهله وذم الباطل وذويه أو كان فيه تمهيد لقواعد الدين أو إرغام لمخالفيه؛ فإنه خارج عن القسم المذموم وإن خالطه النسيب وتساوقه الغزل. وقد كان ينشد

بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا القسم وهو في المسجد فلا ينهى عنه لما يعلم في إنشاده من الغرض الصحيح والقصد المستقيم. ولما كان زمان عمر- رضي الله عنه- نهى حسان بن ثابت- رضي الله عنه- أن ينشد الشعر في المسجد وإنما كان ذلك نظرا منه إلى مصلحة الجمهور فإن أكثر الناس إذا أطيل لهم في هذا المدح أفضى بهم ذلك إلى الاسترسال في الخلاعة والمجون حتى يسقط عنهم التمييز بين المعوج والمستقيم والتفريق بين الغرض الفاسد والصحيح؛ وقد كان رضي الله عنه عارفا بزمانه عبقريا في شأنه ألمعيا في رأيه مصيبا في اجتهاده ولما عارضه حسان يقوله (لقد أنشدته بين يدي من هو خير منك) سكت عنه ولم يكن بسكوته ذلك لوضوح حق كان قد خفى عليه أو بذكر أمر كان ناسيا له بل سكوته [كان] إجلالا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتأدبا دون الرواية عنه بترك المعارضة، وإلا فقد كان عمر رضي الله عنه أعمره على ما كان عليه من النهي عنه؛ والصواب ما رآه، والحق ما ذهب إليه. وفيه (وأن يتحلق الناس يوم الجمعة قبل الصلاة)، تحلق القوم أي: جلسوا حلقة حلقة. وإنما نهى عنه لمعنيين أحدهما: أن تلك الهيئة تخالف اجتماع المصلين كما نهى عن تشبيك الأصابع عند الخروج إلى الصلاة وذلك في حديث كعب بن عجرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه ثم خرج عامدا إلى المسجد فلا يشبكن بين أصابعه فإنه في الصلاة) كره - صلى الله عليه وسلم - أن يخالف هيئته هيئة المصلين، والآخر: أن الاجتماع للجمعة خطب جليل لا يسع من حضرها أن يهتم بما سواها حتى يفرغ منها وتحلق الناس قبل الصلاة موهم بالغفلة عن الأمر الذي ندبوا إليه والاهتمام بما سوى ذلك. وفي هذا توهين لأمر الدين وتعرض لسوء الظن. [499] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث قرة بن إياس المزني- رضي الله عنه: (من أكلهما فلا يقربن مسجدنا)، اختلف أهل العلم في المراد عن قوله: (مسجدنا) فمن قائل: إن النهي يختص بمسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - في زمانه، ومن ذاهب إلى أن النهي متعلق بعموم المساجد، فيكون المراد عن قوله: (مسجدنا) أي

مسجد أهل ملتنا، وعلة النهي أن المسلمين يتأذون برائحتها، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتطييب المساجد [77/ب] وذلك خلاف المأمور، وهذا الوجه أولى الوجهين بالتقديم، ثم إنا نرى النهي في حق المساجد الثلاثة آكد منه في غيرها لما لها من الفضيلة على غيرها، ولاسيما مسجد المدينة في زمان الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد كان يشدد في النهي ويمنع مرتكبه عن حضور المسجد حتى قال - صلى الله عليه وسلم -: من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا، أو قال فليعتزل مسجدنا. [501] ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل). ربوض الغنم والبقر والفرس والكلب مثل بروك الإبل وجثوم الطير، والمرابض للغنم كالمعاطن للإبل واحدها مربض مثل مجلس، وأعطان الإبل: مباركها عند الماء لتشرب عللا بعد نهل، فإذا استوفت ردت على المراعي والأظماء)، وإحدها عطن، يقال له المعطن أيضا وجمعه معاطن، وفي غير هذا الحديث، (لا تصلوا في مبارك الإبل). قلت: وقد تكلم على هذا الحديث جماعة من أهل العلم، فذهبوا في المبارك مذاهب مختلفة أضربنا عن تفصيل جملتها إذ لم نر في إيراده كثير فائدة ورأينا أن نذكر المختار منها فنقول- وبالله التوفيق: إن القوم كانوا أصحاب ماشية يفتقرون إلى القيام عليها لتعهدها وحفظها وحلابها، فإذا أدركتهم الصلاة [امتنعوا عن الصلاة فيها] لمكان النجاسة وإن وجدوا فيها مكانا طاهرا، فربما قاسوا حكم المكان الطاهر فيها على حكم المكان الطاهر في الحشوش، فسألوا عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرخص لهم في مرابض الغنم ونهاهم عن معاطن الإبل؛ فعلموا أن حكم تلك المواطن مفارق لحكم الحشوش في جواز الصلاة، ثم أشار إلى علة النهي عن الصلاة في مبارك الإبل بقوله (لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها من الشياطين) والمعنى أنها كثيرة الشراد: شديدة النفار معها أخلاق جنية إذا نفرت لا يقوم لها شيء، وإذا صلى الإنسان في معاطنها لم يأمن أن تنفر فتقطع عليه صلاته، فعلمنا أن المنع من الصلاة في المعاطن لم يكن لم يكن لمكان أبوالها

وأبعارها وطهارة بعضها ونجاسة بعضها؛ لأن كل واحد من الجنسين مأكول اللحم فهما سيان في حكم الأبوال والأبعار، ولم يشترط في الصلاة في مرابض الغنم طهارة الموضع؛ لأنهم عرفوا ذلك بأصل الشرع. ومن مباني ذلك الأصل حديث أنس- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (وجعلت لي كل [78/أ] أرض طيبة مسجدا وطهورا) وإنما كانوا يتحرجون عن مجاورة النجس، فبين لهم الأمر فيها ورخص لهم بعضها لمكان الضرورة ونهاهم عن بعضها على وجه الكراهة لاحتمال أن تقطع الصلاة على من صلى دونها، وإنما قلنا إنهم سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك وليس في حديث أبي هريرة ذكر السؤال؛ لحديث البراء بن عازب- رضي الله عنه- (سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في مبارك الإبل فقال: لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها من الشياطين وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم فقال: صلوا فيها فإنها بركة) ومعنى قوله فإنها بركة أي خيرها مرجو وشرها مأمون يقدر كل أحد على استيفاء منافعها، ولا يشق رد صولتها على أحد لسكونها وضعف حركتها. ومن زعم أن النهي إنما ورد في المعاطن ولم يرد في المرابض؛ لأن المعاطن تكون في سهول الأرض [والمغاني الخوارة] فلا يبين فيها النجاسة لكثرة ترابها فإنه تعمق وأبعد في المرمى وكذلك من زعم أنه أراد به منازل المسافرين التي يحطون فيها رحالهم لأن من عادتهم أن يكون برازهم بالقرب منها فيوجد هذه الأماكن في الأغلب نجسة؛ لأن طهارة موضع الصلاة قد عرفت بأصل الشرع؛ ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشار بعد النهي منها إلى علة النهي فقال: (إنها من الشياطين) فإن قال قائل زعمت أن علة النهي في أعطان الإبل ليست النجاسة فما تقول في المواضع المذكورة في حديث ابن عمر- رضي الله عنه- قبل هذا الحديث (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصلى في سبعة مواطن .. الحديث) أليست العلة في أكثرها النجاسة وقد عرف ذلك بأصل الشرع قلنا: قد بينا لك أن العلة في المعاطن لو كانت النجاسة لم يرخص لهم في المرابض أيضا؛ لأنهما سيان في هذا الحكم. فأما العلة في المواطن الأخر المذكورة في الحديث فإنها مختلفة وسنذكر بيان ذلك فنقول وبالله التوفيق: أما المزبلة وهي موضع الزبل، والزبل: السرجين، من أخذ بظاهر اللفظ فإنه يذهب إلى أنه نهى عن الصلاة في الموضع النجس؛ لعدم الجواز وفيه نظر، إذ لو كان المراد منه ما زعم لكانت الحشوش أولى بالذكر؛ لأن الصلاة فيها غير محرمة إن وجد فيها مكان طاهر، ثم إن الأمكنة النجسة لا تنحصر في هذه المواضع المذكورة، فما فائدة الحصر وقد كان يكفيه أن ينهي عن الصلاة في الموضع النجس. ومن سلك المسلك الذي سلكناه في معنى النهي عن أعطان الإبل فإن له أن يقول إنه نهى عن الصلاة في المزابل- وإن وجد فيه موضع خال عن الزبل أو بسط عليها بساط في المكان اليبس- لأن في ذلك

استخفافاً بأمر الدين [78/ب]؛ لأن من حق الصلاة أن تؤدى في الأمكنة النظيفة والبقاع المحترمة. وكذلك المجرزة؛ لأنها مسفح الدماء وملتقى القاذورات، واشتقاقها من الجزر، تقول: جزرت الجزور أجزرها- بالضم- إذا نحرتها وجلدتها، والمجزر بكسر الزاي موضع جزرها. وكذلك القول في الحمام، لأنه مكثر الأوساخ، ومجتمع الغسالات؛ ثم إنه محل تعري الأبدان عن اللباس- وأما المقبرة فإن علة النهي فيها من وجهين، أحدهما: احتمال نجاسة المكان مع مجاورة النجس على ما ذكرناه في المجزرة والحمام؛ والآخر: اتخاذ القبور مساجد استنانا بسنة اليهود. فإن قيل: فما وجه حديث أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -) الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام)؟! قلنا: في إسناد حديث أبي سعيد هذا اضطراب؛ فلو ثبت فالوجه فيه تأكيد النهي فيها واجتماع العلل المعتد بها في النهي في هذين الموضعين على ما ذكرنا، وتقدير الكلام: الأرض الطيبة كلها مسجد؛ إلا المقبرة والحمام؛ فاختصر لعلم المخاطبين، وأراد بكونها مسجدا من وجه الاختيار، وطلب العزيمة، لا من وجه الرخصة والجواز. والاستثناء في هذين الموضعين من جملة الأرض لا يكاد يصح إلا على الوجه الذي ذكرناه ومن جعل علة النهي فيهما النجاسة فقد أحال؛ لأن المواضع النجسة غير منحصرة فيهما. وأما علة النهي في قارعة الطريق فهي من وجهين: أحدهما احتمال نجاسة المكان، والآخر أن المصلي دونها لا يأمن أن يقطع المارة عليها صلاته، ولو صلى مصل في هذه المواطن وكان الموضع الذي يصلي فيه طاهرا جازت صلاته مع الكراهة؛ لمكان النهي من غير تقييد. وأما علة النهي عن الصلاة على ظهر بيت الله؛ فإن بعض العلماء صرف النهي فيها إلى حال فقد السترة بين يدي المصلي على ظهر البيت، وقد ذهب بعضهم إلى خلاف ذلك، وقال: الحكم للبقعة لا للبناء، والذي يصلي فوقها متوجه إلى جزء منها، والصلاة فوقها كالصلاة في جوفها؛ وإذا صحت صلاة من يصلي بحضرة الكعبة فوق ابن قبيس، والكعبة تحته، وهو متوجه إلى ما فوقها من الجهة، فبالحري أن تصح صلاة من يتوجه إلى جزء منها؛ ثم إن النهي مطلق لم يقيد بعدم السترة. قلت: ولست أدري بماذا عللوا النهي؟! والذي نهتدي إليه من علة النهي أن الصلاة على ظهر البيت تفضي إلى ارتقاء سطح البيت، وذلك مخل بشرط التعظيم، لمشابهته صنيع أهل العادة [78 م/أ] في استعلاء البيوت للتطلع والتفرج؛ ثم لخلوه عن الفائدة، ومن انتهى إليه هذا الحديث بطريق يصح الاحتجاج فعليه التسليم لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ علم علة النهي أو لم يعلم. ولقد شاهدت من كرامة ذلك البيت المبارك أيام مجاورتي بها أن الطائر كان لا يمر فوقه، وكثيرا كنت أتدبر تحليق الطير في ذلك الجو، فأجدها مجتنبة عن محاذاة البيت، وربما انقضت من الجو حتى تدانت، فطافت به مرارا ثم ارتفعت. ومن آيات الله البينة في كرامة ذلك البيت أن حمامات الحرم إذا نهضت للطيران طافت حوله مرارا من غير أن تعلوها،

باب الستر

وإذا وقعت عن الطيران وقعت على شرفات المسجد، وعلى بعض السطوح التي حول المسجد، ولا يقع على ظهر البيت مع خلوه عما ينفرها، وقد كنا نرى الحمامة منها أحيانا إذا مرضت، وانحص ريشها وتناثر- ترتفع من الأرض حتى إذا دنت من ظهر البيت ألقت نفسها على الميزاب أو على طرف ركن من الأركان فتلقاها زمانا طويلا جاثمة كهيئة المتخشع لا حراك فيها، ثم تتصوب منها بعد حين من غير أن تعلو شيئا من سقف البيت؛ وهذه حالة قد تدبرتها كرة بعد أخرى؛ فلم تختلف صيغتها وإذا كانت الطير مصروفة عن استعلاء البيت بالطبع فلا غرو أن يكون الإنسان ممنوعا عنه بالشرع؛ كرامة للبيت على ما ذكرناه. ومن باب الستر (من الصحاح) [506] حديث عائشة- رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في خميصة لها أعلام. الخميصة كساء أسود مربع له علمان؛ فإن لم يكن معلما فليس بخميصة؛ وعلى هذا التفسير فقول عائشة: (لها أعلام) على وجه البيان والتأكيد. وفيه: (وائتوني بأنبجانية أبي جهم)؛ قيل: الأنبجاني من الثياب: المبتذلة الغليظة؛ تتخذ من الصوف، وذكر الخطابي في غريبه عن بعضهم أنها منسوبة إلى آذربيجان، وقد حذف بعض حروفها وبدل في التعريب. قلت: والمشهور من العرب: كساء منبجاني؛ منسوب إلى منبج، ويفتحون الباء في النسبة، أخرجوه مخرج منطراني ومخبراني، وقد قيل: منبجاني وأنبجاني، وأصحاب الحديث يروونه بكسر الباء، وأهل اللغة بفتحها. وإنما بعثها إلى أبي جهم؛ لأن أبا جهم كان أهداها إليه، ونظر إلى أعلامها في الصلاة. كرهها لما وجد [78 م/ب] من الرعونة وأنكرها قلبه المقدس فشغل بأفكار القلب عن قرة عينه في الصلاة فردها عليه وسأله أن يبعث بأنبجانية مكانها لئلا ينكسر قلبه وتشمئز نفسه لرد الهدية عليه. وأبو جهم هذا

هو أبو جهم بن حذيفة بن الغانم القرشي العدوي (رضي الله عنه)، وكان من المعمرين من مشيخة قريش عمل في بناء الكعبة زمن ابن الزبير وقال: عملت فيها مرتين مرة بقوة غلام يفاع، ومرة بقوة شيخ فان هاه. [507] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس- رضي الله عنه: (أميطي عنا قرامك) القرام: ستر فيه رقم ونقوش وكذلك المقرم والمقرمة قال قائلهم، يصف دارا: على ظهر جرعاء العجوز كأنها .... دوائر رقم في سراة قرام ومنه: حديث عقبة بن عامر (رضي الله عنه): (أهدى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فروج حرير ...) الحديث قال أبو عبيد: هو القباء الذي شق من خلفه وقد ذكر بعض أهل العلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنما لبسه استمالة لقلب المهدي وهو المقوقس صاحب الإسكندرية أو أكيدر صاحب دومة الجندل أو غيرهما على اختلاف فيه وهذا القائل يزعم أن ذلك كان بعد التحريم وغير هذا القول أولى بأولى العلم، وأنى يلبس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لباسا حرمه الله على ذكور أمته من غير استثناء أو ذكر خصوصية له فيه، ثم إنه لم يرد فيما ادعاه نقل، ومثل هذا الباب لا يحمد الإقدام عليه بالظن والتخمين، وكان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أحق الناس بالاجتناب عما كان ينهي عنه من غير مثنوية و (ما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه) سبيل إخوانه من المرسلين وهو أفضلهم [وأولاهم] بانتهاج تلك السبيل، فالوجه فيه أن يحمل على أنه كان قبل التحريم وإنما نزعه نزع الكاره له لما رأى فيه من الرعونة وذلك مثل ما بدا له في الخميصة.

(ومن الحسان) [509] حديث عائشة- رضي الله عنها- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يقبل صلاة حائض إلا بخمار) أراد بالحائض: المرأة التي بلغت سن الحيض وهذا الحكم متناول كل من أدركت من النساء، وإن تك آيسة. [511] ومنه: حديث أبي هريرة- رضي الله عنه: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن السدل في الصلاة) سدل ثوبه يسدله، بالضم، سدلا: إذا أرخاه وهو إرساله حتى يصيب الأرض، والذي انتهى إلينا من معنى هذا القول أنه: نهى المصلي عن إرسال الثوب حتى يصيب الأرض، ثم إن أهل العلم مختلفون في هذا النهي، فمنهم من لا يرى بالإرسال بأسا، ومنهم من يرخص فيه، ومنهم من يكرهه ويقول: هكذا يصنع اليهود. قال الترمذي: وقال بعضهم إنما كره السدل 79/أفي الصلاة إذا لم يكن عليه إلا ثوب واحد فأما إذا سدل على القميص فلا بأس وهو قول أحمد. ثم إني تفكرت في هذا المعنى بعد التدبر لسياق لفظه فرأيت غير ذلك المعنى أمثل من طريق المطابقة، وذلك لأن إرسال الثوب حتى يصيب الأرض منهي عنه على الإطلاق، وفي الحديث خص النهي بالسدل في الصلاة فلابد له من فائدة، وإن زعم زاعم أن فائدة التخصيص على التأكيد؛ فالجواب أن نقول: تأكيد النهي في حق من يرسل ثوبه ويمشي أولى من تأكيده في حق من يصلي، لأن إرسال الثوب حالة المشي من الخيلاء مع ما فيه من إصابة الأذى بالثوب وترك النظافة وإضاعة المال بتمزيق الثوب وإخلاقه ولا كذلك المصلي؛ لأنه ثابت في مكان غير متعرض لشيء من تلك الخلال، ثم إن كثيرا رخصوا في إسبال الثوب في الصلاة، والجمهور منهم منعوا الرجال عن الإسبال في حال المشي للأحاديث التي وردت فيها، فلما رأيت التخصيص في حق المصلي والترجيح من طريق النظر فيما ذكرت من العلماء فتشت عن المراد من الحديث، فرأيت أن النهي إنما خص بالمصلي؛ لأن العرب من عادتهم أن يشدوا الأزر على أوساطهم فوق القميص كل الشد في حالة المشي، فإذا انتهوا إلى مجالسهم حلوا العقدة وأسبلوا الإزار حتى يصيب الأرض ثم ربطوه بعض الربط؛ لأن ذلك أروح لهم وأسمح لقيامهم وقعودهم وكانوا يصنعون ذلك في الصلاة فنهوا عنه؛ لأن المصلي لم يكن ليأمن أن تنحل

العقدة أو يتشبث فيه عند النهوض برجله فينفصل عنه فيكون مصليا في الثوب الواحد وهو منهي عنه، أو يتشاغل بإمساكه على نفسه فيجد الشيطان به سبيلا إلى تخبطه في الصلاة، وربما يضم إليه جوانب ثوبه فيصدر عنه الحركات المتداركة، فلهذه المعاني نهي عنه، ولم أقدم على استنباط معنى هذا الحديث على هذا الوجه إلا بعد أن كنت شاهدت تلك الهيئة من أناس من أهل مكة يعتادونها ويأتون بها في مجالسهم. وفيه (وأن يغطي الرجل فاه) إنما نهي عن ذلك؛ لأنه يحجر الرجل عن أداء القراءة على نعت الكمال والإتيان بالسجود على وجه التمام. وكان من دأب العرب أن يتلثموا بعمائمهم فيغطوا بها أفواههم كيلا يصيبهم الهواء بأذى من حر أو برد فنهوا عن ذلك الصنيع في حال الصلاة للمعنى الذي ذكرناه ولغيره. [512] ومنه: حديث أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه: (بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه ...) الحديث استدل بعض العلماء من هذا الحديث بقوله - صلى الله عليه وسلم -[79/ب]: (إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما قذرا) على أن من صلى وفي ثوبه نجاسة لم يشعر بها فإن صلاته مجزئة ولا إعادة عليه، واستدل آخرون من هذا الحديث بقوله - صلى الله عليه وسلم - (إذا جاء أحدكم المسجد فلينظر فإن رأى [في] نعليه قذرا فليمسحهما وليصل فيهما) على أن النعل إذا أصابته نجاسة فمسحت بالأرض حتى ذهب أثرها جازت الصلاة فيها. ثم إن كل واحد من الفئتين يخالف صاحبه فيما ذهب إليه. والذي يأخذ ببعض هذا الحديث فالبقية منه حجة عليه، فإن قال قائل: كيف صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النعل النجس مع تأييد الله إياه بالعصمة ولاسيما في أمر العبادة؟ قلنا إن ذهبنا إلى أن القذر المذكور في الحديث كان نجاسة؛ فالجواب فيه: أنه كان مشرعا فاقتضت الحكمة الإلهية أن يمتحن بأمثال ذلك ليظهر للأمة ما قد خفي عليهم من أمر الدين؛ ولهذا المعنى قال - صلى الله عليه وسلم -: (إنما أنسى لأسن). وإن ذهبنا إلى غير ذلك فالأمر فيه بين والوجه فيه أن نقول: يحتمل أن القذر الذي كان في نعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن من جملة الأعيان النجسة وإنما كان مما يستقذره الناس طبعا وقد أمروا

باب السترة

بصيانة المسجد عنه كالنخامة والمخاط؛ فنبأه جبريل (عليه السلام) لئلا يتلوث به ثوبه عند السجود؛ فأخبر به أصحابه وعلمهم ما افتقروا إلى تعليمه من هذا الباب ليتفقدوا النعال عند دخول المساجد وإذا وجدوا فيها قذرا مسحوها بالأرض صيانة للمساجد عن الأشياء القذرة نجاسة كانت أو غيرها، فإن قيل: على أي وجه يطلق لفظ القذر على غير النجاسة؛ قلنا: يجوز ذلك على سبيل الاتساع إن لم ترد به اللغة على الحقيقة؛ وذلك لأن العرب تقول قذرت الشيء بالكسر وتقذرته واستقذرته إذا كرهته، ويصح أن يقال للنخامة والمخاط القذر؛ لأن الطباع تنفر عن ذلك والنفوس تكرهه والله أعلم. ومن باب السترة (من الصحاح) [515] حديث أبي جحيفة السوائي- رضي الله عنه: (رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأبطح) الأبطح في موضوع اللغة: مسيل واسع فيه دقاق الحصى، والبطيحة والبطحاء مثله، وفي هذا الحديث: هو اسم علم للمسيل الذي ينتهي إليه من وادي منى وهو على باب المعلى بمكة حرسها الله تعالى ويقال لها: بطحاء مكة. وفيه [80/أ] (أخذ عنزة فركزها) العنزة بالتحريك أطول من العصا وأقصر من الرمح. [516] ومنه حديث ابن عمر- رضي الله عنه: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعرض راحلته) معناه ينيخها بالعرض

من القبلة حتى تكون معترضة بينه وبين من مر بين يديه؛ من قولهم: عرض العود على الإناء، والسيف على فخذه: إذا وضعه بالعرض، يعرضه ويعرضه أيضا فهذه وحدها بالضم. وفيه (أرأيت إذا هبت الركاب): أي أقامت الإبل للسير، يقال: هبت الناقة في سيرها هبابا وهبوبا: أي نشطت. وفيه (فيعدله فيصلي إلى آخرته) تعديل الشيء تقويمه يقال: عدلته فاعتدل، أي قومته فاستقام ومن رواه بالتخفيف فقد حرف، والحرف الذي في كتاب الله (فعدلك) إذا قرئ بالتخفيف فمعناه: صرفك من حال إلى حال، أو من هيئة إلى هيئة، ويجوز أن يكون بمعنى المشدد أي عدل بعض أعضائك ببعض حتى اعتدلت؛ ولا يستقيم معنى الحديث على ما أوردناه من معنى لفظ التنزيل. وآخرة الرحل: هي التي يستند إليها الراكب. [518] ومنه حديث أبي الجهيم- رضي الله عنه- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ...) الحديث. ذكر الشيخ أبو جعفر الطحاوي- رحمة الله عليه- في كتابه الموسوم بمشكل الآثار أن المراد من الأربعين في حديث أبي جهيم هو الأعوام لا الشهور ولا الأيام. واستدل بحديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لو يعلم الذي يمر بين يدي أخيه معترضا وهو يناجي ربه عز وجل لكان أن يقف مكانه مائة عام خير له من الخطوة التي خطاها) ثم قال أبو جعفر: وحديث أبي هريرة- رضي الله عنه- متأخر عن حديث أبي جهيم؛ إن في حديث أبي هريرة زيادة في الوعيد على الوعيد الذي في حديث أبي جهيم؛ إن في حديث أبي هريرة زيادة في الوعيد على الوعيد الذي في حديث أبي جهيم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يأتي بالتخفيف بعد الوعيد أو كلاما هذا معناه. قلت: وحاصل هذا القول أن الشارع إذا نهى عن فعل وأوعد عليه ثم لم ينته عنه زاد في الوعيد تأكيدا للنهي ومبالغة في الزجر، ولا يظن به خلاف ذلك؛ لأن التخفيف في باب الوعيد لا يلائم الحكمة. وأبو جهيم هذا هو عبد الله بن جهيم الأنصاري كذا ذكروه في كتب المعارف، وقد قيل هو ابن أخت أبي بن كعب- رضي الله عنه.

[519]- ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقطع الصلاة المرأة والحمار [80/ب] والكلب، وبقي ذلك مثل مؤخرة الرحل. ويروى مثله عن أبي ذر- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي رواية: و (الكلب الأسود) وفي رواية ابن عباس- رضي الله عنه: (والمرأة الحائض) وقد أخذ بعض العلماء بظواهر هذه الأحاديث، والجمهور على خلاف ذلك. وقد أورد المؤلف رحمه الله بعد هذا الحديث ما يدفع القول بظاهره. [520] فمن ذلك حديث عائشة- رضي الله عنها: (وأنا معترضة بينه وبين القبلة كاعتراض الجنازة). [521] ومنه حديث ابن عباس (فمررت بين يدي الصف فنزلت وأرسلت الأتان ترتع). (ومن الحسان) [524] حديث المقداد بن الأسود- رضي الله عنه- (ولا يصمد له صمدا)، يقول: صمدت صمده أي: قصدت قصده، والصمد القصد، يريد أنه كان لا يجعل ذلك الشيء تلقاء وجهه؛ بل يجعله على جانبه الأيمن أو الأيسر؛ وذلك والله أعلم لتنزهه عن التشبه بمن عبد الأشخاص فيتوجه إليه كل التوجه، ويصمد له صمدًا مستقيما.

[525] ومنه حديث الفضل بن عباس- رضي الله عنه- أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن في بادية لنا) الحديث. قلت: وقد قال بعض أصحاب الحديث أن حديث أبي ذر- رضي الله عنه- قد عارضه حديث عائشة- رضي الله عنها- في المرأة، وحديث ابن عباس- رضي الله عنه- في الحمار، وأما حديث الفضل ففي إسناده مقال، ثم إنه لم يذكر فيه صفة الكلب فيجوز أن الكلب المذكور في حديثه لم يكن بأسود؛ فبقى حديث أبي ذر في الكلب الأسود لا معارض له، فنرى القول به واجبا لثبوته وصحة إسناده وهذا القول ليس بمستبعد ولا مستنكرا ولا حديث أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- (لا يقطع الصلاة شيء) والأحاديث إذا تعارضت ووجد في معاني بعضها تضاد، فالسبيل أن تأول على وجه التوفيق بينها ونفي التضاد والاختلاف عنها. والسبيل في هذه الأحاديث أن يحمل معنى قطع الصلاة بهذه الأشخاص على قطعها المصلي عن مواطأة القلب واللسان في التلاوة والذكر والمحافظة على ما يجب عليه محافظته ومراعاته من أمر الصلاة، ومعنى حديث أبي سعيد أن الصلاة لا يقطعها شيء أي: لا يبطلها. ومثل ذلك في كلامهم شائع مستفيض. يقول القائل إذا تكلم بين يديه متكلم وهو مقبل على صلاته: قطعت على صلاتي، أي: شغلت قلبي عنها وقد تبين لنا من تعارض هذه الأحاديث أن معنى الحديث على الوجه الذي بيناه. وفيه: (فإنما هو شيطان) أي: شيطان من شياطين الإنس أو يعمل عمل الشيطان أو يحمله الشيطان على هذا الصنيع. وفيه: (ومثل مؤخرة الرحل) لغة قليلة في آخرته وتشديد الخاء منها خطأ وإنما [81/أ] هي مؤخرة على زنة مؤمنة كما نقول: مؤخر العين ومقدمها. ويحتمل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال مثل آخرة الرحل وكأن مؤخرة الرحل من لغة الراوي كذلك، وهي في حديث ابن عمر- رضي الله عنه- آخرة الرحل دون مؤخرته؛ لأنها اللغة الفصيحة وقريش أصح العرب لغة، وأفصحهم لهجة والنبي - صلى الله عليه وسلم - أفصح قريش وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (أنا أفصح العرب؛ بيد أني من قريش ونشأت في بني سعد بن بكر) فينسب إليه من اللغة أصحها وأفصحها دون الرديء منها. [526] ومنه حديث أبي سعيد: (لا يقطع الصلاة شيء وادرءوا ما استطعتم).

باب صفة الصلاة

ومن باب صفة الصلاة (من الصحاح) [527] حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-: (أن رجلا دخل المسجد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس) الحديث. من ذهب إلى أن الطمأنينة في الهيئات المذكورة في هذا الحديث فرض؛ فقد أخذ بما يقتضيه ظاهر اللفظ من هذا الحديث، وهو عدم الجواز. ومن ذهب إلى أنها سنة فإنه يأوله على معنى نفي الكمال، وله أن يقول: يحتمل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أمره بإعادة الصلاة؛ لأنه ترك فرضا من فروضها، فلما قال علمني وصف له كيفية إقام الصلاة على نعت الكمال؛ ألا ترى أنه بدأ في تعليمه بالأمر بإسباغ الوضوء، وقد علمنا أن الرجل كان على طهر؛ لأنه لم يأمره بإعادة الوضوء كما أمره بإعادة الصلاة؛ ثم إنه قال: (ارجع فصل) ولو لم يكن على طهر، لقال: ارجع فتوضأ، فإن قيل: لم سكت عن تعليمه من أول الأمر حتى افتقر إلى مراجعته كرة بعد أخرى؟ قلنا: إن الرجل لما رجع لإعادة الصلاة من غير اطلاع على حقيقة المراد منه فعل المغتر بعلمه والمتهاون بأمر دينه؛ سكت عن تعليمه زجرا له عن الإقدام على ما لا علم له به، وتأدبا له بين يديه، كما هو الواجب؛ إذ هو مورد الوحي والإلهام، ومصدر الشرائع والأحكام، وتنبيها له على حسن التيقظ دون أوامره وإرشادا له إلى استكشاف ما يستبهم عليه بالسؤال. [528] ومنه قول عائشة- رضي الله عنه- في حديثها عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لم يشخص رأسه ولم يصوبه) أي: لم يرفعه ولم يخفضه.

وفيه: وكان ينهى عن عقبة الشيطان [81/ب] وفي بعض الرواية (عن عقب الشيطان) قال أبو عبيد القاسم بن سلام: هو أن يضع المصلي أليتيه على عقبيه بين السجدتين وهو الذي يسميه بعض الفقهاء الإقعاء. [529] ومنه: قول أبي حميد الساعدي- رضي الله عنه- في حديثه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (ثم هصر ظهره) والأصل في الهصر الكسر، وهصرت الغصن بالغصن، إذا أخذت برأسه فأملته إليك، وانهصر الغصن إذا انكسر من غير بينونة. والمعنى: أنه ثنى ظهره وخفضه حتى صار كالغصن المنهصر.

(ومن الحسان) [538] حديثه الآخر: (أنا أعلمكم بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا: فاعرض)؛ عرضت عليه أمر كذا وعرضت له الشيء أي: أظهرته له وأبرزته إليه، اعرض، بالكسر لا غير والمعنى: فاعرض علينا وانعتها لنا حتى نرى صحة ما تدعيه. وفيه: (فلا يصبى رأسه ولا يقنع) يقال صبي رأسه تصبية: إذا خفضه جدا، وزعم بعضهم أنه مأخوذ من قولهم: صبا الرجل: إذا مال إلى الصبا وقيل: هو يصبئ مهموزا من قولهم: صبأ الرجل عن دين قومه: أي خرج فهو صابيء.

وذكر أبو عبيد الهروي عن الأزهري أنه قال: الصواب فيه أن يصوب. قلت: وهذا القول عن الأزهري يدل على أنه لم يعرف للتصبية في كلام العرب وجها. (ولا يقنع) أي: لا يرفع، يقال: أقنع رأسه إذا رفعه، ومنه قوله تعالى: {مهطعين مقنعي رءوسهم} فقد قيل: إن الإقناع قد يكون بمعنى التصويب، يقال: أقنع رأسه إذا صوبه فهو من الأضداد. وفيه (ويفتخ) أصابع رجليه في جلوسه فتخا بالخاء المعجمة: أي ثناها ولينها، قال الأصمعي: أصل الفتخ اللين، تقول: رجل أفتخ بين الفتخ: إذا كان عريض الكف والقدم مع اللين. وفيه (ووتر يديه) أي: جعلهما كالوتر من قولك وترت القوس وأوترتها، شبه يد الراكع إذا مدها قابضا على ركبتيه بالقوس إذا وترت. [542] ومنه: حديث الفضل بن عباس- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الصلاة مثنى مثنى تشهد في كل ركعتين) الحديث؛ تشهد وتخشع وتضرع وتمسكن: وجدنا الرواية (فيهن) بالتنوين لا غير وكثير ممن لا علم لهم بالرواية يوردونها على لفظ الأمر ونراها تصحيفا. وفيه: (فهي خداج) أي غير تمام.

باب: ما يقرأ بعد التكبير

ومن باب: ما يقرأ بعد التكبير [82/أ] (من الصحاح) [543] حديث أبي هريرة- رضي الله عنه: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسكت بين التكبير وبين القراءة إسكاتة) هي إفعالة من السكوت، ومعناها سكوت يقتضى بعده كلاما، أو قراءة مع قصر المدة؛ ألا ترى الراوي يقول للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما تقول في إسكاتك فقال .... : اللهم باعد بيني وبين خطاياي ... الحديث وإنما أراد بهذا السكوت ترك رفع الصوت بالكلام؛ ألا تراه يقول ما تقول في إسكاتك، أي: سكوتك عن الجهر دون السكوت عن القراءة والقول. وفيه (اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد)؛ قلت: ذكر أنواع المطهرات المنزلة من السماء التي لا يمكن حصول الطهارة الكاملة إلا بأحدها؛ تبيانا لأنواع المغفرة التي لا تخلص من الذنوب إلا بها، أي طهرني من الخطايا بأنواع مغفرتك التي هي في تمحيص الذنوب بمثابة هذه الأنواع الثلاثة في إزالة الأرجاس والأوضار ورفع الجنابة والأحداث. ويحتمل أنه يسأل الله تعالى أن يغسل خطاياه بهذه الأنواع التي يستعملها المتطهرون لرفع الأحداث؛ والمعنى: كما جعلتها سببا لحصول الطهارة فاجعلها سببا لحصول المغفرة؛ وبيان ذلك في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر (معها) بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء ...) الحديث [544] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث علي- رضي الله عنه: (سبحانك وبحمدك) أي: أنزهك يا رب من

كل سوء، وبحمدك سبحتك ووقفت لذلك، ونصب سبحانك على مذهب المصدر أراد سبحتك تسبيحا فوضع سبحان موضع التسبيح. وفيه (لبيك وسعديك) ألب بالمكان إذا أقام به ولزمه، قال الخليل: ولب لغة فيه، قال الفراء: ومنه قولهم لبيك: أي أنا مقيم على طاعتك ونصب على المصدر كقولك: حمدا لله وشكرا وقال الخليل: هو من قولهم: دار فلان تلب داري: أي تحاذيها، أي أنا مواجهك بما تحب وإنما ثنى على التأكيد، أي إلبابا بك بعد إلباب، وإقامة بعد إقامة أو مواجهة إليك بما تحب بعد مواجهة. وسعديك: أي إسعادا بعد إسعاد، والمعنى ساعدت طاعتك يا رب مساعدة بعد مساعدة. وفيه (والشر ليس إليك) أي: ليس مما يتقرب به إليك، هذا كقول القائل: فلان إلي بني أسد، إذا كان عداده فيهم أو صفوه معهم أي ليس انتماء الشر إليك. قلت: وليس المعنى على ما يأوله القدرية ولقد علمنا [82/ب] أهل الدين أن الله خالق كل شيء وإنما المعنى: أنك تملك الخير كله وكل ما تخوله وتنعم به على عبادك فهو خير كله، والشر ليس انتماؤه إليك؛ لأنك تخلق الأشياء على ما تقتضيه الحكم فلا ينتمي إليك الشر، فإنك وإن خلقته فقد نهيت عنه ولا يصح نسبة الشرية إلى أفعالك التي هي جارية على سنن الرشاد متضمنة للحكمة البالغة متعالية عن نسبة القبح إليها، وإنما يضاف ذلك إلى اكتساب العباد إضافة مختصة بهم. وفيه (أنا بك وإليك) أي أستجير وإليك ألتجى أو بك أحيا وأموت وإليك المرجع والمصير ونحو ذلك من التقديرات.

وفيه (لا منجا ولا ملجأ منك إلا إليك) أي لا مهرب ولا مخلص منك ولا ملاذ لمن طالبته إلا إليك. ومنجا مقصور لا يجوز أن يمد ويهمز والأصل في الملجأ: الهمز ومن الناس من يلين همزه؛ ليزدوج الكلمة التي قبله. [545] ومنه قول أنس- رضي الله عنه- في حديثه (لقد حفزه النفس) أي اشتد به، والحفز حثك الشيء من خلفه. قال الراجز: يريح بعد النفس المحفوز يريد النفس الشديد المتتابع الذي كأنه يحفز: أي يدفع من سباق. (ومن الحسان) [546] حديث عائشة- رضي الله عنها: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا افتتح الصلاة قال: سبحانك اللهم وبحمدك ...) الحديث. قد مر تفسير (سبحانك وبحمدك). وفيه (وتبارك اسمك) تبارك هو تفاعل من البركة وهي الكثرة والاتساع وتبارك هي بارك مثل: قاتل وتقاتل إلا أن فاعل يتعدى وتفاعل لا يتعدى، ومعناه: تعالى وتعظم وكثرت بركاته في السموات والأرض إذ به تقوم وبه تتنزل الخيرات وفي كتاب الله {فتبارك الله أحسن الخالقين}، {تبارك الذي نزل الفرقان}، {تبارك الذي بيده الملك} وكل ذلك تنبيه على اختصاصه سبحانه بالخيرات الإبداعية والبركات المتوالية. وفيه (وتعالى جدك) أي عظمتك؛ ومنه قول أنس- رضي الله عنه: (كان الرجل منا إذا قرأ البقرة وآل عمران جد فينا) أي عظم وهذا الحديث نجده في كتاب المصابيح وقد رماه المؤلف بالضعف وليس الأمر على ما توهمه إذ هو حديث حسن مشهور أخذ به من الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب- رضي الله عنه. والحديث مخرج في كتاب مسلم عن عمر رضي الله عنه وقد أخذ به عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه-

وغيره من فقهاء الصحابة، ولم يكن هؤلاء السادة ليأخذوا [83/أ] بذلك من غير أسوة ولهذا ذهب إليه الأجلة من علماء الحديث كسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وغيرهم فالظاهر أن هذا اللفظ- أعني: ضعيف- تزيد من بعض الناس، وإن يكن من قبل المؤلف فأراه إنما دخل عليه الداخل من كتاب أبي عيسى؛ لأنه روى هذا الحديث في جامعه بإسناده عن أبي سعيد الخدري مع زيادة على حديث عائشة ولفظ حديثه: أنه قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة بالليل كبر ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك ثم يقول: الله أكبر كبيرا ثم يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه. ثم قال أبو عيسى: كان يحيى بن سعيد يتكلم في علي بن علي. قلت: وعلي بن علي الرفاعي هو الراوي عن أبي المتوكل عن أبي سعيد، ثم قال أبو عيسى وقال أحمد: لا يصح هذا الحديث ثم روى أبو عيسى بعد ذلك حديث عائشة- رضي الله عنها- عن الحسن بن عرفة عن أبي معاوية عن حارثة بن أبي الرجال عن عمره عن عائشة ثم قال هذا حديث لا نعرفه من هذا الوجه وحارثة قد تكلم فيه من قبل حفظه فظن المؤلف أن هذا الكلام من أبي عيسى طعن في متن هذا الحديث وليس الأمر على ما ظن فإن الذي ذكره أبو عيسى في علي الرفاعي في إسناد حديث أبي سعيد لا يكون حجة على ضعف هذا الحديث؛ لأن سياق حديث أبي سعيد غير سياق حديث عائشة على ما بينا؛ ألا ترى أنه قال: وقال أحمد لا يصح هذا الحديث، وأحمد قد انتهى إليه حديث عائشة- رضي الله عنها- بإسناد موثوق به فأخذ به كما ذكرناه عن مذهبه، وأما ما ذكره الترمذي من أمر حارثة بن أبي الرجال فإنه تكلم في إسناده الحديث من الوجه الذي ذكره ولم يقل أن إسناده مدخول فيه من سائر الوجوه مع أن الجرح والتعديل يقع في حق أقوام على وجه الاختلاف، فربما ضعف الراوي من قبل أحد الأئمة ووثق من قبل آخرين. وهذا الحديث رواه الأعلام من أئمة الحديث، وأخذوا به ورواه أبو داود في جامعه عن الحسن ابن علي عن طلق بن غنام عن عبد السلام بن حرب الملائي عن بديل بن ميسرة عن أبي الجوزاء عن عائشة وهذا إسناد حسن. رجاله مرضيون، فعلمنا أن أبا عيسى لم يرم هذا الحديث بالضعف على الإطلاق، وإنما تكلم في الإسناد الذي أورده. ثم إني لا أستطيع القول في بيان؛ إلا حذرا من أن يتسارع طالب علم بالطعن إلى هذا الحديث من غير روية وبصيرة اتكالا على ما يجده في كتاب المصابيح؛ فيتأثم به وأعوذ بالله أن أنصر عصبية أو أدعو إلى عصبية والله حسيبي على ذلك. [546] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث جبير بن مطعم- رضي الله عنه-:نفخه ونفثه وهمزه، أرى والله أعلم أن النفخ كناية عما يسوله الشيطان للإنسان من الاستكبار والخيلاء فتتعاظم في نفسه كالذي نفخ فيه؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للذي رآه وقد استطار غضبا: (نفخ فيه الشيطان).

باب القراءة في الصلاة

وأما النفث فقد فسر في الحديث أنه الشعر قيل: وإنما سمي الشعر نفثا؛ لأنه كالشيء ينفثه الإنسان من فيه كالرقية، قلت: إن كان هذا التفسير من متن الحديث، فلا معدل عنه، وإن كان من قول بعض الرواة، قلنا أن نقول: لعل المراد منه السحر؛ فإنه أشبه لما شهد له التنزيل، قال الله تعالى: {ومن شر النفاثات في العقد}. وأما همزه، فقد ذكر أيضا في الحديث أنه الموتة، قال أبو عبيد: والموتة: الجنون؛ سماه همزا، لأنه جعله من النخس والغمز، وكل شيء دفعته فقد همزته، قلت: ولو صح أن التفسير من المتن فلا محيد عنه ولا مزيد عليه وإلا فالأشبه أن همزه ما يوسوس به، قال الله تعالى: {وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين}. وهمزاته: خطراته التي يخطرها بقلب الإنسان، وهي جمع المرة من الهمز، وقد قيل: في معنى الآية أن الشياطين يحثون أولياءهم على المعاصي، ويغرونهم عليها كما يهمز الراضة الدواب بالمهماز حثا لها على المشي. [550] ومنه: حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من صلى صلاة ولم يقرأ فيها

بأم القرآن فهي خداج) سميت الفاتحة أم القرآن لكونها مبدأ الكتاب يفتتح بها القرآن يبتدأ بها في الصلاة. قال الخليل: كل شيء ضم إليه سائر ما يليه يسمى أما. ولهذا الذي ذكرناه قال ابن عرفة: سميت أم القرآن وأم الكتاب؛ لأن السور تضاف إليها ولا تضاف هي إلى شيء من السور. وقوله: (فهي خداج): أي ناقصة، تقول العرب: خدجت الناقة إذا ألقت بولدها قبل أوان النتاج، وإن كان تام الخلق وأخدجته إذا ولدته ناقص الخلق، وإن كان تمام الحمل، فالخداج مصدر خدجت الناقة، أقيم المصدر مقام الفعل [84/أ]، والمعنى فهي مخدجة أي ناقصة. وقال ابن الأنباري: فهي خداج، أي ذات خداج، وقد استدل بهذا الحديث من قال بوجوب قراءة فاتحة

الكتاب في الصلاة على سبيل التعيين، واستدل به أيضا من ذهب إلى خلاف ذلك، وقال إضافة النقصان إلى الصلاة التي لم يقرأ فيها بأم القرآن، دليل على أنها جائزة غير مضمحلة. وفيه: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين). قيل: أراد بالصلاة القراءة، وقد يسمى القراءة صلاة؛ لوقوعها في الصلاة وكونها جزءا من أجزائها قال الله تعالى: {ولا تجهر بصلاتك} قيل: بقراءتك، وقيل: إنه على سبيل الحذف والإضمار أي بقراءة صلاتك، وقد عرف المراد من هذا اللفظ في الحديث بما أردفه من التفسير والتفصيل. وقد علمنا بذلك أيضا أن المراد من القراءة قراءة فاتحة الكتاب. قوله نصفين، قيل فيه: حقيقة هذا التقسيم راجعة إلى المعنى لا إلى الألفاظ المتلوة؛ لأنا نجد الشطر الآخر يزيد على الشطر الأول من جهة الألفاظ والحروف زيادة بينة؛ فيصرف التنصيف إلى المعنى؛ لأن السورة من جهة المعنى نصفها ثناء ونصفها دعاء، وقسم الثناء ينتهي إلى قوله: {إياك نعبد} وباقي الآية من قسم المسألة؛ فلهذا قال: هذه الآية بيني وبين عبدي. وقد ذكر هذا الوجه أبو سليمان الخطابي. وهذا كما يقال: نصف السنة إقامة، ونصفها سفر، يراد به انقسام أيام السنة مدة للسفر ومدة للإقامة لا على سبيل التعديل والتسوية بينهما حتى يكونا سواء لا يزيد أحدهما على الآخر. قلت: والأظهر أن التنصيف منصرف إلى آيات السورة؛ وذلك أنها سبع آيات: فثلاث منها ثناء وثلاث مسألة، والآية المتوسطة بين آيات الثناء وآيات المسألة، نصفها ثناء ونصفها دعاء. وهذا التأويل إنما يستقيم على مذهب من لم يجعل التسمية آية من الفاتحة، فأما من عد التسمية آية منها؛ فلا يستصوب هذا التأويل، وهو بين واضح والحديث يحكم على من خالفه. قلت: يحتمل أن يقال: إن المراد من الصلاة في هذا الحديث الدعاء، ثم بين حقيقة القسمة بهذه الصورة المشتملة على طرفي الثناء والمسألة، لا يتعدى الدعاء عن هذين القسمين. [559] ومنه: حديث جابر- رضي الله عنه- كان معاذ بن جبل- رضي الله عنه- يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ... الحديث. الرجل الذي كان يصلي خلف معاذ فانحرف هو حزام بن أبي كعب [84/ب] الأنصاري السلمي ... الأنصاري السلمي- رضي الله عنه-، ويقال حزم بن أبي كعب. وفيه: (أفتان أنت يا معاذ)؟! استفهام على وجه التوبيخ؛ ينبه على كراهة صنيع معاذ وهو إطالة الصلاة؛ لأن طول الصلاة كان الباعث للرجل على مفارقة الإمام، وترك الجماعة، فافتتن به. وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يسمع بكاء

الصبي، فيخفف مخافة أن يفتن أمه، فإن قيل: إضافة معاذ النفاق إلى رجل من الصحابة لم يعرف منه قط، أطم وأعظم من صنيعه ذلك فلم جعلت علة التوبيخ إطالة الصلاة دون قوله ذلك. قلت: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر عليه إطالة الصلاة دون قوله، وبين ذلك في بعض طرق هذا الحديث: أفتان أنت يا معاذ؟! ألا قرأت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها. وإنما لم يتعرض لقوله ذلك، ولم يوبخه عليه؛ لأن الصلابة في الدين تحمل على ذلك القول، بعد أن رأى التشابه بين صنيع الرجل وصنيع المنافقين، فعذره فيه ولم يعذره في إطالة الصلاة؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - بين لهم معالم الدين وعلمهم كيفية إقام الصلاة، وأمرهم بالاقتداء به، ولم يكن فيما شرع لهم أن يصلي الرجل بالقوم على وجه يفضي بهم إلى ترك الجماعة، وقول معاذ للرجل إنه منافق نظير قول عمر- رضي الله عنه- لحاطب بن أبي بلتعة لما كاتب المشركين بمكة: إنه منافق، فقال - صلى الله عليه وسلم -: (كلا إنه من أهل بدر ...) الحديث. ولم ينه عمر- رضي الله عنه- عن مقالته تلك، ولم يؤنبه عليها، فكأنه عذره؛ من حيث وجد صنيع حاطب شبيه صنيع المنافقين. وفيه (نقى بنواضحنا)، الناضح: البعير يستقى عليه، والأنثى ناضحة وسانية، والنضاح الذي يسوق السانية. وفيه (فتجوزت)، تجوز في صلاته خفف بها وأسرع بها، وهو من الجوز الذي بمعنى القطع. وأما قولهم: تجوز في كلامه أي تكلم بالمجاز؛ فالتجوز في الكلام غير التجوز في الصلاة؛ لافتراق المأخذين.

[564 - 569] ومنه: حديث أبي هريرة- رضي الله عنه: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الفجر يوم الجمعة بـ {آلم* تنزيل} في الركعة الأولى، وفي الثانية {هل أتى}. قلت: قوله: (كان) لا يقتضي أنه كان يقرأ بهما في صلاة الفجر من يوم الجمعة على الدوام والاستمرار؛ وإنما الوجه أن يقال: كان يقرأ بهما وقتا دون وقت أو كان يقرأ بهما على الأغلب من أحواله. وعلى هذا الوجه يفسر حديث أبي واقد الليثي- رضي الله عنه: (سأل عمر بن الخطاب- رضي الله عنه أبا واقد الليثي: ما كان يقرأ 85/أرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأضحى والفطر؟ .. الحديث)؛ لئلا يقع التضاد بينه وبين حديث النعمان بن بشير- رضي الله عنه: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في العيدين وفي الجمعة بـ {سبح اسم ربك الأعلى} و {هل أتاك حديث الغاشية} وبين حديث النعمان وحديث بن عباس وأبي هريرة- رضي الله عنهم: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة والمنافقين. وعلى هذا الوجه يأول حديث ابن عباس: (كان يقرأ في ركعة الفجر {قولوا آمنا} ... الحديث) وحديث أبي هريرة قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ركعتي الفجر: {قل يا أيها الكافرون}، {قل هو الله أحد}.

(ومن الحسان) [570] حديث ابن عباس- رضي الله عنه: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفتتح صلاته بـ {بسم الله الرحمن الرحيم}). إن سأل سائل عن هذا الحديث ووجه التوفيق بينه وبين حديث عائشة- رضي الله عنها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بـ {الحمد لله رب العالمين} قلنا: حديث ابن عباس- رضي الله عنه- لايعدل بحديث عائشة- رضي الله عنها؛ لما في إسناده من الوهن، تفرد أبو عيسى بإخراجه عن أحمد بن عبدة عن المعتمر عن إسماعيل بن حماد أبي سليمان، وهو مجهول ولو ثبت فلا تنافى بين الحديثين؛ فيكون ابن عباس حدث بما علم من افتتاح النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتسمية، وعائشة حدثت بما سمعت من افتتاحه بالقراءة حالة الجهر. [572] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي زهير النميري- رضي الله عنه-: (أوجب أي: أوجب لنفسه الجنة أو المغفرة أو الإجابة فيما سأل). [573] ومنه: حديث عائشة- رضي الله عنها: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ في صلاة المغرب بسورة الأعراف). وكذلك رواه زيد بن ثابت- رضي الله عنه. ووجه هذا الحديث، أن نقول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يزل يبين للناس معالم دينهم بيانا يعرف به الأتم

والأكمل والأدنى والأفضل، ويفصل تارة بقوله وتارة بفعله ما يجوز عما لا يجوز. ولما كانت صلاة المغرب أضيق الصلوات وقتا؛ اختار فيها التجوز والتخفيف ثم رأى أن يصليها في الندرة على ما ذكر في الحديث؛ ليعرفهم أن أداء تلك الصلاة على تلك الصيغة جائز، وإن كان الفضل في التجوز فيها، ويبين لهم أن وقت المغرب يتسع لهذا القدر من القراءة. [574] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عقبة بن عامر- رضي الله عنه: (ألا أعلمك خير سورتين قرأئتا)؟ قلت: القرآن كله خير، ولا يأتي إلا بخير؛ وإنما أشار - صلى الله عليه وسلم - بقوله هذا إلى الخيرية في الحالة التي كان عليها عقبة، وذلك أنه كان في سفر وقد أظلم عليه [85/ب] الليل ورآه مفتقرا إلى تعلم ما يدفع به شر الليل وشر ما أظلم عليه الليل ولم ير له ما يستفيد به ويسهل عليه تعلمه في الزمان اليسير كهاتين لما فيهما من وجازة اللفظ والاشتمال على المعنى الجامع من سهولة حفظهما فلم يفهم هو المعنى الذي أراده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ون أن الخيرية إنما تقع على مقدار طول السورة وقصرها؛ يدل عليه قوله (فلم يرني سررت بهما جدا) ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بهما الصبح ليعرفه أن قراءتهما في الحال المنصوص عليها والزمان المشار إليه أمثل وأولى من قراءة غيرهما وبين له أنهما يسدان مسد الطوليين. [577] ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- (ما صليت وراء أحد أشبه صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فلان) قيل المعنى بفلان هو عمر بن عبد العزيز ولم يبلغني ذلك من طريق يعتمد عليه وقد ذكر مثل هذا الحديث عن أنس فذكر ابن أسلم- وهو الراوي- عن أنس أن الإمام الذي ذكره هو عمر بن عبد العزيز.

[582] ومنه: حديث عبد الله بن أبي أوفى- رضي الله عنه- (جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئا ... الحديث) معنى قوله هذا: أي لا أستطيع أن آخذ من القرآن حزبا أتقرب بتأويله إلى الله في آناء الليل وأطراف النهار ولم يرد به القدر الذي يصح به الصلاة؛ لأن من المستبعد أن يعجز العربي المتكلم بمثل هذا الكلام عن تعلم مقدار ما يصح به الصلاة كل العجز، وأنى كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرخص له في الاكتفاء بالتسبيح على الإطلاق من غير أن يبين ما له وعليه، ولو كان الأمر على ما يقتضيه ظاهر اللفظ لعلمه الآية والآيتان مكان هذا القول ولو قدر مقدر أن الرجل أدركته الفريضة

ولم يتسع له الوقت أن يتعلم ما يجزئه فأمره بذلك فالجواب أن لو كان الأمر على ذلك لأعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - بما يلزمه بعد ذلك إذ لا يجوز عليه أن يسكت عن البيان عند الحاجة إليه. [583] ومنه: حديث ابن عباس- رضي الله عنه- (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قرأ سبح اسم ربك الأعلى، قال سبحان ربي الأعلى) فحمل هذا الحديث وما يتلوه إلى آخر الباب عندنا؛ أن يكون ذلك في القراءة في غير الصلاة ومن جملة المحذور فيه أن الصلاة يحضرها الأمي والأعجمي والجاهل بأحكام الشرع، وإذا سمع أحد منهم شيئا من ذلك ظن أنه من كتاب الله أو توهم أن رد القول فيما سوى ذلك جائز في الصلاة وكفى بهذا مانعا. ولو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - فاعلا [86/أ] ذلك في الصلاة لبينة الراوي ولنقله غيره من الصحابة مع شدة حرصهم على الأخذ منه والتبليغ عنه وقد كان فيهم من هو ألزم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه وأقدم صحبة، ولم ينقل عن أحد منهم ذلك. ولو زعم زاعم أنه في الصلاة ذهابا إلى ظاهر الحديث؛؟ قلنا: يحتمل ذلك في غير الفرائض على ما في حديث حذيفة فيما حدث به عن صلاته مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالليل وما أتى على آية رحمة إلا وقف وسأل، وما أتى على آية عذاب إلا وقف وتعوذ. ولم ينقل شيء من ذلك فيما جهر به من الفرائض مع كثرة من حضرها والله أعلم.

باب الركوع

ومن باب الركوع (من الصحاح) [588] حديث أنس- رضي الله عنه- (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قال سمع الله لمن حمده قام حتى نقول قد أوهم) ينصب الفعل المستقبل بحتى وهو أكثر كلام العرب ومنهم من لا يعمل حتى إذا حسن فعل في موضع يفعل كما يحسن في هذا الحديث حتى قلنا قد أوهم، وأكثر الرواة على ما علمنا يروونه بالنصب وكان تركه من طريق المعنى أتم وأبلغ. والمعنى: حتى كنا نقول. وذلك أوهم: أي أسقط من صلاته شيئا، وقد فسره بعضهم على معنى النسيان ولم يرد أوهم بمعنى نسى إلا أن يأوله هذا القائل على النسيان من حيث إن إسقاط ركعة من الصلاة إنما يكون بعد النسيان. ولو قيل وهم لصح أن يفسر بالنسيان والرواية تأبى ذلك؛ تقول وهمت في الحساب أوهم وهما بتحريك الهاء إذا غلطت فيه وسهوت، وهمت في الشيء أهم وهما بسكون الهاء إذا ذهب وهمك إليه وأنت تريد غيره، وأوهمت الشيء إذا تركته كله يقال أوهم من الحسان مائة أي أسقط وأوهم من صلاته ركعة، والمعنى أنه كان يلبث في حال الاستواء من الركوع زمانا يظن أنه أسقط الركعة التي ركعها وعاد إلى ما كان عليه من القيام. [590] ومنه: حديث عائشة- رضي الله عنها- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (كان يقول في ركوعه وسجوده سبوح قدوس) السبوح المنزه عن كل عيب، جاء بلفظ فعول من سبحت الله تعالى أي نزهته والقدوس الطاهر من كل عيب البليغ في النزاهة عن كل ما يستقبح، وتفتح منه القاف وهو القياس في الأسماء كالسفود والكلوب ونحوهما ولم يأت من الأسماء على هذا الوزن بضم الأول إلا سبوح قدوس. وفيه (رب الملائكة والروح) قيل الروح جبريل خص بالذكر تفضيلا على سائر الملائكة وقيل الروح صنف من الملائكة. قلت ويحتمل أنه أراد به الروح الذي به قوام [86/ب] كل حي غير أنا إذا اعتبرنا النظائر من التنزيل لقوله سبحانه {يوم يقوم الروح والملائكة} وقوله {تنزل الملائكة والروح فيها} فالوجهان المبدوء بهما أشبه بنظم الكتاب وأحق بالاختيار.

[591] ومنه: حديث ابن عباس- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (ألا إني نهيت أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا ... الحديث). قلت هذا الحديث من جملة ما انتهى إلى الأمة من كلام النبوة في آخر عهده - صلى الله عليه وسلم - دون اقتراب زمان انقطاع الوحي، رواه النسائي في كتابه عن ابن عباس وفي روايته (كشف النبي - صلى الله عليه وسلم - الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر فقال: (أيها الناس إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو يرى له) ثم قال (ألا إني نهيت أن أقرأ راكعا أو ساجدا؟؟؟ الحديث) والذي يلوح لنا من هذا الحديث ويهتدى إليه من علة النهي عن القراءة في حالتي الركوع والسجود- سوى التعبد الذي هو حظ كل مكلف من الشرع- هو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نبأ الأمة عن انقطاع الوحي بوفاته وعزاهم عن مبشرات النبوة ثم نبههم على جلالة قدر ما هو تارك فيهم من الوحي المنزل- وهو الكتاب العزيز الذي لم يؤت نبي مثله- بقرينة مستكنة في صيغة النهي، وذلك أن الركوع والسجود من سمات الخضوع وأمارات التذلل من العباد لجلال وجه الله الكريم فنهى أن يقرأ الكتاب الكريم الذي عظم شأنه وارتفع محله دون هيئة موضوعة للخضوع والتذلل ليتبين لأولي العلم معنى الكتاب العزيز وينكشف لذوي البصائر حقيقة القرآن الكريم، وإنما تأخر النهي إلى آخر عهد الرسالة ليكون مورده على تمام النعمة بمواقع النجوم واستيفاء أنصبة القرب باطلاعه - صلى الله عليه وسلم - على مطالع الوحي ومقاطعه. وفيه (فقمن) أي خليق جدير، يقال أنت قمن بفتح الميم أن تفعل كذا ولا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث فإن كسرت الميم أو قلت قمين ثنيت وجمعت. [593] ومنه: حديث عبد الله بن أبي أوفى- رضي الله عنه- (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رفع رأسه من الركوع قال سمع الله لمن حمده) معنى قوله: (سمع الله لمن حمده) أي تقبل الله منه حمده وأجابه يقال اسمع دعائي أي أجب، وضع السمع موضع القبول والإجابة للاشتراك الذي بين القول والسمع والغرض من الدعاء هو القبول والإجابة. وفيه (ملء ما شيءت من شيء بعد) قوله هذا مشير إلى الاعتراف بالعجز عن أداء حق الحمد بعد استفراغ المجهود فيه فإنه - صلى الله عليه وسلم - حمده ملئ السموات والأرض [87/أ] وهذه نهاية أقدام السابقين.

قال الخطابي: هذا كلام تمثيل وتقريب والكلام لا يقدر بالمكاييل ولا تسعه الأوعية، وإنما المراد منه تكثير العدد حتى لو يقدر أن تكون تلك الكلمات أجساما تملأ الأماكن لبلغت من كثرتها ما يملأ السموات والأرضين، وذكر فيه وجهين آخرين لا يبلغان مبلغ هذا الوجه في استقامته قلت ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرف أن حمد الله أعز من أن يعتوره الحسبان أو يكشفه الزمان والمكان فأحال الأمر فيه على المشيئة وليس وراء ذلك للجهد منتهى، ولم ينته أحد من خلق الله في الحمد مبلغه ومنتهاه، ولهذه الرتبة استحق أن يسمى أحمد؛ لأنه كان أحمد ممن سواه. [594] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- (ولا ينفع ذا الجد منك الجد)

باب السجود وفضله

أي لا ينفع ذا الغنى منك غناه وإنما ينفعه العمل بطاعتك وعلى هذا فمعنى: منك: عندك، ويحتمل وجها آخر أي لا يسلمه من عذابك غناه. ومن باب السجود وفضله (من الصحاح) [601] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس- رضي الله عنه- (لا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب) وجدت كثيرا من الناس يغلطون فيه فيروونه على زنة الافتعال ووجدناه مقيدا كذلك في أكثر نسخ المصابيح وهو خطأ يخالف الرواية واللهجة العربية وإنما هو على زنة الانفعال خرج بالمصدر إلى غير لفظه أي لا تبسطهما فتنبسط انبساط الكلب. [603] ومنه: حديث ميمونة- رضي الله عنها- في حديثها (لو أن بهمة) البهمة وهي جمع بهم أولاد الضأن وجمع البهم بهام والبهم اسم للمذكر والمؤنث.

[606] ومنه: حديث عائشة- رضي الله عنها- (فقدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة من الفراش ... الحديث) تكلم أبو سليم الخطابي على هذا الحديث فأعدنا كلامه ولم نزد عليه، فقال: إنه استعاذ بالله وسأله أن يجيره برضاه من سخطه وبمعافاته من عقوبته، والرضا والسخط ضدان متقابلان وكذلك المعافاة والمؤاخذة بالعقوبة، فلما صار إلى ذكر ما لا حد له وهو الله سبحانه؛ استعاذ به منه لا غير، ومعنى ذلك الاستغفار من التقصير في بلوغ الواجب من حق عبادته والثناء عليه. وفيه (لا أحصي ثناء عليك) أي لا أطيقه ولا أبلغه. (ومن الحسان) [612] حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك

البعير)، لم ير أكثر العلماء العمل بهذا الحديث لمخالفته حديث وائل بن حجر الذي قبل هذا الحديث وهو أثبت عندهم من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه. والحديثان [87/ب] إذا اختلفا اختلاف تضاد فالسبيل أن نأخذ بالأقوى منهما مع أن جمعا من أهل الرواية رووا عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سجد بدأ بركبتيه قبل يديه والذي ذكره المؤلف من النسخ؛ فقد ذكر عن بعض العلماء، وإنما ذهب إلى ذلك؛ لحديث مصعب بن سعد بن أبي وقاص (كنا نضع اليدين قبل الركبتين فأمرنا أن نضع الركبتين قبل اليدين)؛ قلت: وهذا الحديث ليس من قبيل ما يصح الاحتجاج به في باب النسخ بل المعول في ذلك على أن حديث وائل أثبت من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- الذي أشرنا إليه لو ثبت لصح أن يجعل ناسخا لحديثه الآخر.

باب التشهد

وحديث مصعب يأوله من أبى النسخ على أنهم كانوا يضعون الأيدي قبل الركب من غير أن يأمروا به؛ فأمروا بوضع الركب قبل الأيدي، وقد يسأل عن حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- فيقال كيف نهى عن بروك البعير ثم أمر بوضع اليدين قبل الركبتين والبعير يضع يديه قبل البروك؛ فالجواب أن الركبة من الإنسان في الرجلين ومن ذوات الأربع في اليدين، فالإنسان إذا وضع ركبتيه قبل يديه كان كالبعير الذي يبرك على ركبتيه. ومن باب التشهد (من الصحاح) [617] حديث عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- (كنا إذا صلينا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - قلنا السلام على الله قبل عباده ... الحديث) السلام بمعنى السلامة، ومنه دار السلام وهما مصدران كالمقام والمقامة، والسلام اسم

من أسماء الله. قال بعض أهل العلم أي ذو السلام لأنه هو الذي سلم من كل عيب وآفة ونقص وفناء وأتى بنظائره من كلامهم كقولهم رجل مال أي ذو مال. قلت وأرى بين الصيغتين بونا وهو أن السلام صفة ذات ولا كذلك رجل مال، وأية حاجة بنا إلى هذا التقدير وقد وجدنا العرب يضعون المصادر موضع الأسماء ويصفون بها، لاسيما إذا أرادوا المبالغة فإنه هو السلام وصف مبالغة في وصف كونه سليما من النقائص أو في إعطائه السلامة. وقد اختلف الأقاويل في معنى قولنا (السلام عليك) فمن قائل إن معناه الإعلام لصاحبه بالسلامة من ناحيته والأمن من شره وغائلته، ومن قائل إن معناه الدعاء أي سلمت من المكاره، ومن قائل: إن معناه اسم السلام عليك كأنه تبرك عليه باسم الله. قلت وأمثل هذه الوجوه الثلاثة أن يحمل (88/أ) كل على معنى الدعاء؛ لأنا إذا ذكرنا السلام لم يكن لنا أن نذهب إلى أن معناه اسم الله عليك، وبالتنكير ورد التنزيل؛ قال الله سبحانه {وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا} وإذا قلنا: السلام علينا أو سلمنا به على بعض الأموات لم يكن لنا أن نذهب إلى أن المراد منه هو الإعلام بالسلامة؛ فإن ذلك إنما يصح في حق الغير من الأحياء، فالوجه فيه أن نقول هو دعاء بالسلامة لصاحبه من آفات الدنيا ومن عذاب الآخرة، وضعه الشارع موضع التحية والبشرى بالسلامة وأمارة للسلم بين الداعي والمدعو له؛ ثم إنه اختار لفظ السلام وجعله تحية لأهل ملته لما فيه من المعاني ولأنه مطابق للسلام الذي هو اسم من أسماء الله تيمنا به وتبركا. وفيه (لا تقولوا السلام على الله فإن الله هو السلام) وجه النهي بين ظاهر؛ وذلك لأن الله عز وجل هو المرجوع إليه بالمسائل المتوسل إليه بالدعاء المتعالي عن المعاني التي ذكرناها في التسليم فأنى يدعى له وهو

المدعو على الحالات، وكيف يتقرب إليه بما هو المسئول عنه على العلات، ولأي معنى يطلق عليه ما يستدعيه حاجة المفطورين وتقتضيه نقائص المربوبين. وفي قوله (فإن الله هو السلام) تعليل للنهي أي هو الذي يعطي السلامة ويقررها وإليه المرجع في ذلك فنزهوه عن نعت هو الغني عنه ونحن الفقراء إليه. وفيه (التحيات لله) قيل: أي الملك لله، والتحية: الملك، قال الشاعر: ونال التحية من نالها وإنما قيل للملك التحية؛ لأنهم كانوا يخصون الملوك بتحية مخصوصة بهم كقولهم أبيت اللعن واسلم وأنعم، فلما كان الملك موجبا للتحية المخصوصة المذكورة على نعت التعظيم سمي بها وإنما جمعت على إرادة الاستيعاب لجماع الممالك وسائر النعوت المشعرة بالعظم والجلال وليس المراد منها الألفاظ التي كانوا يخاطبون بها الملوك بعينها؛ لأن فيها ما لا يصح إطلاقا على الله كقولهم: عش ألف سنة واسلم وانعم، بل المراد منها المعاني التي ذكرنا وهذا المذكور زبدة ما أورده أصحاب الغريب في بيانه، ولا مسلك- في إيضاح معناها مع وجازة اللفظ - أقوم من هذا. وقد ذكر أبو عبيد الهروي عن ابن الأنباري وجهين آخرين لا يعتد بهما من تدبرهما: أحدهما: قوله (التحيات لله) أي البقاء لله يقال حياك الله أي أبقاك. قلت: وهذا لو كان التحية مكان التحيات، فأما تأويل التحيات على معنى البقاء [88/ب] فإن الجمع يخلو إذا عن الفائدة ثم إن بقاء الله سبحانه ديمومي سرمدي لا يعتوره الأزمنة والساعات ولا يطلق عليه الجمع والتثنية. والثاني: قوله التحيات لله أي السلام على الله، وهذا قول مردود عليه بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في أول هذا الحديث لا تقولوا السلام على الله. وفيه و (الصلوات) قيل: أي الترحم لله وفائدة الجمع في هذا التفسير أيضا غير مرعية وإنما معناها- والله أعلم- العبادات لله أي هو المستحق لسائر العبادات التي تعظم بها المعبود ويتقرب بها إليه على تنوعها وتباين أوصافها. وفيه و (الطيبات) أي الكلمات المحتويات على بيان التقديس والتنزيه وحسن الثناء على الله. وقيل الطيبات من القول مصروفات إلى الله. وفيه (السلام علينا) أي اسم الله علينا، أو السلامة وهي التخلص من الآفات وذلك أشبه؛ لأنهم كانوا يحيون به قبل الإسلام علامة للمسالمة، وكانوا يحيون أيضا بغير السلام، بل كان السلام أقل وغيره الأكثر والأغلب فلما جاء بالسلام قصروا عليه ومنعوا مما سواه من تحايا الجاهلية؛ لاشتماله على المعاني التي ذكرناها. وإيراده على صيغة التعريف أتم لفظا وأبلغ معنى، ويؤيد ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث (السلام

عليك)، (السلام علينا) ثم إن التشهد وإن اختلف في بعض ألفاظه عن جمع من الصحابة فإن أصحه إسنادا وأشهره رجالا وأكثره اختيارا من العلماء تشهد ابن مسعود- رضي الله عنه- ثم إن في سائر روايات التشهد المعتد بها السلام بالألف واللام كما في رواية عبد الله بن عباس- رضي الله عنه- وذلك في الحديث الذي يتلو هذا الحديث وهو أيضا حديث صحيح، فإن قيل كل ما ورد به التنزيل فهو على نعت التمام والبلاغة، لا ترجيح لبعضه على بعض، وقد ورد بهما التنزيل في قصة يحيى وقصة عيسى- عليهما السلام-؛ فالجواب أن الأظهر أنهما في التنزيل على معنى الإخبار أي سلمني الله من الآفات حيا وميتا، لا على معنى التحية، ويبعد أيضا أن يكون على معنى الدعاء لقوله (يوم ولد) والذي (...) إنما تحقق في الحالة المرجوة دون الواقعة الماضية ولو قدر أن يكون دعاء أو تحية لكان لنا أن نقول: قول عيسى- عليه السلام- أتم وأبلغ لاحتوائه على المعاني التي ذكرناها وخلو الآخر عن أكثرها. وبعد فهذه كلمات علمية وقعت في الذهن فأحببت إيرادها نظرا إلى اختيار أبلغ اللفظين وأتم الروايتين فمن حمله على العصبية التي ابتلي بها القاصرون من أهل المذاهب فالله بيني وبينه وهو حسبي ونعم الحسيب. [623] ومنه: (89/أ) قول ابن مسعود- رضي الله عنه- (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الركعتين الأوليين كأنه على الرضف). المراد من الركعتين الأوليين الأولى والثالثة من كل صلاة رباعية فهما الأوليان من كل ركعتين يقع الفاصل بينهما بالتشهد أي لم يكن يلبث إذا رفع رأسه من السجود في هاتين الركعتين حتى ينهض قائما وإنما ذكر ذلك الصحابي في الرباعية ما يكون ركعتين أو ثلاثا اكتفاء بذكر الأولى من كل ركعتين والرضف الحجارة المحماة يوغر بها اللبن واحدها رضفة وإنما ذكر الرضف للمبالغة في الاستيفاء ولأن أحدا لا يكاد يتلبث على الرضف.

باب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -

ومن باب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - (من الحسان) [631] حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا تجعلوا قبري عيدا ... الحديث) إذا فسرنا العيد في هذا الحديث على معنى واحد الأعياد؛ ففي الكلام حذف أي لا تجعلوا زيارة قبري عيدا أو لا تجعلوا قبري مظهر عيد، ومعناه النهي عن الاجتماع لزيارته - صلى الله عليه وسلم - اجتماعهم للعيد إذ هو يوم رخص لهم في اللهو واللعب واتخاذ الزينة، ثم إنهم يتبرزون فيه للنزهة وإظهار السرور، وقد كانت اليهود والنصارى يسلكون هذا المسلك في زيارة قبور أنبيائهم، ولم يزل بهم صنيعهم ذلك حتى ضرب الله على قلوبهم

حجاب الغفلة ورماها بسهم القسوة فاتبعوا سنن أهل الأوثان في زيارة طواغيتهم فاتخذوا قبور أنبيائهم مساجد؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - (اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ويحتمل أن المراد من العيد هو الاسم من الاعتياد؛ يقال عاده واعتاده وتعوده أي صار عادة له، والعيد ما اعتادك من هم أو غيره قال الشاعر: أمسى بأسماء هذا القلب معمودا ... إذا أقول: صحا يعتاده عيدا أي لا تجعلوه محل اعتياد تعتادونه عيدا، وإنما نهاهم عن ذلك لمعان منها ما ذكرناه في الوجه الأول، ومنها إذا فعلوا ذلك سلكوا مسلك العادة في باب العبادة، ومنها أنهم يشتغلون بذلك عما هو الأصلح لدينهم والأهم في وقتهم، ومنها أن اعتياده يفضي بالأكثرين إلى إضاعة الوقت وسوء الأدب والتعرض لما ينتهي بهم إلى حال يرتفع دونها حجاب الحشمة. ويؤيد هذه التأويلات قوله - صلى الله عليه وسلم - بعد هذا القول: (وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم) أي لا تتكلفوا المعاودة إليه فقد استغنيتم عنها بالصلاة علي. [634] ومنه: حديث أبي بن كعب- رضي الله عنه- قلت: يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك ...

(89/ب) الحديث. المعنى كم أجعل لك من دعائي الذي أدعو به لنفسي، ولم يزل يفاوضه ليوقفه على حد من ذلك، ولم ير النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحد له في ذلك حدا لئلا تلتبس الفضيلة بالفريضة أولا، ثم لا يغلق عليه باب المزيد ثانيا، فلم يزل يجعل الأمر فيه إليه مراعيا لقرينة الترغيب والحث على المزيد حتى قال: (إذا أجعل لك صلاتي كلها) التي أصلي عليك بدل ما أدعو به لنفسي (فقال: إذا يكفى همك) أي ما يهمك من أمر دينك ودنياك وذلك لأن الصلاة عليه مشتملة على ذكر الله وتعظيم الرسول - صلى الله عليه وسلم - والاشتغال بأداء حقه عن مقاصد نفسه، وإيثاره بالدعاء على نفسه، وما أعظمها من خلال جليلة الأخطار وأعمال كبيرة الآثار. وأرى هذا الحديث تابعا في المعنى لقوله - صلى الله عليه وسلم - حكاية عن ربه عز وجل: (من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين). ومن باب التشهد (من الصحاح) [637] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عائشة- رضي الله عنها- (أعوذ بك من المأثم والمغرم) والمغرم والمأثم

مصدر قولك أثم الرجل إثما ومأثما، وأكثر ما يستعمل الإثم بمعنى الذنب نفسه، فاستعاذ من المأثم الذي هو مواقعة الذنب فإنه أبلغ من الاستعاذة من نفس الذنب، والمغرم: الدين والأصل فيه اللزوم والغرامة، والمغرم والغرم كل ما يلزم الإنسان أداؤه.

باب الذكر بعد الصلاة

ومن باب الذكر بعد الصلاة (من الصحاح) [654] حديث عائشة- رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كان إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول ... الحديث) هذا القول منها إنما هو في الصلوات التي شرعت السنة بعدها دون سائر الصلوات؛ فإنه

- صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى الصبح قعد في مصلاه حتى تطلع الشمس، فتبين لنا من ذلك أن المراد من هذا القول أنه لم يكن يلبث (بين) الفريضة والنهوض إلى إقامة السنة إلا مقدار ما يقول (اللهم أنت السلام) الحديث، ومعنى أنت السلام أي السالم من المعائب والحوادث والغير والآفات وقد ذكرناه فيما مر. و (منك السلام) أي السلامة والمعنى أي منك يرجى ويستوهب ويستفاد، و (إليك يرجع)، الرجوع: العود إلى ما كان البدء، والرجع: الإعادة. والمعنى أن السلام منك وإليك بدءا وعودا في حالتي الإيجاد والإعدام. قلت: وقوله (وإليه يرجع السلام) محتمل لمعنى آخر وهو قصر السلامة على ما يصح أن يضاف إلى الله تعالى رضا فيبتغي به وجهه ويتوسل به إليه وما عدا ذلك فليس من السلامة في شيء؛ وإن عده الناس منها. وأرى قوله (منك السلام وإليك يرجع السلام) واردا مورد البيان لقوله: (أنت السلام)، وذلك أن الموصوف بالسلامة فيما يتعارفه الناس لما كان هو الذي وجد بعرضة آفة ممن يصيبه بضرر أو مما يلحقه منه ضرر- وهذا مما لا يتصور في صفات الله ثم بين أن وصفه سبحانه بالسلام لا يشبه أوصاف المخلوقين- فإنهم بصدد الافتقار، وهو المتعالي عن ذلك فهو السلام الذي يعطي السلامة ويمنعها ويبسطها ويقبضها لا تبدأ إلا منه ولا تعود إلا إليه. وفيه (تباركت ذا الجلال والإكرام) تبارك تفاعل من البركة وقد مر تفسيره من قبل والمعنى كثرت خيراتك الإلهية واتسعت. وذهب بعضهم في معناه إلى البقاء والدوام، وبعضهم إلى الجلال والعظمة، وقيل باسمه وذكره تنال البركة والزيادة ونفى المحققون أن تبارك في وصفه سبحانه على معنى الزيادة؛ لأنه ينبئ عن النقصان. وفيه (ذا الجلال والإكرام) ومعناه المستحق لأنه يهاب لسلطانه ويثنى عليه بما يليق بعلو شأنه. والجلال والجليل؛ يقال: جليل بين الجلالة. والجلال: عظم القدر، والجلال: التناهي في ذلك، والإكرام مصدر

أكرم يكرم والمعنى أن الله سبحانه يستحق أن يجل ويكرم فلا يجحد ولا يكفر به، وهو الرب الذي يستحق على العباد الإجلال والإكرام، ويحتمل أن يراد به إكرام أهل ولايته بالتوفيق لطاعته في الدنيا وإجلالهم بقبول الأعمال ورفع الدرجات في الآخرة، ويحتمل أن يكون الجلال مضافا إلى الله لمعنى الصفة والإكرام مضافا إلى العبد لمعنى الفعل منه ونظيره في التنزيل {هو أهل التقوى وأهل المغفرة} فأحد الأمرين منصرف إلى الله تعالى على معنى الصفة وهو المغفرة والآخر إلى العباد بمعنى الفعل وهو التقوى. [660] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث كعب بن عجرة- رضي الله عنه- (معقبات لا يخيب قائلهن) أي كلمات يأتي بعضها بعقب بعض، والمعقبات اللواتي يقمن عند أعجاز الإبل المعتركات على الحوض فإذا انصرفت ناقة دخلت مكانها أخرى وهي الناظرات للعقب، فكذلك هذه التسبيحات كلما مرت كلمة نابت مكانها أخرى، وقيل سمين معقبات لأنهن عدن مرة بعد مرة وكل من عمل عملا ثم عاد إليه فقد عقب. قلت: وأرى هذا القائل فسره على التعقيب الذي هو التردد في طلب الشيء والجد فيه قال لبيد- رضي الله عنه-: حتى نهجر في الرواح وهاجها ... طلب المعقب حقه المظلوم وأما ما ورد في الحديث (من عقب صلاة فهو في الصلاة) فليس من المعقبات في شيء وإنما هو الجلوس بعد أن تقضي الصلاة لدعاء أو مسألة، وذلك لأن (91/أ) المعقب يخلف بأعقاب الناس. (ومن الحسان) [662] حديث أبي أمامة- رضي الله عنه- (قيل يا رسول الله أي الدعاء أسمع .... الحديث) أي أقرب إلى الإجابة وأسرع إجابة وقد ذكرنا تفسيره فيما مر. وقوله: (جوف الليل الآخر) وردت الرواية فيها بالرفع والنصب، والرفع أكثر، فمن رفع فقد جعل

باب ما لا يجوز من العمل في الصلاة وما يباح منه

المضاف إليه مكان المضاف المحذوف في الإعراب كقوله تعالى: {واسأل القرية}، والتقدير. دعاء جوف الليل الآخر، ومن نصب؛ فعلى الظرف أي الدعاء جوف، ويجوز فيه الجر على مذهب من يرى حذف المضاف وترك المضاف إليه على إعرابه ولم ترد به الرواية، (والآخر) على الأحوال الثلاث تتبع (جوف) في إعرابه. [664] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس: قوله - صلى الله عليه وسلم - (أحب إلي أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل)؛ قلت: معرفة وجه التخصيص في الرقاب على الأربعة يقينا لا يوجد تلقيه إلا من قبل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعلينا التسليم؛ عرفنا ذلك أو لم نعرف، ويحتمل أن يكون التنصيص إنما وقع على الأربعة لانقسام العمل الموعود عليه على أقسام أربعة: ذكر الله، والقعود له، والاجتماع عليه، وحبس النفس من حين يصلي إلى أن تطلع الشمس. وأما تخصيص ولد إسماعيل بالذكر فلكونهم أفضل أصناف الأمم فإن العرب أفضل الأمم قدرا ورجاحة ووفاء وسماحة وحسبا وشجاعة وفهما وفصاحة وعفة ونزاهة وأنفة ونباهة، ثم أولاد إسماعيل أفضل العرب؛ لمكان النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم مع ما امتازوا به من كرم الأخلاق وطهارة النسب من سواهم. وقد قيل أن أولاد إسماعيل عليه السلام لم يجر عليهم الرق قبل الإسلام وذكر بعض أهل المعرفة بأنساب العرب أن ليس من قبائل العرب قبيلة إلا وهي تنتمي إلى إسماعيل من جهة ما غير أربع قبائل ثقيف وسلت وأوزاع والحضرميون. [665] ومنه حديث أنس- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (من صلى الفجر في جماعة ... الحديث) وقد ذكرنا في حديث أبي أمامة (من خرج من بيته متطهرا) ما فيه مغنى عن إعادة القول في بيان هذا الحديق لمن فهم وتدبر فليسلك فيه ذلك المسلك. ومن باب ما لا يجوز من العمل في الصلاة وما يباح منه (من الصحاح) [666] حديث معاوية بن الحكم السلمي- رضي الله عنه- (بينما أنا أصلي مع رسول الله إذ عطس

رجل من القوم ... الحديث) قوله (فرماني القوم بأبصارهم) المراد منه سرعة الالتفات والتحاق البصر به (91/ب) ونفوذه فيه؛ استعير من رمى السهم وغيره. وفيه (فبأبي هو وأمي) بأبي هو أي أفدي به المذكور وهو محله النصب بالمفعولية وهي كلمة تطلق في التوقية والتفدية عند التعظيم والتعجب. وفيه (والله ما كهرني) أي لم يزجرني، والكهر: الانتهار. وفي حرف ابن مسعود- رضي الله عنه- {فأما اليتيم فلا تكهر} وقد قال الكسائي: كهره وقهره بمعنى. وفيه (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس) فيه دليل على أن الكلام في الصلاة يقطع الصلاة وإن كان متضمنا لمصلحة من مصالح الصلاة، ويستدل به أيضا من يرى أن الكلام في الصلاة ناسيا لا يفسد الصلاة ويقول إن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمه أحكام الصلاة وبين له تحريم الكلام فيها ثم لم يأمره بإعادة الصلاة، وأجاب عنه من يرى خلافه بأن الحجة لم تكن قامت عليه بنسخ ذلك فلهذه لم يأمره بإعادتها ويحتمل أنه أمر بالإعادة ولم يذكره الناقل. وفيه (ومنا رجال يتطيرون) يقال تطير فلان واطير وأصله التفاؤل بالطير ثم اتسع فيه فاستعمل في كل ما يتفاءل به ويتشاءم وكان من مذهب أهل الجاهلية التطير بالسوانح والبوارح من الطير والظباء ونحو ذلك، وكانوا يتطيرون بأصوات الطير وكان ذلك يصدهم عن المسير ويردهم عن مقاصدهم، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (ذلك شيء يجدونه في أنفسهم) أي ليس لها تأثير في البدن من نفع أو ضر وإنما هو وهم ينشأ عن نفوسهم. وقوله (فلا يصدنهم) أي لا يصدنهم التطير عما يتوجهون إليه من المقاصد ويحتمل وجها آخر وهو أن يراد به: فلا يصدنهم التطير عن سواء السبيل والصراط المستقيم. وفيه (ومنا رجال يخطون الخط) الذي كان أهل الجاهلية يخطون فينظرون فيه ويقولون به وأن يأتي

أحدهم العراف في حاجة فيعطيه حلوانا فيخط في الرمل أو في أرض رخوة خطوطا متتابعة على استعجال لئلا يلحقها العدد، وغلام له بين يديه يقول على وجه التفاؤل: ابني عيان أسرعا البيان. ثم إن العراف يمحو على مهل خطين خطين، فإن بقى زوج فذلك عنده علامة النجح وإن بقى فرد فذلك علامة الخيبة واليأس. هذا هوا المشهور من خط العرافة من العرب وهذا النوع، لا يدخل له في جملة العلوم المرئية وإنما هو من باب الكهانة التي ورد الشرع ببطلانها وأبى أن يكون بها عبرة. وأما قول من يدعي أن السائل (92/أ) أشار بالخط علم الدجل الذي يتعاطاه العرافون فإن مبنى قوله على الظن والتخمين، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبين صفة خط ذلك النبي حتى يتكلم هذا الزاعم في المناسبة بين الخطين، وقد ذكر أبو سليمان الخطابي- شكر الله سعيه- في بيان قوله - صلى الله عليه وسلم - (فمن وافق خطه فذاك) يشبه أن يكون أرد به الزجر عنه وترك التعاطي له إذ كانوا لا يصادفون معنى خط ذلك النبي ولا يهتدون إلى صفته؛ لأن خطه كان علما لنبوته؛ وقد انقطعت نبوته فذهب معالمها. قلت: وقوله - صلى الله عليه وسلم - (فمن وافق خطه) هو بنصب الطاء فيما أعلمه من طريق الرواية، والمعنى فمن وافق فيما يخطه خط ذلك النبي فذاك يصيب، وفي بعض الروايات فمن وافق خطه علم، ورفع الطاء من خطه محتمل ولا أحققه رواية فإن وردت به الرواية فالتقدير فمن وافق خطه خط ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - أصاب وعرف، ويحتمل على الرفع وجها آخر وهو أن يراد به تفخيم ما كان أوتي ذلك النبي من ذلك وتوهين ما سواه، والمعنى فمن وافق خطه الصواب فذاك، وذلك مثل قول القائل: إذا حدث بأناس يزعمون تسخير الجن واستخدامه. كان سليمان- عليه السلام- يستخدمهم ويستعملهم فمن أمر حكمهم وملك أمرهم فذاك؛ يريد به تفخيم أمره وتقريره واستقصار ما يدعيه غيره، فإن قيل: فإذا كان الأمر على ما ذكرت فلما أبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجواب وأعرض عن الرد عليه بتصريح المقال وأضرب عن الإبانة ولم يبين الحكم فيه كما بين في الطيرة والكهانة؛ قلنا: إن الطيرة والكهانة لم يزالا من شأن المشعوذين وولاة الشياطين فأنكرهما كل الإنكار، ولما انتهى الأمر إلى الخط لم يقابل قول القائل بصريح الإنكار لما بين الخطين من الاشتراك في التسمية فذكر أن الحق من هذا الجنس [ما أدى من ذلك النبي مشيرا إلى ما سواه باطل لا طائل تحته]. [669] ومنه: حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- (نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الخصر في الصلاة) فسر الخصر

في هذا الحديث بوضع اليد على الخاصرة وقيل أنه من صنيع اليهود فنهى عنه وذكر أن إبليس أهبط إلى الأرض وهو في تلك الهيئة. والخصر لم يفسر على هذا الوجه في شيء من كتب اللغة ولم أطلع عليه إلى الآن في شيء مما يعتمد عليه من كتب أصحاب الغريب والحديث على هذا الوجه أخرجه البخاري في جامعه غير أنه لم يذكر فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما رواه عن أبي هريرة وسياق حديثه (نهى عن الخصر في الصلاة) وهذا الحديث على هذا الوجه لم نصادفه في شيء من كتب الأحكام إلا في كتاب البخاري ثم إنه روى هذا الحديث في كتابه من طريق آخر عن أبي هريرة- رضي الله عنه- ولفظه (نهى أن يصلي الرجل مختصرا) ثم ذكر (92/ب) بعده أن أبا هريرة يرويه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ورواه مسلم أيضا عن أبي هريرة- رضي الله عنه- ولفظه: عن أبي هريرة (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يصلي الرجل مختصرا) وكذلك رواه الدارمي والترمذي والنسائي في جوامعهم، ورواه أبو داود عن أبي هريرة أنه قال: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الاختصار في الصلاة)، فتبين لنا من هذه الأحاديث أن المعتبر من اللفظين هو الاختصار لا الخصر ولعل بعض الرواة ظن الخصر يرد بمعنى الاختصار. والاختصار هو وضع اليد على الخاصرة، وقد قيل: هو اتخاذ المخصرة في الصلاة متكئا عليه، وهذا المعنى وإن كانت اللغة العربية تقتضيه، فإن التفسير الذي اشتهر فيه عن الصحابة ومن بعدهم من أهل العلم يحكم بخلاف ذلك، وقد ذكر النسائي في كتابه بعد- حديث النهي عن الاختصار- حديثا يبين معنى الاختصار، وهو: ما رواه بإسناده عن زياد بن صبح، قال: صليت إلى جنب ابن عمر، فوضعت يدي على خصري، فقال لي هكذا ضربة بيده، فلما صليت، قلت لرجل: من هذا؟ قال: عبد الله بن عمر. قلت: يا أبا عبد الرحمن، ما رابك مني؟ قال: هذا الصلب، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهانا عنه). قلت: وإنما سمي صلبا لأنه شبه الصلب، وذلك أن المصلي إذا وضع يديه على خاصرتيه صار كالمصلوب، الذي يمد باعه على الجذع. [672] ومنه: حديث أبي قتادة الأنصاري- رضي الله عنه- (رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤم الناس، وأمامة بنت أبي العاص على عاتقه ... الحديث) بين أبو سليمان الخطابي وجه هذا الحديث، وحاصل كلامه: أنه لا يكاد يتوهم عليه أنه كان يتعمد لحملها ووضعها وإمساكها في الصلاة تارة بعد أخرى؛ لأن العمل في ذلك قد يكثر فيتكرر، والمصلي يشتغل بذلك عن صلاته، ثم ليس فيه شيء سوى قضائها وطرا لا طائل تحته، ولا فائدة فيه، فالتأويل: أن الصبية لطول ما ألفته واعتادته في ملابسته في غير الصلاة، كانت تتعلق به حتى تلابسه وهو في الصلاة، فلا يدفعها عن نفسه، فإذا أراد أن يسجد وهي على عاتقه وضعها: بأن يرسلها إلى الأرض، حتى يفرغ من سجوده، وإذا أراد القيام عادت إلى مثل حالها الأولى، فصارت

موضوعة في حال انحطاطه، مرفوعة في حال استوائه، فأضيف الوضع والرفع إليه لتعلقها بفعله الصادر عنه. [673] ومنه: حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا تثاءب أحدكم في الصلاة ... الحديث) يقول: تثاءبت، على بناء: تفاعلت، إذا فتحت فاك وتمطيت، لكسل أو فترة، والاسم منه الثؤباء، ويقال (93/أ) أيضا: تثأبت، على بناء: تفعلت، ولا جائز أن يقول: تثاوبت؛ قلت وإنما كره ذلك لأنه دأب من يتسع في المطاعم، حتى تكتظ معدته، فتتملكه الغفلة، ويستحوذ عليه الشيطان (فليكظم ما استطاع) أمر بالمدافعة، لئلا يسترسل فيه فيتعود، فيتمكن منه الشيطان، وهذا يعني الدخول، إذ المتمكن من الشيء هو الداخل فيه، أو كالداخل فيه. [674] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-: (إن عفريتا من الجن تفلت علي

البارحة) العفريت من الجن: هو العارم الخبيث، ويقال للرجل الخبيث الداهي: العفر، والعفر: الخنزير الذكر، سمي به لخبثه، والعفريت من كل شيء: المبالغ، يقال: عفريت نفريت، ويستعار ذلك للإنسان استعارة الشيطان له، والتفلت والإفلات والانفلات: التخلص والتملس من الشيء فلتة وفجأة من غير تمكن. ومنه الحديث: تدارسوا القرآن، فلهو أشد تفلتا من اللقاح من عقلها)، والمعنى: يعرض لي بغتة يخلبني في صلاتي. وفيه: (فرددته خاسئا) أي: صاغرا مهينا، من قولهم: خسأت الكلب فخسأ، أي: زجرته مستهينا به فانزجر، وذلك إذا قيل له: اخسأ. (ومن الحسان) [684] حديث دينار الأنصاري- رضي الله عنه- رفعه قال: (العطاس والنعاس والتثاؤب في الصلاة

والحيض والقيء والرعاف من الشيطان) قلت: هذه خصال طبيعية ترد على الإنسان من غير اختيار، ومنها ما لا مدفع له، ومنها ما إذا غلب على الإنسان لم يستطع مقاومته، ثم إن الكسل بإيجاد من الله سبحانه الذي خلق كل شيء، فأضافها إلى الشيطان من حيث إنه يرتضيها ويستحسنها، ويجد بها إلى السبيل إلى ما يبتغيه من قطع الصلاة على المصلي، أو قطع القراءة، والحيلولة بينه وبين ما ندب إليه من الحضور بين يدي الله، والاستغراق في لذة المناجاة، والله أعلم. ودينار راوي هذا الحديث هو: أبو ثابت جد عدي بن ثابت، وقد انفرد بالرواية عنه ابنه ثابت، وقد روى عنه حديثين لا غير، هذا الحديث وهو حديث لا يكاد يصح إسناده، وحديثا آخر في المستحاضة وقد مر في باب الاستحاضة، وهو أيضا حديث يضعفه علماء النقل. [685] ومنه حديث ابن الشخير- رضي الله عنه- (ولجوفه أزيز كأزيز المرجل) أزيز المرجل: صوت

باب السهو

غليانه، ومنه الأز، وهو: الإزعاج والتهييج والإغراء، وفي معناه قوله سبحانه: {تؤزهم أزا} أي: تهيجهم. تهيج القدر: إذا اشتد غليانها. [692] ومنه: حديث عائشة- رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا أحدث أحدكم في صلاته، فليأخذ بأنفه، ثم لينصرف) قلت: إنما أمره أن يأخذ بأنفه، ليخيل إلى غيره أنه مرعوف، وهي من المعاريض الفعلية، رخص له فيها وهدى إليها، لئلا يسول له الشيطان أن يمضي في صلاته، استحياء من الناس، وفيه أيضا تنبيه على إخفاء الحدث في تلك الحالة. ومن باب السهو (من الصحاح) [697] حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- (صلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة العصر، فسلم من

الركعتين ...) الحديث وفي إحدى طرق الصحاح: (صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ...) فيحتمل أن أبا هريرة- رضي الله عنه- حدث على كلتا الصيغتين، فقوله: (صلى بنا) أي: أمنا، يدخل فيه التعدية، فتفيد معنى قولنا: أمنا فجعلنا من المؤتمين بصلاته، وقوله: (صلى لنا) يصح أن يكون أقام اللام مقام الباء، ومن اللام الجارة صرب يورد أيضا لتعدية الفعل، ويصح أن يراد به: صلى من أجلنا لما يعود إليهم من فائدة الجماعة، ويصيبهم من البركة بسبب الاقتداء به، فحدث به تارة بالباء، وأخرى باللام، ويحتمل أن يكون من بعض الرواة، لتقارب أحدهما عن الآخر. وبعد، فإنا نشرع إلى بيان ما يشكل من هذا الحديث فنقول: روي هذا الحديث عن أبي هريرة بطرق شتى، وألفاظ مختلفة، قد وجدتها متدانية المعاني إلا ما يختلف من ألفاظه في الصلاة التي سها فيها، فإن ابن سيرين رواه عن أبي هريرة، وفي روايته: (صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحدى صلاتي العشي: إما الظهر وإما العصر) هذا لفظ كتاب مسلم، ورواه البخاري أيضا عن ابن سيرين عن أبي هريرة، ولفظه: (صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إحدى صلاتي العشي- وأكبر ظني العصر- ركعتين) ورواه أيضا عن أبي سلمة عن أبي هريرة

قال: (صلى بنا النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر أو العصر) ورواه مسلم بإسناده عن أبي سفيان مولى ابن أبي يعمد أنه قال: سمعت أبا هريرة يقول (صلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة العصر) ورواه أيضا بإسناده عن أبي سلمة قال: حدثنا أبو هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى ركعتين من صلاة الظهر، ثم سلم، فأتاه رجل من بني سليم ... الحديث) ورواه من طريق آخر عن أبي هريرة قال: (بينا أنا أصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الظهر، سلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الركعتين، فقام رجل من بني سليم ...) واقتص الحديث. ورواه أيضا بإسناده عن عمران بن حصين- رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى العصر، فسلم في ثلاث ركعات، ثم دخل منزله (94/أ) فقام إليه رجل يقال له: الخرباق، فكان في يده طول، فقال: يا رسول الله، فذكر له صنيعه، وخرج غضبانا يجر رداءه حتى انتهى إلى الناس فقال: أصدق هذا؟ قالوا: نعم فصلى ركعة ثم سلم، ثم سجد سجدتين، ثم سلم). قلت: ولم نجد خلافا عن أهل العلم بالرواية أن كلا الحديثين- أعني حديث عمران وحديث أبي هريرة- في قضية واحدة، والحديث يقال له: حديث ذي اليدين، وهو خرباق السلمي، وإنما قيل له: ذو اليدين لطول فيهما، وربما قالوا: ذو الشمالين، ولعلهم أشاروا بذلك إلى ضعفهما، أو إلى قلة غنائهما، ويقال له: الأضبط، وهو الذي يعمل بيديه، ويكنى: أبا العريان، وإذ قد علمنا أن حديث عمران بن حصين وأبي هريرة هو حديث ذي اليدين، حكمنا من طريق الترجيح بأن الصلاة التي سها فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - في إحدى صلاتي العشي شاكا فيها. وقوله: (وأكبر ظني العصر) يؤيد ما ذهبنا إليه، ثم إنه روى عن خرباق السلمي إنها العصر. وإذ قد تبين لنا أن حديث عمران بن حصين أثبت وأسلم من الشك، وجدنا ما روى عنه أنه سلم في ثلاث ركعات، أولى بالتقديم، فإن قيل: فما وجه التوفيق بين الاختلافات التي في حديث أبي هريرة، قلنا: وجه ذلك أن أبا هريرة كان شاكا في أول الأمر، ثم سمعه عمن شهد معه في تلك الصلاة، أو تذكر بعد أن نسى، فحدث به على القطع أنه العصر، أو كان متيقنا ثم اعترض له الشك بآخره: فقال: الظهر أو العصر. وأما رواية أبي سلمة عنه أنه الظهر من غير تردد، فوجه ذلك أنه روى: الظهر أو العصر، فسقط العصر عن بعض الرواة فلم يثبتها، والدليل على ذلك روايته عنه: (صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر أو العصر) على ما روي عن غيره، ثم إنا فتشنا عن أقاويل أهل العلم في حكم هذا الحديث، فوجدنا أبا جعفر الطحاوي وأبا سليمان الخطابي- رحمة الله عليهما- قد نقرا عنه، وأشبعا القول فيه، وقد جد كل واحد منهما في تأويله على مصداق مذهبه ورفاق رأيه، ورأيت أن أحكي عن كل واحد منهما زبدة قوله. فأما أبو جعفر، فإنه ذهب إلى أن ذلك كان قبل نسخ الكلام في الصلاة، قال: ومما يدل على نسخه

إجماع الأمة أن الإمام إذا سها، لم يكن لمن خلفه أن يكلمه، بل يسبح له، بتعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - فدل تعليمه بالتسبيح على أن الكلام منسوخ، وفي حديث عمران وأبي هريرة ما يدل على أن ذلك كان قبل استقرار الأحكام؛ لأن أبا هريرة قال: سلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم مضى إلى خشبة في المسجد، وقال عمران: مضى إلى حجرته، فدل هذا على أنه صرف وجهه عن القبلة، وبعد استقرار الأحكام لم يجز لأحد أن يفعل مثل ذلك في صلاته، ثم قال: فإن قيل: كان فعلهم هذا سهوا منهم، قلنا: فيجب إذا طعم ناسيا أو شرب أو باع أو اشترى في الصلاة ساهيا أن لا يخرجه ذلك من الصلاة، لأن ذلك فعل، والفعل كله في الصلاة إذا لم يكن من أفعالها كان مفسدا لها، إلا ما خص بدليل، قال: ومما يدل على أن ذلك كان قبل نسخ الكلام، أن القوم تكلموا من غير سهو، فقالوا: صدق يا رسول الله، صليت ركعتين، ثم قال: فإن قيل: كيف يجوز أن يقال: هذا منسوخ وأبو هريرة قد حضر تلك الصلاة؛ وهو قد صحب رسول الله ثلاثا من أواخر أعوام الهجرة، ونسخ الكلام كان بمكة، قلنا: بماذا عرفتم أن نسخ الكلام كان بمكة، وزيد بن أرقم الأنصاري يقول: كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت {وقوموا لله قانتين} فأمرنا بالسكوت، وصحبة زيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما كانت بالمدينة، ولم يحضر أبو هريرة تلك الصلاة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن ذا اليدين استشهد يوم بدر، ذكر ذلك محمد بن إسحق، وقد روي عن ابن عمر- رضي الله عنهما- ما يوافق ذلك، وهو أنه قال، لما ذكر له حديث ذي اليدين فقال: كان إسلام أبي هريرة بعد ما قتل ذو اليدين. وقال الطحاوي: إنما قول أبي هريرة: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني بالمسلمين، وهذا جائز في اللغة، وقد روي عن النزال بن سبرة، أنه قال: قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إنا وإياكم كنا ندعى بني عبد مناف ... الحديث) يريد النزال بقوله: قال لنا، أي: قال لقومنا؛ لأنه لم ير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستشهد الطحاوي بأمثال ذلك من الكلام، وأما أبو سليمان الخطابي، فإنه قال في كتاب (معالم السنن): أما نسخ الكلام في الصلاة فإنه كان بمكة، ولا موضع له هاهنا. قلت: وحديث زيد بن أرقم الذي احتج به أبو جعفر يحكم بخلاف ذلك، وهو حديث صحيح، وقد استدرك أبو سليمان قوله ذلك في كتاب الأعلام، فقال: إن نسخ الكلام في الصلاة إنما وقع بعد الهجرة بمدة يسيرة، وأبو هريرة راوي هذا الحديث متأخر الإسلام، وقد رواه أيضا عمران بن حصين وهو متأخر الإسلام أيضا. قلت: وقد تبين من حديث زيد بن أرقم الأنصاري الخزرجي أن نسخ الكلام كان بعد الهجرة، غير أنا (95/أ) لم نطلع من حديثه على زمان معلوم، ولو نظرنا إلى حداثة سنه، رأينا أن زمان النسخ كان متأخرًا

جدا؛ لأن زيدا كان في أول زمان الهجرة صبيا، وقد قيل: إن أول مشاهده المريسيع، وهي في السنة الخامسة، وفيها قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (وفت أذنك يا غلام) وقيل: كان ذلك في غزوة تبوك، فلعله شهد المريسيع، تبعا لغيره؛ لأن علماء النقل ذكروا أن زيدا كان يتيما في حجر عبد الله بن رواحة، فخرج به معه إلى مؤتة يحمله على حقيبة رحله، وغزوة مؤتة إنما كانت سنة ثمان من الهجرة، وروى عن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- أنه قال: (كنا نرد السلام في الصلاة حتى نهينا عن ذلك) وأبو سعيد أيضا كان في أول الهجرة صبيا، وأول مشاهده الخندق، وهي بعد المريسيع، غير أنا عرفنا بحديث ابن مسعود: (كنا نتكلم في الصلاة، ونأمر بالحاجة، فقدمت على النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحبشة وهو يصلي، فسلمت عليه، فلم يرد علي، فأخذني ما قدم وما حدث، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته قلت: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، نزل في شيء؟ قال: لا، ولكن الله عز وجل يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة) فعلمنا بحديث زيد وأبي سعيد أن النسخ كان بعد الهجرة، وعلمنا بحديث ابن مسعود أنه كان قبل بدر؛ لأن ابن مسعود قدم من الحبشة، ثم شهد بدرا، وهذا وقد ذكر غير واحد من علماء النقل وأصحاب السير أن إسلام عمران وأبي هريرة كان عام خيبر وذلك في السنة السابعة من الهجرة، وذكر الخطابي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان عنده أنه قد أكمل صلاته، فتكلم على أنه خارج من الصلاة، وأما ذو اليدين، ومراجعته النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمره متأول على أن الزمان كان زمان نسخ وتبديل وزيادة في الصلاة ونقصان، فجرى الكلام منه في حال قد يتوهم فيها أنه خارج عن الصلاة، وأما كلام أبي بكر وعمر ومن معهما، ففي بعض طرق هذا الحديث أنهم أومأوا أي: نعم، فدل ذلك على أن رواية من روى أنهم قالوا على المجاز والتوسعة، قلت: وفي هذا التأويل نظر لأن في بعض طرق هذا الحديث: قالوا: نعم يا رسول الله وقد رواه النسائي في كتابه بإسناده عن أبي هريرة- رضي الله عنه- وفي حديثه: (ما يقول ذو اليدين؟ قالوا: صدق يا نبي الله)، فكيف نصرف معنى القول إلى المجاز، مع ثبوت ما ذكرناه، وأما رواية [95/ب] من روى أنهم أومأوا أي: نعم، فإنها لا تدفع ما تقدم من الرواية؛ لاحتمال أن يكون الإيماء مستندا إلى فعل بعض من حضر فأومى إليه وأجابه آخرون بصريح القول، مع أن تلك الرواية لم تبلغ من الاشتهار والاعتبار إلى حيث تعارض وتدافع بها الروايات التي اشتهرت واتضحت، وقال الخطابي: ولو صح أنهما قالوا بألسنتهم، لم يكن ذلك ضائرا؛ لأنه لم ينسخ من الكلام ما كان جوابا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستدل بحديث أبي سعيد ابن المعلى، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر عليه وهو يصلي فدعاه فلم يجبه، ثم اعتذر إليه، قال: كنت أصلي، فقال: (ألم تسمع الله يقول: {استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم}. وفي قوله هذا أيضا نظر لأن تحريم الكلام في الصلاة أمر مجمع عليه، وهذا الحديث يعني حديث ابن المعلى محتمل لوجوه، فلا سبيل

إلى صرفه إلى أحد الوجوه إلا بكتاب أو سنة أو إجماع، ولم يذكر عن أحد من الصحابة القول باستباحة الكلام على الوجه الذي يدعيه، وأقصى ما يذهب الذاهب إلى حديث أبي سعيد، أن يجعل إجابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أولا له من إتمام الصلاة، ولا يلزم منه أن يقال: إن كلامه لم يكن ليخرجه من صلاته، فإن ذلك غير مفهوم عن الحديث، ثم إن الصلاة التي كان فيها، لم يذكر: أفريضة كانت أم نافلة، فربما يختلف الحكم باختلافها، والأغلب والأظهر أنها كانت نافلة، ثم إن حديث أبي سعيد إنما كان يصح الاستدلال له به مع هذه الاحتمالات: أن لو ثبت أن حديثه سبق قصة ذي اليدين، ولا سبيل إلى إثبات ذلك، كيف وهو مع هذا التأويل يدي أن قضية ذي اليدين كانت بعد نسخ الكلام بسنتين، وأبو سعيد المعلى مذكور في طبقته من أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو لم يبلغ الحلم، كالنعمان بن بشير، ومحمود بن الربيع ونظرائهما، فأنى يستقيم استثناء جواب الرسول - صلى الله عليه وسلم - من جملة المنسوخ بحديثه؛ بعد ثبوت أن نسخ الكلام في الصلاة كان قبل بدر، على ما ذكرناه من حديث ابن مسعود. هذا وفي بعض ما أتى به أبو جعفر أيضا نظر، وهو تأويله قول أبي هريرة: صلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو صلى بنا) يعني: بالمسلمين، فالقول لا يكاد يستقيم في هذا الموضع والنظير الذي ذكره من قول النزال لا يعلم (96/أ) من حيث اللهجة العربية؛ لأن المفهوم عندهم من قولنا: صلى فلان، أي: أمنا ودخلنا معه في صلاته، وذلك بإزاء قول القائل: صليت خلف فلان، ولا يصح هذا القول ممن لم يكن داخلا في صلاته، كيف وفي بعض طرق هذا الحديث عن أبي هريرة- رضي الله عنه- (بينا أنا أصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وأما قول نزال: قال لنا، أي: لقومنا، فإنه قول قويم، وذلك أن قوله: (إنا وإياكم ندعى بني عبد مناف) منبئ عن شرف وفضيلة وخصوصية يشمل القوم كلهم فيشتركون فيه، ونزال من جملتهم: فقوله: قال لنا، أي: فينا ولأجلنا، ولو قلنا نحن: قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (صلوا خمسكم) لصح ذلك، لاشتراكنا مع السامعين منه في الأمر والخطاب، ولو قلنا: صلى بنا صح، ورحم الله أبا جعفر، فإنه جاد مجد في التوفيق بين الأحاديث إذا أشكلت لاختلاف ما، ونفى التضاد عنها، وهو أكبر أهل المعاني إصابة في هذا الباب، وإنما حمله على هذا التعمق شدة المحافظة على ما نقل من الصحابة ومن بعدهم من السلف وبقى الإحالة عن أقوالهم، فنظر في هذا الحديث والروايات المختلفة فيه والأقاويل المتضادة، فلم ير التخلص منها مساغا بحيث لا يفضي به التأويل إلى رد شيء من السنة إلا من هذا الوجه، قلت: والحديث الذي رواه أبو جعفر عن ابن عمر، أن إسلام أبي هريرة كان بعد ما قتل ذو اليدين حديث لين عند أهل النقل، لأن مداره على عبد الله بن العمري، وهو ضعيف عندهم، وعبد الله العمري هو: عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، لينه عبد الرحمن، ووثقه أبو جعفر على أصله في عدالة الرجل المسلم، ولما يؤيده من قول الزهري، فإنه كان يقول: إن ذا اليدين قتل يوم بدر، قال الطحاوي: وممن روى عنه ذلك الزهري مع حفظه وجلالة قدره في علماء الحديث وعلمه بالمغازي، قلت: وأكثر أهل النقل على أن ذا اليدين عاش حتى روى عنه المتأخرون من التابعين، فأما الذي قتل ببدر، فهو ذو الشمالين، رجل من خزاعة، وأصحاب المقالة الأولى يزعمون أن ذا اليدين كان يدعى ذا الشمالين، فسماه (96/ب). النبي - صلى الله عليه وسلم - ذا اليدين ومما يدل على ذلك حديث

أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى يوما فسلم في ركعتين، ثم انصرف فأدركه ذو الشمالين، فقال يا رسول الله، أنقصت الصلاة أم نسيت؟ فقال: لم تنقص ولم أنس. فقال: والذي بعثك بالحق، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أصدق ذو اليدين؟ قالوا: نعم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فأتم الصلاة والحديث على هذا السياق رواه الشافعي في كتابه. قلت: ومما اختلف عن أبي هريرة في هذا الحديث أمر السجدتين فروى عنه أنه قال: لم يسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ قبل السلام ولا بعده، رواه النسائي في كتابه ورواه أيضا بإسناده عن ابن سيرين عن أبي هريرة بمثله، وروى النسائي أيضا بإسناده عن ابن سيرين عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد في وهمه بعد التسليم. قلت: وحديث ابن سيرين هذا لا يناقض حديثه الأول لاحتمال أن تكون الصلاة التي ذكر أنه سجد فيها غير الصلاة التي صلاها يوم ذي اليدين، ومع هذه الاختلافات التي رويناها عن كتب أهل العلم بالرواية فلا سبيل إلى بيان هذا الحديث وتقرير الحكم فيه على وجه يخلو عن المناقضة إلا من أحد الوجهين: أحدهما: أن يجعل على أنه كان قبل ثبوت الأحكام واستقرار الشرائع على ما ذكره أبو جعفر، ولا يستقيم هذا القول إلا أن يقدر أن عمران بن حصين وأبا هريرة سمعاه عمن شهدها وليس في حديث عمران ما ينفي هذا التأويل، وفي بعض طرق حديث أبي هريرة ما ينفيه، وقد ذكرنا مع هذه الاختلافات التي ذكرناها في حديث أبي هريرة لو ادعى مؤول أن العبرة من تلك الروايات بما يوافق رواية غيره ويمكن معه التوفيق بينه وبين نظائره من الأخبار، وأن الراوي عن أبي هريرة أو الراوي عن غيره من رواة الحديث ربما سمع (صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) فوهم فيه فرواه (صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) والذي يرويه (بينا أنا أصلي) فلعله سمع. (صلى بنا) فرواه كذلك على المعنى فلا حرج عليه في دعواه. وإذا كان الزهري مع جودة حفظه وغزارة علمه ومع اقتراب زمانه من زمان الوحي يقول: إن قصة ذي اليدين كان قبل بدر ثم أحكمت الأمور بعد ذلك فلا حرج على من بعده بقرون أن يبعد مرماه في التأويل، ليجمع بين هذه الأقاويل. والوجه الآخر: أن ندع التعرض لتاريخ وفاة ذي اليدين للاختلاف الذي فيه، والتعليل بالزمان الذي شرع فيه نسخ الكلام لمدافعة ذلك إعلام الراويين ونقول هذا الحديث يشتمل على أحكام خصت بمن شهد تلك الصلاة فلم تقم الحجة عليهم يومئذ لأنها لم تكن شرعت قبل ذلك فعذروا في مبدأ أمر السهو فيما فعلوا وقالوا. أو كان الحكم فيما امتحنوا به يومئذ على ذلك ثم تغيرت أحكام تلك الحادثة بعد ذلك وهذا الوجه أسلم من النواقض. فإن قيل أو ليس السبيل الذي سلكه أبو سليمان في تأويله أقوم وأمثل؟!. قلنا رحم الله أبا سليمان فإنه وإن كان آية في جودة البيان وحسن التقرير، فقد ترك الحجة في تأويله هذا باقية عليه، وهو أنه أطلق القول بصحة ألفاظ هذا الحديث على اختلافها ثم امتنع عن العمل بما يقتضيه سائرها؛ فمنها قول الراوي وخرجت السرعان من أبواب المسجد ومنها قوله: فانطلق إلى خشبة معروضة في المسجد، ومنها قوله فدخل يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - منزله، وفي رواية (فدخل حجرته)، وكل ذلك مما لا يرى به العمل في ضوء السهو فينفصم إذا عروة تأويله إذ ليس لأحد أن يعمل في حديث واحد ببعضه ثم يخالف بعضه الآخر.

سجود القرآن

باب سجود القرآن (من الصحاح) [705] حديث ومن ابن عباس- رضي الله عنهما- (ليس من عزائم السجود) العزم والعزيمة: عقد القلب على إمضاء الأمر، عزم عليه واعتزمه. والعزيمة والصريمة: هي الأمر الواجب الحتم ومنه العزائم لأنه يحتم فيها على الجن والهوام أن لا تضر. وفي حديث ابن مسعود (أن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه)، يعني بعزائمه: فرائضه التي حتم على العباد وجوبها، وفي الحديث (عزمة من عزمات الله تعالى) أي حق من حقوق الله وواجب مما أوجبه ومثله: (الجمعة عزمة) ومنه (نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا) أي: لم يوجب، وفي حديث قيام رمضان (من غير عزيمة) أي: من غير إيجاب وإلزام، وعزائم السجود: ما يحقق الإتيان به على التالي؛ بفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - والتوقيف منه والمواظبة عليه. فأما من يذهب إلى وجوبها فلا حاجة به إلى التأويل، وأما من يذهب إلى أنها على الاستحباب فإنه يقول: عزائم السجود ما تحقق لسنة من قولهم عزم الأمر أي جد وتحقق، وقيل في قوله تعالى: {فإذا عزم الأمر} أي: حقت الحقائق، وكان ابن عباس يذهب في العزائم إلى معنى الوجوب أو التأكيد في حق السنة، وعلى أحد هذين المعنيين يحمل حديث علي- رضي الله عنه- أن عزائم السجود: آلم تنزيل، والنجم، واقرأ باسم ربك، وإنما أولنا حديث ابن

عباس كذلك لأنه لو أراد أنها ليست بسنة لكان قد ناقض في كلامه لقوله (وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسجد فيها وقراءته الآية {الذين هدى الله فبهداهم اقتده} وقوله- (كان داود ممن أمر نبيكم أن يقتدي به فسجدها داود؛ فسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) - يدل على أنه أراد بعزائم السجود ما وجب منها والمعنى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يؤمر بها ولم يأته فيها توقيف من ربه وإنما أمر أن نقتدي بمن سمي له في الآيات التي بعد قوله {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه} إلى قوله {فبهداهم اقتده} فلما ذكر له سجد داود سجدها استحبابا لموافقته وايثارا لهديه. (ومن الحسان) [707] حديث عقبة بن عامر: (قلت: يا رسول الله! فضلت سورة الحج بأن فيها سجدتين ...) الحديث؛ قوله في هذا الحديث: (فلا يقرأها) كذا وجدناه في نسخ المصابيح، بإعادة الضمير إلى السورة خلط والصواب في الرواية يقرأهما بإعادة الضمير إلى السجدتين، وعلى هذا الوجه روي في كتاب أبي داود وأبي عيسى وغيرهما من كتب أصحاب الحديث. ووجه النهي عن قراءتهما- والله أعلم- أن السجدة شرعت في حق التالي بتلاوته، والإتيان بها من تمام التلاوة وحقها، فإذا كانت بصدد التضييع فالأولى به تركها؛ لأنها لا تخلو إما أن تكون واجبة فيتأثم بتركها، أو سنة فيستضر بالتهاون بها. أما المعنى قد بيناه، وأما الحديث ففيه كلام، وليس هو من جملة الأحاديث التي يصح الاحتجاج بها، لضعف إسناده، فإنه مخرج عن عبد الله بن لهيعة قاضي مصر وهو ضعيف عندهم وقد روي عن بعض الصحابة أنهم رأوا في الحج سجدتين، وقد روي في حديث عمرو بن العاص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أقرأه خمس عشرة سجدة، وهو حديث غريب. [711] ومنه: حديث ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحول إلى المدينة.

باب أوقات النهي

قلت: وهذا أيضا حديث لا يكاد يثبت ولو ثبت لم يلزم به حجة لما صح أن أبا هريرة قال: سجدنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في {إذا السماء انشقت}، و {اقرأ باسم ربك}، وأبو هريرة إنما لقى النبي - صلى الله عليه وسلم - في (98 م/أ) السنة السابعة من الهجرة، وأما حديث زيد بن ثابت: (قرأت على النبي - صلى الله عليه وسلم - (والنجم) فلم يسجد فيها، فإن أبا داود روى هذا الحديث في كتابه، وقال: كان زيد الإمام فلم يسجد، والمعنى أن التالي كان زيدا، فحيث لم يسجد هو لم يسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -. قلت: والحديث محتمل إلى غير ذلك من الوجوه، وهو أن نقول: إذا صح عندنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد فيها، نحمل الأمر حيث تركها على أن عارضا منعه من ذلك، فلعله كان على غير وضوء، ولعله كان في وقت يكره فيه السجود، ويحتمل أن الحكم عنده يومئذ كان على اختيار من التالي إن شاء سجد، وإن شاء ترك. [713] ومنه حديثه الآخر: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله: رأيتني الليلة .. الحديث، الرجل الذي رأى هذه الرؤيا هو أبو سعيد الخدري، وقد روي عنه هذا الحديث. ومن باب أوقات النهي (من الصحاح) [714] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر- رضي الله عنه-: (لا يتحرى أحدكم) الحراة والساحة والعقوة الناحية، وكذلك الحرى بالقصر وفتح الحاء، يقال حريت الشيء أي قصدت جانبه، وكذلك تحريت، وتحرى فلان بالمكان ليتمكث، وفلان يتحرى الأمر أي: يتوخاه ويقصده، ومنه قوله تعالى: {فأولئك تحروا رشدا} أي توخوا وعمدوا. ويحدث الرجل فيقول: بالحرى أن يكون كذا، وهذا الأمر محراة لذلك أي: مقمنة، مثل محجاة، وما أحراه مثل ما أحجاه، وأحر به مثل أحج به، ويقال: هو حري

أن يفعل كذا، مفتوحة الراء منونة: أي خليق وجدير، وهذا لا يثنى ولا يجمع، ويقال: هو حر بكسر الراء، وحرى على فعيل، ولهذا يثنى ويجمع، ومن الحرى اشتق التحري في [الأناين] ونحوهما، وهو طلب ما هو أحرى بالاستعمال في غالب الظن، كما اشتق التقمن من القمن، فلفظ الحديث محتمل لوجهين: أحدهما: التحري بمعنى التوخي والقصد، أي لا يقصد الوقت الذي تطلع فيه الشمس أو تغرب، ويتوخاه فيصلي فيه. والآخر: التحري بمعنى طلب ما هو أحرى بالاستعمال، أي لا يصلي في ذلك الوقت ظنا منه أنه قد عمل بما هو الأحرى، والأول أوجه وأبلغ في المعنى المراد منه؛ لأنه دال على النهي عن الصلاة في الوقتين على الإطلاق، والثاني مشعر بالنهي عن الصلاة فيه على وجه التحري، وفي معنى الوجه الأول قوله - صلى الله عليه وسلم - في رواية: (ولا تحينوا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها). يقال: حينت الشيء: أي جعلت له حينا، وأحينت بالمكان: أي أقمت به حينا، وحينت الناقة: إذا جعلت لها في كل يوم وقتا تحلبها، وبمعناه جاء التحين، ومنه الحديث: (تحينوا نوقكم) وقد فسر فقيل: هو أن تحلبها [98 م/ب] مرة واحدة في وقت معلوم. ومعنى قوله: (لا تحينوا بصلاتكم) أي لا تجعلوا ذلك الوقت حينا للصلاة، بصلاتكم فيه، يقال: تحين الوارش إذا انتظر وقت الأكل ليدخل. وعلى هذا فالمعنى: لا تنتظروا بصلاتكم حين طلوع الشمس، ولا حين غروبها، وبين القضيتين- أعني قضية الواغل الذي يدخل إلى الطعام لم يدع إليه، وقضية من يصلي في وقت لم يؤذن له فيه- مناسبة لا تخفى على من تدبرها. وقد جاء التحين بمعنى ترقب الحين، ومنه حديث ابن عمر- رضي الله عنهما-، حين سئل عن وقت رمي الجمار؟ (قال: كنا نتحين فإذا زالت الشمس رمينا). [715] ومنه قول عقبة بن عامر في حديثه الذي يرويه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وحين يقوم قائم الظهيرة) أي تقوم الشمس وقت الزوال. قال الأزهري: هو من قولهم: قامت به دابته أي: وقفت، ومنه قوله تعالى: {وإذا أظلم عليهم قاموا} أي وقفوا قال: وسمعت العرب تقول للدابة إذا أفلتت: قومي قومي، أي: قفي. قلت: والمعنى: الشمس إذا بلغت كبد السماء في أوان امتداد النهار في الطول لا تزول إلا بعد ريث وبطوء في مدرك الحس، فيقال: قام قائم الظهيرة، فيحسب المتأمل أنها وقفت وقفة؛ ولا وقوف لها في الحقيقة، فأحرى لفظ القيام على حسب ما يخيل إلى الناظر إليها.

وفيه: (وحين تضيف الشمس): أصل الضيف: الميل، يقال: ضفت إلى كذا، وأضفت كذا إلى كذا، وضافت الشمس للغروب وتضيفت، وضضاف السهم عن الهدف يضيف، وسمى الضيف ضيفا لميله إلى الذي ينزل عليه. [717] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عمرو بن عبسة السلمي- رضي الله عنه: (فإن الصلاة مشهودة

محضورة): أي يشهدها ويحضرها أهل الطاعة من سكان السموات والأرضين وفي غير هذه الرواية عن عمرو بن عبسة: (مشهودة مكتوبة) أي: يشهدها الملائكة، فيكتب أجرها للمصلين، وهذه الرواية أبلغ في المعنى لما فيها من التنبيه على أن الصلاة المتقبلة المثاب عليها ما أقيمت في تلك الساعة المشهودة فيها، وأن ما أقيمت منها في الأوقات المنهي عنها لا يكتب لها ثواب، ولا يرفع لها ميزان. وفيه (حتى يستقل الظل بالرمح)،كذا وجدناه في سائر نسخ المصابيح، وفيه تحريف، وصوابه: حتى يستقل فيه، وكنت أرى أن الغلط وقع في المصابيح حتى رأيته في بعض نسخ كتاب مسلم على هذا (99/أ) الوجه، فعرفت أن الاختلاف فيه من بعض الرواة. وقد ذكر الحافظ أبو موسى في كتابه الموسوم بمجموع المغيث ولفظه: (حتى يستقل الرمح بالظل) وعلى نقله كل المعول، وذكر في تفسيره أن (استقل) هاهنا بمعنى (قل)، وذكر كلاما حاصله: أن المراد منه أن ظل الرمح يرجع إلى أدنى غاية النقصان وذلك وقت الزوال. والمراد: المعنى صحيح ولكن في تفسير الاستقلال على معنى القلة كلام؛ لأنه لم يوجد في كلامهم وأراه قد نقله عن بعض الحفاظ ولم يأت فيه بحجة واستشهاد، قلت: وإنما يستعمل الاستقلال على وجوه: أحدها: استقله إذا عده قليلا كقولهم. والثاني: استقلت السماء أي: ارتفعت وربما قيل: تقالت، ومنه الحديث (حتى تقالت الشمس) أي: ارتفعت في السماء كذا فسروا. الثالث: استقل القوم أي: ارتحلوا ومضوا ومعناه راجع إلى الاستقلال الذي هو بمعنى الارتفاع ومنه قولهم أيضا: استقل بالشيء إذا رفعه وحمله. ومعنى قولهم: (يستقل الرمح بالظل) أي: يرفع ظله من الأرض وهو على المجاز والاتساع كقولهم: ألقت الشجرة ظلها ورفعته، ومن المعلوم أن المراد من الاستقلال في هذا الحديث أن الظل يرفع بارتفاع الشمس إلى أن تبلغ في الزوال ويتفاوت ذلك في البلدان على حسب قربها وبعدها من خط الاستواء بتفاوت ارتفاع الشمس وانحطاطها في مجاريها من الفلك. ووجه اختصاص الرمح بالذكر في بيان الزوال- والله أعلم- أن القوم في غالب أمرهم كانوا يسكنون البوادي ويستقيلون المفاز فإذا أرادوا معرفة الوقت ركزوا رماحهم في الأرض، ثم إن الرمح أصلح شيء لذلك لاستوائه واعتداله وامتداد ظله، وقد روي هذا الحديث بطرق مرضية على غير هذا السياق فرواه أبو داود وفيه روايته (حتى يعدل الرمح ظله)، ومعناه: حتى يصرفه عن النقصان إلى الاستواء الذي لا نقصان بعده. وفي كتاب النسائي (حتى تعتدل الشمس اعتدال الرمح بنصف النهار) وكل هذه الألفاظ راجعة إلى معنى واحد، وإنما وقع الاختلاف في ألفاظ الحديث من جهة الرواية بالمعنى من قبل الرواة ومن قبل الصحابي لأنه تحدث به كرة بعد وأخرى فاختلفت ألفاظه على حسب ذلك.

(ومن الحسان) [720] حديث جبير بن مطعم- رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (يا بني عبد مناف! من ولي منكم من أمر الناس شيئا (99 م/ب) ... الحديث) أورد أبو داود هذا الحديث في باب الدعاء، فرأى معنى قوله: صلى أي: دعا أي ساعة شاء، وقد استدل بظاهره من جوز الصلاة بمكة في الأوقات المنهية، مع اختلاف أقاويل الصحابة في المنع والجواز، فمنهم من لا يجوز ذلك أصلا، منهم عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- طاف بالبيت بعد الصبح فلم يركع، فلما صار بذي طوى وطلعت الشمس صلى ركعتي الطواف. وقد روي ذلك عن معاذ بن عفراء وغيرهم. ومنهم من يرى للطائف أن يصلي ركعتي الطواف بعد العصر قبل اصفرار الشمس، وبعد الصبح قبل طلوع الشمس، ولا يرى ذلك في الساعات الثلاث منهم ابن عمر- رضي الله عنه- وقد اختلف عليه في ذلك، ومنهم من يجوزه في سائر الأوقات، منهم أبو الدرداء- رضي الله عنه- وقد روى عنه عبد الله بن باباه أنه طاف بعد العصر، وصلى قبل مغارب الشمس، فقال له عبد الله: أنتم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - تقولون: لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس؟! فقال: إن هذا البلد ليس كسائر البلدان. قلت: ولم يكن أحد منهم ليذهب إلى ما ذهب إليه إلا وعنده متمسك، وإن كان بعضه أقوى من بعض وبعضهم أولى من بعض. وأما هذا الحديث فإن الاحتجاج به- في الصلاة بمكة في الوقت الذي نهى عنه أن يصلى فيه- هين لين، وإنما كان الاستدلال يصح به أن لو كان المنع المنهى عنه من أجل الصلاة في الأوقات المكروهة وليس الأمر على ذلك. ووجه الكلام ومجمله إنما يعرف من أصل القضية وصيغة الحادثة، وهذا الأمر إنما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن بطون قريش وعمائرها كانوا يسكنون حوالي المسجد محدقين به، ولكل بطن منهم باب يدخل منه المسجد وإلى الآن له أبواب تنسب إليهم، كباب بني شيبة، وباب بني سهم، وباب بني مخزوم، وباب

باب الجماعة وفضلها

بني جمع، وكان من وراءهم من حلا الحرم والقادمين عليهم يمرون عليهم إذا دخلوا المسجد فربما أغلقوا تلك الأبواب إذا جن عليهم الليل فلم يستطع الزائر أن يجوس من خلال ديارهم في هجعة من الليل فيدخل المسجد فيطوف بالبيت؛ فأعلمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ليس لهم أن يصنعوا هذا الصنيع وأن يمنعوا عباد الله عن منسكهم ويحولوا بينهم وبين متعبدهم، وأباح للزائرين التمتع بالبيت المبارك في سائر الأوقات ونهى أصحاب الديار الواقعة حوله أن يحتجزوا دورهم، فموقع قوله - صلى الله عليه وسلم -: أي وقت شاء من ليل أو نهار هو المعنى الذي ذكرناه لإباحة الصلاة في أوقات نهينا عن الصلاة فيها. قلت: وإنما خص بني عبد مناف بهذا الخطاب دون بطون قريش لعلمه بأن ولاية الأمر متأول إليهم، مع أنهم كانوا رؤساء مكة وساداتها وفيهم كانت السدانة والحجابة واللواء والسقاية والوفادة؛ فخصهم بالخطاب ليمتنعوا بأنفسهم عن هذا الصنيع، ويأخذوا على يدي من يبتغيه، ويحتمل أنه أشفق عليهم من الابتداع بمنع الناس عن الطواف ليخلو لهم المطاف والبيت؛ فحذرهم عن ذلك، وقد كان الأمراء من بني مروان ومن حج من الخلفاء من بني العباس يصنعون ذلك. قلت: وهذا القول إن كان صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - زمن الفتح فالأظهر أنه أشار به إلى الذي أراد أن يوليه أمر مكة، وهو عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، استعمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مكة، حين خروجه إلى حنين فلم يزل أميرا عليها حتى قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخليفة من بعده، فتوفي بمكة يوم توفي الصديق بالمدينة. ومن باب الجماعة وفضلها (من الصحاح) [723] حديث عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة) قلت: قد روي عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءا)، ووجه التوفيق بين الحديثين أن نقول: عرفنا من تفاوت الفضل في حديث ابن عمر- رضي الله عنه- أن سماعه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لحديثه ذلك كان بعد سماع أبي هريرة لما ذكرناه، لأن الزيادة في الفضل ينبغي أن تكون آخر الأمرين، فإن الله سبحانه يزيد عباده من فضله، ولا ينقصهم من الموعود شيئا، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - حث المؤمنين بما ذكر من الفضيلة على صلاة الجماعة في حديث أبي هريرة على ما تبين له من أمر الله، ثم رأى أن الله تعالى من عليه وعلى أمته بالزيادة على الموعود، وذلك بجزئين على ما في حديث ابن عمر، فبشرهم به، وحثهم على الجماعة،

وهذاك اختلاف ترتيب لا اختلاف تناقض، وهذا الذي ذكرناه هو الضابط في التوفيق بين الأحاديث التي توجد من هذا القبيل، والتوفيق بين الأحاديث المختلفة في الوعيد أيضا على هذا النمط، لأن الحكيم إذا زجر العباد عن أمر بنوع من الوعيد [100 م/ب] ثم زجرهم بما يزداد عليه، فالسبيل في الحديثين أن يكون الناقص متقدما والزائد متأخرا على ما ذكرناه في الوعد فإنه أبلغ في المعنى المراد منه وأدعى للعباد إلى ترك الأمر المزجور عنه. وأما وجه قصر أبواب الفضيلة على خمس وعشرين تارة وعلى سبع وعشرين أخرى، فإن المرجع في حقيقة ذلك إلى علوم النبوءة التي قصرت عقول الألباء عن إدراك جملها وتفاصيلها، وسائغ من طريق التقريب والاحتمال أن يقال: وجد النبي - صلى الله عليه وسلم - الفوائد المختصة بصلاة الجماعة تارة على ما في حديث أبي هريرة وتارة على ما في حديث ابن عمر فأخبر عنها على ما كوشف به، وذلك مثل فائدة اجتماع المصلين؛ وفائدة صفوفهم، وفائدة الاقتداء وفائدة إظهار شعار الإسلام وغير ذلك، وبعد هذا فللفهم في هذه العرضة مضطرب واسع، ولكن الأولى بنا أن نقف حيث أوقفنا الله تعالى ونسلم الأمر فيه إلى من كاشفه الله بحقائقه - صلى الله عليه وسلم - بمبلغ ما خصه به من المعاني. [723] ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب ...) الحديث، صواب هذا اللفظ يحتطب وهذا الحديث على السياق الذي في المصابيح أخرجه البخاري في كتابه في باب (إخراج الخصوم وأهل الريب من البيوت) ففي بعض نسخه يتحطب على وزن التفعل، وفي بعضها يحتطب من الاحتطاب فعلمنا أن الغلط وقع من بعض رواة الحديث إذ التحطب على زنة التفعل لم نجده مستعملا في شيء من كلامهم وإنما يقال حطبت الحطب واحتطبته أي جمعته، وهذا التغليظ يحمله بعض أهل العلم على العموم في ترك صلاة الجماعة، وليس الأمر على ذلك بل المعنى به أهل النفاق في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأنه لم يكن ليتخلف عن الصلاة خلفه بالعلل الداحضة إلا المنافقون وهم الذين لا صلاة لهم بالحقيقة، ولو أحرقت عليهم بيوتهم كان أحقاء بذلك ومن الدليل على صحة ما ذهبنا إليه من التأويل قوله - صلى الله عليه وسلم - (أن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا، ولقد هممت أن آمر بالصلاة ...) الحديث رواه مسلم في كتابه عن أبي هريرة على هذا السياق، ورواه أيضا عن ابن مسعود- رضي الله عنه- (1/أ) وفي روايته أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لقوم يتخلفون عن الجمعة (لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ثم أحرق على رجال- يتخلفون عن الجمعة- بيوتهم)، وفيه: (لو يعلم أحدهم أنه عرقا سمينا أو مرماتين حسنتين) العرق بفتح العين وسكون الراء:

مصدر قولك عرقت العظم أعرقه بالضم عرقا ومعرقا إذا أكلت ما عليه من اللحم. والعرق أيضا: العظم الذي أخذ عنه اللحم والجمع عراق بالضم، وهو المراد به في هذا الحديث، وإنما وصفه بالسمن إشارة إلى بقاء شيء من اللحم عليه، وفي كتاب مسلم عظما سمينا، ويحتمل أنه وصفه بالسمن لأنه استخلص من لحم سمين فيكون رخوا دسما، وأما المرماة قد فسرت بما بين ظلف الشاة من اللحم، وقد يفتح منه الميم، فإنه كان المراد منهما ما بين ظلفي الشاة فإنما وصفهما بالحسنتين ليكون مشعرا ببقاء محل الرغبة فيهما كما وصف العظم بالسمن؛ إذ المفهوم من المرماة: ما يرمى من الشاة فلا ينتفع بها، وقال أبو سعيد بن الأعرابي: المرماتان في هذا الحديث هما سهمان يرمي بهما فيحرز سبقه يقول: يسابق إلى إحراز الدنيا وسبقها ويدعى سبق الآخرة. [724] ومنه حديثه الآخر: (أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل أعمى ... الحديث) الأعمى الذي ذكر في هذا الحديث هو ابن أم مكتوم لما روي عن أبي هريرة أنه قال: جاء ابن أم مكتوم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر الحديث، وقد روي عن ابن أم مكتوم أنه قال: (أتيت النبي) - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله إني شيخ ضرير البصر شاسع الدار ولي قائد لا يلائمني، وبيني وبين المسجد شجر وأنهار فهل لي من عذر إذا أصلي في بيتي. فقال: تسمع النداء؟ قلت: نعم. قال: فأتها). وابن أم مكتوم اسمه عمرو وقيل عبد الله وقد اختلف في اسم أبيه والأكثرون على أنه قيس بن زائدة بن الأصم القرشي العامري من بني عامر بن لؤي، وأمه عاتكة بنت عنكثة المخزومية وفي حديثه هذا متمسك لمن يذهب إلى وجوب حضور الجماعة على الضرير

كوجوبها على الصحيح، ومن يرى ذلك فإنه [101/ب] يجعله بمنزلة اليسير الذي لا يهتدي إلى السبيل، وقد عارض هذا الحديث حديث عتبان بن مالك الأنصاري، وهو حديث صحيح وفيه أنه قال: يا رسول الله إني قد أنكرت بصري وأنا أصلي لقومي فإذا كانت الأمطار سال الوادي الذي بيني وبينهم ولم أستطع أن آتي مسجدهم فأصلي لهم، فوددت أنك يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تأتي فتصلي في مصلى فأتخذه مصلى قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأفعل إن شاء الله .. الحديث، وبهذا الحديث تمسك من رأى خلاف القول الأول وليس قصدنا في بيان ذلك المناضلة عن أحد الفريقين فإن العلماء الذين أفضى بهم اجتهادهم إلى هذا الخلاف لأغنياء بوفور علمهم، ودقة نظرهم عن تصدي أمثالنا للذب عنهم وإنما القصد طلب التوفيق ونفي التضاد عن الحديثين على ما تكفلنا به ما أمكننا. فنقول التوفيق بينهما إنما يتيسر من وجهين: أحدهما: أن نقول إنما رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعتبان أن يصلي في بيته؛ لأنه ذكر أن السبيل يحول بينه وبين مسجد قومه فلا يستطيع أن يعبر الوادي وهذا حكم يستوي فيه الصحيح والضرير ولو كان عتبان متعللا بإنكار البصر لم يفتقر إلى التعلل بوقوع الأمطار وسيلانها في الوادي. والآخر: أن نقول أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن أم مكتوم محتمل للوجوب ومحتمل للندب والاستحباب، وقد نظرنا في هذا الحديث وصيغته واختلاف طرقه وما يعارضه من حديث عتبان فرأينا حمله على الاستحباب أوجه فمن ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صرف قوله عن قاعدة الجواب، حيث سأله أن يرخص له، فقال: هل تسمع النداء؟ ولم يصرح له بعدم الرخصة. وفي غير هذه الرواية أنه قال فهل لي من عذر؟ قال: هل تسمع النداء؟ وكان من صريح القول أنه يقول ما لك رخصة أو ما أشبه ذلك فلم يرد الجواب على وتيرة السؤال بل قال: فأتها. وقد روى مسلم هذا الحديث في كتابه ولفظه (أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل أعمى فقال: يا رسول الله، إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يرخص له فيصلي في بيته فرخص له فلما ولى دعاه فقال: هل تسمع النداء بالصلاة، قال: نعم: قال: فأجب). قلت: فوجه ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نبأ ابن أم مكتوم بالرخصة في أول الأمر [102/أ] ثم دعاه إلى العزيمة نظرا له واختيارا للأصلح وإرشادا إلى ما هو الأليق بحاله وزمانه، فقد كان هو من فضلاء المهاجرين والسابقين الأولين وكان لا يرغب يومئذ عن إدراك فضيلة الصلاة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا مغموص عليه بالنفاق أو جاهل بما له في ذلك أو عاجز عن الحضور. وقد أشار مسلم في كتابه إلى تعليل هذا الحديث بإيراد حديث ابن مسعود بعده هو- رحمه الله- حسن السياق للأحاديث مبين لعللها في مدارج الترتيب فروى بإسناده عن ابن مسعود أنه قال: (لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد علم نفاقه أو مريض إن كان المريض ليمشي بين رجلين حتى يأتي الصلاة). قلت: فلما ذكرناه من الوجوه لم يقتصر النبي - صلى الله عليه وسلم - في جوابه على الرخصة بل كشف له عنها

ابتلي به من الزمانة، وأشار ثانيا إلى العزيمة لما عرف فيه من الجلادة وتفرس فيه من النجابة والصرافة والنجدة والشهامة وقد ظهر منه آثارها وتبين علاماتها بعد حين فخرج في خلافة عمر- رضي الله عنه- مناهضا أعداء الله، فشهد فتح القادسية، وكان صاحب راية المسلمين يومئذ فمن قائل إنه استشهد هنالك، ومن قائل إنه انحاز إلى المدينة راشدا فتوفي بها- رضي الله عنه. [731] ومنه: حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أيما امرأة أصابت بخورا فلا تشهد معنا العشاء الآخرة. البخور بالفتح ما يتبخر به كالفطور والسحور وإنما خص العشاء الآخرة بالنهي؛ لأنها تؤدي عند إقبال الليل وارتكام الظلام وهدوء الأقدام وتهيؤ الناس للمنام واستيلاء الشيطان بالوسوسة واستحواذه على النفوس الشريرة يتمكنها عند ذلك من قضاء الوطر بخلاف صلاة الصبح فإنها دون إدبار الليل وإقبال النهار وحينئذ تنعكس القضية ويتحقق للنفوس حصول الحاجز بينها وبين ما تبتغيه، وفي معنى حديث أبي هريرة هذا حديث زينب بنت عبد الله الثقفية امرأة عبد الله ابن مسعود قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إذا شهدت إحداكن العشاء فلا تمس طيبا). (ومن الحسان) [733] في حديث أبي هريرة قوله - صلى الله عليه وسلم - (وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها) أراد

باب تسوية الصف

بالمخدع البيت الذي يخبأ فيه حر المتاع وهو الخزانة، أخذ من الخدع وهو إخفاء الشيء وكسر الميم لغة فيه (102/ب). كالمصحف والمصحف. قال الفراء: أصله الضم إلا أنهم كسروه استثقالا، وقد ذكر بعض الحفاظ في حديث رواه: دخل على بيتي قال: ادخل المخدع فذكر فيه الفتح أيضا، ولا أدري أشيء نقله من أهل اللغة أم من طريق الرواية. [741] ومنه: حديث جابر- رضي الله عنه- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تؤخر الصلاة لطعام ولا لغيره) المعنى: لا تؤخر عن وقتها، وإنما ذهبنا إلى ذلك دون التأخير على الإطلاق لقوله - صلى الله عليه وسلم - (إذا وضع عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة فابدأوا بالعشاء) فجعل له تأخير الصلاة مع بقاء الوقت في هذا الحديث، وعلى هذا فلا اختلاف بين الحديثين. ومن باب تسوية الصف (من الصحاح) [742] حديث النعمان بن بشير كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسوي صفوفنا حتى كأنما يسؤي القداح ... الحديث، القداح بالكسر: السهم قبل أن يراش ويركب نصله، وقدح الميسر أيضا والجمع قداح وأقداح

وأقاديح، وضرب المثل بالقداح في تسوية الصفوف من أبلغ الأشياء في المعنى المراد منه؛ لأن القدح لا يصلح للأمر الذي عمل له إلا بعد الانتهاء إلى الغاية القصوى في الاستواء، وإنما جمع مع وقوع الكفاية بلفظ الواحد لمكان الصفوف أي: يسوى كل صف على حدته كما يسوي الصانع كل قدح على حدته. وفيه: (أو ليخالفن الله بين وجوهكم) ذهب بعض المؤولون إلى أن المراد من الوجوه وجوه القلوب يعني هواها وإرادتها واستدل بحديث أبي مسعود الأنصاري الذي ذكر في هذا الباب: (لا تختلفوا فتختلف قلوبكم) وذكر عن علي- رضي الله عنه- أنه قال: (استووا فتستوي قلوبكم) والتأويل الأحسن والوجه الأسد أن نقول، نهاهم عن التسامح في اختلاف الأبدان دون القيام في صف الصلاة بين يدي الله تعالى فإنهم إذا فعلوا ذلك عوقبوا باختلاف القلوب، ويفضي بهم اختلاف القلوب إلى اختلاف الوجوه بإعراض يعضهم عن بعض. [746] ومنه: حديث عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ليليني أولو الأحلام منكم والنهى) الحديث الولي القرب والدنو، يقال: تباعدنا بعد ولي، وكل مما يليك أي: مما يقاربك، يقال: وليه يليه بالكسر فيهما، وهذا شاذ ومن [حق هذا] (103/أ) اللفظ أن يحذف منه الياء، لأنه على صيغة الأمر غير أن الرواة يروونها بإثبات الياء وسكونها ووجدناها مثبتة في رسم الخط في سائر كتب الحديث، فالظاهر أنه غلط من بعض الرواة على النمط الأول أثبتوا الياء في الخط على أصل الكلمة قبل دخول لام الأمر، فتداولتها ألسنة الرواة فأثبتوها في اللفظ. فأما من نصب الياء وجعل اللام فيها الناصبة، فالوجه فيه لو ثبتت الرواية أن يقال: اللام متعلقة بمحذوف دل عليه أول الحديث والراوي لم يذكر ذلك اختصارا للحديث وفيه تعسف بل ليس بشيء. والحلم ضبط النفس عن هيجان الغضب، وجمعه أحلام. وفسرت بالعقول، وليس الحلم في الحقيقة هو العقل ولكن فسر به من مقتضيات العقل، والنهية: العقل النائي عن القبائح، وجمعها نهى والمعنى: ليدن مني العلماء النجباء أولو الأخطار، وذوو السكينة والوقار، وإنما أمرهم بالقرب منه ليحفظوا

صلاته ويضبطوا الأحكام والسنن التي فيها فيبلغوها فيأخذ عنهم من بعدهم ثم لأنهم أحق بذلك الموقف والمقام وفي ذلك بعد الإفصاح بجلالة شيءونهم ونباهة أقدارهم حثهم على المسابقة إلى تلك الفضيلة والمبادرة إلى تلك المواقف والمصاف قبل أن يتمكن منها من هو دونهم في الرتبة وفيه إرشاد لمن قصر حاله عن المساهمة معهم في المنزلة أن يزاحمهم فيها، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى قام أبو بكر [...] خلفه محاذيا له، لا يقف ذلك الموقف غيره، والذي يعول عليه من هذا الوجوه ويقطع به: الأول؛ لما ورد في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعجبه أن يليه المهاجرون والأنصار ليحفظوا عنه. وفيه (وإياكم وهيشات الأسواق) أراد بها ما يكون في الأسواق من الجلبة وارتفاع الأصوات، والهيشة: الفتنة والهيج والاضطراب. وكل شيء هوشته فقد خلطته ويقال: الهيشات والهوشات وبالواو أكثر استعمالا في كلامهم وفي كتاب مسلم بالياء، وقد روي في غير هذا الحديث عن ابن مسعود- رضي الله عنه- (إياكم وهوشات الليل، وهوشات الأسواق). [748] ومنه: حديث جابر بن سمرة- رضي الله عنه- خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرآنا حلقا ... الحديث أي: رآنا جلوسا حلقة حلقة كل صف منا قد تحلق في ناحية، والحلق جمع حلقة بالتسكين على غير قياس قال الأصمعي: الجمع حلق وحلقات قال ثعلب: وكلهم يجري على ضعفه وفيه (مالي أراكم عزين) العزة الفرقة من الناس، والهاء عوض من الياء، والجمع عزى وعزون بالضم أيضا، ولم يقولوا عزاة كما قالوا ثبات والمعنى: مالي أراكم أشتاتا متفرقين وفي معناه قولوه تعالى: {عن اليمين وعن الشمال عزين}. وفيه: (ويتراصون في الصف) أي يتلاصق بعضهم ببعض يقال: رصصت البنيان أي ألصقت بعضه ببعض، ومنه قوله تعالى: {كأنهم بنيان مرصوص} أي: لاصق البعض بالبعض ومنه الحديث: (أقيموا صفوفكم وتراصوا) أي: تلاصقوا حتى لا يكون بينكم فرج. (ومن الحسان) [750] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس-رضي الله عنه- (كأنها الحذف) الحذف بالحاء المهملة، والذال المعجمة المفتوحة غنم سود صغار من غنم الحجاز الواحدة حذفة وفي غير هذه الرواية (كأنها بنات حذف).

[755] ومنه حديث ابن عباس- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (خياركم ألينكم مناكب في الصلاة) قال الخطابي: معنى لين المناكب لزوم السكينة في الصلاة والطمأنينة فيها، ولا يلتفت ولا يحاك منكبه منكب صاحبه قال: وقد يكون فيه وجه آخر وهو أن لا يمتنع لضيق المكان على من يريد الدخول بين الصف لسد الخلل بل يمكنه من ذلك ولا يدفعه بمنكبه.

باب الموقف

قلت: والوجه هو الأول إذ لم يذكر هذا الحديث إلا في باب تسوية الصفوف وترصيصها في سائر كتب الأحكام. ومن باب الموقف (من الصحاح) [763] حديث سهل بن سعد الساعدي- رضي الله عنه- أنه سئل: من أي شيء المنبر قال هو من أثل الغابة ... الحديث). الأثل شجر وهو نوع من الطرفاء والغابة في هذا الحديث اسم مال من أموال عوالي المدينة وهي في اللغة الأجمة. وفيه (عمله فلان مولى فلانة). قيل فلان هو باقوم الرومي وذكر الحافظ أبو عمر النمري في كتاب (الاستيعاب) باقوم الرومي وقال: روى عنه الصالح مولى التوءمة قال: صنعت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - منبرا من طرفاء ثلاث درجات وأما فلانة فقد قيل: إن اسمها عائشة ولم تنسب وهي امرأة من الأنصار، ولم يتحقق اسمها عند أهل النقل. وفيه: (ثم رجع القهقرى) القهقرى الرجوع إلى الخلف. فإذا قلت: رجعت القهقرى فكأنك قلت رجعت الرجوع الذي يعرف بهذا الاسم؛ لأن القهقرى ضرب من الرجوع كما أن الخيزلى ضرب من المشي ووجه رجوعه - صلى الله عليه وسلم - القهقرى حتى يسجد على الأرض وعوده إلى المنبر أن يكون شيئا بعد شيء من غير أن يصدر عنه الأعمال المتداركة، وإنما صنع ذلك ليبرز للناس فيأخذ عنه القريب والبعيد والعلة ذكرت في متن الحديث. قلت: وهذا الصنيع منه كطوافه على البعير ليؤخذ عنه أحكام الطواف.

باب الإمامة

(ومن الحسان) [764] حديث عائشة- رضي الله عنها- (صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجرته والناس يأتمون به من وراء الحجرة) المراد بالحجرة في هذا الحديث المكان الذي كان يحتجره من المسجد بالحصير إذا أراد الاعتكاف والصلاة التي كان يصليها في تلك الحجرة قيامه في ليالي رمضان ومن الناس من يرى أن المراد بالحجرة المذكورة في الحديث بيت عائشة أو بيت إحدى أمهات المؤمنين، والأمر بخلاف ما توهمه؛ لأن صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيته مع اقتداء الناس به في المسجد أمر لم ينقل ثم إن ذلك لا يتم إلا بشرائط لم توجد هنالك ولو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - فاعلا ذلك لفعل في مرضه ولم يتجشم التهادي بين رجلين [ورجلاه] تخطان في الأرض. وقد روي أن باب حجرة عائشة- رضي الله عنها- كان في القبلة ولا يتصور اقتداء من هو في المسجد بمن هو في حجرتها، وحسبك من الدليل على صحة هذا التأويل حديث زيد بن ثابت- رضي الله عنه- وهو حديث صحيح ولفظه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجر حجرة في المسجد من حصير فصلى بها رس 0 ول الله - صلى الله عليه وسلم - ليالي حتى اجتمع إليه ناس ثم فقدوا صوته فظنوا أنه قد نام ... الحديث. ومن باب الإمامة (104/أ) (من الصحاح) [765] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي مسعود البدري- رضي الله عنه- (ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه) السلاطة التمكن من القهر وهو التسلط، ومنه السلطان والسلطان يقال في السلاطة، وقد يقال لذي السلاطة والمراد بها ههنا السلاطة والمعنى: لا يؤمن الرجل الرجل في محل ولايته ومظهر سلطانه أو فيما

يملكه أو في محل يكون في حكمه ويعضد هذا التأويل الرواية الأخرى (في أهله) وفيما يرويه مالك بن الحويرث (من زار قوما فلا يؤمهم وليؤمهم رجل منهم) وكل ذلك راجع إلى معنى واحد وهو أن الجماعة شرعت لاجتماع المؤمنين على الطاعة وتألفهم وتوادهم وإذا أم الرجل الرجل في سلطانه أفضى ذلك إلى توهين أمر السلطنة، وخلع ربقة الطاعة عن الأعناق، وإذا أمه في أهله أو في قومه أدى ذلك إلى التباغض والتقاطع وظهور الخلاف الذي شرع لرفعه الاجتماع والنبي - صلى الله عليه وسلم - لما بين أن الاستحقاق في التقدم يدور على أربع مراتب وهي المهارة في القراءة، والعلم بالسنة والقدم في الهجرة والكبر في السن ثم رأى أن الناس لو وكلوا في ذلك إلى اختيارهم لهام بهم الأهواء في كل واد وتعسف بهم اختلاف الآراء في كل مسلك فأعلمهم أن مراعاة هذه المراتب وإن كان هو الحق الأبلج فإن التقدم به على ذي السلطنة لاسيما في الأعياد والجمعات غير سائغ وكذا التقدم على إمام الحي ورب البيت للعلل التي ذكرناها إلا أن يؤذن لهم فيه ويدخل في معنى ما ذكرنا من التوقي عن مظان التنافر والتقاطع قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ولا يقعد على تكرمته إلا بإذنه) والتكرمة ما يعد للرجل إكراما له في منزله من وطاء وفراش وسرير ونحوه وزعم بعضهم أن تكرمته مائدته ولا سناد لهذا التفسير من نقل معتد به ولا من مأخذ مستقيم. (ومن الحسان) [769] حديث أنس- رضي الله عنه- (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استخلف ابن أم مكتوم يؤم الناس وهو أعمى) قلت: وقد روي عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استخلف ابن أم مكتوم على المدينة مرتين، وقد ذكر أهل العلم (105/أ) بأيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه استخلفه على المدينة في ثلاث عشرة غزوة من غزواته فالسبيل أن أنسا لم يحفظ من تارات الاستخلاف ما حفظه غيره وبهذا الحديث ونظائره التي ذكرناها من علماء النقل يستدل من يقيم الأعمى مقام البصير في الإمامة ومن لا يرى بإمامته بأسا وفي ذلك نظر؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما استخلف ابن أم مكتوم على المدينة لما خرج معه علماء الصحابة والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ولم يبق لها إلا أولو الضرر وذوو الزمانة، ولو تخلف عنه ذو علم أو سابقة فربما كان شاسع الدار كمن كان في بني عمرو بن عوف، وبني سلمة وبني حارثة، ومن كان منزله بالعوالي فيشق عليه تعاهد المسجد للصلوات الخمس مع أن الغالب من أمره أن يكون قد تخلف لعلة فتمنعه تلك العلة عن حضور المسجد وكان ابن أم مكتوم يؤذن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويلازم المسجد إذا غاب، وكان أقرأ من حضر المسجد، وأعلمهم بالسنة وأقدمهم هجرة وأكبرهم سنا، وقد عدم حينئذ من يناصبه في تلك الفضائل مع أن غمار القوم، بل الجمهور منهم كانوا أصحاب عاهات وذوي زمانة، فلتلك الأسباب والعلل استخلفه عليها وجمع له بين الأذان والإمامة ومن الدليل على ما ذهبنا إليه أنه - صلى الله عليه وسلم - استخلفه عليها مخرجه إلى بدر، فلما كان ببعض الطريق رد

أبا لبابة الأنصاري إليها مستخلفا عليها، فلو لم يكن البصير أولى وأحق بالإمامة من الأعمى لم يقدم أبا لبابة عليه بعد الاستخلاف هذا وقد سبقه ابن أم مكتوم بالإسلام، ثم إنه كان من المهاجرين الأولين وكان أسن منه وكان قرشيا، فإن قيل: فقد استخلفه النبي - صلى الله عليه وسلم - على المدينة حين خروجه إلى تبوك وعلي- رضي الله عنه- بالمدينة. فالجواب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الناس في غزوته تلك أن يخرجوا فلا يتخلف عنه مستطيع، فاستخلف ابن أم مكتوم فلم يبق بها إلا معذر أو معذر أو منافق ثم خلف عليا- رضي الله عنه- في أهله حذر أن ينالهم عدو بمكروه ولم يستخلفه على إقام الصلاة كيلا يشغله شاغل عن القيام بحفظ ما استحفظ فإن قيل: فإن عتبان بن مالك كان يؤم قومه وهو أعمى فالجواب (105 ب). أنه كان إمام قومه قبل أن (أصاب) ما أصابه فلما أنكر بصره أقر عليها كرامة له واستمالة لقلبه، ثم إن الأظهر أن القوم لم يروا ذلك؛ لأنه لم يكن فيهم من يقوم مقامه قراءة، وعلما وسنا. [771] ومنه حديث أبي أمامة- رضي الله عنه- عن علي- رضي الله عنه-: (ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم). أي لا ترفع إلى الله رفع العمل الصالح، بل لا ترفع أدنى شيء من الرفع، وإنما خص الأذن بالذكر لما يقع في المسامع من التلاوة والتسبيح والدعاء، ولا يصل إلى الله قبولا وإجابة. وهذا مثل قوه في المارقة (يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم). عبر عن عدم القبول بأنها لا تجاوز آذانهم، ويدل عليه قوله في الحديث الذي يليه: (ثلاثة لا تقبل لهم صلاة). ويحتمل أن يراد به أن صلاتهم لا ترتفع عن آذانهم فيظلهم كما يظل العمل الصالح صاحبه يوم القيامة. ويحتمل أن يراد به أنها تكون ساقطة الذكر فلا يسمع بها غيرهم. وفيه (وإمام قوم وهو له كارهون)، هذا إذا كره القوم تقدمه لفسق أو جهل بأحكام الصلاة وما يجري مجراه، من عدم الاستحقاق وقلة الاستعداد. فأما إذا كان الأمر بخلاف ما وصف فإنهم هم المسيئون وهو الملومون. [772] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبد الله بن عمر- رضي الله عنه-: (ورجل أتى الصلاة دبارا) والتفسير مذكور في متن الحديث، وهذا إذا اتخذه عادة، ويوجد ذلك عند من قلت مبالاته بالمحافظة عليها.

وفيه (ورجل اعتبد محررة) أي اتخذها عبدا، وفي معنى الاعتباد التعبيد والاستعباد، والمحررة: النفس المعتقة، يقال: حر الرجل يحر حرية من حرية الأصل، وحر العبد يحر حرارا، قال سلم الخاسر: وما رد من بعد الحرار عتيق ومنه تحرير العبد، وإنما قال: محررة على لفظ التأنيث، حملا على النفس المحررة؛ ليتناول العبيد والإماء ويؤخذ الاعتباد من وجهين: أحدهما: اعتباد من هو حر في الأصصل، والآخر: أن يعتق العبد ولا يضع [...] ليستعمله استعمال العبيد.

باب ما على المأموم من المتابعة وحكم المسبوق

ومن باب ما على المأموم من المتابعة وحكم المسبوق (من الصحاح) [783] حديث عائشة- رضي الله عنها-: (لما ثقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) الثقل هاهنا: عبارة عن اشتداد المرض وتناهي الضعف، وركود الأعضاء عن خفة الحركات.

وفيه (يهادى بين رجلين). أي يمشي بينهما معتمدا عليهما، يقال: جاء فلان يهادي بين اثنين إذا كان يمشي بينهما معتمدا عليهما من ضعفه وتمايله، وكذلك المرأة إذا تمايلت في مشيتها من غير أن يماشيها أحد قبل: تهادي ولعل هذا اللفظ أخذ من الهادي وهو العنق؛ لأن الماشي بين اثنين يصغي عنقه تارة إلى ذاك وتارة إلى هذا، وكذا المتمايلة في مشيتها تصغي عنقها إلى يمين وشمال. والرجلان هما علي والعباس- رضي الله عنهما- والمشكل من هذا الحديث ما اختلف فيه من إمامة أبي بكر- رضي الله عنه- وما نقل عن بعض العلماء في تأويله، ومعارضتهم هذا الحديث بالحديث الذي تقدمه من حديث أنس وسنحكي عنهم قولهم، ثم نبذل المجهود ما أمكن في نفي التضاد. فنقول ومن الله المعونة: أنكر جمع من أهل الحديث (نسخ حديث أنس بهذا الحديث، ورأوا العمل بالحديثين في موضعيهما، منهم: أحمد وإسحق بن راهويه ونفر من أهل الحديث) ونقل عن أبي عبد الله أحمد أنه قال: إذا ابتدأ الإمام الصلاة قائما ثم مرض في أثناء الصلاة، فقعد صلى من خلفه قياما لحديث عائشة، وإذا ابتدأ بهم الصلاة جالسا صلوا خلفه جلوسا لحديث أنس. وقال بعضهم: إن رواية عائشة- رضي الله عنها- في هذا الحديث متعارضة فروى الأسود عنها: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إماما) وروى مسروق عنها (أن أبا بكر كان إماما). فلما تعارضت الروايتان، لم يجز ترك حديث أنس في القعود لحديثها، وأول بعضهم قولها: (وأبو بكر) يقتدي بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. أي: يقتدي أبو بكر بصلاته أي: يختار اللبث في هيئات الصلاة بقدر طاقة النبي - صلى الله عليه وسلم - للمرض الذي كان به، واستدل على هذا التأويل بقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عثمان بن العاص الثقفي- رضي الله عنه- (أنت إمام قومك واقتد بأضعفهم). فالجواب: أن يقول: أما ما ذكروا من اختلاف الرواية عن عائشة- رضي الله عنها- فإن عروة بن الزبير، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن [مسعود] والأسود رووا هذا الحديث عنها وفي حديثهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم تلك الصلاة وأبو بكر يقتدي به، وعلى هذا الوجه روى عن ابن عباس- رضي الله عنهم-.

وقد روي عن مسروق عن عائشة قالت: (صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي توفي فيه خلف أبي بكر قاعدا). وحديث مسروق هذا لا يقاوم حديث الجماعة؛ لأن روايتهم (106/ب) عنها فيما اتفقوا عليه، أولى من رواية المتفرد مع ما روي عن ابن عباس على نحو ما رووه عن عائشة- رضي الله عنها- ومع هذا فلا حاجة بنا إلى ذا القول، فنحن نقدر على التوفيق بين الحديثين، وذلك أن نقول: قد ثبت أن أبا بكر كان يصلي بالناس تلك الأيام. فنحمل حديث مسروق عنها على أن صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - مقتديا بأبي بكر- رضي الله عنه- كانت في صلاة أخرى من تلك الصلوات التي صلوها في تلك الأيام. والتي اقتدى فيها أبو بكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما رواه ابن عباس وعائشة في رواية عروة وعبيد الله والأسود عنها هي التي صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الكرة الآخرة، ويحقق هذا التأويل ما روي في حديث ابن عباس وعائشة- رضي الله عنهم-: (أنه جلس عن يسار أبي بكر) وهو موقف الإمام، وقد كان موقف أبي بكر موقف الإمام؛ لأنه كان عن يمين النبي - صلى الله عليه وسلم - ويحققه أيضا ما رواه أرقم بن شرحبيل في حديثه عن ابن عباس أنه قال: فاستتم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حيث انتهى أبو بكر من القراءة. ومما يشهد لهذا القول بالصحة أن عائشة- رضي الله عنها- من جملة من روى صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - جالسا، حين سقط عن فرسه، فلو لم تعلم بالنسخ لم ترو خلاف ذلك في الحديث الآخر، وعلى هذا الذي ذكرناه، فالتأويل الذي ذكرناه ونقلناه عن بعض أهل العلم في قول عائشة- رضي الله عنها- وأبو بكر يقتدي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - غير مستقيم بل هو في قولها: والناس يقتدون بأبي بكر صحيح أي يصنعون كما يصنع (ومثله قوله - صلى الله عليه وسلم - تقدموا وائتموا بي وليأتم بكم من بعدكم أي اصنعوا كما أصنع وليصنع) من بعدكم كما تصنعون، وقد قيل لبعض العلماء- وقد حدث بهذا الحديث فعلى هذا يجوز أن يدخل القوم في الصلاة قبل أن يدخل الإمام، فكان من جوابه أن الإمام كان أبا بكر قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما جاء انتقلت الإمامة إليه فكان فيما بعد هو الإمام. قلت: لو كان الداخل في الصلاة غير النبي - صلى الله عليه وسلم - لكان السرد في الانتقال محتملا لبسط المقال، لكن أمره - صلى الله عليه وسلم - في أبواب الفضيلة والخاصية ممتاز عن أمر غيره ثم إنا وجدنا لانتقال الإمامة سنادا في حديث سهل بن سعد- رضي الله عنه- لما خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بني عمر بن عوف ليصلح هو بينهم، وهو حديث صحيح، لا اختلاف فيه، وقد قال فيه سهل: (فصلى أبو بكر، فجاء (107/أ) النبي - صلى الله عليه وسلم - والناس في الصلاة [فخلص] حتى وقف في الصف فصفق الناس وساق الحديث إلى أن قال: ثم استأخر أبو بكر حتى استوى في الصف وتقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - فصلى). قلت: وليس في هذا الحديث أن القوم استأنفوا تكبيرة الإحرام؛ بل كانوا على ما هم عليه من صلاتهم، ويدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - حين انصرف عن الصلاة: (مالي رأيتكم أكثرتم التصفيق من فاته في صلاته شيء فليسبح) وإذ قد صح أن حديث أنس: (فإذا صلى قاعدا فليصلوا قعودا أجمعون). متقدم على هذا الحديث حكم بأن الآخر ناسخ للأول، وقد أخذ بهذا الأعلام من أهل الاجتهاد، والقياس يشهد لهم بصحة ما ذهبوا إليه وهو أن الإمام لا يحيل الكوع والسجود الإيماء، فكذلك لا يحيل القيام إلى

باب من صلى صلاة مرتين

القعود وكانت صلاة النبي ? جالساً في الكرة الأولى حين سقط عن فرسه فجحش شقه الأيمن، فصلى جالساً في بيته، وقال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به). وذكر علماء السير أن ذلك حين ركب إلى الغابة في ذيي الحجة من السنة الخامسة وقد رواه أنس وجابر وعائشة، وأبو هريرة، والأظهر أن أبا هريرة سمعه من بعض الصحابة على ما ذكرناه من التاريخ، لأن إسلامه كان في السنة السابعة، وفي أحاديثه نظائر لما ادعينا، والله أعلم. ومن باب من صلى صلاة مرتين (من الصحاح) [790] حديث جابر - رضي الله عنه: (كان معاذ يصلي) قلت: هذا الحديث أثبت في كتاب المصابيح من طريقين، أما الأول، فقد أورده الشيخان في كتابيهما، وأما الثاني بالزيادة التي فيه وهي قوله: (وهي له نافلة) فلم نجده في أحد الكتابين، وقد أورده المؤلف في قسم الصحاح، فلا أدري أتزيد من خائض اقتحم به الفضول إلى متاهة لم يعرف طرقها، أم حديث أورده المؤلف على وجه البيان للحديث الأول، فخفي قصده لإهمال التمييز أو سهو وقع منه، وقد ذكر أهل العلم بالحديث أن قوله: (وهي نافلة) في حديث جابر غير محفوظ. وتقل عن أبي عبد الله أحمد أنه قال: حديث معاذ أخشى ألا يكون محفوظاً؛ لأن ابن عيينة يزيد فيه كلاماً لا يقوله أحد. قلت: وقد روي في بعض الروايات ما ينافي تلك الزيادة، وذلك قوله: (إما أن تجعل صلاتك معنا). ولو كانت صلاته مع النبي ? نافلة على ما بيناه، لم يكن ليقول: (وإما أن تجعل صلاتك معنا). (ومن الحسان) [791] قول يزيد بن الأسود في حديثه فجيء بهما، ترعد فرائصهما، الفريصة: اللحمة بين الجنب والكتف التي لا تزال ترعد من الدابة، وجمعها فريص، وفرائص.

ويقال للإنسان إذا داخله الرعب وأخذ منه الفزع: أرعدت فريصته، وهي عنده منبض القلب، وفريص العنق: أو داجلها الواحدة فريصة، يقال: فرصته: أي أصبت فريصته، وهو مقتل. وفي الحديث: (إني

لأكره أن أرى الرجل ثائراً فريص رقبته قائماً على [مريته] يضربها). قال أبو عبيد: كأنه أراد به عصب الرقبة وعروقها؛ لأنها هي التي تثور عند الغضب. وهذا الحديث - أعني حديث يزيد بن الأسود - يعارض حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - عن النبي ?: (لا تصلوا في يوم مرتين) ويحمل ذلك على إقامة الصلاة في مسجد مرتين إيثاراً أو اختياراً. أو على إعادة الصلاة بعد أن صليت في جماعة، فأما الذي

صلى وحده ثم أدرك الجماعة، فإنه يستحب له أن يدخل في تلك الصلاة مع ما فيه من الاختلاف بين العلماء في استحباب ذلك في جميع الصلوات أو في بعضها، وليس قصدنا إيراد تلك الاختلافات؛ فإن كلاً منهم لم يأل جهداً في إشباع القول فيما ذهب إليه، وإنما قصدنا التوفيق بين الحديثين بما تيسر ثم التعليل الموجب للترجيح، وقد زعم بعض أهل الحديث أن حديث يزيد بن الأسود ناسخ لحديث ابن عمر - رضي الله عنهما- لأنه سمعه في حجة الوداع، وهي من أواخر أيام الرسول. وذلك قول غير سديد؛ لأن سماعه [له] حجة الوداع لا يحكم بأنه سمع قبل ابن عمر، وإنما يصح له هذه الدعوى فيمن لم يصحب النبي ? بعد حجة الوداع، وإذ قد علمنا أن ابن عمر صحبه بعد حجة الوداع [إلى أن] توفي فلنا أن نقول: يحتمل أنه سمعه بعد يزيد بن الأسود، ثم إن حديثه هذا لا يبلغ (108/أ) درجة حديث ابن عمر في الصحة والاشتهار، ولم يختلف أحد في صحته وحديث يزيد اختلف في إسناده، فرواه هشام وأبو عوانة عن يعلي بن عطاء عن عامر بن الأسود عن أبيه، وخالفهما شعبة، فقال يعلي بن عطاء عن جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه مثله.

باب صلاة الليل

ومن باب صلاة الليل (من الصحاح) [816] قول ابن عباس في حديثه (فأطلق شناقها) الشناق خيط يشد به فم القربة، يقال: أشنقت القربة إذا شددتها به، والشناق: أن يؤخذ في الصدقة من الشنق، وهو ما يفصل بين الفريضتين، ومنه الحديث: (لا شناق ولا شغار) أي لا يؤخذ من الشنق شيء حتى يتم، وقيل: أي لا يشنق الرجل إبله أو غنمه إلى ماشية غيره ليبطل الصدقة، وهو مثل قوله: (لا خلاط).

وفيه (فتتامت) أي توافرت حتى بلغت ثلاث عشرة ركعة من قولهم: تنام القوم إذا جاءوا كلهم. وفيه (اللهم اجعل في قلبي نوراً) إلى آخر الدعاء، وجه تخصيص كل عضو أو جزء في المألة بالذكر، مع استدعاء نور يختص به سوى ما فيه من استكثار الخيرات الإلهية، وإظهار الضراعة في مواقف العبودية هو أنه إنسان ذا سهوً وطغيان، أحاطت به ظلمات الجبلة معتورة له من قرنه إلى قدمه، ورأى الأدخنة الثائرة من نيران الشهوات محتفة به، ورأى الشيطان يأتيه من الجهات بوساوسه، وشبهاته ظلمات بعضها فوق بعض فلم ير للتخلص منها مساغاً، إلا بأنوار سادة لتلك الجات، مقترنة بتك الأجزاء، فسأل الله سبحانه أن يمده بها ليحسم مادة تلك الظلمات ويستأصل شأفتها فلا يتخلف في مسالك الطاعة عن العبد ذرة، ولا ينخزل في مواقع الرضاء عنه شعرة. وكل هذه الأنوار راجعة في المعنى إلى هداية وبيان وضياء للحق. وقال بعضهم: يحتمل أن يريد به الرزق الحلال حتى تقوى به هذه الأعضاء. [817] ومنه حديث زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنهما - (لأرمقن اللية ... الحديث) إنما كرر طويلتين ثلاثاً تأكيداً لطول الركعتين الموصوفتين، ويحتمل أنه كرر اللفظ، ليدل كل واحد على ركعتين (108/ب) سوى الأوليين فتكون ست ركعات، وهذا القول أشبه بما يدل عليه نسق الكلام أولاً [...] ثم بحرف العطف في الثانية والثالثة. وقوله "فذلك ثلاث عشرة ركعة" يدل على أنه أوتر بثلاث؛ لأنه صلى عشر ركعات في خمس دفعات ثم أوتر. [818] ومنه حديث عائشة - رضي الله عنها: (لما بدن رسول الله ? وثقل .. الحديث) بدن أي أسن (وثقل) عبارة عن الضعف وبطء الحركات وقد اختلفت الرواة في قولها: لما بدن: منهم من يرويه

مخففاَ بضم الدال من قولهم: بدن يبدن بدانة، وبدن بفتح الدال يبدن بدناً، والتبدن والبدن مثل عشر وعشر. السمن والاكتناز. ومنهم من يرويه بفتح الدال وتشديدها من التبدين، وهو من الكبر. قال الشاعر: وكنت خلت الشيب والتبدينا .... والهم مما يذهل القرينا وهذه الرواية هي التى يرتضيها أهل العلم بالرواية؛ لأن النبي ? لم يوصف بالسمن فيما وصف به وعلى هذا النمط حديثه الآخر (إني قد بدنت فلا تبادروني بالركوع والسجود): أي كبرت وأسننت. فإن قيل: فقد روي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: (لما ثقل رسول الله ? وأخذ اللحم) وروي عنها أنها قالت: كان يصلي بعض صلاته جالساً وذلك بعدما حمل اللحم. فالجواب: أن الأكثر من أهل المعرفة بالحديث يروونه على غير هذا السياق وقد روي عن عبد الله بن شفيق وهو اصوب الروايتين عن عائشة قال: قلت لعائشة: أكان النبي ? يصلي جالساً قالت: (نعم بعدما حطمته السن) وإذ قد علمنا أنه لم يكن موصوفاً بالسمن، ورأينا العلماء بالرواية اختاروا تشديد الدال، حكمنا بأن من خفف فقد صحف. والظاهر أن قول من يروي (أخذ اللحم) من تصحيف بدنت ثم روى الحديث بالمعنى فقال: أخذ اللحم، مع أن قول القائل أخذ اللحم غير دال على السمن والاكتناز الذي هو التبدين وإنما هو خلاف النحافة، والإنسان أكثر ما يكون في سن النماء والنشوء وهو نحيف؛ فإذا بلغ سن الكهولة أخذ اللحم فليس إذن في قولها: "أخذ اللحم" حجة على من نفى عنه البدانة. [819] ومنه حديث ابن مسعود (رضي الله عنه) (لقد عرفت النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن

بينهن .... الحديث) أراد بالنظائر السور المتماثلة في الطول والقصر ونظير [التي] مثله. وقول الراوي: فذكر عشرين سورة من المفصل قد فصل تلك السور في غير هذه الرواية، والحديث أورده أبو داود في كتابه "مستوفي" من علقمة والأسود قالا: أتى ابن مسعود رجل فقال: إني أقرأ المفصل في ركعة، فقال: أهذا كهذ الشعر ونثراً كنثر الدقل؟ لكن النبي ? كان يقرأ النظائر السورتين في ركعة الرحمن والنجم في ركعة واقتربت والحاقة في ركعة والطور والذاريات في ركعة، وإذا وقعت ونو في ركعة، وسأل سائل والنازعات في ركعة، وويل للمطففين وعبس في ركعة والمدثر والمزمل في ركعة، وهل أتى ولا أقسم بيوم القيامة في ركعة، وعم يتساءلون والمرسلات في ركعة، والدخان وإذا الشمس كورت في ركعة. قال ابو داود: هذا تأليف ابن مسعود - رضي الله عنه - قلت: وأراد بالمفصل السبع الآخر من كتاب الله تعالى وسمي مفصلاً، لقصر السور والآي فمن قائل: إنه سورة محمد ? إلى آخر القرآن، ومن قائل: إنه من سورة الفتح، ومن قائل: أنه من [التقدم]، ومنهم من قال: أول المفصل قاف، وهذا القول أكثرها. [821] ومنه قوله ? في حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه: (كتب من المقنطرين) المقنطر: صاحب القناطير كأنه جمع المال وقنطرها ميني من القنطار. وبه ورد التنزيل قال الله تعالى {والقناطير

باب ما يقول إذا قام من الليل

المقنطرة} وعنى بالمقنطرين عمال الله في أرضه إما لأنهم بلغوا في حيازة المثوبات مبلغ القنطرين في حيازة الأموال؛ أو لأن نسبتهم في كثرة الأعمال لوجه الله إلى غيرهم نسبة المقنطرين في مثرة العرض إلى سائر الأغنياء. ومن باب ما يقول إذا قام من الليل (من الصحاح) [827] قوله ? في حديث ابن عباس - رضي الله عنه: (أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن)

أي أنك تقوم بحفظها ومراعاتها وحفظ من أحاطت به واشتملت عليه تؤتي كل شيء ما به قوامه ويقوم على كل شيء من خلقه بما تراه من تدبيه. وفيه (أنت نور السموات والأرض ومن فيهم) فمعناه أن كل شيء استنار منها واستضاء فبقدرتك وجودك، الأجرام النيرة بدائع فطرتك، والحواس والعقل خلقك وعطيتك وأضاف النور إلى [109/ب] السموات والأرض دلالة على سعة إشراقة وفشو إضاءته وعلى هذا النحو فسر قوله تعالى: {الله نور السموات والأرض} وذكر فيه وجهاً آخر: وهو أن يراد أهل السموات والأرض، أي يستضيئون به، وقد استغنينا بقوله: (ومن فيهن) عن هذا التأويل وقد فسر كثير من العلماء النور في أسماء الله بالمنور وجدوا في الهرب عن إطلاق هذا الاسم على الله تعالى إلا من هذا الوجه وقالوا: إن النور يضاده الظلمة وتعاقبه فتزيله وتعالى الله أن يكون له ضد أو ند. وقال بعض العلماء معنى النور الهادي وفي هذا نظر؛ لأن إضافة الهداية إلى السموات والأرض لا يكاد يستقيم إلا بقدر محذوف ولا وجه له ههنا؛ لأن في الحديث (ومن فيهن) وإذا قيل: هادي أهل السموات والأرض ومن فيهن جعل العطف والمعطوف شيئاً واحداً وذلك غير صحيح وإذا قد علمنا أن الله تعالى سمى نفسه النور بالكتاب والسنة وقد ورد في الكتاب على صيغة الإضافة وورد في الحديث الصحيح الذي رواه أبو ذر من غير إضافة وذلك قوله: (نور أني اراه) حين سأله أبو ذر: هل رأيت ربك. وقد أحصى أهل الإسلام النور في جملة الأسماء الحسنى وقد عرفنا من أصول الدين أن حقيقة ذلك ومعناه يختص بالله سبحانه ولا يجوز أن يفسر بالمعاني المشتركة صح لنا إطلاقه على الله بالتوقيف ونقول في بيان ما نشير إليه: إن الله تعالى سمى القمر نوراً، وسمى النبي ? نوراً في عدة في عدة مواضع على ما يذهب إليه علماء التفسير وهما مخلوقان وبينهما مباينة ظاهرة في المعنى فتسمية القمر بالنور للضوء المنتشر منه في الإبصار وتسمية النبي ? به للدلالة الواضحة التي لاحت منه للبصائر، وسمي القرآن نوراً لمعانيه التي تخرج الناس عن ظلمات الكفر وطغية الجهالة وسمي نفسه نوراً لما اختص به من إشراق الجلال وسبحات العظمة التي تضمحل الأنوار دونها ثم لما هياه للعالمين مما فصلناه في معاني النور ليجتهدوا به في عالمي الخلق والأمر وهذا الاسم على هذا المعنى لا استحقاق لغيره فيه بل هو المستحق له المدعو به {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} ونعوذ بجهه الكريم أن نكون ممن يلحد في أسمائه.

باب التحريض على قيام الليل

(ومن الحسان) [831] قوله ? في حديث معاذ - رضي الله عنه - (فتعار من الليل) نقل أبو عبيد الهروي في كتابه عن ثعلبة قال: اختلف الناس في (تعار) فقال قوم: انتبه، وقال قوم: علم، وقال قوم؛ تمطى. وإن قلت: وأرى كلاً من هؤلاء قد ذهبوا إلى معانِ غير متقاربة من الاشتقاق اللفظي، إلا أن قول من قال: انبته وقد بقيت على بقية وهو أن تعار يتعار يستعمل في انتباه معه صوت، يقال تعار الرجل إذا هب من نومه مع صوت، ويحتمل أنه أخذ من عرار الظليم وهو صوته يقال: عار الظليم يعار، ويقول بعضهم: عار الظليم يعر عراراً كما قالوا: زمر النعام يزمر زماراً وأرى استعمال هذا اللفظ في هذا الموضع دون الهبوب والانتباه والاستيقاظ وما في معناه لزيادة معنى، وهو أراد أن يخبر بأن من هب من نومه ذاكراً لله تعالى مع الهبوب فسأل الله خيراً أعطاه اياه. فأوجز في اللفظ وأعرض في المعنى فأتى من جوامع الكلم التى أوتيها بقوله: تعار ليدل على المعنيين، وأراه مثل قوله سبحانه {يخرون للأذقان سجداً} فإن معنى خر: سقط على اجتماع أمرين: السقوط وحصول الصوت منهم بالتسبيح وكذلك في قوله (تعار) تنبيه على الجمع بين الانتباه والذكر وإنما يوجد ذلك عند من تعود الذكر فاستأنس به وغلب عليه حتى صار حديث نفسه في نومه ويقظته ولله قائله: يهيم فؤادي ما حييت بذكرها .. ولو أنني أرممت به الصدى ومن باب التحريض على قيام الليل (من الصحاح) [833] حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي ?: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم ... الحديث).

القافية القفا وهو آخر الرأس، وقفا كل شيء وقافيته آخره ومنه قافية الشعر ومعنى هذا الحديث: أن الشيطان يحبب إليه النوم ويزين له الدعة والاستراحة ويسول له كلما انتبه أنه لم يستوف حظه من المنام وأن قد بقى عليه من الليل زلف فيوثقه عن القيام إلى طاعة الله ويبطئه ويعوقه بتلك التويلات عن النهوض إليه، وإنما ذكر العقد تصويراً للمعنى المراد منه؛ لأن من شان من يوثق أحداً أن يضرب على وثاقه ثلاث عقد فيكون من الانحلال والانفلات على ثقة (110/ب). والذي شد قافية رأسه بثلاث عقد لا يكاد يمضي لشأنه إلا بعد انحلالها وإحدى العقد الثلاث تفتيره بما سول له عن القيام مما ندب إليه والأخرى: تفتيره عن الوضوء، والثالثة: تفتيره عن الصلاة، ويؤيد هذا التأويل قوله: (يضرب على كل عقدة: عليك ليل طويل فارقد). وفيه (فأصبح نشيطاً طيب النفس) وذلك؛ لأنه تخلص من وثاق الشيطان وخفف عنه أعباء الغفلة فأذهب عنه الطهور والمسارعة إلى الطاعة كدر الجبلة ووحشة [الأخبثية] ورجس الشيطان، فأصبح نشيطاً طيب النفس وإذا حيل بينه وبين هذه الفضائل كان الأمر بخلاف ذلك. [835] ومنه: قوله ? في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: (بال الشيطان في أذنه) قال أبو سليمان

الخطابي: يشبه ان يكون ذلك مثلاً ضربه له حين غفل عن الصلاة وتثاقل بالنوم عن القيام لها فمن وقع في أذنه بول فثقل سمعه وفسد حسه كذلك والبول ضار مفسد فلهذا ضرب به المثل وهذا كقول راجز العرب: بال سهيل في الفضيخ ففسد جعل طلوع سهيل وحدوث فساد الفضيخ بعد ذلك بمثابة ما يقع من البول في الشراب فيفسده. قلت: ويحتمل وجهين آخرين أحدهما: أن يقال أن الشيطان ملأ سمعه من كلام الباطل وأحاديث اللغو فأحدث ذلك في أذنه وقرا عن استماع دعوة الحق، والآخر: أن يجعل عبارة عن الاستخفاف والاستهانة به فإن من عادة المستخف بالشيء أن يبول عليه أو يبول فيه وقال الري: بال ههنا بمعنى ظهر عليه وسخر منه. وقيل قد يكون بوله في أذنه كناية عن ضرب النوم عليه وخصه بالأذن؛ لأنها حاسة الانتباه وسماع ما يكون من أصوات الدعاة إلى التهجد وقيل هو مثل قولهم تفل فلان في أذن فلان ونفث فيه إذا ناجاه.

القصد في العمل

قلت: وكل ما ذكرناه بمبلغ فهمنا عن غير نافلة عى وجه التقريب وحقيقة تأويله محكوم به للنبي ?. (ومن الحسان) [845] حديث أبي إمامة - رضي الله عنه - قيل: يا رسول الله أي أخلق بالدعاء وأرجى الاستجابة. ومنه الحديث الضحاك، وأراه الضحاك بن سفيان الكلابي لما عرض عليه الإسلام قال: فسمعت منه كلاماً لم أسمع منه يريد ابلغ وأنجع في القلب وقوله أسمع في الدعاء هو من السمه الذي يرد بمعنى الإجابة وذلك على سبيل الاتساع؛ لأن القول المسموع على الحقيقة هو ما يقترن بالقبول من السامع وقد فسرناه كرة أخرى في باب الذكر بعد الصلاة فلما أعاد الحديث بعينه في هذا الباب أعدنا البيان على ما تيسر لنا ومما جاء في الحديث بمعنى محكوم قوله ?: (أعوذ بك من دعاء لا يسمع) أي لا يجاب. قال الشاعر: دعوت الله حتى خفت أن لا .... يكةن الله يسمع ما أقول أي لا يجيب ما أعو به وقد ذكرنا الوجوه الإعرابية في جوف الليل الآخر فيما مضى والله أعلم بالصواب. باب القصد في العمل (من الصحاح) [849] حديث عائشة - رضي الله عنها - عن النبي ?: (خذوا من العمل ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا).

قلت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب بهذا القول وأشباهه أقواماً يعرفون صرف الكلام وفصل الخطاب ويفهمون مواقع من اللهجة العربية بعد أن شملتهم بركة الصحبة فألهموا الصواب وقد علموا أن الله تعالى منزه عن النقائص والعوارض والحوادث فلا يعتريه الملال ولا تعتوره الأحوال، وقد سلك سبيلهم العلماء الراسخون وبينوا للناس ما أشكل عليهم من ذلك وقد تكلم جمع منهم في معنى هذا الحديث واستحرجوه على وجوه قابلة للاحتمال، ووقع الاختيار منها على وجهين فيما نرى أحدهما: أن الله لا يمل أبداً وإن مللتم وذلك نظير قولهم فلان لا ينقطع حتى ينقطع خصمه أي لا ينقطع بعد انقطاع خصمه بل يكون على ما كان عليه قبل ذلك؛ لأنه لو انقطع على عقب من انقطاع خصمه لم يظهر له بهذا القول مزية ولم يثبت فضيلة، وعلى هذا المعنى قول الشنفري: صليت مني هذيل بحزق .... لا يمل الشر حتى يملوا والوجه الآخر - هو أجودهما: أن نقول ذكر الملال فيما أسند إلى الله تعالى على طريق الازدواج، والعرب تفعل ذلك في معارضة الفعل بالفعل فتذكر إحدى اللفظتين موافقة للأخرى وإن خالفتها في المعنى وله في التنزيل نظائر منها قوله تعالى: {يخادعون الله وهو خادعهم} وقوله {فيسخرون منهم سخر الله منهم} وقوله {وجزاء سيئة سيئة مثلها} [111/ب] وقوله {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} وقوله: {نسوا الله فنسيهم}. قال الشاعر: ألا لا يجهلن أحد علينا .... فنجهل فوق جهل الجاهلينا ومن المستبعد أن يفخر ذو عقل بجهل، وإنما أراد فنجازيه بجهله ونعاقبه على سوء صنيعه، ومعنى الحديث لا يغرض الله عن العبد إعراض الملوك عن الشيء حتى يمل هو عن القيام بطاعة الله ويمتحن بالإعراض عن خدمته. [851] ومنه: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - ? (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه)، الدين الطاعة والجزاء، وقد استعير للشريعة اعتباراً بالطاعة والانقياد، والمعنى أن دين الله

الذي تعبد به عباده مبني على اليسر والسهولة رحمة منه سبحانه حيث لم يكلفهم بالجهد فلم [يشق] عليهم، والمشادة في الشيء، التشدد فيه والمشادة في الدين أن يتعمق فيما لم يؤمر فيه بالتعمق وأن لا يرضى لنفسه من العمل ما يفضي به إلى السآمة والحير والانقطاع فيضعف عما تعبد به؛ فيغلبه الدين وينقطع عما كان يتسبب به إلى الوصول ويرد بما كان يتعمله للقبول كالقسيسين والرهابنة الهالكين في الديارات والصوامع. فهذا وجه النهى عن المشادة في الدين، وفي معناه حديثه الآخر (إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق). وفيه (فسددوا): سدد الرجل إذا لزم الطيقة المستقيمة وأدخل فيه الفاء لما تضمنه من معنى الشرطية وتقيدره، وإذ بينت لكم ما في المشادة من الوهن في العزيمة والفترة عن العمل، فسددوا أي: اطلبوا بنياتكم السداد وهو القصد المستقيم. قال شمر: سدد من السداد وهو الوفق الذي لا يعاب، والوفق المقدار، وفي الدعاء اللهم سددنا، أي: وفقنا للخير.

باب الوتر

وفيه (واستعينوا بالغدوة والروحة)، الغدوة بضم الغين نقيض الرواح، وهما السير في طرفي النهار. وفيه (وشيء من الدلجة) أدلج القوم إذا ساروا من أول الليل، والاسم الدلج بالتحريك والدلجة والدلجة أيضاً مثل برهة من الدهر [112/أ] وبرهة وادلج بتشديد الدال إذا سار من آخر الليل والاسم منه الدلجة، والدلجة، ومنهم من قال: الاسم بفتح الدال لا غير والمراد من الألفاظ الثلاثة الحث على التحريك لعبادة الله في الأوقات الصلاصة وكأنه بيان قوله سبحانه {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل} وإنما قال بشيء من الدلجة ليأخذ العبد بحظه من آناء الليل على ما تيسر له ثم لينتهي عن التحامل على نفسه بالسهر في سائر الليل بل يكتفر بشيء منه، فإن ذلك من المشادة المنهي عنها. ومن باب الوتر (من الصحاح) [861] قول عائشة - رضي الله عنها - (فإن خلق نبي الله - ? - كان القرآن) معنى هذا القول إن جميع ما فصل في كتاب الله من مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب مما قص عن نبي أو ولي أو حث عليه أو ندب إليه أو ذكر بالوصف الأتم والنعت الأكمل، فإن نبي الله ? - كان متحلياً به، ومستولياً له، وبالغاً

فيه من المراتب أقصاها، حتى جمع له من ذلك ما تفرق في سائر الخلائق وزيادة، وبين هذا المعنى قوله ? (بعثت لتمام مكارم الأخلاق). (ومن الحسان) [868] حديث علي - رضي الله عنه - عن النبي ? (إن الله وتر يحب الوتر) الحديث، الوتر المفرد، وأهل العالية وتميم وغيرهم يكسرون الواو إلا أهل الحجاز فإنهم يفتحونها، وبهما قرئ في التنزيل والله سبحانه وتعالى هو الوتر؛ لأنه البائن من خلقه الموصوف بالوحدانية من كل وجه لا نظير له في ذاته ولا سمي له في صفاته ولا شريك له في ملكه فتعالى الله الملك الحق وقوله (يحب الوتر) أي: يرضى به عن العبد في الإتيان به ويستأثر بما يوجد من طريق العدد على هذه الصفة فيما يعى به إليه ويتقرب به إليه فيقصد فيه التفريد إرادة للمعنى الذي أشير إليه. وفيه (فأوتروا يأهل القرآن) أي: صلوا الوتر، وأراد بأهل القرآن: المؤمنين وخاصة من يتعنى بحفظه

ويتولى القيام بتلاوته، ومراعاة حدوده وأحكامه، وأخل الفاء في قوله (فأوتروا) تنبيهاً على ما استكن فيه من عنى الشرطية فكأنه قال: إنه وتر يحب الوتر. [112/ب] وإذ هديتم إلى ذلك فلا تنسوا في تحري محاب ربكم، فأوتروا فإن من [شأن] أهل القرآن أن يكدحوا في ابتغاء مرضاة الله وإيثار محابه، فإن قيل: أيصح أن يجعل ما كان الوتر من الصلوات أفضل من الشفع بناء على هذا الحديث؟ قلنا: أما في المفروضات فلا، فإن الفضل على ما شرع لنا ثم إنها وإن كانت في أعداد الركعات شفعاً فإنها لا تنفك في المعنى عن وتر وهو أن يراد بها وجه الله لا غير ثم لا تقام في اليوم والليلة إلا مرة واحدة، وأما ما عداها فإن الوتر أفضله لاستجماعه معاني الفردانية واشتماله عليها وذلك من جهة العدد، ومن جهة التوجه به إلى الله وحده، ومن جهة التوقيف فيه على فرد مرة، وذلك قوله ? (لا وتران في ليلة). [869] ومنه حديث خارجة بن حذافة القرشي العدوي - رضي الله عنه - عن النبي ? (إن الله أمدكم

بصلاة هي خير لكم من حمر النعم) الحديث، أمدكم بصلاة أي: جعلها زيادة لكم في أعمالكم، والمادة الزيادة المتصلة، وقد روي إن الله زادكم صلاة، ومن الرواة من يرويه أمدكم بصلاة، وبسائر هذه الروايات استدل من راى وجوبها واستدل أيضاً بحديث أبي أيوب عن النبي ? (الوتر حق على كل مسلم) وبحديث بريدة بن الحصين السلمي عن النبي ? (الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا)، وبحديث أبي محمد (الوتر واجب) وأبو محمد هذا هو مسعود بن أوس الأنصاري يعد في أهل بدر. ومن ذهب إلى خلاف ذلك من العلماء فإنه استدل بحديث علي - رضي الله عنه - أنه قال الوتر ليس بحتم كهيئة الصلاة المكتوبة ولكن سنة سنها رسول الله ? ثم إنهم يحملون الأحاديث التي أوردناها على معنى التأكيد في حق السنة، ويعارضون قول أبي محمد بأقاويل من خالفه من الصحابة في ذلك ولكل وجهة هو موليها، وخارجة بن حذافة راوي هذا الحديث كان من الأبطال المذكورين، يقال إنه كان يعدل بألف فارس وهو الذي استخلفه عمرو بن العاص يوماً بمصر على صلاة الصبح حيث لم يمكنه الخروج لوجع اصابه في بطنه فأتى الخارجي رجل من بني العنبر يريد قتل عمرو، فقتل خارجة ولا يعرف له عن النبي ? حديث غير هذا. [114/أ]. [874] ومنه، حديث علي - رضي الله عنه - أن رسول الله ? كان يقول في آخر وتره (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك) الحديث. قال الخطابي في تقرير معنى هذا الحديث: سأله أن يجيره برضاه من سخطه ومعافاته من عقوبته، والرضاء والسخط ضدان متقابلان وكذلك المعافاة والمؤاخذة بالعقوبة فلما صار إلى ما لا ضد له وهو الله سبحانه استعاذ به منه لا غير، وقوله (لا أحصي ثناء عليك) اي: لا أطيقه ولا أبلغه حصراً وتعداداً وحقيقة المعنى الاستغفار من التقصير في بلوغ الواجب من حق عبادته والثناء عليه.

باب القنوت

ومن باب القنوت (من الصحاح) [876] حديث أنس - رضي الله عنه - انه بعث أناساً يقال لهم القراء. قلت: كان من أوزاعي الناس ونزاع القبائل أناس ينزلون الصفة، يتقفرون العلم ويتعلمون القرآن وكان

باب قيام شهر رمضان

يقال لهم القراء وكانوا إذا نزل بالمسلمين نازلة ردءاً لهم، وكانوا حقاً عمار المساجد وليوث الملاحم، فقدم على النبي ? عامر أبو براء الذي يقال له ملاعب الأسنة قبل إسلامه، فقال: لو بعثت إلى أهل نجد بعثاً لاستجابوا لك، فقال رسول الله ? (أخاف عليهم اهل نجد) فقال: أنا جار لهم فابعثهم، فبعث رسول الله ? سبعين رجلاًمن القراء وعليهم المنذر بن عمرو الساعدي، فلما نزلوا بئر معونة وهي بين أرض بني عامر وحرة بني سليم، بعثوا حرام بن ملحان إلى عامر بن الطفيل بكتاب رسول الله ? فقتل حرام بن ملحان - رضي الله عنه - ثم استصرخ على اصحاب حرام بني عامر فلم يجيبوه وقالوا لن نخفر أبا براء فاستصرخ عليهم قبائل من سليم عصية ورعلاً وذكوان والقارة فأجابوه وأحاطوا بالقوم فقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم إلا كعب بن زيد الأنصاري النجاري فإنه ترك وبه رمق فغاش حتى استشهد يوم الخندق، وكان بعث بئر معونة في أول السنة الراعبة من السنة الرابعة من الهجرة. ومن باب قيام شهر رمضان (من الحسان) [883] حديث أبي ذر - رضي الله عنه - وفي حديثه (يا رسول الله لو نفلتنا قيام هذه الليلة) أي: جعلت بقية الليل زيادة لنا في القيام الذي قمت بنا شطر الليل وكل شيء كان زيادة [114/ب] على الأصل

باب صلاة الضحى

فهو نفل وقيل للغنية نفل، لأنها كانت محرمة على من تقدمهم فزاد الله هذه الأمة في الحلال لإأباحها لهم ومنه قيل لما زاد على الفرض نافلة ومن التنفيل بمعنى الزيادة حديث ابن عمر - رضي الله عنه - (بعث النبي ? بعثاً قبل نجد فبلغ سهمانهم اثني عشرا بعيراً فنفلهم بعيراً بعيراً)، فالنفل ههنا هو الزيادة على سهامهم، ولو في قوله (لو نفلتنا) بمعنى ليت أي: ليتك نفلتنا ولهذا لم يأت فيه بالجواب. وفيه: (حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح يعني السحور) قلت: التفسير) من متن الحديث، ولم يبين في كتاب (المصابيح) فمن لم يعرفه بطرقه حسبه من قول المؤلف أو من قول بعض الرواة، وهو من قول أبي ذر رواه أبو داود في كتابه (بإسناده) عن جبير بن نفير عن أبي ذر. وفيه (قلت: وما الفلاح؟ قال: السحور) والظاهر أن هذا اللفظ استعاره أبو ذر فاستعمله؛ لأنه لو كان مستعملاً فيما يتداوله أهل اللغة لم يخف على جبير بن نفير وهو من أهل اللسان، وإنما سمي السحور فلاحاً، لكونه ميعناً على إتمام الصوم المفضي إلى الفلاح أو لأنه من إقامة سنة الرسول ? وذلك الفلاح كل الفلاح. ومن باب صلاة الضحى (من الصحاح) [888] حديث أبي ذر - رضي الله عنه - قال رسول الله ?: (يصبح على كل سلامي من أحدكم صدقة) الحديث. قال أبو عبيد: هو الأصل عظم يكون في فرسن البعير فكان المعنى على كل عظم ابن آدم

صدقة قلت: وفي معناه قوله ?: (خلق الإنسان على ثلاثمائة وستين مفصلاً) فتارة ذكر العظام؛ لأن بها قوام البدن وتارة ذكر المفاصل؛ لأن بها يتيسر القبض والبسط والتردد والنهوض إلى الحاجات. وفيه: (ويجزي من ذلك ركعتان) أي: تكفي من قولهم أجزاني أي: كفاني. [888] ومنه حديث زيد بن أرقم عن النبي ? (صلاة الأوابين حين ترمض الفصال). الأوب ضرب من الرجوع وذلك؛ لأن الأوب لا يقال إلا في الحيوان الذي له إرادة، والرجوع يقال فيه وفي غيره، فالأواب هو الراجع إلى الله تعالى بترك المعاصي وفعل الخيرات، ورمض الفصال أن تحرق الرمضاء عند ارتفاع الصبح (فيبرك) [115/أ] الفصيل من شدة حرها وإحراقها أخفافها وقال هذا القول حين دخل مسجد قباء ووجد أهل قباء يصلون في ذلك الوقت وإنما مدحهم بصلاتهم في الوقت الموصوف؛ لأنه وقت تركن فيه النفوس إلى الاستراحة، ويتفرغ فيه ذوو الخلاعة للبطالة ثم إنه وقت ينقطع فيه كثير من دواعي التفرقة، ويتهيأ فيه أسباب الخلوة وصرف العناية إلى العبادة فترد على قلوب الأوابين من الأنس بذكر الله وصفاء الوقت ولذاذة المناجاة ما يقطعهم عن كل مطلوب سواه، ويوجد ذلك الوقت في المعاني التي ذكرناها مشابهاً للساعات المختارة في جوف الليل فيغتنم العبادة حينئذ، والله تعالى أعلم.

باب التطوع

ومن باب التطوع (من الصحاح) [893] حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال النبي ? لبلال عند صلاة الفجر: (يا بلال حدثني) الحديث. قلت: سأله عن أوثق أعماله وأحقها بالرجاء عنده، وأضاف الرجاء إلى العمل؛ لأنه هو السبب الداعي إلى الرجاء، والمعنى أنبئني عن أعمالك بما أنت أشد رجاء فيه. وفيه (سمعت دف نعليك) أي: حسيسها عند المشي فيهما، واراه أخذ من دفيف الطائر إذا أراد النهوض قبل أن يستقل، وأصل ضربه بجناحيه دفيه، وهما جنباه فيسمع لهما حسيسها عند المشي فيهما، وأراه أخذ من دفيف الطائر إذا أراد النهوض قبل أن يستقل، واصله ضربه بجناحيه دفيه، وهما جنباه فيسمع لهما حسيس، وقد روي ذلك من وجوه مختلفة الألفاظ متفقة المعاني، ففي حديث بريدة (ما دخلت الجنة إلا سمعت خشخشتك أمامي) وحديث بريدة هذا في هذا الباب. وفي رواية أخرى قال لبلال: (ما دخلت الجنة إلا سمعت له خشخشة) أي: حركة لها صوت، وفي رواية (يا بلال ما عملك فإني لا أراني أدخل الجنة فأسمع الخشفة فأنظ إلا رأيتك)، والخشفة: الحس والحركة، تقول منه خشف الإنسان يخشف خشفاً، وخشف الثلج وذلك في شدة البرد يسمع له خشفة عند المشي وهذا شيء كوشف به ? من عالم الغيب في نومه أو يقظته وفي حديث بريدة بم سبقني إلى الجنة، ونرى ذلك والله أعلم عبارة عن مارعة بلال إلى العمل الموجب لتلك الفضيلة قبل ورود الأمر عليه وبلوغ الندب إليه وذلك مثل قول القائل لعبده [115/ب]: يسبقني إلى العمل أي: يعمل قبل ورود أمري عليه، ومن ذهب في معناه إلى ما يقتضيه ظاهر اللفظ فقد أحال؛ فإن نبي الله ? جل قدره أن يسبقه أحد من الأنبياء إلى الجنة؛ فضلاً عن بلال، وهو رجل من أمته.

وفيه: (لم أتطهر طهزراً في ساعة من ليل أو نهار .... الحديث): به يتمسك المتمسكون في استحباب الركعتين بعد الوضوء، وإن يكن ذلك في وقت مكروه، ولا متمسك لهم فيه؛ لأن صلاة بلال بعد الوضوء لا تقتضي لأن يكون قد توضأ في الوقت الذي ذكرناه - كا يلبث ريثما ينقضي الوقت المكروه، ثم يصلي اكعتين حتى لا نكون تقولنا على الصحابي بالظن والتخمين، وما وردت بخلافه الأحاديث الصحاح، وكيف يسع أحداً أن يرد السنن الواضحة باحتمال لا طائل تحته. (ومن الحسان) [898] قوله ? في حديث عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه -: (وعزائم مغفرتك): أي: الخصال التي توجب مغفرتك، وتحققها، وقد مر تفسيره في (باب سجود القرآن).

صلاة التسبيح

باب صلاة التسبيح (من الحسان) [899] حديث ابن عباس رضي الله عنه؛ أن النبي ? قال لعباس: (يا عماه .... الحديث): قلت: حديث صلاة التسبيح روي عن ابن عباس، والفضل بن عباس، وأبي رافع، وقد روي أيضاً - عن عبد الله بن عمرو، وأم سليم، رضي الله عنهم أجمعين. وهو من سائر الطرق غريب، وفي إسناد بعضه مقال، وقد اختار أبو داور رواية ابن عباس؛ فرواها في (سننه). والحديث على ما هو في (كتاب المصابيح) غير مستقيم قد سقط منه كلمات لا يعرف بدونها معناه، ولم تخل نسخة من الكتاب عن ذلك الخلل، وتجد ذلك في ثلاثة مواضع

أحدها: (ألا أفعل بك عشر خصال)، والرواية: (ألا أفعل لك). وثانيها: بعد قوله: (أوله وآخره) سقط منه (قديمه وحديثه). وثالثها: بعد قوله: (سره وعلانيته) سقط منه: (عشر خصال). وقد وجدت كثيراً من الناس قد تعذر عليهم تصور معنى هذا الحديث، والمانع منه شيئان: أحدهما: ما ذكرناه من الحذف. والآخر: أنهم يرون أن الخصلة إنما تستعمل في سجية خلقية أو خلق مكتسب؛ فتختص بمعنى محمود أو مذموم [116/أ] في نفس الإنسان. وليس الأمر على ما توهموه؛ فإن الخصلة هي الخلة، والخلة: الاختلال العارض للنفس: إما لشهوتها لشيء، أو لحاجتها إليه بالخصلة، كما يقال للمعاني التي تظهر من نفس الإنسان - يقال أيضاً لما تقع حاجته إليه؛ وقد ورد بمعناه الحديث عن عثمان - رضي الله عنه - أن النبي ? قال: (ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال: بيت يسكنه، وثوب يواري عورته، وجلف الخبز والماء)؛ فسماها خصالاً، وهي خارجة عن نفس الإنسان. وإذا قد بينا الخلل الذي في الحديث، وبينا معنى الخصلة - فالآن نبين معنى الحديث، فنقول - ومن الله التوفيق: قوله: (ألا أمنحك): المراد منه: المنحة بالدلالة على فعل ما يفيده الخصال العشر، وهو في المعنى قريب مما تقدمه من قوله: (ألا أعلمك)، وفي رواية أبي داود: (ألا أعطيك؟!)، (ألا أمنحك؟!) (ألا أحبوك؟!)، وكل هذه الألفاظ راجعة إلى المعنى الذي ذكرناه، وإنما أعاد القول بألفاظ مختلفة؛ تقريراً للتأكيد، وتوطئة للاستماع إليه. وأما قوله: (ألا أفعل لك عشر خصال) - فإنما أضاف فعل الخصال إلى نفسه؛ لأنه كان هو الباعث عليها والهادي إليها، والخصال العشر منحصرة في قوله: (أوله وآخره، وقديمه وحديثه خطأه وعمده، صغيره وكبيره، سره وعلانيته؛ فهذه الخصال العشر، وقد زادها إيضاحاً بقوله: (عشر خصال) بعد حصر هذه الأقسام، أي: هذه عشر خصال. ومن نصب الراء (عشر) فالمعنى: خذها عشر خصال، أو دونك عشر خصال، أو منحتك عشر خصال، وما أبه ذلك. وأما قوله: (إذا أنت فعلت ذلك): أي: أفعل ذلك من تحقيق الخصال العشر إذا أنت فعلت الأمر الذي أمرتك به؛ فقوله ذلك راجع إلى ما قصد تعليمه إياه، ودلالته عليه. هذا، وقد سئلت عن هذه الأقسام، فقيل لي (أليس الأول والآخر يأتيان على القديم والحديث؛ وعلى هذا: فما فائدة هذه الألفاظ، وتقسيمها على عشر خصال؟): فكان من جوابي لذلك بتوفيق الله، قلت قد علمنا من الحديث أن الخصال العشر هي التي عدها رسول الله ? مبينات مفصلات؛ فلابد أن يقع البيان على خصال متغايرة لا تتحد معانيها؛ فنقول:

معنى قوله: (أوله وآخره) أي: مبدأه [116/ب] ومنتهاه؛ وذلك لأن من الذنب ما لا يواقعه الإنسان دفعة واحدة، وإنما يتأتى منه شيئاً فشيئاً. ونظير ذلك الإنسان المواقع في الزنا؛ فإنه يتمنى ويشتهي، ثم يتطلع أولاً إليه، فينظر ويراود، ويقبل ويلامس، ويباشر. وهذه الجملة [وإن كانت ذنوباً متعددة، فإنها الحقيقة راجعة إلى شيء واحد، ولتأكيد الجملة ....] أول وآخر؛ فإذا صحت الإنابة، وتقبلت التوبة؛ تجاوز الله عما اجتلاحه العبد في أول الأمر وآخره. ويحتما أن يكون معنى قوله: (أوله وآخره) أي: ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومعنى: (قديمه وحديثه) أي: ما قدم به عهده وحدث. ويحتمل: أن يراد بـ (القديم): ما تعوده؛ فتكرر منه فعله؛ ويكون حينئذ على معنى الإصرار؛ ويراد بالحديث: ما ندر منه؛ وهو خلاف الإصرار. وقوله: (خطأه وعمده، صغيره وكبيره، سره وعلانيته): فهذه الأقسام الثلاثة - وإن كانت متداخلة؛ لأن الخطأ والعمد يأتيان على سائر أقسام الذنب، وكذلك الصغير والكبير، والسر والعلانية - فإن جنس الذنب لا يخلو عن أحد اقسمين من جملة الأقسام المذكورة، لكن ل قسمين متقالبين منها متفارقان عن الآخرين في الحد والحقيقة؛ فالحكم الذي يختص بالخطاء غير الحكم الذي يختص بالعمد، والمؤاخذة التي تتعلق بالصغير غير الذي تتعلق بالكبير، وكذلك السر والعلانية؛ فالخطأ العمد لا يسدان سد الصغير والكبير؛ لاحتمال أن يكون الخطأ والعمد - المذكوران في الحديث - من أحد قسمي الصغير والكبير، وكذلك الصغير والكبير يحتملان أن يكونا في أحد قسمي السر والعلانية؛ فهي إذن خصال متغايرة. ثم إن قوله: (غفر له ذنبه): يحتمل أن يكون ذلك الغفران في بعض دون بعض، فإذا قال: (أوله وآخره): ارتفعت الشبهة، وبقي احتمال ذلك الغفران في بعض دونما بعض، فإذا قال: (أوله وآخره): ارتفعت الشبهة، وبقي احتمال أن يكون ذلك فيما قدم دون ما حدث، أو على القلب، فإذا قال: (قديمه وحديثه): زال ذلك الاحتمال، وبقي احتمال أن يكون ذلك في الصغير دون الكبير، فإذا نص عليهما، لم يبق للاحتمال مجال، إلا في السر والعلانية، فإذا ذكرا، زال الإشكال والاشتباه. فعلمنا من الوجوه التي ذكرناها: أن الحصر أفادنا معاني لم نكن لنعرفها إلا بإيراد هذه الألفاظ المعبر عنها بـ (الخصال العشر)، والله أعلم. [901] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي إمامة رضي الله عنه: (فإن البر ليذر على رأس العبد) أي: ينثر ويفرق من قولهم: ذررت الحب والملح والدواء، أذره ذراً، أي: فرقته، ومن الناس من صفحه فيقول: (ليدر) بالدال الملهمة؛ وهو مشاكل للصواب من طريق المعنى، إلا أن الرواية لم تساعده، وكذلك رواه

الحفظة الأثبات؛ والحديث إنما يؤخذ عن رجاله، وليس لأحد أن يخالفهم إلا في لفظ اختلف فيه؛ فيتحقق التصحيف عن بعضهم: فذلك الذي لا حرج فيه. ومما يفتقر إلى بيانه - من هذا الحديث -: قول الراوي: (يعني: القرآن).

باب الجمعة

هكذا ذكره مؤلف الكتاب من غير أذكر المفسر الذي فسره، وهذا الحديث نقله من (كتاب الترمذي)، وقد رواه الترمذي عن أحمد بن منيع، عن أبي النضر، عن بكر بن خنيس، عن ليث بن ابي سليم، عن زيد بن أرطأة، عن أبي إمامة، وفي روايته (قال أبو النضر: يعني: القرآن)؛ فلم يذكر فيه المؤلف ابا النضر، ومثل هذا لا يتسامح فيه أهل الحديث، والحق معهم؛ فإن ترك ذكر من فسره يوهم أن التفسير من قول الصحابي؛ فيجعل من متن الحديث؛ وفي ذلك خلل بين وفساد عريض. وهذا الحديث لا يدخل في جملة ما يعتمد من الأحاديث؛ فإن في إسناده بحر بن خنيس؛ وهو ضعيف، وليث بن ابي سليم أيضاً يمد في الضعفاء. باب الجمعة (من الصحاح) [915] قوله ? في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - (بيد أنهم أوتوا الكتاب الكتاب من قبلنا):

بيد يستعملونه بمعنى (غير)؛ يقال: (هو كثير المال بيد انه بخيل) [117/ب]. والمعنى: نحن الآخرون السابقون غير أنهم أتوا الكتاب من قبلنا. وقيل: معناه: على أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، مع أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، و (ميد): لغة فيه؛ وفي الحديث: (أنا أفصح العرب بيد أني من قريش، ونشأت في بني سعد بن بكر)، وقد روي: (بيد أني من قريش)، وهذا الحديث يؤيد قول من ذهب في معنى قوله: (بيد أنهم أوتوا الكتاب) أي: مع أنهم، وأما: (غير أنهم): فإنه يستقيم في حديث: (أنا أفصح العرب). وقد قيل: (بيد أني من قريش) أي: من أجل أني من قريش. (ومن الحسان) [918] قوله ? في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (وما من دابة إلا وهي مسيخة): أي: مصغية مستمتعة، ساخ وأصاخ: بمعنى واحد، وأصاخ: أكثر استعمالاً، وكأنه هو الأصل، وأساخ: قلبت صاده سيناً، والعرب تفعل ذلك إذا كانت في الكلمة خاء أو طاء أو عين، أو قاف؛

كالصماخ، والصراط، والصدغ، والبصاق، والرواية في هذا الحديث بالسن والصاد في كلامهم أكثر، قال أبو داود الشاعر: وتصيخ أحياناً كما اسـ .... ـتمتع المضل لصوت ناشد ووجه إساخة طل دابة يوم الجمعة - وهي - مما لا يعقل: أن نقول: إن الله تعالى يجعلها ملهمة بذلك، مستشعرة منه، وغير مستنكر أمثال ذلك - وهو ما فوقه في العجب - من قدرة الله سبحانه، والحكمة في إخفاء ذلك عن الجن والإنس: أنهم مكلفون، ولا سيما بالإيمان بالغيب، فإذا كوشفوا بشيء من ذلك، اختلت قاعدة الابتلاء؛ وحق القول عليهم بالاعتداء، ثم إنهم لا يستطيعون له سمعاً إن ظهر لهم. ويجوز أن يكون وجه إساخة كل دابة يوم الجمعة: أن الله تعالى يظهر يوم الجمعة في أرضه من عظائم الأمور، وجلائل الشيءون: ما تكاد الأرض تميد بها؛ فتبقي كل دابة ذاهلة دهشة؛ كانها مسيخة للرعب الذي يداخلها، والحالة التي تشاهدها حتى كأنها تشقق شفقتها من قيام الساعة. [920] ومنه: حديث أوس بن أوس الثقفي - رضي الله عنه - في حديثه: (كيف تعرض عليك [117/أ] حديث صلاتنا وقد أرمت):

باب وجوب الجمعة

قال الراوي: أي: بليت؛ يقال: أرم المال والناس، أي: فنوا، وأرض آرمة: لا تنبت شيئاً. وقيل: إنما هو (أرمت) على بناء المفعول، والأرم: الأكل؛ ولذلك قيل للأسنان أرم، وأرمت الإبل تأرم: إذا تناولت العلف. ويروى: (أرممت) أي: صرت رميماً؛ وإذ قد وردت الرواية بهذا، وإذ قد وردت الرواية بهذا، جاز أن يكون قول من يرويه: (أرمت) بحذف إحدى الميمين من (أرممت)؛ وهو لغة لبعض العرب؛ كقولهم: ظلت أفعل كذا، أي: ظللت؛ وهذا الوجه نقلته من (كتاب الخطابي). ومن باب وجوب الجمعة (من الصحاح) [922] حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات .... الحديث): (ودعهم) أي: تركهم، ثبت هذا المصدر عن قول النبي ? وثبت عنه الماضي - أيضاً - في حديث آخر، وقد زعم علماء العربية - لا سيما النجاة منهم أن هذا ميت مصدره والماضي منه؛ فلا يقال: (ودعه

باب التنظيف والتبكير

وإنما يقال: (تركه)، ويزعمون أن العرب قد تركت النطق بهما، وربما جاء في ضرورة الشعر: (ودعه)؛ قال الشاعر: ليت شعري عن خليلي ما الذي .... غاله في الحب حتى ودعه ولا يقال: (أودع)، وإنما يقال: تارك. وكذا .... في مودوع .... الذي ذكرنا ..... الراو .... رواية ..... بالمعنى، فلا .... بما قالوا، إذ قول النبي - ? - هو الحجة القاضية على كل ذي لهجة وفصاحة. ومن باب التنظيف والتبكير (من الصحاح) [929] حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي ? من مس الحصى، فقد لغا): أي كان كمن تكلم به، وقيل: لغا عن الصواب، أي: مال، وقيل: مال عن الجمعة؛ لما حرم من الأجر. ومنه: حديثه الآخر عن النبي ?: (إذا كان يوم الجمعة، وقفت الملائكة على باب المسجد يكتبون الأول فالأول، ومثل المهجر .... الحديث).

قد ذكرنا فيما مضى [من] الكتاب: أن التهجير والتهجر: السير في الهاجرة وقد ذهب جماعة في المهجر إلى الصلاة إلى ان معناه: التبكير إليها. وذهب آخرون: إلى أنه بعد الزوال؛ لأن التهجير إنما يكون نصف النهار؛ ويعزي هذا القول إلى مالك. قلت: وهذا صحيح من طريق اللغة؛ فإنهم يقولون: هجر النهار: إذا بلغ وقت اشتداد الحر وانتصف؛ ومنه قول امرئ القيس: فدعها وسل الهم عنك بجسرة .... ذمول إذا صام النهار وهجراً قلت: ومن ذهب في معناه إلى التبكيلا: فإنه اصاب أيضاً وسلك طريقاً حسناً من طرق الاتساع؛ وذلك أنه جعل الوقت الذي يرتفع فيه النهار، ويأخذ الحر في الازدياد من الهاجرة؛ وله نظائر من كلامهم؛ كقولهم في طرفي النهار: (الغداة، والعشي) ثم إنهم جعلوا النهار نصفين، فسموا النصف الأول: غداة، والنصف الثاني: عشياً. ونرى هذا الوجه أشبه الوجهين؛ لحديثه الآخر؛ أن رسول الله قال: (من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح [117/ب]: فكأنما قرب بدنه، ومن راح في الساعة الثانية: فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة: فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة: فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام، حضرت الملائكة يستمعون الذكر)؛ وهذا حديث صحيح أخرجه البخاري في كتابه (كتابه) عن أبي هريرة؛ فتقسيم اوقات الرواح على الساعات الخمس: يبين لنا أن المراد من التهجير: التبكير؛ لتضايق ما بعد الزوال عن تلك الساعات. ومما يدل أيضاً على هذا المعنى: أنه قال في أول الحديث: إذا كان يوم الجمع، وقفت الملائكة)، ولم يقل: (إذا كان وقت الجمعة). فإن قال قائل: (أفلا يصح أن تحمل الاساعات على المجاز والتوسعةفي الكلام، كقول القائل: انظرني ساعة، وارعني سمعك فأحدثك ساعة؛ ونحو ذلك مما لا يراد به التحديد، وأن يراد بـ (يوم الجمعة) بعض اليوم، وذلك هو الزمان الذي يتعين عليه الرواح بدخول وقت الزوال؟). قلنا: إما من طريق اللهجة العربية، فإنه قول قويم، ولم ننكر التأويل عليه، غير اننا نرى الذهاب إلى التبكير في هذا الحديث أولي؛ لأن القول بالاتساع في التهجير أقرب من القول به في الساعات الخمس. مع أنا - وإن ذهبنا فيها إلى الاتساع - فلا غنية بنا عن تبيين تلك الساعات وتقديها؛ لنهتدي إلى مقادير الفضل بين السابق واللاحق، وذلك - أيضاً - يستدعي زماناً ممتداً قابلاً للتسقيم الذي أتى به الشارع فاصلاً للمرابت التي بينها، ونرى حمل قوله: (إذا كان يوم الجمعة) على الساعات المبتدأة - أوقى وأولى من حمله على الساعات المتوسطة؛ لمكان الشرط، وتعلق الحكم به. وقوله: (فكأنما قرب دجاجة): أي: تصدق بها متقرباً بين يدي الله، وكذلك القول في قوله: (قربت بيضة).

(ومن الحسان) [933] حديث أوس بن أوس الثقفي - رضي الله عنه - عن النبي ?: (من غسل يوم الجمعة واغتسل .... الحديث): قد اختلف أهل الرواية في قوله: (غسل) فمنهم: من يرويه بالتشديد، وهم الأكثرون عدداً. ومنهم: من يرويه بالتخفيف؛ وهم الأعلام من أئمة الحديث. فأما من شدد [118/أ]: فمنهم من يقول: على معنى التأكيد، ومنهم من يقول: غسل الرأس خاصة، لأن العرب لهم لمم وشعور، وفي غسلها كلفة؛ فأفرد ذكر غسل الرأس من اصل ذلك؛ وإليه ذهب مكحول؛ وبه قال أبو عبيد. ومنهم من قال في معناه: يطأ صاحبته؛ منهم عبد الرحمن الأسود؛ وهلال بن ياف وهما من التابعين، وكأنهم ذهبوا إلى هذا المعنى؛ لما فيه من غض البصر، وصيانة النفس عن الخواطر التي تحجز بينه وبين التوجه إلى الله بالكلية. وإذا خفف، فمعناه: إما التأكيد، وإما غسل الراس، والاغتسال للجمعة، وروينا عن أبي بكر بن الأثرم صاحب أحمد في سؤاله عنه عن هذا الحديث: كلاماُ زبدته: أنه فاوض أحمد في هذا الحديث، وراجعه كرة بعد أخرى؛ فقال: ما سمعنا إلا (غسل) بالتشديد، وكان يذهب في معناه إلى ما ذكرناه من الوطء، قال: فذكرت له الحديث عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: (من غسل) مخففة، قال: وأي شيء معناه؛ إذا خفف؟ قلت: غسل رأسه واغتسل، قال: ليس بشيء! ثم قال لي بعد ذلك: نظرت في ذلك الحديث؛ فلم أجد (غسل) - يعني: بالتشديد - ولعله أن يكون في بعض الحديث، ولم أجده، وإنما أصبته (غسل) مخففة من حديث عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، قلت: عن حسين، أعني: الجعفر؟ قال: نعم؛ سمعته من الحسين، قال: ومن حديث المبارك عن الأوزاعي. وفيه: (بكر وابتكر): يحتمل: أن المخالفة بين اللفظين لم تقع لاختلاف المعنيين، وإنما معناهما واحد، والمراد من إيرادهما: التأكيد - على ما ذكرنا - ويؤيد هذا القول رواية النسائي في (كتابه): (وغدا وابتكر). وقيل: معنى (بكر): أدرك باكورة الخطبة، وهي أولها، وهى أولها، و (ابتكر) أي: قدم في أول الوقت.

وقال ابن الأنباري: (بكر): تصدق قبل خروجه؛ يتأول على ما روى في الحديث: (باكروا بالصدقة؛ فإن البلاء لا يتخطاها). على هذا النحو وجدنا تفسيرهما في كتب أصحاب الغريب، وتابعهم عليه الخطابي وغيره. ووجدت تفسيرهما في كتاب أبي عبيد الهروي على خلاف ذلك، وهو أنه قال: بكر، قالوا اسرع، وابتكر: أدرك الخطبة من أولها، وهو من الباكورة). قلت: وأرى نقل أبي عبيد أولى بالتقديم؛ لمطابقته [118/ب]- أصول اللغة، وذلك لأنهم يقولون لكل من بادر إلى الشيء: أبكر إليه وبكر أي وقت كان، ومنه الحديث (لا يزال أمتي على ستني ما بكروا بصلاة المغرب أي صلوها عند سقوط القرص، وفي الحديث (بكروا بالصلاة في يوم الغيم فإنه من ترك العصر حبط عمله) أي تقدموا وقدموها في أول وقتها، ويقولون ابتكرت الشيء أي استوليت على باكورته ويشهد لصحة هذا القول نسق الكلام فإنه حث على التبكير ثم على الابتكار وعلى هذا نسق العمل فإن يتوجه الإنسان إنما يغدو إلى المسجد أولاً ثم يستمع الخطبة ثانياً ومن آداب الخطيب المصقع والبليغ المغرب أن يتوجه في الأمر بمقاله على ما هو الأول فالأول، ونبي الله ? أفصح من كل فصيح وأبلغ من (كل) بليغ، واختلف جمع من علماء النقل في راوي هذا الحديث فمنهم من يقول: أوس بن أوس ومنهم من يقول: أوس بن أبي أوس، ومنهم من يقول أوس بن حذيفة، قال يحيى بن معين: أوس بن أوس وأوس بن أبي أوس واحد، وقال خليفة بن خياط: وأسلم أبي أوس حذيفة، فعلى هذا كل ذلك واحد، وعليه يدل الروايات، وقد أورد أبو نعيم الأصفهاني في هذا الحديث في ترجمة أوس بن حذيفة الثقفي، وذكر أن هذا ليس بأوس بن أوس حذيفة الثقفي، وليس لأبي نعيم أن يقطع بهذا القول على ما بدا له فلعل الرجل كان مذكوراً بالاسمين أو كان الوافد من ثقيف أوس بن اوس، وأوس بن حذيفة أيضاً كان من وفد ثقيف، وهذا الحديث أخرجه الأئمة الثلاثة في كتبهم أبو داود وأبو عيسى وأبو عبد الرحكم عن أوس بن أوس على ما ذكرناه، وهم الأعلام في علم النقل، وما اجتمعوا عليه كان حجة على من بعدهم من أهل النقل. [936] ومنه: حديث معاذ بن أنس رضي الله عنه عن النبي ? (من تخطى رقاب الناس يوم الجمعة اتخذ جسراً إلى جهنم) تخطى أي تخطى أي تجاوز بالخطو رقاب الناس يقال تخطيته أي تجاوزته، وقوله اتخذ) يروى

باب الخطبة والصلاة

على بناء الفاعلية وهي الرواية المعتد بها، وذلك من حيث المعنى أقوم، أي صنيعه ذلك يؤديه إلى جهنم كالجسر الذي يؤدي بمن يعبر عليه إلى ما وراءه، وذلك أن الرجل كان بحضوره الصلاة [119/أ] ممن جعل بينه وبين النار خندقاً، فاتخذ بذلك جسراً يعبر به إلى جنهم، ومنهم من يرويه على بناء مفعول ما لم يسم فاعله، وفيه وهن، رواية ومعنى، ومنه حديثه الآخر (أن رسول الله ? نهى عن الحبوة يوم الجمعة) الحبوة بضم الحاء وكسرها الاسم من الاحتباء، وهو أن يجمع الرجل ظهره وساقيه بثوب، وقد يحتبي بيديه، ووجدت الرواية بكسر الحاء، والحبوة بالفتح المرة من الاحتباء ولا معنى لها ههنا، ووجه النهي والله أعلم هو أنها مجلبة للنوم، ثم أنها هيئة لا يكون معها تمكن، فربما يفضي إلى انتقاض الطهارة فيمنعه الاشتغال بالطهارة استماع الخطبة وحضور الذكر إن لم تفته الصلاة، مع ما يتوقع منه من الافتتان بالمضي في الصلاة لغلبة الحياء ممن يخلو عن علم يسوسه وورع يحجزه. ومن باب الخطبة والصلاة (من الصحاح) [941] حديث أنس رضي الله عنه (كان رسول الله ? إذا اشتد البرد بكر بالصلاة) اي تعجل بها وفيما ذكرناه فيما مضى ويحمل حديثه الآخر (كان رسول الله ي? صلي الجمعة حين تميل الشمس) على أنه في فصل دون فصل ولم يرد بقوله كان عموم الأحوال، ليتفق الحديثان، ومنه حديث التائب بن يزيد رضي الله عنه وفي حديثه (فلما كان عثمان رضي الله عنه وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء) المعنى أن رسول الله ? والإمامين بعده رضي الله عنهما كانوا يصعدون المنبر بعد الزوال قلب النداء فيؤذن المؤذن بين يدي المنبر وهو النداء الأول، ويقيم بعد الخطبة وهو النداء الثاني، فلما كان عثمان وكثر الناس رأى أن يؤذن قبل خروج الإمام اينتهي الصوت إليهم فيحضروا وهو النداء الثالث في الترتيب لأنه زيد بعد النداءين، والزراء ذكر تفسيرها في الحديث من رواية ابن ماجة في سننه. قال الراوي: فلما كان

عثمان وكثر الناس رأى النداء الثالث على دار في السوق يقال لها الزوراء قلت: والزوراء أيضاً اسم مال بالمدينة لأحيحة بن الحلاج وفيه يقول: إني مقيم على الزوراء أعمرها .... إن الكريم على الإخوان ذو المال وهذه أشهر بهذه التسمية من الزوراء المذكورة في الحديث، ومن الناس من تشتبه عليه ولا وجه للنداء على الزوراء التي هي من أموال أهل المدينة، والمعول في ذلك على الحديث الذي ذكرناه، قلت: ولعل هذه الدار سميت زوراء لميلها عن عمارات البلد [119/ب] يقال قوس زوراء لميلها أو لأنها بعيدة عنها، يقال: أرض زوراء اي بعيدة قال الأعشى: يسقى دياراً لها قد أصبحت غرضاً .... زوراء أجنف عنها القود والرسل [943] ومنه: حديث جابر بن سمرة - رضي الله عنهما - في حديثه (وكانت صلاته قصداً وخطبته قصداً) أصل القصد استقامة الطريق ويستعمل فيما بين الإسراف والتقتير، والمراد به ههنا إقامة الخطبة والصلاة مقترنة بالرعاية عن طرفي التطويل والتقصير في حكم الدين، ولما شرع رسول الله ? أن تكون الصلاة أطول من الخطبة أعاد لفظ القصد في الخطبة ليعلم أن القصد في الخطبة غير القصد في الصلاة، فلم يقل: وكانت صلاته وخطبته قصداً تفريقاً بين القضيتين. [944] ومنه: حديث عمار رضي الله عنه سمعت رسول الله ? يقول: (إن طول صلاة الرجل وقصر

خطبته الحديث. قلت: ربما يسبق إلى الأفهام القاصرة أن حديث سمرة مخالف لهذا الحديث، لأنه نفى التطويل والتقصير عن الخطبة والصلاة والنبي ? عمد طول الصاة وقصر الخطبة في الجمعة فيرى بين القولين تنافراً وتضاداً، وليس الأمر على ما تصوره فإن طول الصلاة الذي ذكر في حديث عمار هو الذي يوافق السنة ولا يتعداها فيؤتى بها على حد الكمال دون ما نهى عنه من مجاوزة الحد، وذكر الطول والقصر في الأمرين إنما هو بالنسبة إلى كل واحد منهما كقولك فلان أطول من فلان أو أقصر منه، وإن لم يكن الموصوف بالطول طويلاً ولا الموصوف بالقصر قصيراً تريد به تبيان المناسبة التي بينهما في الطول والقصر، فالمراد مما ذكر في حديث سمرة هو الاعتدال في الإتيان بهما على نهج السنة مع المجانبة عن الإفراط والتفريط بالتطويل والتقصير اللذين وردت السنة بخلافهما، فلا تضاد إذاً بين الحديثين، وإنما جعل طول الصلاة وقصر الخطبة من علامة فقه الرجل، لأن الصلاة هي الأصل والخطبة فرع عليها ومن القضايا الفقهية أن يؤثر الأصل على الفرع بالزيادة والفضل، وفيه مثنة من فقهه أي: علامة، والتمتئة: الإعلام وهذه الحروف هكذا يروى في الحديث مخففة النون وفي الشعر بتشديدها، قال الراجز: مثنة من الفعال الأعوج قال الجوهري: وحقه أن يقال مئينة مثل معينة على فعيلة لأن الميم أصلية إلا أن يكون أصل هذا الحرف غير هذا [120/أ]. الباب فيكون مئنة مفعلة من إن المكسورة المشددة كما يقال هو معساة من كذا أي مجدرة ومخلقة وهو مبني من عسى. (ومن الحسان) [949] قوله ? في حديث جابر رضي الله عنه (فليتجوز فيها) أي ليخفف، يقال: تجوز في صلاته إذا خفف.

باب صلاة الخوف

ومن باب صلاة الخوف (من الصحاح) [954] حديث جابر - رضي الله عنه - (أقبلنا مع رسول الله ? حتى إذا كنا بذات الرقاع) الحديث. غزوة ذات الرقاع غزاها رسول الله ? في السنة الخامسة فلقي المسلمون جمعاً من غطفان فخاف الجمعان بعضهم بعضاً، فصلى رسول الله ? صلاة الخوف وانصرف، ولم يكن بينهم حرب، واختلفت الروايات في صيغة تلك الصلاة لاختلاف أيامها فقد صلى رسول الله ? بعفان وببطن نخلة وبذات الرقاع وغيرها على أشكال متباينة بناء على ما رآه من الأحوط في الحراسة، والتوقي من العدو، وقد أخذ بكل رواية منها جمع من العلماء، وأما تسمية الغزوة بذات الرقاع، فقد روي مسلم في كتابه ما يبين ذلك روي عن أبي عامر عبد الله بن يراد الأشعري عن أسامة عن بريد عن ابي بردة عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: (خرجنا مع رسول الله ? في غزاة ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه فنقبت أقدامنا، فنقبت قدمي وسقطت أظفاري وكنا نلف على أرجلنا الخرق فسميت غزوة ذات الرقاع؛ لأن الأرض التي التقوا فيها كانت قطعاً بيضاء وحمراء وسوداء كالرقاع المختلفة في اللون. قلت: وقول جابر (حتى إذا كنا بذات الرقاع) يدل على أن ذات الرقاع اسم لمكان بعينه، وحديث أبي موسى حديث صحيح، فالسبيل أن نقول: لعل أبا موسى كان في غزوة عرفت بغير ذلك الاسم، وكانوا يسمونها ذات الرقاع فيما بينهم للعلة التي ذكرها ولو اعتبرنا نحن التاريخ الذي عليه أصحاب المغازي من كون ذات الرقاع فيما بينهم للعلة التي ذكرها ولو اعتبرنا نحن التاريخ الذي عليه اصحاب المغازي من كون ذات الرقاع في السنة الخامسة فلابد من تأويل حديث أبي موسى على ما ذكرناه؛ لأنه كان من أصحاب السفينة الذين قدموا على رسول الله ? من الحبشة بعد فتح خيبر، وقد وجدت الحافظ إسماعيل الأصفهاني قد ذكر في تاريخ أيام الرسول ? [120/ب]. أن ذات الرقاع كانت في السنة الخامسة وهو من المعتبرين في هذا الشأن، فلو أخذنا بظاهر حديث أبي موسى وهو حديث صحيح، فتأويل قول جابر (حتى إذا كنا بذات الرقاع) أن نقول: تقديره: حتى إذا كنا بالمكان الذي كانت به غزوة ذات الرقاع، فسمي البقعة باسم الرقعة.

باب صلاة العيدين

ومن باب صلاة العيدين (من الصحاح) [957] حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - وفي حديثه (إن كان يريد أن يقطع بعثاً قطعه).

البعث الجيش الذي يبعث إلى العدو، وقطعه: توزيعه على القبائل وقسمته، وإنما استعمل فيه القطع؛ لأن الآمر يقطع القول به فيقول: يخرج من بني فلان كذا ومن بني فلان كذا ومن بني فلان كذا، وكان يقطع البعث بالعيد لاجتماع الناس هنالك حتى لا يحتاج إلى أن يجمعهم كرة أخرى. [959] ومنه: حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - (كان رسول الله ? وأبو بكر وعمر يصلون العيدين قبل الخطبة) قلت: ذكر الصحابي الشيخين مع رسول الله ? فيما يقرره من السنة إنما يكون على وجه البيان لتلك السنة أنها ثابتة معمول بها قد عمل بها الشيخان بعده ولم ينكر عليهما ولم يغير وكان ذلك بمحضر من مشيخة أصحاب النبي ? وليس ذكرهما على سبيل الاشتراك معاذ الإله أن يظن بهم ذلك. [963] ومنه: حديث عائشة - رضي الله عنها - بما تقاولت الأنصار يوم بعاث قاولته في أمره، وتقاولنا

أي تفاوضنا، والمعنى: ما خاطب بعضهم بعضاً من الأشعار التي تفاخر بها الحيان أوس وخزرج، وبعاث اسم حصن للأوس، وقد ذكرناه فيما مر من الكتاب. وفيه (والنبي ? متغش بثوبه) والتغشي: التغطي بالثوب وفي كتاب مسلم (ورسول الله ? مسجى بثوبه) والتسجية إنما يستعمل في الميت فلعل الراوي ذكره على الاتساع في الأحياء، وفي أكثر النسخ من كتاب البخاري (والنبي متغشياً ? بثوبه) على ما هو في المصابيح وقد ضرب عليها في كتاب البخاري ليعلم أنها كلمة لحن فيها بعض الرواة فتركت على حالها، وهذا داب المحدثين ينقلون الكلمة على ما سمعوها، وإن كانت ملحونة محرفة، والعالم إذا تحققها فعليه أن ينقلها على وجه الصواب أو يقول: رويت كذا وصوابها كذا. (ومن الحسان) [972] [121/أ] عن كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده، الضمير في جده راجع إلى كثير لا إلى أبيه عبد الله؛ لأن الراوي عن النبي ? وهو عمرو بن عوف المزني - رضي الله عنه - وهو أبو عبد الله وجد كثير.

[978] ومنه حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - (كان النبي ? إذا خرج يوم العيد في طريق رجع في غيره) ذهب غير واحد من أصحاب المعاني إلى أن النبي ?كان يبتغي بذلك أن تشمل بركته البقاع وبركة من معه من المؤمنين، وهو حسن، والحديث عندي محتمل لغير ذلك من الوجوه أحدها: أنه صلى الله عليه وسلم

فصل الأضحية

كان يرجع في غير الطريق الذي ذهب فيه لتمتليء أفواه الطرقلطرق عم عباد الله المؤمنين فيكون فيه ترغيم أعداء الله وفل عزيمتهم أو عزهم وإماطة عاديتهم، والآخر: أنه كان يصنع ذلك تفاؤلاً بمضيهم في سبيل الله من غير أن يرجعوا على أعقابهم، وكأنه كان يكره أن يقال: رجعوا من حيث جاءوا، والثالث: أن النبي ?كان إذا عرض له سبيلان أخذ في ذات اليمين فنقول: إنه كان في خروجه يأخذ ذات اليمين وكذلك في رجوعه فيصير ذات الشمال في خروجه ذات اليمين في رجوعه. ومن فصل الأضحية (من الصحاح) [982] حديث أنس - رضي الله عنه - (ضحى رسول الله?). معنى التضحية هو: الذبح على وجه القربة من الأضحية وهي شاة تذبح يوم الأضحى وتسمية ذلك اليوم بالأضحى لأن الصلاة شرعت فيه عند ارتفاع النهار وشرع الذبح بعدها. وفيه (بكبشين أملحين) الملحة من الألوان بياض يخالطه سواد، وإلى هذا ذهب كثير من أصحاب الغريب في معنى أملحين، وحالفهم ابن الإعرابي فقال: هو نقي البياض، ولعله ذهب إلى ذلك لوقل العرب لبعض شهور الشتاء: لميحان لبياض ثلجه. [983] ومنه: حديث عائشة - رضي الله عنها - (أن رسول الله ? أمر بكبش أقرن). الأقرن: العظيم

القرن يطأ سواد ويبرك في سواد وينظر في سواد، أرادت بذلك أن الكبش كان على ما يلي أظلافه من الأكارع لمعه سواد، وعلى الركبتين والمحاجر. وفيه (هلمي المدية) بالضم؛ الشفرة، وقد تكسر الميم [121/ب]. والجمع مديات ومدي. [988] ومنه: حديث أم سلمة - رضي الله عنه - عن النبي ? (إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي) الحديث. يذهب بعض أهل العلم في معنى الكف عن الشعر والظفر إن أراد الأضحية أنه للتشبه بحجاج بيت الله المحرمين، وهذا قول إذا أطلق لم يستقم لأن هذا الحكم لو شرع للتشبه بهم لشاع ذلك في سائر محظورات الإحرام، ولما خص بما يؤخذ من أجزاء البدن كالشعر والظفر والبشر، اضطربت قاعدة هذا التأويل، ثم إنا نظرنا في المعنى الذي شرغ له الأضحية فرأينا المضحي يجعل أضحيته فدية يفتدي بها نفسه من عذاب يوم القيامة ويرتاد بها القربة لوجه الله الكريم فكأنه لما اكتسب من السيئات وأتى به من التقصير في حقوق الله رأى نفسه مستوجبة أن يعاقبها بأعظم العقوبات وهو القتل، غير أنه أحجم عن الإقدام عليه إذ لم يؤذن له فيه، فجعل قربانه فداء لنفسه فصار كل جزء منه فداء كل جزء منها، وعمت بركته أجزاء البدن فلم يخل منها ذرة، ولم يحرم عنها شعرة، وإذا كانت هذه الفضيلة ملحقة بالأجزاء الأصلية المتصلة بالمتقرب دون المنفصلة عنه رأى النبي ? أن لا يمس شيئاً من شعره وبشره لئلا يفقد من ذلك قسط ما عند تنزل الرحمة وفيضان النور الإلهي لتتم له الفضائل وتكر عنه النقائص.

[990] ومنه: حديث جابر - رضي الله عنه - (ذبح النبي يوم الذبح كبشين أقرنين أملحين موجيين) الوجاء بالكسر ممدوداً: رض عروق البيضتين حتى ينفضخ فيكون شبيهاً بالخصاء ومنه الحديث (عليكم بالباءة فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) يقول منه: وجأت الكبش فهو موجوء، وصواب هذا اللفظ موجؤين وأصحاب الحديث يروونه موجيين، وهذا الحرف ليس من باب الياء، وإنما هو من باب الهمز على ما ذكرناه، فلعلهم تركوا الهمزة فرووه كذلك. [992] ومنه: حديث على - رضي الله عنه - (أمرنا رسول الله ? أن تستشرف العين والأذن) أي: نتأمل سلامتهما من آفة بهما كالعور واجذع، والأصل في الاستشراف أن تضع يدك على حاجبك كالذي يستظل من الشمس حتى تستبين الشيء. ومنه حديث أبي طلحة (أنه كان حسن الرمي وكان إذا رمى استشرف النبي ? [122/أ]، لينظر إلى موضع نبله). وفيه (وأن لا تضحي بمقابلة ولا مدابرة) يقال مقابلة بفتح الباء هي التي قطعت من اذنها قطعة لم تبن وتركت معلقة من قدم، فإن كانت من أخر فهي مدابرة بفتح الباء. وفيه (ولا شرقاء ولا خرقاء) الشرقاء: هي التي شقت أذنها والخرقاء: هي التي في أذنها خرق، وهو ثقب مستدير. [993] ومنه قول علي - رضي الله عنه - في حديث (نهى رسول الله ?أن يضحي بأعضب القرن

والأذن) قال أبو عبيدة هو مكسور القرن من الداخل، وقد يكون العضب في الأذن أيضاً، والقرن الداخل هو المشاش ويقال: العضباء هي التي انكسر أحد قرنيها، وكبش أعضب بين العضب قال الأخطل. إن السيوف غدوها ورواحها .... تركت هوازن مثل قرن الأعضب [994] ومنه قوله ? في حديث البراء - رضي الله عنه - (والعجفاء التي لا تنقي) اي المهزولة التي لا نقي لها من الهزال، وأنقى البعير إذا وقع في عظامه المخ، ويقال أنقت الإبل أي: سمنت وصار فيها نقى، ويقال: ناقة منقية وناقة لا تنقى قال الشاعر: حاموا على أضيافهم فثووا لهم .... من لحكم منقية ومن أكباد وفي حديث آخر (لا تجزيء في الأضاحي الكسير التي لا تنقى). [995] ومنه حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (كان رسول الله ? يضحي بكبش أقرن فحيل ينظر في سواد ويأكل في سواد) الحديث. إذا كان الفحل كريماً منجباًى في ضرابه قيل: فحل فحيل، قال الراعي: كانت نجائب منذر ومحرق .... أماتهن وطرقهن فحيلاً وفي حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه بعث رجلاً يشتري له أضحية فقال: اشتره كبشاً فحيلاً، قال أبو عبيدة: هو الذي يشبه الفحولة في نبله وعظم خلقه، وقوله (يأكل في سواد) إلى تمام الحديث أراد به سواد جحفلته ومحجرته وقوائمه مع بياض سائره

باب العتيرة

[999] ومنه: قوله ? في حديث عائشة - رضي الله عنها - (فطيبوا بها نفساً) وفي كتاب المصابيح (فطيبوا بها نفساً) والرواية على ما قدمنا ثم إنه أفصح وأعرب في صيغة التمييز، والله أعلم. ومن باب العتيرة (من الحسان) [1002] حديث مخنف بن سليم - رضي الله عنه - أنه (شهد النبي ? يخطب يوم عرفه) الحديث. فسرت العتيرة في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - يقال: عتر الرجل عتراً بالفتح إذا ذبح العتيرة، وكانوا يقولون هذه أيام ترجيب [122/ب]. وتشار، وكره العتيرة كثير من العلماء، ولم يرها، لحديث أبي هريرة، ومنهم من لم يربها بأساً، وقد كان ابن سيرين يذبح العتيرة في شهر رجب، ووجه ذلك رأوا النهي مخصوصاً بصنيع الجاهلية فإنهم كانوا يذبحونها لآلهتهم فأما المسلم الذي يذبحها لله تعالى فهو سعة من أمره. قلت: ويدل على ذلك حديث نبيشة الخير - رضي الله عنه - وقد رواه أوب داود في كتابه عن مسدد عن بشير بن المغفل عن خالد عن أبي قلابة عن أبي المليح الهذلي قال: قال نبيشة قال رجل (يا رسول الله إنا كنا نعتر عتيرة في الجاهلية في رجب فما تأمرنا؟ قال: اذبحوا لله في أي شهر كان وبروا الله وأطعموا).

باب صلاة الكسوف

قلت: وإن ادعى مدعِ الضعف في إسناد حديث مخنف فلا سبيل له إلى ادعاء ذلك في حديث نبيشة فإن رجاله مرضيون، وفي كتاب المصابيح أن حديث مخنف منسوخ، وأكثر الظن أنه تزيد من متصرف في الحديث برأيه فإن النسخ إنما يرد على الأحكام الواجبة، ولم يقل أحد بوجوب العتيرة لا قبل ولا بعد وإنما حمل حديثه في العتيرة على الاستحباب على ما هو في حديث نبيشة والعجب ممن يرمي حديث مخنف بالضعف ثم يزعم أنه منسوخ والقائل بالنسخ قائل بثبوت الحديث المنسوخ، هذا وقد ذكر في حديث مخنف أنه شهد خطبة النبي ? يوم عرفة فسمعه يقول ذلك، ولا يخفى على ذي علة بالحديث أن النبي ? لم يخطب بالموسم إلا في حجة الوداع وذلك قبل موته بأشهر، ومن لنا أن يثبت أن النهى كان بعد ذلك، فالصواب أن يحمل كل واحد منهما على ما ذكرناه ليتفق الحديثان. ومن باب صلاة الكسوف (من الصحاح) [1006] قوله في حديث ابن عباس - رضي الله عنه -: (فتناولت منها عنقوداً ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا) الخطاب في قوله ? (لأكلتم) إما لأهل الإيمان من أمته، وإما لبني آدم؛ لأن من حضره

من الصحابة أو رآه أو أدرك زمانه لم يعمر إلى انقضاء المائة من وفاته، ووجه أكلهم من عنقود واحد ما بقيت الدنيا وهو شيء يسير بعرض الزوار لا سيما إذا تناوله الآكلون أحقاباً ممتدة إلى قيام الساعة إما

الإحالة على القدرة الأزلية التي لا يستنكر منها شيء ولا يستغرب عنها أمر وكل عسير عليها يسير وإن قصرت العقول عن تصور ذلك وإدراكه فنقول: لا يستبعد [123/أ] , من قدرة الله أن لو أراد لبارك في ذلك القطف، فلم يؤخذ منها حبة إلا نشأ مكانها أخرى، وإما الذهاب إلى أنه أراد بذلك ما يتولد منه وينشأ يعني أن عجم الحبة منه إذا غاص في الأرض نبت منه الحبلة، فينبت في الأرض من ذلك الأصل غراس كثيرة يؤكل منها ما بقيت الدنيا. ومنه حديث أبو موسى - رضي الله عنه - في حديثه (فقام النبي ? فزعاً يخشى أن تكون الساعة). قلت: كان تغير رسول الله ? عند ظهور الآيات شفقاً على أهل الأرض أن تأتيهم غاشية من عذاب الله، فأما مجيء الساعة وإن خفي على النبي ? عنده إبان وقوعه فإنه كان يعلم أن الساعة غير آتية وهو بين أظهرهم وأنى يكون ذلك وقد وعده الله سبحانه بإتمام النعمة عليه وإكمال الدين له، ومجيء النصر والفتح إليه وظهور أمته على مدائن كسرى وممالك قيصر وقسمتهم كنوزهما في سبيل الله في أمور كثيرة وحوادث جمة لم يبلغ الكتاب فيها أجله، ولم يكن النبي ? متردداً في وقوع شيء من ذلك، فقول أبي موسى: (يخشى أن يكون الساعة) قول قاله برأيه، وشيء توهمه في نفسه لما رأى من دهش رسول الله ? وفزعه، وإنما كان يخشى أن ينزل الله بأسه على من عصاه من أمته، فإن قيل: يحتمل أن النبي ? لم يكن يومئذ على علم من الأمور التي ذكرتموها فخشي أن يكون الساعة ثم أوحي إليه بعد ذلك ما ذكرتم. قلنا: لا وجه لهذا الاحتمال فإن النبي ? كان يقول لخباب ولمن معه من المعذبين - رضي الله عنهم - وهو بمكة: (والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه) ولما كان يوم الخندق أعلمهم أنهم سيظهرون على فارس والروم، وكل ذلك قبل فتح خيبر، وإنما قدم أبو موسى على النبي ? مع جعفر من الحبشة بعد فتح خيبر، ثم إن النبي ? صلى تلك الصلاة التي في حديث أبي موسى بعد موت ابنه ابراهيم عليه السلام ذكر ذلك في بعض طرق حديثه هذا وإبراهيم عليه السلام توفي في السنة العاشرة على قول أكثر أهل العلم بالسير فلا وجه للحديث إذا أن يحمل على غير ما ذكرناه. (ومن الحسان) [1013] حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قيل له: (مات فلانة بعض أزواج النبي?) الحديث. بعض يجوز فيه الرفع والنصب، فالرفع على تقدير: وتلك بعض وما [123/ب] أشبه ذلك، والنصب على تقدير: يعنون بعض أزواج النبي ? وهو أمثل وفيه (إذا رأيتم فاسجدوا) أي آية

من آيات الله التي يخوف بها عباده، كالخسوف وما اشبهه فصلوا، وفي معناه الحديث (كان رسول الله ? إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة) وقد ذكر السجود ويراد به الصلاة فسبيل العباد فيما ينوبهم من الآيات المتضمنات للتخويفات الجأ إلى ذكر الله والاعتصام بحبله والتقرب إليه بالصلاة، ويقرر هذا المعنى قوله ? (إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ولكن آيتان من آيات الله يخوفكم بها فإذا كسفا فافزعوا إلى ذكر الله تعالى حتى ينجليا) فسن النبي ? الصلاة في هاتين الآيتين تفخيماً لشأنهما وتهويلاً من أمرهما، وأشار أيضاً إلى الحث على الصلاة واللجأ إلى الذكر في بقية الآيات بقوله (إذا رأيتم أية فاسجدوا). وأما قول ابن عباس (وأي آية أعظم من ذهاب أزواج النبي ?) فإنه جعل ذلك من جملة الآيات لما فيها من التخويف ولما رآها في التخويف أبلغ الآيات المعهودة قال (وأي آية أعظم من ذهاب أزواج النبي ?) كأنه ذهب في ذلك إلى المفهوم من قوله: (وأنا آمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون وأصحابي أمنة لأهل الأرض) الحديث. فرأى بقاء الأمنة على أصحاب النبي ? ببقاء أهله؛ لأن أهل الرجل يعد من جملته، أو رأى بقاء الأمنة على أهل الأرض ببقاء أزواجه لأنهن ضممن مع فضل الصحبة شرف الزجية فكن بهذا المعنى أولى من غيرهن، فكان وفاتهن سالبة للأمنة موجبة للتخويف فعدها من الآيات؛ لأنها في معنى التخويف من أعظم الآيات. [1014] ومنه: حديث أبي بكرة - رضي الله عنه - (أن النبي ? كان إذا جاءه أمر يسر به خر ساجداً شكراً لله). قلت: قد أورده ابو عيسى في كتابه عن أبي بكرة وفي روايته (أن النبي ? أتاه أمر فسر به فخر ساجداً) ذهب جمع من العلماء إلى ظاهر هذا الحديث فرأوا السجود مشروعاً في باب شكر النعمة، وخالفهم آخرون فقالوا: المراد من السجود الصلاة، وحجتهم في هذا التأويل ما ورد في الحديث أن النبي ? لما أتى برأس أبي جهل خر ساجداً، وقد روي عن عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه - وفي روايته (صلى رسول الله ? [124/أ] بالضحى ركعتين حين بشر بالفتح أو برأس أبي جهل). ونضر الله وجه أبي حنيفة فقد بلغنا عنه أنه قال، وقد ألقى عليه هذه المسألة، (لو ألزم العبد السجود عند كل نعمة متجددة عظيمة الموقع عندها [....] كان عليه أن لا يغفل عن السجود طرفة عين؛ لأنه لا

يخلو منها أدنى ساعة فإن من أعظم نعمة عند العباد نعمة الحياة، وذلك بتجدد الأنفاس أو كلاماً هذا معناه. وأما حديثه الذي يتلو هذا الحديث (أن النبي ? رأى فخر ساجداً شكراً لله) فإنهم لا يرون الاحتجاج به؛ لأنه حديث مرسل على ما بلغهم، وقد رواه جمع من علماء الحديث عن أبي جعفر محمد ابن علي - رضي الله عنه - وعن آبائه الكرام (أن النبي ? مر برجل تغاش فخر ساجداً ثم قال: أسأل الله العافية). قلت: والنغاشي يقال بياء مشددة وبغير ياء، وقد ورد بها الرواية على ما ذكرناه، وقال أبو عبيد في تفسيره هو: الفضيع الشباب، ومعنى قوله: فضيع هو الذي بقي قمئاً لا يشب ولا يزداد، يقال فضع الله شبابه، وغلام مفضوع وقد فضع فضاعة فهو فضيع، وقال النضر بن شميل: رجل نعاشي أي قصير وقلطي وهو فوق النغاشي ولم يذكر أحد شيئاً في أصل هذا الحرف من الاشتقاق اللغوي، ولم نجد كلمة من هذا البناء إلا قولهم لكل شيء من الطير والهوام إذا خف وتحرك في مكانه: قد تنغش، ومنه حديث محمد بن مسلمة الأنصاري - رضي الله عنه (لما كان يوم أحد وقال رسول الله: من يأتيني بخبر سعد بن الربيع قال فمررت به وسط القتلى صريعاً في الوادي فناديته فلم يجب) فقلت: إن رسول الله ? أرسلني إليك قال: فتنغش كما يتنغش الطير) ومنه حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه (خرجنا مع رسول الله ? من مكة نريد المدينة فلما كنا قريباً من عزوزا) الحديث. عزوزا: اسم موضع بين الحرمين سميت بذلك إما لصلابة أرضها، وإما لقلة مائها، والعزاز بالفتح الأرض الصلبة، وقد أعززنا فيها أي وقعنا وسرنا فيها، وأرض معزوزة أي شديدة، والعزوز من النوق الضيقة الإحليل التي تجهد حتى ينزل لبتها، والعزوز من الشاة البكية. وفيه بعد ذكر السجدات الثلاث (إني سألت ربي وشفعت لأمتي فأعطاني ثلث أمتي) إلى آخر الحديث، أي أعطانيهم فلا يجب عليهم الخلود فتنالهم شفاعتي فلا يكونون كالأمم السالفة فإن من عذب منهم وجب عليه الخلود وكثير منهم [124/ب] لعنوا بعصيانهم الأنبياء فلم تنلم الشفاعة، والعصاة من هذه الأمة من

باب صلاة الاستسقاء

عوقب منهم نقي وهذب ومن مات منهم على الشهادتين يخرج من النار وإن عذب بها ويناله الشفاعة وإن اجترح الكبائر [كلها] وأعطاهم إياه بأن تجاوز عنهم ما وسوست به صدورهم ما لم يعملوا به أو يتكلموا إلى غير ذلك من الخصائص التي خص الله تعالى بها هذه الأمة كرامة لنبيه المكرم وجهه بالمقام المحمود ?. ومن باب صلاة الاستسقاء (من الصحاح) [1017] (كان النبي ? لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء) اي لم يكن يرفعهما كل الرفع، وهو أن يرفع يديه حتى يجاوز بهما رأسه وإنما أولناه على هذا الوجه؛ لأن رفع اليدين في الدعاء سنة ثابتة ويدل على صحة هذا التأويل بقية الحديث وهي قوله (فإنه يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه). [1018] ومنه: حديث الآخر حديث أنس - رضي الله عنه (كان النبي ? إذا استسقى أشار بظهر كفيه إلى السماء) المعنى أنه كان يجعل بطن كفيه إلى الأرض وظهرهما إلى السماء يشير بذلك إلى قلب الحال ظهراً لبطن، وذلك مثل صنيعه في تحويل الرداء، ويحتمل وجهاً آخر، وهو أنه جعل بطن كفيه إلى الأرض إشارة إلى مسألته من الله تعالى بأن يجعل بطن السحب إلى الأرض لينصب ما فيه من المطر كما أن الكف إذا جعل وجهها إلى الأرض انصب ما فيها من الماء.

[1019] ومنه: حديث عائشة - رضي الله عنها (ان رسول الله ? كان إذا رأى المطر قال: صيباً نافعاً) صيباً: انتصابه بفعل محذوف أي: أرسل إلينا أو نسألك. والصيب: السحاب ذو الصوب. ومنه قوله ? في حديث أنس - رضي الله عنه - لأن حديث عهد بربه) أراد بذلك قرب عهد، بالفطرة وأنه هو الماء المبارك الذي أنزله الله تعالى من المزن ساعتئذ فلم تمسسه الأيدي الخاطئة، ولم يكدره ملاقاة أرض عبد عليها غير الله سبحانه فتبركت به لذلك. (من الحسان) [1021] حديث عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري المازني مازن بن النجار - رضي الله عنه - (خرج رسول الله ? إلى المصلى فاستسقى وحول رداءه حين استقبل القلبة فجعل عطافه الأيمن) الحديث. العطاف: الرداء، وكذلك المعطف بالكسر وقد تعطفت بالعطاف أي ارتديت بالرداء، ومنه سمي السيف عطافاً وسمي الرداء عطافاً لوقوعه على العطفين، وهما الجانبان، والهاء في قوله (فجعل عطافه) يحتمل أن يكون راجعاً إلى الرداء، وإنما أضافه إلى الرداء لأنه أراد [125/أ] أحد شقي العطاف الذي عن يمينه ومن شماله أي جعل جانب عطافه الذي يلي يمينه، ويحتمل أن يكون كناية عن النبي أي: جانب رداءه الأيمن.

[1023] ومنه: حديث آبي اللحم - رضي الله عنه - أنه (رأى النبي يستسقي عند أحجار الزيت) آب اللحم بمد الهمز رجل من قدماء الصحابة وكبارهم أبى أن يأكل اللحم فقيل له: آبى اللحم، وقيل إنه كان يأبى أن يأكل مما ذبح على النصب، واختلف في اسمه فقيل: عبد الله بن عبد الملك، وهو الأكثر، وغير ذلك، وهو من غفار وله شرف استشهد يوم حنين، وأحجار الزيت: موضع بالمدينة من الحرة، ولعلها سميت بذلك لسواد أحجارها كأنما صب عليها الزيت. وفي حديث ذكر أيام الحرة عن النبي (تغمر الدماء أحجار الزيت) ومن رواة كتاب أبي عيسى من يرويه (عند أحجار الليث) ومن الناس من يقول (عند أحجار البيت) وليس بشيء، هذا الحديث أسند في كتاب أبي داود إلى عمير مولى آبى اللحم، وعمير قد روى عن النبي أحاديث وله صحبة، أما هذا الحديث فإنما يرويه عن فإنما يرويه عن النبي آبى اللحم، ورواه عن عمير، ولا يعرف لآبى اللحم حديث غير هذا. [1026] ومنه: حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - (رأيت رسول الله يواكي الاستسقاء). قيل معناه: التحامل على اليدين إذا رفعهما ومدهما في الدعاء، فجعلوه من التوكؤ، وهو التحامل على العصا، فأصل التاء في التوكؤ واو حولت تاء لوقوعها من الكلمة في الظرف. وفيه (مريئاً) أي: هنيئاً صالحاً كالطعام الذي يمرأ، ومعناه: الخلو عن كل ما ينغصه كالهدم والغرق ونحوهما، ويحتمل أن يكون بغير همز ومعناه: مدراراً من قولهم: ناقة مريء أي: كثيرة اللبن، ولا أحققه رواية.

وفيه (مريعاً) يروى بالياء وهو المخضب الناجع في المال يقال: أمرع المكان إذا أخضب، وإذا جعل من المراعة فتح ميمه، وعلى هذا الوجه فسره الخطابي، ويقال: مكان مريع أي خصيب، أورده صاحب الغربيين أيضاً في باب الميم مع الراء. قلت: ولا اختصاص لهذا اللفظ بهذا الباب فإنه يقال: من الريع أيضاً أو من مريعه بفتح الميم أي: مخصبة كذا أورده الجوهري في كتابه فصل الراء من باب العين، وهذا الفظ بضم ميمه، وهو أشبه وقد قيدته كذلك ولم تحضرني الرواية، وعلى هذا يكون من أراع الطعام إذا صارت له زيادة في العجن والخبز وأراعت الإبل إذا كثرت أولادها، ويكون المعنى: اسقنا غيثاً كثير النماء ذا ريع ويروى بالباء [125/ب] وهو المغني عن الارتياد لعمومه، فالناس يربعون حيث كانوا، يقال: أربعوا اي أقاموا في المربع عن الارتياد، وقال الخطابي: أي: منبتاً للربيع، وكأن الأول هو الأعرب؛ لأن الأرباع بمعنى إنبات الربيع قلما ذكر في كلامهم، ويروى مرتع بالتاء أخت الطاء، وهو الذي ينبت ما يترع فيه الإبل، وفي كلامهم: غيث مربع. وفيه: (فأطبقت عليهم السماء) أي أطبقت عليهم بالمطر من قولهم أطبق عليه الحمى وهي التي تدوم فلا

تفارق ليلاً ونهاراً، ويحتمل أنه أراد أصابتهم السماء بالمطر العام، والمستعمل في هذا المعنى التطبيق يقال: طبق الغيم تطبيقاً إذا أصاب بمائة جميع الأرض، يقال: مطر طبق أي عام، ومنه الحديث (اللهم اسقنا غيثاً طبقاً) أي مالئاً للأرض. ومن الفصل الذي يليه [1035] قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس وهو من الحسان (اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً) ذكر الخاطبي في معناه: أن الرياح إذا كثرت جلبت السحاب وكثرت المطر، فزكت الزروع والثمار وإذا لم تكثر وكانت ريحاً واحدة فإنها تكون عميقاً، والعرب تقول: لا تلقح السحاب إلا من رياح، ووجدت الشيخ أبا جعفر الطحاوي قد ذكر في كتابه الموسوم بمشكل الآثار عن أبي عبيد القاسم بن سلام أنه قال: القراءة التي نتبعها في الريح والرياح: أن ما كان فيها من الرحمة فإنه بلفظ الجمع، وما كان فيها من العذاب فإنه على لفظ الوحدان. قال: والأصل الذي اعتبرنا به هذه القراءة حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا

هاجت الريح قال: (اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً) ثم أنكر عليه أبو جعفر وقال: كان الأولى به -رحمه الله- مع جلالة قدره غير ذلك. وضعف الحديث الذي استدل به أبو عبيد جداً وأبى أن يكون له أصل في السنن الثابتة ثم ذكر بعد ذلك كلاماً نخبته: أن الله تعالى يقول في كتابه} هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة {الآية. وروى أبي بن كعب رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: (لا تسبوا الريح إذا رأيتم منها ما تكرهون وقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها وشر ما أمرت به)، وروى عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (الريح من روح الله تأتي بالرحمة، وتأتي بالعذاب فلا تسبوها واسألوا الله خيرها واستعيذوا به من شرها). وروى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا عصفت الريح قال: اللهم إني أسالك خيرها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك (26/ 1) من شرها وشر ما أرسلت به. وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور، وروى عن أنس رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا هاجت ريح شديدة قال: اللهم إني أسألك من خير ما أمرت به وأعوذ بك من شر ما أمرت به، ثم قال أبو جعفر: ففي الآية وفيما رويناه من الأحاديث بيان واضح أن الريح تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب وأنه لا فرق بين الريح والرياح إلا بالرحمة أو العذاب، وأشار إلى أن مثل هذه الأحاديث مع صحتها لا تبطل بهذا الحديث مع ضعفه ومخالفته للأحاديث الصحاح. قلت: والذي قاله أبو جعفر إن كان قولاً مبنياً على قاعدة العلم مبذولاً من نصرة الحق؛ فإنا نرى أن لا نتسارع إلى رد هذا الحديث وقد تيسر علينا تأويله وتخريج المعنى على وجه لا يخالف النصوص التي أوردها هو أن نقول ومن الله العون: التضاد الذي جد أبو جعفر في الهرب منه إنما نشأ من التأويل الذي نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما، فأما الحديث نفسه فإنه محتمل لتأويل يمكن معه التوفيق بينه وبين النصوص التي عارضه بها أبو جعفر وذلك أن نذهب في قوله: (اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً) إلى أنه سأل النجاة من] التدمير [بتلك الريح فإنها إن تكن مهلكة لم تعقبها أخرى وإن كانت غير ذلك

فإنها توجد كرة بعد كرة وتستنشق مرة بعد مرة فكأنه قال: لا تدمرنا بها؛ فلا تمر علينا بعدها ريح ولا تهب دوننا جنوب ولا شمال بل أفسح لنا في المهلة وانأ لنا في الأجل حتى تهب علينا أرواح كثيرة بعد هذه الريح. [1037] ومنه قول عائشة رضي الله عنها: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أبصر ناشيءا) أرادت: السحاب. وسمى ناشيءاً لأنه نشأ من الأفق، يقال: نشأ وأنشأ أي: خرج. وأنشأ يفعل كذا أي: طفق، وفي الحديث (إذا أنشأت بحرية ثم تشاءمت أو (إذا السحابة أنشأت ثم تشاءمت).

كتاب الجنائز

ومن كتاب الجنائز من باب عيادة المريض وثواب المرض [1042] قول البراء بن عازب-رضي الله عنه- في حديثه (وإبرار القسم) أي: تصديق المسلم فيما يقسم عليه الرجل: يقال: بر قسمه وأبرها أي: صدقها، وله وجه آخر وهو أن يجعل يمين صاحبه صادقة فلا يحنث فيها، وذلك قوله الرجل: والله لا أبرح حتى تصنع كذا فيستحب له أن يبره في قسمه إذا كان المحلوف عليه أمراً ميسوراً لا بأس به، ونحن نرويه من كتاب البخاري (إبرار القسم) وقد روى إبرار المقسم وكلاهما (126/ب (صحيح وفي المعنى متقارب. 127] /أ [. وقد ذهب بعض العلماء في معناه: إلى إبرار الرجل صاحبه في قوله: (أقسمت عليك لتفعلن كذا)، وصيغة القول تشهد أن ما ذكرناه أشبه بالصواب. وفيه: (والميثرة الحمراء، والقى): ميثرة الفرس لبدته غير مهموز وثر الشيء بالضم وثارة أي وطؤ. والوثير: الفراش الوطئ، وعنى بها- ههنا- الميثرة التي على السرج، وهي مرفقة على مقدار السرج، والمنهى منها: ما كان من مراكب العجم من ديباج وحرير، ولعل النهى إنما ورد في الحمرة؛ أنهم كانوا يستأثرونها في الغالب من أمرهم، أو يتخذونها على تلك الشية، وما كان من حرير أو ديباج: فإنه داخل

في النهي على أي لون كان ويحتمل: أنه كره المياثر الحمر، وإن لم تكن من ديباج أو حرير؛ لما فيها من الرعونة. وهذا الوجه أمثل، لما في الحديث (نهى عن ميثرة الأرجوان)، والأرجوان: صبغ أحمر. القسي- بفتح القاف، وتشديد السين والياء، قيل: الثياب القسية يؤتى بها من مصر فيها حرير، ويقول أهل مصر ينسب إلى بلد يقال له: قس، وكثير من المحدثين يكسرون القاف، وهو خطأ. [1043] ومنه: حديث ثوبان رضي الله عنه: (إن المسلم إذا عاد أخاه، لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع): الخرفة- بالضم-: ما يجتنى من الثمار والفواكه، والمعنى: انه بسعيه إلى عيادة المريض يستوجب الجنة ومخارفها، والعيادة لما كانت مقضية إلى مخارف الجنة: سميت بها. وروى: (في خرافي الجنة) و (خروف الجنة) و (مخرفة الجنة)، وروى: (كان له خريف في الجنة) والمعنى: مخروف في الجنة؛ فعيل بمعنى مفعول. [1047] ومنه: حديث عائشة- رضي الله عنها-: (كان إذا اشتكى الإنسان الشيء منه، أو كانت به قرحة أو جرح .... الحديث).

قلت: أمثال هذا- وإن عز الوقوف على حقيقة معانيها، وقصرت الأفهام عن تقدير التناسب بين ألفاظها ومبانيها؛ لأنها من جملة الرقي والعزائم التي أكرم الله تعالى بعلمها الأنبياء ومن اختص بهم من الأولياء دون العموم من المؤمنين. وردت ألفاظ منغلقة نافرة عن الأفهام؛ لأنها لم توضع للعمل بها، والاستنباط منها، بل وضعت للتلفظ بها تيمناً وتشفياً، وربما وقع شيء من معانيها في القلوب السليمة الوافقة لاستماع كلام النبوة بمرصاد الأدب والحرمة، وقد علمنا من غير هذه الرواية أنه - صلى الله عليه وسلم - 127] /أ [: كان يبل أملة إبهامه اليمنى بريقه، فيعها على الأرض؛ ليلزق بها التراب، ثم يرفعها ويشير بها إلى السقيم، وذلك قول عائشة- رضي الله عنها- قال بإصبعه. وقوله: (تربة أرضنا) أي هذه تربة أرضنا بريقة بعضنا أي: معجونة بها، أو مخمرة؛ فالذي يسبق إلى الفهم من صنيعه ذلك، ومن قوله: (تربة أرضنا) إشارة إلى فطرة أول مفطور من البشر، و (ريقة بعضنا) إشارة إلى النطفة التي خلق منها الإنسان؛ فكأنه يتضرع بلسان الحال، ويعرض بفحوى المقال: أنك اخترعت الأصل الأول من طين، ثم أبدعت بنيه من ماء مهين؛ فهين عليك أن تشفي من كانت هذه نشأته، وتمن بالعافية على من استوي في ملكك موته وحياته. وقوله: (ليشفى سقيمنا): أي: قلنا هذا القول، أو صنعنا هذا الصنيع؛ ليشفى سقيمنا. فإن قيل: صحت المناسبة بين التربة وفطرة الإنسان، فما وجه المناسبة بين الريقة والنطفة؟: قلنا: هما من فضلات الإنسان؛ فعبر بأحدهما عن الآخر؛ لما في الآخر من القذارة، وكان من هديه التنزه عن الإفصاح بأمثال ذلك، والتعبير عنها بالكنايات ما أمكن؛ ونظير ذلك ما ورد في حديث بشر بن الخصاصية رضي الله عنه: (أنه - صلى الله عليه وسلم - بصق على كفه، ثم وضع عليه إصبعه ثم قال: يقول الله- عز وجل: (ابن آدم، أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه) وأراد بها النطفة؛ فكذلك في هذا الحديث. [1051] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أعيذكما بكلمات الله التامة):

الكلمة- في لغة العرب-: تقع على كل جزء من الكلام، اسماً كان أو فعلاً أو حرفاً، وتقع على الألفاظ المنطوقة، وعلى المعاني التي تحتها مجموعة؛ ولهذا تقول العرب، لكل قضية: كلمة؛ ومنه قوله تعالي: (وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا) الأنعام: 115، وتقول- أيضاً- للحجة: كلمة؛ قال الله تعالى: (ويحق الله الحق بكلماته) يونس:82 أي: بحججه. وأولى ما يحمل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أعيذكما بكلمات الله التامة): أسماؤه الحسنى، وكتبه المنزلة؛ لموافقة هذا القول الألفاظ التي وردت في الحديث على معنى الاستعاذة. ووصفها ب (التمام): لخلوها عن العوارض والنواقص، وقد ذكر غير واحد من أهل العلم: أن كل كلمة على حرفين: فهي- عند العرب- ناقصة، والتامة: ما كانت على ثلاثة أحرف، وقد 127] /ب [أخبر الله تعالى أنه أراد شيئاً، فإنما يقول له كن فيكون، وكلمة (كن) ناقصة في الهجاء، فنفى عليه السلام النقص عن كلمات الله تعالى؛ قطعاً للأوهام. وإعلاماً أن حكم كلامه خلاف حكم كلام المخلوقين وإن نقص هجاؤه. قلت: هذا وإن كان سائغاً؛ فإنه لا يخلو عن تدنق النحويين، والصحيح ما قدمناه، وبيانه: أن الناس متفاوتون في كلامهم على حسب تفاوتهم في العلم واللهجة والمهارة في وجوه الكلام، وأساليب القول، فما منهم من أحد إلا وقد يوجد فوقه آخر: إما في معنى أو في معان كثيرة، ثم إن أحدهم قلما يسلم من معارة أو خطأ أو نسيان أو عجز عن المعنى الذي يراد، أو قصور عن الأمر الذي يتكلم فيه، ونحو ذلك مما هو من سمات النقصان، وأعظم النقائص التي هي مقترنة بها أنها كلمات مخلوقة تكلم بها مخلوق مفتقراً إلى الأدوات والمخارج، وهذه نقيصة لا ينفك عنها كلام مخلوق؛ فكلمات الله سبحانه متعالية عن القوادح؛ فهى التامة التي لا يسعها نقص، ولا يعتريها اختلال. وقد احتج أبو عبدالله أحمد بهذا الحديث على القائلين بخلق القرآن؛ فقال: لو كانت كلمات الله مخلوقة، لم يعذهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بها؛ إذ لا يجوز له أن يعيذ مخلوقاً بمخلوق. واحتج -أيضاً-: بقوله: (التامة)؛ فقال: ما من مخلوق إلا وفيه نقص. واحتجاجه بالقول الأول أقوى وأولى، لأن في القول الثاني للتوسعة والمجاز مدخلاً؛ فيقول المنازع: بل كان أراد التامة في المعنى الذي وردت: لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم، رب هذه الدعوة التامة).

وفيه: (ومن كل شيطان وهامة). الهامة: تقع على ما يدب من الحيوان غير أنها قلما تطلق إلا على المخوف من الأحناش، وهى الحيات، وكل ذي سم يقتل. وفيه: (ومن كل عين لامة) أي: التي تصيب بسوء، قال أبو عبيد: أراد ذات لمم، ولذلك لم يقل: (ملمة)، وأصلها من ألممت بالشيء. [1053] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (ولا وصب، ولا هم، ولا حزن). الوصب: السقم اللازم؛ يقال: وصب الرجل يوصب؛ فهو وصيب؛ وأوصبه الله فهو موصب، والموصب -بالتشديد: الكثير الأوجاع والحزن، والحزن: خشونة في النفس لما يحصل فيها من الغم، أخذ من حزونة الأرض، ولهذا الاعتبار قيل: خشنت صدره، أي: أحزنته، والهم: الحزن الذي يذيب 128] /ب [الإنسان، من قولهم: هممت الشحم فأنهم؛ وعلى هذا؛ فالهم أخص وأبلغ في المعنى من الحزن. وقد ذكر بعضهم: أن الهم يختص بما هو آت، والحزن بما مضى. وقد روى الترمذي في (كتابه)، عن الجارود، وقال: سمعت وكيعاً يقول: إنه لم يسمع في الهم انه يكون كفارة، إلا في هذا الحديث. [1056] ومنه: قول عائشة -رضي الله عنها-: (مات النبي - صلى الله عليه وسلم - بين حاقنتي وذاقنتي). أرادت: انه- توفي وهو مستند إليها، والحاقنة: النقرة بين الترقوة وحبل العاتق، وهما حاقنتان، والذاقنة: طرف الحلقوم، وفي أمثالهم: (لألحقن حواقنك بذواقنك)، ويقال: الحاقنة: ما سفل من البطن.

[1057] ومنه: حديث كعب بن مالك رضي الله عنه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (مثل المؤمن كمثل الخامة ..... الحديث. الخامة: الغضة الرطبة من النبات؛ قال الشاعر: إنما نحن مثل خامة زرع .... فمتى تأت يأت محتصده وفيه: (تفيئها الرياح): أي: تحركها وتميلها يميناً وشمالاً، وفيأت الشجرة: إذا ألقت فيئها، وهفي رواية: (تصرفها)، وفي رواية: (مثل المؤمن مثل الزرع تميله الريح). والأصل في (التفيئة) ما ذكرناه من قولهم: فيأت الشجرة، وإنما فسرها هنا على معنى التحريك والتمييل؛ لأن الريح إذا هبت شمالاً، أمالت الخامة إلى الجنوب، فصار فيئها في الجانب الجنوبي، وإذا هبت جنوباً، فيأت في الجانب الشمالي.

ويجوز أن يكون بناء التفعيل من الفيء الذي بمعنى الرجوع. (الأرزة المجذية): الأرزة بفتح الهمزة، وسكون الراء-: شجر الصنوبر، والجمع أرز، سميت بذلك؛ لرسوخها في الأرض، يقال: شجرة أرزة، أي: ثابتة في الأرض، وأما الأرزة- بالتحريك: فإنما هي شجرة الأرزن، وهو شجر صلب يتخذ منه العصى، و (أجذي وجذي): بمعنى؛ إذا ثبت قائماً، و (المجذية): الثابتة على الأرض. وفيه: (حتى يكون انجعافها): أي: انقلاعها؛ يقال: جعفت الرجل، أي: صرعته، وجعفت الشيء؛ فانجعف، أي: قلعته؛ فانقلع. [1064] ومنه: حديث عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الطاعون رجز .... الحديث). الطاعون: الموت من الوباء، والرجز: العذاب، والأصل فيه الاضطراب؛ ومنه قيل: رجز البعير رجزاً، فهو أرجز ورجزاء: إذا تقارب خطوه واضطرب؛ لضعف فيه. وفيه: (فلا تقدموا عليه): فتح التاء بعض الرواة، وضم الدال 128] /ب [؛ من قولهم: قد يقدم قدما بفتح الدال في الماضي وضمها في الغابر أي يقدم ومنهم من يفتح من قولهم (قدم من سفرة يقدم قدوما ومقدما)، والمحفوظ عند حفاظ الحديث: ضم التاء، من قولهم: أقدم على الأمر إقداماً. وفي الحديث: إثبات التوقي عن التلف، وإثبات التوكل والتسليم؛ فقوله: (لا تقدموا عليه)؛ لأن الله تعالى شرع لنا التوقي عن المحذور، ثم إن الطاعون لما كان رجزاً، لم يجز الإقدام عليه، والتورط فيه.

وقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم -؛ أنه لما بلغ الحجر، وهي ديار ثمود- منع أصحابه أن يدخلوا ديار المعذبين؛ فبالحري أن يمنع أمته أن يدخلوا أرضاً وقع بها الطاعون وهو عذاب. أما نهيه عن الخروج فراراً منه، فإنه التسليم لما لم يسبق منه اختيار فيه. ويحتمل: أنه كره ذلك؛ لما فيه من تضييع المرضى إذا رخص للأصحاء في الحول عن جانبهم، وترك الأموات بميعة، فلا يحضرهم من يقوم بأمرهم، ويصلى عليهم. [1068] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس رضي الله عنه: (ستين خريفاً). في بعض طرق هذا الحديث: أن أنساً سئل عن الخريف؟ فقيل: يا أبا حمزة، ما الخريف؟ قال: العام. قلت: كان العرب يؤرخون أعوامهم ب (الخريف)؛ لأنه كان أوان جدادهم، وقطافهم، وإدراك غلاتهم، وكان الأمر على ذلك حتى أرخ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- بسنة الهجرة، فكانوا يتعاملون بعد ذلك بالشهور الهلالية؛ وفي الحديث: (أن أهل النار يدعون مالكاً أربعين خريفاً) أي: أربعين سنة، وفي الحديث: (ما بين منكبي الخازن من خونة جهنم خريف) أراد: ما بين الخريف إلى الخريف، وهو السنة. (ومن الحسان) [1070] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (من شر كل عرق نعار).

نعر العرق ينعر- بالفتح فيهما- نعراً، أي: فار منه الدم؛ فهو عرق نعار ونعور؛ قال الراجز: ضرب دراك وطعان ينعر ليستعاذ من فوران الدم وهيجانه؛ لأنه الداء الدوي الذي إذا غلب لم يمهل. [1073] ومنه: الحديث: سئلت عائشة -رضي الله عنها- عن قوله عز وجل-: (إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله)، وعن قوله: (من يعمل سوءاً يجز به) .... الحديث. هذا الحديث لم يؤت به في الكتاب على وجهه، وهو منقول عن (كتاب أبي عيسى) روته امرأة يقال لها: أمية، وفي روايتها، فقالت: ما سألني عنها أحد 129] /ب [منذ سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: هذه معاتبة الله العبد. وفي سائر نسح (المصابيح- اللهم إلا ما أصلح منها-: (هذه متابعة الله العبد) ولا يعرف ذلك في الحديث، ولا معنى له، وإنما هو: (معاتبة الله العبد) أي: يؤاخذه بما أصابه من الذنب بما يصيبه في الدنيا من الحمى وغيرها، مؤاخذة المعاتب.

[1076] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: (والمرأة تموت بجمع). ماتت المرأة بجمع، وجمع- بضم الجيم وكسرها- أي: ماتت وولدها في بطنها؛ فعلى هذا فسره الأكثرون، والرواية بضم الجيم وكسرها، أي: ماتت وولدها في بطنها. وقيل: هي التي لم يمسسها رجل، يقال: فلانة من زوجها بجمع، وجمع- أيضاً- إذا لم يقتضها، وروى: (أيما امرأة ماتت بجمع لم تطمث، دخلت الجنة)، وقالت دهناء بنت مسحل امرأة العجاج للعامل: (أصلح الله الأمير، إني منه بجمع) أي: عذراء لم يقتضني. [1077] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث سعد رضي الله عنه: (ثم الأمثل فالأمثل). أي: الأفضل فالأفضل؛ يقال: هو الأمثل قومه، أي: أفضلهم، ومعنى قولهم: المريض اليوم أمثل، أي أفضل حالاً من حاله التي كان قبلها، وفلان أمثل بني فلان، أي: أدناهم للخير، وهؤلاء أماثل القوم، أي: خيارهم. [1078] ومنه: قول عائشة- رضي الله عنها-: (ما أغبط أحداً بهون الموت).

تقول: بعد ما رأيت ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من شدة الموت لا أغبط أحداً يموت من غير شدة، يريد بذلك أن سهولة الأمر في النزع لو كانت مكرمة ومزية من الفضل، لكان أولى الناس بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومعنى (الهون): الرفق واللين؛ قال الله تعالى: (الذين يمشون على الأرض هونا)، وفي صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يمشي هوناً)، ومعناه: الرفق والتثبت والسكينة والوقار؛ يقال: خذ أمرك بالهون والهويني، أي: بالرفق واللين، وأما الهون- بضم الهاء- فهو الهوان، ولا معنى له في هذا الحديث. [1085] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (فنفسوا له في أجله): أي: وسعوا له في أجله؛ وذلك بأن تقول له قولاً يطيب به نفسه؛ فيخف عليه ما يجده من الكرب، والأصل في التنفيس: التفريج؛ يقال: نفست عنه تنفيساً، أي: رفهت، ونفس الله عنه كربته، أي: فرجها، ومنه: الحديث: (من نفس عن مؤمن كربة)، ويقال: أنت في نفس من أمرك، أي: سعة ومهلة، وفي حديث عمار: (لو نفست) أي: طولت 129] /ب [

باب تمني الموت وذكره

ومن باب تمني الموت وذكره (من الصحاح) [1087] حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يتمنى أحدكم الموت .... الحديث): الياء في قوله: (لا يتمنى) مثبتة في رسم الخط في كتب الحديث، فلعله نهى ورد على صيغة الخبر، والمراد منه: لا تتمن؛ فأجرى مجرى الصحيح. ويحتمل: أن بعض الرواة أثبتها في الخط، فروى على ذلك.

والنهي عن تمني الموت- وإن أطلق في هذا الحديث- فإنه في معنى المقيد، يبين ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس رضي الله عنه: (لا يتمنين أحدكم الموت من ضر أصابه)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي)؛ فعلى هذا: يكره تمني الموت من ضر أصابه في نفسه أو ماله لأنه في معنى التبرم عن قضاء الله في أمر يره في دنياه، وينفعه في آخرته، ولا يكره الخوف في دينه من فساد. وفيه: (إما محسناً): وردت الرواية فيه- أيضاً- بالرفع، وبالنصب هي الرواية المعتد بها تقديره: إما أن يكون محسناً، أو: إما في تمنيه محسناً، ويفتح الألف على هذا التقدير، ولفظ الحديث محتمل للكلمتين، أعنى: إماً وأما، والذي اعتمد عليه: (إما) بكسر الألف الذي هو في معنى المجازاة. وفيه: (فلعله أن يستعتب): أي: يطلب أن يعتب، تقول: استعتبته فأعتبني، أي: استرضيته فأرضاني، وحقيقة الإعتاب: إزالة العتب والمراد منه هنا أن يتوب فيطلب رضاء الله سبحانه بتوبته. [1090] ومنه: حديث عبادة بن الصامت، رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من أحب لقاء الله .... الحديث). قال أبو عبيدة: ليس وجه قوله: (ومن كره لقاء الله): أن يكره شدة الموت؛ فإن هذا أمر لا يكاد يخلو منه أحد، وبلغنا عن غير واحد من الأنبياء، أنه كرهه حين نزل به، ولكن المكروه من ذلك ما كان إيثاراً للدنيا على الآخرة، وركوناً إلى الحظوظ العاجلة، وقد عاب الله قوماً حرصوا على ذلك، فقال عز من قائل: (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة). قلت: وقد استبان معنى الحديث من سؤال عائشة، رضي الله عنها، وجواب النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فالحب- ههنا- هو الذي يقتضيه الإيمان بالله، والثقة بوعده، دون ما يقتضيه حكم الجبلة. [1093] ومنه: حديث جابر، رضي الله عنه: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله):

قلت 130] /أ [: وفي (كتاب أبي داود)، عن جابر: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول قبل موته بثلاث .... الحديث): وقع لنهى في ظاهر الكلام على الموت، فإنها نهاهم عن الحالة التي] ..... [دونها الرجاء لسوء عملهم، وقبح صنيعهم؛ كيلا يصادفهم الموت عليها، وهو- في الحقيقة- حث على الأعمال الصالحة المفية إلى حسن الظن، وفيه تنبيه على تأميل العفو، وتحقيق الرجاء في روح الله. (ومن الحسان) [1096] حديث عبدالله بن مسعود، رضي الله عنه؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذات يوم لأصحابه: (استحيوا من الله حق الحياء .... الحديث): (ذات يوم): هو من ظروف الزمان التي لا تتمكن تقول: لقيته ذات يوم، وذات ليلة، وذات غداة، وذات العشاء، وذات مرة، وذات الزمين وذات العويم فلعلهم يريدون بالتأنيث حملها على الحالة، أو يعنون: لقيته لقية ذات يوم. وفيه: (فليحفظ الرأس وما وعى): الوعي: الحفظ، يريد: ما يعيه الرأس من السمع والبصر واللسان حتى لا يستعملها إلا فيما يحل. وفيه: (والبطن وما حوى): أي: ما جمع، يريد: لا يجمع فيه إلا الحلال، ولا يأكل إلا الطيب. ويحتمل: أن يكون المراد مما حواه البطن: القلب يحفظ مما يعقب القسوة، ويورث الغفلة. ويروى: (ولا تنسوا الجوف وما وعى، والرأس وما احتوى). قيل: أراد بالجوف: البطن والفرج؛ وفى الحديث: (أكثر ما يدخل الناس النار الأجوفان). [1098] ومنه: حديث بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (المؤمن يموت بعرق الجبين).

أراد بـ (عرق الجبين): ما يكابده من شدة السياق التي يعوق دونها الجبين؛ وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه: (موت المؤمن بعرق الجبين؛ تبقى عليه البقية من الذنوب فيحارف بها عند الموت) أي يشدد عليه لتمحص عنه ذنوبه، من قولهم: (حورف كسب فلان): إذا شدد في معاشه؛ كأنه ميل برزقه عنه. وقال الهروي: يحارف، أي: يقايس؛ فيكون كفارة لذنوبه، والمحارفة: المقايسة بالمحراف، وهو الميل الذي يسير به الجراحات والأول: أقيس. ونقل عن ابن سيرين؛ أنه قال: علم بين من المؤمن عرق الجبين. وقد ذهب بعض أهل الفهم: إلى أن المراد من عرق الجبين: كد المؤمن في طلب الحلال، وتضييقه على النفس بالصوم والصلاة حتى يلقي الله وهذا وإن كان وجهاً لا بأس به- فإن التأويل هو الأول. ومنه 130] /ب [: حديث عبيد بن خالد السلمي البهزي رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: (موت الفجأة: أخذة الأسف): فجئه الأمر، وفجاة: فجاءة- بالضم والمد: إذا أتاه بغتة، وكذلك فاجأه الأمر مفاجأة، وفجاء والأسف: الغضب؛ وعلى هذا: فالسين منه مفتوحة، وقد رواه الخطابي بكسر السين، فسره بالغضبان. قلت: وفي كتاب الله: (غضبان أسفا) أي: شديد الغضب، ملتهفاً على ما أصابه. وذهب الخطابي إلى ما ذهب؛ بناء على ما بلغه من الرواية. ووجدنا الأعلام من أصحاب الغريب فسروه ب (الغضب)؛ وعلى هذا: فلا خفاء أن الرواية- عندهم- بفتح السين، ثم إن السبيل في صفات الله سبحانه: ألا يتجاوز بها عن النص الصحيح الموجب للعلم. وإضافة الغضب إلى الله تعالى ورد بها السمع في كتاب الله، وسنة رسوله، ومعناه: الانتقام، وأما تسميته بالغضبان على الإطلاق من غير ضميمة: فإنه شيء لم يرد به النقل المتواتر، ثم إن الرواية المعتد بها بفتح السين؛ فالعدول عن الرواية الأخرى إلى هذه هو الصواب. والمعنى: أن موت الفجاءة من آثار غضب الرب؛ لأنه أخذ بغته؛ فلم يتفرغ أن يستعد لمعاده على سنة من درج من عصاة الأولين؛ قال الله تعالى: (أخذناهم بغتة)، وقد ورد في الحديث؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن موت الفجاءة؟ فقال: (راحة للمؤمن، وأخذة للمؤمن، وأخذة أسف للكافر)، فإن صح هذا، جعلنا الأمر فيه مخصوصاً بالكفار.

والظاهر: أن موت الفجاءة مما لا يحمد ويستعاذ بالله] منه [. [1103] ومنه حديث أم سلمة- رضي الله عنهما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي سلمة وقد شق

باب غسل الميت وتكفينه

بصره، شق بصر الميت بفتح الشين، ورفع الراء إذا نظر إلى شيء لا يرتد إليه طرفه، وضم الشين منه شيء غير مختار. قال ابن السكيت: ولا تقل: شق الميت بصره والمراد بالميت- ههنا- الذي حضره الموت؛ فكأنه صار في حكم الأموات، وعلى هذا المعنى يحمل حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله)، وأما حديثه الآخر: (اقرءوا على موتاكم (يس)) فإنه يحمل على ما ذكرناه، ويحمل أيضاً على أنه أمر بقراءتها عند من قضى نحبه في بيته أو دون مدفنه. وفيه: (إن الروح إذا قبض تبعه البصر) يحتمل ذلك وجهين: أحدهما: أن الروح إذا قبض تبعه البصر في الذهاب؛ فلهذا أغمضته؛ لأن فائدة الانفتاح ذهبت بذهاب البصر عند ذهاب الروح. والوجه الآخر: أن روح الإنسان إذا قبضها الملائكة، نظر إليها الذي حضره الموت نظراً شزراً لا يرتد إليه طرفه، حتى تمحل بقية القوة الباصرة الباقية بعد مفارقة الروح الإنساني التي تقع بها الإدراك والتمييز دون الحيواني الذي به الحس والحركة، وغير مستنكر من قدرة الله سبحانه أن يكشف عنه الغطاء ساعتئذ حتى يبصر ما لم يكن يبصر، وهذا الوجه في حديث أبي هريرة أظهر، وهو أيضاً حديث صحيح أخرجه مسلم في كتابه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ألم تروا الإنسان إذا مات شخص بصره. قالوا: بلى. قال: فذلك حين يتبع بصره نفسه). ومن باب غسل الميت وتكفينه (من الصحاح) [1109] حديث أم عطية- رضي الله عنها-: (دخل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نغسل ابنته ..... الحديث). قلت: ابنته هذه هي زينب ري الله عنها؛ توفيت سنة ثمان من الهجرة، وقد ذكر ابن عبد البر في

كتاب (الاستيعاب) (أن التي شهدت أم عطية غسلها، وحكت قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها: هي أم كلثوم زوجة عثمان رضي الله عنهما؛ توفيت سنة تسع من الهجرة، والصحيح ما قدمناه؛ روى مسلم في (جامعه) أنها زينب. وفيه: (أشعرنها إياه). أي: اجعلنه شعارها، والشعار: ما يلي من الثوب بشرة الإنسان. [1110] ومنه حديث عائشة- رضي الله عنها-: (بيض سحولية): السحل: الثوب الأبيض من الكرسف من ثياب المن؛ قال المسيب بن علس- يذكر ظعنا-: في الآل يخفضها ويرفعها .... ربع يلوح كأنه سحل شبه الطريق بثوب أبيض. وجمع سحل: سحول، ويجمع- أيضاً- على: سحلن ويقال: سحول: موضع باليمن، وهي تنسب إليه؛ وعلى هذا: فالسين منه مفتوحة. [1111] ومنه: حديث جابر رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا كفن أحدكم أخاه، فليحسن كفنه). معنى ذلك- والله أعلم-: أن يختار لأخيه المسلم من الثياب أثمنها وأنظفها وأنصعها لوناً، على ما وردت به السنة، ولمم يرد ب (التحسين): ما يأثره المبذرون أشرا ورياء من الثياب الرقيق؛ فإن ذلك منهي عنه بأصل الشرع، وهو النهي عن إضاعة المال، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (لا تغالوا في الكفن؛ فإنه يسلب سلباً سريعاً)، وقد ثبت أن أبا بكر الصديق- رضي الله عنه- قال: (ادفنوني في ثوبي هذين؛ فإنما هما للمهل والتراب)، قد كان رضي الله عنه- أعلم الصحابة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأيامه 131] /ب [، وأحرصهم على إتباع سنته. وفي حديث جابر هذا زيادة مبينة للمعنى الذي ذكرناه، ولم يذكر في (كتاب المصابيح)، وقد ذكر (مسلم) الحديث بتمامه في (كتابه)، وهو حسن السياق للأحاديث، وسياق حديثه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب يوماً، فذكر رجلاً من أصحابه قبض فكفن في كفن غير طائل، وقبر ليلاً، فزجر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقبر الرجل بالليل حتى يصلى عليه، إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا كفن أحدكم أخاه، فليحسن كفنه).

[1117] ومنه: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه؛ أنه لما حضره الموت، دعا بثياب جدد .... الحديث. ذهب الجمهور من أصحاب المعاني- لاسيما المحققون منهم-: أن الثياب في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها) -: كناية عن الأعمال التي يموت عليها، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: (يبعث العبد على ما مات عليه) أي: على ما مات عليه من عمل صالح أو سيء؛ والعرب تكنى بالثياب عن الأعمال؛ لملابسة الرجل بها ملابسته بالثياب، ومنه قول الراجز: لكل دهر قد لبست أثوبا .... حتى اكتسى الرأس قناعاً أشيبا واستدلوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (يحشر الناس حفاة عراة)، قالوا: وأبو سعيد فهم من كلامه - صلى الله عليه وسلم - ما دل عليه الظاهر؛ فغاب عن مفهوم الكلام. قلت: وقد كان في الصحابة- رضوان الله عليهم- من يقصر فهمه في بعض الأحايين عن المعنى] المراد [والناس متفاوتون في ذلك؛ فلا يعد أمثال ذلك عليهم عثرة، وقد سمع عدي بن حاتم الطائي-

رضي الله عنه- قول الله تعالي: (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر)؛ فعمد إلى عقالين أسود وأبيض، فوضعهما تحت وساده، ولما سمع به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إنك لعريض الوساد)، وفي بعض طرقه: (لعريض القفا). وقد رأى بعض أهل العلم الجمع بين الحديثين؛ فقال: البعث غير الحشر؛ فقد يجوز أن يكون البعث مع الثياب، والحشر على العرى والحفا ولم يصنع شيئاً؛ فإنه ظن أنه نصر السنة، وقد ضيع أكثر مما حفظه؛ فإنه سعى في تحريف سنن كثيرة؛ ليسوى كلام أبي سعيد، وأبو سعيد لو سمع بهذا، لم ير إلا إتباعه، كيف وقد روينا عن أفضل الصحابة وأعلمهم وأقربهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهاجاً ومنزلة؛ انه أوصى أن يكفن في ثوبيه، وقال: (إنما هما للمهل والتراب)، ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (في ثيابه التي يموت فيها). وليس لهم أن يحملوها على الأكفان؛ لأن الإنسان إنما يكفن بعد الموت. [1118] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: (خير الكفن الحلة). الحلل: برود اليمن، والحلة 132] /أ [إزار ورداء لا يسمى حلة حتى تكون ثوبين؛ وبذلك ورد الحديث، وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً عليه حلة قد اتزر بأحدهما، وارتدى بالآخر، وقد اختلف أقاويل الصحابة في اختيار الحلة، والأكثرون على أن الثياب البيض أفضل من الحلة؛ لأن الله تعالى اختارها لنبيه - صلى الله عليه وسلم -، ثم إنه أمرهم أن يكفنوا فيها موتاهم؛ فقال: (وكفنوا فيها موتاكم)؛ رواه ابن عباس، وهو حديث حسن صحيح، والعمل به أولى من العمل بحديث عبادة. ويحتمل: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (خير الكفن الحلة)؛ لأنها كانت يومئذ أيسر عليهم، وأراد: أنها من خير الكفن. وزعم بعضهم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كفن فيها، وليس الأمر على ما توهم، وقد بين ذلك مسلم في (كتابه)؛ فروى بإسناده عن عائشة رضي الله عنه؛ أنها قالت: (أدرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حلة يمنية كانت لعبدالله بن أبي بكر، ثم نزعت عنه، فكفن في ثلاثة أثواب سحول يمانية ليس فيها عمامة ولا قميص، فرفع عبدالله الحلة، فقال: أكفن فيها، ثم قال: لم يكفن فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأكفن فيها؛ فتصدق بها)، وفي رواية: (لو رضيها الله لنبيه، لكفنه فيها). قلت: وعبدالله بن أبي بكر شهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الطائف، فرمي بسهم، وكان -يومئذ- وجعاً يترقب الموت؛ ولهذا قال: (أكفن فيها)؛ فدمل جرحه حتى انتقض به، فمات منه في السنة الأولى من خلافة أبيه -رضي الله عنهما-.

باب المشي بالجنازة والصلاة عليها

ومن باب المشي بالجنازة والصلاة عليها (من الصحاح) [1122] حديث أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا رأيتم الجنازة، فقوموا .... الحديث). يحتمل: انه أمر بالقيام عند رؤية الجنازة؛ لأن من حق الموت الذي كتبه الله على كل نفس منفوسة: أن يستحفل أمره ويهاب، وإذا حل بإنسان فرآه آخر يقف شعره، وترعد فرائصه، وإذا ذكر به استشعر الخوف منه، ومن حق المرعوب: أن يكون قلقاً مستوفزاً؛ فيجلس إن كان نائماً، ويقوم إن كان قاعداً، وقلة الاحتفال بهذه النازلة العظيمة، وإظهار التجلد دونها: إنما يوجد ممن أخذت الغفلة بمجامع قلبه؛ فأمر بالقيام لها؛ إزاحة لتلك العلل. ويؤيد هذا التأويل: حديث جابر- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن الموت فزع؛ فإذا رأيتم الجنازة، فقوموا)، وقوله: (فزع) أي: ذو فزع، أو جعل 132] /ب [نفس الموت فزعاً؛ لأنه لا يخلو من الفزع. وقد صح عن على- رضي الله عنه- أنه قال في شأن الجنائز: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام ثم قعد)، ووجه ذلك- والله أعلم-: أنه قام وأمرهم بالقيام على ما ذكرنا، تقريراً للمعنى الذي ذكرناه، ثم قعد ليعدل بالقضية عن حد الوجوب، ويريهم أنهم في فسحة من ذلك، وإن كان القيام أحب إليه. ويحتمل: النسخ على ضعف فيه؛ لأنه أمر بالقيام على ما ذكرنا، ولم يأمر بالقعود.

قلت: ولولا مكان حديث جابر: أن الموت فزع، ثم ما في هذا الحديث: أن الجنازة كانت جنازة يهودية: لكان لنا أن نقول: إنما أمرهم بالقيام، ليشتركوا مع المشيعين في الثواب، ولكن القول به مدخول، لوجود العلتين. وفيه: (فلا يقعد حتى يوضع): النهي عن القعود -ههنا- لاستيفاء الأجر في الإتيان بالتشييع على وجه الكمال. واختلف بعض أهل العلم في المراد ب (الوضع): هل هو عن أعناق الرجال، أو الوضع في اللحد؛ لاختلاف الرواية: فواه سفيان الثورى: (حتى توضع بالأرض)، ورواه محمد بن حازم، وأبو معاوية الضرير: (حتى يوضع في اللحد). قال أبو داود: سفيان أحفظ من أبي معاوية. قلت: سفيان يفوق أبا معاوية بأكثر من الحفظ، ثم إن لفظ الحديث يشهد لسفيان، وهو قوله: (حتى توضع) على صيغة التأنيث، ولم يرو إلا كذلك؛ فالضمير للجنازة، والجنازة لا توضع في اللحد، وإنما توضع على الأرض، وقد ورد: (حتى يوضع في اللحد) يعني: الميت، في غير هذا الحديث، وهو حديث أبي هريرة في ثواب من شهد الجنازة: (حتى يصلي عليها، وحتى يدفن) أي: يدفن صاحبها، وفي رواية: (حتى يوضع في اللحد). [1125] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة ري الله عنه: (فإنه يرجع من الأجر بقيراطين):

القيراط: نصف دانق، وأصله: قراط- بالتشديد- لأنه يجمع على قراريط، فأبدل من أحد حرفي تضعيفه، لئلا يلتبس بالمصادر التي تجئ على (فعال)، إلا أن يكون بالهاء، فيخرج على أصله، مثل الصنارة. وأما القيراط- الذي في الحديث-: فقد جاء مفسراً فيه، فقال: (كل قيراط مثل أحد)؛ وذلك تفسير للمقصود من الكلام لا للفظ (القيراط)، والمراد منه على الحقيقة: أنه يرجع بحصتين من جنس الأجر، فبين المعنى ب (القيراط) الذي هو حصة من جملة الدينار. [1130] ومنه: قولة عائشة -رضي الله عنها-: (صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ابني بيضاء في المسجد): تريد ب (ابني بيضاء): سهلاً وسهيلاً؛ ينسبان إلى أمهما (بيضاء)، واسمها: دعد بنت الجحدر، ولهما أخ آخر يقال له: صفوان بن بيضاء، وأبوهم: عمرو بن وهب، وقيل: وهب بن ربيعة القرشي 133] /أ [الفهري. فأما صفوان: فإنه قتل شهيداً يوم بدر، وقيل: إنه عاش بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومات سنة ثمان وثلاثين. ولم يختلفوا في سهيل: أنه مات بالمدينة سنة تسع، وصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد. وأما سهل: فقيل: إنه مات في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ وهو الأكثر، وذكر عن الواقدي أنه مات بعد

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وروى مالك بن أنس هذا الحديث عن أبي نضر، عن أبي سلمه، ولم يذكر فيه سهلاً، وأرسل الحديث. وقد روى هذا الحديث عن عائشة -رضي الله عنها- مبيناً، ولفظ الحديث: (والله، ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ابني بيضاء إلا في المسجد: سهل وسهيل). قلت: وإنما حلفت، لأن الناس تماروا في ذلك؛ فمن قائل يقول بقول عائشة- رضي الله عنها- ومن قائل يرى خلافه، وقد روى عن أبي هريرة خلافه مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. والقضية الموجبة للاختلاف: هي أن سعد بن أبي وقاص- رضي الله عنه- توفي في قصره بالعقيق على عشرة أميال من المدينة، وحمل إلى المدينة على أعناق الرجال؛ ليدفن بالبقيع، وذلك في إمرة معاوية، وعلى المدينة مروان، فسألت عائشة أن يصلي عليه في المسجد لتصلي عليه؛ فأبوا عليها، وقالوا: لا يصلي على الميت في المسجد؛ فذكرت الحديث. فمن ذهب من العلماء إلى حديث عائشة: فلصحة إسناده. ومن ذهب إلى خلاف ذلك: فإنه يقول اختلف أقاويل الرواة في حديث عائشة على ما ذكرنا، وروى أبو هريرة خلافه، ثم إن الصحابة -يومئذ- كانوا متوافرين؛ فلو لم لعلموا بالنسخ، لما خالفوا حديث عائشة -رضي الله عنها-. [1134] ومنه: حديث ابن عباس- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ما من مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً .... الحديث).

روى هذا الحديث عن ابن عباس كريب، وفي روايته: (مات ابن لعبدالله بن عباس بقديد أو بعسفان، فقال: يا كريب، انظر ما اجتمع له من الناس فخرجت فإذا ناس قد اجتمعوا، فأخبرته، فقال: تقول هم أربعون؟ قلت: نعم، قال: اخرجوا؛ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... وذكر الحديث، ويتلو هذا الحديث حديث عائشة- رضي الله عنها-، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ما من ميت يصلى عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة ... الحديث)، وقد روى هذا الحديث بمعناه عن أبي هريرة وأنس رضي الله عنهما. ولا تضاد بين حديثهم وحديث ابن عباس؛ لأن السبيل في أمثال هذا الحديث: أن يكون الأقل من العددين متأخراً؛ لأن الله تعالى إذا وعد المغفرة لمعنى واحد، لم يكن من سنته أن ينقص من الفضل الموعود بعد ذلك، بل يزيد عليه؛ فضلاً منه وتكرماً على عباده؛ فجعلنا حديث ابن عباس في أربعين متأخراً عن حديث الآخرين في المائة؛ للمعنى الذي ذكرناه، وقد 133] /ب [تقدم تقرير هذا المعنى في موع آخر من هذا الكتاب. (ومن الحسان) [1140] حديث المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الراكب يسير خلف الجنازة .... الحديث):

وجدناه في سائر النسخ عن المغيرة بن زياد، وفي هذا الموضع تحريف بين لا ندري من أين وقع؛ فإن المغيرة بن زياد لا يعرف أصلاً لا في الصحابة ولا في التابعين، وهذا الحديث إنما يروى عن المغيرة بن شعبة، وعليه مداره، ويرويه عن المغيرة جبير، ويرويه عن جبير ابنه زياد. وفي (سنن أبي داود): (عن زياد بن جبير، عن أبيه، عن المغيرة بن شعبة)، قال: وأحسب أن أهل زياد أخبروني أنه رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلعل بعض النساخ تخبط فيه؛ فصار إسوة لمن لا عناية له بعلم الحديث ورجاله. [1149] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (اللهم، اغفر لحينا وميتنا، وشاهنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا).

باب دفن الميت

سئل أبو جعفر الطحاوي- رحمة الله عليه- عن معنى الاستغفار للصغار مع أنه لا ذنب لهم؟: فقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل ربه أن يغفر لهم ذنوباً قيضت لهم أن يصيبوا بعد الانتهاء إلى حال الكبر، فتكون مغفورة لهم مغفرة قد تقدمتها؛ وذلك مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - لعمر- رضي الله عنه- في قصة حاطب لما كتب إلى أهل مكة يحذرهم ويخبرهم بمجيء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: (ما يدريك، إنه من أهل بدر، ولعل الله تعالي اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شيءتم، فقد غفرت لكم). قلت: أراد أبو جعفر بهذا النظير: أن المغفرة تعلقت في قصة حاطب بذنب لم يصدر منه بعد؛ فكذلك ههنا سأل المغفرة لهم فيما لم يستعدوا لعمله بعد. ومن باب دفن الميت (من الصحاح) [1154] حديث ابن عباس رضي الله عنه: (جعل في قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطيفة حمراء): القطيفة: دثار مخمل، والجمع: قطائف، وقطف-أيضاً- مثل صحيفة وصحف؛ كأنهما جمع قطيف وصحيف. ذكر بعض أهل العلم: أن القطيفة لم تجعل في قبره لتكون له فراشاً؛ بل لما روى عن ابن عباس- رضي الله عنه- قال: كان شقران حين وضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في لحده، جعل القطيفة تحته، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبسها ويفرشها، فدفنها معه في القبر، وقال والله: لا يلبسها أحد بعدك، وقد ورد في الحديث: (فطرح في قبره شمل قطيفة كان يلبسها، فلما فرغوا من وضع اللبن)، أخرجوها. قلت: وأكثر ما وجدنا في الحديث له: أن القطيفة فرشت له في لحده، ولم نجد في (سنن الدفن): أن

يفرش للميت، ولم يذكر عن الخلفاء الراشدين، ولا عن أحد من الصحابة، ونرى ذلك- والله أعلم- مما يستقيم في حق نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يستقيم في حق غيره، وذلك أنه فارق الأمة في حكم الممات؛ كما فارقهم 134] /أ [في بعض من أحكام موته، وهو أنه: ثبت- عندنا- بالنص الصحيح: أن الله تعالي حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون)، وقال: (ونبي الله حي يرزق). قلنا: وحق لجسد عصمه الله أن يتغير أو يستحيل أو يبلى أن يفرش له؛ لأن المعنى الذي يفرش للحر لم يزل عنه بحكم الموت، وليس الأمر في غيره على هذا النمط. [1155] ومنه: حديث سفيان التمار (أنه رأى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - مسنماً). سفيان هذا هو ابن دينار أبو الورقاء التمار الكوفي الأحمري من الأحامرة، وهم قوم تبنكوا بالكوفة، وسفيان التمار من أتباع التابعين، سمع عن الشعبي، ونظرائه. وتسنيم القبر أن يجعل كهيئة السنام، وهو خلاف تسطيحه. [1156] ومنه: حديث على رضي الله عنه؛ أنه قال لأبي الهياج الأسدى، وأبو الهياج الأسدي هو حيان بن الحصين. وفيه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه، المعنى ألا أرسلك إلى الأمر الذي أرسلني له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما ذكره بحرف (على) لما فيه من معنى الاستعلاء، أي أجعلك أميراً على ذلك؛ كما أمرني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقوله: (أن لا تدع تمثالاً) أي: الأمر الذي أبعثك عليه أن لا تدع؛ لما في قوله: (ألا أبعثك على ما بعثني) من معنى التأمير، والتمثال: الصورة، وطمسه: محوه وإبطاله؛ يقال: طمس الشيء. وطمسته، يتعدى ولا يتعدى، والقبر المشرف هو العالي المنتصب، أراد به: القبر الذي بني عليه حتى ارتفع دون الذي أعلم عليه بالرمل أو الحصى أو الحجارة ليعرف، ولئلا يوطأ عليه. [1157] ومنه: حديث جابر رضي الله عنه: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه، وأن يقعد عليه): قلت: قوله: (وأن يبنى عليه): يحتمل وجهين:

أحدهما: البناء على القبر بالحجارة وما يجرى مجراها. والآخر: أن يضرب عليه خباء أو نحوه. وكلا الوجهين منهي عنه: أما الأول: فقد ذكرناه. وأما الثاني: فلأنه في معنى الأول، لانعدام الفائدة فيه، ولأنه من صنيع أهل الجاهلية، وقد روى عن ابن عمر رضي الله عنه؛ أنه رأي فسطاطاً على قبر عبدالرحمن- وهو عبدالرحمن بن عمر أخوه- فقال: انزعه يا غلام؛ فإنما يظله عمله. وقوله: (وأن يقعد عليه): حمله الأكثرون على ما يقتضيه الظاهر، وكذلك حديث أبي مرثد الغنوي الذي يتلو هذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها)، وحديث أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أن يجلس أحدكم على جمرة .... الحديث). وإنما ورد التهديد في ذلك؛ لما فيه من الاستخفاف بحق أخيه وحرمته، وفي هذا المعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: (كسر عظام الميت ككسره حيا). وحمله جماعة على الجلوس على القبر لقضاء الحاجة؛ وروى هذا المعنى عن زيد بن ثابت- رضي الله عنه- وهو قوله: (إنما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الجلوس على القبر حدث أو غائط أو بول)، وروا- أيضاَ 134] /ب [- عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من جلس على قبر يبول عليه أو يتغوط، فكأنما جلس على جمرة نار). قيل لهم: النهي عن الجلوس عليه في حديث زيد وأبي هريرة- لا ينافي حديث جابر وأبي مرثد في النهي عن الجلوس عليه من غير حاجة. فقالوا: رددنا المجمل إلى المفسر، مع أنا وجدنا النقل عن على-رضي الله عنه- أنه كان يتوسد القبر، وكان ابن عمر- رضي الله عنه- يجلس على القبور. قيل لهم: أما التوسد: فغير الجلوس عليه، أما ما نقلتم عن ابن عمر رضي الله عنهما: فلعل النقل لم يبلغه، أو تأول الحديث على ما تأولتم هذا إذا صح النقل عنه. قلت: وفي بعض طرق حديث جابر: (وأن يوطأ عليه) مكان: (وأن يقعد عليه)، وفي (كتاب أبي داود): (وأن يتكأ عليه). ولكل فئة من الفئتين طريق مستقيم فيما ذهب إليه. وأرى الأشبه، والأمثل في بيان هذه الأحاديث أن يجمل ما فيه التغليظ على الجلوس للحدث؛ فإنه استخفاف بحق المسلم؛ وهو محرم عليه، وما لا تغليظ فيه: فإنه يحمل على الجلوس عليه؛ نهى عنه كرامة للمؤمن.

(ومن الحسان) [1160] حديث عروة- رحمة الله عليه-: (كان بالمدينة رجلان أحدهما يلحد، والآخر لا يلحد .... الحديث):

الرجل الذي كان يلحد بالمدينة: أبو طلحة زيد بن سهل الأنصاري- رضي الله عنه-، والآخر: هو أبو عبيدة بن الجراح- رضي الله عنه-، واللحد: الشق في جانب القبر، وكانت العرب يلحدون ويضرحون؛ قال أبو ذؤيب الهذلي- رضي الله عنه- يبكي النبي - صلى الله عليه وسلم -: لما رأيت الناس في عسلانهم .... ما بين ملحود له ومضرح والضريح: هو الشق في وسط القبر، وفي حديث جرير- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اللحد لنا، والشق لغيرنا) أي: اللحد هو الذي نؤثره ونختاره، والشق: اختيار من كان قبلنا، وفي ذلك بيان فضيلة اللحد، وليس فيه النهي عن الشق؛ والدليل عليه: حديث عروة هذا؛ إذ لو كان منهيا عنه، لم يكن أبو عبيدة ليصنعه مع جلالة قدره في الدين، والأمانة، ولم يكن الصحابة رضي الله عنهم يقولوا دون دفن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أيهما جاء أولاً عمل عمله)، وفى حديث أنس رضي الله عنه: لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان رجل يلحد، ورجل يضرح، فقالوا: نستخير ربنا عز وجل، ونرسل إليهما، فأيهما سبق تركناه، فأرسل إليهما، فسبق صاحب اللحد، فلحدوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -). قلنا: فلما اختاره الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، علمنا أن اللحد أفضل، ونرى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينه عن الشق مع إيثاره مخالفة أهل الكتاب، ومع قوله: (اللحد لنا، والشق لغيرنا)؛ لأن الناس في كثير من البلدان مضطرون إلى الشق إذا كانت الأرض رخوة أو دمثة ذات رمل، وإذا كانت صلبة: فالاختيار اللحد، لأنه أفضل 135] /أ].

باب البكاء على الميت

ومن باب البكاء على الميت من الصحاح [1174] حديث أنس: (دخلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي سيف القين .... الحديث). أبو سيف هذا وزوجته أم سيف أنصاريان، وأم سيف هي التي كانت ترضع إبراهيم ابن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم نجد أحداً من أهل الحديث ذكرها بأكثر من هذا. وفيه: (وكان ظئراً لإبراهيم). الظئر: يقع على الذكر والأنثى، ومنه الحديث: (الشهيد تبتدره زوجتاه كظئرين أضلتا فصيلهما)، وفي حديث عمر رضي الله عنه: (أعطى ربعة يتبعها ظئراها). والأصل في الظئر: العطف والحنو، قال: ظأرت الناقة ظأراً، وهي ناقة مظئورة: إذا عطفتها على ولد غيرها، وظأرت الناقة- أيضاً-: إذا عطفت على البو؛ فهى ظئور، يتعدى ولا يتعدى، وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (أنه اشترى ناقة، فرأى بها تشريم الظئار، فردها). فسميت المرضعة ظئراً؛ لأنها تعطف على الرضيع، وصح أن يسمى زوج المرضعة ظئراً؛ لان اللبن منه، فصار بمثابة الأب؛ فهو -أيضاً- يعطف عليه. وفيه: أن عبد الرحمن بن عوف- رضي الله عنه- قال: (وأنت يا رسول الله): كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهاهن عن الجزع، ويأمرهم بالصبر على المصيبة، وذلك خلاف ما تقتضيه الجبلة

البشرية؛ فلما رأى ابن عوف بكاء النبي - صلى الله عليه وسلم - استغرب ذلك من حاله، وحسب أنه ضعف عن مقاومة المصيبة بالصبر، فقال: (وأنت يا رسول - صلى الله عليه وسلم -) أي: تتفجع للمصائب تفجع غيرك؟ فقال: (إنما هي رحمة!)، أي: الحال التي تشاهد مني، أو تتعجب منها- رحمة ترق لها القلوب، وتفيض لها العيون، إذا تأمل المتأمل في الحالة التي ابتلي بها المقبوض من شدة الأمر، وضعف المنة، لا ما توهمت من قلة الصبر، والاسترسال في الجزع. وذلك مثل قول سعد بن عبادة في حديث أسامة رضي الله عنهما- وهو يتلو هذا الحديث-: (يا رسول الله ما هذا؟! قال: رحمة جعلها الله في قلوب العباد؛ فإنما يرحم الله من عباده الرحماء)، وفي حديثه ذلك: (ونفسه تتقعقع)، تقعقع الشيء: إذا اضطرب وتحرك. يقال: إنه ليتقعقع الحياء من الكبر، ومعناه: اضطراب النفس؛ لقربها من الموت؛ فلا يثبت على حالة واحدة. [1176] ومنه: قول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما- في حديثه الذي يذكر فيه شكوى سعد بن عبادة: (فلما دخل، وجده في غاشية): الغاشية: الداهية من شر أو مرض أو مكروه؛ ومنه قولهم: (رماه الله بغاشية)، وهي داء يأخذ في الجوف، عنى بها- ههنا-: ما كان يتغشاه من كرب الوجع الذي به، ولم يرد بها حال الموت؛ لأن سعد ابن عبادة برأ من مرضه ذلك، وعاش بعد نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، وتوفى في خلافة عمر- رضي الله عنه- وقيل: في خلافة أبي بكر رضي الله عنه. وقال الخطابي: أراد بها القوم الحضور [135/ب] عنده الذين هم غاشيته، أي: يغشونه للخدمة والزيارة ونحوها. والأول أشبه؛ لأنه في بعض طرقه الصحاح: (فلما دخل عليه، ووجده في غاشية)، قال: قد قضى؟ قالوا: لا يا رسول الله) وفي رواية: (وجده في غاشية). ومنه: في حديثه الآخر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وإن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه)؛ سمعت عائشة- رضي

الله عنها- حديثه هذا، فقالت: وهل ابن عمر، وفي رواية: (رحم الله أبا عبد الرحمن، سمع شيئاً، فلم يحفظ، إنما مرت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جنازة يهودي وهم يبكون عليه، فقال: أنتم تبكون، وإنه ليعذب)، وفي حديث عائشة- رضي الله عنها-: (حسبكم والقرآن): {ولا تزر وازرة وزر أخرى} فاطر:18. وقد ذهب بعض الناس في ذلك إلى ما ذهبت إليه. ولا سبيل إلى دفع الحديث بهذا الاحتمال؛ فإن هذا الحديث رواه عمر، وابن عمر، والمغير بن شعبة رضي الله عنهم، ولم يذكر أحد منهم حديث اليهودي أو اليهودية، وقد صح أسانيدها أفصح أن حديثهم غير حديث عائشة، والرواية إذا ثبتت، وجب قبولها، ثم حملها على ما لا يلزم منه تضاد واختلاف في أصول الدين، وإذ قد علمنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بكى عند موت ابنه إبراهيم، وعند كثير من ذويه وصحابته-: علمنا أن انهمال العين لا يدخل في باب البكاء المذموم؛ كيف وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا- وأشار إلى لسانه- أو يرحم) وقد روى ابن عباس، عن عمر- رضي الله عنه-، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وإن الميت ليعذب ببعض بكاء أهله عليه). فتبين لنا من هذه الأحاديث- ومما ورد في معناها-: أن ما لا يحمد من البكاء ويعذب عليه: هو [التفجع] المتعارف بينهم فيما سلف من أمر الجاهلية؛ فإنهم كانوا يجتمعون للمأتم، ويعظمون أمر الرزية، ويقطعون شأن الفجيعة، ويتناوحون، ويذكرون مآثر الميت، ويحمدونه على خلال لا محمدة دونها، ويذمون الدهر، وكل ذلك منهي عنه في الشرع، وقد علمنا من قوله سبحانه: {ولا تزر وازرة وزر أخرى}: أن الميت لم يعذب عليه إلا بعد أن كان يرضى بذلك ويختاره، ويوصي به، وكان ذلك من صنيع أهل الجاهلية، وشواهده موجودة في أشعارهم، وفي مثل ذلك يقول قائلهم: إذا مت فانعيني بما أنا أهله .... وشقي علي الجيب يا أم معبد والحديث محتمل لوجه آخر، وهو أن نقول: أراد بـ (الميت): الذي أشرف على الموت؛ كقوله: (لقنوا موتاكم)، ويكون البكاء عليه نفس العذاب لا سبباً للعذاب، والمعنى: أنه إذا حضره الموت، فصرخوا عليه، وأظهروا الجزع دونه، وهو في كرب الموت- صار صنيعهم ذلك زيادة على كربه؛ فيقع ذلك منه موقع التعذيب، وقد روى مسلم بإسناده، عن أنس- رضي الله عنه- أن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-[136/أ] لما طعن، عولت عليه حفصة- رضي الله عنهما- فقال: يا حفصة، أما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (المعول عليه يعذب)؟! وعول عليه صهيب، فقال عمر- رضي الله عنه-: يا صهيب، أما علمت، أن المعول عليه يعذب. وفي هذا الحديث نوع من الاستشهاد على التأويل الذي ذكرناه.

فإن قيل: فماذا تصنعون بحديث ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الميت يعذب في قبره بما نيح عليه)؟: قلنا: نقول: إن هذا الحديث نحمله على الميت الذي أوصى بالنياحة، والحديث الآخر محتمل للوجهين. [1177] ومنه: حديث أبي موسى الأشعري- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أنا برئ ممن حلق وسلق وخرق)، وفي رواية: (ليس منا) أي: ليس من أهل سنتنا من حلق) أراد به: من حلق شعره عند المصيبة: إذا حلت به، و (سلق) أي: رفع صوته بالبكاء والنوح، وسلقه بالكلام سلقاً أي: آذاه به، وهو شدة القول باللسان، ونقل عن ابن جريح أنه قال: هو أن تمرش المرأة وجهها وتصكه، ولعله أخذ من قول بعض العرب: (سلقه بالوط): إذا نزع جلده، و (سلقت اللحم عن العظم): إذا انتحيته، ومنه قيل للذئبة: سلقة، السالقة: المرأة التي ترفع صوتها بالصراخ عن المصيبة. وقوله: (خرق) أي: شق ثوبه على المصيبة، وكان ذلك في أغلب الأحوال من صنيع النساء، وفي (كتاب البخاري) من رواية أبي موسى: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برئ من الصالقة والحالقة والشاقة). [1178] ومنه: حديث أبي مالك الأشعري- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب ... الحديث): الحسب: الفعال الحسن للرجل ولآبائه؛ مأخوذ من الحساب، إذ حسبوا مناقبهم وعدوها؛ فالحسب: العد، والمعدود: حسب. ومعنى هذا الكلام: أن الأشياء الأربعة من أمر الجاهلية تدوم في أمتي، وأراد: أن الأمة بأسرهم لا يتركونها تركهم لغيرها من سنن أهل الجاهلية؛ إن تركها طائفة تمس بها آخرون.

فمن ذلك: الفخر والتفاخر، ومعناه: التكبر والتعاظم من الرجل بعد مناقبه ومآثر آبائه، والفخر: المباهاة في الأشياء، الخارجة عن الإنسان، كالمال والجاه. وقوله: (في الأحساب) أي: في شأن الأحساب، وفي الحديث: (كرم الرجل: دينه، وحسبه خلقه)، وفي ذلك نفى ما كان عليه أهل الجاهلية، وفيه تنبيه على أن الحسب الذي يحمد به الإنسان: ما تحلى به من خصال الخير في نفسه، لا ما يعده من الأشياء الخارجة عنه. وفيه: (والطعن في الأناب): يحتمل: أن يراد به الطعن بالدعوة والدعوى في النسب، والظاهر: أن المراد منه الطعن فيمن ينسب إليه حجيج الطاعن؛ فينسب آباءه وذويه عند المساجلة والمساماة إلى الخمول والخساسة والغموض والانحطاط؛ لأنه ذكر [136/ب] في مقابلة الفخر في الأحساب. وفيه: (الاستسقاء بالنجوم): أي: طلب السقيا، وتوقع الأمطار عند وقوع النجوم في الأنواء، وفي معناه الحديث: (مطرنا بنوء كذا). وفيه: النائحة إذا لم تتب قبل موتها، تقام يوم القيام وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب). قوله: (قبل موتها): أي: قبل حضور موتها، وإنما قيدها هذا التقييد ليعلم أن من شرط التوبة أن يتوب التائب وهو يأمل البقاء، ويمكن أن يتأتى منه العمل الذي يتوب منه؛ ومصداق ذلك في كتاب الله: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن}. وقوله: (تقام): يحتمل أنها تحشر، ويحتمل أنها تقام على تلك الحال بين أهل النار وأهل الموقف؛ جزاء على قيامها في المناحة؛ وهو أمثل وأشبه: وقوله: (عليها سربال من قطران): ورد بمثله التنزيل: {سرابيلهم من قطران} إبراهيم: 50، والقطران بكسر الطاء: هناء تهنأ به الإبل الجربى؛ فيحرق بحدته وحرارته الجرب، ويتخذ ذلك من الأبهل، وهو حمل شجرة العرعر، فيطبخ، ثم يهنأ به، وسكون الطاء وفتح القاف وكسرها: لغة فيه. وقد أوعد الله تعالى المستكبرين عن عبادته أن يعذبهم بذلك، لمعان أربعة: للذعه وحرقته، واشتعال النار فيه وإسراعها في المطلي به، وسواد لونه بحيث تشمئز عنه النفوس، ونتن رائحته؛ فيطلى به جلودهم حتى يعود طلاؤه لهم كالسرابيل؛ أنهم كانوا يستكبرون عن عبادته؛ فألبسهم لباس الخزى والهوان. وهذا الوعيد- في الحديث- يختص بالنائحة لمعنى آخر سوى ما ذكرنا، وهو أنا النائحة كانت تلبس الثياب السود في المأتم؛ فألبسها الله قميصاً من قطران؛ لتذوق وبال أمرها. وقوله: (ودرع من جرب). أي: يسلط عليها الجرب، فيغطي جلدها تغطية الدرع، ويلتزق بها التزاقة، فيجمع لها بين حدة القطران وحرارته وحرقته ونتنه وسواده واشتعاله، وبين الجرب الذي يمزق الجلد، ويقطع اللحم؛ كما تجمع المرأة بين القميص والدرع.

وذكر الدرع؛ لأنها قميص النساء، ثم إن النياحة تختص بشغلهن اختصاص الدرع بملابسهن، فشاركت أهل النار في لباسهم، واختصت بدرع من جرب؛ للمعنى الذي خصت به. ثم إنا نظرنا إلى المناسبات الواقعة بين الذنوب وعقوبتها؛ فوجدنا لتعذيبها بالجرب وجهين: أحدهما: أنها كانت تخمش وجهها، فابتليت بما لا صبر لها عليه إلا بالخمش والتمزيق. والآخر: أنها كانت تجرح بكلماتها المرقة قلوب ذوي المصيبات وتحرك بها بواطنهن؛ فعوقبت في ذلك المعنى بما يماثله في الصورة، والله أعلم. ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى): الصدم: ضرب الشيء بمثله، والرجلان يعدوان فيتصادمان، ومعناه: أن كل [137/أ] ذي مرزية قصاراه الصبر، ولكنه إنما يحمد ويثاب عند فورتها؛ فإن الرزية إذا طالت الأيام عليها [...] المصاب، وصار الصبر طبعاً؛ فلم يؤجر عليه. [1181] ومنه: حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النار إلا تحلهة القسم). يقال: حللته تحليلاً وتحلة، كما يقال: غررته تغريراً وتغرة؛ قال الله تعالى: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} التحريم:2، أي: شرع لكم تحليلها بالكفارة، وقيل: تحليلها بالاستثناء؛ فالتحلة: ما تتحل به عقد اليمين، وتحلل به ما حرم على المقسم.

وقد ذهب كثير من العلماء: إلى أن معنى قوله: (إلا تحلة القسم) إلا مقدار ما يبر الله قسمه بالجواز على النار؛ ذهاباً إلي قوله سبحانه: {وإن منكم إلا واردها} مريم: 23. قال بعضهم: القسم يضمر بعد قوله {وإن منكم} أي: وإن منكم والله {إلا واردها}. وقال بعضهم: موضع القسم مردود إلى قوله تعالى: {فوربك لنحشرنهم والشياطين} مريم:68؛ واستدل أصحاب هذا التأويل بحديث مرفوع، وهو: (من حرس ليلة من وراء المسلمين متطوعاً، لم يأخذه السلطان- لم ير النار تمسه إلا تحلة القسم؛ قال الله تعالى: {وإن منكم إلا وارها}. قلت: هذا الحديث- إن صح- فإنه محتمل للمعنى الذي يحتمله حديث أبي هريرة، والآية التي ذكرت بعد الحديث أن بعض الرواة ذكرها على وجه الاستدلال؛ كما ذكرها بعضهم في حديث أبي هريرة. والأشبه: أن المراد من (تحلة القسم): الزمان اليسير الذي يمكن فيه تحلة القسم بالاستثناء متصلاً به؛ هذا هو الأصل فيه، ثم جعل ذلك مثلاً لكل شيء يقل وقته، والعرب تقول: فعلته تحلة القسم، أي: لم أفعل إلا بقدر ما حللت به يميني، ولم أبالغ. وإنما قلنا: (إنه الأشبه)؛ لأن تحلة القسم مذكورة في كلامهم قبل أن جاء الله بالإسلام؛ قال الشاعر: (من الطويل): أرى إبلي عافت جدود فلم تذق .... بها قطرة إلا تحلة مقسم وهذا بيت جاهلي قاله القائل يوم جدود، وهو يوم الكلاب الأول، ويوم الكلاب الثاني- أيضاً- كان قبل الإسلام قريباً من مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فرأينا أن نرجع في المعنى إلى أصل اللغة (لكونانتها) على حقيقة. [1187] ومنه: حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من كان له فرطان من أمتي .. الحديث). الفرط- بالتحريك: الذي يتقدم الواردة فيهيئ لهم الأرسان والدلاء ويمدر الحياض، ويستقي لهم، وهو فعل بمعنى فاعل؛ مثل: نبع بمعنى نابع؛ يقال: رجل فرط- أيضاً- ومنه الحديث (أنا فرطكم على

الحوض) أي: أتقدمكم، فأدمث لكم السبيل الوعر إلى الورود بالشفاعة، ومنه حديثة الآخر: (أنا والنبيون فراط القاصفين) أي: نتقدم الأمم إلى الجنة، وهم على أثرنا، فيزدحمون حتى يقصف بعضهم بعضاً بداراً إليه، ومنه قيل للطفل الميت: (اللهم، اجعله لنا فرطاً) أي: أجراً يتقدمنا حتى نرد عليه، وسمي الطفل فرطاً؛ لأنه يتقدم أبويه؛ فيمهد لهما مقعد الكرامة؛ كما [137/ب] يهيئ الفرط الذي يقدم للواردة الرشاء والدلاء ونحوهما.

كتاب الزكاة

ومن كتاب الزكاة (من الصحاح) [1196] حديث أبي هريرة- رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: (ما من صاحب ذهب ولا فضة .. إلى أن ذكر جنسين من المال، ثم قال: (لا يؤدي منها حقها):

ذهاباً بالضمير إلى المعنى دون اللفظ؛ لأن كل واحد منهما جملة وافية ودنانير ودراهم ويحتمل أن يراد بها الأموال، ويحتمل أنه أراد بها الفضة، واكتفى بذكر أحدهما؛ كقول القائل: ومن يك أمسي بالمدينة رحله .... فإني وقيار بها لغريب وبمثله ورد التنزيل؛ قال الله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله} التوبة:34. وفيه: (صفحت له صفائح) تصفيح الشيء: جعله عريضاً، والصفائح: ما طبعت من الحديد وغيره عريضة؛ ومنه قيل للسيف العريض: صفيحة، وللحجر العريض- أيضاً-: صفيحة، وصفاح- أيضاً- بالضم والتشديد، وصفائح الباب: ألواحه. ومعنى الحديث: أن الدراهم والدنانير إذا لم يؤد حقها- صفحت صفائح. وقوله: (من نار) أي: تطبع صفائح من نار يقعد عليها. ولو قيل: إن قوله: (من نار): لبيان الجنس- لم يستقسم؛ لأن المال هي التي جعلت صفائح؛ ليعذب بها صاحبها، ثم إن الصفائح لو كانت متخذة من نار، لم يكن لقوله: (فأحمى عليها في نار جهنم) وجه. وعلى هذا: فمفعول ما لم يسم فاعله هو الضمير الراجع إلى الذهب والفضة وصفائح: مفعول ثان. ومن رفع (الصفائح): فإنه جعل (من نار): لبيان الجنس، ولست أحقق ذلك روايته، وإنما ذهبت إلى ما ذهبت إليه من طريق المعنى، وأتيت بالترجيح- أيضاً- من طريق المعنى، لا من طريق الرواية، وأرى الرواة بعضهم يرفعونها، وبعضهم ينصبونها، والنصب أقوى، للمعنى الذي ذكرناه، وهو موافق للنص الناطق من كتاب الله سبحانه؛ قال الله تعالى: {يوم يحمى عليها في نار جهنم} التوبة:35؛ فجعل عين الذهب والفضة هم المحماة عليها في نار جهنم. وفيه: (ومن حقها حليها يوم وردها): قال بعض العلماء: معنى ذلك: أن يسقى ألبانها المارة ومن ينتاب المياه من أبناء السبيل، وقيل: أمر أن يحلبها صاحبها عند الماء؛ ليصيب ذو الحاجة منه؛ قال: وهذا مثل نهيه عن الجذاذ بالليل؛ إذا أراد أن يصرم بالنهار، ليحضرها الفقراء والمساكين. وفيه: (بطح لها بقاع قرقر): (بطح) أي: ألقى على وجهه، والضمير في قوله: (لها): يرجع إلى الإبل، والمبطوح: رب المال الذي لم يؤد زكاتها، فيبطح لها لتطأه بأخفافها.

وفي أكثر النسخ من (المصابيح) بل في أجمعها: (بطح له)، وهو خطأ بين رواية ومعنى. والقاع: المستوى من الأرض، والقرقر أيضاً في معناه، وإنما عبر عنه بلفظين مختلفين؛ للمبالغة في استواء ذلك المكان، وقد روى الحديث: (بقاع قرق)، وهو مثله. وفيه: (كلما مر عليه أولاها [138/أ]، رد عليه أخراها). قلت: في هذا الكلام تحريف عن وجهه، وهو أن الرد عليه إنما يستعمل في الأول لا في الآخر؛ فالآخر تبع للأول في مروره؛ فإذا انتهت النوبة ردت الأولى؛ لاستيقاف المرور. وهذا الحديث- على هذا السياق- رواه مسلم في (كتابه) عن سويد بن سعيد، عن حفص بن ميسرة الصنعاني، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح ذكوان؛ أنه سمع أبا هريرة، ورواه- أيضاً- عن محمد بن عبد الملك الأموي، عن عبد العزيز بن المختار، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، وفي حديثه: (ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته إلا أحمى عليه نار جهنم، فيجعل صفائح). قلت: وفي هذا دليل بين على صحة ما ذهبنا إليه من اختيار النصب في (صفائح)، وفي روايته هذه: (وما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها إلا بطح لها بقاع قرقر كأوفر ما كانت تستن عليه، كلما مضى عليه أخراها، ردت عليه أولاها). وقد روى هذا الحديث- أيضاً- عن أبي ذر، وهو حديث صحيح، وفي روايته: (كلما جازت أخراها، ردت عليه أولاها). فتبين لنا من الرواتين- مع ما نشهد له من صحة المعنى-: أن الصواب ما ذكرناه، وأنه على الوجه الذي ذكر في (كتاب المصابيح) سهو من بعض الرواة، لم يتأمل فيه المؤلف فنقله، ولا يستبعد أن يكون ذلك من سويد بن سعيد؛ فإنه- وإن كان عدلاً ثقة، مع كونه من رجال الكتابين- فقد نسب في آخر عمره إلى سوء الحفظ. وفيه: (ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ولا عضباء): العقصاء: هي التي التوى قرناها على أذنيها من خلفها؛ يقال: تيس أعقص بين العقص، والجلحاء: التي لا قرن لها، وفي البقر أكثر استعمالاً، يقال: بقر جلح؛ قال الشاعر: تسكنهم بالقول حتى كأنهم .... بواقر جلح أسكنتها المراتع والعضباء: المكسورة القرن، وقد مر تفسيرها في (باب الأضحية). وفيه: (ولرجل ستر): أي: يتخذ تجملاً، وستراً للحال التي هو عليها من القلة، وضيق اليد، وقد بين معناه بقوله: (ربطها تغنياً وتعففاً) وأي: طالباً بنتاجها الغنى عن الناس، والتعفف عن المسألة، أو إظهاراً للغنى عن نفسه بركونها، وذلك أشبه بصنيع ذوي الهيئات، وأخلاق أهل الكرم والمروءة. وفيه: (فأطال لها):

أي: أرخى طويلتها في المرعى، وأكثر ما يستعمل في هذا المعنى: طول، أي: ارخى الفرس من طوله، وهو الحبل الذي يطول للدابة، فترعى به. والطول والطيل: حبل طويل يشد فيه في آخية، أو وتد، والطرف الآخر في يد الفرس ليدور فيه، ولا يعير على وجهه، والأصل فيه: الطول، وقد أبدلوا الياء من الواو؛ لكسرة ما قبلها. وفيه: (فاستنت شرفاً أو شرفين): أي: عدت طلقاً أو طلقين، وهو الجري إلى الغاية مرة أو مرتين؛ على هذا النحو فسره أصحاب الغريب، وأراهم فسروه على هذا الوجه؛ لأن الدابة إذا انفلتت من طولها، استشرفت نفسها إلى العدو؛ فتستفرغ جهدها في ذلك؛ فتعدو [138/ب] طلقاً أو طلقين، أو لأنها تعدو حتى تبلغ شرفاً من الأرض، وهو ما يعلو منها فتقف عند ذلك وقفة، ثم تعدو ما بدا لها، فعبر عن الطلق بالشرف لأحد المعنيين. وفيه: (نوءاً لأهل الإسلام): أي: معاداة لهم [ونواء بالهمز] لأنه من النوء، وهو النهوض، عبر به عن المعاداة؛ لأن كل واحد من المتعاديين يناوئ صاحبه، وربما ترك همزه. وفيه: (إلا هذه الآية الفاذة الجامعة): أي: المنفردة في معناها، الجامعة لأبواب البر، لاجتماع اسم الخير على سائر الطاعات؛ يقال: فذ الرجل عن أصحابه: إذا شذ عنهم، فبقى فرداً. قيل لخالد بن صفوان بن الأهتم: يا أب صفوان، ما الفاذة؟. قال: كلمة يقولها ثقيف التي ليس وراءها شيء؛ سماها فاذة؛ لحلولها عن بيان ما تحتها، وتفصيل أنواعه. [1198] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هرير رضي الله عنه: (مثل له ماله يوم القيام شجاعاً أقرع):

أي: حية قد نقط فروة رأسها؛ لكثرة سمها: وفيه: (له زبيبتان). الزبيبتان: الزبدتان في الشدقين، يقال: تكلم فلان حتى زبب شدقاه، أي: خرج الزبد عليهما؛ ومنه: الحية ذات الزبيبتين، وهي أحبث ما يكون من الحيات، ويقال: هما النكتتان السوداوان فوق عينيه. وفيه: (يطوقه). على بنا ما لم يسم فاعلهن أي: يجعل في عنقه كالطوق، أو يلزم عنقه ذلك إلزام الطوق، ومن الناس من يرويه على البناء الصحيح، وليس بصحيح، ونظم الكتاب يشهد عليه؛ قال الله تعالى: {سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة} آل عمران:180. [1202] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (ما ينقم ابن جميل؛ إلا أنه كان فقيراً فأغناه الله ورسوله): نقمت على الرجل، أنقم- بالكسر- فأنا ناقم: إذا عبت عليه؛ يقال ما نقمت عليه إلا الإحسان، وقال الكسائي: نقمت- بالكسر- لغة. أما معنى الحديث: فقد قال بعض أصحاب الغريب: نقم منه الإحسان: إذا جعل الإحسان يؤديه إلى كفر النعمة، أي: أداه غناه إلى أن كفر نعمة الله فما ينقم شيئاً في منع الزكاة إلا أن يكفر النعمة، وهذا الذي قاله صحيح، لأن قول القائل لمن أساء إليه، بعد أن أحسن إليه: ما عبت علي إلا إحساني إليك، تعريض بكفران النعمة، وهو تقريع بسوء الصنيع في مقابلة الإحسان. وأما قوله: (فأغناه الله ورسوله). ذكر - صلى الله عليه وسلم - نفسه عند المنة عليه، لأنه كان سبباً لدخول في الإسلام، وأصبح غنياً بعد فقره بما أفاء الله على رسوله، وبما أباح لأمته من الغنائم ببركته.

وفيه: (وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً): هذا القول محتمل لوجهين: أحدهما: أنكم تظلمونه بإدعائكم عليه منع الزكاة. والثاني: أو تظلمونه بمطالبتكم إياه بما لم يلزمه من الحقوق. ثم ذكر سناداً لقوله هذا، فقال: (قد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله)، وهذا القول- أيضاً- محتمل لوجهين؛ بناء على ما تقدم من الوجهين: أحدهما: أن يراد أني يقدم خالد على منع الزكاة، وهو فريضة من فرائض الله، وركن من أركان الإسلام، وهو محتسب باحتباس الأدراع والأعتد في سبيل [الله]. والآخر: أن يقال: إن خالداً جعل ذلك محتبساً في سبيل الله؛ فعلى ماذا يطالب [139/أ] بزكاته وقد فارق في الحكم عن عروض التجارة. هذا إذا عده العامل من جملة الأموال المعدة للتجارة. ويحتمل وجهاً ثالثاً، وهو: أن يقال: رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - لخالد أن يحتسب [....] في سبيل الله ما لزمه من الصدقة، وفيه بعد وتنافر، وإنما أوردناه [اقتفاء ... أهل] العلم في إيراده. وقوله: (أعتده): الأعتد: جمع المعتد، وهو الفرس الصلب المعد للركوب، وقيل: السريع الوثب؛ ويشهد لهذا التفسير ما ورد في بعض الروايات: (احتبس رقيقه ودوابه)، وفي (كتاب مسلم): (أعتاده) وهما بمعنى، ويروى: (عتادة)، ويصح أن تكون (الأعتد) جمع عتاد، وكذلك الأعتاد، وهو ما أعده الرجل من السلاح والدواب والآلة في الحرب، ويجمع- أيضاً- على (أعتد) بكسر التاء، ومن الناس من يرويه (أعبده) بالباء على جمع عبد، وهو تصحيف صحفي لم يأخذ العلم من أفواه الرجال، وفي بعض طرق الحديث أن خالد بن الوليد جعل رقيقه وأعتده حبساً في سبيل [الله]. وفيه: (وأما العباس: فهي على ومثلها معها): ذهب بعض العلماء في تأويله: إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان تسلف من العباس صدقة عامين. أحدهما: صدقة ذلك العام الذي شكاه العامل فيها، والأخرى: صدقة عام آخر. قلت: وفي هذا نظر؛ لأن تعجيل الصدقة للسنتين، وإن ذكر فيه حديث، فإنه غير محظوظ، وإنما المحفوظ الثابت منه: أن العباس سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تعجيل صدقته، قبل أن تحل، فرخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك. والعجب: أن صاحب هذا التأويل لم يجوز تعجيل الصدقة لأكثر من عام واحد. وقيل: يحتمل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استلف منه مالاً لينفقه في سبيل الله، ثم يحتسب له عن الصدقة عند حلولها.

وقوله: (ومثلها): أي: في كونه فريضة عام آخر، ولم يرد به المثلية في الأسنان والمقادير؛ فإن ذلك بزيادة المال ونقصانه، ولا يعرف ذلك إلا بعد دخول عام آخر، وقد روى في معناه عن علي- رضي الله عنه- في قصة عمر بن الخطاب والعباس- رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعمر: (أما علمت أنا كنا احتجنا فاستلفنا العباس صدقته عامين؟!)؛ ذكر ذلك في كتب الفقهاء مسنداً، وفيه مقال. وقد روى البخاري هذا الحديث عن ابن اسحاق، وفي روايته تلك: (وهي على ومثلها)؛ قال أبو عبيد: أرى- والله أعلم- أنه كان أخر عنه الصدقة عامين لحاجة العباس إليها؛ فإنه قد يجوز للإمام أن يؤخرها إذا كان ذلك على وجه النظر، ثم يأخذها بعد ذلك! ويخرج معنى قوله: (فهي على ومثلها معها) على التأويل الذي ذهب إليه أبو عبيد، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال هذا القول على صيغة التكفل بما يتوجه عليه من صدقة عامين، وهو تأويل حسن لما فيه من التوافق في المعنى بين الحديثين. فإن قيل: كيف التوفيق بين ما روى أن العباس سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تعجيل صدقته وبين هذا التأويل؟: قلنا: يحتمل أنه سأل التأخير في أول الأمر، وقد وجدنا في الحديث ما يؤيد ذلك، وهو أنه لما أسر ببدر، أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يفدي [139/ب] نفسه وابني أخويه عقيل بن أبي طالب، ونوفل بن الحارث من ماله؛ فشق عليه ذلك، فوعده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد إسلامه: أن يخوله من مال الله ما يسد به خلته، فعله سأل التأخير [قبل] نزول فريضة الزكاة ولما وسع الله عليه وأغناه من فضله، سأل التعجيل ليجبر به نقيصة التأخير، وقد روى البخاري هذا الحديث عن أبي اليمان، عن شعيب، وفي روايته: (وهي على صدقة ومثلها معها) وقد توبع شعيب في روايته هذه على هذا السياق؛ فالظاهر: أنه وهم فيه؛ فإن العباس كان من صليبة بني هاشم، وقد حرم الله عليهم أوساخ الناس، وفي بعض طرق هذا الحديث: عن موسى بن عقبة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة: (فهي له ومثلها معها) وهذا- أيضاً- محمول على أن بعض الرواه وهم فيه. وقد قال الخطابي: (فهي له) أي: عليه، قال: وقد جاء في كلامهم: (له) بمعنى (عليه)، قال الله تعالى: {أولئك لهم اللعنة} الرعد:25 أي: عليهم. قلت: ولأن نضرب عن هذه الرواية صفحاً- مع ما فيها من الاختلاف البين- أولى وأجدر من أن نقول بهذا التأويل؛ فإن (له) و (عليه) كلمتان تستعملان على وجه التضاد، ولو جوزنا ذلك- في هذا الحديث- أفضى بنا غلى تعطيل أصول اللغة العربية التي عليها مدار الكتاب والسنة، واستشهاد أبي سليمان بقوله تعالى: {أولئك لهم اللعنة} غير مستقيم، فإن الكلمتين في هذه الصيغة- وإن خلفا في اللفظ- فإنهما يتفقان في المعنى، ومعنى قوله: {أولئك لهم اللعنة} أي: حق لهم ووجب؛ كقوله: {ولهم سوء الدار}.

وفيه: (يا عمر، أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه): إذا خرجت نخلتان وثلاث من أصل واحد، فكل واحدة منهن صنو، ويقال: ركيتان صنوان: إذا تقاربتا ونبعتا من عين واحدة، أراد: أن أباه والعباس من أرومة واحدة، وأنه منه بمثابة الأب، ويقال للمثل: الصنو، أي: مثل أبيه، فمن الأدب- بل من الواجب- أن لا يسمعه فيه ما يعود منه نقيصة عليه. [1203] ومنه: حديث أبي حميد الساعدي- رضي الله عنه: (استعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً من الأزد، يقال لهك ابن اللتبية .. الحديث): الأزد: جرثومة من جراثيم قحطان، ويقال: الأزد، والأسد بالسين أفصح، وبالزاي أكثر استعمالاً ولعل ذلك لمجانبتهم عن موقع الاشتباه؛ فإنك إذا قلت: الأسدي اشتبه بالأسدي). وإنما قيل لهم: الأسد والأزد؛ لأن [ادراء] بن الغوث كان رجلاً كثير المعروف، وكان الرجل يلقى الرجل، فيقول: أسدي إلى [دراء] يداً والأزدي إلى يداً، [فبدل]. فكثر هذا حتى سمى به، فقالوا: الأسد والأزد. وابن اللتبية رجل منهم استعمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صدقات بني سليم، واسمه عبد الله، وقد اشتهر بالنسبة إلى أمه، ولم يذكر لها اسم، وقد اشتهرت عليه بالنسبة إلى (بني لتب) بضم اللام وإسكان التاء، بطن من العرب، ومن الرواة من يرويه: (ابن الأتبية) بالألف بدل اللام؛ وليس بشيء، ولا اعتداد به. وفيه: (إن كان بعير له رغاء، أو بقرة (له) خوار، أو شاه تيعر): الرغاء: صوت ذوات الخف [140/أ]، وقد رغا البعير يرغو رغاء: أذا ضج، وفي المثل: كفي برغائها منادياً، وتيعر، أي: تصيح؛ يقال: يعرت العنز، تيعر- بالكسر- يعاراً بالضم أي: صاحت. وفي (كتاب عمر بن أقصى): (إن لهم الياعرة) أي: ماله يعار، وفي روايته من هذا الحديث (أو شاة لها يعار)، وهذه الرواية أشبه بنسق الكلام، إلا أن الرواية الأخرى أشهر وأصح، ومعناه على بناء المضارع: (أو شاة لا تزال تيعر، أو صفتها تيعر). قلت: ولما كان الرغاء والخوار من الأصوات التي يسمعها البعيد كما يسمعها القريب- قال: له رغاء،

وله خوار، فلما انتهي إلى الشاة جعل الصياح صفة لازمة لها؛ ليدل على أنها لا تزال تيعر بين أهل الموقف؛ ليكون ذلك أنكل في العقوبة، وأبلغ في الفضيحة. وفيه: (حتى رأينا عفرة إبطيه): العفرة: البياض الذي ليس بخالص، فكأنه أراد منبت الشعر من الإبطين؛ لمخالطة بياض الجلدة سواد الشعر. وفيه: (فكتمنا مخيطاً): المخيط بكسر الميم: الإبرة، وفي حديث آخر: (أدوا الخياط والمخيط)، والخياط- في هذا الحديث: الخيط، وأما في قوله تعالى: {حتي يلج الجمل في سم الخياط}: فإنه المخيط. (ومن الحسان) [1204] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس- رضي الله عنهما-: (ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء: المرأة الصالحة): الكنز: المال المدفون لعاقبة ما، ثم يتسع فيه؛ فيقال لكل قنية يتخذها الإنسان، ومعنى قوله: (بخير ما يكنز) أي: يقتنيه ويتخذه لعاقبته والانتفاع به. ووجه المناسبة بين قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إنه ما فرض الزكاة إلا ليطيب ما بقى لكم من أموالكم)؛ فكبر عمر،

وبين هذا القول هو أنه لما فهم من تكبير عمر- رضي الله عنه- استبشاره برفع الحرج عن الأمة في اقتناء المال ودعته إذا زكى ولم يرض منهم بالتوسع في ذلك، بل اختار لهم التقلل والاكتفاء بالبلغة، وترك الفضول-: أشار إليهم أن تقنعوا من الانتفاع بمتاع الدنيا مع بقاء العين بالمرأة الصالحة؛ وفي هذا المعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: (الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة). وفي هذا الحديث أبلغ زاجر عن جمع المال وحياطته لمن تدبره، وهو: إن متاعاً خيره المرأة- مع ما يلزم الإنسان في ذلك من الواجبات والحقوق الشرعية، والمحافظة على آداب الصحبة، والتورع عما يأثم به من ذلك، ثم الصبر على عوجها، والإعراض عن هناتها؛ لنقصان عقلها- لحرى بالمبادرة إلى تركه، والمسارعة إلى تخلية اليد عنه. [1208] ومنه: حديث عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا جلب ولا جنب ... الحديث). الجلب المنهي عنه في الصدقة: هو ألا يأتي المصدق القوم في مياههم لأخذ الصدقات، ولكن يأمرهم بجلب نعمهم (140/ب)، ويقال: بل هو الجلب في الرهان، وهو أن يركب فرسه رجلاً فإذا قرب النهاية تبع فرسه فجلب عليه وصاح به، ليكون هو السابق، وهو ضرب من الخديعة وهذا تفسير صحيح من طريق اللغة، والمراد منه في الحديث هو الأول لما بينته بقية الحديث وذلك قوله: (وإنما تؤخذ صدقاتهم في دورهم)، ولعل الذي فسره على الجلب في الرهان لم يبلغه الحديث بتمامه، أو قال هذا القول في حديث آخر؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا جلب ولا جنب ولا شغار في الإسلام) فأما الذي جعله أحد [شقي] هذا الحديث فإنه لم يصب لما قد ذكرنا من التعليل، وعلى هذا فإن الجنب في هذا الحديث هو أن أصحاب الأموال لا يجنبون عن مواضعهم فيشق في المصدق متابعتهم. على هذا الوجه فسروه. ويحتمل أن يكون من قولهم: جنبت الدابة، إذا قدتها إلى جنبك، أي لا يذهب المصدق بالقوم

باب ما تجب فيه الزكاة

وبدوابهم يقودهم إلى جنبه كهيئة المجنوب إلى حيث يحب أن تحمل ليزكيهم هنالك، وأرى هذا الوجه أشبه بنسق الكلام، وإن لم أجده في كتب أصحاب الغريب، وذلك لأن حكم النهي على صفة الحديث متعلق بالأخذ دون المعطى. وإذا فسرنا الجنب على أن أصحاب الأموال لا يجنبون عن مواضعهم تعلق حكم النهي بالمعطى، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (وإنما يؤخذ صدقاتهم في دورهم)، والجنب يفسر: بأن يركب فرساً فيركضه وقد أجنب معه فرساً آخر ليركبه إذا قارب الغاية فيسبق صاحبه ولا وجه له ههنا لما ذكرنا، ومعنى (في دورهم) أي: في منازلهم، وحيث يحلونها من محلاتهم، ومنه الحديث: (ما بقيت دار لأبني فيها مسجداً) أي محلة. [1211] ومنه حديث عبد الله بن عمرو- رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس فقال: ألا من ولى يتماً له مال- الحديث. روى هذا الحديث المثنى بن الصباح عن عمرة بن شعيب عن أبيه عن جده، والمثنى بن الصباح يضعف في الحديث، وصحيفة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فيه كلام من تدليس وتعمية وأبهام. ومن باب ما تجب فيه الزكاة (من الصحاح) [1212] حديث أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة .. الحديث). الوسق: ستون صاعاً، وقال الخليل: الوسق حمل البعير، والوقر حمل البغل أو الحمار. قلت: الوسق من أوسقت الشيء، أي: جمعته وحملته فالمعنيان في الوسق مبنيان على ما ذكرنا في معنى وسقت الشيء. وفيه: (وليس فيما دون خمس أواق) الأوقية أربعون درهماً، يقال: أوقية وأواقي، كما يقال بختية وبخاتي غير مصروفة لأنها على زنة جمع الجمع، ولك أن تخفف الياء، ويقال أيضاً في جمعها: أواق بلا

ياء كما يقال: أضحية وأضاح، وذكر الخليل أن الأوقية سبعة مثاقيل، وقيل: سبعة ونصف، وليس في هذه الأقوال تضاد؛ لأن ذلك مما يختلف باختلاف [141/أ] البلدان والأزمان، وقد كانت الأوقية فيما مضى أربعون درهماً على ما في الحديث فأما اليوم فما يتعارفه الناس ويقدر عليه [الأطباء] وزن عشرة دراهم وخمسة أسباع درهم، وهو استار وثلثا استار ومن عوام المحدثين من يرويها بمد الألف، كأنها جمع أوق وهو لحن. وفيه: (وليس فيما دون خمس ذود). الذود من الإبل ما بين الثلاث إلى العشر، وهو مؤنثة لا واحد لها من لفظها، والكثير أذواد، وقال أبو عبيد القاسم بن سلام هي ما بين ثنتين إلى تسع من الإناث دون الذكور وأنشد: ذود صفايا بينها وبيني .... ما بين تسع إلى ثنتين والمراد من خمس ذود خمسة من الإبل لا خمس أذواد، وإنما أضاف خمساً إلى ذود لإفادة التعريف، وقد ذكر أبو عمرة بن عبد البر أن بعض الشيوخ رواه في (خمس ذود) على البدل لا على الإضافة. قلت: وفيه وهن لمخالفته رواية الإثبات، ثم لما وجدناه في الحديث: (أعطانا خمس ذود) ولا وجه فيه [على] الإضافة، وقوله: (من الإبل) تأكيد في البيان. [1215] ومنه حديث أنس- رضي الله عنه- أن أبا بكر- رضي الله عنه- كتب له هذا الكتاب لما

وجهه إلى البحرين ... الحديث. أشار بلفظ: (هذا) إلى الكتاب إما لأنه كان مكتوباً عند المتحدث به عن أنس وهو ثمامة بن عبد الله بن أنس، أو أشار بن ثمامة أو أنس إلى ما تحدث به؛ لأنه افتتح أن يحدث به فكان في حكم الحاضر. وفيه: (فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي: قدرها، ويجوز أن يراد به الإيجاب وأضيف إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه كان هو الآمر به من قبل الله تعالى. وفيه: (بنت مخاض) المخاض: الحوامل من النوق، واحدتها خلفة، ولا واحد لها من لفظها. قال الأصمعي: إذا حملت النوق لتمام سنة من يوم [...] ومخاضاً، وولدها ابن مخاض، وذلك إذا استكمل الحول، ودخل الثانية، وقبل ذلك يسمى فصيلاً، وقال غيره: هن شول ما داجر منها الفحل، وابن المخاض الذي حملت أمه أو حملت الإبل التي فيها أمه، وإن لم تلقح هي وهذا هو المعنى في قولهم: ابن مخاض، وبنت مخاض؛ لأن الناقة الواحدة لا يكون ابنه نوق، فلكون أمها في نوق حوامل وضعت حملها معهن قبل ذلك سميت بنت مخاض فنسبت إلى الجماعة لحكم مجاورتها أمها، وابن مخاض نكرة، فإذا أردت تعريفه أدخلت عليه الألف واللام، إلا أنه تعريف جنس فإذا وضعت أمه غيره فصار لها لبن، قيل له: ابن لبون، وهو نكرة تعرف بالألف واللام. فأما وجه قوله: (بنت مخاض أنثى وبنت لبون أنثى) فلم أجد أحداً من أصحاب المعاني ذكر فيه شيئاً يشفي الغليل وقد سئلت عنه فكان جوابي فيه: أن الابن والبنت إنما يختصان بالذكر والأنثى عند الإطلاق في بني آدم، وأما في غير بني آدم فقد استعمل على غير هذا الوجه فقيل: ابن عرس وابن آوى، وابن دأية وابن قترة وابن الماء وابن الغمام وابن ذكاء وابن الأرض وبنت الأرض وبنت الجبل وبنت الفكر [141/ب]. وما أشبه ذلك من الأسماء، وكل ذلك مستعار لمعان غير الذي يختص بالإنسان وكذلك نقول في ابن مخاض وابن لبون وبنت مخاض وبنت لبون، ويدلك على صحة ما ادعينا قولهم: بنات مخاض وبنات

لبون وبنات آوى، ولم يقولوا: أبناء لبون أو بنو مخاض، وقد ذكر عن الأخفش: بنو عرس وبنو نعش. فأما ابن مخاض وابن لبون فلم يذكر في جمعها اختلاف، فالتقييد الذي ورد في الحديث بنت مخاض أنثى، وبنت لبون أنثى لرفع الاشتباه بما ذكرناه من النظائر. وفيه: (ففيها حقة طروقة الجمل)، الحق بالكسر ما كان من الإبل ابن ثلاث سنين، وقد دخل في الرابعة والأنثى حقة وحق أيضاً سمى بذلك لاستحقاقه أن يحمل عليه وينتفع به. يقال: هو حق بين الحقة، وهو مصدر وطروقة الحمل التي بلغت أن يضربها الفحل. وفيه: (ففيها جذعة)، يقال: للإبل في السنة الخامسة: أجذع وجذع، وهو اسم له في زمن ليس بن تنبت، ولا تسقط، والأنثى جذعة. وفيها: (فإذا زادت على ثلثمائة ففي كل مائة شاة ..) المراد من الزيادة على ثلثمائة وهو مائة أخرى؛ لأنه علق الصدقة الواجبة فيها بمائة مائة، ثم قال (فإذا زادت)، تقل أن الزيادة اللاحقة بها مائة كاملة، ولم ينقل خلاف ذلك إلا في قول شاذ متروك. وفيه: (ولا تخرج في الصدقة هرمة، ولا ذات عوار). أراد بالهرمة التي نال منها كبر السن, وأخر بها، ولا ذات عوار أي: عيب، يقال: سلعة ذات عوار، بفتح العين، وقد تضم. وفيه: (ولا تيس إلا ما شاء المصدق). رواه أبو عبيد، بفتح الدال وتشديدها وهو الذي يعطي صدقة ماشيته، وخالفه عامة الرواة فقالوها بكسر الدال والتشديد، وهو الذي يأخذ الصدقات، وأكثر ظني أني وجدته في بعض المرويات بتشديد الصاد، وهو في معنى ما رواه أبو عبيد، وأصله المتصدق فقلبت التاء صاداً فأدغمت في مثلها، وبه ورد التنزيل {إن المصدقين والمصدقات} وقل من يتابع أبا عبيد في روايته هذه، وقد وجدت أبا جعفر الطحاوي يختار رواية أبي عبيد (وينصرها)، ويقول: هو عندي كما قال أبو عبيد: لأنه [...] على الذي وجب عليه، كان حراماً على العامل أخذه لما فيه من الزيادة على الواجب، وإن كان دونه كان حراماً عليه أن يأخذه بما عليه، وإن كان مثله في القيمة فهو خلاف النوع الذي أمر بأخذه لوجوبه على رب المال فحرام عليه أخذه بغير طيب نفس من صاحبه، فعلم أنه لم يرد به العامل، وإنما أراد به رب المال لأن [...] أو مثل ما عليه من نوع آخر. قلت: ولعل الذي يأخذ بهذا القول يجعل الاستثناء مختصاً بقوله: ولا تيس لأن رب المال ليس له أن يخرج في صدقته ذات عوار، وأما التيس فإنه وإن كان غير مرغوب فيه لنتنه وفساد لحمه فإنه ربما زاد على خيار النغم في القيمة لطلب الفحولة، ويشهد لهذا التأويل ما ورد في بعض طرق هذا الحديث: (ولا تيس الغنم) [143/أ] أي الفحل الذي يضربها، والذي ذكرناه من كلام أبي جعفر، وإن كان صحيحاً فإن الرواية التي ذهب إليها الجمهور [....] العامل إذا كان [....] النظر والمصلحة؛ لأنه أبعد من الشبهة فهو يسعى لغيره ورب المال يسعى لنفسه. وفيه: (ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة ...). اختلف العلماء في تأويله فمنهم من يقول: هو أن يكون للرجل مائة وعشرون شاة، فالواجب فيها شاة فإن فرقها المصدق فجعلها أربعين أربعين كان فيها ثلاث شياه، وكذا إن كانا شريكين متفاوضين لا يجمع بين أغنامها ولا يجمع

بين متفرق به، والرجلان بينهما أربعون شاة، فإن جمعها كان فيها شاة وإن فرقها لم يكن فيها شيء وهذا قول أبي حنيفة في تأويله ومنهم من يقول: هو أن يكون لكل واحد منهما أربعون شاة، فإذا أظلهما المصدق جمعوها لئلا يكون فيها إلا شاة واحدة. (ولا يفرق بين مجتمع) هو أن الخليطين إذا كان لكل واحد منهما مائة شاة وشاة فيكون عليهما ثلاث شياه، فإذا أظلهم المصدق فرقا غنمهما فلم يكن على كل واحد منهما إلا شاة [وشاة فيكون عليهما، فلم يكن على كل واحد منهما إلا شاة]، وهو قول مالك، ومنهم من يقول: (لا يجمع بين متفرق) رجل له مائة شاة وشاة ورجل له مائة شاة فإذا تزكيا متفرقين ففيهما شاتان وإذا جمعتا ففيها ثلاث شياه، (ولا يفرق بين مجتمع) أي لا يفرق بين ثلاثة خلطاء في عشرين ومائة شاة فإنما عليهم شاة فإذا فرقت [...] وهو قول الشافعي- رضي الله عنه- قال: والخشية خشيتان، خشية الساعي أن تقل الصدقة، وخشية رب المال أن يكثر. روينا هذا القول عن الطحاوي عن المزنى عن الشافعين وقد قيل غير هذه الأقاويل لم نوردها حذراً عن الإسهاب. وفيه: (وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية ..). معنى هذا الكلام على قول من ذهب إلى أن الخلطة لها تأثير في حكم الصدقة بين ظاهر، وأما من قال لا حكم للخلطة على ما ذكره القائلون بها، وإنما الحكم للأملاك دون ما سواها، فإنه يقول: معنى هذا القول ان يكون الرجلان لهما مائة وعشرون شاة لأحدهما الثلثان وللآخر الثلث وطالبهما المصدق غير منتظر قسمة تلك الأغنام فإنه يأخذ من جملتها شاتين فما أخذ من الحصتين جائز عن المالكين فصاحب الثلثين يأخذ منه شاه وثلث شاة، وقد لزمه في الصدقة شاة، وصاحب الثلث قد أخذ منه ثلثا شاة، وقد لزمه شاة فيتراجعان بينهما بالسوية، يرجع صاحب الثمانين على صاحب الأربعين في غنمه بثلث شاة الذي أخذ [بحصته] عن الغنم بحصة زكاته حتى يرجع حصة صاحب ثمانين من الغنم إلى تسع وسبعين، وحصة صاحب الأربعين إلى تسع وثلاثين. (وفي الرقة ربع العشر) الرقة: الدراهم المضروبة، وأصله الورق والهاء عوض من الواو [143/ب] ويجمع على رقين، وفي أمثالهم إن الرقين تغطى أفن الأفين. [1216] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر- رضي الله عنهما-: (أو كان عثرياً ..) العثري بالتحريك: العذين وهو الزرع الذي لا يسقيه إلا ماء المطر. [1217] ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (العجماء جرحها جبار .. الحديث).

العجماء: البهيمة، وإنما سميت عجماء؛ لأنها لا تتكلم، وكل من لا يقدر على الكلام أصلاً فهو أعجم ومستعجم. وقوله: (جبار) أي هدر، يقال: ذهب دمه جبار، أي هدراً، والمراد من العجماء التي جرحها جبار: الدابة المنفلتة من صاحبها ليس لها قائد ولا راكب يسلك بها سواء السبيل فمن جرحته أو أتلفته فلا دية فيه ولا غرامة، وإنما يكون ذلك جناية ذات ضمان إذا انضم إليها صنع من صاحبها سائقاً أو قائداً أو راكباً، فلا (يصرفها) إلى وجهها ولا يردعها. وفيه: (والبئر جبار ...) أي إذا انهار البئر التي يأمر الإنسان بحفرها في ملكه، أو المعدن على من يعمل فيهما فهلك، لم يؤخذ به مستأجره، وفي البئر وجه آخر، وهو أن يحفر الإنسان بفلاة من الارض بئراً يستقي منها أبناء السبيل فيقع فيها إنسان فيهلك، لا يلزم الحافر شيء. وفيه: (وفي الركاز الخمس ...)، قيل دفين أهل الجاهلية، كأنه ركز في الأرض ركزاً، ومنه نقول: أركز الرجل، إذا وجد الركاز، وهو عند أهل الحجاز المال العادي على ما ذكرناه، وقال أبو حنيفة رحمة الله عليه: المراد منه في الحديث: المعدن، واستدل بحديث عمرة بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلاً سال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما يوجد في الخراب العادي، فقال: فيه وفي الركاز الخمس، فقال: أخبر بدءاً عن المال المدفون، ثم عطف عليه الركاز والمعطوف غير المعطوف عليه. وقد ذكر أبو بكر الرازي بإسناده عن عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (في الركاز الخمس) قالوا: يا رسول الله، وما الركاز؟ قال: الذهب والفضة الذي خلق الله في الأرض يوم خلقه). قلت: حديث عبد الله بن سعيد عن أبيه (عن ....) غير محتج به، فإن أهل العلم بالجرح والتعديل تكلموا فيه، فأما حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فصالح، وأكثر أهل الحديث يحتجون به ويثبتونه، لاسيما إذا عرف أن الضمير في جده راجع إلى أبي عمرة لا إلى عمرو إذ ليس فيه مقال إلا من هذا الوجه، وتسمية المعدن بالركاز إن لم يوجد في أهل اللغة فإنها سائغة من طريق المقاييس اللغوية، وقد نقل عن محمد بن الحسن الشيباني وهو مع رسوخه في الفقه يعد من علماء العربية أنه قال: إن العرب تقول: ركز المعدن إذا كثر [144/أ] ما فيه من الذهب والفضة. (ومن الحسان) [1218] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث على رضي الله عنه: (وفي البقر في كل ثلاثين تبيع أو تبيعة ومن كل أربعين مسنة).

التبيع خص بولد البقر إذا اتبع أمه بعد تمام سنة، والأنثى تبيعة، والمتبع من البهائم التي يتبعها ولدها، وولد البقرة في أول سنة عجل ثم تبيع ثم جذع ثم ثنى ثم رباع ثم سديس ثم سالغ، يقالك سلغت البقرة إذا اسقطت السن التي خلف السديس، فهي سالغ وصالغ وكذلك الأنثى بغير الهاء والمسنة هي البالغ، يقال لها: سالغ سنة وسالغ سنتين إلى ما زاد. [1220] حديث أنس- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: المعتدي في الصدقة: أراد أن العامل الذي يعتدي في أخذ الصدقة عن مقدار الواجب هو في الوزر كالذي يمتنع عن أداء ما وجب عليه. [1224] ومنه حديث سهل بن أبي حثمة- رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: (إذا

خرصتم فدعوا الثلث ... الحديث) الخرص: حزر ما على النخل من الرطب تمراً، وقد خرصت النخل، والاسم الخرص بالكسر، يقال: كم خرص أرضك. وقد روى أبو داود هذا الحديث في كتابه، وفيه: (إذا خرصتم فجدوا ودعوا الثلث) وكذلك رواه أبو عيسى في كتابه، ومن رواة الكتابين كتاب أبي داود وكتاب أبي عيسى من يرويه بالجيم من الجداد، ومنهم من يرويه فخذوا بالخاء والذال المعجمتين من الأخذ، وأراها أولى الروايتين لما رواه أبو عبد الرحمن في كتابه: (إذا خرصتم فخذوا أو دعوا الثلث فإن لم تأخذوا أو تدعوا- شك شعبة- فدعوا الربع، وقد سقط هذا اللفظ المختلف فيه عن كتاب المصابيح أو تركه للالتباس الذي فيه، والحديث لا يقرر معناه في نصابه إلا بعد الإتيان به على نعت التمام مع استيفاء طرقه، وإذ قد أعطينا اللفظ حقه نأخذ في تقرير معناه. فأما قوله: (فجدوا ..) فالمعنى لا تقدموا على صرام النخل حتى تخرصوها فإذا خرصتموها فجدوا، وأما الرواية الأخرى فمعناها: إذا خرصتم التمرة فخذوا منها ما شيءتم، وأما تأويل الحديث على ما رواه النائي: هو أن نقول: ظاهر هذا الحديث يدل على أن هذا الخرص كان في مال الفيء من أموال خيبر

والنضير دون ما يجب فيه العشر خاصة بحكم الزكاة، وذلك لأن ما وجب فيه العشر لم يؤخذ منه الثلث، فأما أرض خيبر فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - عامل يهود خيبر بشطر ما يخرج من ثمر أو زرع، وما حط عنه الثلث لقوله: (فدعوا الثلث) فإن شطر ما بقى ثلثاً آخر، فسواء في هذه الصورة قوله: (فجذوا الثلث). وقوله (فدعوا الثلث) كان شطر ما بقى آخر، فسواء سمع الراوي كلا الروايتين أو احديهما. وأما وجه الأمر بحط الثلث فلما تختزنه الأكلة [144/ب] وتنتابه العافية، ولما وقع على الأرض من السقطات، وقد ورد في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول للخراص- إذا بعثهم- (احتاطوا لأهل الأموال في النابتة والواطئة). قلت: الواطئة، قيل: إنها السابلة، وقيل: فاعلة بمعنى مفعولة، أي: الموطوءة وهي الساقطة وقد ذكر أبو داود في كتابه بعد هذا الحديث أن الخارص يدع الثلث للخرفة كذلك. قال يحي القطان: وقد اختلف العلماء في إثبات الخرص والعمل به، فأما الذاهبون إليه فإنهم استدلوا بهذا الحديث وحديث عائشة وابن عمر وعتاب بن أسيد وجابر رضي الله عنهم، وقالوا: إن الصحابة عملوا به بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأما من أبي تجويزه والعمل به، فإنه يقول: قد روينا عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (نهى عن الخرص)، وقد اتفق المسلمون على أن بيع الرطب بالتمر نسيئة غير جائز، وفي ذلك تمليك رب المال ما وجب في ماله من حق الله رطباً بمكيلته تمراً نسيئة. وفي حديث رافع بن خديج، وسهل بن أبي حثمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (نهى عن بيع المزابنة التمر بالتمر إلا لأصحاب العرايا، فإنه قد أذن لهم، وعن بيع العنب بالزبيب، وعن كل تمر بخرصه. وكان الشعبي ينكر الخرص، وهو من كبار التابعين بالكوفة [....] الصحابة. وفي حديث سهل بن أبي حثمة: (فدعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع) فكيف العمل به، وليس لرب المال أن يعطي دون ما وجب عليه، ولا للعامل أن يأخذ منه فوق ما وجب عليه. ثم إنا نرى الأمر بخلاف ذلك في غيره من الحقوق الشرعية، فعلينا أن نأول أحاديث الخرص على وجه نبين به تلك القواعد؛ فمن قائل من أهل هذه المقالة: أن الخرص شرع قبل تحريم الربا، وكان العمل بالظن والتخمين في أمثال ذلك جائزاً يومئذ، فلما حرمت الربا نسخ ذلك، وهذا التأويل غير مستبعد لولا حديث عتاب بن أسيد فإنه من مسلمة الفتح، والربا كانت يومئذ محرمة، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة في خطبته: (وربا الجاهلية موضوعة). ومنهم من يقول: إنما أمر بالخرص تخويفاً للأكرة وأجراء النخيل وأحراسها والقائمين بأمرها كيلا يخونوا. وقد كان - صلى الله عليه وسلم - عامل يهود خيبر فكان يبعث إليهم عبد الله بن رواحة ليخرصها عليهم؛ لأنهم كانوا فجاراً خونة يستحلون مال الله، وهذا أمثل المقولين.

قال أبو جعفر الطحاوي: إنما أريد بالخرص الذي أمر به ابن رواحة أن يعلم مقدار ما في أيدي كل قوم فيؤخذ منهم بقدره وقت الصرام، لا أن يملكوا شيئاً مما يجب لله فيه ببدل لا يزول ذلك البدل عنهم، وكيف يجوز ذلك ويحتمل أن يصيب الثمرة آفة فتتلفها فيكون ما يؤخذ من صاحبها بدلاً مما لم يسلم له. قال: وكذلك نقول في حديث عتاب بن أسيد وغيره [145/أ]. [1231] ومنه حديث أورده عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن مرسلاً (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقطع لبلال بن الحارث المزني المعادن القبلية ..) الحديث. أقطعه الإمام قطيعة أي طائفة من أرض الخراج، والإقطاع يكون تمليكاً وغير تمليك. وكان عمر- رضي الله عنه- يرى أن الإقطاع من الإمام ليس على وجه التمليك لم يقطع له إنما هو على وجه الإرفاق والإمتاع، ولهذا قال لبلال بن الحارث المزني: ما أقطعك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العقيق (لتحتجنه) فأقطعة الناس، ومعنى قوله: (لتحتجنه) أي: تحوزه وتمتلكه، دون الناس. والمعادن القبلية: المحفوظ عند أصحاب الحديث بفتح القاف والباء، وكسر اللام. وزعم بعضهم أنها منسوبة إلى قبائل العرب، من قولهم: رجل قبلي، إذا نسب إليها، وقيل: القبلية منسوبة إلى ناحية من ساحل البحر بينها وبين المدينة خمسة أيام، وقيل: القبلية موضع بعينه من ناحية الفرع، والفرع موضع بأعالي المدينة واسع، وفيه مساجد للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وبه قرى كثيرة، وهو بين الحرمين، وفي كتاب الأمكنة: القبلية بكسر القاف بعدها باء مفتوحة، والعقيق الذي ذكر في حديث عمر- رضي الله عنه- هو الذي ذكر في هذا الحديث بالمعادن القبلية، وفيه بئر على مقربة منه، وهو من بلاد مزينة، ولفظ الحديث على ما وجدناه: (أقطع بلال بن الحارث المعادن القبلية جلسيها وغوريها، وحيث يصلح للزرع من قدس ولم يعطه حق مسلم). وحديث بلال هذا سمعناه من كتاب المعجم الكبير لأبي القاسم الطبراني بإسناده إلى بلال بن الحارث، وفي بعض ألفاظه اختلاف. وقوله: (جلسيها وغوريها) أي ما ارتفع منها وما انخفض. والجليس: الغليظ من الأرض، ومنه جمل جلس وناقة جلس، أي: وثيقة والجلس أيضاً نجد وإياه عنى في الحديث، وقوله: (من قدس) هو الموضع المرتفع الذي يصلح للزراعة، وقيل: هو جبل. قال الجوهري: (وقدس) بالتسكين جبل عظيم بأرض نجد، وفي كتاب الأمكنة: (وحيث يصلح الزرع من قريس)، قال: وقرس وقريس جبلان قرب المدينة.

باب صدقة الفطر

ومن باب صدقة الفطر (من الصحاح) [1233] حديث أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه: (كنا نخرج زكاة الفطر صاعاً من طعام .. الحديث)، هذا الحديث روى عن أبي سعيد من وجهين: أحدهما على ما هو في كتاب المصابيح، والآخر ما رواه مسلم أيضاً في كتابه عن أبي سعيد: (كنا نخرج إذ كان فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر عن كل صغير وكبير حر أو مملوك صاعاً من طعام صاعاً من أقط أو صاعاً من شعير .. الحديث)، وكلتا الروايتين مخرجة في الصحاح وبهذا الاختلاف، أعني قوله في رواية [145/ب] (أو صاعاً من أقط) بعد قوله: (صاعاً من طعام). وقوله في الرواية الأخرى: (صاعاً من طعام، وصاعاً من أقط) من غير لفظ أو يختلف المعنى، لأنه إذا قيل صاعاً من طعام أو صاعاً من أقط كان المراد من الطعام نوعاً آخر لم يذكر في الحديث تفصيلاً، ولهذا قيل: إن المراد منه البر، وزعم بعضهم أن الطعام عندهم اسم خاص للبر، قال: وهو أغلى ما كانوا يقتاتونه في الحضر والبدو، فلولا أنه أراد بالطعام الحنطة لذكرها عند التفصيل، كذكره سائر أقواتهم، وأما الرواية الأخرى، فإنها تدل على أنه أراد بالطعام ما فصل بعده واسم الطعام شامل لجميع ذلك، وهذه الرواية أشبه بالروايتين لقول أبي سعيد في بعض طرق هذا الحديث: (كنا نخرج زكاة الفطر ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - فينا، عن كل صغير وكبير، حر أو مملوك، من ثلاثة أصناف: صاعاً من تمر،

صاعاً من أقط، صاعاً من شعير، فلم نزل نخرجه كذلك، حتى كان معاوية، فرأى أن مدين من بر يعدل صاعاً من تمر). قلت: ولو كان الأمر على ما ادعاه؛ لم يكن أبو سعيد ليقول هذا القول، ويسكت عما يجده من العلم

باب من لا تحل له الصدقة

بحقيقة ذلك، وهو الراوي لذلك الحديث، ومما يؤيد ذلك حديث ابن عباس: (وأنصف صاع قمح)، وقد رواه أيضاً غيره، وقد اختار أبو داود في كتابه هذه الرواية التي نصرناها. ومن باب من لا تحل له الصدقة (من الحسان) [1243] حديث عبد الله بن عمرو- رضي الله عنها- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سوي)، المرة: القوة. من قولهم: أمررت الحبل: إذا فتلته، والمرير والممر: المفتول. وفلان ذو مرة: أي قوي محكم القتل. وسوي: أي قويم الخلق معتدله، كأنه المستوي في الخلقة على طريق الاستقامة، المصون عن الإعوجاج في طرفي الإفراط والتفريط. فأما تأويل الحديث وتقرير معناه عند من لا يرى القوة على الكسب محرمة للصدقة على الفقير، فإنه يقول: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معاذاً، لما بعثه إلى اليمن، أن يأخذ الصدقة من أغنياء المسلمين، فيضعها في فقرائهم، فكان الأغنياء منهم هم المأخوذ منهم، ومن سواهم ممن لم يؤثر بالأخذ منهم غير أغنياءهم الفقراء، فأخذنا بذلك؛ لأنه آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يعطي الصدقة فقراء أصحابه، وأكثرهم أصحاء أقوياء، لا زمانة بهم. في حديث زياد بن الحارث الصدائي أنه قال: (أمرني رسول - صلى الله عليه وسلم - على قومي، فقلت: يا رسول الله: اعطني من صدقاتهم، ففعل وكتب لي بذلك كتاباً، فاتاه رجل فقال: يا رسول الله، اعطني من الصدقة، فقال: (إن الله تعالى لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو، فجزاها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك) فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الصدائي وأعطاه من الصدقة، ولم يكن ليؤمره إلا وهو صحيح البدن، سوي الخلق، ثم لم يمنعه ذلك (146/أ)

باب من تحل له المسألة

عن دفع الصدقة، ولم يكن ليأمره إلا وهو صحيح إليه. ثم سأله رجل آخر، فقال: إن كنت من الأصناف الثمانية .. الحديث، فرد بذلك حكم الصدقات إلى مارده الله إليه، فكل من وقع عليه اسم صنف من تلك الأصناف، فهو من أهل الصدقات، زمنا كان، أو صحيحا، شهد بذلك التنزيل، وحكم بصحته السنة، فقوله: (لا تحل الصدقة .. الحديث) ينزل منزلة الكراهة والتغليظ له؛ لئلا يتكل على صدقات الناس، ويزاحم ضعفاء الفقراء فيما هم أحق به منه، أي: لا تحل له من جميع الوجوه والأسباب التي يتكامل بها الاستحقاق. قلت: وقد يقال: لا يحل لمسلم أن يبيت شبعان وجاره غرثان، وإلى نحو ما ذكرناه أشار الطحاوى في كتابيه: مشكل الآثار، وشرح الآثار، وقد رأيت تخريج معنى هذا الحديث على غير هذا الوجه أيضا وهو أن نقول حديث عبد الله بن عمرو- رضي الله عنه- هذا رواه شعبة ولم يرفعه، ورواه سفيان مرفوعا. وروى أيضا عن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: لاحق في الصدقة لغنى، ولا لقوى مكتسب وروى أيضا عنه: (لاحظ) وقد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بطرق كثيرة وأسانيد صحيحة: (لا تحل المسألة لغنى، ولا لذي مرة سوى) وقوله: (لا تحل الصدقة) لم يوجد إلا في الحديث الذي أوردناه، فلعل الراوي، أو بعض من سمعه من الرواة لم يفرق بين قوله: (لا تحل المسألة) وبين أن يقال: (لا تحل الصدقة) فرواه كذلك. وذكر أبو عيسي الترمذي في كتابه- بعد روايته هذا الحديث وذكره، اختلاف شعبه وسفيان- أن وجه هذا الحديث عند بعض أهل العلم على المسألة. قلت: وتحريم المسألة غير تحريم الصدقة، فنقول: إذا حرم المسألة على القوى المكتسب؛ لئلا يتخذ السؤال كسبا، ولا يتسع فيه، فإن السؤال مذلة، وليس للمؤمن أن يذل نفسه، إلا إذا لم يجد منه بدا، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر الفقراء بالتعفف ثم يسهم لهم من الصدقات، ولما كان القوم حديثي عهد بجاهلية، لم يتمرنوا على ترك الحظوظ العاجلة، ثم إن النفوس- لما جبلت عليه من حب المال- لو وكلت إلى ما في طباعها من الركون إلى الدنيا، لاسترسلت في الطمع، واشرأبت إلى السؤال واتخذته دأبا، ثم لم يزه ذلك إلا شرها ودناءة، اقتضى النظر النبوي أن يردعهم عن هذه الردغة، ويمنعهم عن هذه الردهة، لئلا يذهب بهم الهوى كل مذهب، فزجرهم عن السؤال كل مزجر، وأخبرهم أن السؤال شين في الوجه، وكدوح خموش يوم العرض الأكبر، ثم أوجب على أولى الأمر وذوى الأموال أن يوصلوا إليهم حقوقهم؛ لئلا يكون على المعطى حرج ولا على الآخذ منقصة. ومن باب من تحل له المسألة (من الصحاح) [1246] حديث قبيصة بن المخارق الهلالي- رضي الله عنه- قال: (تحملت حمالة) الحمالة بالفتح:

ما يتحمله الإنسان عن القوم من الدية والغرامة، وصاحب الحمالة الذي أحل له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسألة في حكم الإسلام- على ما ذكره في هذا الحديث- هو الذي يقع حرب بين فريقين فيسفك فيها الدماء، فيتحمل تلك الديات [146/ب] رجل ليصلح ذات البين. وفيه (ورجل أصابته جانحة فاجتاحت ماله) أي: استأصلته. والجانحة: المصيبة تحل بالرجل في ماله، إما من سنة أو من فتنة، من الجوح والاستئصال. يقال: حاجتهم الجائحة، واجتاحتهم. وجاح الله- عز وجل- ماله، وأجاحه: أي: أهلكه بالجائحة. وفيه: (قواما من عيش) أو قال: (سدادا). قوام الشيء: ما يقوم به. والسداد: ما يسد به الخلل، وبه سمى سداد الثغر وسداد القارورة؛ قال العربي: أضاعوني، وأي فتي أضاعوا ..... ليوم كريهة، وسداد ثغر والسين منه مكسورة، ومن فتح فقد أخطأ، فإنه بفتح السين مصدر قولك: سدد، أي فلان يسد، سدادا، وهو الصواب والقصد من القول والعمل. وفي حديث علي- رضي الله عنه-: (من تزوج ذات جمال ومال فقد أصاب سدادا من عوز) فمن الرواة من يفتح سينة اتباعا للراوية عن هشيم بن بشير، فإنه رواه كذلك، وقد لحنوه. وفيه: (حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجي) أي: من ذوي العقل، فإن قيل: ما وجه التنصيص على: (ثلاثة من ذوي الحجي) في الإعلام بأمر من أصابته الجائحة؟ قلنا: نحن وإن علمنا أن الخلق عبيد الله، يتعبدهم بما يشاء من أمره، فله أن يجعل الحجة في هذه القضية مثبتة بثلاثة كما جعلها مثبتة في هلال رمضان بواحد، وفي الحقوق الواجبة باثنين، وفي الزنا بأربعة، ولكنا وجدنا تلك الصور مثبتة بصريح الحكم، مبنية على النصوص المبنية، ووجدنا الأمر في هذا الحديث معدولا به عن صيغة الشهادة، ثم إنا وجدنا الأحكام الراجعة إلى الدماء والأموال والفروج مثبتة بشهادة اثنين، وليس الأمر فيها بأيسر من الأمر في هذه القضية، بل هذه أقرب- فيما يهتدي إليه من النظر- إلى التسامح والتساهل فيها، فالوجه فيه: أنه جعل الأمر فيه إلى ثلاثة من طريق الاستحباب، لا من طريق الوجوب؛ ليكون ذلك إبراء للسائل عن التهم فيما يدعيه، وأبلغ في الزجر له عن السؤال، يجد بدا عن الخوض فيه، وأصون لغرضه، وأنقى لمروءته، وأدعى الناس إلى قضاء حاجته، وسد خلته، لاسيما إذا كانوا من ذوى الأقدار والعقول حتى يكفى.

[1248] ومنه: حديث ابن عمر- رضي الله عنها- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ما يزال الرجل يسأل الناس، حتى يأتى يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم) المزعة بالضم: قطعة لحم، ويعبر بها عن القليل. يقال: ما عليه مزعة، وما في الإناء مزعة من الماء، أي: جرعة. والمراد به ما يلحقه في الآخرة من الغضاضة والهوان من ذل السؤال. هذا، وقد عرفنا الله- سبحانه- أن الصور في الدار الآخرة تختلف باختلاف المعاني، قال الله تعالي {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} فالذي [147/أ] يبذل وجهه لغير الله في الدنيا، من غير ما بأس وضرورة، بل للتوسع والتكثر يصيبه شين في الوجه بذهاب اللحم عنه، ليظهر للناس على صورة المعنى الذي خفي عليهم منه. [1251] ومنه: قول حكيم بن حزام- رضي الله عنه- في حديثه: (والذي بعثك بالحق، لا أرزأ بعدك

أحدا شيئا) أي: لا أنقص؛ أراد: إني لا أسأل أحدا شيئا فأنقصه ماله، وأصل هذه الكلمة من قولهم، رزأت الرجل، أرزأه رزأ ومرزئة: إذا أصبت منه خيرا. يقال منه: رزأته ماله، وما رزأته ماله. أي: ما نقصته. ورجل مرزأ، أي: كريم، يصيب الناس خيره. وفي حديث سراقه: (فلم يرزانى) أي: لم يأخذا منى شيئا. وفي حديث المرأة صاحبة الماء: (مارزأناك من مائك شيئا). وفي الحديث: (لولا أن الله لا يجب ضلالة العمل ما رزيناك غفالا) وزعم بعض المتأخرين أن الفصيح رزأناك، ثم قال: وكل مهموز يجوز همزه، وهو من لغة النقل. وظهر لنا من قوله هذا، أن الراوية عنده بإظهار الياء، وليس الأمر على ماتوهمه. فإن العرب تقول: رزأته ورزيته، بفتح الزاي وكسرها. [1256] ومنه: حديث عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من سأل الناس وله ما يغنيه، جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش، أو خدوش، أو كدوح).

قلت: هذه الألفاظ متقاربة المعاني وكلها يعرب عن أثر ما يظهر على الجلد واللحم من ملاقاة الجسد ما يقشر أو يجرح، والظاهر أنه قد اشتبه على الراوي ما تلفظ به النبي - صلى الله عليه وسلم - من هذه الثلاث، فذكر سائرها؛ احتياطا في مراعاة ألفاظه، ويحتمل وجها آخر، وهو أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكرها على ما في الحديث، وذلك أظهر لفقدان البيان في الوجه الأول، وعلى هذا فيكون دخول (أو) للتقسيم لا على سبيل الارتياب وفي هذا الوجه يفتقر أن نفرق من الألفاظ الثلاثة في المعني ليصح التقسيم، فيقول: الكدح دون الخدش، والخدش دون الخمش، يقال: خمشت المرأة وجهها: إذا خدشته بظفر أو حديدة أو نحوها، والخمش يستعمل على معنى القطع يقال: خمشنى فلان، أي: قطع منى عضوا. ومنه حديث قيس بن عاصم المنقرى: (كانت بيننا وبينهم خماشات في الجاهلية) قال النضر بن شميل: ما دون الدية فهي خماشات، مثل: قطع يد أو رجل أو أذن. قلت: ولا يستعمل الخدش مكان الخمش في هذا الموضع، فتبين لنا أن الخمش أبلغ في معناه من الخدش، والخدش أبلغ من الكدح؛ لأن الكدوح يقال للآثار التي تظهر من الخدش والعض ونحوه، وإنما يقال للحمار: مكدح، إذا كان به آثار العضاض. ولما كان الناس في المسألة على ثلاث مراتب: مقل، ومستكثر ومفرط فيها، ذكر هذه الأقسام الثلاثة، ليبين بها منازل هؤلاء الثلاثة، فيما ينالهم من الهوان وسقوط الجاه والمنزلة. ومما يحتاج إلى البيان من هذا الحديث: أنه فسر ما يغنيه بخمسين درهما، وفي الحديث [147 ب] الذي يتلوه وهو حديث سهل بن الحنظلية مما يغديه ويعشيه، وبغير ذلك مما سنذكره وقد تكلم الشيخ أبو جعفر الطحاوي في شأن هذه المقادير، ووجه التوفيق بينها، ونحن نذكر زبدة كلامه، ثم نردفها بما قيض لنا من البيان، إن شاء الله. ذكر أبو جعفر حديث سهل بن الحنظلية، وفيه قال: (وما يغنيه؟ قال: قدر ما يغديه ويعشيه) وقد أخرجه أبو داود في كتابه، ثم ذكر حديث الأسدي، وقد أخرجه أيضا أبو داود في كتابه، عطاء بن سيار، عن رجل من بني أسد، قال: (ذهبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسأله إلحافا) قال أبو جعفر: والأوقية يومئذ أربعون درهما. ثم ذكر حديث ابن مسعودـ الذي شرعنا في بيانه، ثم روى بإسناد له عن عبد الحميد بن

جعفر، عن أبيه، عن رجل من مزينة، أنه أتى أمه، فقالت: يا بني لو ذهبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألته؟ قال: فجئت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو قائم يخطب الناس، وهو يقول: من استغنى أغناه الله، ومن استعف أعفه الله، ومن سأل الناس وله عدل خمس أوراق فقد سأل إلحافا). قال: فوجه التوفيق أن نقول: أول المقادير التي حرمت بها المسألة، هو المقدار الذي في حديث سهل ابن الحنظلية، ثم تلاه تحريمها بما في حديث الأسدي، ثم بما في حديث ابن مسعود، ثم بما في حديث المزني، فنسخ الثاني الأول، والثالث الثاني، والرابع الثالث، وتناهي تحريم المسألة على ما هو في حديث المزني، وهو القدر الذي يتجاوز به صاحبه عن حد الفقر إلى حد الغنى. وإنما قلنا: إن الأكثر ناسخ للأقل؛ لأن الله- سبحانه- إنما يرد الأمر من الأخف إلى الأغلظ، إذا كان عقوبة، وإذا كان رحمة رده من الأغلظ إلى الأخف، وإذا لم يذكر تحريم المسألة لذنب استحقوا عليه تلك العقوبة به؛ رأينا أنه رحمة من الله تعالى رد العباد فيه من التغليط إلى التخفيف، ورحم الله أبا جعفر، فإنه لم يزل يجتهد في نفي الإحالة والتناقض عن كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى رفع علما من هذا العلم يهتدي به الدراجون في هذا الطريق إلى معالم المعاني، ونحن نقتفي في هذا الباب ما نرجو إن خالفناه فهو الذي علمنا الخلاف، فمن ذلك ما رأيناه في هذه الأحاديث الأربعة، أن العباد ردوا فيها من الأخف إلى الأغلظ، وأن الأقل ناسخ للأكثر، لما وجدنا في الحديث من الدليل أن السبب في تحريم المسألة سؤال الأعرابي الذي سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رداءه، وهو حديث حبشى بن جنادة- رضي الله عنه- والحديث مذكور في كتاب المصابيح في هذا الباب، إلا أنه اختصر، وقد رواه أبو عيسي [148/أ] في كتابه بتمامه، ولفظ حديثه: (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في حجة الوداع، وهو واقف بعرفة، أتاه أعرابي، فأخذ بطرف ردائه، فسأله إياه فأعطاه، فعند ذلك حرمت المسألة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن المسألة لا تحل لغنى ولذي مرة سوي، إلا لذي فقر مدقع، أو غرن مفظع، ومن سأل الناس ليثرى به ماله كان خموشا في وجهه يوم القيامة، ورضفا يأكله من جهنم، فمن شاء فليقل، ومن شاء فليكثر) فتبين لنا من هذا الحديث أن تحريم المسألة كان لأجل إلحاح الأعرابي في السؤال، ومجاوزته حد الأدب في حضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - لا سيما في ذلك المجمع العظيم الذي لا ينبغي أن يسأل هنالك إلا عفو الله وغفرانه والدار الآخرة، ولم يحرم قبل ذلك، فحرمت لأجل مسألته. والتحريم على هذه الصيغة إنما يكون على وجه العقوبة، وإذ لم ينتهوا، ضيق عليهم فيها، فلم يزالوا يناقصون في تلم المقادير، حتى أل الأمر إلى تحريمها على من يجد غداء أو عشاء؛ لأنه استغني بذلك في ساعته تلك عن السؤال، وإنما أبيحت المسألة لضرورة ولا ضرورة هنالك، والله أعلم. ونرى فيه وجها آخر: وهو أن نقول: قد علمنا بالأحاديث الصحاح أن السؤال من غير ضرورة وحاجة ماسة منهي عنه، غير مرضى للمؤمن، فإنه يورث المذلة في الدنيا، والمنقصة في الدين، ثم إن الناس مختلفون في حال السؤال، اختلافهم في الصبر والاحتمال والمؤن والضرورات، فاختلاف بيان المقادير صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - على حسب مراتب الناس في ذلك، وعلى مقدار ما عرف من حال السائل، ونهاية المقادير في ذلك ما تبلغ بصاحبه إلى حد الغني، وهو النصاب، وهذا المقدار لا يحل معه المسألة، ولا الصدقة، والمقادير الآخر على ما بينا من حكم الضرورة لا تحل معها المسألة، وتحل معها الصدقة، فإنه لم يذكر في

باب الإنفاق وكراهية المسألة

شيء منها تحريم الصدقة، وإنما ذكر فيها تحريم المسألة، إلا ما ذكرنا من نهاية المقادير، فإنه يفيد الغني، والغني لا تحل له الصدقة [148/ب]. وأما تفسير ما في حديث حبشي بن جنادة السلولى، من قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إلا لذي فقر مدقع) قال بعض العلماء: أصله من الدقعاء، وهو التراب، ومعناه الفقر الذي يفضي به إلى التراب، لا يكون عنده ما يتقي به التراب، فعلى هذا المدقع، أي: الملصق بالدقعاء. قلت: ويصح أن يقال: المدقع، الذي يفضي به إلى الذل، وهو سوء احتمال الفقر، ويقال: دفع الرجل- بالكسر- أي: لصق بالتراب ذلا. ومنه الحديث: (إذا جعتن دقعتن) أي: خضعتن. (أو غرم مفظع) فظع الأمر- بالضم- فظاعة، فهو فظيع، وأفظع فهو مفظع، أي: شنيع جاوز المقدار، وأراد به الديون الفادحة التي تهبط صاحبها. وفي غير هذه الراوية: (أو دم موجع) وهو الذي يوجع أوليا المقتول، فلا يكاد نائرة الفتنة تطفأ فيما بينهم، فيقوم له من يتحمل الحمالة، وقد ذكر ذلك. وفيه: (ليثرى به ماله. أي: يكثر. وأثرى الرجل: إذا كثرت أمواله. وفيه: (ورضفا يأكله) الرضف: الحجارة المحماة. وقد فسرناه في آخر باب التشهد ومن حديثه الذي يليه: (أوشك الله له بالغناء، إما بموت عاجل، أو غنى آجل) أوشك، أي: أسرع. ومعناه: عجل الله له بالغناء، بفتح الغبن- أي: بالكفاية. من قولهم: لا يغنى غناء- بالمد والهمز- ومن رواه بكسر الغين مقصورا- على معنى اليسار، فقد حرف المعنى؛ لأنه قال: يأتيه الكفاية عما هو فيه، إما بموت عاجل، أو بغنى آجل، وهو ضد العاجل. ومن باب الإنفاق وكراهية المسألة [من الصحاح] [1264] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أسماء- رضي الله عنها: (ولا تحصى، فيحصى الله عليك) الإحصاء:

الإحاطة بالشيء حصرا وتعدادا. والمراد به هنا: عد الشيء للتبقية، وادخاره للاعتداد به، وترك الإنفاق منه في سبيل الله. وقوله: (فيحصي الله عليك) محتمل لوجهين: أحدهما: أنه يحبس عنك مادة الرزق ويقلله بقطع البركة، حتى يصير كالشيء المعدود. والآخر: أن نحاسبك عليه في الآخرة. (ولا توعى) الإيعاء: حفظ الأمتعة بالوعاء وجعلها فيه. والمراد به: أن لا تمنعة فضل الزاد عمن [149 أ] افتقر إليه (فيوعى الله عنك) أي: يمنع عنك فضله، ويسد عليك باب المزيد، وفي معناه: ما ورد في غير هذه الرواية: (ولاتوكى فيوكى عليك) وقوله: (ارضخى) يقال: رضخت له رضخا، وهو العطاء اليسير. وفي الحديث: (وقد أمرنا لهم برضخ فاقسمه بينهم) وإنما قال: (ارضخى) لما عرف من حالها ومقدرتها؛ ولأنه لم يكن لها أن تتصرف في مال زوجها بغير إذنه، إلا في الشيء اليسير الذي جرت فيه العادة بالتسامح من قبل الأزواج، كالكسرة والتمرة، والطعام الذي يفضل في البيت، ولا يصلح للخزن؛ لتسارع الفساد إليه، أو فيما سبق إليها من نفقتها وحصتها، ولهذا كانت تستفتيه فيما أدخل عليها الزبير. وفي كتاب أبي داود، أن أسماء- رضي الله عنها- قالت: (قلت: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس لي من شيء، إلا ما أدخل على الزبير، فأعطى؟ قال: نعم، ولا توكى، فيوكي عليك). [1267] ومنه: حديث أبى هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جنتان من حديد) الجنة- بالضم- ما استترت به من سلاح. والمعنى به هاهنا: الدرع. وقد رواه البخاري في بعض طرقه عن أبي هريرة بالباء، مكان النون، وهو تصحيف عن بعض الرواة لا حق به، ولا يلتبس على ذلك فهم لوجوه: أحدهما: أن الجبة- بالباء- من حديد شيء لم يعهد ولم يعرف في كلامهم. والآخر: أن في بعض طرق هذا الحديث عليه درعان، مكان عليه جنتان. والثالث أنه قال: قلصت أخذت كل حلقة بمكانها)، ومعنى هذا الحديث: الجواد الموفق إذا هم بالنفقة اتسع لذلك صدره، وطاوعته نفسه وانبسطت حتى قطعت بالبذل والعطاء يداه، كالذي لبس درعا، فاسترسلت عليه، وأخرج منها يديه،

فانبسطت حتى خلصت إلى ظهور قدميه، فأجنته وحصنته، وأن البخيل إذا أراد الإنفاق حرج به صدره، واشمأزت عنه نفسه، وانقبضت عنه يداه، كالذي أراد أن يستجن بالدرع وقد غلت يداه إلى عنقه، فحال ما ابتلى به بينه وبين ما يبتغيه، فلا يزيده لبسها إلا ثقلا ووبالا، والتزاما في العنق، والتواء وأخذا بالترقوة [149/ب]. [1270] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه: (قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان) وفي رواية (إلا وقد كان لفلان)، المراد بفلان هذا الوارث أي: صبر حتى أشرف على الموت ثم طفق يتصدق بما تعلق به حق الوارث. [1275] ومنه: حديث أبي سعيد الخدرى- رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (خصلتان لا تجتمعان في

مؤمن، البخل وسوء الخلق) تأويل هذا الحديث أن يقول أراد به اجتماع الخصلتين فيه مع بلوغ النهاية منهما بحيث لا ينفك عنهما ولا ينفكان عنه، ويوجد منه الرضا بهما، فأما الذي يؤنس عنه شيء من ذلك بحيث يبخل حينا، وتقلع عنه حينا أو يسوء خلقه وقتا دون وقت أو في أمر دون أمر، أو يبدر منه فيندم عليه أو يحوز نفسه أو تدعوه النفس إلى فينازعها؛ فإنه بمعزل عن ذلك، ويحمل حديثه الآخر (لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدا) على نحو ما ذكرناه من المعنى في هذا الحديث، وأرى له وجها آخر وهو أن نقول: الشح خصلة غريزية جبل عليها الإنسان وهو كالوصف اللازم، ومركزها النفس، قال الله تعالى: {وأحضرت الأنفس الشح} فإذا انتهي سلطانه إلى القلب واستولى عليه عرى القلب عن الإيمان؛ لأنه يشح بالطاعة فلا يسمح به ولا يبذل الانقياد لأمر الله، والشح بما بخل مع حرص، فهو أبلغ في المنع من البخل، فالبخل يستعمل في الضنة بالمال، والشح في سائر ما تمتنع النفس عن الاسترسال فيه من بذل مال أو معروف أو طاعة، ووجود الشح في النفس الإنسان ليس بمذموم؛ لأنه طبيعة خلقها الله تعالى في النفوس كالشهوة والحرص للابتلاء أو لمصلحة عمارة العالم، وإنما المذموم أن يستولى سلطانه على القلب فيطاع. [ومن الحسان] [1277] حديث أبي بكر الصديق- عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا يدخل الجنة خب) الحديث، الخب: الرجل الخداع ومعناه في الحديث الذي يفسد الناس بالخداع، ويمكر ويحتال في الأمر يقال فلان خب ضب إذا كان فاسدا مفسدا مراوغا، ومعنى قوله لا يدخل الجنة أي: لا يدخلها مع الداخلين في الرعيل الأول من غير ما بأس بل يصاب منه بالعذاب حتى يذهب [150/أ] عنه آثار الخصال، هذا هو السبيل في تأويل أمثال الأحاديث ليوافق أصول الدين وقد هلك في التمسك بظواهر أمثال هذه النصوص الجم الغفير من المبتدعة، ومن عرف القول وأساليب البيان من كلام العرب هان عليه التخلص بعون الله عن تلك الشبه، ومما ينبغي الفطن أن يقدمه في هذا الباب ليكون من التأويل على بصيرة أن يعلم أن للشارع- صلوات الله عليه- أن يقتصر في مثل هذه المواطن على القول المجمل إبقاء للخوف في نفوس المكلفين وتحذيرا لهم عما فيه المنقصة في الدين بأبلغ ما يكون من الزجر ثم يرده العلماء الراسخون إلى أصول الدين. [1278] ومنه: حديث أبي هريرة- رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (شر ما في الرجل شح هالع وجبن خالع) الهلع: أفحش الجزع وقد هلع بالكسر فهو هلع وهلوع وحكي يعقوب رجل هلعه مثل همزة إذا كان يهلع ويجزع ويستجيع سريعا، ومعناه في الحديث أنه يجزع من شحه أشد الجزع على استخراج الحق منه، وقوله (شح هالع) أي: ذو هلع كما يقال: يوم عاصف وليل نائم، ويحتمل أيضا أن يقول: هالع لمكان

باب فضل الصدقة

خالع للازدواج، والجبن الخالع الذي كأنه يخلع فؤاده لشدته، وإنما قال: شرما في الرجل ولم يقل في الإنسان لأحد الوجهين: إما لأن الشح والجبن مما تحمد عليهما المرأة ويذم به الرجل، أو لأن الخصلتين تقعان موقع الذم من الرجال فوق ما تقعان من النساء. ومن باب فضل الصدقة [من الصحاح] [1279] أبي هريرة- رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (من تصدق بعدل تمرة) بفتح العين وهو ما يعادل تمرة، والعدل بالكسر: المثل، وبالفتح أصله مصدر قولك عدلت بهذا عدلا حسنا تجعله اسما للمثل، لتفرق بينه وبين عدل المتاع، كما قالوا: امرأة رزان وعجز رزين، وقال الفراء: العدل بالفتح ما عدل الشيء من غير جنسه، وبالكسر المثل وربما كسر بعض العرب في غير الجنس وكأنه منهم غلط. (فإن الله يتقبله بيمينه)، المراد من التقبل باليمين: حسن القبول من الله ووقوع الصدقة منه موقع الرضا وفيه. (ثم يربيها لصاحبها) كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل)، الفلو: بتشديد الواو: المهر؛ لأنه يفتلى أي: يعظم. وقيل هو العظيم من أولاد ذوات الحافر وقد قالوا للأنثى: فلوه مثل: عدوة والجمع أفلاء مثل عدو [150/ب] وأعداء، وفلاوى مثل خطايا. قال أبو زيد: إذا فتحت الفاء شددت الواو، وإذا كسرت خففت فقلت: فلو مثل جرو؛ قال مجاشع بن جرول يا فلو بنى الهمام ..... فأين عنك القهر بالحستم؟ فالرواية في الحديث بفتح الفاء وتشديد الواو، وإنما ضرب المثل بالفلو؛ لأنه يزيد زيادة بينة، ولأن الصدقة نتاج عمله، ولأن صاحب النتاج لا يزال يتعاهده ويتولى تربيته، ثم إن النتاج أحوج ما يكون إلى التربية وهو فطيم إذا أحسن القيام وأصلح ما كان منه فاسدا انتهي إلى حد الكمال، وكذلك عمل ابن آدم، لا سيما الصدقة التي يجاذيها الشح ويتشبث بها الهوى ويقتفيها الرياء ويكدرها الطبع، فلا تكاد تخلص إلى الله إلا موسومة بنقائص لا يجبرها إلا نظر الرحمن، فإذا تصدق العبد من كسب طيب مستعد للقبول، فتح دونها باب الرحمة، فإذا تصدق فلا يزال ينظر الله إليها يكسبها نعت الكمال ويوفيها حصة الثواب حتى تنتهي بالتضعيف إلى نصاب تقع المناسبة بينه وبين ما قدم من العمل، وقوع المناسبة بين التمرة والجبل.

[1281] ومنه: حديثه الآخر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (من أنفق زوجين من شيء من الأشياء ..) الحديث، فسر قوله زوجين بدرهمين أو دينارين أو مدين من طعام وبما يضاهي تلك الأشياء. قلت: ويحتمل أن يراد به تكرار الإنفاق مرة بعد مرة، ففسر الإنفاق بما تنفقه؛ لأنه إذا أنفق درهما في سبيل الله ثم عاد فأنفق آخر يصير زوجين، ومعنى الكلام: الإنفاق بعد الإنفاق أي: يتعود ذلك ويتخذه دأبا. وفيه (فقال أبو بكر- رضي الله عنه- يا رسول الله ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة معناه ما على أحد يدعى من باب من تلك الأبواب كلها من ضرورة إن لم يدع من سائرها، فإنه إذا دعي من باب واحد فقد حصل له الفوز بدخول الجنة فلا ضرورة به إن لم يدع من غيره، وقوله هذا نوع من تمهيد قاعدة السؤال في قوله فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ أي: سألت عن ذلك بعد معرفتي بأن لا ضرورة بمن يدعى من باب واحد في الدعاء من سائر الأبواب. وفي رواية: قال أبو بكر: يا رسول الله ذلك الذي لا توى عليه أي ضياع عليه، ولا خسارة من قولهم: توى عليه المال إذا أهلك يتوى وتوى إذا ذهب توى وهو مقصور وقد ذكر بعض أصحاب الغريب: توى وتواء. ولا أعرف للمهموز أصلا [151/أ]. [1282] ومنه حديثه الآخر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (من أصبح منكم اليوم صائما قال أبو بكر: أنا ..) الحديث، ذهب طائفة من أهل العلم، وفرقة من الصوفية إلى كراهية إخبار الرجل عن نفسه بقوله أنا، حتى قال بعض الصوفية: كلمة أنا لم تزل مشيءومة على أصحابها وأشار هذا القائل إلى أن إبليس إنما لعن لقوله أنا، وليس الأمر على ما قدر بل الذي نقض عليه أمره هو النظر إلى نفسه بالخيرية، ونحن لا ننكر إصابة الصوفية في دقائق علومهم وإشاراتهم في التبرى عن الدعاوى الوجودية، ولكنا نقول إن الذي أشاروا

إليه بهذا القول راجع إلى معاني تعلقت بأحوالهم دون ما فيه من التعلق بالقول؛ كيف وقد ناقض ظاهر قولهم هذا نصوصا كثيرة، وهم أشد الناس فرارا عن جميع ما يخالف الكتاب والسنة، ولم يأت القوم في الكراهة بمتمسك إلا بحديث جابر- رضي الله عنه- أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في دين كان على أبي فدققت الباب فقال: من ذا؟ فقلت: أنا، فقال: (أنا أنا) كأنه كرهها. وهو حديث صحيح. وقد أورده مؤلف هذا الكتاب في باب الاستئذان، ولو أخذنا بظاهر الحديث كما أخذوا كنا كمن حفظ بابا وضيع أبوابا كثيرة، وأنى يصح القول بظاهر هذا الحديث وقد وجدنا فيما حكي عن الأنبياء الله في كتابه أنهم كانوا يستعملونها في كلامهم ولاسيما فيما أمر الله به رسوله نحو قوله {قل إنما أنا بشر مثلكم}، وقوله {وأنا أول المسلمين}، وقوله {وما أنا من المتكلفين}، وقوله {ولا أنا عابد ما عبدتم} وقد قال - صلى الله عليه وسلم - (أنا سيد ولد آدم وأنا أول من تنشق عنه الأرض، وأنا أول شافع، وأنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الحاشر، وأنا الماحي، وأنا المقفي) إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث، وقد تلفظ بها السابق في الخيرات صديق هذه الأمة- رضي الله عنه- بين يدي رسول الله كرة بعد أخرى فلم ينكر عليه ولم ينهه، ولو شيءنا لآتينا من كتاب الله وسنة رسوله من نظائر ما ذكرنا بما يتجاوز فلا وجه إذا للذهاب إلى كراهة ذلك. ونظرنا إلى حديث جابر فوجدناه قد ذكر الكراهة على سبيل البيان، ثم إنه لم يصح بالأمر المكروه، فالوجه أن نقول رأينا النبي - صلى الله عليه وسلم - استعمله ليخبره عن نفسه، فيعرف من الوارد عليه فيرتفع الإبهام. فلما قال: أنا، لم يأت بجواب يفيده المعرفة بل بقي الإبهام على حاله فكره ذلك للمعني الذي ذكرناه لا لتلفظه بتلك الكلمة، فلو قال: أنا جابر يكن - صلى الله عليه وسلم - ليكره [151/ب] قوله أو ينكر عليه. هذا وجه في الحديث ليمكننا التوفيق بين النصوص التي ذكرناها، والله أعلم. [1284] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- أيضا (يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة)، لا بد من إضمار في قوله يا نساء المسلمات؛ لأن إضافة الموصوف إلى الصفة غير

جائز، فتقدير الكلام يا نساء الطوائف المسلمات، وفي قوله: (لا تحقرن جارة لجارتها) اختصارا لمعرفة المخاطبين بالمراد منه منه، أي لا تحقرن أن تهدى إلى جارتها ولو أن تهدى فرسن شاة، والفرسن للبعير كالحافر للدابة، وقد يتعار فيقال فرسن شاة والفرسن وعن كان مما لا ينتفع به فإنه استعمل ههنا على المعتاد من مذهب العرب في كلامهم إذا بالغوا في الأمر وحثوا عليه، وفي معناه قوله - صلى الله عليه وسلم - (ولو بظلف محرق). ومن هذا الباب قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من بني لله مسجدا ولو كمفحص قطاة) ومقدار المفحص لا يمكن أن يتخذ مسجدا وإنما هو على سبيل المبالغة في الكلام من مذاهب العرب. [1291] ومنه حديثه الآخر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نعم الصدقة اللقحة الصفي منحة) اللقحة بكسر اللام: الناقة الحلوب وهي اللقوح بفتح اللام، والصفى الغزير الدر وصفايا الإبل الغزار منها، والمنحة في هذه الصورة تجرى مجرى الصدقة وهى في الأصل عارية لشرب درها ورد رقبتها. ومنه الحديث (هل من أحد يمنح من إبله ناقة أهل بيت لا در لهم؟) قال أبو عبيد: المنحة عند العرب على معنيين أحدهما: العطية التي نالها المعطى له. والآخرة: أن يمنحه ناقة أو شاة يستنفع بلبنها ووبرها زمانا ثم يردها، وهو تأويل قوله - صلى الله عليه وسلم - (والمنحة مردودة).

قلت وأكثر ما يقول العرب في العارية المنيحة، وفي البخاري: (نعم المنحة اللقحة الصفي)، قال أبو عبيد: وللعرب أربعة أسماء تضعها موضع العارية: المنيحة والعرية والإفقار والإخبال. [1293] ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (غفر لامرأة مومسة) الحديث. المومسة: الفاجرة المجاهرة. قال الحبان: الومس تحكك الشيء بالشيء حتى ينجرد، ولعل المومسة منه، وقد أومست أمكنت من الومس، وفي حديث جريج الراهب: (لاتمته حتى ينظر في وجوه المومسات)، وفي حديث أبي وائل: (أكثر تبع الدجال أولاد الموامس)، والموامس جمع التكسير من المومسة. وفيه (في كل ذات كبد رطبة أجر)، قيل: إن الكبد إذا ظمئت ترطبت وكذا إذا ألقيت على النار، وقيل: هو من باب وصف الشيء بما يئول إليه فمعناه في كل كبد حرة لمن سقاها حتى تصير [152/أ] رطبة أجر، والأول أوجة؛ لأن الرطبة قد وردت في الحديث بدل الحارة فيجب أن يكون بمعناها، وفي حديث سراقة: (ومخول حرى) أو حارة بدل رطبة واللفظان معا- أعنى حرى ورطبة- لم تجمعهما رواية، وفي هذا الحديث تهميد قاعدة الخير وعن كان يسيرا. [1293] ومنه حديثه الآخر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (عذبت امرأة في هرة حبستها) الحديث فيه تفخيم أمر الذنب وإن كان كان صغيرا وفيه (فتأكل من خشاش الأرض) الخشاش بالكسر: وقد يفتح.

[ومن الحسان] [1299] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس- رضي الله عنه- (وتدفع ميتة السوء) الميتة بكسر الميم: الحالة التي يكون عليها الإنسان وهي الموت، وأراد بميتة السوء مالا يحمد عاقبته ولا يؤمن غائلته من الحالات التي يكون عليها الإنسان عند الموت كالفقر المدقع، والوصب الموجع والألم المقلق والآمال التي تقضي به إلى كفران النعمة ونسيان الذكر، والأحوال التي تشغله عما له وعليه، وموت الفجاءة التي هو أخذة الأسف ونحوها، أعاذنا الله منها. [1301] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث جابر- رضي الله عنه- (كل معروف صدقة) قلت: المعروف اسم

لكل فعل يعرف حسنه بالشرع أو يعرف بالعقل من غير أن ينازع فيه الشرع، وكذلك القول المعروف، وقد قيل الاقتصاد في الجود: معروف؛ لأنه مستحسن بالشرع، وفي العقل. والصدقة: ما يخرجه الإنسان من ماله على وجه القربة وذلك لأن عليه أن يتحرى الصدق فيها، وقد استعمل في الواجبات وأكثر ما يستعمل في المتطوع به، ويستعمل أيضا في الحقوق التي يتجافي عنها الإنسان، قال الله تعالي: {والجروح قصاص} {فمن تصدق به كفارة له} أي: تجافي عن القصاص الذي هو حقه، وقد أجرى في التنزيل ما يسامح به المعسر مجرى الصدقة، قال الله تعالي: {وان تصدقوا خير لكم} فقوله: {كل معروف صدقة} أي: يحل فعل المعروف محل التصدق بالمال، ويقع التبرع بذلك معه في القربة، فالمعروف والصدقة وإن اختلفا في اللفظ والصيغة فإنهما يتقاربان في المعني ويتفقان في الأمر المطلوب منهما وقد عرفنا الاختلاف بينهما [152] من الكتاب قال الله تعالي: {إلا من أمر بصدقة أو معروف} وعرفنا الاتفاق بينهما في المعني من السنة ومن قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- كساه الله من خضر الجنة، الخضر جمع أخضر، أي من ثيابها الخضر، أقام الصفة مقام الموصوف. وأشار بذلك إلى ما في التنزيل: {ويلبسون ثيابا خضرا من سندس} وفيه (سقاه الله من الرحيق المختوم) الرحيق فيه: الشراب الخالص الذي لا غش فيه وهو صفوة الخمر، والمختوم الذي يختم أوانيه بمسك مكان الطينة، وتلك العبارة عن نفاستها وكرمها، وعليه يدل سبحانه: {ختامه مسك} وقد ذهب جمع من أصحاب المعاني إلى معنى قوله تعالي: (مسك) أي آخره؛ لأن آخر ما يجدون رائحة المسك. قالوا: والشراب يجب أن يطيب في نفسه فلما ختمه بالطيب فليس فيما يفيده ولا ينفعه طيب ختامه ما لم يطب في نفسه وكلا النوعين يستقيم، وإلى الأول ذهب أكثر المفسدين؛ لأنه مناسب لقوله: (مختوم). قلت: وإن ذهب ذاهب إلى أن معنى الختم ههنا بلوغ الآخر، من قولهم ختمت الكتاب أي: انتهيت إلى آخره، فله وجه، ويكون المراد أنه رحيق ينتهي الشارب في شربه إلى آخره فلا يسئر منه شيئا كما يسار من الشراب الذي يشوبه الكدر ويمنع من شرب آخره السعيط. وجاء الرحيق في الحديث معرفا وهو في الكتاب منكرا؛ لأنه أراد به الرحيق الذي وعد الله عباده في كتابه فاللام فيه للعهد.

[1307] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث جابر- رضي الله عنه: (وما أكلت العافية)، العافية: كل طالب رزق من إنسان أو بهيمة أو طائر وعافية المكان واردته. [1308] ومنه: حديث البراء بن عازب- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (من منح منحة ورق) الحديث. الورق الأدام خاصة، وفيه ثلاث لغات ورق، وورق، وورق على مثاله كبد وكبد وكبد، والرواية في هذا الحديث بكسر الراء، والمنحة عند العرب على معنيين: إحداهما: أن يعطى الرجل صاحبه صلة فيكون له، والآخر: أن يمنحه ذات در فينتفع بمنافعها أو يمنحه أرضا [153/أ] فيزرعها. وفي هذا النوع قوله - صلى الله عليه وسلم - (والمنحة مردودة) وهي في هذا الحديث محتملة للوجهين وتقع في الوجه الثاني مشبهة بالمنحة؛ لأنها مردودة وإن كان العرض هو المردود لا العين؛ لأن الانتفاع بها وهي قائمة في يد من منح غير معقول، وإلى هذا الوجه ذهب أحمد في هذا الحديث فقال هو القرض. قلت لو جاءت الراوية بفتح الراء كانت المنحة على ما ذكرنا من الانتفاع بها: جمع بقاء العين وردها؛ لأن الورق بفتح الراء كانت المنحة على ما ذكرنا من الانتفاع بها: جمع بقاء العين وردها؛ لأن الورق بفتح الراء هو المال فيتناول إذا سائر أنواع ما لم يمنح ولم ترد الراوية به. وفيه أو (هدي زقاقا) يروى هدا بالتخفيف أي هدي السابلة إلى السبيل، ويروى بالتعدية أي (أهدي) وتصدق بزقاق من النخيل؛ وهي السكة والصف من أشجارها. [1309] ومنه حديث أبى جرى جابر بن سليم الهجيني التميمي- رضي الله عنه- رأيت رجلا يصدر الناس عن رأيه الحديث، يريد أن الناس ينصرفون عما يراه يستصوبه ويحكم به، يقال صدر عن المكان أي:

رجع عنه، وصدر إليه أي جاءه، فالوارد: الجائي، والصادر: المنصرف، شبه المنصرفين عن حضرته بعد توجههم إليها ليسألوه عن أمر دينهم وعما يهمهم من مصالح معادهم ومعاشهم بالواردة إذا صدروا عن المنهل بعد شرى. وفيه: (لا تقل عليك السلام. عليك السلام تحية الميت) لم يرد بقوله هذا أن الميت ينبغي أن تكون تحيته على هذه الصيغة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم على الأموات تسليمه على الأحياء فيقول (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين) وإنما أراد به أن هذه التحية يصلح أن يحي بها الأموات لا الأحياء، وذلك لمعنيين أحدهما: أن تلك الكلمة شرعت لجواب التحية ومن حق المسلم أن يحي صاحبه بما شرع له من التحية، فيجيبه هو بما شرع له من الجواب، فليس له أن يجعل الجواب مكان التحية، وأما في حق الميت فإن الغرض من التسليم عليه أن تشمله بركة السلام، والجواب غير منتظر هنالك فله أن يسلم عليه بكلا الصيغتين. ووجه آخر [153/ب] وهو أن إحدى فوائد السلام: أن يسمع المسلم أخاه المسلم ليجعل له الأمن من قبله، وإذا بدأ بقوله عليك لم يحصل له المن حتى يلحق به السلام بل يزداد به استيحاشا ويتوهم أنه يدعو عليه [فأمر بالمسارعة إلى إيناس الأخ المسلم بتقديم السلام، وهذا المعنى غير مطلوب في الميت فساغ للمسلم أن يفتتح من الكلمتين بأيتهما شاء]. وفيه (فإنها من المخيلة) يقول اختال الرجل فهو ذو خيلاء، وذو خال وذو مخيلة وذو كبر. [1312] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حدثي أبي ذر- رضي الله عنه- (فتخلف رجل بأعيانهم) كذاك رواه النسائي في كتابه، والمعني أنه ترك القوم المسئول عنهم خلفه وتقدم فأعطاه والمراد من الأعيان: الأشخاص. ويحتمل أنه أراد بذلك أنه سبقهم بهذا الخبر فجعلهم فجعله. وقد وجدت الحافظ أبا القاسم الطبراني رواه.

باب إخفاء الصدقة

في بعض طرقه في كتابه المرسوم بالمعجم الكبير: (فتخلف رجل عن أعيانهم) وهذا أشبه وأعدل من طريق من طريق المعنى وإن كانت الرواية الأولى أوثق من طريق السند. والمعنى: أنه سافر عن أصحابه حتى خلا بالسائل فأعطاه سرا. [1313] ومنه: حديث أنس- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لما خلق الله الأرض جعلت تميد؛ فخلق الجبال فقال بها عليها) أي ضرب بالجبال على الأرض حتى استقرت، ذكر عن ابن الأنبارى أنه قال: يقول العرب: قال بمعنى تكلم وبمعنى أقبل وبمعنى أقبل وبمعنى مال وبمعنى ضرب وبمعنى استراح وبمعنى غلب. وقال غيره: العرب تجعل القول عبارة عن كثير من الأفعال نحو قال برجله فمشى، وقال بيده فأخذ. ومن هذا الباب قول القائل: وقالت: له العينان سمعا وطاعة أي: أومأت. وفيه (يارب هل خلقك شيء أشد من الريح؟ قال: نعم، ابن آدم تصدق صدقة بيمينه يخفيها من شماله) معناه- والله اعلم- أن نفس الإنسان جبلت على غرائز لا تملك النار حرها، ولا الماء بردها، وطبعت على ضرائب لا تستطيع الريح قهرها، ولا تقوى على مقاومتها الجرام، ولا تلين عريكتها الأركان، ولا تحمل على ما تأباه بالتشدد، ولا تمنع عما ترومه بالاحتيال، فهي أشد من كل شديد [154/أ] وأصعب مراما من كل متمرد، ومن طبعها إيثار السمعة وحب الثناء، وطلب التفوق على النظراء، فتظهر ما كان منها من البر لإدراك تلك الأغراض، فإذا سخرت تلك النفس لصاحبها تسخيرها يغلبها في تصرفاتها وردها عن طلباتها، كان الذي غلبها على تلك الخلال وزجرها عن مواقع الخلاف أغلب من كل غلاب، ومن طبعها إظهار الصدقة فإذا ملكها ابن آدم بحيث ما يخفي إظهارها بالطبع كان أشد من الريح. وقوله: (تصدق صدقة بيمينه يخفيها عن شماله) من مجاز القول الذي يقع موقع المبالغة في الإخفاء والله أعلم. ومن باب إخفاء الصدقة (من الصحاح) [1314] حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى)

سئل بعض السلف عن معناه فقال: ما فضل عن العيال. وكأنه أراد بذلك المعنى المراد منه ولم يدع لفظ الحديث بتفسيره هذا على منهاج واضح. وقد فسره الخطابي فقال: أي عن غني يعتمد عليه ويستظهر به على النوائب التي تنوبه لقوله في حديث آخر: (خير الصدقة ما أبقت غنى). قلت ولم يصدر عن قوله هذا من رى لأنا وجدنا النبي - صلى الله عليه وسلم - حمد صنيع أبي بكر- رضي الله عنه- لما انخلع من ماله أجمع ولما سأله عما أبقي لنفسه فقال: الله حمد ذلك ولما سئل عن أفضل الصدقة قال: (جهد من مقل) فلو حملنا الحديث على الجدة وكثرة العرض انتهي بنا إلى القول بالتضاد والتضاد والتناقض في تلك الأحاديث ونظائرها. والسبيل في السنن الثابتة لا يضرب بعضها ببعض فيوهن بعضها ببعضا، بل يأول كل منها على منوال يشد بعضه بعضا. فنقول وبالله التوفيق: (عن ظهر غني) عبارة عن تمكن المتصدق عن غني ما وذلك مثل قولهم: هو على ظهر سير وراكب متن السلامة وممتط غارب العز ونحو ذلك من الألفاظ التي يعبر بها عن التمكن من الشيء والاستواء عليه، وإنما قلنا عن غني ما لمجيئه في الحديثين منكرا، وإنما لم يأت به معرفا ليفيد أحد المعنيين في إحدى الصورتين أما استغناءه عما بذل بسخاوة النفس وقوة العزيمة ثقة بالله سبحانه كما كان من أبي بكر- رضي الله عنه [154/ب] وأما استغناءه بالعرض الحاصل في يده فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله

هذا أن لابد للمتصدق من أحد الأمرين: إما أن يستغني عنه ماله أو يستغني عنه بحاله وهذا أفضل اليسارين لما ورد في الحديث الصحيح: (ليس الغنى عن كثرة العرض وإنما الغنى غنى النفس) ألا ترى كيف رد على المتصدق جاءه بمثل بيضة من ذهب؛ فقال يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (أصبت هذه من عدن فخذها فهي صدقة ما املك غيرها فأعرض عنه) الحديث بطوله .. فعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله: (ما أملك غيرها) خلو يده عن المال، وعرف بالفهم الذي أتاه الله أو بغير ذلك من أسباب التأييد السماوي والتعريف الإلهي فقر النفس وقلة الصبر وضعف العزيمة منه، ولهذا قال: (يأتي أحدكم بما يملكه يقول هذه صدقة، ثم يقعد يستكف الناس) أي: يأخذ الصدقة ببطن كفه وهو كناية عن التصدي للسؤال، فكره له التخلي عن ذات يده مع وجود تلك العلل، وأمره أن تصدق إلا وهو على حال من الغنى ويبدأ إذا تصدق بمن يعوله يقال: عال الرجل عياله عولا وعيالة أي: قاتهم وأنفق عليهم من قوله: (وابدأ بمن تعول) أي: لا تكن مضيعا لمن وجب عليك رعايته متفضلا على من لا جناح عليك من حاحته. [1321] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي ذر- رضي الله عنه- (وتعاهد جيرانك) أي: تفقدهم بزيادة طعامك وتجدد عهدك بذلك واحفظ به حق الجوار، والتعهد: التحفظ بالشيء وتجديد العهد به، والتعاهد ما كان بين اثنين من ذلك

[1325] ومنه حديث ابن عباس- رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ألا أخبركم بخير الناس) ... الحديث. يحمل قوله على أن قال أنه خير الناس، أراد" أنه من خير الناس، إذ قد علمنا أن في القاعدين من هو خير من هذا الذي أمسك بعنان فرسه، إذ كان أعلم بالله وأخشي لله ولم يكن الجهاد عليه فرض عين. وقد يقول القائل: خير الأشياء كذا، لا يريد تفضيله في نفسه [155/أ] على جميع الأشياء، بل يريد أنه خيرها في حال دون حال ولو أحد دون آخر، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: (خياركم خيركم لأهله) فلا يصح أن يحمل ذلك على أن من أحسن معالجة أهله فهو أفضل الناس، وقد علمنا أن من كان أعلم بالله وأزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة منه فهو خير منه، وأنه لم يبلغ في حسن المعاشرة محله، وعلى نحو هذا المعني يأول قول من قال: شراركم عزابكم، أي: من شراركم؛ لأنه وإن كان صالحا فهو بمرقبة الفتنة غير آمن من شر نفسه من قبل العزوبة، وقد علمنا أن الآهل الفاسق أقرب إلى الشر منه، وكذلك قوله: (ألا أخبركم بشر الناس؟ يسأل بالله العظيم ولا يعطى به) أي بمن هو من شر الناس؛ لأن تلك الخصلة قد توجد في بعض المسلمين، والكافر شر منه، وقوله: (يسأل) على بناء ما لم يسم فاعله ولا يعطى على بناء الفاعل. [1326] ومنه حديث أم نجيد النصارية الحارثية- رضي الله عنها- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ردوا السائل ولو بظلف محرق) هذا القول إنما قصد به المبالغة في رد السائل بأدنى ما يتيسر، ولم يرد به صدور هذا الفعل من المسئول فإن الظلف المحرق غير منتفع به وقد مر بيانه.

ومن باب فيه (من الصحاح) [1332] حديث عائشة- رضي الله عنها- أن رجلا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - (إن أمي افتلتت نفسها)، افتلت فلان على ما لم يسم فاعله، وافتلتت نفس أيضا أي: مات فجأة، يقال كان ذلك الأمر فلتة أي فجأة، والرجل هو سعد بن عبادة. وفيه: (فهل لها أجر إن تصدقت عنها) ونحن نرويه فهل لها من أجر وقوله: (إن تصدقت) من رواه بفتح الهمزة فقد أخطأ؛ لأنه فعل لم يقع بعد، ولو كان سؤاله بعد الصدقة تفتح لا غير. [1334] ومنه حديث سعد- رضي الله عنه- لما بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النساء. قالت امرأة: إنا كل على أبائنا وأبنائنا وأزاوجنا) الحديث الكل أي [155/ب] نحن ثقل وعيال على من يلي أمرنا ويعولنا، والكل: الثقل من كل ما يكلف، ومنه الحديث (وتحمل الكل). وفيه (الرطب) بفتح الراء وسكون الطاء وأراد به اللبن والفاكهة والبقول والمرق، ومما يسرع إليه الفساد من الأطعمة ولا يتقوى على الخزن، أذن لهن أن يتعهدن بذلك الضيف والزائر والقانع والمعتر، ولم يأذن لهن في اليابس من الطعام؛ لأنه يبقي على الخزن والادخار وينتفع به إذا رفع. ويرى هذا الاستقصاء؛ لمكان ذكر الأزواج في الحديث؛ لئلا يفضي تركه بهن إلى التسرع في إتلاف أموالهم واستهلاك أطعمتهم من غير استئذان فأما الآباء والأبناء فإن الخطب في أموالهم أيسر لما بينهم من الإنفال والاتحاد والشركة

من لا يعبد في الصدقة

النسبية. فإن قيل: فكيف التوفيق بين هذا الحديث، وبين حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا أنفقت المرأة من كسب زوجها من غير أمره فلها نصف أجره)؛ قلنا: نحمل ذلك على إنفاقها من النوع الذي سومحت فيه من غير استئذان وإلى هذا المعني أشار (- صلى الله عليه وسلم -) بقوله في حديث عائشة (إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة) فإنها إذا تجاوزت الحد الذي لها في ذلك كانت مفسدة، ثم إن الأمر في ذلك راجع إلى عادة الناس باديهم وحاضرهم- فإنه قلما يوجد من ذوى الأموال من يعسر عليه أن يبذل الميسور من ماله بيت زوجته ومن يعوله من مواليه وخزنته، فيكون ذلك من جملة ماعفى عنه، وإن أنتهي الشح بصاحبه إلى المنع والتشدد حتى في الشيء التافه، فعلى المنفق أن ينتهي وعلى الآخذ أن يمتنع. فإن قيل فكيف بحديث عمير مولى آبى اللحم (أمرني مولاي أن أقدد لحما فجاءني مسكين فأطعمته منه فعلم بذلك مولاي، فضربني فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له فدعاه فقال: لم ضربته، قال: يعطي طعامي بغير أن آمره فقال: (الأجر بينكما). قلنا لم يرد النبي (- صلى الله عليه وسلم -) [156/أ] بذلك إطلاق يد العبد في مال سيده، وإنما كره صنيع مولاه في ضربه العبد على الأمر الذي تبين رشده فيه، فحث السيد على اغتنام الأجر ورغبه فيه ولم يرد أن يمهد له فيما كان سبيله العفو والتسامح. فإن قيل فهل يجوز أن يسكت النبي (- صلى الله عليه وسلم -) في موضع الحاجة إلى البيان. قلنا: قد بين ذلك في غير موضع، ومنه قوله (- صلى الله عليه وسلم -): العبد راع على مال سيده وهو مسئول عن رعيته. وباب من لا يعبد في الصدقة (من الصحاح) [1335] حديث عمر- رضي الله عنه: (حملت على فرس في سبيل الله فأضاعه الذي كان عنده) أي: جعلت فرسا حمولة من لم يكن له حمولة من المجاهدين وأعطيته إياه (فأضاعه) أي: أساء سياسته والقيام بعلفه وسقيه وإرساله للرعي حتى صار كالشيء الهالك. والله تعالى أعلم.

كتاب الصوم

ومن كتاب الصوم (من الصحاح) [1337] حديث أبى هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -): (إذا دخل رمضان فتحت أبوا السماء ...) الحديث. (فتحت أبواب السماء) عبارة عن تنزل الرحمة وإزالة الغلق عن مصاعد أعمال العباد، تارة ببذل التوفيق وأخرى بحسن القبول عنهم والمن عليهم بتضعيف الثواب وإيتاء ليلة القدر، وفي رواية: (فتحت أبواب الجنة) وكلتا الراويتين متقاربتان في المعنى، والرواية في فتحت بالتخفيف أكثر، وقد قرئ في التنزيل بالتشديد وبالتخفيف، والتشديد أبلغ وأكثر، ويحتمل أن يكون المانع من ورده في الحديث بالتشديد هو أنه حكاية عما يبذل لهم منها في هذه الدار، والفتح كل الفتح إنما يكون في الآخرة للدخول والاستقرار فيها. وقوله في غير هذه الرواية: (فلم يغلق منها باب) يؤيد رواية من رواه بالتشديد. وفيه: (غلقت أبواو جهنم) وذلك كناية عن تنزه أنفس الصوام عن رجس الفواحش والتخلص من البواعث على المعاصى بقمع الشهوات، وإنما قال غلقت بالتشديد ولم يقل أغلقت؛ إرادة للمبالغة في إتمام هذه المنة على الصوام [156/ب]. فإن قيل ما منعكم أن تحملوه على ظاهر المعنى؛ قلنا: لأنه ذكر على سبيل المن على صوام شهر رمضان وإتمام النعمة عليهم فيما أمروا به وندبوا إليه، حتى صارت الجنان في هذا الشهر كأن أبوابها فتحت ونعمها أبيحت، والنيران كأن أبوابها غلقت وأنكالها عطلت، والفائدة في ذلك بينة ظاهرة. وإذا ذهبنا فيه إلى الظاهر لم تقع المنة موقعها من الأول بل تخلو عن الفائدة؛ لأن الإنسان مادام في هذه الدار فإنه غير ميسر لدخول إحدى الدارين، فأي فائدة في فتح أبواب الجنة وإغلاق أبواب النار، اللهم أن يحمل الأمر فيهما، على الظاهر على أنه تحقيق المعني وتقرير أن يكون المفتوحة في المعنى مفتوحة في ظاهر الأمر، وعلى هذا المغلقة، أو يحمل ذلك على أن الأمر في كليهما متعلق بمن مات من صوام رمضان من صالحي أهل الإيمان وعصاتهم الذين استحقوا العقوبة، فإذا فتحت على أولئك تلك الأبواب كل الفتح أتاهم من روحها ونعيمها فوق ما كان يأتيهم، وإذا غلقت عن الآخرين أبواب النار لم يصيبهم من لفحها ومن سمومها؛ تنبيها على بركة هذا الشهر المبارك وتبينا لنا فنره. وفيه (وصفدت الشياطين) الصفد والصفاد: ما يوثق به الأسير من قد وقيد وغل، وصفده أي: شده وأوثقه وكذلك التصفيد. ولنا أن نحمل ذلك على ظاهره كما نحمل قوله سبحانه {وآخرين مقرنين في الأصفاد} على الظاهر، فإن قال قائل: فما أمارة ذلك ونحن نرى الفاسق في رمضان قلما يرعوي عن

فسقه وإن ترك بابا منه أتى بابا آخر حتى أن من هذه الزمرة من يتولى قتل النفس وقطع الطريق، وغير ذلك من المناكير والعظائم؛ قلنا أمارة ذلك تنزه أكثر المنهمكين في الطغيان عن المعاصي ورجوعهم إلى الله بالتوبة وإكبابهم على إقام الصلاة بعد التهاون بها، وإقبالهم على تلاوة كتاب الله واستماع الذكر بعد الإعراض عنهما، وتركهم ارتكاب المحظورات بعد حرصهم عليها. وأما ما يوجد من خلاف ذلك في بعضهم ويؤنس عنهم من الأباطيل والأضاليل فإنها تأثيرات من تسويلات الشياطين أعرقت في عرق تلك النفوس الشريرة وباضت في رءوسها، وقد أشار بعض العلماء فيه إلى قريب من المعنى الذي ذكرنا. قلت: وأمثل من هذا أن نقول: قوله: (وصفدت الشياطين) وإن كان مشعرا بالعموم فيه، وفإن التخصيص فيه غير بعيد ويؤيد هذا التأويل [157/أ] ما ورد في بعض طرق هذا الحديث: (وسلسلت مردة الشياطين) ويصح أن يستثني منهم في التصفيد صاحب دعوتهم وزعيم زمرتهم لمكان الإنظار الذي سأله من الله فأجيب إليه فيقع ما يقع من المعاصي بتسويله وإغرائه. فإن قيل وإذا قدر الأمر على نحو ما ادعيتم فأي فائدة في تصفيد من صفد إذا كان أصل الشر مستمرا على حاله؛ قلنا: الفائدة فيه فض جموحه وكسر شوكته وتسكين نائرته ولو لم يكن الأمر على ذلك لم يكن لاستظهاره بالأعوان والجنود معنى، هذا وقد ذهب بعض العلماء إلى أن التصفيد إنما كان في زمان الوحي لئلا يتمكن مردة الجن وعتاة الشياطين من الرقي في أسباب السماء لاستراق السمع فقد كان القرآن ينزل في كل ليلة قدر ما قدر أن ينزل منجما على حسب الوقائع في سائر السنة، والسماء وإن كانت محفوظة بالشهب الثاقبة من كل شيطان ما رد فيجوز أن يزاد في حراستها بتصفيد الشياطين تشديدا للأمر عليهم ومبالغة في الحراسة، وكل ذلك راجع إلى فضل ذلك الشهر المبارك وشرف أيامه ولياليه. قلت: ويحتمل أن يكون المراد من التصفيد المذكور حسم أطماعهم من إغواء الصوام بما وطنوا أنفسهم عليه من المجاهدات ونوافل العبادات، وليس الأمر في ذلك بأكثر مما ورد به الكتاب من غير إشكال في بيانه، وذلك قوله {إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون} في نظائر كثيرة من الكتاب. [1339] ومنه: حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي (- صلى الله عليه وسلم -): (من صام رمضان إيمانا واحتسابا) أي تصديقا بالله وبوعده واحتسابا للأجر بالصبر على المأمور. ويقال احتسب فلان عمله أي عمله طبا لوجه الله وثوابه، ومنه الحسبة وهي الأجر. وحقيقة ذلك أن العامل يعد ذلك مما تقرب به إلى الله فيجازى به، قيل: احتسب ابنا له أي اعتد به عند الله. وقوله (إيمانا) مفعول له ويجوز أن ينصب على الحال، أي صام [157/ب] مؤمنا ومصدقا ويجوز نصبه على المصدر، أي: صام صوم مؤمن ومصدق، وأحسن الوجوه أن يجعل مفعولا له.

[1340] ومنه حديثه الآخر عن النبي (- صلى الله عليه وسلم -) رواية عن ربه (إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) تكلم على هذا الحديث بعض العلماء ومعنى كلامه وزبدته: أن الصائم يعرض البدن للنقصان، فإن الله تعالي جعل الأبدان على أن تكون دائمة التحلل بالبخارات المتصاعدة عن المسام بالعرق والتنفس وغير ذلك فهي مفتقرة بحسب ذلك إلى البدل، وإذا احتبس عنها البدل أفضي بها ذلك النهكة والنحول، فصار بذلك معرضا نفسه للتلف مما يصيبه من مضض الجوع وحرقة العطش، فالصائم إذا أثر ذلك مستسلما لربه منشرح الصدر به صار عمله أخص الأعمال وأولاها بالله. قلت: وفيه وجه آخر أن شرائع الإسلام وأركانه ما منها شيء إلا ويطلع العباد على صيغة آدائه غير الصوم فإنه يعامل الله بأدائه سرا ولا يتأتى ذلك إيمانا واحتسابا إلا بالإخلاص التام، فبهذا المعني كان أولى الأعمال بحسن القبول وتضعيف الجزاء. وأما قوله (فأنا أجزى به) أي: أنا العالم بجزائه وليس ذلك مما ذكر أن الحسنة بعشر أمثالها ومما فوق ذلك من العدد فإن جزاء الصوم يجل عن تلك المقادير كلها فأنا أعلم به وإلى أمره. وفيه قوله (- صلى الله عليه وسلم -): (للصائم فرحتان فرحة عند إفطاره) يعنى: فرحة بالخروج عن عهدة المأمور. وقيل بما يعتقده من وجوب الثواب، وفرحة يوم القيامة مما يصل إليه منه، وقيل فرحة عند إفطاره مما جاء في الحديث من أن (للصائم عند إفطاره دعوة مستجابة ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) خلف فم الصائم خلوفا إذا تغيرت رائحته، ذهب أهل المعاني إلى أن معناه تنزيه ما حدث من حكم الله بالصوم عن الأذى، بخلاف الخلوف الذي يحدث عن غير الصوم فيومر بإزالته بالسواك ولكنه في حكم الطيب الذي يستدام. وأرى فيه وجها [158/أ] آخر وهو أن النبي (- صلى الله عليه وسلم -) لما أراد أن يبين فضل الصوم ودرجة الصائم ضرب مثله ما يكره منه من الرائحة في الطباع البشرية بأطيب ما يرام ويستنشق من الروائح،

باب رؤية الهلال

والنزول من الأعلى إلى الأدنى في هذا الباب عند التمثيل وتقرير المعنى من أحمد طرق البلاغة وأبهج مناهج اليان. وكان في قول من ذهب في ذلك إلى ابتغاء التقرب إلى الله تعالى بتلك الرائحة واستحباب استدامتها وكراهة إزالتها بالسواك تعمقا وعدولا عن الجلى الواضح إلى الخفي المشكل، لا سيما وقد أزيل الخفاء بحديث عامر بن ربيعة (رضي الله عنه) (رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يني يتسوك وهو صائم). وفيه (والصيام جنة) الجنة: السترة. يقال استجن بجنة: أي تستر بسترة. ويقال لما يستجن به في الحرب من درع وترس جنة. وذكر أنه جنة لأن المسلم يتستر به من شكة الشيطان وشوكته، والجنة إنما يكمل الانتفاع بها إذا كانت محكمة ومسرودة في غير اختلال، وكذلك الصيام إنما يحق التستر به على حسب العناية به من التحفظ والإتقان والتنزه عن الخطأ والخطل فيهما، فإذا وجد فيه بعض الخلل نقص بحصته ثواب العمل. وبهذا المعنى ترتب عليه قوله (وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب) الرفث الفحش من القول وما يضاهيه من كنايات الجماع والصخب: الصياح والجلبة. وقوله: (فليقل إني صائم) أي يجعل قوله هذا مكان الجواب ليكون أبلغ في الردع المتناول لغرضه وأكد في الحجة عليه. وفيه وجه آخر وهو أن يقول قوله في نفسه لترتدع به نفسه عن سييء القول وتتقوى على كظم الغيظ. من باب رؤية الهلال (من الصحاح) [1343] قوله (- صلى الله عليه وسلم -) في حديث ابن عمر- رضي الله عنه: (فإن غم عليكم فاقدروا له) غم: أي غطى من قولك غممت الشيء إذ غطيته فهو مغموم. فاقدروا له: من قدرت الشيء أقدره وأقدره قدرا من التقدير. قال الشاعر: [158/ب] كلا ثقلينا طامع في غنيمة .... وقد قدر الرحمن ما هو قادر أي: مقدر. ومعني الحديث: قدروا له عدد الشهر حتى تتموه ثلاثين، وذلك في الراوية الأخرى عن ابن عمر: (إن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين) ولما في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-: (فأكملوا عدة شعبان ثلاثين)، وقال بعض أهل العلم: قدروا له منازل القمر، فإن ذلكم يدلكم على أن الشهر تسعة وعشرون أو ثلاثون. قال ابن سريج: هذا خطاب لمن خصه الله تعالي بهذا العلم، وقوله: (فأكملوا العدة ثلاثين)، خطاب للعانة التي لم تعن به؛ يقال: قدرت الأمر كذا أقدر وأقدر إذا نظرت فيه ودبرته.

وقد خالف في هذه الفتيا جمهور العلماء، ورحم الله أبا العباس؛ من أي باب أتى حتى جعل دليل التنجيم مدخلا في عبادات المسلمين، وقد علم أنه علم لم يكن العرب تتعاطاه، وكان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يأباه، وإلى هذا المعني أشار بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (نحن أمة أمية لا تحسب ولا نكتب ...) الحديث، والظن به أنه قد سلك مسلك الاحتياط، غير أنه لم يصدر عن مورده ذلك بالكفاف؛ كيف وقد قال (فأكملوا العدة ثلاثين): خطاب للعامة، ولم يخف عليه أن الصحابة- رضوان الله عليهم- لم يعنوا بذلك ولم يعملوا به وهم خير هذه الأمة وأخصهم يعلم الشريعة وأولاهم بالتأييد والتوفيق من الله المنان. [1344] ومنه حديث أبلا هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) اللام في قوله لرؤيته يقع (بعد)، أي: بعد رؤيته، وذلك إذا لم يكن في السماء علة فلم يكن مغموما على الناس، ونظير ذلك في كلام العرب قول متمم بن نويرة: فلما تفرقنا كأني ومالكا .... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا أي بعد طول اجتماع. ويقرب من ذلك قولهم: لثلاث خلون من شهر كذا، ولأربع بقين من كذا، وأهل الأنساب يسمونها لام التاريخ ولام الوقت. ومن هذا النوع قول النابغة: توهمت آيات لها، فعرفتها ..... لستة أعوام، وذا العام سابع [1345] (ومنه) حديث عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ... الحديث)؛ إنما قيل لمن لا يكتب ولا يقرأ أمي؛ لأنه منسوب إلى العرب فإنهم كانوا لا يكتبون ولا يقرءون، وقيل إنما قيل له أمي؛ لأنه باق على الحال التي ولدته أمه، لم يتعلم قراءة ولا كتابة [159/أ]. وقد قيل فيه وجوه سوى ما ذكرنا، إلا أن الذي يناسب سياق الكلام في هذا الحديث ما ذكرناه. ثم إن إطلاق الأمي عليهم إنما صح من قبل نبيهم - صلى الله عليه وسلم - والقرآن الذي بعث فيه، ثم صار الآخر تبعا للأول في التشبيه والحكم، وإن كانوا يكتبون ويحسبون. ومعنى قوله (لا نكتب ولا نحسب) أن العمل بالحساب على ما يتعارفه المنجمون ويتعاطونه ليس مما تعبدنا به وأمرنا به؛ إذ ليس ذلك من هدينا وسمتنا في شيء. وفيه (الشهر هكذا وهكذا) الحديث؛ قال الخطابي: يريد أن الشهر قد يكون هكذا، أي: تسعا وعشرين، وليس يريد أن كل شهر تسعة وعشرون، فإنما احتاج إلى بيان ما كان موهوما أن يخفى عليهم؛

لأن الشهر في العرف وغالب العادة ثلاثون، فوجب أن يكون البيان فيه مصروفًا إلى النادر دون المعروف منه. وقد أشرفنا فيما مرّ أن هذا الحديث يبنى عن ترك العمل بقول اصحاب التنجيم في معرفة الشهر وإثبات الهلاك. [1346] ومنه حديث أبى بكرة - رضى الله عنه- عن النبى - صلى الله عليه وسلم - (لا ينقصان ... الحديث) وجدنا أهل العلم في تأويل هذا الحديث على ثلاث طرق، فمنهم من يذهب إلى أنهما لا ينقصان معًا في سنة واحدة، وفيه نظر لاختلاف دلالته، إلا إن حمل الأمر فيه على الغالب. ومنهم من قال أنه اراد به تفصيل العمل في العشر من ذي الحجة، وأنه لا ينقص في الأجر والثواب عن شهر رمضان. ومنهم من قال: معناه أنهما لا يكونان ناقصين في الحكم وإن وجدا ناقصين في عدد الحساب، وهذا الوجه أقوم الوجوه وأشبهها بالصواب. [1350] ومنه حديث أم سلمة - رضى الله عنها: (ما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان).

قلت: وفي حديث عائشة -رضى الله عنها-: (ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استكمل صيام شهر قط)،والتوفيق بين الحديثين أن نقول: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدور علي تسع نسوة فيحتمل أن أم سلمة وجدته صائمًا في أيام نوبتها التي كان ينتابها النبي في سائر شعبان، فرأت أنه واصل شعبان برمضان، ووجدته عائشة -رضى الله عنها- مفطًرا في بعض أيامها فأخبرت عما رأت، ويدل على ذلك قولها بعد الذي [159/ب] ذكرناه من حديثها: (وما رأيته في شهر أكثر منه صيامًا في شعبان كأن يصوم شعبان كله إلا قليلًا) فإن قيل: أو لم يكن النبي يعدل في القسم بين النساء جهده؟ فكيف تقدر الافطار في نوبة عائشة ول تقدره في نوبة أم سلمة؟ قلت: العبرة في البيتوتة والكينونة نهاره عندها؛ لا باليوم والإفطار؛ ألا ترى النبي كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، ولم يكن يبالي من أى أيام الشهر يصوم، والثلاثة غير منقسمة على التسع وقد كان النبي في فسحة من هذا، فجعل الإفطار في نوبتها؛ لأنها كانت مفطرة لحبه لها. فإن قيل: يحتمل أنه كان يراعي ذلك بحسب النوبة في أشهر؛ قلنا: ويحتمل أن قليل الذى أفطر من شعبان كان في نوبة عائشة بإزراء صومٍ قد كان صامه عندها في غيى شعبان، ولا يلزم أن تقدر ما قدرنا في حديث أم سلمة على التعاقب والتوالي في سائر السنين، بل في بعضها فإنها إذا رأته على ذلك عامًا أو عامين، صح لها أن تخبر عما أخبرت. وأرى أحد المعاني التى كانت تستدعى النبي أن يواصل شعبان برمضان، أو يصوم أكثره: اشتغال أزواجه بقضاء ما فآتهن من رمضان؛ ويدل على ذلك حديث عائشة -رضي الله عنها: (كان يكون على الصوم من رمضان، فلا استطيع ان أقضي إلا في شعبان)، قال الراوي: تعنى الشغل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فإن قيل: كيف التوفيق بين الحديث الذي ذكرتم عن أم سلمة، وبين حديث أبى هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (إذا انتصف شعبان، فلا تصوموا)؛ فإنًّا إذا قدًّرنا أنه كان يصوم من شعبان أو يصوم اكثره، أفضى بنا إلى ردِّ حديث أبى هريرة؛ فإنه على هذا التقدير: يكون قد صام شيئًا من الزمان الذي نهى عن الصوم فيه؟. قلنا: نحمل حديث أبى هريرة -رضي الله عنه- على أحد الوجهين: إما أن نقول: إنه آخر الأمور. أو نقول: إنه نهى عن الصوم في النصف الأخير من شعبان؛ لنفوس الأمة؛ ليتقوًّوْا على صيام شهرهم، ويباشر العمل عن الصوم فيه بنشاط منشرحًا به صدورهم، وكان حاله في ذلك خلاف حال غيره، لما آتاه الله سبحانه من العزم الذي لا فترة فيه، والعمل الذي لا ضعف معه؛ وهذا أولى الوجهين بالاختيار.

ومن الفصل (من الصحاح) [1354] حديث أنس -رضى الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (تسحروا؛ فإن في السحور بركة). المحفوظ عند أصحاب [160/أ] الحديث: بفتح السين، وقد قيل: إن الصواب أن تضم، وأرى الوجه المستقيم فيه على المقاييس اللغوية: الضًّم؛ لأنه بالضم: المصدر، وبالفتح: الاسم لما يتسحر به، والبركة في الفعل باستعمال السنًّة لا في نفس الطعام، وقد أشبعنا القول في أول باب الطهراه في بيان تلك المقاييس، وما ذكرنا فيها عن علماء العربية، وكذلك الرواية في رواية أنس: (أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وزيد بن ثابت تسحرا، فلما فرغا من سحورهما)،وفي حديث سمرة بن جندب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يمنعكم عن سحوركم أذان بلال .. الحديث). وليس الأمر في الحديثين من طريق اللغة على ما ذكرناه في الأول؛ لأنهما يحتملان النصب، والضم؛ فنختار فيها النصب، لموافقته الرواية. وأما حديث العرباض بن سارية: (دعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السحور) - فالوجه فيه نصب السين، لقوله (إلى الغداء المبارك). [1355] ومنه: حديث عمرو بن العاص - رضى الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب: أكله السحر)، فضل ما بين): بالصاد المهملة، ومن الناس من يصحف فيه بالضاد المنقوطة، وأكلة بفتح الهمزة، وهى المرة من الفعل، والمعنى: أن السحور هو الفارق بين صيامنا وصيام أهل الكتاب؛ لأن الله أباح لنا ما حرم عليهم من ذلك، ومخالفتنا إياهم في ذلك تقع موقع الشكر لتلك النعمة ويدخل في معناه. [1356] ومنه حديث سهل بن سعد - رضى الله عنه- الذي يتلوه، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطرة)؛ لأن فيه مخالفة اهل الكتاب، وكان مما يتدينون به الإفطار عند اشتباك النجوم، ثم صار في ملتنا شعارًا لأهل البدعة، وسمة لهم، وهذه هي الخصلة التى لم يرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

وعلى نحو هذا المعنى: يحمل حديث أبى هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: قال الله تعالى: (أحب عبادي اعجلهم فطرًا). أى: الذين يخالفون اهل البدعة فيما يعتقدون من وجوب ذلك. ويحتمل: أنه أراد به جمهور هذه الأمة الذين يتدينون شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - أى: هم أحب إلى ممن كان قبلهم من الأمم، والأول أشبه [160/ب]. قلت: ولو ان بعض الناس صنع هذا الصنيع، وقصده في ذلك: تأديب النفس، ودفع جماحها، أو مواصلة العشاءين بالنوافل غير معتقد فيما يعتقده أولئك الفئة الزائغة من القول بوجوبه لم يضرره ذلك، ولم يدخل به في جملتهم، كيف ويصحح هذا التأويل: الحديث الصحيح الذي رواه أبو سعيد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تواصلوا، فأيكم إذا اراد أن يواصل فليواصل إلى السحر). وتأخير الإفطار- نظرًا إلى سياسة النفس،- أمر قد صنعه كثير من الربانيين، وأصحاب النظر في الأحوال والمعاملات، أعاد الله علينا بركتهم. [1357] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عمر بن الخطاب: (فقد افطر الصائم). (أفطر) أى: دخل في وقت الإفطار وجاز له أن يفطر؛ كقولهم: أمسى، وأصبح، وأطهر: إذا دخل في تلك الاوقات، وقيل: صار في الحكم المفطر وإن لم يأكل. [1358] ومنه: حديث أبى هريرة - رضى الله عنه: (ٍنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوصال ... الحديث). وجه النهى عن الوصال: هو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قد بعث بالحنيفية السهلة السمحة، وكان يختار لأمته الاقتصاد في المعاملات؛ كيلا يقضي بهم التعمق إلى السآمة والفترة، ولا يشق عليهم مشقة تحول بينهم وبين كثير مما أمروا به؛ فيوجد عنهم التراجع في العبادة؛ كما كان من اصحاب الصوامع والديارات في الرهبانية التي ابتدعوها فهما رعوها حق رعايتها، وكان هو يواصل بارتفاع قدره عن تلك العلل، وقد بين ذلك بقوله: (أيكم مثلى؛ إنى أبيت يطعمني ربي ويسقينى) أى: يؤتينى من التأييد والتوفيق ما يقع عندى- في القوة على عبادته- موقع الطعام والشراب من أحدكم. وقد ذكر بعض العلماء في شرح هذا الحديث قضيتين رأينا الكشف عنهما؛ لتعلقهما بما نحن فيه: أحدهما: أنه قال: الوصال من خصائص ما أبيح لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محظور على أمته. قلت: سلك في الاصطلاح ملك الفقهاء؛ فإنهم يسمون ما ورد به نهى محظورًا، كان ذلك الشيء مكروهًا أو محرمًا؛ وذلك لأن الحظر هو الحجر، وهو خلاف الإباحة، والحظر أيضًا [161/أ] المحرم، فإنه اراد بالمحظور أنه منهي عنه.

فظاهر الحديث يبين قوله، وإن أراد أنه محرم على الأمة ففيه نظر، وأني يسمع القول بتحريمه، وفي الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة: (فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال؛ واصل بهم يوما، ثم يومًا، ثم رأوا الهلال، فقال: لو تأخرت لزدتم، كالمنكل بهم، حين أبى أن ينتهوا، والحديث يدل على خلاف ذلك، وهو أن الوصال كان محرمًا، لو لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليواصل بهم، ولم يكن الصحابة، وهم أشدّ الناس انتهاء عما حرم عليهم، ليأبوا عن الانتهاء عنه. فالوجه أن نقول: إنَّ القوم قد علموا أنه نهاهم عن ذلك شفقة عليهم ورحمة، فظنوا أن صنيعهم ذلك قرية إلى الله - تعالى- ولا مدخل له في خلاف الرسول - صلى الله عليه وسلم - - وذلك مثل الرجل يأتي ليعين الرجل على حمله او دابته، فيقول له: لا تفعل، إكرامًا له وشفقة عليه، فيأبى صاحبه إلا ان يفعل ذلك، فواصل بهم تأديبًا لهم وتقويمًا، وإرشادا إلي ما هو الأسد والأمثل، ثم إنا نقول: إن النهى وإن تعلق بالعموم، للمعاني التي ذكرناها؛ فإن الخصوص إذا اظاهر عليها، ورأوا حالهم فيها بخلاف حال غيرهم، فلهم أن يواصلوا، والفوج الذي نقل عنهم الوصال من خواص الأمة وأقويائها، مع علمهم بالسنن والأحكام وتشددهم في اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، إنما شرعوا فيما شرعوا استيثاقًا بما أشرفنا إليه. وقد ذكر عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه كان يواصل، وقد صح عن ابن الزبير - رضي الله عنه - أنه كان يواصل سبعًا، ولم يبلغنا نكير عمن كان في زمانه من الصحابة. والظن بأولئك السادة أن المباشر لم يباشر إلا وعنده أسوة، والساكت عنه لم يسكت إلا وقد صوب سبيله، ولهذا نظائر في الحديث، منها ما ذكرنا، ومنها ما تذكر طرفًا منه. والقضية الأخرى: قوله: (إني أبيت أطعم وأسقى) ويحتمل أن يكون يؤتى على الحقيقة بطعام وشراب يطعمها، فيكون ذلك خصيصي وكرامة لا يشركه فيها أحد من أصحابه. قلت: ونحن لا نستبعد من فضل الله وقدرته أن يؤتى هذه الكرامة من آثر هديه، واقتفى أثره، فكيف وهو المخصوص بالآيات التي تتحير الألباب دون سطوعها، ولكننا نقول: إن هذا الاحتمال يأباه قضية الحال؛ وذلك أنه ثبت بالأحاديث الصحاح، كحديث أبي هريرة هذا، وحديث أنس [161/ب] وأبي سعيد وغيرهم، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يواصل مع ما تبين لنا من جوابه - حين قالوا: (إنك تواصل) - أنه كان يواصل، فكيف سيصح القول بالوصال مع الطعام والشراب، وسيان الحالان في تناولهما، ان يؤتي بهما عن طريق القدرة، أو من طريق الحكمة. (ومن الحسان) [1359] حديث حفصة - رضي الله عنه- (من لم يجمع الصيام من الليل ... الحديث). لم يجمع،

أي لم يعزم عليه، قال الله تعالى {وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم} أى: أحكموه بالعزيمة، حتى اجتمعت آراؤهم عليه. ومنه: إجماع المسلمين على الشيء، وأكثر ما يقال: أجمعت، فيما يكون جمعا يتوصل إليه بالفكرة. وهذا الحديث رواه أكثرهم موقوفًا على حفصة، ورواه أبو داود وأبو عيسى بإسناديهما عن عبد الرحمن ابن أبي بكر بن حزم مرفوعًا، ولفظه يقتضي العموم، وإلى خلاف ذلك ذهب الجمهور من العلماء، فمنهم من يرى ذلك فى صيام النذر والكفارة والقضاء، ومنهم من يرى ذلك في كل صوم، إلا ما كان تطوعًا، فإنه استثنى التطوع بحديث عائشة -رضى الله عنها: (دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم، فقال: هل عندك شيء؟ قلت: لا، فقال: إنى إذًا صائم) وقد ذهب جابر بن زيد أبو الشعشاء إلى خلاف الفئتين، فرأى النية فى التطوع أيضًا واجبًا، وتقل عن ابن عمر أنه كان لا يصوم تطوعًا حتى يجمع من الليل، ومن رأى العمل بحديث حفصة [...] عنه، ومن لم ير العمل به لما يوجبه النظر والاستدلال في النذر والكفارة والقضاء، فله أن يأول قوله (فلا صيام له) على ان المراد منه نفي الكمال.

باب تنزيه الصوم

ومن باب تنزيه الصوم من الصحاح [1367] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبى هريرة -رضى الله عنه-: (فليس لله حاجة فى ان يدع طعامه وشرابه) لفظ الحاجة فيه من مجاز القول، والمعنى: لا يبالى بعمله ذلك، ولا ينظر إليه؛ لأنه أمسك عما ابيح له في غير حين الصوم، ولم يمسك عما حرم عليه فى سائر الأحايين. [1368] ومنه حديث عائشة -رضى الله عنها- في حديثها: (وكان أملككم لإربه) أرادت بالأرب: حاجة النفس أى: لا يغلبه أرب النفس، ولا يستولى عليه سلطان الشهوة، وكان حاله في ذلك خلاف حال غيره؛ لما آتاه الله من التأييد والعصمة. ويروى: (أربه) -بفتح الهمزة والراء- ويروى مكسورة الألف، ساكنة الراء، ومعناها واحد، والأرب -ساكنة الراء- أيضًا العضو، وحمله على العضو في هذا الحديث غير سديد، ولا يغتر به إلا جاهل بوجوه حسن الخطاب، مائل عن حسن الأدب ونهج الصواب. [1369] ومنه: حديثها الآتى: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[162/أ] يدركه الفجر في رمضان وهو جنب .. الحديث). قلت: كان أبو هريرة يفتي بخلاف ذلك، ثم إنه رجع عن وقد نقل عن ابن المنذر، أنه قال: أحسن ما سمعت في هذا أن يكون محمولا على النسخ، وذلك أن الجماع كان في أول الإسلام محرمًا على الصائم في الليل بعد النوم كالطعام والشراب، فلما اباح الله ذلك إلى طلوع الفجر، جاز للجنب إذا أصبح قبل أن يغتسل أن يصوم؛ لارتفاع الحظر المتقدم، وكان أبو هريرة يفتي بما سمعه من الفضل بن عباس على الأمر الأول، ولم يعلم بالنسخ، فلما سمع حديث عائشة هذا صار إليه.

[1372] ومنه حديث أبي هريرة -رضى الله عنه-: (جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: هلكت .. الحديث) الرجل على ما استبان لنا من كتب المعارف هو سلمة بن صخر الأنصاري

البياضي، ويقال: سليمان، وسلمة أصح، وكان أحد البكائين، وكان قد ظاهر من امرأته خشية أن لا تملك نفسه، وذلك لما كان يعرف من نفسه من شدة الشبق، ثم وقع عليها في رمضان. هذا الحديث كذا وجدناه فى عدة من كتب أصحاب الحديث، وعند الفقهاء أنه أصابها في نهار رمضان. وهذا الحديث يرويه بعضهم، وفي روايته: (هلكت وأهلكت) ولم يتابع عليه؛ لأن أهلكت غير محفوظ. وفيه: (خذ هذا فتصدق به) ذهب بعض اهل العلم إلى أنه يطعم كل مسكين مدا. قال: والحديث مبين لمقدار الواجب عليه في اطعام ستين، لما في حديث أبى هريرة من غير هذا الوجه: (فأتى بعرق قدر خمسة عشر صاعا). قلت: وقد روى ايضًا أنه اتى بعرق ثلاثين صاعًا ويؤيده أيضًا حديث سلمة بن صخر (أنه أطعم ستين مسكينًا وسقًا) ومع اختلاف الروايات وتعارضها، فالسبيل ان يحمل في الأقل على أنه كان قاصرًا عن مقدار الواجب، فأمره أن يتصدق بالموجود إلى ان يمكنه الوجدان من أداء ما بقي عليه؛ لئلا ندع شيئًا من الروايات متروكًا. (والغرق) بتحريك الراء، أصله السفيفة تنسج من الخوص، قبل أن يجعل منها زبيل، فسمي العرق بها. وفيه: (أطعم عيالك) ذهب بعض أهل العلم إلى أن ذلك حكم خص به هذا الرجل. وقال بعضهم: هذا منسوخ. وكلا القولين لا سناد له، والقول القويم فيه قول من قال: إن [العمل الجوار] أخبر أن ليس بالمدينة احوج منه ولم ير له ان يتصدق على غيره ويتلوى هو وعياله [162/ب] من الجوع، فجعله في فسحة من الأمر حتى يجد ما يؤديه في الكفارة. (ومن الحسان) [1381] حديث شداد بن أوس -رضى الله عنه- (رأى النبى - عليه السلام- رجلا يحتجم .. الحديث)

باب صوم المسافر

ذهب جمع من أهل الكتاب إلى القول بظاهر هذا الحديث، وذهب طائفة إلى القول بالكراهة. قد كان من الصحابة من يتنزه عنها في حال الصوم: فيحتجم ليلا، منهم ابن عمر، وأنس، وأبو موسى الأشعرى رضى الله عنه- وأكثر العلماء لا يرون بها بأسًا للصائم، وهذا هو الأوثق؛ فإن رسول الله احتجم صائمًا محرمًا، رواه ابن عباس، ويأول بعضهم الحديث على ما ذكره الشيخ أبو محمد القراني الكتاب، وقال بعضهم: إنه مر بهما مساًء، فقال: (أفطر الحاجم والمحجوم) أى: دخلا في وقت الإفطار كقولك: أمسى وأصبح، وقيل: حان لهما أن يفطرا كقولك: احصد الزرع، واركب المهر. وقد نقل عن بعض العلماء انه قال: إنما قال قوله ذلك بأنه وجدهما يغتابان. قلت: ولا أراه ذهب إلى هذا إلا من طريق الاحتمال؛ إذ لم يرد في شيء من الروايات، ولو وجد ذلك مرويًا لكان حقيقيًا بأن يأول إليه كل مأول، ويحمل معنى الإفطار فيه على بطلان أجرهما، حتى كأنهما لم يصوما. ومن باب صوم المسافر من الصحاح [1386] حديث جابر -رضى الله عنه-كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى سفر فرأى زحامًا ...

الحديث) قال الخطابي: هذا كلام خرج على سبب، فهو مقصور على من كان في مثل حاله، كأنه قال: ليس من البر أن يصوم المسافر، إذا كان يؤد به إلى مثل هذه الحال، بدليل صيام النبى - صلى الله عليه وسلم - في سفره عام الفتح، وبدليل خبر حمزة الأسلمى وتخييره إياه بين الصوم الإفطار ولو لم يكن الصوم برًا لم يخيره فيه. فإن قال قائل: إنما كان يصلح لكم هذا الاستدلال لو بين لكم تأخر حديث حمزة بن عمرو عن حديث جابر. قلنا: قد عرفنا - من أحاديث عدة- صوم الصحابة في السفر بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمنها حديث أنس ان [....] وبعده أربعين سنة، وقد صام حمزة الأسلمى مع رسول الله وبعده، ومن المستبعد أن يرد الصحابي الصوم في السفر، وهو يعلم ان النبى لم يره برا ثم لا ينهاه من يحضره من الصحابة، ولا يظهر له النكير. وممن روى من الصحابة الصوم في السفر ابو سعيد الخدري، وفي حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: إنكم تصبحون عدوكم، والفطر أقوى لكم فأفطروا) وكانت [163/أ] عزيمة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال أبو سعيد: (ولقد رأيتنى أصوم في رمضان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل ذلك وبعد ذلك). (ومن الحسان) [1389] حديث أنس بن مالك -رضى الله عنه- مالك رجل من بني كعب إخوة بني قشير- رضي الله عنه- عن النبي - عليه السلام-: (إن الله تعالى وضع شطر الصلاة والصوم عن المسافر ... الحديث) (والصوم): منصوب، والعامل فيه وضع شتان بين الوضعين، فإن الموضوع عن الصلاة ساقط لا إلى قضاء، ولا كذلك الصوم، وإنما ورد البيان على تقرير الرخصة، فأتى بقضايا منسوقة في الذكر، مختلفة في الحكم؛ وذلك لاتكاله على بيان التنزيل من قوله {فعدة من ايام أخر} ثم على علم المخاطبين بذلك. [1390] ومنه: حديث سلمة بن المحبق عن النبى - صلى الله عليه وسلم - (من كانت له حمولة تأوى إلى شبع-

باب صيام التطوع

الحديث) الحمولة بفتح الحاء - الإبل التي يحمل عليها وكذلك كل ما يحمل عليها من حمار وغيره. و (فعول) يدخله الهاء، إذا كان بمعنى (مفعول) وقوله: (تأوى) يرويه بعض من لا مؤنة له بصرف الكلام بالياء، نسقًا على (من) وليس ذلك يقويم، أو كان الأمر على ما تخيله لقرن واو النسق، وإنما هو بالتاء، لتأنيث الحمولة، وأوى لازم ومستعد، على لفظ واحد، وإن كان الأكثر في المتعدي بالمد، وقد ورد في الحديث (لا قطع في ثمر حتى يأويه الجرين) أى: يؤويه في حديث آخر: (لا يأوى الضالة إلا ضال) اى: لا يؤويه. وكذلك في هذا الحديث: (تأوى إلى شبع) أى: تؤوى صاحبها. والمعنى: أن من كانت له حمولة، ولم يكن مشقوقًا عليه في الزاد، بل ترده الحمولة إلى حال شبع ورى ورفاهية وخفة من وعثاء السفر، فليصم رمضان حيث أدركه، وليس ذلك على معنى الوجوب بل على وجه الاستحباب والنظر له، جعل الصوم اولى به وأفضل له؛ لما يسره الله عليه من أسباب، حتى صار من الرفق الذي آتاه الله كالمقيم الذي يصبح في اهله وذويه. ومن باب صيام التطوع من الصحاح [1396] حديث عائشة - رضى الله عنها - كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم حتى نقول: لا يفطر) نقول

الرواية بالنون، وقد وجدت في بعض النسخ بالتاء، على الخطاب، كأنها قالت: حتى تقول أيها السامع لو أبصرته، كقولها لسعد بن هشام، لا تشاء تراه قائما من الليل [163/ب] إلا رأيته، والمعنى صحيح، ولم نجد الرواية تساعده، والرواية في قوله (حتى تقول) النصب بحتى، وهو أكثر كلام العرب، ومنهم من رفع المستقبل في مثل هذا الموضع إذا حسن أن يجعل فعل موضع يفعل، ومن هذا الباب قراءة نافع فى قوله - سبحانه: {حتى يقول الرسول} بالرفع، وكذلك مع تطاول الفعل الذي قبل (حتى) كقولك: سرت نهاري حتى أدخلها، فدخلتها فصارت (حتى) عاملة، فالرفع في قولها: (حتى يقول) حسن، وإتباع الرواية أولى. [1397] قوله في حديث عمران بن حصين: (اصمت من سرر شعبان؟). السرر والسرار، آخر الشهر، وسمي سرارًا؛ لاستررار القمر فيه [أى خفي ليلة السرار]، وقد أولوه على أن المخاطب به، إما أن كان قد أوجبه على نفسه بنذر، فأمره بالوفاء، وإما إن كان ذلك عادة له، فبين له بهذا القول أن صومه غير داخل في جملة القسم المنهى عنه بقوله: (لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين). [1399] ومنه: حديث ابن عباس -رضي الله عنه-، أنته قال: (حين صام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاشوراء). يوم عاشوراء هو اليوم العاشر من المحرم، وكذلك العشراء، وكلاهما ممدودان، قيل: وليس فاعولاء بالمد

في كلامهم غيره، وقد يلحق به تاسوعاء، وذهب بعضهم إلى أنه من العشر الذي هو من إظماء الإبل، ولهذا زعموا أنه اليوم التاسع، والعشر ما بين الوردين وذلك ثمانية أيام؛ وإنما جعل التاسع؛ لأنها إذا وردت الماء ثم لم ترد ثمانية لم ترد ثمانية أيام فذلك العشر، [...] اليوم الثامن، وفلان يجم ربعًا إذا جم اليوم الثالث، وعاشوراء من باب الصفة، التي لم يرد لها أفعل والتقدير: يوم مدته عاشوراء، أو صفته عاشوراء. وفيه: (لأصومن التاسع)، جعل بعضهم العلة فيه ما ذكرناه من (الإظماء) وذهب بعضهم إلى أنه كره أن يصومه يومًا فردًا، كما كره صوم يوم الجمعة من غير أن يوصل بالخميس، وذهب آخرون إلى أنه أراد أن يضم إليه يومًا آخر ليكون هدية مخالفًا لهدى أهل الكتاب، وهذا أقرب الوجوه وأمثلها؛ لأنه وقع موقع الجواب؛ لقولهم: إنه يوم يعظمه اليهود. [1409] وحديث أبي هريرة: (لا يصوم أحدكم يوم الجمعة، إلا أن يصوم بعده). وكلا الحديثين صحيح، [وحديث ابن مسعود] حديث حسن، وقد رواه شعبة ولم يرفعه، ونرى الوجه في

قوله (كان يصوم من غزة كل شهر ثلاثة ايام)، أن نقول: إنه وجد الأمر على ذلك في غالب ما اطلع عليه من حال النبي فحدث بما كان يعرف من ذلك، واطلعت عائشة - رضي الله عنها- من ذلك على ما لم يطلع هو عليه، فحدثت بما علمت، ولا تناقض بين الأمرين. وأما قوله: (وقلما كان يفطر يوم الجمعة). فالوجه فيه أن نقول: لا يلزم من قوله هذا أنه كان يختص يوم الجمعة بالصوم حتى يخالف حديث أبي هريرة وحديث غيره في النهى؛ بل كان يصوم منضمًا إلى ما قبله أو إلى ما بعده ويحتمل وجهًا آخر، وهو أن نقول: يجوز أن يراد بالإفطار بعد الإمساك في بعض النهار؛ فإن الصوم قد يطلق ويراد به الإمساك في بعض النهار، ويؤيد هذا التأويل قول سهل بن سعد الساعدي: (ما كنا تقيل ولا نتغدى إلا عد الجمعة). وقد سئلت عن وجه النهي عن صوم يوم الجمعة منفردًا، فأعلمنا الفكر فيه مستعينًا بالله سبحانه، فرأينا الشارع - صلوات الله عليه- لو يكره ان يصام منضما إلى غيره، وكره أن يصام وحده؛ فعلمنا أن علة النهي ليست للتقوى على اتيان [165/أ] الجمعة، وأقام الصلاة والذكر، كما رآه بعض الناس إذ لا ميزة في هذا المعنى بين من صام الجمعة وحده، وبين من صام الجمعة والسبت، فعلمت أنه لمعنى آخر وذلك المعنى والله أعلم لا يخلو من أحد الوجهين على ما يستبين لنا: أحدهما: أن نقول كره تعظيمنا يوم الجمعة باختصاصه بالصوم؛ لأن اليهود يرون اختصاص السبت بالصوم تعظيمًا له، ولما كان موقع الجمعة في هذه الأمة موقع أحد اليومين من إحدى الطائفتين أحب أن يخالف هدينا هديهم فلم يشأ أن يخصه بالصوم. والآخر: أن نقول إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما وجد الله سبحانه وتعالى قد استأثر الجمعة بفضائل لم يستأثر به غيره من الأيام على ما ورد في احاديث الصحاح، وجعل فيه للصلاة فرضًا مفروضًا على العباد في البلاد ثم غفر لهم ما اجترحوه من الآثام من الجمعة إلى الجمعة وفضل ثلاثة أيام، ولم نر في باب فضيلة الأيام مزيدًا على ما خص الله به الجمعة، فلم تر أن نخصه بشيء سوى ما خصه الله به، ثم إن الأيام والشهور فضل بعضها على بعض، ثم خص بعضها بعمل دون ما خص به غيره ليخص كل منها بنوع من العمل، ولو شرع جماع تلك الوسائل في يوم واحد أو شهر واحد لأقضى ذلك إما إلى الارتهان به وإما إلى تعطيل ما دونه، ومنهما ينشأ داعية الإفراط والتفريط، فلما وجد الجمعة مخصوصة بتلك الفضيلة العظمى، ورأى الاثنين والخميس أفضل الأسبوع سوى الجمعة لاختصاص الاثنين بولادته وبعثته وهجرته ووفاته، واختصاص الخميس بعرض الأعمال على الله تعالى جعل لهما من باب الفضيلة ما يمتازان به عن غيرهما فشرع اختصاصهما بالصوم على الإنفراد ليمتازا عن غيرهما.

[1412] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبد الله بن عمرو: (لا صام من صام الدهر). فسر هنا من - وجهين: أحدهما: أنه على معنى الدعاء؛ زجرًا له عن صنيعه، والآخر: على سبيل الإخبار، والمعنى: لو يكابد سورة الجوع وحر الظمأ؛ لاعتياده الصوم حتى خف عليه، ولم يفتقر إلى الصبر على الجهد الذي يتعلق به الثواب؛ فصار كأنه لم يصم. وفيه: (وإن لزورك عليك حقا) (الزور: يكون جمعًا لزائر يقال رجل زائر، وقوم زور مثل: سافر وسفر، وقد يقال: رجل زور فيكون مصدرًا موصوفًا به نحو ضيف [كثير] ما يوضع المصادر مواضع الأسماء والصفات كقولهم: صوم ونوم، وفي حديث أبي رافع (أنه وقف على الحسن بن علي - رضي الله عنه- وهو نائم، فقال أيها النوم)، يريد: أيها النائم. (ومن الحسان) [1416] حديث عب الله بن مسعود - رضي الله عنه- قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم من غرة كل شهر ثلاثة أيام، وقلما كان يفطر يوم الجمعة). قلت: قد وجدنا هذا الحديث يخالف عدة أحاديث، فمنها حديث عائشة - رضي الله عنها- حين سئلت: (أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم من كل شهر ثلاثة أيام قالت: نعم، فقيل: من أى أيم الشهر؟ فقالت: لم يكن يبالي من أى الشهر يصوم.

[1421] ومنه حديث أخت عبد الله بن يسر المازني رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم ... لحديث). أخت عبد الله بن يسر اسمها بهية، وتعرف الصماء، وقيل بهيمة بزيادة ميم، ومعنى المنهي عنه، قد أشير إليه، وهو كون الصوم فيه راجعًا إلى تعظيم السبت، وفي ذلك اتباع اليهود، وقد نهينا عنه، ويحمل النهي فيه على تخصيصه بالصوم منفردًا، وذلك في التطوع الذي لا نجد له نظيرًا في السنه، فأما ما وردت به السنة، كصوم داود وصوم عاشوراء، وصوم يوم عرفة إذا اتفق في يوم سبت، فإنه غير داخل في جملة المنهي عنه؛ لثبوت ذلك بالأحاديث الصحاح التي لا مقاومة أمثال هذا الحديث ويجعل قوله (في غير ما افترض عليكم) على قضاء الفرض أو الصوم الذي وجب عليه بالنذر.

وقد ذهب قوم إلى ظاهر هذا الحديث فكرهوا صوم يوم السبت على الإطلاق، إلا في القسم المستثنى عنه، وليس لهم أن يتركوا ما سبق إليه الإشارة من أحاديث الصحاح لهذا الحديث الشاذ مع ما بلغنا فيه عن الزهري، وهو أنه شيءل عن هذا الحديث، فقال: ذاك حديث حمصى يشير إلى ضعفه والذي ذهبنا إليه في تأويله، قول لا محيد عنه لموافقته السنن الثابتة، فتقرر كل في [قضائه]. وفيه: (إلا لحاء عنية) اللحاء ممدود وهو قشر الشجر، والعنبة هي الحبة من العنب، وبناؤها من نوادر الأبنية وأريد بالعنبة - ههنا- الحبلة او القضاية منها على الاتساع. [1424] ومنه حديث عامر بن مسعود القرشى - رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (الغنيمة الباردة الصوم في الشتاء). هذا حديث مرسل، فإن عامر بن مسعود لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - والغنيمة الباردة هى: التى يحوزها صاحبها عفوًا وصفوًا، لا يمسه ولا يصيبه قرح، والعرب تصف سائر ما تستلذه بالبرودة والمعنى أن الصائم في الشتاء يحوز الأجر من غير أن يمسه حر العطش أو يصيبه لذعة الجوع، وإنما قال: (الغنيمة الباردة الصوم في الشناء)، ولم يقل: الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة، تنبيهًا على معنى الاختصاص، اى: يبلغ الصوم في هذا المعنى ما لا يبلغ غيره. [1429] ومنه حديث أم هانى - رضي الله عنها- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (الصائم المتطوع أمير نفسه).

قلت: روى هذا الحديث من غير وجه واحد عن شعبة، وفي سائرها: أمير أو: أمين نفسه. [165/ب] على الشك، ورواء أبو داود: (أمين نفسه) بالنون من غير تردد، ووجه قوله أمير بالراء مبين بما بعده من الحديث، وأما وجهه بالنون فهو أن الأمين إذا كان أمين نفسه فله أن يتصرف في أمانة نفسه على ما يشاء، وإذا كان أمين غيره فليس له ذلك، فالصائم من الفريضة، وما وجب عليه إذا أفطر من فريضة، فقد خان أمانة الله، والمتطوع في فسحة من ذلك غير منسوب إلى الخيانة، وقد استدل من لا يرى القضاء على المتطوع بهذا الحديث، وبقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أم هانئ أيضًا: (فلا يضرك إن كان تطوعًا) ويدل قوله: (إن شاء صام، وإن شاء أفطر) على أن له أن يفطر نظرًا إلى ما يبدو له من الأمور التي ائتمن عليها كالذي يضيف قومًا، أو ينزل بقوم، وهو يحبون أن يفطر، ويرى هو في ترك الإفطار استيحاشًا من جانب صاحبه، فله أن يساعده على ما يؤنسه من غير حرج وتبعة، وهو أمين على نفسه فيما يراه راعيًا شرائط الأمانة فيما يتوخاء، وهذا معنى قوله: (لا يضرك)، وليس في أحد القولين دليل على أن القضاء واجب عليه بعد الإلزام، لاسيما، وقد ورد الحديث بالأمر بقضائه، وهو حديث عائشة الذي يتلو هذا الحديث. فإن قيل: هو حديث لا يكاد يصح من جهة إسناده. قلنا: نعم، وقد روى الترمذي أيضًا حديث أم هانئ: (لا يضرك إن كان تطوعًا) ثم قال: في إسناده مقال، وقد روت عائشة بنت طلخة عن عائشة انها قالت: دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله إنا قد خبانا لك حيًا، فقال: (أما إنى كنت لأريد الصوم ولكن قريبه سأصوم يومًا مكانه) وهو حديث اتصل سنده مع اختلاف الرواة، في قوله:

(سأصوم يومًا مكانه) والقول بذلك أولى من جهة النقل؛ لأنه لم يخالف حديث أم هانئ ثم إنه قول جامع بين الحديثين، والقول الذي يخالفه منه نفى الحديث آخر، وأما ما يؤيده من طريق النظر فذلك قد أتى عليه في كتب أهل هذه المقالة وقصدنا في ذلك بيان الحديث. (من الصحاح) [1433] حديث ابن عمر - رضى الله عنه- (أن رجلًا من اصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أروا ليلة القدر ... أروا من الرؤيا أى: قيل لهم في المنام ما يتصورون به كينونة القدر فى اى ليلة هى والقدر والتقدير تبيين كمية الشيء وإنما سميت ليلة القدر؛ لأن الله - تعالى- يبين فيها لملائكته الأمور التى تجرى على أيديهم من تدبير بنى آدم محياهم ومماتهم إلى مثلها من القابل قال الله تعالى: {فيها يفرق كل امر حكيم}، ويحتمل أنها سميت ليلة القدر تقدير الله ما كان ينزل فيها من القرآن أيام حياة النبي - عليه

السلام - إلى مثلها من العام المقبل وإنما جاء القدر بتسكين الدال وإن كان الشائع في القدر الذي هو قرينة القضاء بفتح الدال ليعلم أنه لم يرد به ذلك فإن القضاء سبق الزمان وإنما أريد به تفصيل ما قد جرى به القضاء وتبيينه وتحديده في المدة التي بعدها إلى مثلها من القابل ليحصل ما يلقى إليهم مقدرًا بمقدار يحصره علمهم فسكن منه الدال للامتياز بين الأمرين وقيل: سميت بها لخطرها وشرفها على سائر الليالي وفيه: (أرى رؤياكم قد تواطت) المواطأة الموافقة وأصله أن يطأ الرجل برجله موطأ صاحبه وقد رواه بعضهم بالهمز وهو الأصل وجاء في عامة نسخ الجامعين الصحيحين وغيرهما بغير همز فلعلَّ بعضهم لم يكتب الهمزة ألفًا فترك بعضهم همزها فأقرّت على ذلك. وفيه (فمن كان متحريها) تحرّى الشيء: إذا قصد حراه أي جانبه قال الله تعالى: {تحروا رشدا} أي توخوا وعمدوا. والتحري بالياء [بالياء] من طلب ما هو أحرى بالاستعمال. والمعنى: من كان يتوخى تلك الليلة فليتوخها في السبع الأواخر ويكون معناه: فمن كان يريد طلبها في أحرى الأوقات بالطلب فليستعد له في السبع الأواخر والسبع الأواخر يحتمل أنه أراد بها السبع التي تلى آخر الشهر، ويحتمل أنه أراد به السبع الأول بعد العشرين؛ لأن السبع إنما يذكر في ليالي الشهر في أول العدد [166/ ب]، ثم في سبعة عشر، ثم في سبع وعشرين. وحمله على السبع التي بعد العشرين أمثل لتناوله إحدى وعشرين وثلاث وعشرين، ووله: (فليتحرها في السبع الأواخر)، أخص من قوله (فالتموها في العشر الأواخر) وتنافى بين القولين. قلت: وكل ما ورد في هذا الباب من الأحاديث فإن بعضها يعاضد بعضا على أنها إحدى ليالي أوتار العشر الأواخر ثم إن الروايات قد اختلفت في تفسير ذلك الوقت اختلافاً لا يرتفع معه الخفاء إذ لم يثبت فيما يَقُول عليه من النقل عن أحد من الصحابة أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحدث بميقاتها مجزومًا به وإنما ذهب كل واحد إلى ما ذهب مما تبيّن له من معاريض الكلام التي سمعها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والفهم يبلغ تارةٌ ويقصرُ أخرى والمجتهد يصيب ويخطئ. اللهم إلا أن يكون في الرواة من أخبره الرسول - صلى الله عليه وسلم - بميقاتها، ولم ير أن يزيل عنه الخفاء ولم يؤذن له فعلى هذا تنوع اختيار كل فريق من أهل العلم والذاهبون إلى سبع وعشرين هم الأكثرون ولا تناقض بين تلك الروايات على هذا التقدير ويحتمل أن فريقًا منهم عَلِم بالتوقيف ولم يؤذن له بالكشف عنه، لما كان في حكمة الله البالغة في تعميتها على العموم ونرى أولى الروايات بذلك رواية أبي بن كعب فإنه حلف ولم يستئن والآخرون حدّثوا بما وقع لهم من الفهوم. فإن قيل: كيف يصح فيه التوقيف وقد نال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أريت هذه الليلة ثم أنيتها)؟ قلنا: يحتمل أنه أنسيها في عامة ذلك ثم كوشف بها بعد فأخبر بها. فإن قيل: رأى كثير من أهل

العلم وذوي النظر في دين الله أن الإنساء الواقع من قبل الله كان رعاية لمصلحة العباد ليُعمَّى عليهم خير تلك الليلة لئلا يتكلوا وليزدادوا جدا واجتهادًا في طلبها. وهذا هو الظاهر من أمره والمفهوم من سياق حديثه وقد قال بعضهم: إن نبي الله كان مجبولاً على أكرم الأخلاق وأحسنها، وقد علم الله منه الرأفة بأمته وعلم أنه لو سئل وعنده علم ذلك عز عليه أن يبخل عليهم بذلك فأنساه. وقال آخرون: لما أرادالله تعميتها أنساها النبي لئلا يكون كاتم علم إذا سئل عنه لم يخبر به. وقد روى عن أبي ذر - رضي الله عنه - أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقسم عليه ليخبرنّه بها حتى أغضبه فقال: (لو أذن [167 / أ] الله لي أن أخبركم بها لأخبرتكم) فكيف السبيل إلى القول بالتوفيق مع هذا الحديث ومع ما ذكرنا من أقاويل علماء الأمة. قلنا: التخصيص في ذلك ليس بمتنكر فنقول: أنسيها في أول الأمر ليخبر بالإناء فينتهي العموم عن السؤال عنها لما تضمنه الإنساء من المصالح ثم بينها كرامة له فخص هو بذلك بعض أصحابه المستعدين لعلم ذلك كما خصّ حذيفة بن اليمان بأعلام المنافقين والتخصيص إنما يستنكر في الأحكام والحدود التي تعبد بها المكلفون فأما في الأخبار التي لم يتعبد بها فلا نكير فيها وما أكثر نظائر ذلك في السنة. فإِن قيل: أفلا يحتمل أن يقال إن تلك الليلة لا توجد على وتيرة واحدة في الأعوام؛ فربما كانت في عام إحدى وعشرين، وربما كانت في آخر ثلاثٍ وعشرين، وعلى هذا إلى تمام الأوتار، ولهذا اختلف فيها أقاويل الصحابة؟ قلنا: يحتمل، وإليه ذهب بعض أهل العلم، غير أنا لم نجد أحدًا من المخبرين عزم فيما حدث به إلا أبيّا - رضي الله عنه - فإن قيل: فإنه ذهب أيضًا إلى ما ذهب بنوع من الاستدلال غير مبدٍ بصريح المقال؛ لأنه سئل فقيل له: بأي شيء تقول ذلك؟ قال: بالعلامة التي أخبرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... الحديث). قلنا: يحمل أمره في ذلك على أنه لم يؤذن له في التصريح؛ فعدل عنه إلى التعريض بما سمعه من الوصف الزائد على مقدار الضرورة وإنما نميل إلى هذا القول؛ لأن الصحابة - رضي الله عنهم - هم الأمناء في سائر ما حدثوا به عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد شهد التنزيل بصدقهم وعدالتهم، وبأن الله - سبحانه وتعالى - ارتضاهم لهذا الدين فلا يجوز لنا أن نظن لهم أن يحلفوا على القطع بما لم يعلموا، فضلاً عن الحكم به. فهذا الذي ذكرناه في هذا الباب هو السبيل في تخريج معاني أحاديث ليلة القدر وتمهيد قواعدها. والله أعلم. [1439] ومنه: حديث عائشة - رضي الله عنها - كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل العشر شدّ مئزره) المئزر:

باب الاعتكاف

الإزار كقولهم: ملحق ولحاف، ولما كان من شأن من يأخذ في العمل بجد وعزيمة أن يشدّ مئزره استعير ذلك للتشمير والانكماش في الطاعة والدأب في العمل، ويحتمل أن المراد به اعتزال النساء وترك النكاح بدواعيه وأسبابه. ومن باب الاعتكاف (من الصحاح) [1445] حديث [167/ ب] ابن عباس - رضي الله عنه - (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس ... الحديث). قلت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمح بالموجود لكونه مطبوعاً على الجود مستغنيا عن الفانيات

بالباقيات الصالحات إذا بدا له عرض من أعراض الدنيا لم يعره مؤخر عينيه، وإن عزّ وكثر. يبذل المعروف قبل أن يُسأل، وكان إذا أحسن عاد، وإذا وجد جاد\ن وإن لم يجد وعد ولم يخلف الميعاد، وكان يظهر منه آثار ذلك في رمضان أكثر مما يظهر منه في غيره لمعان، أحدها: أنه موسم الخيرات يقع العمل فيه من الله بمكان لا يقع في غيره من الشهور، وثانيها: أن الله يتفضّل على عباده في ذلك الشهر ما لا يتفضل عليهم في غيره، وكان - صلى الله عليه وسلم - يؤثر متابعة سنة الله تعالى في عباده، وثالثها: أنه كان يصادف البشرى من الله بملاقاة أمين الوحي وتتابع أمداد الكرامة عليه في سواد الليل وبياض النهار، فيجد في مقام البسط حلاوة الوجد وبشاشة الوجدان، فينعم على عباده بما يمكنه مما أنعم الله عليه، ويحسن إليهم كان أحسن الله إليه؛ شكرًا لله على ما آتاه. وفيه (وكان أجود من الريح المرسلة) يحتمل أنه أراد بها التي أرسلت بالبشرى بين يدي نعمة الله وذلك لشمول روحها وعموم نفعها. قال الله سبحانه وتعالى {والمرسلات عرفا} أحد الوجوه في الآية أنه أراد بها الرياح المرسلات للإحسان والمعروف. ويكون انتصاب عرفًا بالمفعول له، فلهذه المعاني المذكورة في المرسلة شبَّه نشر جوده بالخير في العباد بنشر الريح القطر في البلاد وشتان ما بين الأمرين فإن أحدهما يُحي القلب بعد موته، والآخر يحيي الأرض بعد موتها، وإنما لم يقتصر في تأويل الخير على ما يبذله من مال ويوصله من جناح لما عرفنا من تنوّع أغراض المعْتَرَين به، واختلاف حاجات السائلين عنه. وكان - صلى الله عليه وسلم - يجود على كل واحد منهم بما يسد خلته، وينقع غلته، ويشفي علّته، وذلك المراد من قوله: أجود بالخير من الريح المرسلة.

[1451] ومنه: حديث عائشة - رضي الله عنها - (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل في معتكفه). قلت: يحتمل أن يُخيل م قولها: (ثم دخل في معتكفه) إلى من ليس له معرفة بأيام الرسول وسننه أنه كان ينشيء الاعتكاف بعد صلاة الفجر. وهذا [168 / أ] وإن اختلف قول أهل العلم في المنع عنه والجواز فيه فلم يختلف أحد أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف العشر الأواخر بأيامها ولياليها ويبدأ به ليلة إحدى وعشرين، فليس لأحد أن يذهب إلى خلاف ذلك. فالمراد من المعتكف في هذا الحديث الموضع الذي كان يخلو فيه بنفسه من المسجد، فإن كان يفرد لنفسه موضعًا يستتر فيه عن أعين الناس. وفي معناه ورد الحديث الصحيح (اتخذ حجرة من حصير)، والحديث الذي فيه: (واعتكف العشر الأوسط في قبة تركية) وغير ذلك من الأحاديث.

كتاب فضائل القرآن

ومن كتاب فضائل القرآن (من الصحاح) [1454] حديث عقبة بن عامر الجُهني عن النبي عليه السلام: (أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بُطحان والعقيق ... الحديث)، بطحان يرويه الأكثرون بضم الباء وسكون الطاء ووجدت الحافظ أبا موسى رواه بفتح الباء وقد رواه أيضًا غيره. وعن أهل اللغة أنه بفتح الباء وكسر الطاء وهو اسم وادٍ بالمدينة وإليه ينسب البطحانيون. والعقيق: واد عليه أموال أهل المدينة، وهي على ثلاثة أميال. وقيل: على ميلين وهو عقيق المدينة. عق عن حرتها أي: قطع. وهو العقيق الأصغر وفيه بئر رومة. وهناك عقيق آخر أكبر من الذي ذكرنا وفيه بئر عروة وقد ذكره الشعراء في أشعارهم؛ وبالمدينة عقيق آخر ببطن ذي الحليفة وآخر ببلاد مزينة، وقد ذكرناه فيما مر. قلت: وإنما خص الموضعين بطحان والعقيق بالذكر؛ لأنهما كانا من أقرب الأودية التي كانوا يقيمون بها أسواق الإبل. وفيه: (بناقتين كوماوين) الكوماء الناقة العظيمة السنام، وإنما ضرب المثل بها؛ لأنها كانت من أحب الأموال إليهم، وأنفس المتاجر لديهم. وفيه: (ومن أعدادهن من الإبل) وعلى هذا القياس يوحد الآيات التي يُعلمها أو يقرَّئها خيرًا من أعدادهن، ثلاث خير من ثلاث، وأربع خير من أربع. فإنِ قيل: كيف تقرن بين الآية والناقة الكوماء في باب المخايرة، وعلى ماذا تقدَّر المعنى فيه، وقد علمنا بالأصل الذي لا اختلاف فيه من أمر الدين أن الآية الواحدة خير من الدنيا وما فيها؟. [قلنا قولنا: إن تعليم آية من كتاب أو قراءتها خير من ناقة كوماء، لا ينفى كونها خيرًا من الدنيا وما فيها؛ لأنا لم نقصر القول في الخيرية عليها، وإنما صدر هذا القول منه - صلى الله عليه وسلم - على وفق ما كان المخاطب يغتنمه ويبتغيه وتعجبه خيرته من المال، لأنه - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يبين لهم أن اشتغالهم بأمر [الدنيا] خير لهم مما يكدحون فيه من طلب الرزق، ولم يرد حقيقة بيان المقدار الواقع في المخايرة بين الشيئين، ويحتمل أنه أراد بذلك أنه خير لهم في أمر المعاش الذي يتوخونه من ناقة كوماء ...]. وفي معنى هذا الحديث، ومنه:

[1455] حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -[168/ ب]. الذي يتلو هذا الحديث وهو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي حديثه (ثلاث خلفات)، الخلف - بكسر السلام - المخاض، وهي الحوامل من النوق وأحدهما خَلفة. وفي حديثه الدية كذا وكذا خلفة) يقال: خلفت الناقة: إذا حملت. وأخلفت فهي مخلفةٌ أي: لم تحمل وهي الراجح التي يظن أنَّ بها حملاً ثم لم تكن كذلك. [1456] ومنه: حديث عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الماهر بالقرآن مع الفرة الكرام البررة ... الحديث) المهارة: الحِذق في الشيء وقد مهرت الشيء مهارة. ومنه قيل للسابح: الماهر (والسفرة): الملائكة جمع سافر ككاتب وكتبة والأصل في ذلك السفر وهو كشف الغطاء والسفر بكسر السين الكتاب الذي يسفر عن الحقائق، والسفير: الرسول بين القوم يزيل ما بينهم من الحوشة. فعيل بمعنى فاعل والسفارة: الرسالة في ذلك. فالرسول والملائكة والكتب مشتركة في كونها سافرة عن القوم بما استبهم عليهم والمعنى الجامع بين الماهر بالقرآن وبين الملائكة المكرمين وحفظة السفر الكريم عن الأمة أن الماهر بالقرآن تعلّم التنزيل واستظهره حتى صار من خزنة الوحي وأمناء الكتاب وحفظة السِفر الكريم، يسفر عن الأمة بما استبهم عليهم من ذلك، ويبين لهم حقائقه كما أن السفرة يؤدّونه إلى أنبياء الله المرسلين، ويكشفون به الغطاء عما التبس عليهم من الأمور المكنونة حقائقها. وفيه (والذي يتعتع فيه) التعتعة في الكلام: التردد فيه من حصر أو عيًَ يقال: تتعتع الرجل إذا تبلد في كلامه. وتعتعت الدابة إذا ارتطمت في الطين. وتعتعه: حرَّكه وتعتّعه التفكر وغيره فتتعتع. ويقال لكل من أكره في شيء حتى تقلق: تعتع. ومنه الحديث الذي يرويه مُخارق: (حتى يؤخذ للضعيف حقه غير متعتع) - بفتح التاءين - أي: غير مؤذي يعني من غير أن يصيبه أذَّى) [......]. وفيه: (له أجران) يعني أجر القراءة وأجر ما يعتريه في قراءته من المشقة. [1458] ومنه حديث أبي موسى الأشعري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل

الأترجة ...) الحديث، قلت هذا الحديث وإن بيَّن المعنى لا يكاد يخفى المراد منه على النكد البليد [169/أ] فضلاً عن القَطن اللبيب فإني لم آمن فيه عثرة من يستحوذه الشيطان ويستهويه فيخيل إليه قصورًا ما في [....] الفضل ومراتب الكمال ويسوس إليه أن البليغ إذا [نسج] على هذا المنوال يمكنه أن يأتي من الأمثال بما هو الشاهد عليه ألذّ وأطيب وأتم وأكمل من الأترجة وأنَّ في ذلك نزولاً من الأعلى إلى الأدنى والتفاتًا من الأمثل إلى الأرذل ويأبى الله أن يأتي أوفى اللفظ والمعنى بأعذب وأوجز وأتمَّ وأبلغ مما يأتي به الرسول - - صلى الله عليه وسلم - ومعاذ الإله من التورُّط في هذه الهوة ومن هذا الباب دخلت الفتنة على أناسٍ أعمى الله عيني قلبهم حتى سمعوا الله يذكر الذباب والعنكبوت في كتابه ويضرب للمشركين به المثل فضحكوا وقالوا ما يشبه هذا الكلام الله فرد الله عليهم بقوله {إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها} فرأينا إماطة الأذى عن الطريق فنقول وبالله التوفيق: قد ذكرنا فيما مضى أن المثل عبارة عن المشابه بغيره في معنى من المعاني وأنه لإدناء المتوهم المشاهد، وكان النبي عليه السلام يخاطب بذلك العرب ويحاورهم، ولم يكن ليأتي في الأمثال بما لم يشاهدوه فيجعل ما أورده للتبيان مزيدًا للإبهام، بل يأتيهم بما شهدوه، وعرفوه فيبلغ ما انتحاه من كشف الغطاء ورفع الحجاب، ولم يوجد فيما أخرجته الأرض من بركات السماء لا سيما من الثمار الشجرية التي آنستها العرب في بلادهم أبلغ في هذا المعنى من الأترجة، بل هي أفضل ما يوجد من الثمار في سائر البلدان وأجدى؛ لأسباب كثيرة جامعة للصفات المطلوبة منها والخواصّ الموجودة فيها، فمن ذلك: كبر جرمها؛ حيث لم يعرف في الثمار الشجرية أكبر منها، ومنها: أنها حسن المنظر، طيب الطعم لين الملمس، ذكيّ الأرج، تملأ الأكف يكبر حجمها وتكسيها ليناً وتفعم الخياشيم طيبًا وتأخذ بالأبصار صيغة ولوناً {فاقع لونها تسر الناظرين} تتوق إليها النفس قبل التناول تفيد أكلها بعد التلذذ بذواقها، طيب نكهة ودباغ معدة، وقوة هضم، اشتركت الحواس الأربعة دون الاحتظاء بها: البصر والذوب والشم واللمس وهذه الغاية القصوى [169/ب] في انتهاء الثمرات إليها فمنها ما ينقص منها وليس فيها ما يزيد عليها، ثم إنها في أجزائها تنقسم على طبائع قلما تنقسم عليها غيرها

فقشرها حارّ يابس ولحمها حار رطب وقيل بل هو بارد رَطب، وحماضها بارد يابس [وبزرها] حار مجفف وجملة هذه الأجزاء الأربعة في الأدوية الصالحة للأدواء المزمنة والأوجاع المُقلقة والأٍقام الخبيثة والأمراض المُردية كالفالج واللقوة والبرص واليرقان والعصب والبواسير والشربة من بزرها تقاوم السموم كلها وقشره مسمِن وعُصارة قشره ينفع من نهش الأفَاعي شربا وجرمُهُ ضماد، ورائحته تصلح فساد الهواء والوباء، فأية ثمرة تبلغ هذا المبلغ في كمال الخلقة وشمول المنفعة وكثرة الخواص ووفور الطباع. فإن قيل: قد ذكرت الأمثال إنما تضرب لكشف الغطاء، وإدناء المتوهم عن المُشاهَد وهذه الفوائد التي ذكرتها في الأترجة غير معدودة في الشواهد بل هي مما يتعنى به حذّاق الأطباء ويتوصل إليه بالحدس والتجربة ويخفى علم ذلك على كثير من الألباء فضلا عن الأغمار والسفهاء ثم إنك لو رأيت العبرة بها في التمثل للزمك القول بما احتوت عليه الحنظلة من جنس تلك الفوائد فإنها تدخل في جملة الأدوية. قلنا: نحن قد بنينا الكلام في هذا الباب على الأصول التي يستوي في معرفتها الذكي والغبي وهي لين المسّ وتصوع اللون وسُطوع الرائحة ولذاذة الطعم ثم ألحقنا بها تلك الفوائد مزيدًا للبيان فيما يختص إدراكه بأولى العلم وذوى الفهم ولا مشاكلة في تلك الأصول بين الأترجة والحنظلة من شيء من ذلك، كيف وهي من السُموم القتالة مع كونها من المرارة في الغاية والنهاية، ثم إنا نقول: إن الشارع - صلى الله عليه وسلم - أشار في ضرب هذا المثل إلى معان لا يهتدي إليها إلا من أُيَّد بالتوفيق فمنها: أنه ضرب المثل بما تنبته الأرض ويخرجه الشجر للمشابهة التي بينها وبين الأعمال فإنها من ثمرات النفوس [والمثل هنا وإن] ضرب للمؤمن نفسه فإن العبرة فيه بالعمل الذي يصدر عنه، لأن الأعمال هي الكاشفة عن حقيقة الحال. ومنها: أنه ضرب مثل المؤمن بالأترجة والتمرة وهما [170/ أ] مما يخرجه الشجر، وضرب مثل المنافق بما تنبته الأرض؛ تنبيها على علو شأن المؤمن وارتفاع عمله ودوام ذلك وبقائه ما لم تيبس الشجرة وتوقيفًا على ضَعة شأن المنافق وإحباط عمله وقلة جدواه وسقوط منزلته. ومنها: أن الأشجار المثمرة لا تخلو عمن يغرسها فيسقيها ويُصلح أودَها ويربّها وكذلك المؤمن يقيض له من يؤديَّه ويعلمه ويهديه ويلم شعثه ويسّومه ولا كذلك الحنظلة المهملة المتروكة بالعراء أذلّ من نقع الفلا والمنافق الذي وكل إلى شيطانه وطبعه وهواه. [1461] ومنه حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - (كان رجل يقرأ سورة الكهف وإلى جانبه حصان ... الحديث (الحِصَان - بالكسر - الكريم من فُحولة الخيل يقال: فَرسٌ حصَان بين التحصين والتحصين وسمّى به، لأنه ضنَّ بمائه فلم ينز إلاَّ على كَريمة ثم كثر ذلك حتى سّمَّوا كل ذكر من الخيل حِصَانًا.

وفيه (مربوط بشطنين) الشطن: الحبَل وقيل هو الحبل الطويل وإنما ذكر الربط بشطنين تنبيها على جموحه واستصعابه فإنّه لو كان لين العريكة لكفاه شطن واحد وإلى هذا المعنى التفت من قال في وصف فرس: كأنه شيطان في أشطان. وفيه (وجعل فرسه يَنَقُز) روى قوله ينقز في كتاب البخاري بالقاف والزاي المنقوطة من قولهم: قَفز يقفز قفزانا أي وَثب ويقال جاءت الخيل تَعُدو القنزى. وروى بالفاء من النفاد وفي بعض طرقه من كتاب البخاري وجعل فرسه ينزز وفي الترمذي (يركض) وينفر بالفاء أشبه بالصواب لما في كتاب مسلم (وجعل فرسه ينفر منها). وفيه أيضًا ينفز وكلا [الروايتين تبين] المراد. والاختلاف فيه من بعض الرواة. وفيه: (تلك السكينة تنزلت بالقرآن) مضى تفسير السكينة في كتاب العلم وإنما سمي تلك السحابة سكينة لسكون القلب إليها. وإظهار أمثال هذه الآيات على العباد من باب التأييد الإلهي يؤيد بها المؤمن فيزداد يقينًا ويطمئن قلبه بالإيمان إذا كوشف بها. وقوله (بالقرآن) أي لأجل القرآن أو تكون الياء للسبب وكلا القولين متقارب عن الآخر. [1462] ومنه: حديث أبي سعيد [170/ب] بن المعلى الأنصاري الزُرَقى: (كنت أصلي فدَعاني النبي عليه السلام ... الحديث) أبو سعيد هذا لا يُعرف في الصحابة إلا بحديثين أحدهما هذا وهو عند شعبة والآخر عند الليث بن سعد بإسناده عنه قال: (كنا نَغدُو إلى السوق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنمر على المسجد فنصلي فيه، فمررنا يوماً ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر فقلت لقد حَدث أمر فجلست فقرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية {قد نرى تقلب وجهك في السماء} حتى فرغ من الآية فقلت لصاحبي: تعال نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول الله فنكون أول من صلى ... الحديث) وقد رُوى ذلك عن غير أبي سعيد أيضًا وأما بيان قوله: (فما منعك أن تأتي)، فقلت: كنت أصلي فقال: (ألم يقل الله {استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} فقد مرَّ منه ما فيه غنية في بيان حديث ذي اليدين). وفيه (ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن) السورة كل منزلة من البناء ومنها القرآن؛ لأنها منزلة بعد منزلة مقطوعة عن الآخرى، أو قطعة مفردة من جملة القرآن، فكأنما أُخذ من سُور المدينة وهو حائطها المشتمل عليها تشبيها بها لكونها محيطا بها إحاطة السور بالمدينة وقول النابغة: ألم ترَ أن الله أعطَاك سورةً .... ترى كلّ ملك دونها يتَذبذبُ يريد شرفًا ومنزلة ولعلها سميت بذلك؛ لأنها المنزلة الرافعة. وإنما قال أعظم سورة اعتبارًا بعظم قدرها

وتفرّدها بالخاصية التي لم يشاركها فيها سورة ثم لاشتمالها على فوائد ومعان كثيرة مع قصرها ووجازة ألفاظها ولذلك سميت أم القرآن؛ لاشتمالها على المعاني التي في القرآن من الثناء على الله بما هو أهله ومن التعبُّد بالأمر والنهي والوعد والوعيد ثم إنها فاتحة الكتابة وفاتحة القرآن في الصلاة وهي الشافية والوافية وسورة الحمد، والحمد [أعلى] مقامات العبودية وإلى هذا المعنى أشار بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ([يدي لواء الحمد يومَ القيامة آدم ومَن [171 / أ] دونه تحت لوائي] وإنما يؤتي لواء الحمد؛ لأنه أحمد الحامدين ولا منزلة فوق ذلك ومنه اشتق اسمهُ وبه فتح كتابه وبه خُتم حاله ووصف مقامه وهو المقام الذي لا [يقوم] أحد غيره. وفيه (هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته) قَد علمنا من هذا القول أن المراد من قول الله {ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم} هو التعريف لموقع منة الله عليه بهذه السورة، ولقد سلك المفسرون في بيان الآية مسالك شتى أقومها وأسدها وأوضحها وأولادها ما ورد بمصداقه الحديث فإن قيل ففي الحديث السبع المثاني، وفي الكتاب سبعًا من المثاني فنشأ بها اختلاف بين الصيغتين إذا جعلنا (من) للبيان فإن قيل فإن كثيرًا من المفسرين ذهبوا إلى أنها للتبعيض ويؤيد هذا الوجه قول الله سبحانه: {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني} والمراد منها سائر القرآن. قلنا الحديث الصحيح الذي نحن فيه يحكم عليهم بخلاف ما ذهبوا إليه والبيان إذا صدر من صاحب التنزيل وثبت لم يبق للمفسر قول وأما ما ذكر من مفهوم الآية فليس فيه ما ينافي معنى الحديث على ما ذكرناه لأن من الجائز أن يقال للقرآن مثاني جملة واحدة وللفاتحة على الانفراد مثاني، كما قيل لها القرآن، وهي من جملته فإن قيل كيف يصح عطف القرآن على السبع المثاني وعطف الشيء على نفسه مما لا يكاد يصح؟ قلنا: ليس من باب عطف الشيء معلى نفسه وإنما هو باب ذكر الشيء بوصفين أحدهما معطوف على الآخر والتقدير آتيناك ما يقال له السبع المثاني والقرآن العظيم أي الجامع لهذين النعتين وقوله: (السبع) بيان لعدد آياتها. وقد اختلف المفسرون في تفسير المثاني، فمنهم منَ يذهب إلى أنها من التثنية. ومنهم من يذهب إلى أنها من الثنا جمع مَثناة أو مثنية صفة للآية، وقد قيل في تأويله على القول الأول أنها يثنى على مرور الأوقات: يكررّ فلا ينقطع ويدرس فلا يندرس وقيل لما يثنى ويتجدد من فوائده حالاً فحالاً وقيل: لاقتران آية الرحمة بآية العذاب وعلى هذا [171/ب]. فأقول ومما يشهد عليه القرآن من هذا القبيل وينخرط في سلك المثاني حقوق الربوبية وأحكام العبودية وبيان سبيلي السعادة والشقاوة ومصالح المعاد والمعاش وذكر الدارين ووصف المنزلين، وإن ذهب ذاهب في تأويلها إلى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (وما من آية إلاّ ولها ظهر وبطن) لم نر إلا تصويبه وأما الذي يذهب إلى أنها من الثناء فلاشتماله على ما هو ثناء على الله تعالى فكأنها تثنى على الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العُلا أو لأنها أبدًا تدعو بوصفها المعجز من غرابة النظم وغزارة المعنى إلى الثناء عليها ثم إلى من يتعلمها ويعمل بها ويتلوها ويعلمها والمثاني فيما ورد به الحديث أنها الفاتحة محتملة لوجهين سوى ما ذكرناه، أحدهما أنها: سميت مثاني؛ لأنها يكرر في الصلاة، والآخر لاشتمالها على قسمي الثناء والدعاء ويقرب عن ذلك ما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ... الحديث) وقد مر فيما تقدم مبينا مشروحًا.

[1463] ومنه: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا تجعلوا بيوتكم مقابل .... الحديث) أي اجعلوا لبيوتكم حصّةً من الذكر والتلاوة والصلاة؛ لئلا تكون كالمقابر التي تورَّط أهلُها في مهاوى الفناء فقصرت مقدرتهم عن العمل وذلك نظير قوله - صلى الله عليه وسلم -: (صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبورًا) وقد مر الحديث مبيَّن المعنى فيما تقدم من الكتاب. [1464] ومنه حديث أبي أمامة الباهلي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه اقرءوا الزهراوين ... الحديث) الزهراوين أي المنيرتين الأزهر: النيرّ. ومنه قيل للنيرين: الأزهران قلت: وفيه تنبيه على أن مكان [السورتين على ما عداهما] من سورة القرآن فيها يلوح عليهما لأولى البصائر من أنوار كلمات الله التامات مكان القمرين من سائر النجوم فيما يتشعب منهما لذوى الأبصار من النور والضياء (يأتيان يوم القيامة) أي يأتي ثوابهما الذي يستحقه التالي لهما العامل بهما، على ذلك فسره علماء السلف. وفيه (كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف)، الغياية: كل شيء أظل الإنسان فوق رأسه [172 / أ]. مثل السحابة والغبرة والمظلة ونحو ذلك (والفِرْقُ) الفلق من الشيء إذا انفلق ومنه قوله سبحانه {فكان كل فرق كالطود العظيم} وقيل للقطيع من الغنم فرق، وفرقان من طير أي: طائفتان منها. وصواف جمع صافة يقول صففت القوم إذا أقمتهم في الحرب على خط مستوٍ، وصفت الإبل قوائمها فهي صافة وصواف قال الله تعالى {فاذكروا اسم الله عليها صواف} أي قائمات. وقد صففن أيديهن وأرجلهن. وطير صواف: يصففن أجنحتهن في الهواء ومنه قوله سبحانه {والطير صافات}. وفيه (تحاجان عن صاحبهما) الأصل في المحاجة أن يطلب كل واحد من المتخاصمين أن يرد صاحبه عن حجته ومحجته وأريد ها هنا مدافعة السورتين عن صاحبهما والذب عنه. وذلك داخل في المعنى المراد من المثل المضروب؛ لأنه إنما ضرب مَثل السورتين مرة بغمامتين وكرة بغيايتين وتارة بفرقين من طير لينبه على أنهما يظلاان صاحبهما عن حر الموقف وكرب يوم القيامة، وإنما بنى الأمر في بيان المراد على الأنواع

الثلاثة ترتيبًا لطبقات أهل الإيمان وتمييزًا بين درجاتهم، فإن العباد وإن تباعدت منازلهم في العبودية واختلفت أحوالهم في علوم المعارف لا يتعدَّون عن الأقسام الثلاثة التي وقع عليها التنصيص في كتاب الله تعالى {فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات} وهم المفتونون الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئًا والأبرار والمقربون وإدخال (أو) في (غيايتان) و (فرقان) إنما كان للتقسيم؛ لأنه من قول الرسول لا من تردّد عن الرواة لا تّساق الروايات فيه على منوال واحد وعلى هذا يحتمل أنه ضرب الغمام لأدناهم منزلةً. وأرى في حديث النواس بين سمعان - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تنبيهًا على المعنى الذي نرَاه من طريق الاحتمال وذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - (أو ظلتان سودَاوَان بينهما شَرْقٌ)، وحَديث النواس هذا يتلو حديث أبي أمامة، والحديثان يتفقان في المعنى وإن اختلف بعض الألفاظ فيهما فقوله (ظُلّتان) الظلة ما يظلك وقيل: هي أول سحابة تظلك. ونرى والله أعلم - أنه إنما وصفهما بالسواد [172/ ب] لكثافتهما وارتكام البعض منهما على بعض وذلك أجدى ما يكون من الظلال في الأمر المطلوب عنها وقوله: (بينهما شرَق) فالشرق: الشمس والشرق الضوء والشرق الشَّق وكل ذلك بفتح الشين وسكون الراء وهو في الحديث محتمل لأحد الوجهين إما الضوء وإما الشق والأشبه أنه أراد به الضوء لاستغنائه بقوله: (ظلتان) عَن بيان البينونة التي بينهما فإنهما لا تسمَّيان ظلتين إلا وبينهما فاصلة فبين - صلى الله عليه وسلم - بقوله (بينهما شرق) أنهما مع ارتكامهما وكثافتهما لا تستران الضوء ولا تمحوانه ولا خفاء أن قوله (ظلتان) في حديث النواس منزل منزلة قوله (غيايتان) في حديث أبي أمامة فعلم أن الضرب الثاني أرفع وأنفع من الأول والثالث أفضل وأكمل من الثاني وذلك؛ لأن قوله: (فرقان من طير) يدل على أن صاحبهما قد بلغ من تلاوتهما والعمل بهما والفهم فيهما مَنزلةً لم يبلغها غيره فصار كل كلمة بل كل حرف منهما مستقلة بنفسها كما أن كل طائر من الفرقين مستقل بنفسها ثم إن هذه الرتبة أعنى تظليل الطير إياه وتصفيفها الأجنحة له من عجائب الأمور ونوادر الشيءون على ما شاهدناه وسمعناه. قد علمنا أن تظليل الغمام قد كان لكثير من عباد الله فضلاً عن الأنبياء بل شهدا التنزيل به لعموم بني إسرائيل في قوله {وظللنا عليهم الغمام} وأما تظليل الطير بتصفيف أجنحتها فإنها مما أكرم الله به نبيه الذي آتاه ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده وتفسير قوله: (ولا تستطيعها البطلة) قد ورد في متن الحديث وهو قول القائل أي: السَحرة وقوله: (لا يستطيعها) أي لا يؤهلون لذلك ولا يوفقون له وأراد بالأخذ من قوله (فإن أخذها بركة): المواظبة على تلاوتها والعمل بها والمصابرة على ما تستدعى إليه من مساورة النفوس ومخالفة الهوى والله أعلم. [1466] ومنه حديث أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أتدري أي آية من كتاب

الله معك أعظم ... الحديث) (أي) اسم معرب يستفهم به [وهو ملازم الإضافة] ولك أن تلحق به تاء التأنيث في إضافته إلى المؤنث ولك أن تتركها قال الله تعالى {وما تدري نفس بأي أرض تموت} وقوله (معك) وقع موقع البيان لما كان يحفظه من كتاب الله؛ لأن (مع) كلمة تدل على المصاحبة وإنما قال ذلك وإن كان أبي ممن جمع القرآن على عهد الرسالة لأحد الوجهين أحدهما: [173 / أ]. أن السؤال إنما يحسن عما يكون المسئول عنه عالماً به فكأنما قال: أي أية مما أتيت من كتاب الله أعظم؟ والآخر: أن الوحي كان ينزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا فشيئًا وأبىّ لم يكن يومئذ ليجمع منه إلا ما قد أنزل فلهذا وصَله بقوله (معك) وأما وجه عدول أُبَى في الكرة الأولى بقوله (الله ورسوله أعلم) عن الجواب وإتيانه فيه في الثانية هو أن سؤال الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الصحابي في باب العلم إنما يكون لأحد المعنيين: للحثَّ على الاستماع لما يريد أن يلقى عليه أو للكشف عن مقدار فهمه ومبلغ علمه فلَمَّا عارضه أبي بما هو حق الأدب بين يدي الله ورسوله ثم رآه لا يكتفي بذلك ويعيد إليه القول علم أنه يريد بذلك استخراج ما عنده من مكنون العلم فأجاب عنه. قلنا: وإنما كان آية الكرسي أعظم آية لاحتوائها واشتمالها على بيان توحيد الله عز وجل وتمجيده وتعظيمه وذكر أسمائه الحسنى وصفاته العُلا وكل ما كان من الأذكار في تلك المعاني أبلغ كان في باب التَدبّر والتقرب إلى الله أجل وأعظم، ألا ترى أن أسماء الله تعالى كلها عظيمة ومنها ما هو الأعظم، وذلك باعتبار ما يتناوله ويعرب عنه من الصفات ويُنّبه عليه من النعوت التي لم يَرتَع حول حمَى حقيقته المجاز، والله أعلم. [1467] ومنه: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - (وكَّلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفظ زكاة رمضان ...

الحديث) قلت هذا الحديث وما في معناه من باب التأييد الذي أيد الله به رسوله ولهذا أخبر عنه قبل أن يخبره أبو هريرة وأخبر أنه سيعود ثم أخبر في آخر الثلاثة أنه شيطان ومصادفة أبي هريرة إياه وتمكنه منه وتخليته عنه مع رده خاسئًا من غير أن ينال من حاجته شيئا كل ذلك أيضًا داخلٌ في باب التأييد بل هو أبلغ في حق من كوشف به من الأول؛ لأن أبا هريرة قد علم أنه إنما كوشف بما كوشف به ونال ما نال منه ببركة متابعته ولإخفاء أن إكرام التابع تكرمه للمتبوع أعز وأعل من إكرام المتبوع نفسه وإلى مثل هذا المعنى يذهب في قوله سبحانه وتعالى: {قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طفك فلما رآه مستقرًا عنده قال هذا من فضل ربي} فنرى فضل الله عليه بتمكين أحد أتباعه مما أراد ثم من تمكينه إياه والله أعلم. [1468] ومنه حديث [173/ب] ابن عباس - رضي الله عنه - (بينا جبريل عند النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع نقيضا من فوقه ... الحديث) بينا من ظروف الزمان وكذلك بينما ويضاف إلى جملة من المبتدأ والخبر، وإلى جملة من الفعل والفاعل ويستدعى في الصورتين جوابا كما يستدعيه (إذا) و (لما) قال الشاعر: فبينا نحن نرقبُه أتانا .... مُعَلَّق شِكْوَةٍ وزِنادِ راع والنقيض صوت المحامل والرحال وما أشبه ذلك وحقيقة الانتقاض ليست الصوت وإنما هي انتقاض الشيء في نفسه حتى يكون منه الصوت وقوله (سمع) مسندٌ إلى جبريل ويحتمل الإسناد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - على بعد فيه لما يل عليه نسق الكلام (فرفع رأسه فقال: هذا باب من السماء)؛ فهذه الأفعال الثلاثة مسندة إلى شخص واحد وإذ قد عملنا أن جبريل - عليه السلام - كان هو الذي يأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخبر السماء ويخبره عنها وعما اشتملت عليه علمنا أن المخبر عن الباب الذي لم يفتح قط هو جبريل - لا النبي لأنه كان أمين الوحي ولم يكن النبي ليخبر جبريل عن أمر السماء فعرفنا أن إسناد قوله (سمع) إلى جبريل. وفيه (فنزل منه ملك إلى الأرض) هذا قول الراوي في حكايته الحال سمعه عن النبي - عليه السلام - أو بلغه منه.

وفيه: (لن تقرأ بحرف منها إلا أعطيتها) الباء في قوله (بحرف) زائدة كقولك: أخذت بزمام الناقة وأخذت زمامها ويجوز أن يكون لإلزاق القراءة به وأراد بالحرف، والله أعلم، الطرف منها، فإن حرف الشيء طرفه وكنى به عن جملة مستقلة بنفسها أي أعطيت ما اشتملت عليه تلك الجملة من المسألة كقوله: {اهدنا الصراط المستقيم} وكقوله: {غفرانك} وكقوله: {ربنا لا تؤاخذنا} وقوله: {ربنا ولا تحمل علينا إصرا} ونظائره ويكون التأويل فيما شذَّ من هذا القبيل من حمدٍ وثناء أن يعطي ثوابه. [1469] ومنه حديث ابن مسعود ليلة أسرى برسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتهى به إلى سدرة المنتهى الحديث) قيل لها: سدرة المنتهى؛ لأن وراءها من الغيب لا يطلع عليه ملك ولا غيره. وفي الحديث: (إليها ينتهي علم الخلائق) وقيل: إليها يُنتَهى فلا يُتجاوز، يريد الملائكة والرسل. وفيه (إلا المقمحات) والذي أعتمد عليه من الرواية تخفيفها من قولهم: أقحمت الفرسَ النهرَ ومن شدَّدها جعلها من تقحيم النفس في الشيء وهو إدخالها فيه من غير روية، وفيه تعسف، لأن إسناد الفعل في التقحيم [174/أ]. إلى الذنوب غير مستقيم، إلا أن يستعمل على وجه الاتساع، والتخفيف أقوم وأسدُّ وأثبت والله أعلم. [1472] ومنه حديث أبي الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن ... الحديث). المراد منه أن سورة الإخلاص تحتوي على معانٍ من علم التوحيد تقوم من القرآن مقام الثلث من

الشيء، وفي كتاب مسلم في بعض طرق هذا الحديث من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (إن الله تعالى جزّأ القرآن ثلاثة أجزاء فجعل {قل هو الله أحد} جزء من أجزاء القرآن) وقد علمنا أن المراد من التجزئة والتقسيم هو الإشارة إلى أنواع ثلاثة من العلم يشتمل عليها الكتاب، لا المعادلة من طريق النظم والتأليف، ولا يلزم منه أيضًا المساواة في مقادير المعاني والأحكام فإنك إذا قلت جزّأ فلان ليلة ثلاثة أجزاء جزء للذكر، وجزء للتلاوة، وجزء للصلاة لم يلزم منه مساواة تلك الأجزاء ولا مساواة الأعمال الواقعة فيها فقوله: (يعدل ثلث القرآن) أي يعدل المعنى الذي هو أحد المعاني الثلاثة التي نقسم عليه جملة الكتاب في تأويل ذلك. وبيانه - والله أعلم - أن القرآن بأجمعه ينقسم إلى أقسام ثلاثة: التوحيد ويدخل فيه معرفة الأسماء والصفات والنبوات: [بطرفي] التأييد والتعليم والإخبار عما كان وعما هو كائن وعما سيكون. ولما وصف الله تعالى نفسه في هذه السورة بالوحدانية والإلهية وبأنه منزه عن المشاركة متعالٍ عن المشاكلة والمجانسة مرجوع إليه في الحوائج ما من شيء إلا وهو يحتاج إلى الله تعالى الواحد الصمّد وهو غير محتاج إلى شيء، لا أوّل لوجوده ولا ثاني لذاته، ولا نظير له في صفاته تفرد بالأزلية والقدم والبقاء السرمدي علمنا أنها محتوية على أصول علم التوحيد الذي هو أحد الأقسام الثلاثة، فرأينا أنها عدلت بثلث القرآن لذلك. (ومن الحسان) [1477] حديث عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (ثلاثة تحت العرش يوم القيامة) الحديث. قوله: (تحت العرش) عبارة عن اختصاص [هذا] الأشياء من الله بمكان لا يساميها فيه شيء [ثم] عن إلظاظها برب العالمين من إضاعتها والاستهانة بحقها والمراد من تلك الذوات، أعنى: القرآن والأمانة والرحم، ونحو ما يلزم العباد من الوفاء بما عهد الله إليهم فيه من التحفظ ورعاية تلك الأشياء والتوقي عن إِضاعتها. ولما كان القرآن [174/ب] أعزَّها مطلبا وأنفسها مغنماً وأجلَّها قدرًا وأعظمها حرمة فصل بينه وبين

المعطوف عليه بقوله (يحاجّ العباد له ظهر وبطن) وهو كلام معترض يُنبّه السامع على جلالة شأنه وامتيازه عما سواه بمعانٍ كثيرة [عمن] شاركه في المعنى المذكور في الحديث. وفيه (يحاجّ العباد) أي: يخاصمهم فيما ضيّعوه من حدوده وأحكامه ويطالبهم بما أهملوه من مواعظه وأمثاله ويجادلهم فيما حرّفوه عن وجهه بآرائهم وأبدعوا فيه من القول استنادًا لأهوائهم. وفيه (له ظهر وبطن) قيل: الظهر ما ظهر بيانه والبطن ما احتيج إلى تفسيره، وقيل: ظهره تلاوته كما أنزل، وبطنه: التدبر له والتفكر فيه، وقيل: الظهر صورة القضيّة ممّا أخبر الله تعالى من غضبه على قوم وعقابه إياهم فظاهر ذلك إخبار عنهم، وباطنه عظة وتنبيه لمن يقرأ القرآن ويسمع من الأمة وهذا وجه حسن لولا اختصاصه ببعض دون بعض، فإن القرآن متناول لجُملة التنزيل وفي حَمْل قوله (له ظهر وبطن) على الوجه الذي ذكر تعطيل لما عداه وأرَى القول الوجيز في بيانه أن يقال: ظهره: ما استوى المكلفون فيه من الإيمان به والعمل بمقتضاه، وبطنه: ما وقع التفاوت في فهمه بين العباد على حسب مراتبهم في الأفهام والعقول وتباين منازلهم في المعارف والعلوم. قلت: وإنما أردف قوله (يُحاج العباد) بقوله (له ظهر وبطن) لينبّه على أن كلا منهم إنما يطالب بقدر ما انتهى إليه من علم الكتاب وفهمه. فإن قيل: أليس القسمان الآخران داخلين في جملة الكتاب الذي عهد إليهم ربهم في التمسك به فما فائدة التثني والتثلُّث بهما، قُلنا: نعم قد وجدنا الأمانة والرحم مما أمر الله تعالى في كتابه بحفظه، وإنما ذكر على الانفراد تأكيدًا لحرمتها ومبالغة في الوصية بحفظهما ويقرب من المعنى الذي ذكرنا، ذكر الكتاب مع الأمانة فإن العبد إذا تدين بحفظ الأمانة وأدائها لم يكن ليضيع كتاب الله فإنه من أعظم الأمانات، والأمانة في قوله تعالى: {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال} مفسَّرة بأنها الواجب من حق الله تعالى والأمانة ما كان لازم الأداء من حق الله وحق العباد، ويكون بصدد أن يُخان فيه، والأمانة والخيانة نقيضان [175/أ]. يعرف أحدهما بالآخر والرحم استعيرت للقرابة بين الناس؛ لكونهم خارجين من رحم واحدة موجبة للرَّقة والحنوَّ. [1478] ومنه: حديث ابن عمر - رضي الله عنه - عن النبي - عليه الصلاة والسلام -: (يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ...) الحديث. الصحبة للشيء: الملازمة له إنسانًا كان أو حيواناً أو مكانًا أو زمانًا

ويكون بالبدن وهو الأصل والأكثر ويكون بالعناية والهمّة، وصاحب القرآن هو الملازم له بالهمة والعناية ويكون ذلك تارة بالحفظ والتلاوة وتارة بالتدبر له والعمل به. فإن ذهبنا فيه إلى الأول، فالمراد من الدرجات بعضها دون بعض والمنزلة التي في الحديث هي ما يناله العبد من الكرامة على حسب منزلته في الحفظ والتلاوة لا غير، وذلك لما عرفنا من أصل الدّين، أنّ العامل بكتاب الله المتدّبر له أفضل من الحافظ والتالي، إذا لم ينل شأوَه في العمل والتدبر وقد كان في الصحابة من هو أحفظ لكتاب الله تعالى من أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وأكثر تلاوة منه وكان هو أفضلهم على الإطلاق لبقه عليهم في العلم بالله وبكتابه وتدبره له وعمله به. وإن ذهبنا إلى الثاني وهو أحق الوجهين وأتمهما فالمراد من الدرجات التي يستحقها بالآيات سائرها وحينئذٍ تقدر التلاوة في القيامة على مقدار العمل فلا يستطيع أحد أن يتلو آية إلا وقد أقام ما يجب عليه فيها واستكمال ذلك إنما يكون للنبي (- صلى الله عليه وسلم -) ثم الأمة بعده على مراتبهم ومنازلهم في الدين كل منهم يقرأ على مقدار ملازمته إياه تدبرا وعملا وقد ورد في الحديث (إن درجات الجنة على عدد آيات القرآن) وفي هذا دليل على صحة ما ذهبنا إليه. [1481] ومنه: حديث على - رضي الله عنه - سمعت رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) يقول: (ألا إنها ستكون فتنة فقلت ما المخرج منها ...) الحديث المخرج - بفتح الميم-: موضع الخروج وهو - أيضًا - مصدر تقول: خرجت خروجًا ومخرجًا ومعنى الحديث ما السبب الموصل عند وقوع تلك الفتنة إلى التفصّى عنها والتخلص منها. وفيه (هو الفصل) قيل: ما [أراد] نعته في الحديث يقتفي نعته في الكتاب قال الله تعالى {إنه لقول فصل (13) وما هو بالهزل} الفصل هو الفاصل بين الحق والباطل [175/ب]. والهزل ضد الجد كأنما أخذ من الهزل الذي هو ضد السمن تقول هُزلت الدابة هُزالاً - على ما لم يسم فاعله - وهزلتها فهي مهزول. وحقيقة المراد من الهزل هو القول العرىّ عن المعنى المرضى، والكلام الخالي عن القواعد المطلوبة. وفيه (من تركه من جبار قصمه الله) الجبار في صفة الإنسان لا يقال إلا على طريق الذم، فإنما يُوصف به إما لأنه يجبر نقيصته بادَّعاء منزلة من التعالي لا يستحقها، أو لأنه يذهب بنفسه على التعالي عن قبول الحق والإذعان له.

والقصم: الحَطم والكسر، ومنه رجل قًصمٌ: يَحطم ما لقى يقول الله تعالى: {وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة} أي حطمناها وهشمناها وذلك عبارة عن الهلاك ويسمى الهلاك قاصمة الظهر. وفيه (وهو حبل الله المتين) الحبل يستعار للوصل ولكل ما يتوصل به إلى شيء فحبل الله هو الذي إذا توصل به المتمسك أداه إلى [جوار القوى ........]. وفيه (وهو الذكر الحكيم) الذي ذكر من أسماء القرآن قال الله تعالى {أؤنزل عليه الذكر من بيننا} سمى به؛ لأنه لا يزال يذكر ويذكر به المنزل عليه والمؤمن به والعامل والتالي فيفيده [التثبيت] ويكسبِه [الزين] قال الله تعالى: {ص والقرآن ذي الذكر} أي ذي الصّيت والشرف، ولفظ الحكيم دال على معنيين: المحكم نحو {أُحكمت آياته}، والمتضمن للحكمة فهو محكم ومفيد حكمة. وفيه (لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة) أي لا تميل به الأهواء المضلة عن نهج الإستقامة وذلك إشارة إلى تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين (ولا تلتبس به الألسنة) أي لا تصرفه وتُغيّره عما هو عليه فيختلط كلام الرب بكلام المربوبين ويلتبس الحق بالباطل. والالتباس: الاختلاط والاشتباه ومعنى الفصل راجع إلى بيان ما تكفل الله به لنبيه من صيانة هذا الكتاب عن التحريف والإضاعة قال الله سبحانه: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا لحافظون}. وفيه (لا يخلق عن كثرة الرد) خلُق الشيء - بالضم - خلوقة أي: بلى، [وكذا في المضارع] وأخلق الثوب مثله. والذي نعرفه من طريق الرواية فتح الياء وضم اللام، وضم الياء وكسر اللام منه صحيح من طريق اللغة ولم نَدرِ أوردت به الرواية أم لا. وأراد (بكثرة الرد) كثرة [176/أ] ترداده على ألسنة التالين وآذان السامعين كرَّةى بعد أخرى والمعنى لا يذهب رونقه كثرة الاستعمال فلا يزال غضّاً طريّاً كما أنزل لا [تَمجّه] الآذان، ولا تسأم منه القلوب، كالذي يكون من كلام الناس. وهذه إحدى الآيات المشهودة عن هذا الكتاب الكريم المبارك. [1483] ومنه: حديث عقبه بن عامر (رضي الله عنه) عن النبي عليه السلام: (لو كان القرآن في إهاب ما مسَّته النار) المعنى لو قدّر أن يكون القرآن في إهاب ما مست النار ذلك الإهاب لبركة مجاورته القرآن فكيف بالمؤمن الذي تولى حفظه وقطع بتلاوته ليله ونهاره. والإهاب: الجلد الذي لم يُدْبَغ. وإنما ضرب

المثل به - والله أعلم - لأن الفساد إليه أسرع ونفج النار فيه أنفذ ليبسه وجفافه، وقد رأينا في الشاهد أن الجلد الذي يدبغ يفسده وهج الشمس بأدنى ساعة ويخرجه عن طبعه، ورأينا المدبوغ يقوى على ذلك للينه ثم إن الإهاب أشبه شيء في المماثلة بمسلاخ الإنسان المكتنف بدنه فصار التمثيل بالإهاب أبلغ في المعنى المراد منه للوجهين. والمراد من النار المذكورة في هذا الحديث نار الله الموقدة المميزة بين الحق والباطل التي لا تطعم إلا الجنس الذي بعد عن رحمة الله دون النار التي نشاهدها فهي وإن كانت محرقة بأمر الله وتقديره أيضا فإنها مسلطة على الذوات القابلة للحرق لا تنفك عنه إلا في الأمر النادر الذي ينزع الله فيه الحرارة عنها أو يدفعها كما كان من أمر خليل الرحمن صلوات الله عليه. [1486] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة: (ومثل من تعلمه فرقد وهو في جوفه كمثل جراب أوكئ فأوكئ علينا أي: بخل ولما كان هذا الذي آتاه الله من فضله فوفقه لاستظهار كتابه نام عن تلاوته والقيام به، وبشكره ضرب له المثل بجراب المسك الذي يؤكئ عليه صاحبه أي يشد عليه بالوكاء فلا تفوح ريحه فيكون قد ضيع فائدته في حق نفسه، وبخل به على غيره ولم يكن ذلك لينقصه شيئا بل يكسبه حمدا وثوابا. [1488] ومنه: حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه - عن النبي (عليه السلام): (إن الله كتب كتابا قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام وأنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة) [176/ب].

معنى ذلك - والله أعلم - أنه ثبت ذلك في اللوح المحفوظ أو غير ذلك من مطالع العلوم الغيبية وفي أكثر نسخ المصابيح بل في سائرها الحديث إلا ما أصلح (أنزل فيه آيتين) والرواية (أنزل منه) أي: أنزل من جملة الكتاب المذكور آيتين ختم بهما سورة البقرة فإن قيل كيف يصح حمل ذلك الكتاب على اللوح المحفوظ وقد ذكر أنه كتب قبل خلق السموات والأرض بألفي عام. وفيه في الحديث الصحيح الذي يرويه عبد الله بن عمرو: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة). وهو محمول عند الأكثرين على أنه كتب في اللوح المحفوظ فإن كل كائن مكتوب فيه. قلنا: وقد ذهب بعض أهل التفسير إلى أن أم الكتاب غير اللوح المحفوظ وعلى هذا فلقائل أن يقول كتب في أم الكتاب ثم أبرز بعده في اللوح المحفوظ. قلت: وهذا قول لا حقيقة له عندنا فالأولى أن لا نتبعه بالظن والتخمين بل نقول: إن كان الكتاب المذكور في حديث نعمان بن بشير غير الذي في حديث عبد الله بن عمرو فالأمر فيه بين، فإن كانت الإشارة في الحديثين إلى كتاب واحد فالوجه فيه أن نقول اختلاف الزمانين في إثبات الأمرين لا يقتضي التناقض بين الحديثين؛ لأن من الجائز أن لا يكون مظهر الكوائن في اللوح المحفوظ دفعة واحدة بل ثبتها الله شيئا فشيئا، ويكون المراد في هذا الحديث نوعا مكتوبا في اللوح من الأنواع المكتوبة فيه فيكون أمر المقادير على ما [ذكروا من] النوع الذي أنزل فيه آيتين على ما [ذكر]. فإن قيل: كل ما أخبر عنه الرسول (- صلى الله عليه وسلم -) لابد وأن يكون خبره به متضمنا لفائدة فما فوقها. فما الفائدة التي يتضمنها هذا الخبر؟ قلنا: تعريفه إيانا فضل الآيتين؛ فإن سبق الشيء بالذكر على سائر أنواعه وأجناسه يدل على فضيلة مختصة به من بين تلك الأجناس والأنواع، ومن هذا القبيل قوله (- صلى الله عليه وسلم -) (إني عبد الله في أم الكتاب وإن آدم لمنجدل في طينته) أي كنت مذكورا في أم الكتاب قبل خلق آدم ولم يرد بذلك أنه ذكر في أم الكتاب يومئذ وإنما أراد به أنه كان مذكورا قبل خلق آدم. وبقي الأمر [177/أ] فيه على الاحتمال أن يكون ذلك السبق من [معاني تمييزه] وبأحقاب كثيرة أو بما بين ذلك وهذا الحديث - أعني [الحديث] نعمان بن البشير - يدل على أنه كان مذكورا قبل خلق السموات والأرض بألفي عام، سوى ما يحتمله من الزيادة؛ لأن التنزيل يتضمن ذكر المنزل عليه ويبين خصيصاه بتلك الكرامة. وحديث [أبي هريرة] الذي في هذا الباب عن النبي (- صلى الله عليه وسلم -) (إن الله تعالى قرأ طه ويس قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام) لو ثبت لم نحتج فيما ذكرناه إلى حجة أخرى؛ لأن الله تعالى إذا أظهر شيئا من الكتاب الذي قدر إنزاله على عبده وأبرزه لحملة عرشه والطائفين حوله فقد رفع ذكر ذلك المنزل عليه ونوه باسمه لا سيما وفيه ذكره وحجته وبيان ما أرسل به ومن عليه به غير أن في إسناده مقالا. فإن قيل: ولو ثبت أو ليس ما في السورتين من ذكر غيره من الأنبياء ينقض عليكم تلك [القالة] قلنا: لو ثبت الحديث فلا خفاء بأن ذكر المذكورين فيهما من الأنبياء تبع لذكره وإذا كان ذكره هو الأصل وذكر غيره كالفرع له لم ينقض ذلك ما استبنينا عليه القول، وإن لم يثبت فنحن في غنية من الاستدلال به لما ورد في هذا الباب من الدلائل في أحاديث الإثبات.

فإن قيل: أو ليس الكتاب الذي كتب الله [فيه] المقادير آتيا على ذكر ما هو كائن إلى يوم القيامة من ملك وجن وإنس، فكيف يتصور منه سابقة ذكر؟ قلنا: إنما كان ذلك لبيان علم الله بالمخلوقات التي أراد خلقها ونفوذ قضائه فيها، ولم يكن هناك ملك ولا جن ولا إنس حتى يذكر أحد منهم على وجه الشرف والفضل، فإن هذا النوع من الذكر إنما يوجد مع وجود سامع من الخلق ولم يكن هناك سامع. والدليل على ذلك حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - عن النبي (- صلى الله عليه وسلم -) (إن أول ما خلق الله القلم فقال: اكتب. فقال: ما أكتب قال: القدر ما كان وما هو كائن [إلى الأبد]) وقد أخرجه أبو داود وأبو عيسى في كتابيهما، والذي ذكرناه أنه يدل على: أن الفضيلة الخاصة إنما كان لبيان شرف المذكور وبيان درجات المصطفى من عباده وبيان ما أيد به. [177/ب] من الوحي وبيان ما بينه وبين غيره من الكتب المنزلة من التفاوت في الفضل فأسمع به من خلق حينئذ من أهل طاعته، وأطلعهم تنويها باسمه وتعظيما لقدره؛ إذ قد علمنا من مورد الخطاب وفصله أن الشارع إنما ذكر ذلك عن التنزيل وعن نفسه أنه كان عبد الله في أم الكتاب لبيان ما خوله الله وأنعم به عليه وأكرم به وجهه من الشرف والفضل ولا محمل له غير ذلك، وهذا هو الفرق بين الأمرين. فإن قيل: وما يدريك أن لا يكون الكتب المنزلة قبل القرآن مشاركة له في سابقة الذكر. قلنا: أعظم تلك الكتب وأبسطها [بيانا] وأكثرها إحكاما وأوفرها اتباعا على ما انتهى إلينا من أخبار الأمم (التوراة) وقد عرفنا صحة ذلك من فصل الخطاب فيما نتلوه من كتاب ربنا ونرويه من سنة نبينا، وقد علمنا بالحديث الصحيح أن التوراة قد تأخر في سابقة الذكر عن القرآن بما لا يضبط ولا يحصى من الأعوام والأحقاب، فغيره أولى أن يكون في ذلك على مثل حال التوراة أو دونه والحديث هو الذي يرويه عمر بن الخطاب وأبو هريرة وجندب البجلي - رضي الله عنهم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في محاجة آدم وموسى وفيه: (فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق؟ قال: بأربعين عاما). ولقد أسهبنا في المقال في بيان هذا الحديث وكان القصد فيه بيان جملة كثيرة من السنن يتهيأ بيانها على هذا المنوال والله أعلم. [1490] ومنه: حديث أنس - رضي الله عنه - عن النبي - عليه السلام: (إن لكل شيء قلبا وقلب القرآن يس) أراد بكل شيء الجنس الذي يصح إضافة القلب إليه، إما صورة أو معنى، فإن القلب يستعمل في كلامهم على وجوه كثيرة منها قلب الإنسان يعبر به عن المعاني المختصة من الروح والعلم والفهم والعقل والشجاعة وغير ذلك ومنها قلب الجيش وقلب العقرب وقلب الشجر. ولما كان القلب لب الإنسان استعمل القلب في لب الأشياء، فقيل: قلب النخلة أي لبها وقولهم: هو عربي قلبا أي خالص. ومنه الحديث: كان علي قرشيا قلبا وقد فسره أبو عبيد فقال: فطنا فهما.

وقوله: (قلب القرآن يس) أي: لبه وذلك لاحتواء تلك السورة مع قصر نظمها وصغر حجمها على الآيات الساطعة والبراهين القاطعة والعلوم المكنونة والمعاني الدقيقة والمواعيد الرغيبة والزواجر البالغة والشواهد البليغة والإشارات الباهرة وغير ذلك مما لو تدبره المؤمن العليم لصدر عنه بالري ومع الري كان كالذي لم ينهل من السبيل إلا زبدا ولم يسمع من البحر إلا خبرا. وهذا الحديث مخرج في كتاب أبي عيسى وفي إسناده عن هارون أبي محمد عن مقاتل بن حيان وهارون هذا لا يعرفه أهل الصنعة في رجال الحديث فهو نكرة لا يكاد يتعرف. [1498] ومنه حديث ابن عباس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا زلزت تعدل نصف القرآن) إن

صح الحديث فالوجه فيه أن نقول جملة ما يجب علينا القول به والعمل بمقتضاه من كتاب الله ينقسم إلى قسمين: قسم يتعلق بهذه الدار، وقسم يتعلق بالدار الآخرة. ولما كانت هذه السورة آتية على جمل ما سيكون بعد الساعة عدلت من طريق المعنى بنصف القرآن. وإنما قلنا: إن صح الحديث لما في إسناده من الوهن فإن أبا عيسى أخرجه في كتابه وهو من مفاريده وفي إسناده يمان بن المغيرة. أبو حذيفة العنزي وهو ضعيف، وقد ذكره البخاري وقال: هو منكر الحديث ونحن لم نعرف لهذا الحديث سنادا سوا هذا، ثم إنه يخالف حديث أنس وهو حديث حسن أخرجه أبو عيسى في جامعه ولفظه (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل من أصحابه: هل تزوجت يا فلان فقال: لا والله يا رسول الله ولا عندي ما أتزوج به قال: أليس معك {قل هو الله أحد}؟ قال: بلى. قال: (ثلث القرآن). قال: أليس معك: {إذا جاء نصر الله والفتح} قال: بلى. قال: (ربع القرآن) قال: أليس معك {قل يا أيها الكافرون} قال: بلى. قال: (ربع القرآن) قال: أليس معك {إذا زلزت} قال: بلى. قال: (ربع القرآن) قال: (تزوج تزوج).) وهذا أولى الحديثين [القبول] وتأويل قوله: {إذا زلزلت} (ربع القرآن) والله أعلم أن نقول من طريق الاحتمال: إن القرآن كله يشتمل على أحكام الشهادتين في التوحيد والنبوة وعلى أحوال النشأتين وذلك أقسام أربعة و {إذا زلزلت} تشمل إجمالا على ما يلقاه الإنسان في النشأة الآخرة وعلى هذا

التقسيم نبني القول في {قل يا أيها الكافرون} أنها ربع القرآن لما فيها من البراءة من الشرك والتدين بدين الحق، وهذا هو التوحيد الصرف؛ لهذا قرنت في معنى الإخلاص بـ {قل هو الله أحد} قال جابر في الحديث الصحيح الذي رواه عنه محمد بن جعفر (قرأ - عني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[178/ب]- في ركعتي الطواف بسورتي الإخلاص) هذا، ونحن وإن سلكنا هذا المسلك بمبلغ علمنا نعتقد ونعترف أن بيان ذلك على الحقيقة إنما يتلقى من قبل الرسول (- صلى الله عليه وسلم -) فإنه هو الذي ينتهى إليه في معرفة حقائق الأشياء والكشف عن خفيات العلوم، فأما القول الذي نحن بصدده ونحوم حوله على مقدار فهمنا وإن سلم من الخلل والزلل لا يتعدى عن ضرب من الاحتمال. [1504] ومنه حديث عقبة بن عامر في حديثه (بين الجحفة والأبواء ...) الجحفة مسهل أهل الشام.

وسيذكر في المواقيت. والأبواء: قرية من عمل الفرغ من المدينة بينها وبين الجحفة ثلاثون أو عشرون ميلا سميت بذلك لتبوء السيول بها. ومن الفصل الذي يليه [1507] منه حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - عن النبي (- صلى الله عليه وسلم -): (تعاهدوا القرآن ...) الحديث. قد ذكرنا فيما مضى أن التعهد والتعاهد هو التحفظ بالشيء وتجديد العهد به ومعناه - هاهنا - التوصية بتجديد العمل بقراءته؛ لئلا يذهب عنه وفي معناه (استذكروا القرآن): أي تفقدوا القرآن بالذكر وهو عبارة عن استحضاره في القلب وحفظه عن النسيان بالتلاوة وهو في رواية ابن مسعود وفيه (لهو أشد تفصيا من الإبل في عقلها). التفصي من الشيء التخلص منه. تقول من الديون: إذا خرجت منها، وعقل جمع عقال مثل كتب وكتاب يقال: عقلت البعير أعقله عقلا وهو أن يثنى وظيفه مع ذراعه فيشدهما جميعا في وسط الذراع وذلك الحبل هو العقال. ويجوز تخفيف الحرف الأوسط في الجمع مثل كتب وكتب والرواية فيه من غير تخفيف وتقدير الكلام: لهو أشد من الإبل تفصيا من عقلها. والمعنى أن صاحب القرآن إذا لم يتعاهده بتلاوته والتحفظ والتذكر حالا فحالا إلا كان أشد ذهابا من الإبل إذا تخلصت من العقال فإنها تنفلت حتى لا تكاد تلحق. [1511] ومنه الحديث: سئل أنس - رضي الله عنه - عن قراءة رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) فقال: (كانت مد) أي ذات مد، والمراد منه تطويل النفس في حروف المد واللين عند الفصول والغايات وفي غير ذلك مما يحسن دونه المد وفي كتاب البخاري (كان يمده مدا). وفي رواية: (كان مدا) أي: كان يمده مدا وفي المصابيح كانت على ما ذكرتا، ولم نطلع عليه رواية، وفي أكثر النسخ قيده (مداء) على زنة فعلاء أي كانت قراءته مداء. والظاهر أنه قول على التخمين ممن تخبط فيه بخبط [179/أ] العشواء. [1512] ومنه: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي (- صلى الله عليه وسلم -): (ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن) أي ما استمع وذلك عبارة عن حسن موقعه عند الله، فإن الكلام إذا وقع موقع القبول عبر عنه بالاستماع، وكذلك الدعاء إذا بلغ مبلغ الإجابة، ومنه قوله (سمع الله لمن حمده) وأذن الله له أذنا - بفتح الهمزة والذال في المصدر - أي: استمع قال قعنب بن أم صاحب: صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به .... وإن ذكرت بشر عندهم أذنو في كتاب أبي داود (ما أذن لنبي حسن الصوت) ومنه الحديث (ما بعث [لنبي] حسن الصوت) وهذه

الزيادة ما أراها وردت مورد الاشتراط لإذن الله، بل وردت مورد البيان؛ لكون كل نبي حسن الصوت ومنه الحديث (ما بعث الله نبيا إلا حسن الوجه، حسن الصوت). وفيه (يتغنى بالقرآن) ذهب كثير من أهل العلم فيه إلى معنى الإعلان ويدل عليه قوله (يجهر به) فإن ذلك كالتفسير له وقد روي عن أبي عاصم النبيل أنه قال: أخذ ابن خديج بيدي فأوقفني على أشعب الطماع، فقال: غن ابن أخي ما بلغ من طمعك. أي أخبرنا به معلنا غير مسر وفي معناه قول (ذو) الرمة: أحب المكان القفر من أجل أنني .... به أتغنى باسمها غير معجم أي أفصح باسمها وأعلن به غير مخفت، وأراد بالقرآن هاهنا الجنس الذي يتلى من كتب الله المنزلة. [1514] ومنه: حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - عن النبي (- صلى الله عليه وسلم -): (ليس منا من لم يتغن بالقرآن). قلت: قد ذهب بعضهم في معناه إلى ترديد الصوت وتزيينه بالنغمات، وهذا - وإن اقتضاه اللفظ - فإن أول الحديث يمنع عنه لأن قوله: (ليس منا) من باب الوعيد أي ليس من أهل سنتنا وممن يتبعنا في أمرنا، ولا خلاف بين الأمة أن قارئ القرآن مثاب على قراءته مأجور من غير تحسين منه صوته فكيف نعلمه مستحقا للوعيد وهو مثاب مأجور فأحسن ما يذهب إليه في المعنى إما الإعلان والإفصاح به ونجعله تبعا للإقرار بتوحيد الله تعالى ونبوة أنبيائه ويجعل الجهر به والإشادة بذكره في شعار الإسلام وإقامته [179/ب] كالإعلان بالشهادتين في صحة الإيمان وإما الاستغناء قال الأعشى: وكنت امرأ زمنا بالعرا .... ق عقيف المناخ طويل التغني وقال ابن الأعرابي: إن العرب كانت تتغنى بالركباني إذا ركبت الإبل وإذا جلست في الأفنية وعلى أكثر أحوالها فلما نزل القرآن أحب النبي (- صلى الله عليه وسلم -): أن يكون هجيراهم القرآن مكان الركباني وهذا الوجه راجع أيضا إلى أحد المعنين: إما رفع الصوت به وإما الاستغناء به عما يخالفه ويتعداه من الأحاديث، فإن قيل: أو ليس في الحديث (زينوا أصواتكم بالقرآن). قلنا: نعم ونحن لا ننكر تحسين الصوت بالقراءة والترديد فيه على وجه لا يخل بنظام الكلام ولا يقطع

اللفظ ولا يزيل الحروف عن أماكنها وقد حمد النبي - صلى الله عليه وسلم - قراءة أبي موسى فقال: (أوتي مزمارا من مزامير آل داود) وروي عن أبي موسى أنه قال: لو علمت أنك تستمع إلى قراءتي لحبرتها لك تحبيرا أو كما قال. ومن أوضح الدلائل على استحباب ذلك واحتساب الأجر فيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: (زينوا أصواتكم بالقرآن) وسنبينه في موضعه - إن شاء الله - وإنما عدلنا عن هذا الوجه في تأويل حديث سعد للعلة التي ذكرناها، فأما في حديث أبي موسى (كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن) فإنه يحتمل أن يأول على رفع الصوت به للإعلان وعلى تحسين الصوت وترديده وحمله في حديث أبي موسى على الاستغناء غير مناسب لنظم الحديث. [1516] ومنه: حديث أنس - رضي الله عنه - قال النبي - عليه السلام - لأبي بن كعب: (إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن ...) الحديث. يوجد القراءة على الشخص من وجهين قراءة تعليم وقراءة تعلم وكان قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - على أبي قراءة تعليم فقرأ عليه ليكون هو أضبط لما يلقى إليه ثم ليأخذ عنه صيغة التلاوة ويتعلم حسن الترتيل والتأدية كما يأخذ عنه نظم التنزيل ويتعلم، ولم يكن ذلك ليتهيأ له إلا بقراءة الرسول وإنما خص به أبي لما قيض له من الأمانة في هذا الشأن فأمر الله نبينه أن يقرأ عليه ليأخذ هو عنه رسم التلاوة كما أخذه نبي الله عن جبريل [180/أ]. ثم يأخذه على هذا النمط الآخر عن الأول، والخلف عن السلف وقد أخذ عن أبي - رضي الله عنه - بشر كثير من التابعين وهلم جرا). (ومن الحسان) [1518] حديث أبي سعيد الخدري (فجلس وسطنا ليعدل فينا بنفسه) أي ليجعل لنفسه عديلا ممن جلس إليهم ويسوي بينه وبين أولئك الزمرة في المجلس رغبة فيما كانوا فيه وتواضعا لربه سبحانه وتعالى. وفيه (يا معشر الصعاليك). الصعلوك الذي لا مال له وصعاليك العرب ذوبانها وكان عروة بن

الورد يسمى عروة الصعاليك؛ لأنه كان يجمع الفقراء في حضيرة وكان يجري عليهم مما يغنمه. وصعاليك المهاجرين: فقراؤهم. [1519] ومنه: حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - عن النبي (- صلى الله عليه وسلم -): (زينوا القرآن بأصواتكم) أي زينوا أصوتكم به كذا فسره كثير من العلماء وقالوا: إنه من المقلوب الذي كانت العرب تستعلمه في كلامهم كقولهم: إذا طلعت الشعرى واستوى العود على الحرباء أي: استوت الحرباء عليه. وأنشد الأخفش: وتلحق خيل لا هوادة بينهم .... وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر أراد وتشقى الضياطرة بالرماح فقلبه وهذا السياق الذي أورده مؤلف الكتاب رواية الأعمش عن طلحة بن عبد الرحمن بن عوسجة عن البراء، وقد رواه معمر عن منصور عن طلحة عن البراء عن النبي (- صلى الله عليه وسلم -): (زينوا أصواتكم بالقرآن) وهي أولى الروايتين وأرضاهما، وروى الخطابي عن ابن الأعرابي عن عباس الدوري عن يحيى بن معين عن أبي قطن عن شعبة أنه قال: نهاني أيوب أن أحدث: (زينوا القرآن بأصواتكم) والمعنى: ارفعوا به أصواتكم واجعلوا ذلك هجيراكم ليكون ذلك زينة لها وقد اغتر بظاهر هذا الحديث أقوام عدل بهم الهوى عن منهج الحق فتاهوا في [بحارة] الإفراط فتدرجوا في تحسين الصوت مع التجويد إلى [التزيد] في الألحان والأخذ بكتاب الله مأخذ الأغاني وكان أول من قرأ بالألحان على ما بلغنا عبيد الله بن أبي [بكرة] وكان يقرأ قراءة حزن فورثه منه ابن ابنه عبيد الله بن عمر بن عبيد الله وإليه تنسب قراءة العمري وأخذ عنه الأباضي ثم أخذ عن الأباضي [180/ب] سعيد العلاف، وكان الهشيم وأبان وابن أعين يدخلون في القراءة من ألحان الغناء والحداء. والقراءة على الوجه الذي يهيج الوجد في قلوب السامعين، ويورث الحزن ويجلب الدمع - مستحب ما لم يخرجه التغني عن التجويد، ولم يصرفه عن مراعاة النظم في الكلمات والحروف؛ فإذا انتهى إلى ذلك عاد الاستحباب فيه كراهة وأما الذي أحدثه المتكلفون، وأبدعه المرتهنون بمعرفة الأوزان وعلم الموسيقى؛ فيأخذون في كلام الله مأخذهم في النشيد والغزل [والمرثوات] حتى لا يكاد السامع يفهمه من كثرة

النغمات والتقطيعات - فإنه من أشنع البدع، وأسوأ الأحداث في الإسلام؛ ونرى أدنى الأقوال وأهون الأحوال فيه أن توجب على السامع النكير، وعلى التالي التعزيز. [1523] ومنه: حديث يعلى بن مملك أنه سأل أم سلمة - رضي الله عنها - عن قراءة النبي ? فإذا هي تنعت قراءة مفسرة حرفا حرفا) المراد منه حسن الترتيل والتلاوة على نعت التجويد، وأما الرواية الأخرى: أنه كان يقطع قراءته يقول: الحمد لله رب العالمين ثم يقف، ثم يقول: الرحمن الرحيم، ثم يقف - فإنها ليست بسديدة في السنة، ولا بمرضية في اللهجة العربية؛ بل هي صيغة لا يكاد يرتضيها أهل البلاغة وأصحاب اللسان؛ فإن الوقف الحسن ما اتفق عند الفصل والوقف التام من أول الفاتحة عند قوله: {مالك يوم الدين}، وكان ? أفصح الناس لهجة، وأتمهم بلاغة؛ حتى صدر عن سوره كل بليغ بالرى، وقد استدرك الرواي ذلك بقوله: والأول أصح. ومن الفصل الذي فيه أورد المؤلف في هذا الفصل أحاديث. وفيها ما يفتقر إلى البيان. [1525] كقوله في حديث عمر وهشام بن حكيم رضي الله عنهما: (إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف) وقد مر بيان ذلك في كتاب العلم، مستوفى، فليراجعه المفتقر إليه. [1527] ومنه قول أبي - رضي الله عنه - في حديثه: (فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في

الجاهلية)؛ يريد أنه كان أعظم في نفسي مما كنت عليه في الجاهلية؛ وإنما استعظم الحالة التي ابتلى بها فوق ما استعظم حالته الأولى؛ لأن الشك الذي [181/أ] يداخله في أمر الدين ورد على مورد اليقين، والنكرة بعد المعرفة أطم وأظلم. وفيه: (ففضت عرقا) إسناد الفيضان إلى نفسه وإن كان مستدركا بالتمييز فإن فيه إشارة إلى أن العرق فاض منه حتى كأن النفس فاضت معه. ومثله قول القائل: سالت عيني دمعا. وفيه (كأنما أنظر إلى الله فرقا)، والفرق بالتحريك: الخوف، أي أصابني من خشية الله والهيبة منه فيما قد غشيني ما أوقفني موقف الناظر إلى الله إجلالا وحياء، والله أعلم.

كتاب الدعوات

ومن كتاب الدعوات (من الصحاح) [1531] حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم إني أتخذ عندك عهدا لن تخلفنيه ....) الحديث، العهد ههنا: الأمان؛ قال الله تعالى: {لا ينال عهدي الظالمين}، والمعنى: أسألك أمانا لن تجعله خلاف ما أترقبه وأرتجيه؛ بأن تجعل ما بدر مني مما يناسب ضعف البشرية، إلى مؤمن من أذية أنحو بها نحوه، أو دعوة أدعو بها عليه - قربة تقربه بها إليك، (فإنما أنا بشر أتكلم في الرضا والغضب)، وفي غير هذه الرواية: (اللهم إنما أنا بشر، آسف كما يأسفون) أي: أعضب كما يغضبون، (فلا آمن أن أدعو على مسلم فيستضر به). وهذه هي الرأفة التي أكرم الله بها وجهه حتى حظي بها المسيء، فما ظنك بالمحسن؟! قال الله تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص

عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} وقال: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}. قلت: وإنما وضع الاتخاذ موضع السؤال تحقيقا للرجاء، بأنه حاصل، إذ كان موعودا بإجابة الدعوة، ولهذا قال: (لن تخلفنيه) أحل [العهد] المسئول محل الشيء الموعود؛ ثم أشار إلى أن وعد الله لا يتأتى فيه الخلف، فإن الألوهية تنافيه، وفيه: (صلاة وزكاة) صلاة: أي رحمة ورأفة، يخصه بها، والصلاة ترد بمعنى الحنو والتعطف، ووضع ههنا موضع الترحم والرأفة؛ قال الله تعالى: {أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة} جمع بينها وبين الرحمة ليفيد معنى التكرار؛ أي كرة بعد أخرى، قال كعب بن مالك، رضي الله عنه: صلى الإله عليهم من فتية .... وسقى عظامهم الغمام المسبل وزكاة: أي طهارة لهم من الذنوب، ونماء وبركة في الأعمال. [181 م/ب]. [1537] ومن الحسان حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الدعاء هو العبادة) ثم قرأ: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} .. الآية. قلت: ذكر الآية بعد الحديث على وجه البيان له؛ لأن في الآية الأمر بالدعاء، والقيام بحكم الأمر هو العبادة، والعبد إذا سأل ربه وشكا إليه ضره، ورفع إليه حاجته فقد علم أن ربه مرغوب إليه في الحوائج، ذو قدرة على ما يشاء، وعلم أنه عبد ضعيف لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، واعترف بالفقر والفاقة والذلة لمن يدعوه فلذلك قال: (هو العبادة) ليدل على معنى الاختصاص، كما تقول لمن يحمي الحقيقة: هو الرجل، ثم أنه إذا رأى إنجاح الأمور من الله قطع أمله عمن سواه، ودعاه لحاجته موحدا، وهذا هو الأصل في العبادة. فإن قيل: قال الله تعالى: {ادعوني أستجب لكم}، وقد يدعى فما يستجيب فما وجه الآية؟ قلنا: المراد من الدعاء في الآية هو المستجمع لشرائطه؛ وقال بعض العلماء: (ادعوني أستجب لكم) أي بحسب نظري لكم، ورحمتي بكم؛ لا بحسب أمانيكم، ولا أهوائكم، صحت أو فسدت، حقت أو بطلت؛ لأن هذه الآية غير منفردة في القرآن عن أخرى فيها تبيانها، وهي قوله تعالى: {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن}، وقوله: {ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا}. فربما دعا الإنسان ما يتضمن شرا ولا يشعر به، فدل الآيتان على أنه يستجيب الدعاء المستجمع بشرائطه. وفي معنى هذا الحديث حديث أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الدعاء مخ العبادة) فإن مخ الشيء خالصه، ومخ العظم نقيه، وكذلك مخ الدماغ، ومخ العين شحمها.

[1539] ومنه: حديث سلمان - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يرد القضاء إلا الدعاء .. الحديث). القضاء: الأمر المقدور، والذي يهتدى إليه من تأويل هذا الحديث وجهان: أحدهما أن نقول: أراد بالقضاء ما يخافه العبد من نزول المكروه، ويتوقاه، فإذا وفق العبد للدعاء دفع الله عنه ذلك، ويكون تسميته بالقضاء على المجاز والاتساع على حسب ما يعتقده المتوقى عنه، ويزيد هذا المعنى وضوحا حديث أبي خزامة عن أبيه: يا رسول الله! أرأيت رقى نسترقيها، وتقاة نتقيها، ودواء نتداوى به، أيرد ذلك من قدر الله شيئا؟ قال: (هي من قدر الله). ثم إنا نقول: كما لم يحسن منهم ترك التداوي [182/أ] مع إيمانهم بالقدر - لم يجز لهم ترك الدعاء وقد أمر الله به، مع علمهم بأن المقدور كائن؛ لأن حقيقة المقدور وجودا وعدما مخفية عنهم. والآخر أن نقول: إن كان المراد من القضاء الحقيقة فالمراد من الرد تهوينه وتيسير الأمر فيه؛ حتى يكون القضاء النازل كأنه لم ينزل، وقد كنت معنيا بهذا التأويل من غير أسوة، حتى اطلعت على نحوه من أقاويل أهل العلم، منهم أبو حاتم السجستاني، ويدل على صحة هذا التأويل.

ومنه حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل) أي: فيسهل عليه تحمل ما نزل به من البلاء فيصبره عليه أو يرضيه به؛ حتى لا يكون في نزوله متمنيا بخلاف ما كان مما لم ينزل، بأن يصرفه عنه، أو يمده قبل النزول بتأييد منه، يخفف معه أعباء ذلك إذا نزل به. [1546] ومنه حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة). يؤول هذا الحديث من وجهين: أحدهما أن يقال: كونوا أوان الدعاء على حالة تستحقون معها الإجابة، وذلك بإتيان المعروف، واجتناب المنكر، وغير ذلك من مراعاة أركان الدعاء وآدابه؛ حتى لا تكون الإجابة على قلبه أغلب من الرد، وقد مر نظير هذا القول في تأويل قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله). والآخر أن يقال: أراد: ادعوه معتقدين لوقوع الإجابة؛ لأن الداعي إذا لم يكن متحققا في الرجاء لم يكن رجاؤه صادقا، وإذا لم يكن الرجاء صادقا لم يكن الدعاء خالصا، والداعي مخلصا؛ فإن الرجاء هو الباعث على الطلب، ولايتحقق الفرع إلا بتحقق الأصل. [1548] ومنه: حديث سلمان - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إن ربكم حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرا) أي لا يفعل ذلك؛ لأن المعهود أن المستحيي من الشيء لا يفعله، بل يتركه، ومعنى قولنا: لا يفعل أي: لا ينبغي للسائل أن يضمر غيره لأن ذلك هو الأحسن، وحسن الظن بالله في الجملة هو الأولى، فليكن ظن الداعي بربه أنه داخل في هذا الوعد، وإن كان ذلك خبرا يحتمل إطلاقه من الخصوص والتقييد بالشروط ما يحتمله الأمر والنهي [182/ب]. ثم إن قوله: (أن يردهما صفرا) لا يثبت أن دعوته مستجابة؛ بل يشعر بأنهما لا تردان بغير شيء: من قضاء حاجة أو ثواب، أو نحو ذلك. وقوله (صفرا) أي: خالية، يقال: صفر الشيء - بالكسر - أي: خلا، والمصدر الصفر بالتحريك، ولا يدخلون فيه تاء التأنيث؛ بل يستعملونه على صيغته هذه في المؤنث والمذكر، والتثنية والجمع، قال الشاعر: لدار صفر ليس فيها صافر وقال آخر: [أراد] صفرا: ليس فيهن صافر.

[1549] ومنه حديث عمر - رضي الله عنه - (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رفع يديه في الدعاء لم يحطهما حتى يمسح بهما وجهه). قلت: رفع اليدين في الدعاء سنة سار في الأولين والآخرين سائرها، ولما كان الاجتهاد في الابتهال والضراعة بأقصى ما تمكن العبد بين يدي الله من حق الدعاء استحب له أن يجمع فيه - بعد الإخلاص - بين القول والفعل، فكان الثناء على الله تعالى بمحامد صفاته، والاعتراف بالذلة والمسكنة، والقصور عما يبتغيه - ابتهالا قوليا، ومد السيد على سبيل الضراعة ابتهالا فعليا؛ لأنه يصير بذلك كالسائل المتكفف المتعرض لأن يملأ كفه مما يسد خلته؛ ولما كانت هذه الصيغة ضراعة استحب له أن يبالغ في مد اليدين على حسب ما به من الفاقة، فكلما كانت الحاجة أمس كان مد اليد أشد؛ فإنه إذا رفعهما إلى السماء مبالغا في الرفع - كان كالحرص على شيء يتوقع تناوله، فيجتهد أن تكون يده أقرب إليه. وفي الحديث: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يرفع يديه إلا في الاستسقاء) وقد ذكرنا أن المراد به: كل الرفع؛ لما صح عندنا أنه كان يرفع يده حالة الدعاء، وذلك الذي في الاستسقاء للمبالغة في إظهار الفاقة، وامتساس الحاجة، فإن الناس يمتحنون من حبس المطر عنهم بما لا صبر لهم عليه. وفي الحديث: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أصابته شدة رفع يديه في الدعاء حتى يرى بياض إبطيه) وأما مسح الوجه بهما في خاتمة الدعاء فنراه من طريق التحين والتفاؤل؛ كأنه يشير إلى أن كفيه ملئتا من البركات السماوية، والأنوار الإلهية، فهو يفيض منها على وجهه الذي هو أولى الأعضاء بالكرامة. [1552] ومنه: حديث عمر - رضي الله عنه - استأذنت النبي - عليه السلام - في العمرة فأذن

[183/أ] لي، وقال: (أشركنا يا أخي في دعائك). الرواية في (أخي) - على ما بلغنا - بلفظ التصغير، وليس المراد منه ومن نظائره في هذا الباب معنى التصغير بل الاختصاص بالتلطف والتعطف هو المراد. وفي معناه قول الله سبحانه في عدة مواضع فيما قص علينا من أمر عبده لقمان: {يا بني}، وكذلك في قصة يوسف عليهما السلام. وأما مساءلته عمر - رضي الله عنه - أن يشركه فيما يدعو به لنفسه فإنها محتملة لوجوه: أحدها: استشعار الخضوع وإظهار الفاقة في مواقف العبودية بالتماس الدعاء ممن عرف السبيل بهدايته، وأصاب الرحمة ببركته. والثاني: تحريض الأمة على حسن الرغبة في دعاء إخوانهم من المؤمنين، والتجافي عن الرغبة عنهم لتوهم الاستغناء؛ مع إحاطة العلم بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أغنى الناس عن دعاء عمر وغيره. والثالث: تعليم المؤمنين ألا يرغبوا بأنفسهم في مظان الرجاء، ومواقع الطلب. والرابع: إرشاد المسئول إلى ما هو الأصلح له، والأولى به؛ إذ كان يعلم - صلى الله عليه وسلم - أن عمر ينتفع بدعائه له أكثر مما ينتفع بدعائه لنفسه. والخامس: الإشادة بذكره في مسامع السامعين. والسادس: تعريفه بما أنعم الله عليه؛ ليقوم بواجب الشكر. وأي طريق سلكناه في تأويله فإنه لا يخلو عن الحجة الناطقة بفضل عمر - رضي الله عنه - وفيه: (وقال لي كلمة ما يسرني أن لي بها الدنيا) يحتمل أن تكون الكلمة المذكورة قوله (يا أخي أشركنا في دعائك)، ويحتمل أن تكون قضية أخرى لم يرد يصرح بها توقيا عن استحلاء الطبع وغير ذلك بما لا يؤمن عليه من آفات النفوس. فإن قيل: أوليس قد حدث بما حدث، ولم يحل ذلك عن مثل ما يدعى فيه التوقي قلنا: يحتمل أنه حدث به لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حدث به على ملأ من الناس، ثم إنا قدرنا القول على ما قدرنا نظرا إلى علم عمر الله، وخشيته منه، ومعرفته بآفات النفوس وتباعده من حب الثناء والمحمدة، وإلا فالمسألة التي نحن ننقر عنها بمعزل عن هذه [183/ب] التقديرات سؤالا وجوابا، وذلك لأن الثناء إذا كان من قبل الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان متجانبا عن مظان الآفات ويحق من صاحبه أن يتحدث به لوجهين: أحدهما: أنه قول صدر عمن أيد بالعصمة في مقاله بل في سائر أحواله فيحق أن يسر به ولا يسر به؛ لأنه الحق الأبلج والبشرى من الله العزيز. والآخر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عارف بأوضاع الأمة لا يواجه أحدا منهم بتزكية أو ثناء إلا وقد ألهم سلامته عما يتوقع في ضمن ذلك من الآفة، وما أحق هذا الوجه بالصواب وهو الذي سأل الله تعالى أن يجعل لعنه وشتمه وضربه لمن قصده به زكاة ورحمة، فأنى يتوهم أن يعود مدحه ذما، أو يعود ثناؤه وبالا، فأبى الله ذلك، ويأباه من نور الله قلبه بالإيمان.

باب ذكر الله تعالى

[1554] ومنه: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ثلاث دعوات مستجابات، لا تشكو فيهن) قلت: كل ما أخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه بريء من الشك مبني على اليقين، وإنما قال ذلك على وجه التأكيد ليفيد معنى قوله (لا تشكو فيهن) ثم ليعلم أن الأمر في الإجابة على ما ذكرنا من التقييد بالشروط، والارتهان بالخصوص، واختصاص هؤلاء الثلاثة بإجابة الدعوة لانقطاعهم إلى الله بصدق الطلب، ورقة القلب، وانكسار البال، ورثاثة الحال؛ أما المسافر فلأنه منتقل عن الموطن المألوف، ومفارق عمن كان يستأنس به، مستشعر في سفرته من طوارق الحدثان، فلا يخلو ساعتئذ عن الرقة والرجوع إلى الله بالباطن. وأما المظلوم فإنه متقلب إلى ربه على صفة الاضطرار. وأما الوالد فإنه يدعو لولده على نعت الخير والرقة، وإيثار الولد على نفسه بما يستطيع، فيخلص في دعائه مبلغ جهده. ومن باب ذكر الله تعالى (من الصحاح) [1556] حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (سبق المفردون ...) الحديث يروى المفردون بتشديد الراء وكسرها، وبالفتح والتخفيف فيها، واللفظان وإن اختلفا في الصيغة فإن كل واحد منهما في المعنى قريب من الآخر، إذ المراد منه: المستخلصون لعبادة الله يتخلون (184/ب) بذكره عن الناس، المعتزلون فيه، المتبتلون إليه، الذين وضع الذكر عنهم الأوزار، فهجروا الخلان، وتركوا الأسباب، فأفردوا أنفسهم لله عن العلائق، وأفردوا عن الأقران، ورقوا عن إيثار اللذات واتباع الشهوات؛ إذ لا يصح لعبد أن يهتدي إلى معالم التوحيد، ويأوي إلى كنف الفردانية، إلا بصحة الانقطاع إلى الله، وهو مقام التفريد. وبصحة ما وقعت الإشارة إليه يشهد التنزيل، قال - سبحانه وتعالى - {واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا} نبه بالآية على أن الذكر الدائم إنما يتهيؤ بحسن التبتل إلى الله، وتبتيل النفس عما سواه، وذلك هو الذي ذهبنا إليه في معنى (المفردون) و (المفردون).

فإن قيل فلم قالوا: وما المفردون، ولم يقولوا: ومن المفردون؟ قلنا: لأنهم فتشوا عن معرفة معنى هذا اللفظ عند الإطلاق، فإن قيل: فلم عدل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيان اللفظ إلى حقيقة ما يقتضيه؟ قلنا: توقيفا للسائل بالبيان المعنوي على الوضع اللغوي، وكان - صلى الله عليه وسلم - معنيا بإيجاز البيان، فبعد إيضاح المراد منه، اعتمد في التقرير اللفظي على أفهام السامعين، فإنهم كانوا على بصيرة من نكت هذه اللهجة وفقرها، عارفين بالكنايات التي تتداولها ألسن هذا البيان وتعتورها، فاكتفى فيه بالإشارة المعنوية إلى ما أنبهم عليهم من الكناية اللفظية. [1558] ومنه حديث حنظلة الأسيدي رضي الله تعالى عنه: (فإذا خرجنا عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات) المعافسة: المعالجة، والمراد منه الاستمتاع بالأزواج والأولاد، والقيام بتدبيرهم والاهتمام بعمارة الضيعات، وتشميره أخذ من العفس، وهو الحبس والابتذال أيضا، وذلك لأن المعنى بالشيء المهتم به، وتدبيره بحبس نفسه عليه ويبتذلها له. وأما قوله: (ولكن ساعة فساعة) تقديره: ولكن تكونون ساعة في الحضور فتؤدون حقوق ربكم، وساعة في الغيبة فتقضون حقوق أنفسكم. وأدخل فاء التعقيب في الثانية تنبيها على أن إحدى الساعتين معقبة بالأخرى وأن الإنسان لا يصبر على الحق الصرف، والجد المحض، بل يكون ساعة في المنشط، وساعة في المكره. وأعاد القول ثلاثا إرادة للتأكيد، وتأثير القول فيه حتى يزيل عنه ما اتهم به نفسه، وقوله: (ولكن ساعة فساعة) محتمل للترخيص وهو أظهر، ومحتمل للحث على التحفظ به لئلا تسأم النفس عن العبادة؛ وذلك مثل ما روى في الأثر: (روحوا القلب ساعة فساعة).س (ومن الحسان) [1560] حديث عبد الله بن يسر: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أي الناس خير؟ فقال: (طوبى لمن طال عمره وحسن عمله). قلت: إنما عدل في الجواب عن وتيرة السؤال لأن الرجل سأل عما لا يصح

للإنسان أن يحكم عليه بعلمه، وهو الخيرية التي غيبت عنا حقيقتها، وأظهرت لنا أماراتها؛ فأخبره بالأمارة التي جعل للإنسان إلى معرفتها سبيل. [1562] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (من اضطجع مضطجعا لم يذكر الله فيه كان عليه تره) أي حسرة، والموتور: الذي قتل له قتيل، فلم يدرك، تقول: وتره يتره وترا وترة، وكذلك: وتره حقه أي: نقصه، وكلا الأمرين معقب للحسرة، فعبر عنه في الحديث بالحسرة. [1567] ومنه حديثه الآخر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (قال الله تعالى: (أنا عند ظن عبدي بي) ... الحديث. الظن: ما كان كالواسطة بين اليقين والشك، استعمل تارة بمعنى اليقين، وذلك إذا قويت أمارته؛ وتارة بمعنى الشك إذا ضعفت أماراته؛ وبمعناهما ورد التنزيل؛ قال الله تعالى: {الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم} أي يوقنون. وقال جل جلاله: {وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون} أي: توهموا، وكذلك قوله سبحانه وتعالى:

{وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه}، وقوله: {يظنون بالله غير الحق}. فالأول من اليقين، والثاني من الشك. فقوله: (أنا عند ظن عبدي بي) أي: عند يقينه بي، في الاعتماد علي، والاستيثاق بوعدي، والرهبة من وعيدي، والرغبة فيما عندي، والاستغناء بي، [والاستغفار] عني؛ أعطيه إذا سألني، [183 م/ب] وأستجيب له إذا دعاني. كل ذلك على حسن ظنه، وقوة يقينه بي؛ وشاهد هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة أيضا: (علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، غفرت لعبدي) وفيه: (وأنا معه إذا ذكرني): يعني بالتوفيق والمعونة، وفيه: (فإن ذكرني في نفسه ..) الحديث: الذكر من الله: حسن قبوله منه، والمجازاة له بالحسنى، فالمراد من قوله هذا أن العبد إذا ذكره في السر آتاه الله ثواب ذلك سرا على منوال عمله. فإن قيل: قد علمنا فائدة الذكر الخفي من العبد، وذلك أنه يكون من الآفات الداخلة على الأعمال بمعزل، ومن الإخلاص لله بمكان؛ فما فائدة ذكر الله تعالى عبده في الغيب قلنا: الاصطفاء والاستئثار؛ فإن الله تعالى إنما يدع علم الشيء بمكان استئثارا به، وفيه أيضا عن اطلاع الملأ الأعلى عليه، وتوقى عمله عن إحاطة علم الخلق بكنه ثوابه. ونظير هذا المعنى قد تقرر في بيان [حديث]: (الصوم لي وأنا أجزي به). وفيه أيضا تنبيه على كون العبد من الله بمكان [تكنه] عن الأغيار. وفيه (وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم): المراد منه مجازاة العبد بأحسن مما جاء به [وأفضل] مما تقرب به إلى ربه. فإن قيل: أوليس في قوله: (في ملأ خير منهم) الحجة البينة لمن يذهب إلى تفضيل الملائكة على سائر البشر؟ قلنا: نرى الفضل من البشر عليهم لأفاضل المرسلين ثم لأفاضل المقربين؛ ثم نرى التوقف فيما سوى ذلك، مع تقديم كثير من خواص الأمة على المتأخرين في المنزلة عن أفاضلهم، أعني الملائكة، وعلى هذا نجعل أفاضل المرسلين كالمستنثى عنهم على وجه التخصيص في جملتهم، فإن قيل: فما تقول فيمن ذكر الله تعالى في ملأ دخل في غمارهم [] المفضلين؟ قلنا: نقدر الأمر على أنه ذكر ذلك العبد بمسمع من الرسول المفضل في أفاضل الملائكة؛ ثم إن الخيرة في هذا الباب وهذا الحديث محتملة لأن تكون راجعة إلى ما يكون المذكور بصدده، أي: ملأ خير من الملأ الذين ذكر الله تعالى. (183/أ) (185/ب). [1568] ومنه حديث أبي ذر - رضي الله عنه - (وإن لقيتني بقراب الأرض خطيئة): قراب الأرض: ما يقارب ملئها، قال الشاعر: فإن قراب الأرض يكفيك ملؤه.

[1569] ومنه حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (قال الله تعالى: لن يتقرب إلي أحد بمثل ما فرضت عليه ..) الحديث يعد هذا الحديث من مشكلات الأحاديث، وإنه ليسير على من يسره الله عليه، والذي يشكل منه قضيتان: إحداهما (186/أ) (فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ..) الحديث. والأخرى: (وما ترددت في شيء أنا فاعله). فأما معنى قوله: (كنت سمعه الذي يسمع به) إلى تمام الفصل أي: أجعل سلطان حبي غالبا عليه حتى [يسلب عنه] الاهتمام بشيء غير ما يقربه إلي، فيصير [متخلفا] عن الشهوات، ذاهلا عن الحظوظ والملذات حيثما تقلب وأينما توجه لقى الله تعالى بمرأى منه ومسمع، لا تطور حول حاله الغفلة، ولا يحول دون شهوده الحجبة، ولا يعتري ذكره النسيان، ولا يخطر بباله الأحداث والأعيان، يأخذ بمجامع قلبه حب الله، فلا يرى إلا ما يحبه، ولا يسمع إلا ما يحبه، ولا يفعل إلا ما يحبه، ويكون الله سبحانه في ذلك يدا ومؤيدا وعونا ووكيلا، يحمي سمعه وبصره ويده ورجله عما لا يرضاه، فذلك معنى قوله: (كنت سمعه الذي يسمع به ...) الحديث. وحقيقة هذا القول ارتهان كلية العبد بمراضي الله، وحسن رعاية الله له،

وذلك على سبيل الاتساع، وهو شائع في كلام العرب، إذا أرادوا اختصاص الشيء بنوع من الخصوصية، والاهتمام به والعناية والاستغراق فيه، والفناء والوله إليه [والنزوع]، وفي معناه يقول قائلهم: جنوني فيك لا يخفى .... وناري فيك لا تخبو فأنت السمع والناظر .... والمهجة والقلب ولسلفنا من مشايخ الصوفية في هذا الباب فتوحات غيبية وإشارات ذوقية، [تهتز] منها العظام البالية، غير أنها لا تصلح إلا لمن سلك سبيلهم فعلم مشربهم وأما غيرهم فلا يؤمن عليه عند سماعها من الأغاليط التي تهوى بصاحبها إلى مهواة الحلول والاتحاد، وتعالى الله الملك الحق عن صفات المخلوقين، ونعوت المربوبين، وعوذا بالله من عمى يفضي بصاحبه إلى تشبيه من خلق بما خلق، وحسب ذوي الألباب من شواهد هذا الباب أن الله تبارك وتعالى لما أراد أن يقرر في قلوب السامعين عنه، الواقفين معه أن عقد الميثاق مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - كعقده معه - أضاف المبايعة معه إلى نفسه بآكد الألفاظ وأخص المعاني وأبلغ الوجوه، فقال - عز من قائل: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم} وفي هذا كفاية لمن تدبر القول، والله أعلم. وفيه: (ومن تقرب مني شبرا ...) الحديث: قلت: قوله: (ومن تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا) إلى قوله (ومن أتاني يمشي أتيته هرولة) - من تمام حديث أبي هريرة هذا الذي ذكرناه، وهو هكذا في كتاب مسلم؛ إلا أن (تقربت إليه ذراعا) (تقربت إليه باعا) والحديث على الوجه الذي أورده المؤلف من رواية أبي ذر، وهو مخرج في كتاب ابن ماجة، ولما ذكر الحديث في قسم الصحاح لم يكن له أن يأتي فيه بما لا يوجد في الكتابين: كتاب البخاري وكتاب مسلم - وذلك من جملة ما أشرنا إليه من التجوز الذي لا يتدين به المحدثون. والهرولة: ضرب من التسرع في السير، فوق المشي، ودون العدو، قلت: وهذه الأمثال يقرب بها المعنى المراد منها إلى أفهام السامعين. والمراد منها أن الله تعالى يكافئ العبد ويجازيه في معاملاته التي يقع بها التقرب إلى الله بأضعاف ما يتقرب العبد إلى الله، وسمي الثواب تقربا لمقابلة الكلام وتحسينه؛ ولأنه من أجله وبسببه. وقد قيل: تقرب الباري تعالى إليه بالهداية وشرح صدره لما تقرب به إليه، وكأن المعنى: إذا قصد ذلك وعمله أعنته عليه، وسهلته له. وأما قوله: (وما ترددت في شيء أنا فاعله) فإن نفرا من أهل العلم أولوه على ترديد الأسباب والوسائط؛ منهم أبو سليمان الخطابي، وجعلوا قصة موسى عليه السلام مع ملك الموت سنادا لقولهم، وآزره بعضهم بما جاء في الأثر من حديث إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام، والملك الذي مثل له على صورة شيخ فان، وفيه شهرة عند أصحاب الأقاصيص. والذي قالوا هو الوجه، إلا أنه على هذا الوجه لا يشفي غليل من لم يرد موارد المعاني المصبوبة في قوالب المتشابهات، فيلتبس القول المروي عن صاحب الشريعة من أمر الله الذي لا سلطان للتشابه عليه، ولا مدخل للتردد فيه - بالأمر المرئي عمن يأتيه الجهل

بالندم، [والبدار] يصرفه عن انحائه اختلاف الآراء، وإذ قد عرفنا أن قوله (وما ترددت في شي أنا فاعله) مرتب عليه (هو يكره الموت، وأنا أكره مساءته) وعرفنا من غير هذا الحديث أن الله تعالى يرفق بعبده المؤمن ويلطف به عند الموت؛ حتى يزيل عنه كراهة الموت، وذلك في الحديث المتفق على صحته عن عبادة بن الصامت وعائشة أم المؤمنين - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه. والموت قبل لقاء الله) قالت عائشة رضي الله عنها: إنا لنكره الموت! قال: (ليس ذاك، ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحب إليه مما أمامه) علمنا أن المراد من لفظ التردد في هذا الحديث إزالة كراهة الموت عن العبد المؤمن بلطائف يحدثها الله له، ويظهرها عليه، حتى يذهب الكراهة التي في نفسه، بما يتحقق عنده من البشرى برضوان الله وكرامته، وهذه الحالة تتقدمها أحوال كثيرة من مرض وهرم وفاقة وزمانة وشدة بلاء تهون على العبد مفارقة الدنيا، ويقطع عنها علاقته حتى إذا أيس عنها تحقق رجاؤه بما عند الله، فاشتاق إلى دار الكرامة، فأخذ المؤمن عما تشبث من حب الحياة شيئا فشيئا بالأسباب التي أشرنا إليها، يضاهي فعل المتردد من حيث الصيغة، فعبر عنه بالمتردد، ولما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - هو المخبر عن الله تعالى. (185/أ) وعن صفاته وأحواله بأمور غير معهودة، لا يكاد يعرفها على ما هي عليه أذن له أن يعبر عنها بألفاظ مستعلمة في أمور معهودة، تعريفا للأمة وتوقيفا لهم بالمجاز على الحقيقة، وتقريبا لما ينأى عن الإفهام، وتقريرا لما يضيق عن الإفصاح به نطاق المجاز، وذلك بعد أن عرفهم ما يجوز على الله، وما لا يجوز. [1571] ومنه حديث ثوبان - رضي الله عنه - (185/ب): (لما نزلت: {والذين يكنزون الذهب والفضة} كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره، فقال بعض أصحابه: لو علمنا أي المال خير، فنتخذه؟ (أي) رفع على الابتداء. قال الله تعالى: {لنعلم أي الحزبين أحصى ..} لم يعمل فيه ما قبله. وقال - سبحانه - {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} فنصبه بما بعده. وفرق الكسائي بين الواقع والمنتظر، فقال: تقول: لأضربن أيهم في الدار، فتنصبه. ولا يجوز أن تقول: ضربت أيهم في الدار [] منصوب بالفاء في جواب الشرط. وقوله أفضله لسانه ذاكر) الضمير فيه راجع إلى الشيء الذي يحسن بالإنسان أن يتخذه قنية لنفسه فإن قيل: سألوه عن أفضل المال ليتخذوه، ودلهم على اللسان الذاكر والقلب الشاكر، والمرأة المؤمنة وليس ذلك من المال في شيء قلت: قد اكتفى من الجواب في قنية المال بما عهد إليهم في الكتاب والسنة من التجنب عن قنية المال، والتكالب في طلبه، ودلهم على ما عرف فيه النفع المحض، ولم ير عليهم في اتخاذه تبعة، وذلك من التحويل في الكلام من مقتضى اللفظ إلى ما يقتضيه المعنى.

باب أسماء الله تعالى

ومن باب أسماء الله تعالى (من الصحاح) [1572] حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن لله تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدة ...) الحديث. فإن قيل: نحن وجدنا نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يختار من الألفاظ أبلغها، ومن الأقوال أوجزها، وقد أكد في هذا الحديث تسعة وتسعين بمائة إلا واحدة، وذلك ظاهر من القول غير مفتقر عند المخاطب به إلى تأكيد، وقد جل منصب الرسالة عن الإتيان بما لا طائل تحته في البيان، فما الفائدة التي تضمنها هذا التأكيد؟! قلنا: معرفة أسماء الله تعالى وصفاته لما كانت متلقاة من طريق الوحي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن لنا أن نتصرف فيها بما نهتدي إليه بمبلغ علمنا، ومنتهى عقولنا، وقد منعنا عن إطلاق ما لم يرد به التوقيف من ذلك، وإن جوزه العقل، وحكم به القياس، كان الخطب في ذلك غير هين، والمخطيء فيه غير معذور، والنقصان عنه كالزيادة فيه غير مرضي، وكان الاحتمال في رسم الخط واقعا باشتباه تسعة وتسعين في زلة الكاتب وهفوة القلم بسبعة وتسعين، أو بسبعة وسبعين، أو تسعة وسبعين، فينشأ الاختلاف في المسموع من المسطور فأكده بقوله (187/أ) هذا حسما لمادة الخلاف، وإرشادا إلى الاحتياط في هذا الباب. وأما وجه التأنيث في قوله: (إلا واحدة) فهو أن نقول: ذهب إلى التأنيث إرادة إلى التسمية أو الصفة أو الكلمة، وفيه: (من أحصاها دخل الجنة) أي من أتى عليها حصرا وتعدادا وعلما وإيمانا فدعا الله بها، وذكره وسبحه وأثنى بها عليه - استحق بذلك أن يدخل الجنة. وإنما ذكر دخوله الجنة على صيغة الماضي تحقيقا لذلك وتنبيها على أن ذلك وإن لم يكن بعد فإنه في حكم الكائن، وقد ذكرنا تفسير الإحصاء واشتقاقه في بيان قوله: (استقيموا ولن تحصوا) فيما تقدم معنى من هذا الكتاب، وقد ذكر فيه وجهان آخران: أحدهما أن يكون الإحصاء بمعنى الإطاقة؛ أي: أطاق القيام بحقها والعمل بمقتضاها، وذلك بأن يعتبر معانيها، فيطالب نفسه بما تتضمنه من صفات الربوبية وأحكام العبودية، فإذا قال: هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، الملك القدوس السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبال، المتكبر - لم ير التعبد والحمد إلا له، والثناء والتوكل إلا عليه، والثقة واللياذ إلا به، والرجاء والخشية إلا منه، والخضوع والتذلل إلا فيه، والملجأ والمناص منه إلا إليه، وإذا قال: الرحيم الغفور تحقق بنيل الرحمة والمغفرة منه،

وإذا قال: الرزاق لم يهتم بأمر الرزق، ولم يتعرض في طلبه لغير من تكفل به، وعلى هذا حتى يستوفى سائر الأسماء. والوجه الآخر أن يكون بمعنى العلم؛ أي: عقلها وأحاط بمعانيها، ويكون من قولهم: فلان ذو حصاة، أي: ذو عقل ولب، قال كعب بن سعد الغنوي: وإن لسان المرء ما لم يكن له .... حصاة على عوراته لدليل أو يكون مستعارا في العلم، من الإحصاء الذي هو عد الشيء لكونه متوجها للعلم به. الوتر: الفرد، والله سبحانه هو الوتر؛ لأنه واحد لا شريك له، بل هو الوتر من حيثما له الوحدة من كل وجه، وقوله: (يحب الوتر) أي: يثيب عليه ويقبله من عامله؛ لما فيه من التنبه على معاني الفردانية قلبا ولسانا وإيمانا، وإخلاصا، وإيثارا لكل فرد من الأذكار والأعمال، تحقيقا لمحبة من هو الفرد الوتر على الحقيقة. ثم إنه أدعى إلى معاني التوحيد، والله أعلم. [1573] ومنه: حديث الآخر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (187/ب) (إن لله تعالى تسعة وتسعين اسماً من

أحصاها دخل الجنة، هو الله الذي لا إله إلا هو ..) الحديث. قلت: قد ألف العلماء في شرح أسماء الله تعالى كتبا مفردة أتوا فيها على ما يستفتح به الغلق عن ألفاظها، ويستوضح به العويص من معانيها، فلم نر أن نتعمق في شرحها، ولا أن نضرب صفحا عن ذكرها، ورأينا أن نستكشف عن غريب ألفاظها بمقدار الحاجة، لئلا يفتقر المحصل في بيانها إلى غير هذا الكتاب، فمن ذلك: القدوس السلام، وقد مر تفسيرهما. ومنه المؤمن، قيل: إنه الذي لا يخاف ظلمه، وقيل: الذي آمن أولياءه عذابه، وقيل: المصدق عباده المؤمنين يوم القيامة. ومنه المهيمن، ومعناه: القائم على خلقه: قال الله عز وجل: {مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه} أي قائما على الكتب، قال الشاعر: ألا إن خير الناس بعد نبيه .... مهيمنه التاليه في العرف والنكر ومنه العزيز، ومعناه: القاهر الغالب، تقول: عز فلان فلانا يعزه عزا: إذا غلبه. قال الله تعالى: {وعزني في الخطاب} أي غلبتني، قال عمر بن أبي ربيعة: هنالك إما يعز الهوى .... وإما على أثرهم تكمد ومنه الجبار، وهو القهار، ويكون أيضا المسلط، قال الله تعالى: {وما أنت عليهم بجبار} أي: مسلط، ويقال للذي يقتل على الغضب: جبار، ويحتمل في صفة الله أن يكون من الإجبار الذي هو في معنى الإكراه. أو من الجبر في معناه أيضا، يقال: جبره السلطان وأجبره، على هذا فسر بالقهار والمسلط. ويحتمل أن يكون من الجبر، وهو أن يغنى الرجل من فقر، أو يصلح عظمه من كسر.

ومنه المتكبر، قيل: هو ذو الكبرياء، والكبرياء عند العرب: الملك، قال الله تعالى: {وتكون لكما الكبرياء في الأرض} أي: الملك، وقد مر في الكتاب تفسيره. ومنه البارئ: وهو الخالق، يقال: برأ الله الخلق، ومنه البرية تركت العرب همزها، والبارئ خص بوصف الله فلا يسلك به مسلك المجاز، ولا يتسع فيه كما يتسع في الخلق. والفرق بينهما أن الخالق في كلامهم: المقدر {وتخلقون إفكا} أي: يقدرون كذبا، {فتبارك الله أحسن الخالقين}، أي: المقدرين والبارئ هو الذي خلق الخلق بريئا من الاضطراب وعدم التناسب، متميزا بعضه من بعض بالأشكال المختلفة والصور المتباينة، ولهذا المعنى اختص في الغالب في الحيوان، فلا يستعمل في الجمادات إلا في النادر؛ لأن المعنى الذي ذكرناه في الحيوان أكثر وأظهر. ومنه الفتاح، وهو الحاكم، قال الله تعالى: {إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح}، ومعناه: إن تستقضوا فقد جاكم قضاء الله، ومنه قوله تعالى: {ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق} قال الشاعر: ألا أبلغ بني عمرو رسولا .... بأني عن فتاحكم غني أي عن محاكمتكم. ومنه: القابض والباسط؛ هو الذي يوسع الرزق ويقتره على ما تقتضيه الحكمة، ويحسن القرآن في الذكر بين هذين الاسمين، وكذلك في كل اسمين يردان موردهما، كالخافض والرافع، والمعز والمذل، والضار والنافع، فإن ذلك أنبأ عن القدرة، وأدل على الحكمة، والأولى لمن وفق لحسن الأدب بين يدي الله أن لا يفرد الاسم المنبئ عن القبض والخفض وما في معناهما، بل يضم إلى ذلك ما هو أعرف عن وجه الحكمة. ومنه: الحكم والحاكم، وذلك لمنعه الناس عن المظالم. ومنه: العدل، مصدر أقيم مقام الاسم، وحقيقته ذو العدل، وهو الذي لا يميل به الهوى فيجور في الحكم، والعدل خلاف الجور. ومنه: اللطيف، وهو البر بعباده الذي يوصل إليهم ما ينتفعون به في الدارين، ويهيئ لهم ما يتسببون به إلى المصالح من حيث لا يعلمون، ومن حيث لا يحتسبون. ومنه الخبير: وهو العالم بكنه الشيء، المطلع على حقيقته، وإذا وصف به المخلوقون فإنه يراد به نوع من العلم يدخله الاختيار، وتعالى الله عن ذلك، فإن علمه سواء فيما ظهر وفيما بطن. ومنه: الغفور الشكور بناء الكلمتين للمبالغة، وهو الذي تكثر مغفرته (188/ب) ويشكر لليسير على الطاعة. ومنه: المقيت، وهو المقتدر عند أكثر أهل اللغة، قال الشاعر: وذي ضغن كففت الفضل عنه .... وكنت على مساءته مقيتا وقيل: هو الحافظ للشيء، والشاهد له، قال الشاعر

ليت شعري وأشعرن إذا ما .... قربوها مطوية ودعيت إلى الفضل أم علي إذا حوسب ... ت إني على الحساب مقيت قلت: وقد ذكر ابن الأنباري عن أبي عبيدة أنه قال: المقيت: الموقوف على الشيء، وأنشد البيتين، ولو كان الأمر على ما نقله عنه لم يتعلق هذا التفسير بما نحن فيه من تفسير أسماء الله تعالى، وإنما معنى قوله: إني على الحساب مقيت - أي: أعرف ما عملت من سوء، فإن الإنسان على نفسه بصيرة، على هذا فسره ثعلب وغيره. ومنه: الحسيب وهو المحاسب {وكفى بالله حسيبا} أي: رقيبا يحاسبهم عليه، وهو الكافي أيضا بمعنى مفعل، كأليم بمعنى مؤلم، من قولهم: أحسبني أي: أعطاني ما كفاني. ومنه: الواسع الغني، الذي وسع غناه مقافر عباده، ووسع رزقه جميع خلقه، ويصح أن يكون الواسع الذي يسع لما يسأل، وقيل هو المحيط بكل شيء، قال الله تعالى: {وسع كل شيء علما} أي أحاط بكل شيء علما، قال أبو عبيدة: حمال أثقال أهل الود آونة .... أعطيهم الجهد مني بله ما أسع أي أعطيهم ما لا أجده إلا بالجهد فدع ما أحيط به وأقدر عليه. ومنه: الودود، وهو المحب لعباده، فيكون بمعنى الواد، وفيه وجه آخر، وهو أن يكون المفعول أي المودود في قلوب أوليائه، بما ساق إليهم من المعارف، وأظهر لهم من الألطاف. ومنه: الشهيد، وهو الذي لا يغيب عنه شيء، والعبرة فيه بمعنى الحضور أي: الحاضر الذي لا يعزب عنه شيء، وقيل: المتحقق كونه: وهو وجوده، والأصل في الحق المطابقة. والله - تعالى - هو الحق لأنه الموجد للشيء على ما تقتضيه الحكمة، وقد مر القول فيه. ومنه: الوكيل، قيل هو الكافي، وقيل الكفيل بارزاق العباد، والأصل في التوكيل أن تعتمد على الرجل وتجعله نائبا عنك، قال الله تعالى: {وكفى بالله وكيلا} أي: اكتف به أن يتولى أمرك، ويتوكل لك. ومنه القوي، والمراد به الذي لا يستولى عليه العجز في حالة من الأحوال بخلاف حال كل مخلوق ومربوب. ومنه: المتين، وهو (189/أ) الشديد القوة، الذي لا يعتريه وهن ولا يمسه لغوب، والمعنى في وصفه بالقوة والمتانة أنه قادر بليغ الاقتدار على كل شيء، والذي يفسر المتين، بالقوي فإنه لم يصنع شيئا، لأنهما يدلان في الكتاب على وصفين: قال تعالى: {ذو القوة المتين}، فإن قيل: فقد قرئ المتين بالجر صفة للقوة، قلنا: العبرة فيه بقراءة الجمهور، لاسيما الآية السابقة فإنهم اتفقوا على الرفع، وقد رواه بعضهم بالباء ذات النقطة الواحدة، ولا اعتداد بتلك الرواية لورود هذا الاسم بالتاء في كتاب الله، ثم لورود الرواية فيه بطريق أثبت منها.

ومنه: الولي، وهو الناصر ينصر عباده المؤمنين، وهو أيضاً المتولي [لأمور العالم] القائم به، وأصله من الولي: وهو أقرب. ومنه: المحصي، وهو الذي أحصى كل شيء بعلمه، فلا يعزب عنه مثقال ذرة. ومنه: القيوم، وهو القائم الدائم على كل شيء، ويقال أيضاً القيام، والقيم، والقيوم نعت المبالغة في القيام على الشيء. ومنه الواجد، ويكون الواجد من الجدة، فيكون المراد الغنى الذي لا يفتقر إلى شيء، ويكون من الوجود، وهو الذي لا يحول بينه وبين ما يريده حائل. ومنه: الواحد الأحد، كلا الاسمين دال على معنى الواحدانية، وقد قيل: الفرق بينهما أن الواحد هو المنفرد بالذات، لا يضاده آخر، والأحد المنفرد بالغنى لا يشاركه فيه أحد، والواحد يصلح في الكلام في موضع الإثبات، والأحد في موضع الجحود، ولا يستعمل وصفاً مطلقاً إلا في وصف الله سبحانه. ولم نجد الواحد في الأسماء المروية عن أبي هريرة، عن طريق صفوان بن صالح في كتاب أبي عيسى، فإنه يرويه عن إبراهيم بن يعقوب عنه، وهو موجود في سائر نسخ المصابيح، فلعله لم ينقله من كتاب أبي عيسى، ونقله من غيره، فإن هذا الحديث يروي بطريق آخر سوى طريق أبي عيسى، وأرضاها ما رواه عن إبراهيم عن صفوان عن الوليد بن مسلم عن مسلم عن شعيب بن أبي حمزة عن أبي الزَّناد عن الأعرج عن أبي هريرة. ومنه الصمد، اختلفت أقاويل أهل التفسير في بيانه، وأولى تلك الأقاويل بالتقديم ما وافق أصول اللغة، واشتهر من أهل اللسان، وهو أن الصمد: السيد المتفوق في السؤدد، الذي يصمد إله الناس في حوائجهم وأمورهم، قال الشاعر: سيروا جميعاً بنصف الخيل واعتمدوا .... ولا رهيبة إلا سيدٌ صمدُ ومنه: القادر وهذا وإن كان ظاهر المعنى فإنما أردنا بإيراده. (189/ب) أن نذكر أنه محتمل لكونه في معنى المقدر، قال الله تعالى: {فقدرنا فنعم القادرون}. ومنه المقتدر، وزنه مفتعل من القدرة، والاقتدار أبلغ وأعم؛ لأنه يقتضي الإطلاق. والقادر والمقتدر إذا وصف الله تعالى بهما فالمراد منه نفي العجز عنه، فيما يشاء ويريد، ومحال أن يوصف بالقدرة المطلقة معنى غير الله، وإن أطلق عليه لفظاً. ومنه: المقدم المؤخر، معنى التقديم والتأخير فيهما هو تنزيل الأشياء منازلها وترتيبها في التكوين والتفضيل، وغير ذلك، على ما يقتضيه الحكمة، قال الخطابي: والجمع بين هذين الأسمين أحسن منه التفرقة كما قلنا في بعض ما تقدم من الأسماء. ومنه الأول الآخر فالأول: هو الذي لا شيء قبله ولا معه، والآخر: الباقي بعد فناء الخلق، المتعالي في أوليته عن الابتداء، كما هو المتعالي في آخريته عن الانتهاء.

ومنه: الظاهر وهو لآياته الباهرة الدالة على وحدانيته وربوبيته، ويحتمل أن يكون من الظهور الذي هو بمعنى العلو والغلبة، ويدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أنت الظاهر فليس فوقك شيء). ومنه الباطن. وهو الذي لا يتولى عليه توهم الكيفية، وهذان الاسمان واللذان قبلهما لا يقال إلا مزدوجين، وقد يكون معنى الظهور والبطون احتجابه عن أبصار الناظرين، وتجليه ببصائر المتفكرين، وقيل: هو العام بما ظهر من الأمور، والمطلع على ما بطن من الغيوب. ومنه الوالي هو المالك للأشياء، المتولي لها، وقد يكون بمعنى المنعم عوداً على بدء ومنه البّر، هو العطوف على عباده، الذي عم ببره جميع الخلق، يحسن إلى المحسن بتضعيف الثواب، وإلى المسيء بالصفح والعفو وقبول التوبة. ومنه: ذو الجلال والإكرام، وقد مرّ تفسيره. ومنه المقسط، وهو العادل الذي لا يجور، أقسط الرجل فهو مقسط: إذا عدل، قال الله تعالى} إنْ الله يحب المقسطين {. ومنه الجامع، وهو الذي يجمع الخلائق ليوم لا ريب فيه، وقيل: الجامع لأوصاف الحمد والثناء. ومنه: المانع، قيل هو من المنعة أي: يحوط أولياءه وينصرهم، وقيل: من المنع والحرمان، أي يمنع من يستحق المنع، فمنعه حكمة، وعطاؤه جود ورحمة. ومنه: الضار النافع، وقد بينا الوجه فيه وفي نظائره. ومنه النور، وقد تكلمنا في بيانه في قوله: (أنت نور السموات والأرض). ومنه (البيع) وهو الذي فطر الخلق مبدعاً لا على مثال سبق. ومنه: (الوارث) وهو الباقي بعد فناء الخلق، وصف الله نفسه بأنه (الوارث)؛ لأن الأشياء صائرة إليه، قال: هون عليك ولا تولع بإنفاق .... فإنما [الدنيا] للوارث الباقي ومنه: (الرشيد) هو الذي أرشد الخلق إلى مصالحهم، وقد تكون بمعنى [المدبر] الحكيم، أي ذي الرشد لاستقامة تدبيره. ومنه (الصبور)، والصبور فيما يتعارفه الخلق من صفات المخلوقين، هو القادر على الصبر، وتعالى الله سبحانه بأن يطلق ذلك في صفته إطلاقه في المخلوقين، وإنما يقع ذلك موقع البيان للمعنى الذي يبعد عن أفهامنا بما نعرفه في الشاهد وما أكثر ما يوجد من هذا الباب في أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقد أشرنا إلى نظائره في غير هذا الموضع، فمعناه في صفة الله: هو الذي لا يعاجل بعقوبة العصاة، لاستغنائه عن التسرع حذراً من الفوات، ثم لاستواء القريب والبعيد في حكمه. وهو قريب المعنى من الحليم، إلا أن اسم الحليم

باب ثواب التسبيح والتحميد والتهليل

مشعر بسلامة المذنب عن العقوبة ولا كذلك في الصبور، وما من أسم من الأسماء التي في هذا الحديث إلا وقد ورد به الكتاب أو السنة الصحيحة على صيغته في هذا الحديث غير الصبور، فإنه وجد في الحديث الصحيح على ما يدل على معناه، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا أحد غير أصبر على أذى يسمعه من الله)، فأما لفظ الصبور فلم نجده إلا في حديث أبي هريرة هذا وهو حديث غريب وهو غير موجب للعلم، لكونه من جملة الآحاد، إلا أن العلماء قد عولوا فيها على ما وجدوه في كتاب الله تعالى أو في السنن الصحاح، فإن قيل: إنا نجد في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله أسماء في هذا الحديث، ومما دل عليه الكتاب: الرب، المولى، البصير، المحيط، الفاطر، الكافي، العلام، المليك، ذو الطول، ذو المعارج، ومما وردت به السنة: الحنان، المنان، الدائم، الجميل، فهي [....] غير منحصرة في تسعة وتسعين. فما وجه قوله: (إن لله تسعة وتسعين اسماً)؟ قلنا: قد علمنا بما ذكرتم من الأسماء، وبما ورد على منوالها في كتاب أو سنة وبما ثبت من المأثور الدال على أن في أسماء الله ما استأثر هو بعلمه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرد بقوله: (إن لله (190 /أ) تسعة وتسعين اسماً) الحصر ونفي ما يزيد عليها، بل أراد تخصيصها بالذكر لكونها أشهر لفظاً، وأظهر معنى. وقد جمع من أصحاب المعاني: إن هذا الحديث قضية واحدة، فقوله: (من أحصاها دخل الجنة) ليس بمنفصل عن قوله: (إن لله تسعة وتسعين اسماً) بل هو واقع موقع الوصف [حتى] الأسماء المعدودة، فلا يتم الكلام في الفصل الأول إلا مرتبطاً بالفصل الآخر، ونظير ذلك قول القائل: إن لفلان ألف شاة أعدها للأضياف فلا يدل على أنه لا يملك غيرها. ومن باب ثواب التسبيح والتحميد والتهليل (من الصحاح) [1578] حديث سمرة بن جندب -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أفضل الكلام أربع .... الحديث)، فإن قيل: قوله: (أفضل الكلام) هل هو متناول لكلام الله أم لا؟ قلنا: يحتمل الوجهين،

أما تناوله لكلام الله، لأنه موجود في كتاب الله، أما الأولى والثانية والثالثة فالفظاً، وأما الرابعة فمعنى، إن لم يوجد اللفظ على هذه الصيغة وإذا كانت الكلمات الثلاث موجودة في كتاب الله على هذه الصيغة وكل كلمة منها مستقلة بنفسها غير مفتقرة في تمام المعنى إلى صاحبتها، صح أن يقال: إنها أفضل الكلام على الإطلاق، لأنها هي الجامعة لمعاني التنزيه والتوحيد، وأقسام الحمد والثناء، وكل كلمة منها معدودة من كلام الله، وفي معناه حديث أبي ذر -رضي الله عنه- سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أفضل الكلام، فقال: (ما اصطفى الله لملائكته: سبحان الله وبحمده) وأما إفراد ذلك من جملته، لأنه في النظم مخالف لنظم الكتاب، وإن كانت بإفراد كلماتها داخلة في جملة الوحي إذ العبرة في ذلك للنظم، فلما فارقت الكتاب في النظم لم يكن حكمها في الفضل والكرم كحكم الكتاب، ويدل على صحة هذا المعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أربع هن من القرآن وليس بقرآن سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)، أي هي موجودة في القرآن، وليس بقرآن من جهة النظم، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (أفضل الذكر بعد كتاب الله سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر). [1585] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث جويرية -رضي الله عنها: (لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن) أي: لو قوبلت بما قلت لساوتهن من قولهم: هذا يزن درهماً، أي يعادله ويساويه، قال الشاعر:

مثل العصافير أحلاماً ومقدرة .... لو يوزنون بزفّ الريش ما وزنوا (190/ب) ويحتمل أن يكون بمعنى الرجحان أي ربت عليهن في الوزن كما تقول: (حاججته فحججته)، أي [ظفرت] عليه بالحجة ولو أعاد الضمير إلى [ما لا] يقتضيه اللفظ لقال: لوزنته، ولكنه ذهب إلى ما يقتضيه المعنى تنبيهاً على أنها كانت [كلمات] كثيرة. واليوم في قوله: (منذ اليوم) مجرور، وهو الاختيار، وقوله: (سبحان الله) نصب على المصدر، كأن القاتل يقول: سبحت الله تسبيحاً ثم يجعل في موضع التسبيح سبحان كما يجعل الكفران في موضع التكفير، فقول القائل: كفرت عن يميني كفراناً. (وعدد خلقه) أيضاً نصب على المصدر، وكذلك البواقي، والمعنى سبحته تسبيحاً يبلغ عدد خلقه، (وزنة عرشه)، أي: ما يوازنه في القدر والوزانة، يقال: هو زنة الجبل، أي حذاؤه في الثقل والرزانة. وفيه: (ورضي نفسه) أي ما يقع منه سبحانه موقع الرضا أو ما يرضاه لنفسه وفيه: (ومداد كلماته) المداد مصدر (كالمدد) تقول: مددت الشيء أمده مدا ومداداً، وقيل: يحتمل أن يكون جمع مد فإنه يجمع على مداد، وعلى هذا يكون المراد من المداد المكيال والمعيار، وقد ورد في الحديث، (عدد كلماته) أي أسبح الله عدد كلماته، وكلمات الله تعالى يقال: إنها علمه، ويقال: كلامه، ويرد أيضاً معناها إلى القرآن، وذكر العدد فيها على الوجوه مجاز ومعناه المبالغة في الكثرة، لأنها لا تنفد فتنحصر، ويحتمل أن يراد بها عدد الأذكار أو عدد الأجور عليها. [1586] ومنه: حديث أبي موسى -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا حول ولا قوة إلا بالله كنز

من كنوز الجنة)، الأصل في الحول: تغير الشيء وانفصاله عن غيره، ويفسر بالحيلة، وهي ما يتوصل به إلى حالة ما في خفية، وقيل: الحيلة: هي الحول، قلبت واوه ياء لانكسار ما قبله، ومنه: رجل حول والمعنى: لا توصل إلى تدبير أمر وتغيير حال إلا بمشيئتك ومعونتك، وأما قولهم: بحول الله وقوته، فقد يفسر بالقوة، وليس بسديد، لأن القوة معطوف عليه، والوجه فيه أن يقال: بقدرته التي يحول بها بين المرء وقلبه، ونحو ذلك من المعاني. والحول: الحركة، يقال: حال الشخص إذا تحرك. ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - (بك أحول وبك أصول) على العدو والمعنى في حديث أبي موسى: لا حركة ولا استطاعة إلا بمشيئة الله تعالى (191/أ). وحول: منصوب بلا النفي، ويسميه بعضهم التبرئة ويكون الجار والمجرور خبراً له، ويجوز فيها الرفع، وفيها غير ذلك والأقوم والأكثر نصب الكلمتين، وفيه (كنز من كنوز الجنة) أي يعد لقائله ويدخر له من الثواب ما يقع له في الجنة موقع الكنز في الدنيا، لأن من شأن الكانزين أن يستعدوا به ويستظهروا بوجدان ذلك عند الحاجة إليه. (ومن الحسان) [1592] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: (لو أن السموات السبع وعامرهن

غيري)، يقال لزائر المكان: عامر وللمقيم به: عامر من قولهم: عمرت المكان وعمرت بالمكان إذا أقمت به، ومنه عمار البيت، وهم سكانها من الجن، واصل ذلك من العمارة التي هي نقيض الخراب، واستعمل في الزيادة لما فيها من عمارة الود، ومنها استق العمرة، واستعمل في الإقامة، لأن بها عمارة المكان، وقيل في قوله سبحانه:} واستعمركم فيها {جعلكم من عمارها أي: سكانها، وقيل: جعلها لكم مدة عمركم، وقيل: فوض إليكم عمارتها، ويقال: أعمر الله بك منزلك وعمر بك منزلك، أي جعله معموراً بك فعامر السموات على الحقيقة هو الله سبحانه، لأنه هو الذي أقامها ثم جعلها عامرة بسكانها الذين {لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون (19) يسبحون الليل والنهار لا يفترون} فلم يكن الاستثناء للاشتراك في المعنى إذ هو سبحانه بائن عن خلقه بجميع صفاته، لا يحيط به شيء وهو بكل شيء محيط، بل كان الاستثناء لتناول اللفظ كلا المعنيين، وجواز استعماله في الصيغتين فالله تعالى عامرها لما خلق فيها من الملائكة الذين هم سكانها فعمرها بهم، ولما قيض من إبقائها وحراستها عن التفاوت والتهافت على ما قال عز من قائل: {إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا} والملائكة عمارها للمعنى الذي ذكرناه. [1596] ومنه: حديث ابن عمر -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (التسبيح نصف الميزان والحمد لله يملؤه .....)، التسبيح أخذ من السبح، وهو المر فاستعمل التسبيح في المر السريع في عبادة الله وجعل ذلك في الخير قولاً كان أو فعلاً أو نية وأريد به في هذا الحديث ذكر الله تعالى على نعت التنزيه، ولما كانت الطاعات مقصورة على هذه الأقسام الثلاثة (191/ب). (أعني) القول والفعل والنية وكانت النية مقترنة بالإثنين أعني القول والفعل لا يصح أحدهما مع خلوه عن النية التي هي قصد القلب -رجع الأمر فيها إلى قسمين قول وفعل. ولما كان التسبيح من أفضل ما يقال وأتمه أقيم سائره في الثواب وذلك النصف من كفة الحسنات؛

لأن الوزن لها يتعدى عن هذين القسمين مع اقترانهما بالنية، فقوله: (نصف الميزان)، أي نصف ما يوزن فبملأ منه كفة الحسنات. وأما قوله: (الحمد لله يملأ الميزان)، فترى فيه وجهين: أحدهما: أن الحمد يقوم مقام النصف الآخر فيملأ الميزان، وإليه يشير قوله - صلى الله عليه وسلم -: (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان سبحان الله وبحمده). والآخر: أن الحمد يبلغ في الثواب مبلغ الكمال فيملأ كفة الحسنات، لأنه يحتوي على أمرين عظيمتين (هما الأصلان) في أحكام العبودية التسبيح لله والتسليم لأمره ولهذا المعنى وجد الحمد من أعلى المقامات، وإلى هذا المعنى أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (بيدي لواء الحمد يوم القيامة) وهذا الذي ذكرناه معنى من طريق الاحتمال، والحديث محتمل لغيره، والله أعلم ورسوله بحقيقة ذلك. [1598] ومنه: حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لقيت إبراهيم عليه السلام ليلة أسري بي، فقال يا محمد أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة وعذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها سبحان الله، والحمد لله، ولا اله إلا الله، والله أكبر). القاع: المستوى من الأرض، والقيعة مثله، وجمعه أقوع وأقوع، وقيعان صارت الواو ياء لكسرة ما قبلها. والغراس: جمع غرس، وهو ما يغرس، والغراس أيضاً وقت الغرس مثل الحصاد، والجِداد والقطاف، والغرس إنما يصلح في التربة الطيبة وينمو في الماء العذب وأحسن ما يتأتى في القيعان. أعلمهم أن هذه الكلمات تورث قائلها الجنة وتفيده مخاوفها، وأن الساعي في إكسابها هو الذي لا يضيع سعيه لأنها المغْرِس الذي لا يتلف ما اسُتودع ولا يخلف ما نُبت فيه [1599] ومنه: حديث يسيرة رضي الله عنه قالت: قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (عليكن بالتسبيح والتهليل ... الحديث) هيلل الرجل وهلل، إذا قال: لا إله إلا الله، وقد أخذنا في التهليل والهيللة (192/أ) ومثله حيعل إذا قال حي على الفلاح، والعرب إذا كثر استعمالهم الكلمتين، ضمنوا بعض حروف احديهما إلى بعض حروف الأخرى، ومنه البرقيلة، وهو: قصد كلام لا فعل معه، يقولون: أخذنا في البرقلة، وهو مأخوذ من البرق الذي لا يتبعه مطر، ومنه الحوقلة والحولقة والبسلمة:

باب الاستغفار والتوبة

قال الشاعر: لقد بسملت هند غداة لقيتها .... فيا بأبي ذاك الحبيب المبسمل وفيه: (واعقدن بالأنامل) يقال: عقدت عليه الأنملة إذا عدّه، ومنه قولهم: فلان أول من يعقد عليه الخناصر، أي يبدأ به في حصر ذوي الألباب والأحساب، أحب - صلى الله عليه وسلم - أن يحصين تلك الكلمات بأناملهن ليحط عناه بذلك ما اجترحته من الأوزار. وفيه: (فإنهن مسئولات ...) أي: يسألن يوم القيامة عما اكتسبن ويستنطقن فيشهدن على أنفسهن بما اكتسبنها من الأوزار، قال الله تعالى:} وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم {. وفيه (فتنسين الرحمة) النسيان ترك الإنسان ضبط ما استودع، إما لضعف قلبه، وإما عن غفلة أو قصد، أي إنكن استحفظتن ذكر الرحمة، وأمرتن بمسألتها، فإذا غفلتن ضيعتن ما استودعتن عن ذلك، ويسرة هذه هي بنت ياسر أم خميصة، وهي جدة هانئ بن عثمان. ومن باب الاستغفار والتوبة (من الصحاح) [1601] حديث الأغر بن يسار المزني -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنه ليغان على قلبي ... الحديث) الغين لغة في الغيم، قال الشاعر يصف فرساً: كأني بين خافيتي عقاب .... أصاب حمامة في يوم غين وغين على كذا، أي: غطى عليه، وقال أبو عبيد في الحديث، أي يتغشى قلبي ما يلبسه، وقد بلغنا عن الأصمعي عبد الملك بن قريب أنه سئل عن هذا الحديث، فقال للسائل: عن قلب من يروي هذا؟ فقال: عن قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - ... فقال: لو كان غير قلب النبي - صلى الله عليه وسلم -، لكنت أفسره لك. ولله دره في انتهاجه منهج الأدب، وإجلاله القلب الذي جعله الله موقع وحيه، ومنزل تنزيله، وبعد فإنه مشرب سُدّ عن أهل اللسان موارده، وفتح لأهل السلوك مسالكه، وأحق من يعرب أو يعبر عنه مشايخ الصوفية الذين نازل الحق أسرارهم ووضع الذكر عنهم أوزارهم ونحن بالنور المقتبس من مشكاتهم نذهب في الوقوف عليه مذهبين:

أحدهما أن نقول: لما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أتم القلوب صفاء، وأكثرها ضياء وأعرقها عرفاناً) وكان معنياً مع ذلك بتشريع الملة، وتأسيس [السنة] ميسراً غير معسر، لم يكن له بد من النزول إلى الأخص والألفات إلى حظوظ النفس مع ما كان ممتحناً به من أحكام البشرية، فكان إذا تعاطى شيئاً من ذلك أسرع [كدورتها] إلى القلب لكمال رقته وفرط نورانيته، فإن الشيء كلما كان أرق وأضفى كان ورود التأثيرات عليه أبين وأهدى. وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا أحسن بشيء من ذلك عدّه على النفس ذنباً فاستغفر منه، ولهذا المعنى كان استغفاره عند خروجه من الخلاء فيقول غفرانك. والآخر أن نقول: إن الله تعالي كما فناه عن العالين، أراد أن يبقيه لهم لينتفعوا به، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لو ترك وما هو عليه وفيه من الحضور والتجليات الإلهية لم يكن ليتفرغ لتفرغ لتعريف الجاحد وتعليم الجاهل فاقتضت الحكمة الإلهية أن يرد إليهم الفينة بنوع من الحجبة والاستتار ليكمل حظهم فيرى ذلك من سيئات حاله فيستغفر منه، والله أعلم. [1603] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي ذر-رضي الله عنه- (إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر)، المخيط بكسر الميم بعدها خاء مجزومة: الإبرة، وكذلك الخّياط. قلت: وهذا كلام خرج مخرج المعهود من كلام الناس على سبيل الاتساع، فإن الذي تناه الإبرة من بلل البحر، وإن دق لا يخلو من نقصان ما، ومثل ذلك وما هو أدنى منه، لا مدخل له في سعة فضل الله وغناه. وفيه: (إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم ثم أوفيكم إياها)، أحصيها أي: أحفظها عليكم، فلا تعزب عن علمه مثقال ذرة، ومنه قوله سبحانه: {أحصاه الله ونسوه} وقوله: (أوفيكم إياها) أي: (أجزيكم) بها كاملة موفرة وأطلعكم عليها بالتمام. وتوفية الشيء: بذله وافياً، واستيفاؤه: تناول وافياً. [1604] ومنه: قوله صلى الله عليه في حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: (فنأى بصدره نحوها)

(193/أ) ناء بحمله، مثل ناع، إذا نهض به متثاقلاً، أي: نهض بصدره. وفيه تنبيه على [عجزه] النهوض بالكلية، ويجوز أن يكون مثل [تعني] أي تباعد بصدره ونحوها، وقد قرئ بهما في الكتاب} ونأي بجانبه {[والوجه] في الحديث هو الأول وقد وردت به الرواية، وقال عبد (الظاهر) الفارسي: يحتمل أن يكون ناء بمعنى نأى كقولهم: رأي وراء. [1605] ومنه: حديث أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لو لم تذنبوا لجأ الله بقوم يذنبون ...) لم يرد هذا الحديث مورد تسلية [للمنهكين] في الذنوب وتوهين أمرها على النفوس، وقلة الاحتفال منهم بمواقعهتها على ما يتوهمه أهل [الغرة] بالله، فإن الأنبياء -صلوات الله عليهم- إنما بعثوا ليردعوا الناس عن غثيان الذنوب، واسترسال نفوسهم فيها، بل ورد مورد [التنبيه والبيان] لعفو الله عن المذنبين، وحسن التجاوز عنهم، ليعظموا الرغبة في التوبة والاستغفار. والمعني المراد من الحديث هو أن الله تعالى كما أحب أن يحسن إلى المحسن، أحب أن يتجاوز عن المسيء، وقد دل على ذلك من أسمائه غير واحد من الأسماء، ولما كان من أسمائه الغفار، الحليم، التواب العفو، لم يكن ليجعل العباد شأناً واحداً كالملائكة مجبولين على التنزه من الذنوب، بل يحلق فيهم من يكون بطبعه ميالاً إلى الهوى مفتتناً بما [يقتضيه] ثم يكلفه التوقي عنه، ويحذره عن مداناته، إنكم لو كنتم مجبولين على ما جبلت عليه الملائكة لجاء الله بقوم يتأتى منهم الذنب فيتخلى عليهم بتلك الصفات على مقتضي الحكمة، فإن الغفار يستدعي مغفوراً، كما أن الرزاق يستدعي مرزوقاً. [1606] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي موسى -رضي الله عنه- (يبسط يده بالليل) بسط اليد عبارة

عن التوسع في الجود، والتنزه عن المنع عند اقتضاء الحكمة، ومنه الباسط، وقد ذكرناه وهو في الحديث تنبيه على سعة رحمة الله، وكثر تجاوزه عن الذنوب، والله أعلم. [1609] ومنه: حديث أنس -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لله أشد فرحاً ... الحديث) اللام المفتوحة التي تدخل على الكلمة للتوكيد، وقد فسروا الفرح -هاهنا- بالرضا. (193/ب) [واستدلوا بقول] بعض أهل التفسير في قوله {كل حزب بما لديهم فرحون} أي رضوان فإن [مال مائل] فلم يأت بالبيان على صيغته [فقد يمكنه أن يقول: أفرح] أشد رضي ثم إن استدلا له بقول أهل التفسير قول غير مقنع؛ لأنه في الآية عدول عن الظاهر من غير ضرورة. قلنا: نحن نسلك في بيان الحديث [غير] هذا المسلك وهو أنا نقول: هذا القول وأمثاله إذا أضيف إلى الله سبحانه وقد عرف أنه مما يتعارفه الناس في نعوت بني آدم على ما تقدم في غير هذا الموضع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد بيان المعاني الغيبية ولم يطاوعه رسمه [المسلك فله أن يأتي فيه ... يقع دونه] وأنه المعنى المراد ولما أراد أن يبين للعباد أن التوبة عند الله أحسن موقع عبر عنه بالفرح الذي عرفوه من أنفسهم في [أولى] الأشياء، وأحبها إليهم؛ ليهتدوا إلى المعنى المراد منه ذوقاً وحالاً، وذلك بعد أن عرفهم أن إطلاق تلك الألفاظ في صفات الله تعالى على ما يتعارفونه في نفوسهم غير جائز وهذا باب [يعرف في] كثير من وجوه المتشابهات، ولا يجوز لأحد أن يتعاطى هذا النوع في كلامه ويتسع فيه إلا للنبي صلى الله عليه وسلم فإنه يجوز له مالا يجوز لغيره لبراءة نطقه عن الهوى؛ ولأنه لا يقدم على ذلك إلا بإذن من الله تعالى، وهذه رتبة لا تنبغي لأحد إلا له - - صلى الله عليه وسلم -. [1610] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- (غفرت لعبدي فليعمل ما شاء)

قلت: قوله: (فليفعل ما شاء). كلام يستعمل تارة في معرض السخط والنكر وطوراً في صورة التلطف والحفاوة وليس المراد منه في كلتا الصورتين الحث على الفعل والترخص فيه؛ بل التعرض والترك له والتنبيه على الردع عنه وأكثر ما يوجد ذلك في التهديد والأعراض عن المخاطب وقلة الاحتفال به وعلى هذا الوجه يأول قوله سبحانه: {اعملو ما شيءتم إنه بما تعملون بصير} وأما في هذا الحديث فإنه ورد مورد الحفاوة بالمخاطب وحسن العناية به، وذلك مثل قولك لمن توده وترى منه الجفاء: اصنع ما شيءت فليس بتارك لك. وعلى هذا المعنى يحمل قوله - صلى الله عليه وسلم - - في حديث حاطب بن أبي بلعتة: (لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شيءتم فقد غفرت لكم). ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث شداد بن أوس -رضي الله عنه- (أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي) أي أقر لك بما أنعمت به علي وأعترف بما اجترحت من الذنب من قولهم باء بحقه أي أقر، وذا يكون أبداً بما عليه لا له قال لبيد: أنكرت باطلها وبؤت بحقها .... عندي ولم تفخر على كرامها [1631] ومنه: حديث أنس رضي الله عنه -عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء)

العنان: السحاب وإضافته على هذا المعنى إلى السماء غير فصيح وأرى الصواب أعنان السماء وهي صفائحها والمعترض من أقطارها كأنها جمع عنن فلعل الهمزة سقطت عن بعض الروايات أو الروايات أو ورد العنان بمعنى العنن. وفيه: (لو لقيتني بقراب الأرض خطايا) قراب الأرض: ماؤها، ومثله: طاقها وطلاعها وقد مر تفسيره. [1617] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- (فذلكم الران ذكره الله تعالى: {كلا بل ران على قلوبهم} أدخل الألف واللام في (ران) فأقام الكلمة مقام المصدر وذلك مثل قول الصحابي (نهى عن القيل والقال) و (كلا): ردع للمعتدي الأثيم: (بل ران) أي: غلب على قلوبهم فركبها كما يركب الصدأ الحديد. قال أبو عبيد: كل ما غلبك فقد ران بك ورانك وران عليك. ورين بالرجل: إذا وقع فيما لا يستطيع الخروج منه، ويقال: ران عليه الذنب وغان علينا ريناً وغيناً. [1618] ومنه حديث ابن عمر -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) الغرغرة: تردد الماء وغيره في الحلق، والغرغرة: صوت معه بحح. ويقال: الراعي يغرغر بصوته أي: يردده في حلقه وتغرغر صوته في حلقه أي: يتردد، ومعناه في الحديث: تردد النفس في الحلق عند نزع الروح وذلك في أول ما يأخذ في سياق الموت، وفسره بعض أهل الحديث: فقال: قبل أن يغرغر أي: قبل أن يبلغ الروح إلى الحلق.

وفيه نظر؛ لأنه تفسير غير مشهود به من ظاهر اللغة، بل هو غير سديد لمخالفته ظاهر النص قال الله تعالى: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت} {قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار} دلت الآية على أن التوبة ممن حضره الموت من ذوي المعاصي غير معتد بها كالإيمان من أهل الكفر عند معاينة الموت ولا يصح ذلك المعنى الذي لا يصح له الإيمان ثم إن التوبة إنما يتحقق مع إمكان النادم من العمل الذي يعزم على تركه [بعد] وبقاء الطمع في الحياة [....] إذا تحقق الموت وأيقن بانقطاع المدة، فتوبته غير معتد بها للمعنى الذي ذكرناه وقد حمل بعض المفسرين قوله: {للذين يعملون السيئات} على أهل النفاق [تحققاً] لصحة توبة المؤمن عند مشاهدة الموت، ولم يصنع شيئاً؛ لأنه عدول عن ظاهرة النص بغير دليل ثم إن قوله تعالى: {ولا الذين يموتون وهم كفار} ينقص عليه دعواه؛ لكون أهل النفاق من جملتهم، وإنما حمل الذاهب إلى هذا القول مع وهنه التشدد في العصبية مع من يفرط في الطرف الآخر من [.....] والحق أولى أن يتبع، والأخذ بالقول الجامع بين ظاهر الآية والحديث أولى من الذهاب إلى قول يفرق بين الآية والحديث، وإذا قرنا الغرغرة بتردد النفس في الحلق عند النزع، فلا شك في [....] وبين الآية، ويكون معنى قوله: (ما لم يغرغر) ما لم يحضره الموت، فإنه إذا حضره الموت يغرغر، بتردد النفس في الحلق ونحن نسعى في محافظة نص الكتاب وتقرير معنى الحديث على الوجه الذي يوافق الكتاب بعد أن عرفنا صحة ما يذهب إلية الشواهد التي ذكرناها ثم إنا وإن أنكرنا صحة التوبة ممن حضره الموت وأيقن بالهلاك وتحقيق انعدام إمكان المراجعة، فإنا لا نقول والحمد لله بسد باب الرحمة عنه وتحريم المغفرة عليه بل نخاف [عليه] ونرجو له العفو من الله فإن الله -تعالى- يقول: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}. [1619] ومنه: حديث [....]-رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله جعل بالمغرب باباً

عرضه مسيرة سبعين عاماً للتوبة الحديث. والمراد منه [والله أعلم- أن أمر التوبة هين] والناس عنه في فسحة وسعة ما لم تطلع الشمس من مغربها فإن باب [سعة] عرضه مسيرة سبعين عاماً لا يكاد يتضايق عن الناس إلا أن يغلق (195/ 1) وإغلاقه بطلوع الشمس من مغربها وذلك أن الناس [ترفع منهم] الأمانة ويصرون على المعاصي ويكثر فيهم الخبث، فلا تؤثر فيهم النذارات فيفجأهم تعالى بهذه الآية الملجئة إلى التوبة فيضطرون إلى الإيمان والتوبة في غير أوان التكليف، فلا ينفعهم ذلك، ويتحمل أن يكون الباب الموصوف عرضه بمسيرة سبعين عاماً هو المقدار [الذي] يتسع لجرم الشمس في طلوعها. [1623] منه حديث ابن عباس - رضي الله عنه- في قوله تعالي: {إلا اللمم} الحديث اللمم: ما قل وصغر، ومنه قولهم: ألم بالمكان إذا قل فيه ليثه وألم بالطعام: إذا قل منه تناوله ويقال: زيارته لمام، أي قليلة، ومنه قول القائل: لقاء أخلاء الصفاء لمام وإلى هذا المعني أشار ابن عباس - رضي الله عنه- بما نقله عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إن تغفر اللهم تغفر جماً وأي عبد لك لا ألما)، وقوله تعالى {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم} الاستثناء فيه منقطع ويجوز أن يكون قوله: {إلا اللمم} صفه إي: كبائر الإثم فالفواحش غير اللمم، قد تنوعت أقاويل أهل التفسير فيه، فمن قائل: هو النظرة والغمزة والقبلة، ومن قائل: الخطرة من الذنب ومن قائل: كل ذنب لم يذكر الله تعالى فيه حداً ولا عذاباً، ومن قائل عادة النفس الحين بعد الحين. ولا خفاء بأن المراد منه صغائر الذنوب لما ذكرناه من الشواهد اللغوية. فإن قيل فما وجه قول ابن عباس فيما أحال إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من الشعر وكان لا يقول شعراً. قلنا: البيت لأمية بن أبى الصلت الثقفي وكان - صلى الله عليه وسلم - يعجبه شعره وكان يقول فيه: أسلم شعره فيلفظ به على إرادة الدعاء والاستحان له، فاستشهد به ابن عباس معنى اللمم من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو من الرجز وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن الرجز ليس بشعر، وإنما الشعر ما كان مقفى آخره بعد تمام أوصاله على إحدى الأعاريض المشهورة من أنواعه فلهذا كان يجري هذا النوع على لسانه وكان يتجنب عما

عداه إما بالاكتفاء عن البيت بالمصراع الواحد كقوله (أصدق كلمة قالتها العرب، قول لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل) وإما بتحريفه عن سنن الوزن كصنيعه في بيت طرفة: ويأتيك من لم تزود بالأخبار وذلك لتنزهه عن أن يضاف إليه ما نفى الله عنه قال الله تعالى: {وما علمناه الشعر وما ينبغي له} والصحيح أن جريان الشيء اليسير منه على لسانه لا يلزم الاسم المنفي عنه. [1624] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي ذر رضي الله عنه: (عطائي كلام وعذابي كلام) وقد فسر بما بعده: (إنما أمري لشيء إذا أردت أن أقول له: كن فيكون)، والمعنى أن الخلق يعتريهم العجز في أحوالهم ويعتورهم العوز في إعطائهم ثم إنهم يفتقرون فيه إلى مادة فينقطع بهم انقطاع المادة، وأنا الغني والقادر الذي لا يفتقر إلى المواد ينقص ما عنده بالعطاء، وإني إذا أرادت إيجاد شيء لم يتأخر كونه عن الأمر. والحمد لله رب العالمين وصلواته على سيدنا محمد وآله الطاهرين، ورضي الله عن أصحابه أجمعين وحسبنا الله ونعم الوكيل (195/ب).

بسم الله الرحمن الرحيم رب تم بالخير. الحمد لله رب العاملين حمد الشاكرين، وصلى الله على خير خلقه ومظهر حقه محمد وآله الطيبين وأصحابه الطاهرين: ومن الفصل (من الصحاح) [1628] حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لما قضي الله الخلق ... الحديث) القضاء: فصل الأمر، قولاً كان ذلك أو فعلاً، فقوله: (قضي الله الخلق) أي خلقهم ومن هذا القبيل قوله تعالى: {فقضاهن سبع سموات في يومين}. وفيه: (فهو عنده فوق العرش) يحتمل أن يكون معناه: فعلم ذلك عنده، ويحتمل أن يكون المراد من الكتاب الشيء المكتوب نفسه، وأياً أراد به، فقوله: (فوق العرش) تنبيه على جلال قدر ذلك الكتاب، واستئثار الله إياه بعلمه، وتفرده بعلم ما تضمنه، [ومحيطه] الذي [...] فيه، حيث وضعه بأكرم موضع، ورفعه أعز مرفع. وفيه: (إن رحمتي سبقت غضبي) وفي رواية (غلبت): المراد من هذا الكلام بيان سعة الرحمة وشمولها على الخلق، حتى كأنها السابق والغالب، وهو جار مجرى الاستعارة على مجاز كلام العرب في المبالغة، يقال: غلب فلان المنع، وغلب على فلان العطاء، أي أن الشيء الموصوف بالغلبة أكثر أفعاله وأظهر خصاله، وإنما أولنا الحديث على هذا؛ لأن غضب الله ورحمته صفتان من صفاته راجعتان إلى إرادته الثواب والعقاب، وصفاته لا توصف بالسبق والغلبة لإحديهما على الأخرى. [1629] ومنه حديثه الآخر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن لله مائة رحمة ....) الحديث، رحمة الله تعالى غير متناهية، فلا يعتورها التجزئة والتقسيم، وإنما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يضرب لأمته مثلاً، فيعرفوا به التناسب

الذي بين الجزئين، ويجعل لهم مثالاً فيفهمواً به التفاوت (1/أجـ 2) الذي بين القسطين؛ قسط أهل الإيمان منها في الآخرة، وقسط كافة المربوبين في الأولى فجعل مقدار حظ الفئتين من الرحمة في الدارين على الأقسام المذكورة تنبيهاً على المستعجم، وتوفيقاً على المستبهم، ولم يرد به تحديد ما قد جل عن الحد، أو تعديد ما تجاوز عن العد. [1632] ومنه حديثه الآخر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (قال رجل لم يعمل خيراً قط لأهله ...) الحديث. المشكل من هذا الحديث قوله: (لئن قدر الله عليه ليعذبنه)، ولقائل أن يقول: معناه: لئن ضيق الله عليه الأمر بالمؤاخذة والمعاتبة، من القدر لا من القدرة، قال الله تعالى: {ومن قُدِرَ عليه رزقه}، أي ضُيق، غير أن هذا الحديث روى من غير وجه وفي وجه وفي بعض طرق الصحاح: (فعلى أُضِلّ الله) يريد: فلعلي أفوته. ومنه قولة تعالى: {في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى} أي لا يفوته. وقوله هذا [ينبئ] انه أراد التمنع بالتحريق عن قدرة الله عليه في هذا، ونحن وقد علمنا من سياق الحديث، أنه لم يكن من منكري البعث، وأخبرنا الصادق المصدوق صلوات الله عليه بأن الله غفر له فنحن ملجأون بأن نشهد له بالإيمان وأن الله لا يغفر لمن يشرك به، مع دلالة الكلمتين -أعني (لئن قدر الله عليه) وقوله: (فلعلي أضل الله) على أنه كان جاهلاً بصفتين من صفات الله: العلم والقدرة، فلابد من وجه يسلم لنا معه القول بإيمانه. وقد سبق الأولون في بيانه بتأويلات لم تترك للآخرين مقالاً، ونحن ذاكرون منها ما هو أوجه وأنفى للشبهة. فمنه قولهم: إن الرجل ظن أنه إذا فعل هذا الصنيع ترك فلم ينشر، ولم يعذب، وأما تلفظه بالكلمتين؛ فلأنه كان جاهلاً بذلك. وقد اختلف في مثله: هل يكفر أم لا؟ بخلاف الجاحد للصفة. ومنه أن كلامه هذا ورد مورد التشكك فيما لا يشك فيه، وله نظائر في كلام العرب، وهو المسمى عند أهل البلاغة يتجاهل العارف، وبه تأولوا قوله تعالى: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك}. قلت: ويقرب من هذا الباب قول الحواريين: {يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء}. ومنه أن الرجل لقي من هول المطّلع ما أدهشه وسلب عقله، فلم يتمكن من تمهيد القول وتخميره، فبادر يسقط من القول، وأخرج كلامه مخرجاً لم يحصله [.....] ويعتقد حقيقته، وهذا أسلم الوجوه من المعارضات، وأحقها عندي بالتقديم.

[1633] ومنه حديث (1/ب جـ 2) عمر -رضي الله عنه-: قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - سبي ....) الحديث. السبي: النساء والولدان يسبون عن العدو؛ تقول: سبيت العدو سبياً وسبأ. وفيه: (قد تحلب ثديها تسعى). تحلب من باب تفعل، أي سأل. ومنه حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: (رأيت عمر يتحلب) أي يتهيأ رُضابه من السيلان. وتسعى أي تعدو، وروى في كتاب مسلم (تبتغي). وري أيضاً في كتاب البخاري (تسقي) وليس بشيء. وقوله (تعي) فيما تكلف من العمل، أو تسعى في طلب الولد فتجيء وتذهب، وهذا أمثل لما في الرواية الأخرى: (تبتغي إذا وجدت صبياً في السبي أخذته) إنما نكر صبياً على 'رادة أنه لم يكن يعلم أنه ولدها، أو على إضمار لها، فكأنه قال: صبياً لها. ومن رواة الكتابين من يرويه: (إذا وجدت صبياً فأخذته)،وهذه الرواية أحسنها سياقاً، لاتساق نظم الكلام فيها وإذا هما أصوب الروايات. وقوله: (عباده) عموم أريد به الخصوص، وأكثر ما ورد العباد في الكتاب بمعنى الخصوص، قال الله تعالى: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} وقال: {يا عبادي لا خوف عليكم اليوم} وقال} وعباد الرحمن} وقال: {فوجدا عبداً من عبادنا} وإنما يذهب فيه إلى الخصوص لما قد عرفنا من أصل الدين أن من أهل الإيمان من يعذب بذنوبه في النار. [1634] ومنه حديث أبى هريرة -رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لن ينجي أحداً منكم عمله)، الحديث. [فما] المراد من هذا الحديث نفي العمل وتوهين أمره، بل توقيف العباد على أن العمل إنما يتم بفضل الله وبرحمته؛ لئلا يتكلوا على أعمالهم اغتراراً بها، فإن الإنسان ذو السهو والنسيان عرضته الآفات

ودرته للغفلات، قلما يخلص له عمل من شائبة رياء أو شهوة خفية أو فساد نية، أو قصد غير صالح، ثم إن سلم له العمل من ذلك فلا يسلم إلا برحمة من الله، فإن أرجى عمل من أعماله لا يفي بشكر أدنى نعمة من نعم ربه، فأنى له أن يستظهر بعمل لم يهتد إليه [...] إلا برحمة من الله وفضل. وفيه (إلا أن يتغمدنى برحمة منه): أي يستر [عوراتي. ولعلها] من قولهم: غمدت السيف. أي جعلته في غمده، وهو غلافه، وتغمده برحمته أي غمده بها (2/ أجـ 2) وتغمدت فلاناً أي سترت ما كان منه وغطيته. وفيه: (فسدوا وقاربوا): سدد الرجل: إذا صار ذا سداد، وسدد في رميته إذا بالغ في تصويبها وإصابتها. وقارب الإبل: أي جمعها حتى لا تتبدد. ويقال: قارب فلان فلاناً: إذا كلمه بكلام حسن، والمقاربة أيضاً القصد في الأمور التي لا غلو فيها، ولا تقصير. والمراد منه طلب الإصابة فيما يتوجه به إلى الله، والأخذ بما لا إفراط فيه ولا تفريط. ويدل عليه ما بعده أي خذوا في طريق المعاملة مأخذ الخبير بقطع المسافة، فيغدو في طاعة الله، ثم يوفى نفسه حقها، ثم يروح ثم يستريح، ثم يستعين بسير بعض الليل. والدلجة: سير الليل، وهو الدرج أيضاً. قوله: (وشيء من الدلجة) مجرور بالعطف على قوله: (واستعينوا بالغدوة والروحة) وفيه (القصد القصد) أي الزموا القصد أو التمسوه، ويأول على معنيين أحدهما: الاستقامة فإن القصد هو استقامة الطريق. والآخر: الأخذ بالأمر الذي لا غلو فيه ولا تقصير، فإن القصد يستعمل فيما بين الإسراف والتقتير، وقد مر بيان هذا الحديث فيما قبل. [1636] ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا أسلم العبد فحسن إسلامه يكفر الله عنه كل سيئة كان زلفها ..) الحديث. زلفها: أي قدمها، قال أبو عبيد: الزلف التقدم، يقال: تزلف وازدلف: إذا تقدم.

وفيه: (وكان بعد القصاص) قصاص- ههنا- المجازاة وإتباع كل عمل بمثله وأخذ القصاص من القصص الذي هو تتبع الأثر، وهو رجوع الرجل من حيث جاء، قال الله تعالى: {فارتدا على آثارهما قصصاً} فالقصاص أن يؤخذ الجاني في السبيل الذي جاء منه فيجرح مثل جرحه، أو يقتل كقتله صاحبه، وذلك يفيد معنى المماثلة والمجازاة، فلهذا استعمال في الحديث بمعنى المماثلة والمجازاة، وجاء قوله: (الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسيئة بمثلها) مجيء التفسير للقصاص. [1640] ومنه حديث عامر الرام قال: بينا نحن عنده يعني عند النبي - صلى الله عليه وسلم - (2/ ب جـ 2) إذ أقبل رجل عليه كساء وفي يده شيء قد التف عليه ..) الحديث. التف عليه أي رد عليه بثوبه أو كسائه أو ما أشبه ذلك، والأشبه أن يكون لفظ الحديث قد لفف عليه، فإن المستعمل: تلفف في ثوبه ولففت ثوبه، ولفف الشيء ولففته- بالتشديد- إذا أراد المبالغة. قلت: ومثل هذا الحديث روي عن ابن مسعود- رضي الله عنه- وذكر فيه أنه أخذ أفراخ طائر. فإن كان الحديثان في قضية واحدة فالرجل المذكور في هذا الحديث هو ابن مسعود. وفيه (مررت يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغيضة شجر) البغيضة الأجمة وهي مغيض ماء مجتمع ينبت فيه الشجر فيلتف بعضه ببعض، ومنه قيل للشجر الملتف غيضة. وفيه: (وأبت أمهن إلا لزومهن) أي ألمت بفراخها وأبت أن تفارقهن. وفيه: (أتعجبون لرحم أم الأفراخ فراخها). الرحم بالضم: مصدر كالرحمة، ويجوز تحريكه، مثل عر وعر، قال زهير: ومن ضريبته التقوى ويعصمه .... من سيئ العثرات الله والرحم

وأرى امتناعه أن يجئ بالكلمة الثانية على وزان الأولى- أعني الأفراخ والفراخ- لوجهين: أحدهما: اختيار الأبلغ من الكلام في تكرار الكلمة الثانية على غيرة وتيرة الأولى. والآخر: أن الأفراخ الأفراخ جمع قلة، والفراخ جمع كثرة، والطير لما كانت مختلفة الأحوال في البيض والإفراخ على حسب نوعها وقليل من المصيدة منها ما تزيد على الفرخين، والنادر منها ما يبلغ إلى السبعة سوى طيور الماء؛ أضاف [الأم] إلى جمع القلة لتعم الأنواع كلها، وذكر أفراخها بلفظ الجمع الذي هو [الفراخ] ليدل على كثرتها. فإن قيل: الفراخ وإن كانت من جموع الكثرة فإنها خالية عن علامة الجمع، وبناؤها على صورة الواحد كالكتاب والحجاب، وما كان من الجموع على هذه الصيغة ساغ فيها توهم الواحد. كقول الشاعر: مثل الفراخ [نبتت] حواصله فما الدلالة فيها على الكثرة؛ وقد جوز فيها توهم الواحد؟ قلنا: لا خلاف في كون الفراخ جمع كثرة، والقول في البيت مبني على الشذوذ، ثم إن اضمائر المتعاقبة في الحديث [تأبى] إلا الكثرة، [كقول الرجل: (فأخذتهم فوضعتهم]: فجاءت أمهن)، وقوله: (وأمهن معهن): مرفوع بالابتداء (3/ أجـ 2) والواو فيه واو الحال، وعامر الرام يقال له: أخو الخضر، والخضر قبيلة من قيس غيلان، ويقال له أيضاً: عامر الرامي بإثبات الياء. ومن باب [....] (من الصحاح) [1641] حديث عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم إنى أعوذ بك من الكسل والهرم وسوء الكبر) الكسل: التثاقل عما لا ينبغي التثاقل عنه، ويكون ذلك لعدم انبعاث النفس للخير، مع ظهور الاستطاعة، فلا يكون معذوراً، بخلاف العاجز فإنه معذور لعدم القوة، وفقدان الاستطاعة، و (الهرم): كبر السن، الذي يؤدي إلى تهاون الأعضاء، وتساقط القوى، وإنما استعاذ منه

لكونه من الأدواء التي لا دواء لها. و (سوء الكبر): أراد بسوء الكبر ما يورثه كبر السن من ذهاب العقل، والتخبط في الرأي وغير ذلك، مما تسوء به الحال، ورواه بعضهم ساكنة الباء، وليس بصحيح، وروى من غير هذا الطريق عنه أيضاً: (وسوء الكفر) أي سوء عاقبة الكفر، ويحتمل أن المراد من الكفر: كفران النعمة. [1643] قال - صلى الله عليه وسلم - حديث أبي هريرة: (فلينقض فراشه بداخله إزاره) قيل: لم يأمره بداخل الإزار دون خارجته؛ لأن ذلك أبلغ وأجدى، وإنما ذلك على جهة الخبر عن فعل الفاعل؛ لأن المؤتزر إذا ائتزر يأخذ أحد طرفي إزاره بيمينه، والآخر بشماله، فيرد ما أمسكه بشماله على جسده، وذلك داخلة إزارة، ويرد ما أمسكه بيمينه على ما يلي جسده من الإزار، فإذا صار إلى فراشه فحل إزاره، فإنما يحل بيمينه خارجة الإزار ويبقى الداخلة معلقة، وبها يقع النفض فإن قيل: فلم لا يقدر الأمر فيه على العكس؟ قلنا: لأن تلك الهيئة هي صنيع ذوي الآداب في عقد الإزار، ومناط الفائدة فيه أن المؤتزر إذا عاجله أمر فخاف سقوط إزاره أمسكه بالمرفق الأيسر، ودفع عن نفسه بيمينه، وفي رواية: (فلينفضه بصنفة ثوبه) صنفة الإزار بكسر النون طرفه، وهي جانبه الذي لا هدب له. قلت: وذلك ملائم للقول الأول، فإن ذلك الجانب يجعل داخله الإزار وقيل: صنفة الثوب: حاشيته، أي جانب كان. [1644] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث البراء بن عازب- رضي الله عنه-: (وألجأت ظهري إليك) ألجأته إلى الشيء أي [أضطجعته] إليه [و (يستند)] في مثل (3 ب/ جـ 2).

هذا الموضع بمعنى الإسناد، يقال ألجأت أمري إلى الله أي: أسندته، وفيه تنبيه على أنه اضطر ظهره إلى ذلك، حيث لم يعلم له سناداً يتقوى به غير الله، ولا ظهراً يشتد به أزره سواه. وفيه: (رغبة ورهبة إليك): الرغبة: السعة في الإرادة، والرهبة: مخافة مع تحرز واضطراب، وهما متعلقان بالإلجاء في معنى المفعول له. ومعنى (إليك) أي: صرفت رغبتي فيما أريده إليك قال الشاعر: وإلى الذي يعطي الرغائب فارغبي قيل إنه أعمل في الحديث لفظ الرغبة وحدها، ولو أعمل كل واحد منهما لكان من حقه أن يقول: رغبة إليك ورهبة منك، والعرب تفعل ذلك، ومنه قول الشاعر: ورأيت بعلك في الوغى متقلداً سيفاً ورمحا وفي نظائره كثرة. قلت: ولو زعم زاعم احتمال أن يكون (إليك) متعلقاً بمحذوف، مثل قولك: متوجهاً بهما إليك، لم نستبعده. وفيه: (بنبيك الذي أرسلت) في بعض طرق هذا الحديث عن البراء أنه قال: قلت: (وبرسولك الذي أرسلت) قال: (وبنبيك) وقيل: إنما رد عليه قوله؛ لأن البيان صار مكرراً من غير إفادة زيادة في المعنى: وذلك مما يأباه البليغ، ثم لأنه كان نبياً قبل أن كان رسولاً، ولأنه اختار أن يثني عليه بالجمع بين الاسمين، ويعد نعمة الله في الحالتين، تعظيماً لما عظم الله موقعه عنده من من الله عليه، وإحسانه إليه، وقيل: إنما رد عليه لاحتمال أن ينازعه في الاحتمال بعض رسل الله من الملائكة، قال الله تعالى: {الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس} فأراد بذلك تخليص الكلام من اللبس، والتصديق بنبوته، وهذا الوجه لا بأس به إن لم يعترض عليه معترض؛ فيقول: إن كان العلة فيه احتمال أن يراد به جبريل أو

غيره من رسل الملائكة- فإن مثل هذا الاحتمال غير منفي عن قوله: (ونبيك الذي أرسلت) لاحتمال أن يراد به رسول آخر من أنبياء الله عز وجل، والوجه هو الاول. (ومن الحسان) [1648] حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أصبح قال: (اللهم بك أصبحنا وبك أمسينا ..) الحديث: السياء متعلق بمحذوف فكأنه يريد بنعمتك أصبحنا أو بحياطتك وكلاءتك] أو بذكرك واسمك، وبك نحيا وبك نموت أي: باسمك نحيا وباسمك نموت. ويكون في معنى الحال أي: مستجيرين ومستعيذين (4/ أ/ جـ 2) باسمك في جميع الأوقات، وسائر الأحوال، في الإصباح والإمساء، والمحيا والممات. ومثله في حديث حذيفة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم باسم أموت وأحيا) أي: لا أنفك عنه، ولا أهجره، محياي ومماتي. [1649] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة فيما أمر به أبا بكر الصديق- رضي الله عنه- من الدعاء: (ومن شر الشيطان وشرطه) ويروى (وشركه) بكسر الشين وسكون الراء أي: ما يدعو إليه من

الإشراك [بالله] عز وجل، ويوسوس، وبفتح الشين والراء: ما يفتن به الناس من حبائله؛ والشرك حبالة الصائد، الواحدة: شركه. [1656] ومنه حديث ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: (لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدع هؤلاء

الكلمات حين يمسي وحين يصبح: (اللهم إني أسألك العافية ..) الحديث: عافاه الله وأعفاه بمعنى، والاسم العافية، وهي دفاع الله عن ابعد، ويوضع موضع المصدر، مثل راغية البعير، فإن العفو هو التجافي عن الذنب ومحوه والأصل فيه القصد لتناول الشيء يقال عفاه واعتفاه أي: قصده متناولاً ما عنده، وعفت الريح الديار قصدتها متناوله آثارها؛ والعافية: دفاع الله عن العبد الأسقام والبلايا ويندرج تحت قوله: (في الدنيا والآخرة) كل مشنوء ومكروه، وفي غير هذه الرواية: (أسألك العفو والعافية والمعافاة في الدين والدنيا والآخرة). والمعافاة أن يعافيك الله عن الناس ويعافيهم عنك. وفيه: (اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي): عورات ساكنة الواو جمع عورة، وأراد كل ما يستحي منه ويسوء صاحبه أن يرى ذلك منه وقرأ بعضهم {عورات النساء} بالتحريك، وإنما يحرك الثاني من فعله إذا لم يكن ياء أو واواً، والروعات جمع الروعة وهي الفزعة. وفيه: (اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي): الجهات الأربع هي مأتى البليات من قبل الخلق لاسيما الشيطان وهو المخرج عباد الله بدعواه في قوله {لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم} في الآية والحديث: (من بين أيديهم ومن خلفهم) بحرف الابتداء، و (عن أيمانهم وعن شمائلهم) بحرف المحاوزة، وذلك لأن المفعول فيه عدى إليه بالواو وتعديته إلى المفعول به (4/ ب/ جـ 2) فلما اختلف حرف التعدية في ذاك اختلف في هذا، وأما جهة فوق فإن منها ينزل البلاء والصواعق والعذاب

وفيه: (وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي) أي: أهلك بالخسف؛ والأصل في الاغتيال أن يؤتى المرء من حيث لا يشعر، وأن يدهى بمكروه ولم يرتقبه؛ قال الله تعالى: {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم}. [1661] ومنه حديث علي رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول عند مضجعه: (اللهم إني أعوذ بوجهك الكريم، وكلماتك التامات ..) الحديث. العرب تطلق الكريم على الشيء النافع الذي يدوم نفعه، ويسهل تناوله، وكل شيء يشرف في بابه يصفونه بالكرم، ولا يستعمل الكرم في وصف أحد إلا في المحاسن الكثيرة، ولا يقال كريم حتى يظهر ذلك منه، والمراد من الوجه قيل هو ذات الله تعالى، والعرب تقول: أكرم الله وجهك أي: أكرمك، ويستعمل الوجه في أشرف ما يقصد، وأعظم ما يبتغي، ووجه الله الكريم أشرف ما يتوجه إليه، وأكرم ما يتوصل به؛ ولهذا المعنى قال نبي الله عز وجل - صلى الله عليه وسلم -: (لا يسأل بوجه الله إلا الجنة) كراهة أن يسأل به السائلون عرضاً من أعراض الدنيا. تفسير كلمات الله التامات قد مر، فأما اختصاص وجه الله الكريم وكلماته التامات بالذكر عند الاستعاذة هو أن العوذ إنما يصح بمن انتهى كرمه، وعلا شأنه، وكملت قدرته، فلا يخذل المستعيذ به ولا يسلمه ولا يخيب رجاءه، ولا يعجزه عن أمره، ولا يحيله إلى غيره، وذلك مما لا يوجد إلا عند الله، ولا ينال إلا منه، وذكر كلمات الله تعالى ليعلم أن الاستعاذة بها كالاستعاذة بالله مع ما تتضمنه من الإشارة اللطيفة وهي أن الكلمة الواحدة منها تسد مسد الحاجة العبد ولو عظمت، قال اله تعالى: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون}.

وفيه: {أنت آخذ بناصيته}: الأخذ بالناصية تمثيل لكون كل شيء في قبضته وملكته، وتحت قهره وسلطانه، وإنما لم يقل: من شر كل شيء استغناء بوضوح البرهان على أن لا شيء في الموجودات إلا وقد اشتملت عليه، وهو تحت قدرته الأزلية موسوم بالذل والصغار (5/ أ/ جـ 2). وفيه: (اللهم أنت تكشف المغرم والمأثم): الغرم والمغرم: ما ينوب الإنسان منه في ماله من ضرر لغير جناية منه، وكذلك ما يلزمه أداؤه. ومنه الغرامة، والغريم: الذي عليه الدين، والأصل فيه الغرام، وهو الشر الدائم، والعذاب، المراد من المغرم ما يلزم به الإنسان من غرامة، أو يصاب به في ماله من خسارة، وما يلزمه كالدين، وما يلحق به من المظالم. والمأثم مصدر كالإثم: وهو الوقوع في الذنب، وفيه: (ولا ينفع ذا الجد منك الجد) فسر الجد قبل ذلك بالغنى، وهو أكثر الأقاويل، وهو في المعنى بمنزلة قوله تعالى: {وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى}. وقيل المراد منه الحظ، وهو الذي يسميه العامة البخت. وقد ورد في الحديث أن جمعاً من المسلمين في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - تذاكروا فيما بينهم الجدود، فقال بعضهم: جدي في النخل، وقال الآخر: جدي في الإبل، وقال الآخر: جدي في كذا، فسمع به النبي - صلى الله عليه وسلم - فدعا يومئذ بدعائه هذا؛ فإن صح فهو الوجه، لا معدل عنه؛ إلا أن فيه مقالاً، ورواه بعضهم بكسر الجيم، ورد عليهم أبو عبيد فقال: الجد: الانكماش، والله تعالى دعا الناس إلى طاعته، وأمرهم بالانكماش عليها على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم -؛ فكيف يدعوهم إليه، ويأمرهم به، ثم يقول لا ينفعهم؟! وقال ابن الأنباري: ما أظن القوم ذهبوا في معناه إلى الذي قاله أبو عبيد، بل ذهبوا إلى أن صاحب الجد على حيازة الدنيا الحريص عليها لا ينفعه ذلك، وإنما ينفعه عمل الآخرة. [1664] ومنه حديث ابن عمر- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (خلتان لا يحصيهما رجل مسلم ..) الحديث: خلتان أي خصلتان لا يأتي عليهما رجل مسلم بالإحصاء كالعاد للشيء، ومعناه ما ذكره في

الرواية الأخرى (لا يحافظ عليهما)، ويحتمل أن يكون من الإطاقة أي: لا يقوم بتحمل أعبائهما رجل مسلم، ويدل عليه قول السامعين لهذا الخطاب: (وكيف لا يحصيهما؟) وفيه: (فتلك مائة وخمسون باللسان) أي: إذا أتى بالعشرات الثلاث دبر كل صلاة من الصلوات الخمس فتلك مائة وخمسون. وأما قوله في الرواية الأخرى: (فتلك مائة باللسان) فإنما هي بعد كل صلاة. [1667] ومنه حديث أبي الازهر الأنماري رضي الله عنه (5/ ب/ جـ 2) (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أخذ مضجعه من الليل، قال: باسم الله وضعت جنبي، اللهم اغفر لي ذنبي، واخسأ شيطاني). خسأت الكلب، فانخسأ، أي: زجرته مستهيناً به فانزجر، وخسأ الكلب بنفسه، يتعدى ولا يتعدى، والمعنى: اجعله مطروداً عني كالكلب المهين، وإنما قال: (شيطاني) لأنه أراد به قرينه من الجن، وأراد: الذي ينبغي غوايته، فأضافه إلى نفسه. وفيه: (وفك رهاني): فك الرهن: تخليصه، وارهن: ما يوضع وثيقة الدين، والرهان مثله، وأكثرهم على أن الرهان يختص بما يوضع في الخطار.

وأراد بـ (الرهان) - هننا-نفس الإنسان؛ لأنه مرهون بعملها؛ قال الله تعالى: {كل امرئ بما كسب رهين} أي: محبس بعمله. وفيه: (واجعلني في الندى الأعلى): الندى: أصله المجلس؛ لأن القوم يجتمعون فيه، وإذا تفرقوا لم يكن ندياً، ويقال- أيضاً- للقوم، تقول: ندوت القوم ندوا، أي: جمعتهم، والمعنى: اجعلني من القم المجتمعين. ويريد بـ (الأعلى) الملأ الأعلى، وهم الملائكة أو من أهل الندى: إذا أريد به المجلس ويقال: لا يكون الندى إلا الجماعة من أهل الندى والكرم. ويروى: (في النداء الاعلى) وهو الأكثر، والنداء: مصدر ناديته، ومعناه: أن ينادي به؛ للتنويه والرفع منه، ويحتمل أن يراد به: نداء أهل الجنة-فهم الاعلون رتبة ومكاناً- أهل النار، كما في القرآن: {ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا}.

باب الدعوات في الأوقات

ومن باب الدعوات في الأوقات (من الصحاح) [1674] حديث ابن عمر- رضي الله عنه-: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا استوى على بعيره خارجاً إلى السفر ... الحديث): (استوى على بعيره) أي: استقر على ظهره. وفيه: (وما كنا له مقرنين): أي: مطيقين؛ يقال: أقرن الشيء: إذا أطاقه؛ قال ابن هرمة: وأقرنت ما حملتني ولقلما .... يطاق احتمال الصبر يا دعد والهجر وقيل: حقيقة (أقرنه): وجده في [قرن] وما يقرن به [لأن الضعيف] لا [يكون قرينه الضعيف] ولهذا قيل في الضعيف: لا يقرن به الصعبة. وفيه: (وإنا إلى ربنا لمنقلبون): أي: راجعون إليه، والانقلاب: الانصراف، ووجه التلفيق بين الفصلين، وحقيقة المناسبة بين القولين: أن نقول: إن الله تعالى لما أمر عبده بشكر ما أنعم عليه- من التسخير والتمليك الذي [11/ 6/ أ] هو من خاصية الإنسان وتابعة السر المودع فيه لاستعداد الخلافة، وأمره بالاعتراف بكونه قاصراً عن تسخير ما سخر له من مراكب البر والبحر. بل سبحانه بفضله ورحمته سخر له ذلك، وأعانه عليه- جعل من تمام شكره: أن يتذكر عاقبة أمره، ويعلم أن استواءه على مركب الحياة كاستوائه على ظهر ما سخر له، لم يكن في المبدأ مطيقاً له، ولا يجد في المنتهى بدا منا لنزول عنه، ثم ليتذكر ركوب مركب الاحياء، ومنه معدل ركوب مركب الاموات، ولا محيد عنه. وفيه: (أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل): الصاحب: هو الملازم، وأراد بذلك: مصاحب إياه بالعناية والحفظ؛ وذلك أن الإنسان أكثر ما يبغي

الصحبة في السفر يبغيها للاستئناس بذلك، والاستظهار به، والدفاع لما ينوبه من النوائب؛ فنبه بهذا القول على حسن الاعتماد عليه، وكمال الاكتفاء به عن كل صاحب سواه. (الخليفة):هو الذي ينوب عن المستخلف فيما يستخلفه فيه، والمعنى: أنت الذي أرجوه وأعتمد عليه في غيبتي عن أهلي: أن تلم شعثهم [...] أودهم، وتداوي سقمهم، وتحفظ عليهم دينهم وأمانتهم. وفيه: (اللهم، إني أعوذ بك من وعثاء السفر): (وعثاء السفر): مشتقة، أخذ من الوعث، وهو المكان السهل الكثير الدهس الذي تعب الماشي فيه، ويشق عليه. وفيه: (وكآبة المنظر): [الكآبة والكأبة والكأب]: سوء الهيئة والانكسار من الحزن، والمراد منه: الاستعاذة من كل منظر يعقب الكآبة دون النظر إليه. وفي حديث عبد الله بن سرجس، وهو التالي لهذا الحديث: (وكآبة المنقلب): وهو أن ينقلب من سفره بأمر يكتئب منه مما أصابه في سفره، أو مما قدم عليه في نفسه وذويه وماله وما يصطفيه. وفي معناه: (سوء المنقلب) وهو الانقلاب بما يسوؤه. [1675] وفي حديث ابن سرجس: (والحور بعد الكور): أي: النقصان بعد الزيادة، واستعمال هذا القول على هذا الوجه مستفيض في كلامهم، وهو مشتل على سائر ما يراد ويتقي من أمر الدين والدنيا.

وقيل: أعوذ بك أن تفسد أمرنا، وتنقض بعد صلاحها، كانتقاض العمامة بعد استقامتها على الرأس؛ يقال: كار عمامته: إذا لفها، وحارها: نقضها. وقيل: نعوذ بالله منا لرجوع عن الجماعة بعد أن كنا في جماعة، وفيه نظر؛ لأن استعمال (الكور) في جماعة الإبل خاصة، وربما استعمل في البقر. وقد روى: (من الحور بعد الكون) بالنون، ومعناه: الرجوع عن الحالة المستحسنة بعد أن كان عليها، وفي كلامهم: حار بعد ما كان. [1678] ومنه: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا كان في سفر، وأسحر .. الحديث): أسحر، أي: صار في وقت السحر، وهو قبيل الصبح، وأسحر- أيضاً-: إذا سار وقت السحر؛ وعلى الأول معنى الحديث، لأنه أعم، ثم إنه كان يقصد بذلك الشكر على انقضاء ليلته بالسلامة ويراقب فضيلة الوقت فإنه من ساعات الذكر، وهو خاتمة الليل، وأفضل أوقات التفرغ للذكر من سواد الليل وبياض النهار، والفاتحة والخاتمة، وأفضل الفاتحتين- على ما استبان لنا [من الرسول - صلى الله عليه وسلم -]- فاتحة النهار، [وأفضل] الخاتمتين: خاتمة الليل. وفيه: (سمع سامع بحمد الله، وحسن بلائه علينا): قيل: لفظه خبر، ومعناه أمر، أي: ليسمع، والذهاب فيه إلى الخبر أقوى، لظاهر اللفظ، والمعنى: أن من كان له سمع، فقد سمع بحمد الله فيه، وأفضاله إلينا، وأن كلا الأمرين قد اشتهر واستفاض حتى لا يكاد يخفى على ذي سمع، وأنه لا انقطاع لأحد الأمرين، وكل منهما مقترن بالآخر. وجمع في قوله هذا بين قسمي الثناء والدعاء بأوجز ما يقال من الالفاظ، وأبلغ ما يراد من المعاني. وأراد بـ (البلاء) النعمة، والله- سبحانه وتعالى- يبلو عباده تارة بالمضار ليصبروا، وطوراً بالمسار ليشكروا، فصارت المحنة والمحنة جميعاً بلاء، لموقع الاختبار، [والمنحة] أعزم البلاءين، لاسيما لذوي النفوس الكاملة، لأنها الموجبة للقيام بحقوق الشكر، والقيام بها أتم وأصعب، وأعلى وأفضل من القيام بحقوق الصبر. والتفت إلى هذا المعنى عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- في قوله: (بلينا بالضراء فصبرنا، وبلينا بالسراء فلم نصبر).

وفيه: (ربنا صاحبنا وأفضل علينا): أراد به: المصاحبة بالعناية والكلاءة على ما ذكرنا (وأفضل علينا)، [13/ 7/ أ] أي: أحسن إلينا، وفيه إشارة إلى أنه مع ما ذكر من مزيد نعم الله، بحسن بلاءه علينا- غير مستغن عن فضله، بل هو أشد الناس افتقاراً إليه، فإن كل من كان استغناؤه بالله أكثر، كان افتقاره إليه أشد. وفيه: (عائذاً بالله من النار): الرواية فيه من وجهين: الرفع والنصب: أما الرفع: فظاهر والتقدير: وأنا عائذ بالله، ومتعوذ به؛ كما يقال: مستجير بالله، بوضع الفاعل مكان المفعول. وأما النصب: فعلى المصدر، أي: أعوذ به عياذاً، أقام الفاعل مقام المصدر، كقولهم: قم قائماً، أي: قياماً؛ قال الشاعر: ................. .... ولا خارجاً من في زور كلام المعنى: لا يخرج خروجاً. ونصبه على الحال، من قول الراوي: يقول حسن ويكون قوله: (عائذاً بالله) محكياً عنه أنه كان يفعل ذلك، ولا يكون نفس القول مروياً عنه. [1679] ومنه: حديث ابن عمر- رضي الله عنه-: (أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يكبر على كل شرف من الأرض): أي: على المكان العالي منها؛ قال الشاعر: آتى الندى فلا يقرب مجلسي .... وأقود للشرف الرفيع حماري

ووجه التكبيرات على الاماكن العالية هو استحباب الذكر عند تجدد الأحوال والتقلب في التارات، وكان - صلى الله عليه وسلم - يراعى ذلك في الزمان والمكان، وذلك لأن اختلاف أحوال العبد في الصباح والمساء والصعود والهبوط، وما أشبه ذلك مما ينبغي ألا ينسى ربع عند ذلك، فإنه هو المتصرف في الأشياء بقدرته، المدبر لها بجميل صنعه. وفيه: (وهزم الاحزاب وحده): الحزب: جماعة فيها غلظ، وقد تحزب القوم، أي: صاروا أحزاباً وفرقاً، والأحزاب: عبارة عن القبائل المتجمعة لحرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومنه: يوم الأحزاب وهو يوم الخندق وإنما ذكر الأحزاب مع علمه أن الله هو الذي لا يهزم جنده، وأنه القادر على إفناء الخلق في أدنى اللحظات، فضلاً عن هزمهم وفلهم، تذكراً لمنة الله عليه في ذلك، وعلى من اتبعه من المؤمنين، فقد كانت قريش قد أقبلت في عشرة آلاف من الأحابيش وبني كنانة وأهل تهامة، وقائدهم: أبو سفيان، وغطفان في أل ومن تابعهم من أهل نجد، وقائدهم: عيينة بن حصن، وعامر بن الطفيل هو هوازن، وانضمت إليهم يهود قريظة والنضير ومضى على الفريقين قريب من شهر لا حرب بينهم إلا الترامي بالنبل والحجارة؛ فأرسل الله عليهم ريح الصبا في ليلة شاتية [14]، فأحصرتهم، وسفت التراب في وجوههم، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وقلعت الأوتاد، وبعث ألفاً من الملائكة، فكبرت في ذوائب عسكرهم، فهاجت الخيل بعضها في بعض، وقذف في قلوبهم الرعب، فانهزموا؛ وفي ذلك نزل قوله سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها}. [1681] ومنه: حديث عبد الله بن [بر] المازني- رضي الله عنه-: (نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي، فقربنا إليه طعاماً ووطبة):

رواه أكثر المحدثين بباء منقوطة بواحدة، والوطب، سقاء اللبن خاصة، ويكون من جلد الجذع فما فوقه، وقد ذكر المحققون من الحفاظ: أنه تصحيف، والصواب: وطيئة، على وزان وثيقة، وذكر أنها طعام كالحيس، وكأنها سميت بذلك؛ لتوطئتها بالأيدي تمرس لتخلط ويدل على صحة ذلك قول الراوي: (فأكل منها) والوطبة لا تؤكل وإنما يشرب منها، ويدل عليه- أيضاً- قوله: (فأتى بشراب فشرب منه). (ومن الحسان) [1682] حديث طليحة- رضي الله عنه-: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رأى الهلال، قال: اللهم، أهلله علينا .. الحديث): الهلال: يكون أو ليلة والثانية والثالثة، ثم هو قمر، وإنما قي له: هلال؛ لأن الناس يرفعون أصواتهم بالإخبار عنه، من الإهلال [...] و (أهل الهلال) على ما لم يسم فاعله: إذا رئى، و (استهل) على هذا البناء أيضاً: إذا طلب رؤيته، ثم يعبر عن الإهلال بالاستهلال، نحو: الإجابة والاستجابة ويقال- أيضاً-: استهل هو: إذا تبين، وأهللنا الهلال: إذا دخلنا فيه. فهذه جملة وجوه الاستعمال اللغوي، ولا نرى استقامة لفظ هذا الحديث عليها، إلا أن نقول: معنى قوله: (أهلله) أي: أطلعه علينا، وأرنا إياه، من قولهم: أهل، أي: رؤى، والمعنى: اجعل رؤيتنا له مقترناً بالأمن والإيمان، ويحتمل أن يكون الإهلال الذي ورد بمعنى الدخول: قد ورد متعدياً، فيكون المعنى: أدخله علينا.

وهذا الحديث من مفاريد الترمذي، ولفظه: (أهلله) وفي (المصابيح) بإدغام اللامين، والرواية بإظهار التضعيف. هذا، وقد ذكرنا فيما مضى، أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يؤثر الافتتاح بذكر الله في مبادئ الاحوال، ويتيمن به، ويحث عليه. وفي قوله: (ربي وربك الله) تنزيه للخالق أن يشاركه في تدبير ما خلق شيء. وفيه رد للأقاويل الداحضة في الآثار العلوية بأوجز ما يمكن، وفيه تنبيه لذوي الأفهام المستقيمة على أن الدعاء مستحب، لاسيما عند ظهور الآيات، وتقلب أحوال النيرات، وعلى أن التوجه فيه إلى الرب لا إلى المربوب، والالتفات في ذلك إلى صنع الصانع لا إلى المصنوع، ولقد أحسن من قال- والتحسين يختلف باختلاف المقاصد) -: ومالك سقياً الغيث يا سدرة اللوى .... ولكن لمن سد الغيور مطالعه [1685] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- (فكثر فيه لغطه)

اللغط بالتحريك: الصوت والجلبة، ومنه الحديث: (ولهم لغط في أسواقهم) وأراد به: الهراء من القول، وما لا طائل تحته من الكلام، فأحل ذلك محل الصوت العرى عن المعنى، والجلبة الخالية عن الفائدة. [1691] ومنه: حديث ابن عمر- رضي الله عنه-: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سافر فأقبل الليل، قال: يا أرض، ربي وربك الله ... الحديث): قلت: أراد الاستعاذة من متائه الأرض ومجاهلها، وما ينشأ منها، وما يدب ويدرج فيها؛ فخاطب الأرض على الاتساع. وفيه: (وأعوض بك من أسد وأسود):هذا من باب التلوين في الخطاب، فإنه أتى بكلمة الاستعاذة أولاً على نعت الغيبة، وثانياً على نعت المشاهدة، وإنما اختار تلك الصيغة في الأول لما بعدها من الكلام، فلم يستقم له أن يقول: (أعوذ بك من شرك) على وتيرة واحدة؛ فيتشابه الخطابان؛ لاشتراكهما في الصيغة، فكان مطلع الخطاب للأرض، فلما تم الكلام الذي خاطبها به، رجع إلى الحضور. وفيه: (ومن أسد وأسود):

الأسود: الحية العظيمة التي فيها سواد، وهي أخبث الحيات، وذكر أن من شأنها أن يعارض الركب، ويتبع الصوت؛ فلهذا خصها بالذكر، ثم ثنى بذكر الحية التي تشمل سار مسميات جنسها. و (أسود) - ههنا- منصرف؛ لأنه اسم وليس بصفة، ولهذا يجمع على (أساود). وفيه: (ومن ساكن البلد، ووالد وما ولد): أراد بـ (ساكن البلد) الجن الذين هم سكان الأرض، وأراد بـ (البلد): الأرض، يقال: هذه بلدتنا، أي: أرضنا، كما يقال: بحرتنا قال النابغة: ................ .... فإن صاحبها قد تاه في البلد (ووالد وما ولد)، قال الخطابي: والد: إبليس، وما ولد: نسله وذريته. قلت: وحمله على العموم أمثل؛ لشموله على أصناف ما ولد وولد، وعلى ما يتولد منهما تخصيصاً للياذ والالتجاء بمن لم يلد ولم يولد وله الخلق والأمر، واعترافاً بأن لا استحقاق لغيره في ذلك؛ تبارك لله رب العالمين [16/]. [1692] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس- رضي الله عنه-: (بك أحول، وبك أصول): أي: بك أحتال، وأتحرك، وأحمل على العدو، وقد مر تفسيره. [1693] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي موسى- رضي الله عنه-: (اللهم، إنا نجعلك في نحورهم). يقال: جعلت فلاناً في نحر العدو، أي: قبالته، وحذاءه، وتخصيص (النحر) بالذكر؛ لأنا لعدو يستقبل بنحره عند المناهضة للقتال، والمعنى: نسألك أن تتولانا في الجهة التي يريدون أن يأتونا منها، ونتوقى بك عما يواجهوننا، فأنت الذي تدفع في صدورهم، وتكفينا أمرهم، وتحول بيننا وبينهم. ولعله اختار هذا اللفظ؛ تفاؤلاً بنحر العدو، أعني: قتلهم، مع ما أراد منا لمعنى الذي ذكر.

[1695] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس- رضي الله عنه- (ويقول شيطان آخر): آخر- بالمد- أي: يقول شيطان آخر لصاحبه: (كيف لك برجل) أي: بإضلال رجل، وإذلاله، وإنما يقول ذلك؛ لما ينتهي إليه من قول الملك: (هديت). [1696] ومنه: حديث أي مالك الأشعري- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (إذا ولج الرجل بيته، فليقل: اللهم، إني أسألك خير المولج .... الحديث): يقال: ولج يلج ولوجا ولجة، قال سيبويه: إنما جاء مصدره: (ولوجاً)، وهو من مصادر غير المتعدى على معنى: ولجت فيه، والمولج: بكسر اللام، ومن الرواة من فتحها، ولم يصب؛ لأن ما كان فاء الفعل منه واواً أو ياء ثم سقطتها في المستقبل، نحو: يعد، ويزن ويهب، فإن الفعل منه مكسور في الاسم والمصدر جميعاً، ولا يقال منصوباً كان بفعل منه أو مكسوراً بعد أن يكون الواو منه ذاهبة إلا أحرفا جاءت نوادر، فالمولج مكسور اللام على أي وجه قدر، ولعل المصدر- أيضاً- جاء على المفعل، أو أخذ به مأخذ القياس، أو روعي فيه طريق الازدواج في المخرج. وإن أريد به الاسم: فإنه يريد خير الموضع الذي يلج فيه، وعلى هذا يراد- أيضاً- بالمخرج: موضع الخروج؛ يقال: خرج مخرجاً حسناً، وهذا مخرجه. وأنا المخرج، بضم الميم فقد يكون مصدر قولك: أخرجه والمفعول به واسم المكان والوقت، وفي الحديث الميم منه مفتوحة ومعناه إذا أجرى اللفظان مجرى المصادر أتم وأبلغ؛ لأن الفعل هو الذي يتضمن

على الحقيقة الخير والشر، ولو أريد به المكان لم يكن لقوله: (وخير المخرج) مكان قد خرج منه وجه، وإنما أراد الخير الذي يأتيه من قبل الولوج والخروج، ويقترن بهما ويتوقع منهما. [1697] ومنه: حديث أبي هريرة- رضي الله عنه: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رفأ الإنسان الحديث) رفأ أي هنأة ودعا له، والأصل فيه: أنهم كانوا يقولون للمتزوج: بالرفاء والبنين، وقد رفأت رفأ وترفية وترفياً: إذا قلت له ذلك، والرفاء: بكسر الراء والمد الالتئام والاتفاق، وقيل: معناه: بالسكون والطمأنينة، ويكون من قولهم: رفوت الرجل: إذا أسكنته منا لرعب، قال أبو خراش الهذلي واسمه خالد: رفونى وقالوا يا خويلد لم ترع .... فقلت وأنكرت الوجوه هم هم وعلى هذا: همزتها غير أصلية. قلت: وقد ورد النهي عن قولهم: بالرفاء والبنين، وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول مكان قولهم هذا ما رواه الراوي عنه وإنما نهى عنه، لكونه من عادات (18] الجاهلية، فرأى أن يبدلهم مكانها سنة إسلامية، وقد كان في قولهم: (والبنين) تنفير عن البنات، وتقري لبغضهن في قلوب الرجال، وكان ذلك الباعث على وأد البنات. ثم إن قولهم لكل مملك (بالرفاء والبنين) قول زائغ عن سنن الصواب، وقد قال الله تعالى: {يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً} إذ الاستجابة في حق الجميع غير ممكن، ولم

يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليختار في الدعاء قولاً لا تشمله الإجابة، ولو استجيب له لأفضى ذلك إلى انقطاع النسل، ولم يكن ليفعل ذلك، فلهذا عدل عنه، ونهى غيره عنه. [1701] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (اللهم، إني أعوذ بكمن الهم والحزن). ظن بعضهم أن الهم والحزن يتحدان في المعنى، وإنما عطف أحدهما على الآخر؛ لاختلاف اللفظتين، وليس كما توهم، فإن الهم إنما يكون في الامر المتوقع، والحزن فيما قد وقع، [والهم: هو] الحزن الذي يذيب الإنسان، تقول: همني الشيء، أي: أذابني، وسنام مهموم، أي: مذاب، قال الراجز: وأنهم مهموم السنام الوادي ويقال: أهمني: إذا طرح في قلبه الهم، والمثل: (همك ما أهمك) كما تقول: شغلك ما شغلك. وعلى هذا الذي ذكرناه: يصح أن يقال: الهم أشد الحزن ومعظمه؛ لاقتران خوف الوقوع به؛ ولأن الشيء المتوقع من المكروه لا يزال يزداد تأثيره حتى يقع، فإذا وقع رجع أمره إلى الانحطاط، والحزن: خشونة في النفس لما يحصل فيها من الغم، وبهذا الاعتبار يقال خشنت بصدره إذ حزنته. وفيه: (وأعوذ بك من العجز والكسل): العجز: أصله التأخر عن الشيء، وحصوله عند عجز الأمر، وصار في التعارف اسماً للقصور عن فعل الشيء، وهو ضد القدرة. والكسل: التثاقل عن الامر المحمود، مع وجود القدرة عليه، وقد مر تفسيره. وفيه: (وأعوذ بك من غلبه الدين، وقهر الرجال): غلبة الدين: أن يفدحه، وفي معناه: (ضلع الدين) يعني: ثقله حتى يميل صاحبه عن الاستواء؛ لثقله، والضلع- بالتحريك-: الاعوجاج. وقهر الرجال: هو الغلبة، فإن القهر يراد به السلطان، ويراد به الغلبة، وأريد به- ههنا- الغلبة، لما في غير هذا الرواية: (وغلبة الرجال) كأنه يريد هيجان النفس من شدة الشبق، وأضافه إلى المفعول، أي: يغلبهم ذلك [17] إلى هذا المعنى يسبق فهمي، ولم اجد في تفسيره نقلاً.

باب الاستعاذة

ومن باب الاستعاذة (من الصحاح) [1703] حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (تعوذوا بالله من جهد البلاء): الجهد- بفتح الجيم- مصدر قولك: اجهد جهدك في هذا الأمر، أي: ابلغ غايتك، والجهد- أيضاً- المشتقة، يقال: جهد دابته وأجهدها: إذا حمل عليها في السير فوق طاقتها، وتأويل (جهد البلاء) عند العلماء: أنها الحالة التي يمتحن بها الإنسان حتى يختار عليها الموت ويتمناه. [1704] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس: (وضلع الدين، وغلبة الرجال). وقد فرناه في الباب الذي قبل هذا الباب. ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عائشة- رضي الله عنها- (فتنة الصدر): أراد: ما ينطوي عليه الصدر من غل وغش وخلق سيء وعقيدة غير مرضية- نعوذ بالله منها. وفيه: (ومن شر فتنة الغنى، وشر فتنة الفقر). فتنة الغني: أن يلهيه عن الحق ويطغيه وما أشبه ذلك، وفتنة الفقر: أن يحمله ذلك على ما لا تحمد عاقبته من قول أو فعل أو سوء كفر، وبقية الحديث تفسيره فيما مضى.

[1706] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث زيد بن أرقم: (ومن نفس لا تشبع) (لا تشبع) محتمل لوجهين: أحدهما: أنها لا تقنع بما آتاها الله- تعالى- ولا [تطهرت عن] الجمع لشدة ما فيها من الحرص والهلع. والآخر: أن يراد بها لنهمة وكثرة الأكل، وقد ورد في الحديث: (أنه كان يتعوذ من الكزم) وهو شدة الأكل. [1708] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عائشة- رضي الله عنها: (أعوذ بك من شر ما عملت، ومن شر ما لم أعمل): قلت: معنى استعاذته مما لا يعمل، يخرج [19] على وجهين: أحدهما: ألا يبتلى في المستقبل الزمان. والثاني: ألا يتداخله العجب في ترك ذلك ولا يراه من قوة به وصبر وعزيمة منه، بل يراه من فضل ربه، فإن المعصوم من عصمه الله.

(ومن الحسان) [1712] حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: (اللهم، إني أعوذ بك من الفقر والقلة): الفقر المستعاذ منه إنما هو فقر النفس وجشعها الذي يفضي بصاحبه إلى كفران نعم الله، ونسيان ذكره، ويدعوه إلى شد الخلة بما يتدنس به عرضه، ويثلم به دينه. والقلة- ايضاً- تحمل على قلة الصبر أو قلة العدد، ولا خفاء أن المراد منها القلة في أبواب البر وخصال الخير؛ لأنه كان يؤثر الإقلال من الدنيا، ويكره الاستكثار من الأعراض الفانية. [1713] ومنه: حديثه الآخر: (اللهم، إني أعوذ بم من الشقاق والنفاق): الشقاق: المخالفة؛ لكونك في شق غير شق صاحبك، أي: ناحية غير ناحيته، أو لشق العصا بينك وبينه؟. والنفاق: إظهار صاحبة خلاف ما يستره من أمر الدين ودخوله في أمر الشرع من باب، وخروجه من باب آخر، وقد مر بيانه.

[1714] ومنه: حديثه الآخر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -:) اللهم إني أعوذ بك من الجوع، فإنه بئس الضجيع): الجوع: الالم الذي ينال الحيوان من خلو المعدة عن الغذاء، وضجع الرجل إذا وضع جنبه بالأرض، وضجيعه الذي يضاجعه، استعاذ من الجوع الذي يشغله عن ذكر الله ويثبطه عن طاعته، لمكان الضعف وتحليل المواد إلى بدل، وأشار بالضجيع إلى الجوع الذي يمنع عن الهجوع؛ لأنه جعل القسم المستعاذ منه ما يلازم صاحبه في المضجع؛ وذلك بالليل، وإلى التفريق الواقع بينه وبين ما يشرع له من التعبد بالجوع المبرح في نهار الصوم. وفيه: (وأعوذ بك من الخيانة، فإنها بئست البطانة). الخيانة: مخالفة الحق بنقض العهد في السر، وهي نقيض الأمانة، والبطانة خلاف الطهارة، وأصلها في الثوب ثم تستعار لمت تخصه بالإطلاع على باطن أمرك، وأريد بها ههنا ما يستبطن من أمره فيجعله بطانة حاله. ومنه: حديث أنس- رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: (اللهم، إني أعوذ بك من البرص والجذام والجنون وسيء الأسقام). لم يستعذ بالله من سائر الأسقام؛ لأن منها ما إذا تحامل الإنسان فيه على نفسه بالصبر- خفت مئونته، وعظمت مثوبته، مع انصرام أيامه ووشاكة زواله، كالحمى والصداع والرمد وأمثاله، وإنما استعاذ من القسم الذي تمتد أيامه، وتدوم آثاره، فيعظم موقعه في النفوس، وينتهي بصاحبه إلى حالة ينفر منها الحميم، ويبعد عنها القريب، ويقل دونها المؤانس والمداوي، مع ما يورث من الشين، ويفسد من الخلقة: فمنها: الجنون الذي يزيل العقل وسلبه الامن، فلا يأمن من يصاحبه القتل. ومنها: البرص والجذام، وهما العلتان المزمنتان مع ما فيهما من القذارة والبشاعة، وتغيير الصورة، وقد اتفق المتعاطفون لعلم الطب أنهما معديان معقبان، فلذلك رأى الاستعاذة من سيء الاسقام، ولم يرغب فيها.

[1716] ومنه حديث شكل بن حميد رضي الله عنه: (قلت: يا بنى الله، علمني تعويذاً أتعوذ به .. الحديث): إنما أمره أن يستعيذ من شر هذه الأشياء؛ لأن اجتراح الآثام إنما يكون من قبل تلك الأشياء. [1717] ومنه: حديث أبي اليسر- رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو: (اللهم إني أعوذ بك من الهدم): يروى بإسكان الدال، وهو اسم الفعل، ويروى بفتح الدال، وهو ما انهدم. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - في غير هذا الحديث: (الهدم شهيد): فإنه بكسر الدال، وهو اذي يموت تحت الهدم. وفيه: (وأعوذ بك من التردي): تردي الرجل: إذا سقط في بئر، أو تهور من جبل. وفيه: (ومن الغرق والحرق): الغرق- بالتحريك- اسم للفعل، والحرق: النار، وهو بحريك الراء، وتسكينها خطأ. قلت: إنما استعاذ من هذه البليات مع ما وعد الله عليها من الشهادة؛ لأنها محن مجهدة مقلقة، لا يكاد أحد يصبر عليها، أو يذكر عند حلولها شيئاً مما يجب عليه في وقته ذلك، وربما ينهز الشيطان عن فرصة لم يكن لينال منه في غيرها، من الأحوال، ثم إنها تفجأ عليه [فتنته من] الأسباب التي ذكرناها في موت الفجأة. وفيه: (وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت): الأصل في (التخبط): أن يضرب البعير الشيء بخف يده فيسقط، والمعنى [21]: أعوذ بك أن يمسني الشيطان عند الموت بنزغاته التي تزل الأقدام، وتصارع العقول الأحلام. وفيه: (وأعوذ بك أن أموت لديغاً):

اللدغ: أكثر ما يستعمل في العقرب، والمراد منه هنا: لدغ ذوات السم من حية وعقرب وغير ذلك، ومت اللديغ مشابه في المعنى لأسباب الهلاك التي ذكرناها قبل. [1718] ومنه: حديث معاذ- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (استعيذوا بالله من طمع يهدي إلى طبع): الطبع- بالتحريك: العيب، والأصل فيه الدنس والوسخ يغشيان اليف، ثم يستعمل فيما يشبه الوسخ، والدنس من الآثام والأوزار وغير ذلك من العيوب، والمقابح، والمعنى: أعوذ بالله من طمع يوقني ويدنيني إلى ما يشينني ويزري بي من المقابح، في غير هذه الرواية: (يدني) مكان (يهدي). [1719] ومنه: حديث عائشة- رضي الله عنها-: (أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بيدي، فنظر إلى القمر، فقال: يا عائشة، استعيذي بالله من شر غاسق إذا وقب ... الحديث): قلت: هذا الحديث أخرجه أبو عيسى في كتابه، ولفظ (كتاب المصابيح) يخالف لفظ الترمذي في بعض الكلمات، ولفظه: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نظر إلى القمر، فقال: يا عائشة استعيذي بالله من شر هذا، هذا غاسق إذا وقب): الغاسق: الليل إذا اعتكر ظلامه، ويدل عليه قوله سبحانه وتعالى: {إلى غسق الليل} ومنه: عسقت العين: إذا امتلأت دمعاً، وعسقت الجراحة إذا امتلأت دماً، ووقوبه: دخول ظلامه في كل شيء.

وإنما أمرنا بالاستعاذة منه؛ لما في الوقت من انبثاث الشر أكثر مما في غيره، ثم إن التحرز منه أصعب، وأستند الشر إليه، لملابسته له من حدوثه فيه، هذا تفسير الآية، والحديث مؤول على ما أولنا عليه الآية. فإن قيل: الحديث يدل على أن المراد من (غاسق إذا وقب): القمر. قلنا: قولها: (نظر إلى القمر) غير دال على ما ادعيتم، ولا يلزم من النظر إلى القمر أن يكون مراده القمر. وقوله فيه: (هذا غاسق): ليس أيضاً- ببيان واضح يدلنا على ذلك؛ لاحتمال أن تكونا لإشارة إلى الظلام حيث دخل بل العبرة بذلك [22] لموافقة معنى الآية على ما يذهب إليه أكثر المفسرين. فإن قيل: ففي بعض طرق هذا الحديث. (فأشار إلى القمر)، قلنا: لم نجد ذلك في رواية يعتد بها، وإنما هو شيء ذكره أصحاب التفاسير من غير تثبت. فإن قيل: فماذا ينكر أن يكون سمى القمر: غاسقاً؛ لامتلائه؟!، وأراد بالوقوب دخوله في الكسوف واسوداده؟: قلنا: لم نستبعد هذا الوجه، ولكنا آثرنا القول الذي يدل عليه ظاهر الآية، والذي هو المشهور عند أهل اللسان، وعليه أكثر أصحاب التفاسير. والحديث، وإن كان حسناً صحيحاً: فإنه غير ناب عن هذا التأويل، وأي وجه أخذته في الحديث فهو الوجه في الآية لا مغنى عن الجمع بين الآية والحديث في المعنى، لأنه ورد مورد البيان للآية.

باب جامع الدعاء

من باب جامع الدعاء (من الصحاح) [1726] حديث علي رضي الله عنه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (قل: اللهم اهدني وسددني ... الحديث): ذكر له مثلاً يهتدي به إلى تصوير مسألته، وتحصيل طلبته من الهداية والسداد، وذلك أن السالك إنما يهتدي إلى المقصد إذا لزم الجادة، واقتفى نهجها، والرامي إنما يصيب بسهمه الغرض: إذا سدده وأصلحه، وقوم رميته، ووجه به مرماه. والمعنى: كن في سؤالك الهداية والسداد كالسهم المسدد، والراكب متن المنهج المستقيم، أو سل الله سداداً وهداية يشبهان في المعنى سداد السهم واستقامة الطريق في الشاهد. (ومن الحسان) [1729] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس رضي الله عنه: (لك مخبتاً، إليك أواها): الخبت: المطمئن من الأرض، وأخبت الرجل: قصد الخبت، أو نزله، نحو: (سهل)، ثم استعمل الخبت استعمال اللين والتواضع؛ قال الله تعالى: {أخبتوا إلى ربهم} أي: اطمأنوا وسكنت نفوسهم إلى أمره، فالمخبت: هو المتواضع الذي اطمأن قلبه إلى ذكر به. والأواه: فعال من آواه، وهو الذي يكثر التأوه، وكل كلام يدل على حزن يقال له: التأوه، ويعبر بـ (الأواه) عمن يظهر ذلك خشية لله.

وفيه: (واغسل حوبتي): الحوبة: مصدر حبت بكذا، أي: أثمت، تحوب حوباً وحوبة وحيابة، والحوب- بالضم- الإثم، والحياب مثله، وتسميته بذلك مزجوراً عنه، والأصل الحوب لزجر الإبل. وذكر الغسل، ليفيد معنيين: أحدهما: إزالة الشيء عنه إزالة تلحقه به حكم التطهير. والآخر: التنزه والتفصى عنه [24 جـ]، كالتنزه عن الشيء القذر الذي يستنكف عن مجاورته، وينبرم. وإتيانه بالمصدر- أعني: حوبتي- أتم وأبلغ من الحوب الذي هو الاسم، لأن الاستبراء من فعل الذنب واكتسابه أتم وأبلغ من الاستبراء من نفس الذنب. وفيه: (واسلل سخيمة صدري): (سللت كذا وكذا) أي: أخرجته، والأصل فيه: سل السيف، وهو: إخراجه من الغمد. والسخيمة: الضغينة والموجدة في النفس: من السخمة، وهو السواد، ومنه سخام القدر. وإنما أضاف السخيمة إلى الصدر إضافة الشيء إلى محله، والمعنى: أخرج من صدري وانزع عنه ما ينشأ منه ويستكن فيه، ويستولي عليه من مساوئ الأخلاق. [1730] ومنه: قول أبي بكر الصديق- رضي الله عنه- في حديثه: (سلو الله العفو والعافية)، وفي حديث أنس رضي الله عنه الذي بعده: (سل ربك العافية والمعافاة في الدنيا والآخرة): وقد قدمنا بيانه. [1732] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبد الله بن يزيد الخطمي رضي الله عنه: (اللهم، ما زويت عني

مما أحب، فاجعله فراغاً لي فيما تحب): زويت الشيء: جمعته وقبضته، يقال: زوى فلان المال عن وارثه زياً، وفي حديث، قال عمر رضي الله عنه للنبي - صلى الله عليه وسلم -: (عجبت لما زوى الله عنك من الدنيا) أي: لما نحى عنك، وفي الحديث: (أعطاني ربي ثنتين، وزوى عني واحدة) أي: صرفها عني، فلم يعطني. ومعنى الحديث: اجعل ما نحيته عني من محابى عوناً لي على شغلى بمحابك؛ وذلك أن الفراغ خلاف الشغل، فإذا زوى عن الدنيا ليتفرغ لمحارب ربه، كان ذلك الفراغ عوناً له على الاشتغال بطاعة الله. [1733] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر رضي الله عنهما (ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحيينا، واجعله الوارث منا): حقيقة الوارث اذي يرث ملك الماضي؛ وعلى هذا: ففي تأويل هذا الحديث عسر، ومن الله التيسير، وقد ذكر الخطابي وغيره في تأويله؛ أنه سأل الله تعالى أن يبق له السمع والبصر إذا أدركه الكبر، وضعف منه سائر القوى، ليكونا وارثي سائر القوى والباقين بعدها. قلت: وعلى هذا فالإشكال بحاله؛ لأن قوله: (واجعله الوارث منا) بعد قوله: (ما أحييتنا) يحقق أنه أراد بذلك الإرث الذي يكون بعد فناء الشخص، وكيف يتصور فناء الشخص مع بقاء بعضه؟!

وقيل: أراد به: الأولاد والأعقاب، وهذا وجه لولا قوله: (واجعله الوارث منا) [24]. فإن رد الضمير إلى أحد الأشياء الثلاثة المذكورة أو إلى سائرها غير مستقيم، وقد ذكر أبو سليمان الخطابي في ذلك وجهين، ولكن لفظ الحديث الذي أوله على غير لفظ هذا الحديث، فإنه أو الحديث الذي يقول فيه: (اللهم عافني في سمعي بصري ما أبقيته، واجعله الوارث مني) ثم قال في قوله: (واجعله): إنه رد الضمير إلى واحد منهما، والعرب تفعل ذك، وقال فيه وجهاً آخر، فقال: كل شيئين تقارباً في معنييهما: فإن الدلالة على أحدهما دلالة على الآخر. قلت: ولفظ الحديث الذي نحن نتكلم فيه غير محتمل لأحد الوجهين على ما بينا، وقد روى هذا الحديث- أيضاً- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير الوجه الذي أوردناه وهو قله - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم متعني بسمعي وبصري، واجعلهما الوارث مني). قلت: وقد ذهب بعض العلماء في تأويله أنه أراد بالسمع والبصر: أباب بكر وعمر- رضي الله عنهما- واستدل بقوله: (لا غنى بي عنهما)؛ فإنهما من الدين بمنزلة السمع والبصر من الرأس، وبقوله: (هذان بمنزلة السمع والبصر) قالوا: فكأنه - صلى الله عليه وسلم - دعاء بأن يمتع بهما في حياته، وأن يرثاه بعد وفاته. وأبى جمع من العلماء أن يكن لهذا الحديث تأويل غير ذلك، ولا مرد عليهم، فإن هذا الحديث حديث صحيح، والتأويل مستقيم؛ غير أن الحديث على ما في (كتاب المصابيح) لا يحتمل ذلك، ولا نجد عنه مخلصاً إلا من فرد وجه، وهو أن نقول: الضمير في قوله: (واجعله) راجع إلى التمتع الذي دل عليه قوله: (متعنا) والتقدير: متعنا، واجعل تمتعنا به الوارث منا، ويكون (الوارث منا) على أحد المعنيين: الباقي بعدنا؛ لأن وارث المرء لا يكون إلا الذي يبقى بعده، ومعنى بقائه: دوامه إلى يوم الحاجة إليه، أو الذي يرث ذكرنا فنذكر به بعد انقضاء الآجال وانقطاع الأعمال، وهذا المعنى شبيه بسؤال خليل الرحمن- صلوات الله عليه- {واجعل لي لسان صدق في الآخرين}. وفيه: (وجعل ثأرنا على من ظلمنا): الثأر والثورة [الذحل]، والأصل فيه: الحقد والعداوة، يقال: ثأرت القتيل، وبالقتيل، أي: قتلت قاتله، والثائر: الذي لا يبقى على شيء حتى يدرك ثأره، والحديث محتمل لمعنيين. أحدهما: اجعل إدراك ثأرنا على من ظلمنا، فندرك ثأرنا منهم، ويكون في معنى قوله: (وانصرنا على من عادانا). والآخر: لا تجعلنا [25] ممن إذا ظلم تعدى على جانيه في إدراك ثأره بنوع من التعدي؛ كما كان معهوداً من أهل الجاهلية، فيرجع ظالماً بعد أن كان مظلوماً، بل صبرنا على ما أصابنا، وأجرنا من التعدي حتى يكون الثأر لنا عليه لا له علينا.

كتاب المناسك

ومن كتاب المناسك (من الصحاح) [1736] حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أيها الناس، قد فرض الله عليكم الحج فحجوا). الحج في اللغة: القصد؛ تقول العرب: حج بنو فلان فلاناً، أي: أطالوا الاختلاف إليه، قال المخبل: وأشهد من عوف حلولاً كثيرة .... يحجون سب الزبرقان المزعفرا وهو في تعارف الشرع: قصد البيت للتقرب إلى الله، بأفعال مخصوصة، بزمان مخصوص، في أماكن مخصوصة. وكسر الحاء لغة فيه، وقيل: الحج، بالفتح: مصدر، بالكسر: الاسم. وقول الرجل، وهو الأقرع بن حابس: (أكل عام): قول صدر عنه على ما عرف من تعارفهم في لفظ الحج؛ على ما ذكرنا أنه قصد بعد قصد؛ فكانت صيغته موهمة للتكرار. قلت: والظاهر أن هذا اللفظ استعمل في زيارة البيت، تنبيها على أن الوفد يترددون إلى ذلك البيت المبارك كرة بعد أخرى، وأنهم لا ينقطعون عنه يد الدهر. وفيه: (فسكت حتى قالها ثلاثاً): إنما سكت، زجراً له عن السؤال الذي كان السكوت عنه أولى بأولى الفهم المتأدبة بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، المتلقية قوله بإلقاء السمع، الذين نور الإيمان قلوبهم، وذلك لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما بعث لبيان الشريعة، فلم يكن ليسكت عن بيان أنر علم أن بالأمة حاجة إلى الكشف عنه، فالسؤال عن مثله تقدم بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد نهوا عنه، وفي الإقدام عليه ضرب منا لجهل، ثم فيه احتمال أن يعاقبوا بزيادة التكليف، وإليه أشار بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (ولو قلت: نعم، لوجبت، ولما استطعتم)، وإنما قال: (لوجبت) على صيغة التأنيث؛ لأنه أراد حججاً كثيرة، لتكررها عليهم عاماً بعد عام، أو أراد: لوجبت كل عام حجة. [1737] ومنه: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أي العمل أفضل؟ ..

الحديث) قد ورد [جملة] من أحاديث المفاضلة بين الاعمال على منوال يشكل التوفيق بينها على كثير من الناس حتى يخيل إليهم أن فيها تضاداً، ونحن قد ذكرنا من وجوه التوفيق بينها في أول (كتاب الصلاة) ما فيه معنى لمن تدبره. وقوله: (حج مبرور): المبرور: المقابل بالبر: ومعناه: المقبول. [1742] ومنه: حديث ابن عباس رضي الله عنه [26]. الرحلة، وكذلك الظعن بالتحريك، وذكر ذلك على وجه البيان للحال التي انتهى إليها من كبر السن، أي: لا يقوى على السير، ولا على الركوب.

=====

[1760] ومنه: حديث ابن عباس- رضي الله عنه-: (إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقت لأهل المشرق العقيق): أراد بـ (أهل المشرق): من كان منزله خارج الميقات من شرقي مكة من أهل نجد وما وراءه إلى أقصى بلاد المشرق، والعقيق- الذي في هذا الحديث- هو أيضاً داخل في حد ذات عرق. ونرى اختلاف ذلك في الحديث لمكان اختلاف سبيل المحرمين من ذلك الجانب، إذ كان لكل واحد من الميقاتين طريق غير طريق الآخر. ويمكن أن أهل المصرين- أعني الكوفة والبصرة- كان يختلف بهم الطريق في الزمان الأول. وقد ذكر بعض أهل العلم: أن الموضع الذي يحرم منه المتشيعة في زماننا، ويزعمون أنه العقيق- ليس بالعقيق، وإنما هو محاذ له، وقد روى عن أنس رضي الله عنه: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقت لأهل المدائن العقيق، ولأهل البصرة ذات عرق)، وفي هذا الحديث ضعف من قبل الراوي عن أنس، ومع الضعف، فإنه لا يخلو عن دليل ما.

باب الإحرام والتلبية

ومن باب الإحرام والتلبية (من الصحاح) [1763] حديث عائشة رضي الله عنها: (كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). الوبيص: اللمعان، يقال: وبص البرق وغيره، أي: لمع، والفرق معلم وسط الرأس، وهو الذي يفرق فيه الشعر. وفي بعض الطرق من (كتاب مسلم): (في مفرق) على لفظ الواحد، و (في مفارق) على الجمع لفظ الكتابين: كتاب البخاري، وكتاب مسلم، وإنما جاء بها على لفظ الجمع، تعميماً لسائر جوانب الرأس التي بفرق فيها، أي: إن فتات الطيب كان يبقى عليها بعد أن يحرم، فكان يلمع فيها، والتطيب قبل الإحرام بما يبقى أثره بعد الإحرام مختلف فيه، وقد كان عمر أمير المؤمنين- رضي الله عنه- ينهي عن ذلك، وبه أخذ جمع من العلماء. ووجه ذلك ظاهر، وهو أنا لمحرم إنما منع من التطيب حالة الإحرام، ليكون تفلاً متنكباً في إحرامه عن الترفه والتنعيم، وإذا وجد منه رائحة الطيب بعد الإحرام، خالف هديه المحرمين، وكان ابن عمر رذي الله عنه يتشدد- أيضاً- في ذلك. ويحتمل: أن يكون الذي رأته عائشة في مفارق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوبيص كان لتدهنه بالدهن المطيب قبل الإحرام، وقد روى [29] مسلم في كتابه في بعض طرق هذا الحديث، عن عائشة، أنا قالت: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يحرم يتطيب بأطيب ما يجد، ثم أرى وبيص الدهن في رأسه ولحيته بعد ذلك): قلت: وأرى هذا الوجه من أولى ما يحمل عليه معنى الوبيص، لمكان هذا الحديث. ويحتمل: أنه كان يتطيب بطيب، يبقى جزمه بعد زوال رائحته، وقد صح أنها قالت: (أنا طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فطاف في أزواجه، ثم أصيح) يعني: محرماً. وقولها: (فطاف في أزواجه) كناية عن الإصابة منهن بعد التطيب، ويلزم منه أنه اغتسل بعد ذلك مرة واحدة إن لم يكن مرات كثيرة، وكان ذلك بالمدينة ثم خرج إلى ذي الحليفة، فاغتسل بها غسل الإحرام، فأي أثر يبقى بعد اغتساله كرة بعد أخرى.

وفي هذا التأويل: توفيق بين القولين. وقد اختلف فقهاء الامصار في هذه المسألة. ولك يكن التعرض لذلك متعلقاً بغرضنا، وإنما قصدنا بيان الحديث. [1764] ومنه: حديث ابن عمر رضي الله عنه: (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهل ملبداً): والتلبيد: أن يجعل المحرم في رأسه شيئاً من صمغ أو خطمى أو غير ذلك، ليلبد شعره بقيا عليه لئلا يشعث في الإحرام، فلا تقع فيه الهوام. وفي غير هذه الرواية، عنه- أيضاً-: (لبد رأسه بالغسل): والحديث مذكور في قسم الحسان من هذا الباب، والغسل- بالكسر-: ما يغسل به الرأس من خطمى وغيره، قال الشاعر: فيا ليل إن الغسل ما دمت أيما .... على حرام لا يمسني الغسل وفيه: (لبيك اللهم لبيك ... الحديث). وقد ذكرنا معنى التلبية في (كتاب الصلاة). وقوله: (إن الحمد والنعمة لك): منهم من قال بفتح الهمزة، والمختار رواية ومنعى: الكسر. [1765] ومنه: حديثه الآخر: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أدخل رجله في الغرز، واستوت به ناقته): الغرز: ركاب الرجل من جلد، فإذا كان من خشب أو حديد: فهو ركاب، و (استوت به ناقته) أي: رفعته مستوياً على ظهرها. وقوله: (أهل من عند مسجد ذي الحليفة):

يريد به مبدأ الإهلال، وقد اختلفت الروايات عن الصحابة في ذلك: فمنهم من قال: أهل في دبر الصلاة. ومنهم من قال: أهل حين استوت به ناقته. ومنهم من قال: حين استوت به على البيداء، والبيداء: هي الشرف الذي أمام ذي الحليفة. واختلاف هذه الرايات و [بيان] اختلاف أحوالهم في العلم بذبك، فإن كلا منهم أخبر بما سمعه، وانتهى إليه علمه، وكلهم صدق أبرار، والتوفيق بينها هين، وذلك أن الذي شهده بهذا الصلاة، وسمع الإهلال في دبر الصلاة- أخبر به، والذي لم يشهده في المسجد، أو شهده ولم يبلغه الصوت [30]، وسمعه يهل عند استواء الناقة به- أخبر به على ما كان عنده، وكذلك الذي قال إنه أهل حين استوت به البيداء. ولا تضاد بين هذه الأقاويل، وإنما يحكم بالتناقض إذا كان الزائد نافياً لما عداه. وبمصداق ما قررنا عليه الحديث: ورد الحديث عن أبي داود المازني رضي الله عنه، وكان من أهل بدر. [1769] ومنه: حديثه الآخر: تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، بدأ فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج).

قلت: قد تقدم في حديث عائشة رضي الله عنها من هذا الباب: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مفرداً)، وفي حديث أنس: (أنه كان قارناً)، وذلك قوله: (وإنهم ليصرخون بهما جميعاً الحج والعمرة)، وأراد بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن أهل معه بما أهل هو به، وقد بين ذلك في حديث آخر، وهو حديث صحيح: قال: (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لبيك عمرة وحجاً معاً). وفي الصحاح: (أن بكر بن عبد الله المزنى وهو الراوي عن أنس رضي الله عنه [أخبر] بهذا الحديث ابن عمر، فقال: (لبى بالحج وحده)، قال: فلقيت أنساً فحدثته بقول ابن عمر، فقال: ما تعدونا إلا صبياً، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لبيك عمرة وحجا معاً). قلت: والتوفيق بين هذه الروايات مشكل ولابد منه، فإن ترك هذه الروايات على حالها من الاختلاف من غير بيان جامع بينهما مجلبة للشك في أخبار الصادقين، وقد طعن فيها طائفة من الفئة الزائغة عن منهج الحق، فقالوا: اتفقتم أيتها الرواة على أن نبيكم لم يحج من المدينة غير حجة واحدة، ثم رويتم أنه كان مفرداً، ورويتم أنه كان قارناً، ورويتم أنه كان متمتعاً، وصيغة هذه الأنساك متباينة، وأحكامها مختلة وتزعمون أن كل هذه الروايات مقبولة لصحة أسانيدها وعدالة رواتها!! فأجاب عن ذلك جمع من العلماء، شكر الله سعيهم، وقد اخترنا عن ذلك جواباً نقل عن الشافعي- رضي الله عنه- وزبدته: أن من المعلوم في لغة العرب جواز إضافة الفعل إلى الآمر به، كجواز إضافته إلى الفاعل له، كقولك: بنى فلان داراً: إذا أمر ببنائها، وضرب الامير فلاناً: إذا أمر بضربه. ومن هذا الباب: رجك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماعزاً، وقطع يد سارق رداء صفوان به أمية، وكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم المفرد، ومنهم القارن، ومنهم المتمتع، وكل منهم يصدر عن أمره وتعليمه، فجاز أن يضاف كل ذلك إليه. وقولاً ذكره الخطابي، قال: يحتمل أن يكون بعضهم سمعه يقول: لبيك بحجة، وخفى عليه قوله: وعمرة، فحكى أنه كان مفرداً فلم يحك إلا ما سمع، وسمعه آخر يقول: لبيك بحجة وعمرة، فقال: كان قارناً، ولا ينكر الزيادات في الأخبار كما لا ينكر في [...] قلت: وأكثره [31].

[بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل محمد وسلم تسليما كثيرا ومن قصة حجة الوداع من الصحاح: [1776] حديث جابر- رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكث بالمدينة تسع سنين لم يحج. قلت: أما تركه الحج في الأعوام التي قبل الفتح، فلا افتقار إلى بيانه لوضوح العلة فيه وهي: أن الحج

لم يكن فرض، ثم إنه كان معنياً بحرب أعداء الله، مأموراً بإعلاء كلمة الله وإظهار دينه، فلم يكن ليتفرغ من هذا القصد الكلي والأمر الجامع إلى الحج الذي لم يفرض عليه. فإن قيل: أو لم يعتمر في تلك الاعوام؟ قلنا: نعم. ولكن الخطب فيها كان أيسر، ولهوان العمرة لم يكن لها موسم معين، فيتألب الاعداء لمناوأته وصده عن البيت، وكان قضاؤها بعد الصد أو الوات غير مشروع في زمان معين، والإتيان على أفعالها كان ممكنا في بعض يوم، وكان الأمر في الحج بخلاف ذلك كله، فهذه من جملة الموانع التي لأجلها ترك الحج، مع أنه كان عبداً مأموراً يراكب الأمر في تصاريف

أحواله، فأمر بها لم يؤمر بالحج، وأما بعد الفتح، فكان التح سنة ثمان، فإن هوازن وثقيفا وكثيرا منا لعرب كانوا حربا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - متأهبين لقتاله، والظاهر أن الحج فرض بعد تلك الحجة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الناس بالحج في السنة التاسعة، وفيها أمر أبا بكر- رضي الله عنه- على الحج، ولم يأمر فيه قبل ذلك بشيء، وإنما خرج عتاب بن أسد- رضي الله عنه- بالمسلمين وهو أمير مكة، فوقف بهم الموقف والمشركون وقوف في ناحية، وكان الذي دفع بهم أبو سيارة العدواني. وقد ذهب قوم إلى أن تأخير الحج بعد التح إنما كان للنسئ المذكور في كتاب الله، وهو: تأخير الأشهر عن مواضعها، حتى عاد الحساب في الأشهر إلى أصله الموضوع الذي بدأ الله به في أمر الزمان، يوم خلق لسموات والأرض، وإليه أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق السموات والأرض) وهذا التأويل في سنة عتاب بن أسيد محتمل، وفي العام الذي بعث أبا بكر أميرا على أهل الموسم غير محتمل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -] لم يكن ليأمر بالحج في غير وقته المعلوم، وقد ذكر بعض أهل العلم بالسير أن الحج عام الفتح وقع في ذي القعدة على الحساب الذي ابتدعوه، وكانوا ينسئون كل عامين من شهر إلى شهر، وكان الحج عام حجة أبي بكر- رضي الله عنه- في ذي الحجة على الحساب

القويم، وإنما وجه استثنائه بالحج إلى السنة العاشرة- والله أعلم- هو أنه لم ير أن يحضر الموسم، وأهل الشرك حضور هناك؛ لأنه لو تركهم على ما يتدينون به من هديهم المخال لدين الحق، لكان ذلك وهنا في الدين، ولو منعهم لأفضى ذلك إلى التشاغل عما أرادوه من النسك بالقتال، ثم إل استحلال حرمة الحرم. وكان قد أخبر يوم التح (أن حرمتها عادت إلى ما كانت عليه، وأنه لم تحل له إلا ساعة من النهار)، فرأى أن يبعث الناس إلى الحج، وينادي في أهل الموسم (ألا يحج بعد العام مشرك) ليكون حجة خاليا من العوارض التي ذكرناها، وقد ذكرنا لذلك وجوها غيرها في (كتاب المناسك)، واكتفينا هاهنا بالقول الوجيز إيثاراً للاختصار. وفيه: (ثم ركب القصواء): قيل: إنما سميت قصواء، لسبقها، أي: كان عندها أقصى السير وغاية الجرى. قلت: القصواء من النوق: التي قطع أذنها حتى بلغ الجدع الربع، فإذا جاوزوه فهي عضباء، وإذا قطع منها شيء فهي جدعاء، وبكل ذلك ورد الحديث في وصفها، وقد تبين لنا من السنن الثابتة أن كل ذك صفة ناقة واحدة، وأن الرواة إنما استعملوها لتقاربها في المعنى. وقيل: العضباء هي المشقوقة الأذن، وقال قائلون من علماء العربي: إن العضباء لقب لناقة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم تكن مشقوقة الأذن.

قلت: وعلى هذا فالظاهر أنها كانت سكاء الأذن، فاعتورتها هذه الأسماء، ظنا منا لواصفين أنها كذلك، وقد بينا الألفاظ المختلفة في وصفها على ما جاءت بها الروايات في (كتاب المناسك)، وشرحناها على وجه التسديد والتوفيق، فمن أحب التثبت فليراجعه. وفيه: (قال جابر: لسنا نعرف العمرة). أي: لسنا نعرفها في أشهر الحج، وكان أهل الجاهلية يرون العمرة في أشهر الحج في أفجر الفجور، وإنما كانوا يعتمرون بعد مضيها، والعمرة في أشهر الحج إنما شرعت عام حج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن ذلك قصدهم حين خرجوا. وفيه: (حتى انصبت قدماه في بطن الوادي): يقال: صببت الماء فانصب، أي: سكبته فانسكب، وانصباب القدمين عبارة عن انحدارهما بالسهولة [34/] في صيب من الأرض، وهو ما انحدر منها، وقوله: (سعى) أي: عدا. وفيه: (وأصعدت قدماه) أي أخذتا في الصعود منا لوادي؛ والإصعاد: الذهاب في الأرض والإبعاد، سواء ذلك في صعود أو حدور، قال الله تعالى: {إذ تصعدون ولا تلوون على أحد} ومعناه في الحديث: ارتفاع القدمين من بطن المسيل إلى المكان العالي؛ لأنه ذكر في مقابلة الانصباب عند الهبوط في الوادي. وفيه (لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدى وجعلتها عمرة): المعنى: لو عملت من أمري في قبل منه ما علمته في دبر منه لجعلتها: الضمير عائد إلى الحجة؛ أي: جعلت الحجة عمرة كما أمرتكم به، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأي أن تكون الأنساك الثلاثة معمولاً بها، لئلا يظن ظان أن شيئاً منها متروك، ولما لم يكن يسعه أن يقوم بها جميعا فعل بعضها وأمر ببعضها ليأتسى كل منهم بما فعله، أو بما أمر به. ولما كانت الصحابة أشد الناس ولعاً باقتفاء هديه، وإيثار سنته لم يرد أن يكلهم إلى اختيارهم في ذلك، لأنهم لم يكونوا يعدلون غير صنيعه بما صنع، بل كانوا يهلون بما أهل هو به، ويدعون ما سوى ذلك، فلما أهل هو بهما اتبعه من عرف ذلك، أو قال: أهللت بما أهل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد كان غمار الناس مفردين؛ لأنهم كانوا لا يعرفون القران ولا التمتع، ولو تركوا على ما هم عليه بقى أحد الأنساك وهو التمتع، مهملاً غير معمول به، فأمر من لم يسق الهدى منهم أن يرفض حجته، ويجعلها عمرة، وهذا أمر خصوا به من بين الامة، لا يجوز لأحد بعدهم رفض الحج إلى العمرة، ورد ذلك الأحاديث الصحاح، فكأن القوم تداخلهم غضاضة عن ذلك، وشق عليهم ما أمروا به، حتى قالوا ننطلق إلى منى وذكرنا يقطر، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - بما خامر ضمائرهم من الاضطراب، ولم يأمن عليهم الشيطان أن يزلهم، فقال: (لو استقبلت من أمري ..) الحديث؛ دفعاً لما استمر بهم من وحر الصدر، وإرشاداً لهم إلى أن الفضيلة كل الفضيلة في الائتمار بأمره، والإجابة إلى ما دعا إليه.

وفيه (دخلت العمرة في الحج ..) الحديث أي: دخلت في وقت الحج وأشهره، وكان أهل الجاهلية لا يرون ذلك على ما ذكرناه عنهم؛ فأبطل النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كانوا عليه بقوله هذا. وقيل: معنى دخول العمرة في الحج: أن فرضها ساقط بوجوب الحج، وقال القائلون بوجوب العمرة: إن المعنى: دخلت العمرة في أجزاء أفعال الحج، فاتحدتا في العمل، واستدلوا بقول سراقة: ألعامنا هذا؟ فقال: لولا وجوب أصله لما توهموا أن يتكرر، ولم يحتاجوا إلى المسألة، والتأويل هو (35/ أ/ جـ 2) الاول، وكان سؤال سراقة كان عن العمرة في أشهر الحج، لما فهم من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأنى يستدل بهذا الحديث على وجوب العمرة، وجابر هو الذي روى عنه هذا الحديث في الجوامع الصحاح؛ كان شاهد الحال، وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن العمرة، أواجبة هي؟ قال (لا، وأن تعتمر فهو أفضل) وهذا الحديث أخرجه أبو عيسى في كتابه، وقال: هذا حديث حسن صحيح. قلت: ولو زعم زاعم التقدم في حديثه هذا على الذي شرحناه، قلنا: لم يكن جابر ليروي هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ما سمع خلافه، ثم إن حديثه في نفي الوجوب قول فصل، والذي يدعيه تأويل على سبيل الاحتمال، والصحابي الذي روى أنها غير واجبه بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو كان معنى قوله: (دخلت العمرة في الحج) عنده على ما رأيتم لبين في أحد الحدثين، والصحابي أعرف بوجوه الخطاب. وفيه: (حين فرضت الحج) أي ألزمته نفيه، وذلك بالتلبية أو بتقليد الهدى، أو بالنية بحسب ما يختلف العلماء فيه. وفيه: (وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة) نمرة: بفتح النون وكسر الميم الجبل الذي عليه أنصاب الحرم، عن يمينك إذا خرجت من مأزمى عرفة تريد الموقف، وبقديد: موضع آخر يقال له: نمرة. وفيه (أمر بالقصواء فرحلت له)، أي شد عليها الرحل، تقول: رحلت البعير أرحله رحلاً إذا شددت على زهره الرحل، قال الاعشى: رحلت سمية غدوة أجمالها .... غضبي عليك فما تقول بدا لها وفي: (إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا): أراد أموال بعضهم على بعض، وإنما ذكره مختصراً اكتفاء بعلم المخاطبين، حيث جعل (أموالكم) قرينة (دماءكم)، وإنما شبه ذلك في التحريم بيوم عرفة وبذى الحجة والبلد؛ لأنهم كانوا يعتقدون أنها محرمة أشد التحريم لا يستباح منها شيء، وفي تشبيه هذا مع بيان حرمة الدماء والأموال تأكيد لحرمة تلك الأشياء التي شبه بتحريمها تحريم الدماء والأموال. وفيه: (ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضع) أي أبطلت ذلك، وتجافت عنه حتى صار كالشيء الموضوع تحت قدمي؛ تقول العرب في الأمر الذي لا تكاد تراجعه وتذكره: جعلت ذلك دبر أذني وتحت قدمي. وفيه: (إن أول دم أضع من دمائنا دم ربيعة بن الحارث): بدأ في وضع دماء الجاهلية ورباها بين أهل الإسلام بأهل بيته؛ ليكون أمكن بين قلوب السامعين، وأسد لأبواب الطمع في الترخيص. وقوله: (من

دمائنا) أراد به أهل الإسلام لا ذوي القرابة منه، أي أبدأ في وضع الدماء التي تستحق أهل الإسلام ولايتها بأهل بيتي. وربيعة بن الحارث هو: ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وروى عنه، وكان أسن من العباس بن [عبد] المطلب، توفى في خلافة عمر- رضي الله عنه- (35/ جـ 2) وقد ذكر جمع من أهل العمل أن رواة هذا الحديث لم يصيبوا في (؟) دم ربيعة، وإنما الصواب: دم ابن ربيعة، وقد ألحق هذه الزيادة بنسخ من المصابيح، وزادهم ما في (؟) (كان مسترضعاً، التثبت فيما رأوه، أو رووه ولا نرى التسلم لهم مع إمكان تقرير معمى الحديث على ما وردت به الرواية عن علماء النقل وحفاظهم: (دم ربيعة)، وهي رواية البخاري؛ فنقول: إنما أضاف الدم إلى ربيعة؛ لأنه كان ولي الدم. وقوله: (كان مسترضعاً) راجع على القتيل، فلك بالكلام مسلك الإيجاز على طريق الحذف والإضمار. ومثل ذلك في الكلام حسن إذا قرن به دلالة عليه، ولم يخل هذا القول من ذلك؛ لأن الدم إنما يطالب به لعلع القتل، ويحتمل أنه أراد دم قتيل ربيعة، فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه موضعه اعتماداً على اشتهار القضية بين السامعين، ويحتمل أن يكون هذا القول- أعني (كان مسترضعاً) في بني سعد- من قول بعض الرواة على وجه البيان. وفيه: (فإنكم أخذتموهن بأمانة الله): أي بعهده وهو ما عهد إليهم من الرفق بهن، والشفقة عليهن. وفيه: (واستحللتهم فروجهن بكلمة الله): أي بأمر الله وحكمه، والمعنى أن استحلالكم فروجهن وكونهن تحت أيديكم إنما كان بعهد الله وحكمه فيما شرع لكم من الدين؛ فإن نقضتم عهده الذي عهد إليكم فيهن انتقم منكم لهن. وفيه: (فإن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه): أي لا يستبددن بالإذن لمن تكرهون في الدخول عليهن، والتحدث عندهن، كما كان من عادة العرب، وفي ذلك تأكيد للنهي فيما نهى عنه بالحجاب. وإيطاء الفرش كناية عما ذكرنا، وليس من كنايات الزنا في شيء وقد بين ذلك قوله: (فاضربوهن ضرباً غير مبرح) أي غير مؤثر ولا شاق من قولهم: برح به الأمر تبريحاً أس جهده. ولو كان الإيطاء كناية عن الزنا لكانت عقوبتهن الرجم. وفيه: (فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه): الحبل بالحاء المهملة المستطيل من الرمل، وقيل: هو الضخم منه، وجمعه حبال/ وقيل: الحبال في الرمل كالجبال في غير الرمل. ونقل عن الأخفش أنه قال: الح جبل عرفة، وأنشد: فراح بها من ذي المجاز عشية .... تبادر أولى السابقات إلى الحبل قلت: وحبل المشاة رمل مستطيل، دونا لجبل، وأضيف إلى المشاة لاجتماعهم هنالك من الموقف توقيا عن مواقف الركاب، ودون حبل المشاة، ودون الصخرات، اللاصقة بفتح الجبل موقف الإمام، وبه كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحرى الوقوف، والرواية عندنا: (إلى الصخيرات) (36/ أ/ جـ 2) بإثبات ياء التصغير.

باب دخول مكة والطواف

وفيه: (حتى أتى بطن محسر) محسر بكسر السين وتشديدها: واد معترض للطريق يقطع الطريق بالعرض مقدار غلوة، ويقال له أيضاً: وادي محسر. وفيه: (مثل حصى الخذف): الخذف الخاء والذال المعجمتين: الرمي بالأصابع، يريد أن كل حصاة كانت كالتي يجعلها الإنسان على إصبعه فيرمي بها. وفيه: (فنحر ما غبر): أي ما بقى، والغابر: الباقي، وهو من الأضداد. وبقية أحاديث هذا الباب مبينة بما تقدم من البيان. ومن باب دخول مكة والطواف (من الصحاح) [1780] حديث: ابن عمر -رضى الله عنهما- (أنه كان لا يقدم مكة إلا بات بذي طوى) ذو طوى موضع بمكة داخل الحرم، يفتح طاؤه ويضم، والفتح أشهر. وقد قيدها بعض الرواة بالكسر، ولا أحسبه صواباً. [1782] ومنه حديث عروة بن الزبير: (حج النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرتني عائشة - رضي الله عنها- أنه أول شيء بدأ به حين قدم أنه توضأ ثم طاف بالبيت ..) الحديث: (أنه) الضمير للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ويحتمل أن يكون

للشأن، والأول مرفوع بالابتداء، والجملة من قوله (أنه توضأ ثم طاف بالبيت) خبره، وإذا لم يجعل الضمير للشأن فالجملة التي هي المبتدأ، وخبره يكون خبر إن، ويجوز أن ينصب (أول) على الظرف بعامل مضمر، وتكون (أن) الثانية بدلاً من الأولى، كأنه قال: فأخبرتني أنه توضأ ثم ضاف بالبيت أول شيء بدأ به. وفيه: (ثم لم تكن عمرة): كذلك هو في كتاب البخاري، وفي كتاب مسلم لم يذكر شيئاً من ذلك في حج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما ذكر في حج غيره، والذي رواه البخاري: (لم تكن عمرة) يحتمل أن يكون من قول عائشة، ويحتمل أن يكون من قول عروة، والذي يدل عليه نسق الكلام أنه من قول عروة، وأما قوله: (ثم حج أبو بكر) إلى تمام الحديث فإنه من قول عروة من غير تردد، ويدل على صحة ذلك سياق حديث مسلم، فإنه ذكر الحديث بطوله وفيه: (ثم حج عثمان فرأيته أول شيء بدأ به الطواف بالبيت) وفيه: (ثم حججت مع أبي الزبير بن العوام فكان أول شيء بدأ به الطواف)، وفي كتاب مسلم بعد ذكر حج أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم-رضي الله عنهم-: (ثم لم يكن غيره) مكان رواية البخاري (ثم لم تكن عمرة). والمراد من قوله (لم يكن غيره): أي لم يكن هناك تحلل بالطواف من الإحرام؛ بل أقاموا على إحرامهم حتى نحروا هديهم، عرفنا هذا المعنى من أصل الاختلاف الذي دار بين عروة والذي خالفه في الفتوى، فإن في أول الحديث (36 ب/ج 2) عن محمد بن عبد الرحمن ان رجلاً من أهل العراق قال له: سل لي عروة بن الزبير عن رجل يهل بالحج فإذا طاف بالبيت أيحل أم لا؟ فإن قال لك: لا يحل فقل له إن رجلاً يقول ذلك؛ وأشار السائل بذلك أن له أن يجعلها عمرة، وهذا القول راجع إلى ما ذكرنا من تمتع أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد ذكرنا أن ذلك شيء خصوا به عامئذ، ولم يكن لأحد بعدهم، بعد عامهم ذلك أن يصنعه، وفي معناه ما في كتاب البخاري، وهو الذي أورده المؤلف في كتاب المصابيح، (ثم لم تكن عمرة) أي لم يحلوا عن إحرامهم ذلك ولم يجعلوها عمرة. [1785] ومنه حديث: ابن عمر- رضي الله عنه- أنه سئل عن استلام الحجر فاستلمه) الحديث:

استلم الحجر: لمسه، إما بالقبلة أو باليد، ولا يهمز؛ لأنه مأخوذ من السلام بكسر السين، وهو الحجر. وقوله: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستلمه ويقبله، فإنه أراد به هاهنا اللمس باليد لذكره التقبيل بعد الاستلام. [1789] ومنه حديث أبي الطفيل وهو عامر بن واثلة- رضي الله عنه-: (رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يطوف بالبيت، ويستلم الركن بمحجن معه، ويقبل المحجن) المحجن: خشبة في رأسه اعوجاج كالصولجان، قلت: لما كان من حق الملوك على من ينتابهم من الوفود أن يقبلوا أيمانهم، وكان الحجر للبيت بمثابة اليد اليمنى شرع التقبيل للوافدين إليه، والطائفين به، إقامة لشرط التعظيم فإن منع عنه مانع فالسنة فيه أن يشير إليه بيده، ثم يقبل يده، والمعنى أني رمت التقبيل فحجزني عنه حاجز، فها أنا أقبل اليد التي تشرفت بالإشارة إليك، مكان ما قد فاتني. قلت: وقد وجد في تقبيل النبي - صلى الله عليه وسلم - المحجن من التعظيم ما لا يوجد في تقبيل اليد نفسها؛ لأنه أبلغ في بيان المقصد، وأقرب إلى التواضع، وأبعد من تهمة الترفع، وشبهة الاشتراك. [1790] ومنه حديث عائشة- رضي الله عنها- (فلما كتا بسرف): سرف بفتح السين وكسر الراء: اسم

موضع على ستة أميال من مكة، وقيل على سبعة، وهو مذكر مصروف ومن أصحاب الحديث من يرى أنه غير منصرف فيرويه مفتوحة الفاء. وقد غلط بعضهم في حديث عمر- رضي الله عنه- أنه حمى السرف والربذة، فرواه بالسين المهملة، ورأى أن بالمدينة موضعاً آخر يسمى سرفاً، وليس بصحيح، وإنما هو بالشين المعجمة. كذلك رواه ابن وهب المصري، وصوبه أهل العلم فيه. وفيه: (لعلك نفست) أي: حضت، يقال: نفست المرأة ونفست: إذا ولدت فإذا حاضت، قلت: نفست- بفتح النون لا غير. وفيه: (حتى تطهري) الرواية فيه بالتخفيف. (ومن الحسان) [1795] حديث ابن عباس-رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (نزل الحجر الأسود من الجنة ..) الحديث: هذا الحديث أخرجه أبو عيسى (37/أ/ج 2) في كتابه، وذكر أنه حديث حسن صحيح، ووجدنا لفظ كتابه فيما نعتمد عليه من النسخ التي قام بتقويمها أقلام الحفاظ: (نزل الحجر الأسود) بغير ألف ولام، على صيغة الإضافة، وقد ذكرنا فيما تقدم أن العرب ربما أضافت الشيء إلى نفسه عند اختلاف اللفظين؛ كقولهم: مسجد الجامع، ومثله قولنا في: حجر الأسود. وهذا يحتمل أن يراد منه ما دل عليه الظاهر، ويحتمل أن يؤول على ما يستقيم عليه المعنى من باب الاتساع، ولسنا نرى- بحمد الله- خلاف الظواهر في السنن إلا إذا عارضه من السنن الثوابت ما يحوج إلى التأويل، أو وجدنا اللفظ في كلامهم بين الأمر في المجاز والاستعارة، فسلكنا به ذلك المسلك، وإذ قد عرفنا من أصل الدين بالنصوص الثابتة أن الجنة وما احتوت عليه من الجواهر مباينة لما خلق في هذه الدار الفانية في حكم الزوال والفناء، وإحاطة الآفات بها، فإن ذلك خلق خلقاً محكماً غير قابل لشيء من ذلك وقد وجدنا الحجر أصابه الكسر حتى صار فلقاً، وذلك من أقوى أسباب الزوال لم نستبعد فيه مذهب التأويل، وذلك بأن نقول: جعل الجحر لما وضع فيه من الأنس والهيبة واليمن والكرامة كالشيء الذي نزل من الجنة، وأراد به مشاركته جواهر الجنة في بعض أوصافها، ومثله قول - صلى الله عليه وسلم -: (العجوة من الجنة) وقد علمنا أنه أراد بذلك مشاركتها ثمار الجنة في بعض ما جعل فيها من الشفاء والبركة بدعائه - صلى الله عليه وسلم - بذلك فيها، ولم يرد ثمار الجنة نفسها، للاستحالة التي شاهدنا فيها، كاستحالة غيرها من الأطعمة، ولخلوها عن النعوت، والصفات الواردة في ثمار الجنة. وتأويل قوله: (نزل من الجنة) أي الصفات الموهوبة لها، قال الله

تعالى: {وأنزلنا الحديد} وقال: {وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج} فحمل الإنزال على معنى القضاء والقسمة. ومنهم من ذهب فيه إلى معنى الخلق، ومنهم من أقام إنزال الأسباب فيها مقام إنزالها نفسها. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: (وهو أشد بياضاً من اللبن)، فمعناه أن الحجر كان من الصفاء والنورانية [على هذا النعت]؛ فسودته خطايا بني آدم، ومعنى هذا القول-والله أعلم- أن كون بني آدم خطائين مقتحمين على موارد الهلكات، اقتضى أن يكون الحجر على الشاكلة التي هو عليها من السواد لئلا يتسارع إليهم المقت والعقوبة من الله تعالى؛ فإن كل من شاهد آية خارقة للعادة، ثم بخس بحقها استحق الطرد من الله فأضيف التسويد إلى الخطايا؛ لأنها كانت (37 ب/ج 2) السبب في ذلك. ومن الدليل على هذا التأويل قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبد الله بن [عمر]-رضي الله عنهما: (إن الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة، طمس الله نورهما، ولو لم يطمس نورهما لأضاءا ما بين المشرق والمغرب) فالذي طمس نورهما هو الله سبحانه، حكمة بالغة منه في المعنى الذي ذكرناه. ثم لمعنى آخر؛ وهو أن كونه أتم فائدة في الحال المكلفين؛ لأنهم إذا عظموه حق تعظيمه من غير مشاهدة آية باهرة صح إيمانهم بالغيب، وذلك من أعلى مقامات أهل الإيمان، فيكون من أجدي الأشياء في محو الخطايا؛ لاقتضائها ذلك من طريق الحكمة. ولقد ذكر بعض الأصولية عن بعض الفضولية، بل عمن لا خلاق له في الدين- كلاماً في هذا الحديث لم يعد عليه بفائدة غير الإيهام بتوهين أمر الدين، والتصدي للطعن في صحابة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وفيما نقلوه فعارضه بنقل عن محمد بن الحنفية-رضي الله عنه- وعن أبيه كبيت العنكبوت، زعم هذا القائل أن ابن الحنفية رد على ابن العباس حديثه هذا، ثم لم يقنع بهذا القول المنحول حتى كد قريحته السقيمة، وأعمل رويته الخبيثة، فقال: لو كان هذا الذي رووه من تسويد خطايا بني آدم الحجر واقعاً لتناقلته الأمم في عجائب الأخبار، ولقد أجبت عن ذلك كله في كتاب المناسك، وأعطيت القول في حقه في موضعين منه، ولم أر ترديد القول ههنا؛ إيثاراً للاختصار [والله أعلم] [1796] ومنه حديثه الآخر، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحجر: (ليبعثنه الله يوم القيامة ..) الحديث: البعث: نشر الموتى، ولما كان الحجر من جملة الموات وأعلم نبي الله أن الله قد قدر أن يدب له حياة يوم القيامة يستعد به للنطق، ويجعل له آلة يتميز بها بين المشهود له وغيره، وآلة يشهد به- شبه حاله

بالأموات الذين كانوا رفاتاً، فبعثوا لاستواء كل واحد منهما في انعدام الحياة أولاً، ثم في حصوله ثانياً. وفيه (يشهد لمن استلمه بحق): المستلم بحق هو المؤمن بالله وبرسله، لوقوع فعله ذلك مطابقاً لأمر. [1797] ومنه حديث عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-: يقول: (إن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة) الحديث: لما كان الياقوت (38/أ/ج 2) من أشرف الأحجار، ثم كان بعد ما بين ياقوت هذه الدار الفانية وياقوت الجنة أكثر مما بين الياقوت وغيره من الأحجار علمنا أنها من ياقوت الجنة لنعلم أن المناسبة الواقعة بينهما وبين الأجزاء الأرضية في الشرف والكرامة والخاصية المجعولة لهما كما بين ياقوت الجنة وسائر الأحجار، وذلك مما لا يدرك بالقياس وأما قوله: (كمس الله نورهما) فقد مر بيانه. [1799] ومنه قول عبد الله بن السائب-رضي الله عنه- في حديثه: (فيما بين ركن بني جمح): أراد به الركن اليماني، وإنما أضافه إلى بني جمح، وهم بطن من قريش؛ لأن مساكنهم كانت من ذلك الشق

باب الوقوف بعرفة

ومن باب الوقوف بعرفة (من الصحاح) [1805] حديث عائشة-رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما من يوم أكثر من أن يعتق فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ..) الحديث: أي يدنو منهم في موقفهم بفضله ورحمته، وفي تخصيص لفظ الدنو بهذا الموضع تنبيه على كمال القرب؛ لأن الدنو من أخص اوصاف القرب. وفيه: (يباهي بهم الملائكة): المسباهاة هي الفاخرة، [وموضعه] للمخلوقين فيما يترفعون به على أكفائهم، وتعالى الله الملك الحق عن التعزز بما اخترعه ثم تعبده وإنما هو من باب المجاز، أي: يحلهم من قربه وكرامته بين أولئك الملأ، محل الشيء المباهي فيه، ويحتمل أن يكون ذلك في الحقيقة راجعاً إلى أهل عرفة، أي: ينزلهم من الكرامة منزلة تقتضي المباهاة بينهم، وبين الملائكة. وإنما أضاف الفعل إلى نفسه تحقيقاً لكون ذلك من موهبته [والله أعلم] (ومن الحسان) [1806] حديث يزيد بن شيبان-رضي الله عنه-: (كنا في موقف لنا بعرفة يباعده عمرو عن موقف

الإمام جدا). الحديث: قوله: (في موقف لنا) يدل على أن قومه كانوا يقفون قبل الإسلام موقفهم ذلك، وقوله (يباعده) أي يجعله بعيداً في وصفه إياه بالبعد. و (جدا) نصب على المصدر، أي: يجد في التبعيد جدا، والتباعد يجيء في كلامهم بمعنى التبعيد، وبه ورد التنزيل: {ربنا باعد بين أسفارنا}. وفيه: (فأتانا ابن مربع) هو زيد بن مربع الأنصاري من بني حارثة، كذا ذكره الإثبات من علماء النقل. وقيل: عبد الله بن مربع بن قبطي. والميم من مربع مكسور. وفيه: (قفوا على مشاعركم): المشاعر جمع مشعر، والمراد منها هاهنا مواضع النسك، ويسمى كل موضع من مواضع النسك مشعراً لأنه معلم لعبادة الله. وفيه: (على إرث من إرث أبيكم إبراهيم عليه السلام): أعلمهم أنهم لم يخطئوا سنة خليل الله، وذلك؛ ان قريشاً ومن دان دينهم كانوا لا يرون الخروج عن الحرم للوقفة (38 ب/ج 2) ويقولون نحن قطان الحرم فلا ندعه بحال، وكان غيرهم من العرب يقفون بعرفات، فلما حج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ووقف موقفه الذي يقف دونه الإمام، أعلم من وقف بها أنه على منهاج إبراهيم-عليه السلام- وأن من بعد موقفه عن موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - كمن دنا، وذلك منه لمعنيين: أحدهما تسفيه رأي من رأى في الخروج عن الحرم حرجاً للوقفة. والثاني: إعلامهم بأن عرفة كلها موقف لئلا يتنازعوا في مواقفهم، ولا يتوهموا أن الموقف ما اختاره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يرون الفضل في غيره، فينتهي بهم ذلك إلى التشاجر، وإلى تصور الحق باطلاً ولهذا قال: (وقفت هاهنا، وعرفة كلها موقف) وفي معناه حديث جابر الذي يتلوه. [1809] ومنه حديث عبد الله بن عمرو-رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (خير الدعاء دعاء يوم عرفة ..) الحديث: خير الدعاء أي خيره لصاحبه وأنفعه، وذلك لكونه أعجل إجابة، وأجزل ثواباً،

وفيه: (وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له ..) الحديث ... إنما سماه دعاء لأنه في معرض الدعاء، وفي معناه. وقد سئل سفيان الثوري عن هذا الحديث فقيل له: هذا هو الثناء فأين الدعاء؟ فأنشد قول أمية بن أبي الصلت في ابن جدعان: أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياة إذا أثنى عليك المرء يوماً ... كفاه من تعرضه الثناء وقد ذكرنا فيه وجوهاً في كتابنا الموسوم (بمطلب الناسك) [1810] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث طلحة بن عبد الله بن كريز: (ولا أدحر) أي: أبعد وأذل، والدحور: الطرد والإبعاد، وقد دحره. وفيه: (رأى جبريل يزع الملائكة) أي يكفهم، فيحبس أولهم على آخرهم. ومنه الوازع وهو الذي يتقدم الصف فيصلحه ويقدم في الجيش ويؤخر. وطلحة هذا من تابعي الشام، وأبوه عبد الله، ووجدنا في بعض نسخ المصابيح جعلوا عبيد الله مكان عبد الله، وهو غلط، وطلحة بن عبيد الله هو المشهود له بالجنة [من جملة العشرة المشهود لهم بالجنة-رضي الله عنهم]، وكريز جده، بفتح الكاف وكسر الراء. [1811] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث جابر رضي الله عنه (فتقول الملائكة: يارب فلان كان يرهق) أي يتهم بالسوء، والهاء منه مشددة، وفي حديث أبي وائل: صلى على امرأة كانت ترهق) أي تزن بالهنات،

باب الدفع من عرفة والمزدلفة

ويقال: فيه رهق أي: غشيان للمحارم. ويقال للذي يفعل (39/أ/ج 2) ذلك المرهق- بتشديد الهاء وتخفيفها أيضاً وهي مفتوحة في الصيغتين. ويكون قول الملائكة هذا على سبيل الاستعلام، ليعلموا هل دخل ذلك المرهق في جملتهم أم لا، كأنهم قالوا: إن فيهم فلاناً، ومن شأنه كيت وكيت. فماذا صنعت به، أو يكون سؤالهم هذا من طريق التعجب، وعلى هذا النحو من المعنى يحمل قوله - صلى الله عليه وسلم - في غير هذا الحديث: (إن فيهم فلاناً الخطاء) ولا يصح حمله على غير ذلك، فإنهم أعلم بالله من أن يسبق عنهم مثل هذا القول على سبيل الإعلام او الاعتراض. ومن باب الدفع من عرفة والمزدلفة (من الصحاح) [1812] حديث أسامة رضي الله عنه، أنه سئل: كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير في حجة الوداع حين يدفع؟ الحديث: دفع أي: دفع من عرفات، والدفع يستعمل قي الإضافة من عرفة إلى مزدلفة، وأرى ذلك لأن الناس في مسيرهم ذلك مدفوعون، كانه يدفع بعضهم بعضاً، وقيل: حقيقة دفع أي: دفع نفسه عن عرفة ونحاها. وفيه: (يسير العنق): العنق: ضرب من سير الدابة والإبل، وهو سير مسيطر قال الراجز: يا ناق سيري عنقاً فسيحاً ... إلى سليمان فتتريحا وانتصاب العنق على المصدر؛ لأن العنق مجانس للسير في المعنى، إذ هو ضرب من السير، فصار كقولهم: سار سيراً، ويجوز أن يكون في الكلام موصوف ومحذوف، كأنه قال: يسير السير العنق. ومثل ذلك قولهم: رجع القهقري، وقعد القرفصاء، واشتمل الصماء. وفيه: (فإذا وجد فجوة نص): الفجوة: الفرجة بين الشيئين وأراد بها هاهنا المكان الذي يخلو عن المارة، فيقع الفرجة بينهم، والنص: السير الشديد، حتى يستخرج أقصى ما عندها. [1813 [ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس- رضي [عنهما]: (فإن البر ليس بالإيضاع): أي ليس البر في الحج، وهو أن يوفق صاحبه في قضاء نسكه بالإصابة واجتناب الرفث والفسوق، ويتداركه الله بالقبول بالإيضاع: وهو حمل الدابة على إسراعها في السير، يقال: وضع البعير وغيره أي أسرع في سيره وأوضعه راكبه.

(ومن الحسان) [1821] حديث محمد بن قيس بن مخرمة: خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (إن أهل الجاهلية كانوا يدفعون من عرفة حين تكون الشمس كأنها عمائم الرجال في وجوههم قبل أن تغرب) الحديث: أي حين

تكون الشمس في وجوههم كأنها عمائم الرجال، وذلك بأن تقع [من] الجهة التي تحاذى وجوههم، وإنما قال: في وجوههم ولم يقل: على رءوسهم لأن الشمس إذا وجبت للغروب فواجهها الإنسان أخذت بضوئها ما قابلها به، ولم تتعد إلى ما فوقه من الرأس لانحطاطها (39 ب/ج 2) وكذلك وقت الطلوع، وإنما شبهها بعمائم الرجال لأن الإنسان إذا كان بين الشعاب والأدوية في أحد هذين الوقتين لم يصبه من شعاع الشمس إلا الشيء اليسير الذي يلمع في جبهته لمعان بياض العمامة، والظل يستر منه بقية وجهه وبدنه، فإذا نظر الناظر إليه وجد ضوء الشمس في وجهه مثل كور العمامة فوق الجبين، والمراد منه أن أهل الجاهلية كانوا يفيضون من عرفة وقد بقيت من الشمس بقية، ويدفعون من المزدلفة إلى مني وقد بدا حاجب الشمس، وسنتنا نحن أن نفيض بعد الغروب، وندفع قبل الطلوع (هدينا مخالف لهدى الأوثان والشرك)، أي سيرتنا مخالفة لسيرة عبدة الأوثان وأهل الشرك. [1822] ومنه حديث ابن عباس رضي الله عنه، قدمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة المزدلفة أغيلمة بني عبد المطلب) الحديث ... أغيلمة نصب على التفسير للضمير الذي في قوله: قدمنا. وأغيلمة تصغير غلمة، على غير مكبره وكأنهم، صغروا أغلمة، وإن كانوا لم يقولوه، كما قالوا في تصغير الصبية أصيبية، والغلمة جمع غلام، وهو جمع القلة، وجمع كثرة غلمان. وفيه: (على جمرات فجعل يلطح أفخاذنا): جمرات جمع جمار، ويجمع الجمار على جمير، وجمر، وجمرات، وأجمرة، و (يلطح أفخاذنا) أي: يضربها ببطن كفه، واللطح بالحاء المهملة: هو الضرب اللين على الظهر ببطن الكف وفيه: (أبيني لا ترموا الجمرة) قال بعض علماء اللغة: تصغير أبناء: أبيناء، وإن شيءت أبينون على غير مكبره، كان واحدة ابن مقطوع الألف، فصغره فقال: أبين، ثم جمعه فقال: أبينون، قال الشاعر: من يك لا ساء فقد ساءني ... ترك أبيتيك غلى غير راع وفي الحماسة: يسدد أبينوها الأصاغر خلتي حذف النون فيهما للإضافة، وقد نقل بعض أهل النقل عن أبي عبيد أنه قال: هو تصغير بني، ونقل أيضاً أنه قال تصغير ابن، وقد رد عليه بعض المتأخرين من النحاة فقال: هو خطأ، والألف في ابن للوصل، وهو مفرد، ولا يقال فيه أبنون فكيف يتصور ذلك؟ ثم قال: وعند سيبويه تصغير ابني على وزن أعمي، وهو اسم مفرد يدل على الجمع. والجموع إذا صغرت يصغر آحادها، ثم يجمع بالواو والنون إذا كان الاسم مذكراً، وبالألف والتاء إذا كان مؤنثاً، فابني إذا صغر قيل: أبين مثل أعيم، ثم يجمع أبينون.

رمي الجمار

[1823] ومنه حديث عائشة رضي الله عنها، أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - بام سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ..) الحديث--- ذهب بعض العلماء بناء على هذا الحديث أن الحج لو رمى جمرة العقبة بعد النصف من ليلة النحر أجزاه ذلك، وقد سبقوا فيه بالخلاف (40 أ/ج 2) ممن تقدمهم. وقد ذكر الطحاوي أن هذا الحديث لم يسنده غير أبي معاوية، وقد اختلف عليه فيه، فروى أنه- يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - أمراها أن توافي معه صلاة الصبح بمكة، وهذا خلاف الأول. قلت: وفيه من الغلط ما لا يخفى على من تدبره؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحضر صلاة الصبح بمكة يوم النحر، ولم يكن ليفعل ذلك ولا ليأمر به، قال: وروى عن أبي عبد الله احمد أنه قال: لم يسنده غير أبي معاوية، وهو خطأ. قال الطحاوي: وقد روى عن عائشة ان النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أسلمة أن تصلي الصبح يوم النفر بمكة، وكان يومها، فأحب أن توافيه قلت: وهذا أشبه الروايات بالصواب. باب رمي الجمار [1827] ومنه قول ابن مسعود رضي الله عنه، (هكذا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة): (إنما ذكر سورة البقرة؛ لأنها السورة المحتوية على أمهات المناسك، ويحتمل أنه أراد الذي أنزل عليه القرآن، فاكتفى بذكر تلك السورة لكونها أطول السور، والأول أمثل.

باب الهدى

[1828] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث جابر رضي الله عنه: (الاستجمار تو): الاستجمار: الاستنجار بالأحجار، والتو: الفرد، يقال: جاء رجل توا إذا جاء وحده، ووجه فلان من خيله بألف تو أي بألف واحد. [1829] ومنه: حديث قدامة بن عبد الله بن عمار: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يرمي الجمرة يوم النحر على ناقة صهباء ..) الحديث--- الصهباء: التي يخالط بياضها حمرة وذلك بأن يحمر أعلى الوبر ويبيض أجوافه. وفيه: (وليس قيل إليك إليك) قيل: مرفوعة اللام وهو (مصدر تقول)، قلت قولاً وقيلاً وقالاً، والمعنى: لم يكن الوازع يمشي بين يديه فيطرد الناس عنه، ومعنى قوله: إليك عن الطريق كقولك إليك عني أني تنح عني وتأخر، وذلك كمثل قولهم: الطريق الطريق. ومن باب الهدى (من الصحاح) [1832] حديث ابن عباس رضي الله عنهما، (صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر بذي الحليفة، ثم دعا بناقته فأشعرها ..) الحديث: أراد ناقته التي أراد أن يجعلها في هداياه، فاختصر الكلام أو كانت هذه الناقة من

جملة رواحله فأضافها إليه. وأشعر الهدى إذا طعن في سنامه الأيمن حتى يسيل منه دم، ليعلم أنه هدى، من قولهم: شعرت كذا أي علمت. ومنه الإشعار في الحرب، وهو ما يشعر به الإنسان (40 ب/ج 2) نفسه في الحرب، أي يعلم. وقوله: (وسلت الدم) أي: أماطة، وأصله القطع، يقال: سلت الله أنفه، أي: جدعه، وفي بعض طرق هذا الحديث: (وأماط عنه الدم). قلت: وقد كان هذا الصنيع معمولاً به قبل الإسلام؛ وذلك لأن القوم كانوا أصحاب غارات لا يتناهون عن الغصب والنهب، ولا يتماسكون عنه، وكانوا مع ذلك يعظمون البيت وما أهدى إليه، ولا يرون التعرض لمن حجه او اعتمره، وكانوا يعلمون الهدايا بالإشعار والتقليد؛ ذلك بأن يقلدوها نعلاً، أو عروة مزادة، أو لحاء شجرة، لئلا يتعرض لها متعرض، فلما جاء الله بالإسلام، أقر ذلك لغير المعنى الذي ذكرناه؛ بل ليكون مشعراً بخروج ما أشعر عن ملك صاحبه، وجعلها مجعل ما يتقرب منه إلى الله، وليعلم أنه هدى، فإن نفر لم يركب ولم يحلب، ولم يختلط بالأموال، ولم يتصرف فيه كما يتصرف في اللقطة، وإن عطب لم يؤكل منه، إلا على الوجه الذي شرع. هذا وقد اختلف في الإشعار بالطعن وإسالة الدم؛ فرآه الجمهور، ونفر عنه نفر يسير، وقد صادفت بعض علماء الحديث يشدد في النكير على من يأباه حتى أفضى به مقالته إلى الطعن فيه، والادعاء بأنه عاند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قبول سنته ويغفر الله لهذا الفرح بما عنده؛ كيف سوغ الطعن في أئمة الاجتهاد وهم لله يكدحون وعن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - يتناضلون، فأنى يظن بهم ذلك؟ أو لم يدر أن سبيل المجتهد غير سبيل الناقل، وأن ليس للمجتهد أن يتسارع إلى قبول النقل والعمل به إلا بعد السبك والإتقان، وتصفح العلل والأسباب، فلعله علم من ذلك ما لم يعلمه، أو فهم منه ما لم يفهمه، وأقصى ما يرمى به المجتهد في قضية يوجد فيها حديث فخالفه: أن يقال: لم يبلغه الحديث، أو بلغه من طريق لم ير قبوله، مع أن الطاعن لو قبض له ذو فهم، فألقى إليه القول من معدنه وفي نصابه، وقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ساق بعض هديه من ذي الحليفة، وساق بعضها من قديد، وأتى على-رضي الله عنه- ببعضها من اليمن، وجميع ما كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - على الثبت إما ست وثلاثون أو سبع وثلاثون بدنة، والإشعار لم يذكر إلا في واحدة منها. وقد روى أيضاً عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اشترى هديه من قديد، والقديد: قرية بين مكة والمدينة، وبينها وبين ذي الحليفة مسافة بعيدة، أفلا يحتمل أن يتأمل المجتهد في فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فيرى أن النبي - صلى الله عليه وسلم -[41/أ] إنما أقام الإشعار في واحدة، ثم تركه في البقية؛ حيث رأى الترك أولى، لاسيما والترك آخر الأمرين، أو اكتفى عن الإشعار بالتقليد؛ لأنه يسد مسده في المعنى المطلوب منه، والإشعار يجهد البدنة.

وفيه ما لا يخفى من أذية الحيوان، وقد نهى عن ذلك قولاً ثم استغني عنه بالتقليد، ولعله مع هذه الاحتمالات رأى القول بذلك؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حج وقد حضره الجم الغفير، ولم يرو حديث الإشعار إلا شرذمة قليلون. رواه ابن عباس رضي الله عنه، ولفظ حديثه على ما ذكرناه. ورواه المسور بن مخرمة، وفي حديثه ذكر الإشعار من غير تعرض للصيغة، ثم إن المسور- وإن لم ينكر فضله وفقهه- فإنه ولد بعد الهجرة بسنتين. وروته عائشة، وحديثها ذلك أورده المؤلف في هذا الباب، ولفظ حديثها: (فتلت قلائد بدن النبي - صلى الله عليه وسلم - بيدي، ثم قلدها وأشعرها وأهداها فما حرم عليه شيء كان أحل له) ولم يتعلق هذا بالحديث بحجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما كان ذلك عام حج أبو بكر-رضي الله عنه- والمشركون يومئذ كانوا يحضرون الموسم، ثم نهوا. وروى عن ابن عمر: أنه أشعر الهدى ولم يرفعه. فنظر المجتهد إلى تلك العلل والأسباب، ورأى على كراهة الإشعار جمعاً من التابعين؛ فذهب إلى ما ذهب لسارع في العذر قبل مسارعته في اللوم، ولأسمع نفسه: (ليس بعشك فادرجي)، والله يغفر لنا ولهم ويجيرنا من الهوى؛ فإنه شريك العمى. [1836] ومنه: قول عائشة-رضي الله عنها- في حديثها: (فما حرم عليه شيء كان أحل له). سبب هذا القول: أنه بلغها فتيا ابن عباس فيمن بعث هدياً إلى مكة: أنه يحرم عليه ما حرم على الحج حتى ينحر هديه بمكة، فقالت: ليس كما قال، وذكرت الحديث. وقولها: (فتلت قلائدها من عهن) الضمير في (قلائدها) راجع إلى البدن، والعهن: الصوف، والعهنة: القطعة منه، وقيل: هو الصوف المصبغ ألواناً، وعلى ذلك فسر قوله سبحانه وتعالى: {وتكون الجبال كالعهن المنفوش}

ومنه قول الرجل في حديث جابر-رضي الله عنه- وهو ناجية بن جندب الأسلمي، صاحب بدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (كيف أصنع [41/ب] بما أبدع على منها). أبدعت الراحلة إذا كلت وأبدع بالرجل، على ما لم يسم فاعله: عبارة عن الانقطاع به، لما يظهر من كلال راحلته وهزالها، وإنما قال: (أبدع على)، ولم يقل: (لي)؛ لأنه أراد بما حبس على من الكلال، وقولهم: (أبدع بي) إنما يقوله الراكب عند انقطاع راحلته به، ولم يكن هو راكبها؛ لأنها كانت بدنة، وإنما كان سائقاً ففصل بقوله: (على) بين الأمرين. [1841] ومنه: حديث ابن عمر رضي الله عنه: (ابعثها قياماً مقيدة): بعثت الناقة: إذا أثرته، وقياماً: نصب على الحال، أقام المصدر مقام اسم الفاعل، أي: قائمة مقيدة، والعامل في الحال محذوف مقدر، أي: انحرها قياماً، دل عليه أول الحديث: (أتى على رجل قد أناخ راحلته، وهو ينحرها)، ولا يصح أن يجعل العامل فيها: (ابعثها)؛ لأن البعث إنما يكون قبل القيام، واجتماع الأمرين في حالة واحدة غير ممكن، وفي غير هذه الرواية: (ابعثها قائمة مقيدة)، وهي أيضاً- رواية صحيحة. فإن قيل: أفلا يجوز أن يجعل قياماً نصباً على المصدر لما بين (ابعثها) وبين القيام من التفاوت في المعنى؛ كأنه قال: أقمها قياماً؟):

قلنا: لم يجز، والمانع منه خلو الكلام عن المعنى المقصود، وذلك أنه أمره أن ينحرها قائمة مقيدة، فإذا جعلت (قياماً) منصوباً بالمصدرية، تعلق الفعل المحذوف بـ (مقيدة) فحسب، فانحرف الكلام عن المنهج المراد. [1844] ومنه: حديث ابن عباس-رضي الله عنه- في حديثه: (في رأسه برة من فضة). البرة: حلقة من صفر، أو نحوه، تجعل في لحم أنف البعير، وقال الأصمعي: تجعل في أحد جانبي المنخرين. وأصل البرة: قيل: بروة؛ لأنها جمعت على بر، مثل: قرية وقرى، وتجمع: برا ت وبرون وكل حلقة من: سوار وخلخال وقرط برة، وإذا جعلت في أنف البعير مكان البرة شعر، فهي الخزامة. [1848] ومنه: حديث عبد الله بن قرط، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن أفضل الأيام عند الله: يوم النحر، ثم يوم القر): يوم القر اليوم بعد يوم النحر؛ لأن الناس يقرون يومئذ في منازلهم بمنى.

فإن قيل: قد ورد من الأحاديث الصحاح في فضل يوم عرفة ما قد دل على أنه أفضل الأيام، وفي كتاب الله: {يوم الحج الأكبر} وهو يوم عرفة؛ فكيف التوفيق بين ذلك، وبين هذا الحديث؟ قلنا: أما قوله تعالى: {يوم الحج الأكبر} فقد اختلف في تأويله: فقيل: يوم عرفة. وقيل: يوم النحر، والأغلب والأقوى أنه يوم عرفة؛ لأن تعلق الحج به أقوى من تعلقه بيوم النحر؛ ألا ترى أن يوم عرفة لو فات فات إلى غير بدل وإلى هذا المعنى [42/أ] التفت النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: (الحج عرفة). وأما الأحاديث فهي صحيحة، ولكن ليس في شيء منها أن يوم عرفة أفضل الأيام، والحديثان وإن لم يكن بينهما تضاد، أعني: حديث فضل يوم عرفة، وحديث فضل يوم النحر ولكننا أحببنا ان نقف على حقيقة المعنى في هذا الحديث، وعلى معرفة ما أشكل منه فوجدنا في الحديث الصحيح، ما قد دل على أن الأيام العشر أفضل الأيام، لأنها أحب الأيام إلى الله تعالى، وإذ قد وجدنا الفضل بعد يوم النحر ليوم القر، ووجدنا العشر من ذي الحجة أفضل الأيام وأحبها إلى الله تعالى ويوم القر ليس من جملتها- علمنا أن يوم عرفة غير داخل في جملة الأيام التي أفضلها يوم النحر والتخصيص جائز في مثل ذلك ذهابا إلى حضور معنى الخصوصية فيه، ويكون معنى قوله: (أفضل الأيام يوم النحر) أي: من أفضل الأيام؛ كما يقال: فلان أعقل الناس وأعلمهم، أي: من أعقل الناس وأعلمهم، وعلى مثل هذا يأول قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ما شيء في الميزان أثقل من خلق حسن) ومعلوم أن الإيمان أثقل منه، وكذلك الصلاة فرائض الإسلام. ويحتمل أن يراد بتلك الأيام: يوم النحر وأيام التشريق. [1849] وفيه (يزدلفن إليه) أي: يقربن منه، ويتقدمن نحوه، يقال: تزلف وازدلف، أي: تقدم. وفيه: (فلما وجبت جنوبها): المراد منه: زهوق النفس وسكون النسايس، وتفسير اللفظ في وجوب الجنوب: وقوعها على الأرض، من وجب الحائط وجوباً: إذا سقط، ووجبت الشمس جبة: إذا غربت، قلت: وقد استعمل الراوي في قوله هذا لفظ التنزيل، قال الله تعالى: {فإذا وجبت جنوبها} وفي هذا الكلام من البلاغة ما لا يخفى على ذي الفهم مبلغه؛ وذلك أن الله تعالى ذكر البدن، وعظم شأنها، ثم أشار بمقتضى اللفظ إلى أنها تنحر قياماً فإن وجوب الجنوب منها إنما يتصور إذا كانت قائمة وتلك السنة فيها.

باب الحلق

ومن باب الحلق (من الصحاح) [1851] حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال لي معاوية (إني قصرت من رأس النبي - صلى الله عليه وسلم - بمشقص). قوله: (من رأس النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي: من شعر رأسه والمشقص من النصال ما طال وعرض قال الشاعر: سهام مشاقصها كالحراب قلت: لهذا الحدث تتمة لم يوردها المؤلف، وفيه اختلاف أعرض عن ذكره، أو لم يطلع عليه، وفيه إشكال لم يتعرض لحله الرواة، فرأينا أن نورد ذلك ونكشف عنه الغطاء. أما التتمة: فقول ابن عباس له: (لا أعلم هذا إلا حجة عليك) وبيان هذا القول أن ابن عباس [42/ب] كان يرى أن الحاج إذا طاف بالبيت، فله أن يحل ويجعلها عمرة، وكان يأخذ ذلك من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أمر أصحابه في حجة الوداع أن يحلوا، وقد ذكرنا أن هذا حكم خص به أولئك الركب من بين الناس، وإنما اشتبه على ابن عباس؛ لأن الحديث لم يبلغه بتمامه فرأى رأياً وقد أنكر عليه. وفيه: (قال له رجل من بني الهجيم: ما هذه الفتيا التي تشعبت بالناس) أي: فرقتهم، ويروى: (شغبت) بالغين المعجمة، أي: أوقعتهم في الشغب وهيجتهم، ويروى على غير ذلك. وكان معاوية رضي الله عنه ينهي عن المتعة أشد النهي، ويرى أن ذلك قد نسخ، وقد رد عليه قوله هذا غير واحد من الصحابة، فقول ابن عباس: (لا أعلم هذا إلا حجة عليك) أي: لا أعلم هذه القضية التي تذكرها إلا حجة عليك، يشير إلى أن قصره عند المروة دليل على أنه كان متمعتاً، وفي هذا إشكال جدا، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقصر في حجته، ولم يحلل عن إحرامه، لا شك في ذلك، ولم يكن الصحابي ليكذب في أمر الدين، لاسيما على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم إن ابن عباس لو كان أسمعه هذا القول، ثم سكت، ولم يبين له العمرة التي قصر فيها كان يقع ذلك منه موقع الاعتراف بما قال والالتزام له؛ وهذا

غير صحيح، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعتمر بعد الهجرة غير أربع عمر: واحدة منها عام حج، وقد أتى بهما في إحرام واحد، والثلاث البواقي كانت قبل أن حج، وقد أحببنا أن نعرف أن تقصيره هذا في أية عمرة يحتمل أن يكون، فرأيناه غير ممكن في عمرة الحديبية؛ لأنه حلق يومئذ ولم يدخل مكة، وهو محتمل في إحدى العمرتين: عمرة القضاء، وعمرة الجعرانة. فإن قيل: كيف يقدر ذلك في عمرة القضاء، وقد نقل عن أهل العلم بالسير أنه أسلم عام الفتح؟ قلنا: وقدنقل عنه نفسه أنه قال: (أسلمت عام القضية)، وإن يك في هذا النقل وهن فلا يستبعد أن يكون حضر المروة يومئذ فرآه يقصر من رأسه، وإنما جوزنا ذلك؛ لأن في (كتاب مسلم) عن ابن عباس أن معاوية بن أبي سفيان أخبره قال: (قصرت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمشقصٍ أو رأيته يقصر عنه بمشقص وهو على المروة) وهذا هو الاختلاف الذي قدمنا ذكره. وإذ قد بينا علة الحديث، وما فيه من الاختلاف، وما يورد عليه من الإشكال- فوجه ذلك عندنا أن نقول: الظاهر أن ابن عباس حسب أنه يذكر ذلك عن عام حج النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال قوله في نفسه، ولم يبرزه له فإضافة القول إلى ما قد حدث به الإنسان نفسه جائز، وشواهد ذلك في كلامهم كثير، وإن يكن الأمر على خلاف بنينا عليه التأويل،: فالوجه فيه أن نقول: نسى معاوية فحسب أنه كان في حجة الوداع، ولا يستبعد ذلك ممن شغلته الشواغل، ونازعته [43/أ [الدهور والأعصار في سمعه وبصره وذهنه، وكان قد جاوز الثمانين، وعاش بعد حجة الوداع خمسين سنة. والعجب كل العجب ممن يأتي بمثل هذا الحديث مع ما فيه من الإشكال والاختلاف البين، ثم لا يتعرض لبيان ما أشكل منه، ولعل بعضهم بينه، ونفى الاختلاف عنه، ولم ينته إلينا، والله يرحمنا وإياهم. [1852] ومنه: حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (اللهم ارحم المحلقين) قالوا: والمقصرين يا رسول الله ... الحديث):قلت: كان هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرتين: إحداهما: في عمرة الحديبية. والأخرى: في حجة الوداع. فالتي كانت في عمرة الحديبية إنما كانت لموجدة وجدها في نفسه عليهم، وذلك أن القوم لما صدوا عن البيت وقاضاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما أرادوه- تداخلهم غضاضة وخامرهم اضطراب، إلا من عصمه الله حتى استحوذ عليهم الشيطان وارتابوا فيما لم يكن غشيهم فيه ارتياب، واستولى عليهم الضجرة حتى كادوا أن

ينحروا أنفسهم، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحر الهدي، والخروج عن الإحرام، فلم يراعوا إلى طاعته، فلما حلق هو وافقه المحفظون من أصحابه، وتلكأ آخرون، ثم تداركهم الله بلطفه، فأجابوه فيما أمر على كره منهم، ولم يحلقوا بل قصروا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله ذلك؛ إظهاراً لموجدته عليهم، ليتوبوا إلى الله تعالى، وينالوا العفو والصفح عن نبي الله. ولما سئل يومئذ عن سبب تخصيصه المحلقين بالدعاء؟ قال: (إنهم لم يشكوا) وأما الذي كان منه في حجة الوداع؛ فإنه كان لبيان ما بين النسكين من الفضل، ويحتمل أنه كان لبيان فضل المتابعة فإنه من أوثق عرى الإيمان، وقد نبأهم الله تعالى بما عليهم من التقدم عليه والتأخر عنه. [1853] ومنه: حديث انس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى منى، فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى منزله بمنى، ونحر نسكه، ثم دعا بالحلاق .. الحديث) الأصل في النسك التطهير، يقال: نسكت الثوب، أي غسلته وطهرته، واستعمل في العبادة، وقد اختص بأفعال الحج، والنسيكة مختصة بالذبيحة.

وقوله سبحانه: {ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} ونسك: جمع نسيكة، وقيل: مصدر، والمصادر تقام مقام الأسماء المشتقة منها؛ فتطلق على الواحد والجمع، وأكثر ما نجده في الحديث بتخفيف السين. قلت: وفي هذا الحديث يجوز أن يحمل على الواحد؛ لأنه كان ينحر الواحد بعد الواحد. ويجوز أن يحمل على الجمع؛ لأنه نحو يومئذ بيده ثلاثاً وستين بدنة، وكأنه راعي بهذه العدة سني عمره - صلى الله عليه وسلم -. والحلاق: هو معمر بن عبيد الله بن نافع بن نضلة القرشي العدوي. وفيه: (ثم دعا أبا طلحة [43/ب] الأنصاري ... الحديث) قلت: غنما قسم الشعر في أصحابه؛ ليكون بركة باقية بين أظهرهم، وتذكرة لهم، وكأنه أشار بذلك إلى اقتراب الأجل، وانقضاء زمان الصحبة، وأرى أنه خص أبا طلحة بالقسمة التفاتاً إلى هذا المعنى؛ لأنه هو الذي حفر قبره، ولحد له، وبنى في اللبن. ومن الفصل الذي يتلوه (من الصحاح) [1858] حديث عبد الله بن عمرو-رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقف في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه فجاءه رجل، فقال: لم أشعر فحلقت قبل أن أدبح فقال: أذبح ولا حرج .. الحديث)

استدل بهذا الحديث وبما ورد بمعناه: من لم ير التقديم والتأخير في هذه الأنساك موجبيين للدم، وأما من يذهب إلى خلاف ذلك فإنه يرى معنى قوله: (لا حرج) أي: لا إثم عليك في ذلك؛ حيث لم تعلم، وليس لأنه رخص لهم في التقديم والتأخير، أو سوى بين الأمرين، واستدلوا على ذلك بحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو بين الجمرتين عن رجل حلق قبل أن يرمي؟ فقال: (لا حرج)، ثم قال: عباد الله، وضع الله-عز وجل- الحرج والضيق، فتعلموا مناسككم، فإنه من دينكم) فقالوا: أمره إياهم عند ذلك بتعلم المناسك يدل على أن الرجل جهل مناسكه، وأن الإصابة كانت في غير ما صنع، إلا أنه نفى عنه الإثم لجهله ولم يسقط عنه الدم، وإذا كان النسيان في إيجاب الدم كالعمد، فلأن يكون الجهل به موجباً أحق وأولى، وفي الحديث الصحيح الذي رواه مسور رضي الله عنه: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحر قبل أن يحلق، وأمر أصحابه بذلك)، وقد تبين لنا من هذا الحديث: أن تقديم النحر على الحلق من واجبات الحج. ومن رواه هذا الحديث، اعني حديث عبد الله بن عمرو، عبد الله بن عباس. قلت: وقد رواه مسلم في كتابه، عن ابن عباس؛ أن رجلاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - زرت قبل أن أرمي؟ قال: (ارم ولا حرج). وقال آخر: حلقت قبل أن أذبح؟ قال: (اذبح ولا حرج) فما سئل عن شيءٍ يومئذ قدم ولا أخر، إلا قال: (افعل ولا حرج). هذا، وقد روي عن ابن عباس أنه قال: من قدم شيئاً من حجه أو أخر، فليهرق لذلك دماً، وهو الذي روى الحديث: (ولا حرج)، فلو لم يعلم ان الدم يلزمه لم يكن ليفتي بخلاف ما رواه والله أعلم.

باب خطبة يوم النحر ورمى أيام التشريق والتوديع

ومن باب خطبة يوم النحر ورمى أيام التشريق والتوديع (من الصحاح) [1861] حديث أبي بكر-رضي الله عنه- قال: خطبنا [رسول الله] يوم النحر، فقال: (الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض ... الحديث): الخطب والمخاطبة والتخاطب: المراجعة في الكلام [44/أ] ومنه الخطبة والخطبة. لكن الخطبة-بالضم- تختص بالموعظة. فقوله: (خطبنا) مكان قوله: وعظنا. و (الزمان) اسم لقليل الوقت وكثيره، وأراد به هاهنا السنة، واستدارة الزمان: دورة بالشهور الهلالية، التي يدور عليها حساب السنة، واستدار ودار واحد، وأراد باستدارة الزمان: عود الأمر فيه إلى أصل الحساب، وبطلان ما ابدعه أهل الجاهلية من النسيء فإنهم كانوا ينسئون الحج في كل عامين من شهر إلى شهر آخر، ويجعلون الشهر الذي أنشأوا فيه ملغي، فتكون تلك السنة ثلاثة عشر شهراً، ويتركون العام الثاني على ما كان عليه الأول، سوى أن الشهر الملغي في الأول لا يكون في العام الثاني، ثم يصنعون في العام الثالث صنيعهم في الأول، ويتركون الرابع على ما تركوا عليه العام الثاني، وعلى هذا إلى تمام الدور، فيستدير حجمهم في كل خمسٍ وعشرين سنة إلى الشهر الذي بدئ منه، ولهذا تخبط عليهم حساب السنة، فأعلمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن الله-تعالى أدحض أدحض أمر النسيء، وأن حساب السنة قد استقام، ورجع إلى

الأصل الموضوع يوم خلق السموات والأرض. وقوله: (السنة اثنا عشر شهراً) تأكيد في إبطال أمر النسيء، فإنهم كانوا يجعلون السنة الأولى من كل سنتين ثلاثة عشر شهراً-على ما ذكرنا. وفيه (ورجب مضر، الذي بين جمادى وشعبان) إنما أضافه إلى مضر؛ لأنهم كانوا يتشددون في تحريمه، ولا يستحلونه استحلال غيره، ولا يوافقون غيرهم من العرب في استحلاله. وأما تفريقه بالذي بين جمادى وشعبان؛ فلإزاحة الارتياب الحادث فيه من النسيء. وفيه: (أي شهر هذا؟) قالوا: الله ورسوله أعلم. قلت: إحالتهم الجواب عليه فيما استبان أمره وتحقق، نوع من الأدب بين يدي من حق عليهم التأدب بين يديه. ثم إنهم لم ييأسوا من أن يكون في الأمر المسئول عنه علم لم يبلغ إليهم، فأحالوا العلم على علام [20 أ] الغيوب، ثم إلى المستأثر من البشر بنوع من ذلك العلم، وينبئك عن هذا المعنى قول بعضهم: حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. فإن قيل: في بعض الروايات في خطبة ذلك اليوم، أنه قال: (أي شهر هذا؟) قالوا: (ذو الحجة. وفي بعضها (شهر حرام). قلنا: كان - صلى الله عليه وسلم - يومئذ بين بشر كثير لا يضبطهم ديوان، ولا ينالهم حسبان، حتى أقام في كل صقع من يبلغ عنه ما أداه الصوت إليه، إلى من بعد عنه فلم يبلغه. والاختلاف الذي في هذه الألفاظ لم يوجد في رواية راو واحد، بل في رواية أناس شتى، فالذي يروى قولهم: (الله ورسوله أعلم) إنما يرويه ممن كسان يليه من أهل العلم والخشية، الذين اكرمهم الله بحسن الأدب، وألزمهم كلمة التقوى، وكانوا أحق بها وأهلها. والذي يروى مبادرتهم إلى ما سكت عنه الآخرون، فإنه يرويه على ما بلغه من أوفاض الناس، أو غمار الأعراب. وفيه: (أليس البلدة؟) وفي كتاب البخاري أيضاً: (أليست بالبلدة؟) قيل: إن البلدة اسم خاص بمكة، عظم الله حرمتها. ويؤيد ذلك هذا الحديث. ووجه تسميتها بالبلدة- وهي تقع على سائر البلدان - أنها البلدة الجامعة للخير، المستحقة أن تسمى بهذا الاسم؛ لتفوقها سائر مسميات أجناسها، تفوق الكعبة- في تسميتها بالبيت- سائر مسميات أجناسها، حتى كأنها هي المحل المستحق للإقامة بها، من قولهم: بلدن بالمكان، أي: أقام. وفيه: (فإن دماءكم وأموالكم واعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا .. الحديث) أعراضكم، أي: أنفسكم وأحسابكم، فإن العرض يقال للنفس. يقال: أكرمت عنه عرضي، أي: صنت عنه نفسي، والعرض: الحسب. يقال: فلان نقي العرض، أي: برئ أن يشتم أو يعاب، والعرض: رائحة الجسد وغيره، طيبة كانت أو خبيثة. يقال: فلان طيب العرض، ومنين العرض.

ومعنى الحديث: أن استباحة دم المسلم وماله وانتهاك حرمته في عرضه حرام عليكم، وإنما شبهها في الحرمة بهذه الأشياء، لأنهم كانوا لا يرون استباحة تلك الأشياء وانتهاك حرمتها بحال، وإن تعرضوا لشيء منها باستباحة تعرضوا له متسترين بالتأويل، وإن كان فاسداً. [1863] ومنه: حديث ابن عمر-رضي الله عنه- أنه كان يرمي جمرة الدنيا بسبع حصيات) الجمرة: واحد جمرات المناسك، وهي ثلاث جمرات، واحدة منها جمرة ذات العقبة، وهي مما يلي مكة. ولا يرمي يوم النحر إلا جمرة ذات العقبة، وبعد يوم النحر يرمي الثلاث. والسنة فيها ما ذكر في الحديث. و (الدنيا) هي التي بدأ بها ووصفها بالدنيا، لكونها أقرب غلى منازل النازلين عند مسجد الخيف، وهنالك كان مناخ النبي - صلى الله عليه وسلم - أو لأنها أقرب من الحل من غيرها. وإضافتها إلى الدنيا كإضافة المسجد إلى الجامع، ويحتمل أن يكون فيه حذف، أي جمرة البقعة الدنيا كقولك: حق اليقين، أي: حق الشيء اليقين. [1865] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس-رضي الله عنه-: (لولا أن تغلبوا؛ لنزلت حتى أضع الحبل على هذه ... (الحديث) أعلمهم أن الذي يكدحون فيه، من سقاية الحاج بمكان العمل] {[ما دمتم حرماً]}: صيد المحرمين دون غيرهم لأنهم هم المخاطبون؛ واستدل بقول عمر رضي

الله عنه لأبي هريرة، حين أفتى المستفتي في أكل المحرم لحم صيدٍ صيد له بغير إذنه؟ فأخبر عمر- رضي الله عنه- بمسألة الرجل، فقال: بما أفتيته؟ فقال: بأكله، فأقسم بالله أنه لو أفتاه بغير ذلك لعلاه بالدرة، وقال: لو لم يعلم عمر صحة ذلك من قبل التوقيف، لم يكن ليقسم على التعزير فيما خولف فيه من طريق الاجتهاد.

واستدل أيضاً-بحديث طلحة، وهو حديث صحيح: (أنه كان في سفر، فأهدى لهم طير وهم محرمون، فتورع بعضهم عن أكله، فاستيقظ طلحة، فأخبر به فوفق من أكله، وقال: أكلناه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: لو لم يعلم طلحة بقاء الحكم في ذلك على ما في الحديث، لم يشهد بالإصابة لمن أكله.

وأما ما ينافيه من حديث جابر الذي ذكر فقد قال الطحاوي: إن ثبت ولا أراه يثبت؛ لأن الراوي عن جابر هو المطلب بن عبد الله بن حنظب، ولم يعرف له سماع عن جابر، فتأويل قوله: (أو يصاد لكم) أي بأمركم.

وقال فى حديث الصعب: (لا نرى العمل به للاختلاف فيه وقد رواه بعضهم: حماراً وحشياً وبعضهم: (مذبوحا) وبعضهم: (من لحم الحمار)، وبعضهم: [حمار]. قلت: وكل هذه الاختلافات رواها مسلم فى كتابه، سوى (مذبوحاً) وروى مسلم- أيضاً -[حمار].

وقد وجدت الخطابي شرح هذا الحديث فى كتاب (الاعلام) قال: وفيه دليل على أن من ملك صيداً فأحرم، كان عليه إرساله. قلت: وذلك لانه رأى أن الحمار لم يكن مذبوحاً، وإنما كان يسلم له هذا التأويل لو سلم الحديث من الاختلافات التى ذكرناها، ولو سلم كان حجة لأبى حنيفة ومن ذهب مذهبه فى أن النبى - صلى الله عليه وسلم - إنما رد عليه لأنه لم ير أن يمسكه، ولا أن يذبحه، ولا أن يأمر به. [1895] ومنه: حديث عائشة - رضى الله عنها - عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: (خمس فواسق يقتلن فى الحل والحرم. . . الحديث). (خمس): منونة، ومنهم من يرويه على الإضافة، والصحيح هو الأول، ويدل عليه رواية البخارى فى إحدى طرقه: (خمس من الدواب كلهن فاسق) أى: كل واحدة وواحد منها فاسق، وأراد بالفسق: خبئهن وكثرة الضرر فيهن. وإنما خص هذه الخمس من الدواب المؤذية والضارية وذوات السموم، لما أطلعه الله عليه من مفاسدها، أو لأنها أقرب ضرراً إلى الإنسان، وأسرع فى الفساد [44/ب] وذلك لعسر تمكن الإنسان من دفعها والإحتراز عنها، فإن منها ما يطير فلا يدرك، ومنها ما يختبئ فى نفق من الأرض كالمنتهز للفرصة، فإذا مكن من الضرر تبادر إليه، وإذا أحس بطلب استكن، ومنها ما لا يمتنع بالكف والزجر، بل يصول صولة العدو المباسل، وقد يصيب المعرض عنه بالمكروه، كما يصيب المتعرض له، ثم إنه متمكن عن الهجوم على الإنسان [. . . . . .]. ولا كذلك السباع العادية، فإنها متنفرة عن العمرانات، وفى أماكنها يتخذ الإنسان منها حذره. (والغراب الأبقع) الذى فيه سواد وبياض. فإن قيل: خص فى هذا الحديث الأبقع، وفى حديث ابن عمر قال: (الغراب)، فما الوجه فيه؟ قلنا: يحتمل أنه يخص الأبقع بالذكر، لأنه أكثر [ضرراً]، وأسرع فساداً.

ويحتمل: أنه خصه، لأنه لم يجعل حكم سائرها كذلك، ومن الدليل على ذلك: أن كثيراً من العلم أستثنى عنها غراب الزرع؛ لأنه مأكول اللحم، فلا يتعرض إلا على وجه التذكية المبيحة. ويحتمل: أن المراد من الغراب فى حديث ابن عمر هو الأبقع، فلا يوفى البان حقه، لمعرفة المخاطبين، أو لم يضبطه بعض الرواة، فيرد المطلق إلى المقيد، ويستثنى من الغربان غراب الزرع؛ للمنفعة التى فيه وقلة الضرر. (ومن الحسان) [1897] حديث أبى هريرة رضى الله عنه، عن النبى - صلى الله عليه وسلم -: (الجراد من صيد البحر): يقال: إن الجراد يتولد من الحيتان كالديدان، فيدسرها البحر إلى الساحل؛ ولهذا الحديث جوز بعض العلماء أن يصيده المحرم، وأما من لم يجوز فيقول: إنه من صيد البر، لاستقراره فيه ولوجوده فى الأرض وتقوته بما تخرجه الأرض من نباتها وثمراتها. قلت: وحديث أبى هريرة هذا محتمل لمعنى أخر، سوى ما ذهبوا إليه، وهو أن نقول: أراد أنه من صيد البحر، لمشاركته صيد البحر فى حكم الأكل منه من غير تذكية على ما ورد به الحديث: (أحلت لنا ميتتان) وهذا الحديث مع احتماله التأويل فيه ضعف من جهة الراوى عن أبى هريرة - رضى الله عنه - وهو أبو المهزم يزيد بن سفيان البصرى، ضعفه شعبة وغيره من أئمة الجرح والتعديل، ونسأل الله التجاوز عن هذا التعرض.

باب الإحصار وفوت الحج

ومن باب الإحصار وفوت الحج: (من الصحاح) [1906] حديث عائشة- رضي الله عنها-: (دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ضباعة بنت الزبير، فقال: لعلك أردت الحج ... الحديث) ضباغة هذه هاشمية وأبوها الزبير هو ابن عبد المطلب بن هاشم عم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو أكبر ولد عبد المطلب، لو يدرك افسلام، وضباعة كانت تحت المقداد بن الأسود. وفيه: (والله ما أجدنى إلا وجعة فقال لها: (حجى وأشرطى ... الحديث): الإشراط في الحج مختلف فيه بين العلماء، وقد صح [45/أ] عن ابن عمر: أنه كان ينكر الاشتراط في الحج، ويقول: أليس حسبكم سنة نبيكم - صلى الله عليه وسلم -. استدل الذاهبون إلى أن الإحصار لا يكون إلا بالعدو بحديث ضباعة، وقالوا: لو كان المرض يبيح التحلل لم يحتج إلى الاشتراط.

ومن ذهب إلى أن الإحصار يكون بالمرض والعدو وغير ذلك من الموانع المحصرة: فإنه يرى لفظ التنزيل منبثا عن ذلك؛ قال الله تعالى {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى} يقال: أحضر فلان: إذا منعه أمر من خوف أو عجز أو مرض، قال الله تعالى: {للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله} قال ابن ميادة [من الطويل]: وما هجر ليلى أن تكون تباعدت ... عليك ولا أن أحصرتك شغول ثم إنهم وجدوا حديث الحجاج بن عمرو الأنصاري مبينًا للآية، في هذا الباب في الحسان. ويرون أن الاشتراط المذكور في حديث ضباعة إنما كان ليفيد تعجيل التحلل؛ لأنها لو لم تشترط، لتأخر تحللها إلى حين بلوغ الهدى محله؛ ذكر ذلك أبو نصر الأقطع. قلت: وهذا على أصل مذهب أبي حنيفة - رحمه الله - ومن نحا نحوه، فإنه يرى أن المحصر ليس له أن يحل حتى ينحر هديه بالحرم، إلا أن يشرط، فإذا أشرط فله أن يحل قبل نحر الهدى. وهذا تأويل مرضى موفق بين هذا الحديث، وبين حديث حجاج. (ومن الحسان) [1908] حديث الحجاج بن عمرو الأنصاري المازني رضي الله عنه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من كسر أو عرج [أو مرض] ... الحديث): قلت: (هذا الحديث أورده المعتبرون من أصحاب كتب الأحكام؛ كأس محمد الدارمي، وأبي داود السجستاني، وأبي عيسى الترمذي، وأبي عبد الرحمن النسائي، ولم نجد في شيء منهت: (أو مرض) فلعل المؤلف نقله مما سواها من الكتب، ولا أراه رمي الحديث بالضعف، إلا من قبيل هذه الزيادة، وإن لم يكن كلا القولين من [تزيد] بعض النساخ، وإلا فحديث حجاج - على ما نبينه - ليس بمستضعف، وقد ذكر الترمذي: أنه حديث حسن.

قلت: ولهذا الحديث تتمة من قول عكرمة، وهو أحد الرواة، عن الحجاج بن عمرو، وذلك قوله: (فذكرت ذلك لأبي هريرة وابن عباس، فقالا: صدق) وقد ذكر الشيخ أبو سليمان الخطابي عن بعضهم، ولم يسمه: أنه علل هذا الحديث بما ثبت عن ابن عباس أنه قال: (لا حصر إلا حصر العدو)، فكيف يصدق الحجاج، فيما رواه أن الكسر حصر، وقد استغربت عن الخطابي - مع تقدمه في العلم والفهم، وتمسكه ببرده الاستقصاء أني استحسن استيداع ذلك بطون القراطيس، وهو قول غير سديد، ثم تعجبت من إيراده على سبيل الإجمال؛ فلم يحل عنه عقدة الإشكال، وذلك من قوله: (فكيف يصدق الحجاج [فتوهم] بعض الناس أن المراد منه الحجاج بن عمرو، ومعاذ الإله أن [45/ ب] أن يرمي متدين بدين الإسلام أحدا من الصحابة بمثل هذا القول، فإنهم صدق إبرار وعدول مقانع، لاسيما فيما نقلوه من أمر الدين، ولو وهم أحدهم أو سها أو غلط، أو سمع ظاهر القول ولم يفهم باطنه فالأدب أن يحكي ذلك منه: ملتبسا بالتوفير والتبجيل حفظا لحرمة الصحبة. وإنما المراد الحجاج الصواف، وهو أحد رواة هذا الحديث ذكره الترمذي فأثني عليه؛ فقال: وحجاج ثقة حافظ عند أهل الحديث. ومما يدلنا على أن المعنى بما في كتاب الخطابي هذا الذي ذكرناه: أن الذي نقل قوله: أنكر تصديق ابن عباس الحجاج في حديثه؛ لما في حديث ابن عباس: (لا حصر إلا حصر العدو)، وهذا الذي أنكره ليس من حديث حجاج الأنصاري، وإنما هو من كلام الراوي عنه، وهو عكرمة، وفي بعض الروايات: عبد الله ابن رافع، وهو أصح الروايتين. ولما كان هذا الحديث في أكثر كتب الأحكام مرويا عن حجاج الصواف، عن يحيي بن أبي كثيرة، عن عكرمة: ظن هذا القائل أنه تفرد به، وليس الأمر على ما توجه، فقد رواه عن يحيي بن أبي كثير - أيضا - معمر ومعاوية بن سلام، وروايتها عن يحيي عن عكرمة عن عبد الله بن رافع، عن حجاج المازني، مازن الأنصار: نحوه. وقال البخاري: روايتها أصح. قلت: وفي روايتها عن عبد الله بن رافع: (فذكرت ذلك لأبي هريرة وابن عباس، فقالا: صدق). وأما في ما نقله عن ابن عباس: (لا حصر إلا حصر العدو): فقد نقل عنه في معنى [...] برواية الثقاة: ما يؤيد حديث الحجاج، روى الفريابي - عن سفيان الثوري عن الأعمش، عن إبراهيم، عن (ابن عباس) (فإن أحصرتم) قال: من حبس أو مرض، قال إبراهيم: فحدثت به سعيد بن جبير قال: هكذا

قال ابن عباس. ولو ثبت عنه -أيضا-: (لا حصر إلا حصر العدو): فالسبيل أن يأول، لئلا يخالف حديث خجاج عن النبي - صلى الله عليه وسلم -[وليوافق رواية] سعيد بن جبير، عنه. ورأيت التأويل الجامع بين ما ذكره أن نقول: (لا حصر إلا حصر العدو) بمثابة قول من قال: (لا هم إلا الدين؛ وذلك لأن الحصر بالعدو من أطم أسباب الحصر؛ لأنه متعلق بالعموم، وغيره متعلق بالخصوص والأفراد، كما كان من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، حين صد عن البيت، وأحصر بالعدو: أحصر هو وسائر من معه، [....] واحد من القوم، لم يكن كذلك، فهذا معني قوله: (لا حصر إلا حصر العدو). فإن قيل: فما وجه قوله: (فقد حل) المتمسك [] بهذا الحديث يرى أن المحصر ليس له أن يحل حتى يبلغ الهدى محله، وعنده أن محله، مكانه الذي يجب أن ينحر به، وهو الحرم، فكيف بقوله: (فقد حل) ولم يبلغ الهدى محله؟ قلنا: [65] قد قيل: عن وجهه: وقد حل له أن يعل من غير أن يصل إلى البيت، ومثله قولك للمرآة إذا انقضت عدتها: (قد حلت للرجل) يعني: أن يخطبها وبعقد عليها. ويجوز أن يكون بمعني المقاربة، أي: قرب ذلك وجاز، كقولك: من بلغ ذات عرق، فقد حج. [1909] ومنه: حديث عبد الرحمن بن يعمر الدئلي - رضى الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (الحج عرفة ..... الحديث): أي: معظم الحج وملاكه الوقوف بعرفه، وذلك مثل قولهم: المال الإبل، وإنما كان ذلك ملاكه وأصله؛ لأنه يفوت بفواته، ويفوت الوقوف لا إلى بدل. وفي بعض طرق هذا الحديث: (الحج عرفات)، وكلاهما اسم للموضع الذي يقف به الحاج، وكل ذلك خارج عن الحرم، وقد قال أهل اللغة: إن (عرفات) اسم على لفظ الجمع، ولا يجمع، وقال الفراء: لا واحد له بصحة، وقول الناس: نزلنا بعرفة شبيه بمولد، وليس بعربي محض، وهي معرفة، وإن كان جمعا؛ لأن الأماكن لا تزول [......] وكالشيء الواحد. قلت: ولا يلزمنا تقليده في قوله: (إنه شبيه بمولد) وقد ورد بلفظ الواحد في السنن ورودا لا مدفع له

لصحته، وكثرة استعماله، والمتكلم به إما النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو أفصح العرب، وإما المهاجرون من قريش، أو من نزل مكة منهم، وهم أصح العرب لغة، وأعرفهم ببقاع مكة، وأساميها، وأما غيرهم من الصحابة واللغة يومئذ صحيحة لم تشبها لغة مولد، ولو استقصينا في إيراد ما روى على لفظ (عرفة) وتعداده من النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة لأفضى ذلك بنا إلى الإسهاب، وقد استغنينا عنه، لكثرته واشتهاره، فعملنا أن هذه التسمية أشبهت (عانات) فيما يقال لها تارة: عانة، وتارة عانات. ويحتمل أنهم أطلقوا عليها عرفات؛ لأنها أماكن مختلفة من سهل وجبل وبطون وأودية، ليشمل الكل. وقوله سبحانه: (فإذا أفضتم من عرفات) ليعلم أن حكم الإفاضة يتعلق بسائر من حضر تلك الأماكن؛ ولهذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (وعرفه كلها موقف) وفيه: (ومن أدرك عرفة ليلة جمع ....): كذا أورده المؤلف، والحديث على ما نجده في كتب الحفاظ المتقدمين زمانا ومنزلة: (ومن أدرك جمعا ...): ومعناه - إن صح-: من أدرك جمعا قبل صلاة الصبح، فقد أدرك البيتوتة، بجمع، وهذا الحديث لم يروه غير عبد الرحمن بن يعمر، ول يرو هو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير هذا الحديث، ولم يروه عن عبد الرحمن غير بكر بن عطاء، وهو حديث معتبر، جم الفائدة عزيز عند أهل النقل، وكان وكيع إذا تحدث به، قال: هذا الحديث أم المناسك. وفيه: (فمن تعجل [46/ب] في يومين فلا إثم عليه ... الحديث): تعجل، أي: عجل في النقر، وتعجل يجئ لازما، ويجئ متعديا، فلو قدر متعديا، فمعناه: عجل النفر وإجراؤه على اللازم أمثل وأقوم؛ لمطابقة (ومن تأخر). فإن قيل: فما وجه التخيير بين الأمرين وأحدهما أفضل من الآخر، وما وجه التسوية بين المتعجل والمتأخر في نفي الحرج والمتأخر أخذ بالأسد والأفضل؟ قلنا: قد ذكر أهل التفسير أن أهل الجاهلية كانوا فئتين: فإحداهما ترى المتعجل آثما، والأخرى ترى المتأخر آثما، فورد التنزيل بنفي الحرج عنهما، وهذا قول مطابق لسياق الآية لو كان له في أسباب النزول آصل ثابت. والظاهر: أن الإعلام الذي جاءهم من قبل الله تعالى إنما جاء ليعلموا أن الأمر موسع عليهم، فلهم أن يأخذوا من الأمرين بأيهما شاءوا، ونظيره التخيير بين الصوم والإفطار، وإن كان الصوم أفضل، وأما وجه التسوية بين المتعجل والمتأخر في نفي الحرج، فهو أن من الرخص ما يقع من العامل موقع العزيمة، ويكون الفضل في إتيانه دون إتيان ما يخالفه، وذلك مثل قصر الصلاة للمسافر.

باب حرم مكة

فمنهم من يراه عزيمة، ولا شك أنه في الأصل رخصة، والذي يراه - أيضا رخصة: يرى إتيان هذه الرخصة أفضل. ولما كان التعجيل في يومين رخصة، والرخص محتملة للمعاني التي ذكرناها - وقع قوله: {فلا إثم عليه} موقع البيان في إتيان الرخصة، وقوله: {ومن تأخر} موقع البيان لترك الرخصة، وإذا كانت الرخصة من هذا القبيل الذي لم يتبين لنا فضله على ما يخالفه - فلا شك أن الإتيان بالأتم والأكمل أولى وأفضل، والله أعلم. ومن باب حرم مكة (من الصحاح) [1910] حديث ابن عباس - رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة: (لا هجرة، ولكن جهاد ونية .... الحديث): كان الهجرة إلى المدينة بعد أن هاجر إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرضا على الؤمن المستطيع؛ ليكون في سعة من أمر دينة؛ فلا يمنعه عنه مانع، ولينصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إعلاء كلمة الله تعالى، وإظهار دينه، فينحاز إلى حزب الحق وأنصار دعوته، ويفترق فريق الباطل، فلا يكثر سوادهم، إلى غير ذلك من المعاني الموجبة لكمال الدين، فلما فتح مكة، وأظهره الله على الدين كله، أعلمهم بأن الهجرة المفروقة قد انقطعت، وأن السابقة بالهجرة قد انتهت وأن ليس لأحد بعد [47 /ـ أ] أن ينال فضيلة الهجرة إليه، ولا أن ينازع المهاجرين في مراتبهم وحقوقهم. وقوله: (لا هجرة): أي: لم تبق هجرة، ولكن يبقي جهاد ونية، فينالون بذلك الأجرة والفضل والغنيمة. وفيه تنبيه على أنهم إذا حرصوا على الجهاد، وأحسنوا النية - أدركوا الكثير مما فاتهم بفوات الهجرة. وفي قوله: (لا هجرة): تنبيه على الرخصة في ترك الهجرة، يعني: إلى المدينة لنصرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فأما الهجرة الهجرة التي تكون من المسلم لصلاح دينه، فإنها باقية يد الدهر. وفيه: (وإذا استنفرتم فانفروا): نفر القوم في الأمر نفورا: إذا تقدموا له، واجتمعوا، وهم النفير، وفي الحديث: (فنفرت لهم هذيل) أي: خرجت لقتالهم، والمعني: إذا سئلتم النفور وكلفتموه، فأجيبوا إليه.

ووجه المناسبة بين هذا الفصل وبين الفصل الأول: أنه لم يأمن عليهم أن يتوهموا أن لهم أن يثبطوا في الخروج إلى الجهاد، كما أن لهم أن يستقروا حيث شاءوا من بلادهم، فلا يهاجروا، فنبأهم أن أمر الجهاد خلاف أمر الهجرة. [1911] وفيه: (إن هذا البلد حرمه الله تعالى يوم خلق السموات والأرض) أي: لم يكن تحريمه من الناس باجتهاد شرعي، ولا بمقاية، ولا بمواضعه، بل كان من قبل الله بأمر سماوى). فإن قيل: كيف التوفيق بين قوله هذا، وبين قوله: (اللهم إني أحرم المدينة كما حرم إبراهيم مكة)؟ قلنا: يحتمل: أنه أضاف تحريم مكة إلى إبراهيم؛ لأن الله تعلى بين تحريمها للناس على لسانه، ويكون معني الدعاء: اللهم جرمها وبين تحريمها على لساني، كما بينت تحريم مكة على لسان إبراهيم. ويحتمل: أن التحريم المضاف إلى إبراهيم ما كان من دعائه عند بناء البيت، مثل قوله: {وإذ قال إبراهيم رب أجعل هذا البلد آمنا} لا الذى كان يوم خلق الله السموات والأرض، ويكون هذا النوع من التحريم زيادة على ما كان في أول الأمر، وذلك مثل تحريم الحرمين أن يدخلهما الدجال، وتحريم القتال فيهما، ولم يحمل التحريم الذي كان منهما على تحريم الصيد وتخويفه، وإثارته ما يشبهه من التحريم؛ لأن ذلك مختلف فيه بين أهل العلم: هل حكم المدينة في ذلك كحكم مكة؟ وإن كان الجمهور على التفريق بينهما في ذلك. والذي ذكرناه من دخول الدجال، وتحريم القتال، والدعاء على من خوف أهلها لا اختلاف فيه. وفيه: (ولا يلتقط لقطتها إلا من عرفها): أى: لا يلتقطها إلا من يريد [47/ب] تعريفها فحسب؛ يدل عليه قوله في حديث آخر: (ولا يلتقط ساقطتها إلا منشد) أي: ليس للملتقط أن يتصدق بها، أو يستنفقها، كسائر اللقطات، وفي ذلك تعظيم أمر الحرم، ولم يفرق أكثر العلماء بين لقطة الحرم ولقطة غيرها من الأماكن، ويعضد هذا الحديث وما ورد بمعناه قول من فرق بينهما؛ لأن الكلام ورد مورد بيان الفضائل بل المختصة بها؛ كتحريم صيدها، وقطع

شجرها، وحصد خلالها، ثم إن الخبر الخاص إنما ياق لعلم خاص، وإذا سوى بين لقطة الحرم، ولقطة غيره من البلاد، وجدنا ذكر اللقطة في هذا الحديث خاليا عن الفائدة. وفيه: (ولا يختلي خلاها): الخلا - قصورا النبت الرقيق ما دام رطبا، فإذا يبس فهو الحشيس، والحشيش - أيضا - لا يحل قطعه، إذ لا فرق بين رطبه ويابسه، دل عليه من هذا الحديث قوله: (ولا يعضد شوكه) أي: لا يقطع، وذلك أبلغ في التحريم من قطع الشجر وغيره، لأن الشوك لا منفعة للنازلين في الحرم في إبقائه بل يستضرون، ولا يسرح في منابته النظر؛ بخلاف الخلاء [48/أ] زينة الأرض، ومن المحدثين من روى (الخلاء) ممدودا، وهو خطأ. [1913] ومنه: حديث أنس - رضي الله عنه -: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة يوم الفتح، وعلى رأسه المغفر .... الحديث): قال الأصمعي: المغفر: زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس، يلبس تحت القلنسوة. وفيه: (فلما نزعه جاءه رجل، فقال: إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة): الرجل: هو فضلة بن عبيد أبو برزة الأسلمى، وهو الذي قتل ابن خطل، واسم ابن خطل: عبد العزيز، وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أن ذلك لم يحل لأحد قبله، ولا يحل لأحد بعده، ولم تحل له إلا ساعة من نهار)، وكان ابن خطل قد ارتد بعد أن أظهر الإسلام، وقتل نفساً.

[1917] ومنه: حديث ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: كأني به أسود أفحج .... الحديث): (كأني به) في معنى: أبصر به على هذه الصفة، يريد به: مخرب الكعبة من الحبشة، وهو الذي قال فيه: (يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة) فأراد به حموشة ساقية، وأسود أفحج: حالان من خبر (كأن) و (كأن) وإن لم يكن بفعل، فإن يشبه به، وإذا قيد منصوبه أو مرفوعة بالحال، كان مقيدا باعتبار معناه الذي أشبه الفعل. . وافحج: بتقديم الحاء على الجيم، وهو الذي يتدانى صدور قدميه، ويتباعد عقباه، ويتفحج ساقاه، ومعناه: ينفرج، والفجج - بجيمين: فتح ما بني الرجلين وهو أقبح من الفحج. و (يقلعها): في معنى الحال، والضمير: للكعبة، وفي الحديث، اختصار اختصره الراوي، لعلم السامعين به. [1919] ومنه: حديث عبد الله بن عدى بن الحمر السقرشي الزهري - رضى الله عنه: (رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقفا على الحزورة) وفي غير هذه الرواية: (وهو واقف على راحلته بالحزورة): ومن الوراة من يشدد الواو، قال الدارقطني: التخفيف هو الصواب، والحزورة: موضع كان به سوق مكة، ويقال: إنما قيل لها: حزورة، لمكان تل صغير هنالك، ووجدت في (مجمع الأمثال) لأبي الفضل الميداني: أن وكسيع بن سلمة بن زهير بن إياد - وكان ولي أمر البيت بعد جرهم - بني صرحا بأسفل.

باب حرم المدينة

مكة، وجعل فيه سلما يرقي فيه، ويزعم أنه يناجي الله فوق الصرح، وكان علماء العرب يرون أنه صديق من الصديقين، وكان قد جعل في صرحه ذلك أمه يقال لها: حزورة؛ وبها سميت: حزورة مكة، والله أعلم. ومن باب حرم المدينة (من الصحاح) [1920] حديث على - رضي الله عنه -[48/ب] قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (المدينة حرام ما بين عبر إلى ثورة .... الحديث)، وفي بعض طرقه: (ما بين عائر إلى كذا) وفي بعضها: (إلى ثور). قال مصعب بن الزبير: لا يعرف بالمدينة عير ولا ثور، وقد ذهب بعض أهل العلم في تأويله: إلى أنه حرم من المدينة قدر ما بين عير وثور بمكة، قال: بمكة جبل يقال له: عير عدوى. قلت: وثور، يقال له: ثور أطحل، وكان قديما يعرف بأطحل، فكان ثور بن عبد مناة بن أد بن طالحة ينزله، فاشتهر به، فقيل بجبل ثور، واشتهر به، وغلب عليه ذلك حتى قيل للجبل: ثور، ثم أضيف إلى أطحل، لا ختلاف الاسمين. ويحتمل أنه أراد بها الحرتين؛ للحديث الصحيح أنه قال: (حرم ما بين لابتي المدينة على لساني) فشبه إحدى الحرتين بعير، لتوسطة ونشوزه، والأخرى بثور؛ لامتناعه تشيبها بثور الوحش، أو لاجتماعه، أو أراد بهما: مأزمي المدينة، فشبهها بعير وثور، وفي الحديث: (حرام ما بين مأزميها). وإنما تجوزنا فيه سبيل الاحتمال؛ لما لم نجد بالمدينة جبلا يعرف بواحد من هذين الاسمين؛ ولذلك ضرب بعض الرواة عليهما، وترك بعضهم موضعهما بياضا؛ ليبين الوهم فيه. وفيه: (فمن أحدث فيها حدثا، أو آوي محدثا)

أراد بالحدث البدعة، وذلك ما لم تجر به سنة، ولم يتقدم به عمل، وبالمحدث: المبتدع، وروي بعضهم: (المحدث): بفتح الدال، وليس بشيء؛ لأنه بكسر الدال هي الرواية الصحيحة، ثم إن فيه من طريق المعني وهنا، وهو أن اللفظين حينئذ يرجعان إلى شيء واحد؛ فإن إحداث البدعة وإيواءها سواء، والإيواء قلما يستعمل في الإحداث، وغنما المشهور استعماله في الأعيان التي تنضم إلى المأوي. وفيه: (ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم): الذمام والذمة: ما يذم الرجل على إضاعته من عقد، والمعني: أن المسلم إذا أعطي ذمته لمن يخالفه في الدين لم يكن لأحد من المسلمين أن ينقض العقد الذي عقد به ذلك في استئمانه، وإن كان ذلك المسلم من أدنى المسلمين منزلة. وقوله: (ذمة المسلمين واحدة) أي: أنها كالشيء الواحد لا يختلف باختلاف المراتب، ولا يجوز نقضها لتفرد العاقد بها، وكأن الذي ينقض ذمة أخيه كالذي ينقض ذمة أخيه كالذي ينقض ذمة نفسه. فقوله: (يسعى بها) أي: يتولاها ويليها ويذهب بها، والأصل في السعي: المشي السريع، ويستعمل للجد في الأمر؛ فمن خفر ملما، أي نقض عهده، وحقيقته: أزال خفرته، والخفرة هي العهد والأمان. وفيه: (لا يقبل منه صرف ولا عدل): قيل: فريضة ولا نافلة [49 / أ] وقيل: توبة ولا فدية، وقد ذكرناه فيما قبل. وفيه: (ومن والي قوما غير مواليه): قال الطحاوى: إنما أراد به ولاء الموالاة؛ لا ولاء العتق. قلت: هذا حسن، غير أن نسق الكلام في قوله: (من أدعى إلى غير أبيه، أو تولى غير مواليه) يدل على أنه أراد به ولاء العتق، فإن له لحمة كلحمة النسب، وفيه, إبطال حق مواليه، وهو بالانقطاع عنهم، والانتماء إلى غيرهم، كالدعى الذي تبرأ عمن هو له، ويلحق نفسه بمن سواه، وفي ذلك قطع الرحم، وهتك الحرمات، وبه استوجب الدعاء عليه بالطرد والإبعاد. فإن قيل: فإذا كان المعني على ما أدعيت، فلم شرط فيه الإذن، وهو حرام، ووجود الشرط وعدمه في ذلك سواء؟ قلنا: بني الأمر في ذلك على الغالب، وهو أنه إذا استأذن مواليه، ل يأذنوا له وعلى هذا: فذكر الإذن فيه إرشاد إلى السبب المانع عنه، ويرع معني ذلك إلى التوكيد؛ لتحريه، والتنبيه على بطلانه، وأنه لا يملك ذلك، وليس له أن يتار شيئا منه.

[1921] ومنه: حديث سعد بن [أبي] وقاص - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إني أحرم ماب ين لابتي المدينة: أن يقطع عضاهها ..... الحديث): اللوبة والسلابة: الحرة، و (لابتي المدينة): حرتان تكتنفانها، والعضاه: كل شجر يعظم وله شوك، واحد عضاهة. وعضهة بحذف الهاء الأصلية، كما تحذف من الشفة، سئل مالك رحمة الله - عن النهي الذي ورد في قطع سدر المدينة؟ وقال: إنما نهي عنها؛ لئلا تتوحش ويبقى بها شجرها، فيستأنس بذلك من هاجر إليها، ويستظل بها. فإن قيل: كان سعد وزيد بن ثابت يريان في ذلك الجزاء. قلنا: الوجه فيه أنه نسخ، فلم يشعرا به، وقد كان عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - يرى التطبيق في الصلاة حيث خفي عليه نس ذلك، وإنما ذهب إلى النسخ من ذهب للأحاديث التي تدل على خلاف ذلك؛ ولهذا لم يأخذ بحديثهما أحد من فقهاء الأمصار. وقد بسطنا القول في بيان تلك الأحاديث في (كتبا المناسك) في بيان فضل مكة على سائر البقاع، فن أحب الوقوف عليه، فليراجع ذلك. [1922] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - (ولا يثبت أحد على لاوائها وجهدها إلا كنت له شفيعا أو شهيدا). اللأواء: الشدة، واللأي: الشدة في العيش [49/ب] والجهد، بفتح الجيم: المشقة، وقد ورد اللأواء في كلاهم بمعني القحط، وعليه يفسر الحديث؛ لما في أكثر الروايات: (على لأوائها وشدتها). والتعاقب في هذين اللفظين يدل على اختلاف في المراد، فيحمل اللأواء على ضيق المعيشة، والجهد على ما يصيبهم من الحر والجوع، وعلى ما يصيب المهاجرين فيها من وحشة والغربة وغير ذلك. وأما قوله: (كنت له شفيعا أو شهيدا): فالقول الأقوم فيه: أن يقال: (أو) للتقسيم لا على الشك من بعض الرواة؛ لأن هذا الحديث روى عن سعد، وابن عمر، وأبي أيوب، وزيد بن ثابت، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وسفيان بن أبي زهير الشنوى، وسبيعة بنت الحارث الأسلمية، رضي الله عنهم، وأكثر

الروايات عنهم على هذا السياق. ويدل ذلك على أن الحديث خرج كذلك من معدن الرسالة؛ لتواطؤ الرواة عليه؛ فالوجه فيه التقسيم؛ لأن الشك منفي عنه، لاسيما في أخبار الديانات، وأنباء الغيب. والمراد منه على هذا: إلا كنت شفيعا لبعضهم، شهيدا لبعضه، وقد قال في شهداء أحد: (أما هؤلاء فأنا عليهم شهيد)؛ فيحتل: أن يكون شهيدا لمن مات في زمانه، شفيعا لمن مات بعده، ويحتمل: أنه أراد أنه شهيد لمن اتقي وأحسن، شفيع لمن أساء وعصى. فإن قيل: أو ليس يشهد لأمته؟ قلنا: يشهد على سائرهم بالبلاغ، ولا يشهد إلا لمن وفي لله بعهده، قال الله تعالى: {وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} فالآية تخبر عمن يشهد عليهم، والحديث يخبر عمن شهد لهم. وإن ذهب ذاهب: إلى أن (أو) بمعني الواو؛؛ لورود الرواية - أيضا - بالواو، فالتأويل أن نقول: إنه إشارة إلى اختصاص أهل المدينة بالجمع بين الفضيلتين: الشهادة والشفاعة. [1923] ومنه: حديث أبي هريرة- رضي الله عنه: كان الناس إذا رأوا أول الثمرة، جاءوا به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا أخذه قال ... الحديث): إنما كانوا يؤثرونه بذلك على أنفسهم؛ حبا له وكرامة لوجهة المكرم، وطلبا للبركة مما جدد الله عليهم من نعمته، ويرونه أولى الناس بما سيق إليهم من رزق ربهم، وأما إعطاؤه - صلى الله عليه وسلم - أصغر وليد يراه: فإنه من تمام الشكر، والالتفات إلى وضع الشيء موضعه حيث بدا في أولية ما سيق إليه أول من هو أقرب إلى الضعف، وأبعد من الذنب، ثم إنه رأي أن يراعي المناسبة الواقعة بين الولدان وبين الباكورة، وذلك حدثان [70] عهدهما بالإيداع فيخص به أصغر وليد يراه، تحقيقا لما أشير إليه من المعاني. [1924] ومنه: حديث أبي سعيد الخدري رضى الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: (اللهم، إن إبراهيم حرم مكة، فجعلها حرما ... الحديث): سمي حرم مكة حرما؛ لتحريم الله تعالى فيه كثيرا مما ليس محرما في غيره، والحرم قد يكون الحرام،

ونظيره: زمن وزمان، وأما إضافة: (جعل مكة حرما) إلى إبراهيم عليه السلام - وقد قال الله تعالى: {أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا}: فهي من باب إضافة الشيء إلى سببه؛ وذلك لأن خليل الله هو الذي سأل الله ذلك؛ كما في قوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم رب أجعل هذا البلد آمنا) أو لأنه بين للناس ذلك، أو لأنه هو الذي ميز حدود الحرم بالعلامات فنصب الأعلام عليها من الجهات، وقد ورد عن ابن عباس رضى الله عنه (أن إبراهيم نصب أنصاب الحرم يريه جبريل، عليهما السلام). وذهب كثير من العلماء: أنه أراد بذلك تحريم التعظيم دون ما عداه من الأحكام المتعلقة بالحرم. وقد أشرنا فيما تقدم إلى أن التحريم الذي ذكر في المدينة ليس من سائر الوجوه؛ بل من وجه دون وجه، وفي بعض دون بعض، ومن الدليل عليه قوله في هذا الحديث: (لا يخبط شجرها إلا لعلف)، وأشجار حرم مكة لا يجوز خبطها بحال؛ وهذا من جملة الفرق بين التحريمين. فإن قيل: وفي هذا الحديث: (لا ينفر صيدها) وفي حديث جابر: (ولا يصاد صيدها)؟ قلنا: السبيل أن يحمل النهي على ما قاله مالك وغيره من العلماء: أنه أحب أن يكون المدينة مأهولة مستأنسا فإن صيدها وإن رأي تحريمه نفر يسير من الصحابة - فإن الجمهور منهم لم ينكروا اصطياد الطيور بالمدينة، ولم يبلغنا عن أحد من الصحابة: أنه رأي الجزاء في صيد المدينة، ولم يذهب - أيضا - إلى ذلك أحد من فقهاء الأمصار الذين يدور عليهم علم الفتوى في بلاد الإسلام. وفيه: (وإني حرمت المدينة حراما ما بين مأزميها): حراما: نصب على المصدر، والتقدير: أني حرمت المدينة، فحرمت حراما، ومثله قوله سبحانه: {والله أنبتكم من الأرض نباتا} و (ما بين مأوميها): يكون بدلا عنها. ويحتمل أن يكون (حراما) مفعول فعل محذوف، تقديره: وجعلت حراما ما بين مأزوميها، و (ما بين مأزميها) مفعولا ثانيا. والمأزم: كل طريق بين جبلين، ومنه يقال للموضوع الذي بين عرفة والمشعر الحرام: المأزمان؛ وفي حديث أبي هريرة رضى الله عنه: (وجعل - يعني: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أثني عشر ميلا حول المدينة حمي). وقوله: (حمى): يؤيد ما قررنا) من قول العلماء في تحريم صيدها، وقطع شجرها؛ لأن ما كان على

سبيل (الحمى) لا يقع المنع عنه على التأبيد، بل يمنع منه تارة، ويرخص فيه أخرى، والحمي: الماء والكلأ يحمي فيمنع. والحديث أخرجه مسلم في كتابه وفيه: (أن لا يهراق فيها دم): هذا القول وقع موقع التفسير لما حرم؛ كأنه قال: وذلك بأن لا يهراق بها دم وليس من المفعولية في شيء؛ إذ لو كان متعلقا بقوله: (إني حرمت)، لكان من حقه ان يقول: أن يهراق بها دم، والمراد من النهي عن إراقه الدم ههنا، ـ النهي عن التقال فيها: فإنه يفضى إلى إراقة الدم. وإنما ذهبت غلى السبب المقضى إليه دون ظاهر القول؛ لأن إراقة الدم الحرام ممنوع عنه على الإطلاق، والمباح منه لم نجد فيه اختلافا نعتد به عند العلماء، إلا في حرم مكة. [1925] ومنه: حديث سعد رضى الله عنه: (أنه وجد عبدا يقطع شجرا أو يخبطه، فسلبه) أي: أخذ ثيابه. والسلب- بالتحريك-: المسلوب، والوجه في ذلك النسخ على ما ذكرنا. وقد كانت العقوبات في أول الإسلام جارية في الأموال، وقد ذكر بنظائره في تفسير قوله - صلى الله عليه وسلم -: (فله أن يعقبهم بمثل قراه). أى: أعطانيه نقلا، والنفل: الغتيمة،؛ تقول منه: نفلته نفيلا، أي: أعطيته نفلا. وقوله عائشة رضى الله عنها في حديثها: (وعك أبو بكر وبلال): الوعك: مغث الحمي، وهو ممارستها المحموم حتى تصرعه، يقال: وعكته الحمى، فهو موعوك، وأوعكت الكلاب الصيد: إذا مرغته في التراب. [1927] ومنه: حديث ابن عمر في رؤيا النبي حتى نزلت مهيعة .... الحديث). قوله: (فى المدينة) أي: في ِشأن المدينة، (ثأثرة الرأس) أي: مستنشرة شعر الرأس مشعاثة، وقد انقضي القول فيه.

و (مهيعة): هي الجحفة، و (أرض مهيعة): مبسوطة، وبها كانت [72] تعرف، فلما ذهب السيل بأهلها، سميت جحفة، وكانت - بعد ذلك - دارا ليهود يحلونها، ولهذا دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بنقل وباء المدينة إليها، فقال: (وأنقل حماها إلى الجحفة). فلما رأي تلك الرؤيا عرف في تأويلها: أن الله تعالى قد استجاب دعوته؛ وذلك قوله: (فستأولتها أن وباء المدينة نقل إلى المهيعة)، وتأولته وأولته تأويلا: بمعني، وهو أن يفسر الشيء، بما يسئول إليه، ومنه قول الأعشي: على أنها كانت تأول حبها ... تأول ربعى السقاب فأصحبا والوباء: مرض عام، وأرض موبوءة: إذا كثر مرضها، والوباء يمد ويقصر، وكانت الجحفة - بعد رؤياه هذه- أكثر أرض الله وباء. ومنها غدير خم أوخم البلاد ماء وهواء وقد ذكر عن الأصمعي؛ أنه قال: لم يولد بغدير خم أحد فعاش إلى أن يحتلم، إلا أن يتحول منها. قلت: و (الميم من (خم) مشددة. [1928] ومنه: حديث سفيان بن أبي زهير الشتوي، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (تفتح اليمن، فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعملون): (يبسون) أي: يسوقون أخموالهم، من البس، وهو سوق لين، يقال للناقة إذا زجرت للسوق: بس بس، وبسست الناقة وأيستها: لغتان وعلى كلتيها روى الحديث. والمراد منه: أن قوما ممن يشهد تلك الفتوح إذا رأوا إرفاق تلك البلاد، وما يدر عليهم من الارزاق - دعتهم رغدة العيش، ومال يهم حبة البلهنية إلى استيطان تلك البلاد، فيتركون المدينة، والمدينة خير لهم؛ لانها حرم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومنزل الوحى والبركات، ثم إن القوم كانوا يخرجون عنها، وبها أهلهم وعيالهم في ذات الله، وإعلاء كلمته، ويخاطرون بأنفسهم في حفظ الثغور لوجه الله، والذب عن حوزة الدين، فإذا

تركوا المدينة نظرا إلى الحظوظ العاجلة، تداخل الخلل والوهن في نياتهم، والتبست النقيصة بأعمالهم، وصار ذبهم في تلك البلاد عن أنفسهم وأهاليهم، وسعيهم في حيازة ما يقوم به أودهم بعد أن كان ذلك كله لله، عز وجل. وقوله: (لو كانوا يعملون): أي: لو كانوا يعلمون أن المدينة خير لهم مما اختاروا عليها من البلاد. فإن قيل: فماذا تقول فيمن تحمل بأهله عنها، وهو يعلم أن المدينة خير له، وقلما يجهل ذلك مؤمن، لاسيما وقد نص عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو ليس قد علم، ولم تكن المدينة خيرا له؟ قلنا: إنما ينفي العلم عن هذا الذى ذكرت، وينزل منزلة من لا يعلم؛ لأنه رغب عنها مع علمه بأنها خير له [73] وطنا ومدفنا في محياه ومماته، والعالم إذا ترك العمل بما علم، ولم يتنفع بعلمه - صار منسلخا عنه؛ فكان كالذى لا يعلم. [1929] ومنه: حديث أبي هريرة رضى الله عنه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أمرت بقرية تأكل القرى، يقولون يثرب ... الحديث). (أمرت بقرية) أي: بنزول، وباستيطان قرية ونحو ذلك. (تأكل القرى): تقول العرب: أكلنا بني فلان، أي: ظهرنا عليهم. وأصل الأكل للشيء: الإفناء له، ثم استعير لانستاح البلاد، وسلب الأموال؛ فكأنه قال: يأكل أهل القرى، وأضاف الأكل إليها؛ لأن أموال تلك البلاد تجمع إليها فتفتي فيها. ويثرب: من أسماء المدينة، قيل: هو اسم أرضها؛ سميت باسم رجل من العمالقة كان أول من نزلها، وبه كانت تسمي قبل الإسلام، فلما جاء الله بالإسلام، غير النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الاسم؛ فقال: (بل هي طابة)، وكأنه كرة هذا الاسم؛ لما يئول إليه من التثريب أو لغير ذلك. وقوله: (وهي المدينة): فيه - أيضا-: تنبيه على أن الاسم المقول متروك جعلت المدينة مكانه. يحتمل: أن يكون قوله: (وهي المدينة) على وجه التفخيم؛ كقول الشاعر: ......................... هم القوم كل القوم يا أم خالد

أي: هي المستحقة بأن تتخذ دار إقامة؛ فتسمي بذلك من قولهم: مدن بالمكان: إذا أقام به، وقد أشرنا إلى مثل هذا المعني في تسمية مكة بـ (البلد). [1931]: ومنه: حديث جابر بن سمره رضى الله عنه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (المدينة كالكير، تنفى خبثها، وتنصع طيبها. الكير: كير الحداد -: هو البني من الطين، ويكون زقة أيضا، وقيل: الكير الزق. والكور: ما بني من الطين، وأصل الكلمة ممن الكور الذي هو الزيادة، ضموا الكاف على الأصل في أحدهما، وكسروها في الآخر؛ للفرق بين البناءين، والراد مما في الحديث: هو ما بني من الطين، وإن كانت اللغة فيهما على ما قيل؛ فالياء فيه معدولة عن الواو. و (خبثها) يروى مفتوحة الخاء والباء، ويروى مضمومة الخاء ساكنة الباء. وعلى الأولى: يعني به: ما تبرزه النار من الجواهر المعدنية التي تصلح للطبع، فتخلصها بما يميزه عنها من ذلك. وعلى الثانية: يعني به الشيء الخبيث. والمعتد به: هو الأول؛ لأنه أكثر وأشبه بالصواب؛ لمناسبته الكير، ولمساوقته المعني المراد منه. وقرن الخبث بالضمير على لفظ التأنيث؛ لأنه نزل المدينة منزلة الكير، فأعاد الضمير إليها. واختلفوا في قوله: (ينصع طيبها) اختلافا كثيرا، وأري أسد الروايات لفظا، وأقومها معني: (وينصع) بضم الياء، وتخفيف النون؛ من قولهم [74]: نصع لونه نصوعا: إذا أشتد بياضه وخلص، وأنصعه غير: على اللغة القياسية، وفي معناه: ينصع بتشديد الصاد، والرواية بالتشديد أكثر. و (طيبها) بتشديد الياء، وفتح الباء، وقد ذكر الحافظ أبو موسى، عن صاحب (المجمع): أن صوابه: (ينصع) من الثلاثي، و (طيبها) بكسر الطاء وضم الباء، أي: يظهر طيبها، أو (ينصع) بضم حرف الاستقبال، وفتح الباء، والطاء مكسورة أيضا. قلت: وكسر الطاء غير سديد؛ لأن فتح الطاء وتشديد الياء، هي الرواية الصحيحة فيه، وذلك أقوم معني؛ لأنه ذكر في مقابلة (الخبيث) و (ينصع) على صيغة الثلاثي: أيضا غير سديد لأنه لازم، وقد جيء

به - ههنا - مطاوعا لقوله: (ينفي)، وهو متعد، وإذا كان من التنصيع أو الإنصاع، حصل به أتساق الكلام، وكذلك (طيبها) بتشديد الياء وفتح الباء، فإن كسر الطاء منه - مع مخالفته رواية الثقات - ناب عن الأصل المشبه به، أية مناسبة بين الكير والطيب. وهذا القول صدر عنه على وجه التمثيل، فعجل مثل المدينة وما يصيب ساكنيه من الجهد والبلاء كمثل الكير وما يوقد عليه في النار فيميز به الخبيث من الطيب، فيذهب الخبيث، ويبقي الطيب فيه أزكي ما كان وأخلص، وكذلك المدينة تنفي شرارها بالحمي والوصب والجوع، وتطهر خيارهم وتزكيهم. وقد ذكر الزمخشري أن صوابه: (ينضع) بالضاد المعجمة من (أنضعت الشيء) أي: جعلته نضاعة، وهذا القول ساقط من طريق الرواية، لين من حيث المعني. [1933]: ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (ليس نقب من أنقابها): النقب: الطريق في الجبل. [1935]: ومنه: حديث أنس رضى الله عنه: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طلع له أحد، فقال: هذا جبل يحبنا ونحبه). الأشبه أن تكون إضافة الحب إلى الجبل مجازا، والمراد منه: حصول الكرامة والشرف للجبل بمجاورة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن من دأب الناس حب ما فيه كرامه وشرف، أو المراد منه: أنه يوافقهم في الماء

والهواء موافقة المحب لمحبوبة، فلا يجتوونه ولا يستوخمونه. ولعل أراد بالجبل: أرض المدينة كلها، وإنما خص الجبل بالذكر؛ لأنه أول ما يبدو ن أعلامها، ويحتمل أنه أراد بحب الجبل لهم: حب أهل المدينة. (ومن الحسان) [1937]: حديث الزبير بن العوام، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أن صيد وج وعضاهه حرم محرم لله). قال المؤلف: (ووج: ذكروا أنسها من ناحية الطائف)، وأنه نقله عن كتاب الخطابي؛ وعلى هذا [75] وجدناه في (كتاب المعالم) إلا أن فيه: (أنه) من ناحية الطائف، وفي (المصابيح): (أنها) والصواب (أنه)، وقد وجدنا فيما نعتمد عليه من بيان أسماء الأمكنة: أن وجاء بلد الطائف؛ قال الشاعر: فإن تسق من أعناب وج فإننا ... لنا العين تجرى من [كسيس] ومن خمر وفي الحديث: (آخر وطأة وطئها الله بوج) وهى غزوة الطائف. و (حرم) أي: حرام، وهما لغتان كـ (حل وحلال)، وبه قرأ عاصم في إحدى الروايتين عنه، وحمزة

والكسائي: {وحرام على قرية أهلكناها}، و (محرم): جاء به على وجه التأكيد لقوله: (حرم). وقوله: (لله) متعلق بالتحريم، أي: حرم ذلك لله. قد ذهب أكثر العلماء في تأويل هذا الحديث: إلى أنه حرمه على سبيل الحمي، أو حرمه في وقت معلوم، ثم نسخ. قلت: والذي ذهبوا إليه في تأويله هو الذي نعول عليه في أمثال هذا الحديث، ولا نرى عنه معدلا؛ وذلك أنه كان يريد غزوة الطائف، وأعلمه الله تعالى سيكون معه الجم الفقير من المهاجرين والأنصار والطلقاء وأعراب المسلمين؛ فرأى أن يحمي ذلك؛ ليرتفق به المسلمون، ويتقووا به على محاصرة أهل الطائف؛ ويدل عليه ما روي في هذا الحديث: أن ذلك كان قيل غزوة الطائف، وحصاره ثقيفا. وقد رووا عن كعب الأحبار في تقديس أرض وج وتحريمها قولا لا يخف على من عرف ربه ثقله، يخفى على من كان على بصيرة فساده؛ وعليه أولوا الحديث الذي ذكرناه في آخر وطأة. والله المسئول أن يبصرنا لدى ألعمي في مواطن العرفان، وينعش بنا عن السقطة في ورطة الخذلان.

كتاب البيوع

كتاب البيوع ومن باب الكسب وطلب الحلال (من الصحاح) [1942]: حديث أبى هريرة- رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا .... الحديث): الطيب في الأصل: خلاف الخبيث، وإذا وصف به العبد فهو المتعري عن الجهل والفسق المتحلي بالعلم والصلاح، وقد يوسف به الرب تعالى على أنه هو المتنزه عن رذائل الصفات، قبائح الأفعال. والطيب من الرزق: ما لا تستوم عاقبته، وكان متناولا بحكم الشرع. ومعني الحديث: لا يقبل الله إلا الشيء الطيب، ولا يحل أن يتقرب بغير ذلك إليه؛ إذ ليس من صفته قبول الشيء الخبيث والرضا بالمنكر. وفيه: (ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر): أراد بـ (الرجل): الحاج الذي أثر به السفر، وأخذ منه الجهد والبلاء، وأصابه الشعث، وعلاه الغبرة، فطفق يدعو الله على هذه الحالة، وعنده أنها من مظان الإجابة؛ فلا يستجاب له، ولا يعبأ ببؤسه وشقائه؛ لأنه متلبس بالحرا، صارف النفقة من غير حلها.

[1944]: ومنه: حديث النعمان بن بشير - رضى الله عنه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات .... الحديث): أراد: أن الشرع بين الحلال والحرام، وكشف عن المباح والحظور بحيث لا خفاء بالأصل الذي أسس عليه الأمر، وإنما تقع الشبهة في بعض الأشياء إذا أشبه الحلال من وجه، وأشبه الحرام من وجه؛ وذلك بالنسبة إلى الأكثر دون العموم؛ فإن من الأشخاص من لا يشتبه ذلك أيضا - إليه، إذا كان ذا حظ من العلم والفهم؛ نبئنا عنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يعلمها كثير من الناس). فسبيل الشحيح بدينه، الستقصى لعرضه، إذا ابتلى بشيء منها: أن يتوقف حتى يأتيه البيان، ويتضح له الأمر، أو يعزم على تركه أبد الدهر؛ وهذا هو الأصل في الورع. وفيه: (ومن وقع في الشبهات، وقع في الحرام): الوقوع في الشيء: السقوط فيه، وكل سقوط شديد يعبر عنه بذلك، والمعني: أن ن يهون على نفسه الوقوع في الشبهات حتى يتعود ذلك - فإنه يقع في الحرام؛ لأنه حام حول حريم الحرام؛ فيوشك أن يواقعه. وإنما قال: (وقع في الحرام)؛ تحقيقا لمداناته الوقوع؛ كما يقال: من أتبع نفسه هواها، فقد هلك. ثم ضرب مثله بالراعي يرعي حول الحمي، وهو المرعي الذي حماه السلطان فمنع منه؛ فإنه إذا سبب ماشيته هناك لم يؤمن عليها أن ترتع في حمي السلطان؛ فيصيبه من بطشه ما لا قبل له به. ثم ذكر أن حمى الله محارمه؛ ليعلم أن التجنب من مقاربة حدود الله، والحذر من التخوض في حماه: أحق وأجدر من مسجانبة حمى كل ملك، وأن النفس الأبية الأمارة بالسوء إذا أخطأتها السياسة في ذلك الموطن، كانت أسوأ عاقبة من كل بهيمة خليع العذار. وفي قوله: (ألا إن في الجسد مضغة ..... إلى تمام الحديث). إشارة إلى أن صلاح القلب وفساده منوط باستعمال الورع وإهماله. [1945] ومنه: حديث رافع بن خديج، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ثمن الكلب خبيث، ومهر البغي خبيث، وكسب الحجام خبيث):

الخبيث: ما يكره رداءة وخساسةن ويستعمل في الحرام؛ قال الله تعالى: {ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب}، قيل: الحرام بالحلال، ويستعمل في الشيء الرديء؛ قال الله تعالى: {ولا تيموا الخبيث منه تنفقون} أي: لا تقصدوا الردئ فتصدقوا به [77]؛ يقال للشيء الكريه العم، أو المنتن الرائحة، الخبيث؛ ومنه الحديث: (من أكل من هذه الشجرة الخبيثة). وإذا قد علمنا أن فعل الزني محرم، علمنا أن المراد من (الخبيث) في مهر البغي: هو الحرام؛ لأن بذل العوض في الزني ذريعة إلى التوصل إليه؛ وذلك في التحريم مثله. وعلمنا أن الحجامة مباحة، وأن (النبي - صلى الله عليه وسلم - أحتجم، وأعطى الحجام أجره): علمنا أن المراد من خبث كسبه، غير التحريم، وإنما هو من جهة دماءة ووداءة مخرجه، وقد يطلق اللفظ الواحد على قرائن شتي، ويختلف فيه المعني بحسب اختلاف المقاصد فيها. والقول في ثمن الكلب: مبني على هذين القولين؛ على حسب اختلاف العلماء: فمن جوز بيعه حمل خبث ثمنه على الدناءة. ومن لم ير بيعه: حمله على التحريم. والبغي: الزانية؛ سميت بذلك؛ لتجاوزها إلى ما ليس لها؛ وذلك الفعل يقال له: البغاء، بالكر والمد. وإتما سمي الأجرة التي أخذها على البغاء: مهرا، والمهر إنما يطلق على الصداق، ويستعمل فيه، لوقوعها موقع المهر في مقابلة البضع، وتسميتها بـ (وكسب البغي)، ولا يقع ذلك في البيان موقع: (مهر البغي)؛ لأن الكسب لا يختص بالبغاء، والمهر يختص به. [1946]: ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي مسعود الأنصاري - رضي الله عنه -: (وحلوان الكاهن): لك غير الأجرة، ولهذا سميت الرشوة: حلوانا. قال بعضهم: أصله من الحلاوة: شبه بالشيء الحلو؛ يقال: حلوت فلانا: إذا أطعمته الحلو. [1947]: ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي جحيفة - رضي الله عنه: (والواشمة والمستوشمة).

الوشم: أن يغرز شيء من البدن بإبرة، ثم يحشى بالكحل أو بالنئور، وهو دخان الشحم يعالج به الوشم حتى يخضر، ويقال له: النيلج، وكانت نساء العرب تفعل ذلك بمعاصمهن وظهور كفهن، فالواشمة: ذات الوشم، يضاف الفعل إليها؛ لأنها صنعت ذلك بنفسها، أو أمرت غيرها. على هذا يفسرها أهل اللغة. وأما في هذا الحديث فصيغة اللفظ تدل على أن الواشمة هي الصانعة بغيرها، والمستوشمة: التي سألت الواشمة أن تشمها. وفي غير هذه الرواية (المؤتشمة) كان (المستوشمة)، وهي [78] التي تفعل بها ذلك [1949]: ومنه: حديث عمر - رضى الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (قاتل الله اليهود، حرمت عليهم الشحو فجملوها فباعوها). قيل: معني: (قاتل الله) أي: لعنهم، وقيل: عاداهم، وقيل: قتلهم، و (فاعل) وإن كان سبيله أن يكون بين أثنين - فربما يكون من واحد، كقولك: سافرت، وعلى هذه الوجوه فسر قول تعالى: {قاتلهم الله أنى يؤفكون}.

وقال بعضهم: الصحيح: أنه من المفاعلة، والمعني: أنه متصد لمحاربة الله، ومن قاتل الله فهو مقتول، ومن غالبه فهو مغلوب. (فجملوها) بالجيم، أي: أذابوها، والجميل: ما أذيب من الشحم، أولوا القضية تأويلا فاسدا، لعنهم الله وأخزاهم! [1955]: ومنه: حديث الحسن بن على - رضي الله عنهما-، قال: حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) الحديث: أي دعما اعترض لك الشك فيه منقلبا إلى ما لا شك فيه، يقال: دع ذلك إلى ذلك أي: استبدله به، ويريبك: بفتح حرف المضارع منه، ويضم، وقد ورد بها الرواية، والفتح: أكثر (وراب وأراب) لغتان. وقال بعض أصحاب (الغريب):هو من أرابني الشيء، ويقول: أراب الرجل، أي: صار ذا ريبة، ونه المريب. وفيه: (فإن الصدق طمأنينة، والكذب ريبة): جاء هذا القول، (ثم بدا) لما تقدمه من الكلام، ومعناه: إذا وجدت نفسك ترتاب في الشيء فاتركه؛ فإن نفس المؤن تطمئن إلى الصدق، وترتاب من الكذب، فارتيابك في الشيء منبئ عن كونه باطلا، أو مظنة للباطل فاحذره، واطمئنانك إلى الشيء مشعر بكونه حقا فاستمسك به، والصدق والكذب يستعملان في المقال والفعال، وما يحقق أو يبطل من الاعتقاد.

(ومن الحسان) [1956]: حديث وابصة بن معبد الأسدي - رضى الله عنه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (يا وابصة، جئت تسأل عن البر والإثم .... الحديث): هذا الحديث يدخل في أعلام النبوة؛ لأن وابصة أتاه وقد أسر في نفسه أن يسأله عن ذلك، فلم يلبثه أن قال: جئت تسأل .... الحديث)، وقد رأى بعض أهل النظر أن الأمارة التي أشار إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للتميز بين الأمرين ليست من جملة [79] ما يدخل في حكم العموم؛ بل هي شيء يختص بأهل النظر وأصحاب الفراسات ن ذوى القلوب السلمية، والنفوس المرتاضة. وهذا القول وإن كان غير مستبعد - فإن القول بحمل على العموم فيمن تجمعهم كلمة التقوى وتحيط بهم دائرة الدين أحق وأهدى، ولا ضرورة بنا إلى صرف قوله إلى الخصوص، ونحن نجد لحمله على العموم مساغا. وقد روى هذا الحديث بمعناه عن غير واحد من الصحابة، منهم النواس بن سمعان، قال: قال رسول الله (الإثم ما حاك في نفسك). فتقول - ون الله المعونة: قد تحقق لنا من جواب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن وابصة لم يسأله عن أمر تبين رشده، ولا عن أمر تبين غيه؛ إذ لم يكن له في الحق الواضح والباطل الجلي أن يعدل عن قوله المفتي الذي استفتاه قلبه ونفسه، وإنما سأله عما أشكل عليه من الأمرين، واشتبه عليه من النوعين، فأحاله إلى الأخذ بما هو عن الاشتباه بمعزل؛ وذلك لان اطمئنان قلب المؤمن ونفسه إنما يكون بزوال التردد عنهما، والمؤمن إذا أخبر بالأمر المجمع عليه عن الله ورسوله؛ فمن حق الإيمان أن يطمئن إلي كل الطمأنينة، وإذا أخبر بالأمر المختلف فيه لمعني يوجب الاختلاف فمن حق الورع أن يأخذ منهما بما هو أقو وأتقي؛ فذلك الذي يزيل التردد عنه؛ فيطمئن إليه، وإذا لم يجد إلى ذلك سبيلا لاستواء الأمرين، فالترك أول به، وإن أفتاك المفتون، وهذا القول راجع في المراد منه إلى ما يرجع إليه حديث الحسن بن على - رضي الله عنه - وقد سبق القول فيه. وقوله: (حاك في النفس) أي: أثر فيها، والحيك: أخذ القول في القلب، يقال: ما يحيك فيه الملام إذا لم يؤثر فيه.

وقد روى أيضاً (الإثم ما حك في صدرك)، وفي حديث آخر: (إياكم والحكاكات؛ فإنها المأثم). قلت: وذلك لأن صدر المؤمن لا يزول عنه الحرج فيما لم يكن فيه على بينة؛ يقال: حك في نفسي الشيء: إذا لم يكن منشرح الصدر به [80]، وكان في قلبك منه شيء. [1961] ومنه: حديث أبى هريرة - رضي الله عنه: (نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب، وكسب الزمارة) قال أبو عبيد: تفسيره في الحديث: أنها الزانية. قال: ولم أسمع هذا الحرف إلا فيه، ولا أدري من أي شيء أخذ، وقد نقل الهروي عن الزهري، أنه قال: يحتمل أن يكون نهي عن كسب المرأة المغنية، يقال: غناء زمير، أي حسن، ويقال: زمر إذا غني، وزمر الرجل: إذا ضرب المزمار، فهو زمار، ويقال للمرأة: زامرة قيل: ويحتمل أن يكون تسميته الزانية: زماة؛ لأن الغالب على الزواني اللاتي اشتهرن بذلك العمل الفاحش، واتخذته حرفه، كونهن مغنيات. وذهب بعضهم: إلى أن الصواب فيه تقديم الرء الهملة على الزاي، وهي التي تومي بشفتيها وعينيها، والزواني يفعلن ذلك؛ قال الشاعر: رمزت إلى مخافة من يعلها ... من غير أن يبدو هناك كلام

باب المساهلة في المعاملة

[1962] ومنه: حديث أبى أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تبيعوا الفينات، ولا تشتروهن ..... الحديث): القينة: الأمة، مغنية كانت أو غير مغنية؛ لأنها تصلح البيت وتزينه، أخذ من التقيين وهو التزيين، وقيل: القينة: المغنية. ولا شك: أن المراد منها في الحديث: الأمة المغنتية؛ لأنها إذا لم تكن مغنية، فلا وجه للنهى عن بيعها وشرائها، وإذا لم تكن أمة فلا وجه لإطلاق البيع والشرى عليها. واكتفاؤه في الحديث بأحد الوصفين؛ لكون لفظ القينة منبئا في موضعه ذلك عن المعنيين؟ وفيه: (وثمنهن حرام). قيل: الحرمة في الثمن متعلق بالفضل الذى فيه، لأجل الغناء من الأخذ والمعطي. ويحتمل: أن تكون متعلقة بأخذ الثمن؛ فحذف منه المضاف، وأقيم المضاف إليه مكانه، وجاء به على هذه الصيغة؛ لكونه أبلغ في الإنذار وإنما جاز الحذف في مثل هذا الموضع؛ لما ورد به الشرع من البيان فيه، ويكون تحريم أخذ الثمن في القينة كما هو في بيع العنب عمن يتخذه خمرا، فإن أخذ الثمن عليه مع العلم بأن المشتري يشتريه ليتخذه خمرا فعل حرام، ثم إنه - مع كونه حراما - لا يمنع عن انعقاد البيع، وثبوت ملك البائع والمشترى في الثمن والمثمن عند أكثر العلماء، وإن كانا عصيا الله في صنيعهما. وأما من يرى البيع فيه [81] فاسدا فلا حاجة إلى التأويل. هذا وجه هذا الحديث إن ثبت؛ فإن في إسناده من لا يرى أهل الجرح والتعديل الاحتجاج بحديثه. ومن باب المساهلة في المعاملة (من الصحاح) [1964] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث جابر - رضى الله عنه: (رحم الله رجلا سمحا) أي سهلا، ومنه حديث عطاء (اسمح يسمح لك) أي: سهل يسهل عليك، ومنه المسامحة.

[1966] ومنه: حديث أبى هريرة - رضى الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إياكم وكثرة الحلف في البيع ينفق ويمحق). ينفق: بضم الياء، وسكون النون، وتخفيف الفاء، أي: يروج المتاع، ويكثر الرغبات فيه من قولهم: نفق البيع ينفق نفاقا: إذا كثر المشترون والرغبات، ويمحق، أي: يهلك ويذهب بسبركته؛ قال الله تعالى: {يمحق الله الربا} أي: يفنيه. ورواية من يرويه على وفاق ينفق من الإمحاق غير صواب؛ فإن أمحقه لغة رديئة في محقه، ثم إنه بفتح حرف المضارعة هي الرواية المعتد بها. ومن الناس من يشدد الكلمتين وليس ذلك بشيء. وفي الرواية الأخرى: (الحلف منفقه للسلعة ممحقة للبركة): بفتح الميم منهما وتسكين الحرف الثاني، والمعني: الحلف سبب لنفاق السلعة، وهي المتاع، وسبب لمحق البركة. ومن الناس من يضم الميم منهما، مع سكون الحرف الثاني، والصحيح هو الأول. ومنهم من يفتح الحرف الثاني منهما، ويشدد الثالث، وهو غير سديد رواية ولفظا [1967]: ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي ذر - رضي الله عنه - (المسبل والمسنان والمنفق سلعته ............. الحديث). المسبل: الذي يري إزاره، ويرسل ثوبي إلى الأرض خيلاء والمنان: الذي يكثر المن بما يوليه، ويعتد بصنيعته. والمنفق بالتخفيف: على ما ذكرنا.

باب الخيار

ومن الحسان [1970]: حديث رفاعة بن رافع الأنصاري، عن النبي ... - صلى الله عليه وسلم -، قال: التجار يحشرون فجارا ....) الحديث. الأصل في الفجور: المسيل عن القصد؛ ومنه يقال للكاذب: فاجر؛ وعلى هذا المعني سماهم: فجارا؛ وذلك أن التاجر قلما يسلم فاه عن الكذب والحلف؛ فيقول: اشتريته بكذا ولا أبيعه بأقل من كذا، وأعطيب به كذا، ويعد فيخلف، وربما يحلف على الأمر غير محتاط فيه ويبالغ في البيع والشرى؛ بالرفع والحط، حتى يفضي به إلى الكذب؛ فلذلك يحشرون في زمرة من كثر منه الكذب، إلا من اتقي الكذب وبر في يمنه وصدق [82] في حديثه ومن باب الخيار من الصحاح [1971]: حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (المتبايعان كل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا، إلا بيع الخيار). اختلف العلماء في معني قوله: ما لم يتفرقا:

فذهب جمع إلى أن معناه التفرق بالأبدان؛ فأثبتوا لهما خيار المجلس، وقالوا: سمماها المتبايعين، وهما المتعاقدان؛ لأن البيع من الأسماء المشنقة من أفعال الفاعلين، وهي لا تقع في الحقيقة إلا بعد حصول الفعل منهم، وليس بعد العقد تفرق إلا التميز بالأبدان. وذكروا عن بعض أهل اللغة: أن التفرق: ما كان بالأبدان، والافتراق ما كان بالكلام, وذهب آخرون: إلى أنهما إذا تعاقدا، صح السع، ولا خيار لهما إلا أن يشترطا، وقالوا: الراد من التفرق: هو التفرق بالأقوال، ونظير ذلك من كتاب الله سبحانه وتعالى: {وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته} ومن المعلوم أن الزوج إذا طلق امرأته على مال، فقبلت ذلك، حصل التفرق بينهما بذلك، وإن لم يتفرقا بأبدانهما. ثم إن التفرق بالأبدان ليس له حد محدود يعلم. وأما تسميتهما بالمتبايعين: فيصح أن يكون بمعني المتساومين، وهو باب تسمية الشيء بما يئول إليه، أو يقرب منه ، وفي الحديث: (لا يبع أحدكم على بيع أخيه) على صحة مذهبه، فقال: حقيقة (المتبايعان) التشاغلان بالبيع وذلك يكون قبل تمام البيع كقولك: المتقاتلان والمتضاربان وبعد انقضاء البيع، يقال لهما: المتبايعان، على المجاز والعبرةبها إذا اجتمعت مع المجاز؛ والمعبرة بها إذا اجتمعت مع المجاز؛ واستدلوا بقول - صلى الله عليه وسلم -: (ولا يخل له ان يفارق صاحبه خشية؟ أن يستقبله)؛ رواه عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - والحديث بتمامه أورده المؤلف في (الحسان) من هذا الباب. واستدل على أهل هذه المقالة من خالفهم بما رؤى عن نافع في بعض طرق هذا الحديث: (فكان ابن عمر إذا بايع رجلا، فأراد ألا يقيله، قام فمشي هنيهة، ثم رجع إليه) فقالوا: نرى أن ابن عمر اشتب عليه حكم التفرق: أهو بالأبدان أم بالأقوال؟ فصنع صنيعه ذلك؛ احتياطا. قلت: ومما يصح أن يكون سنادا لقولهم، ومؤيدا له أن هذا الحديث رواه جماعة عن نافع، منهم مالك ابن أنس، وهو أفقههم وأعلمهم بالحديث، لاسيما بحديث نافع عن ابن عمر، ولم ير مالك الخيار بعد تمام العقد، ولم يكن ليتهم نفسه، ولا ليتهم نافعا، وحاشاه أن يتهم أحدا من الصحابة فيما يرويه، فلو لم ير تأويل (83) الحديث على مصداق قوله، لم يذهب إلى ما ذهب، ولم يكن ليخالف حديثا صح عنده. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إلا بيع الخيار): المراد منه عند من لا يرى خيار المجلس: خيار الشرط، وقد أنكر الخطابي على هذا التأويل (والجرح) القول بفساده، وقال: (الاستثناء من الإثبات نفي، ومن النفي إثبات، والأول إثبات الخيار؛ فلا يجوز أن يكون ما استثني عنه إثباتا بمثله)؛ وكأن هذا القول صدر عنه من غير روية؛ لأن في قوله: (ما لم يتفرقا).

[دليل ظاهرًا] على نفى الخيار بعد وجوب البيع؛ فوقع الاستثناء عن المعني المنفي، والاتصال بين الكلامين حاصل من الوجه الذي ذكرنا. وأما تأويله عند من يقول بخيار المجلس: أن بخيره قبل التفرق عن المجلس؛ فيقول له: (أختر) فبعد الاختيار، لا يبقي له خيار، وإن لم يتفرقا بأبدانهما وفي بعض طرق هذا الحديث، من كتاب البخاري (أو يكون البيع خيارا) وإنما شرعنا في تقرير ما سبقنا بتقريره حسين أردنا تفسير قوله: (إلا بيع الخيار) ولم نر أن نعطى فيه البيان حقه، إلا بتقديم ما يمهد قاعدة البيان، ولقد بقيت علينا بقية من بيان ما يوجبه اختلاف الروايات في هذا الحديث، لاسيما في كتاب البخاري من اختلاف المعاني، رأينا الإضراب عنها؛ حذرا عن الإسهاب. ونحن تصدينا لشرح أحاديث كتاب (المصابيح)؛ فلا نرى أن نتعداها إلى غيره، إلا عن ضرورة، مع أن هذا الحديث على السياق الذي أورده المؤلف أحق الروايات بالتقديم؛ لأنها أكثر وأقوم. [1973] ومنه: حديثه الآخر قال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: (إني أخدع في البيوع؟ فقال: إذا بايعت فقل: لا خلابة). ذهب بعض العلماء: إلى أنه خاص في أمر ذلك الرجل، وهو حسبان بن منقذ بن عمرو الأنصاري المازني- رضي الله عنه-. وذهب بعضهم إلى أنه عام في كل صفقة بين فيها الغبن. وأكثر العلماء: على أن البيع إذا صدر عن المتابعين عن رضى، وكانا ممن يصح تصرفاتهم، فإنه صحيح لا مرجع فيه بعلة الغبن. وتأويل الحديث على ذلك أن نقول: لقنه النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا القول ليتلفظ به عند البيع؛ فيطلع به صاحبه على أنه ليس من ذوي البصائر في معرفة السلع ومقادير القيمة فيها؛ فيمتنع بذلك عن مظان الغبن، ويرى له كما يرى لنفسه، وكان الناس في ذلك الزمان أحقاء بأن يعينوا أخاهم المسلم، وينظروا له أكثر ما ينظرون لأنفسهم [84]. والخلابة: مصدر قولك: خلبت الرجل: إذا خدعته.

باب الربا

ومن باب الربا (من الصحاح) [1977]: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه: (فإذا اختلفت هذه الأصناف): وجدنا في كثير من النسخ قد ضرب على (الأصناف)، وأثبت مكانها (الأجناس)، والحديث أورده في قسم الصحاح، وهو مما أخرجه مسلم في كتابه، ولفظ كتابه: (فإذا اختلفت هذه الأصناف)، ولم نجد فيه (الأجناس). وأروى ذلك من تصرفات بعض الفضولية، ظنا منه أن الصواب هو: (الأجناس)؛ لأن كل واحد من الأشياء المذكورة على حدته جنس، والصنف أخص من الجنس، ولم يدر هذا المتدفق (المستقصي) أن الأصناف - أقوام في هذا الموضع؛ لأنه أراد بيان الجنس الذي يجرى فيه الربا؛ فعد أصناف الجنس، (لأن) العرب تستعمل بعض الألفاظ المتقاربة في المعني مكان بعضها، ثم إن الذي زعزعه لم يكن من العلوم التي يتعاطونها. [1978]: ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبى سعيد الخدري - رضى الله عنه -: (بدأ بيد): يدا من المنصوب بإضمار؛ كأنه قال: يقابل يدا بيد، ويتقابضان يدا بيد، وهي في موضعها هذا من الأسماء الجارية مجري المصادر، والمراد منها النقد، أي: نقدا ليس بنسيئة.

وفيه: (فقد أربى): أي: أتي الربا، وتعاطاه، ومعني اللفظ: أخذ أكثر مما أعطي؛ من ربا الشيء يربو: إذا زاد، قال الله تعالى: (فأخذهم أخذ أكثر مما أعطى؛ من رباب الشيء يربو: إذا زاد، قال الله تعالى: (فأخذهم أخذة رابية) (1) أي: زائدة. [1979] ومنه: حديث الآخر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ولا تشفوا بعضها على بعض): أي: لا تفضلوا الشف بالكسر: الفضل والربح ومنه: الحديث: (نهي عن شف ما لم يضمن)، والحديث الآخر: (فمثله كمثل ما لا شف له) والشف - أيضا - النقصان، وكلمة (على) هي الفارقة في هذا الخديث بين الزيادة والنقصان. [1981] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث - عمر - رضى الله عنه-: (الذهب بالورق، إلا هاء وهاء) هاء: صوت يصوت به، فيفهم به معني: خذ، وكرر اللفظ؛ اعتبارا لحال المتقابضين للجنسين، أي: إلا ما يجري فيه هذا اللفظ، وهو مثل قوله: (يدا بيد) وأصحاب الحديث يروون: (ها وها) بالقصر فيهما، وذكر الخطابي: أن الصواب فيهما المد ونصب الهمزة؛ فإن الهمزة بدل من الكاف المحذوفة من (هاك) ولا كلام أن (هاك) إذا حذف منه الكاف يبدل منها الهمزة، وتصرف تصريفه؛ كما يصرف (هاك) مع المخاطب في أحواله، وإنما الكلام [85] في (ها) المقصورة هل تفيد على حدتها معني: خذ. والذي يدل عليه قول أهل اللغة في تفسير هذه الكلمة: أنها تفيد، والكاف إنما تدخل عليها لبيان المخاطب في أحواله من التذكير والتأنيث، والجمع والتثنية. وقد ذكر أبو الفضل الميداني فيها أربع لغات: (ها) بالقصر، وفسرها فقال: أي: خذ، ثم قال: و (هاء) بفتح الهمزة لغة فيه.

قلت: وعلى هذا الوجه الذي ذكره لا يلزم أن تكون الهمزة بدلا من الكاف؛ ويؤيد ذلك جواز إلحاق الكاف به مع إثبات الهمزة. قال: و (هاء) بالمد وكسر الهمزة، و (ها) بإسكان الألف؛ مثل: هب. قلت: وهذان الحرفان يصرفان تصريفهما من غير أن يلحق بها شيء من حروف الخطاب، و (هاء) بفتح الهمزة تصرف على الوجهين؛ فتقول: هاء، وهاءك وهاءآ، وهاؤا، وهاؤم. وأما (ها) المقصورة: فلا يصرف إلا بحروف الخطاب. وعلى هذا الذي ذكرناه: فالذي رواه الحدثون له وجه؛ لأن (ها) في كلامهم وضع موضع (خذ)، والكاف فيه لبيان الخطاب، ولم يقصد به هاهنا بيان المخاطب، وإنما ورد مورد حكاية قول يجرى بين التعاقدين، وأكثر ظني، أني وجدت هذا الحديث في كتاب (الفائق) للزمخشرى، وقد جوز فيه القصر. [1982] ومنه: حديث أبي هريرة، وأبي سعيد: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعمل رجلا على خبير، فجاءه بتمر جنيب .....) الحديث. الجنيب: نوع من أجود التمور بالحجاز، وقيل: هو التمر المكبوس، وقيل: هو التين. وأرى أشبه المعاني به أن يكون سمي جنيباً، لغرابته وقلة نظائره، ويقال للغريب: جنيب، ويجري الجنيب على الصفة، ويجوز أن يجرى على الإضافة. وفيه: (بع الجمع بالدراهم، ث اتبع بالدراهم جنيبا) الرواية التي يعتمد عليها (بع الجمع)، وفي (المصابيح): (الجميع): نوع من التمر رديء، وقيل: بل هو أخلاط منها رديئة، فإن صحت الرواية في الجميع، فمعناه: أخلاط من التمر.

[1987]: ومن الحسان: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبى هريرة - رضي الله عنه-: (فإن لم يأكله أصابه من بخاره)، وفي رواية: من غباره): المعني: أن الربا بكثر، فينقل عند التعامل به من يد إلى يد؛ فيختلط بأموال الناس فيأكلونه من غير قصد فيه؛ فلا يسلم أحد من أثره وضرره، وإن سلم من تعاطيه وتناوله. [1989]: ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم -، في حديث سعد بن ابي وقاص - رضي الله عنه: (أينقص الرطب إذا يبس): الظاهر أن هذا القول صدر عنه على سبيل التقرير [86] والزجر عن التفاضل فيه، لا على سبيل الاستعلام؛ فإن ذلك مما لا يكاد يخفي على أحد. وحمل أبو حنيفة النهي عن شرى التمر بالرطب في هذا الحديث على ما كان من نسيئة، لما في حديث يحيي بن أبي كثير، عن عبد الله بن يزيد أن زيدا أبا عباس أخبره عن سعد بن أبي وقاص (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الرطب بالتمر نسيئة) فبين بهذه الزيادة معنى الحديث.

باب المنهي عنه من البيوع

[1992] ومنه: حديث عبد الله بن عمرو: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يجهز جيشا ففقدت الإبل ... الحديث). في إسناد هذا الحديث مقال، فإن ثبت، فوجه التوفيق بينه وبين حديث سمرة الذي تقدمه في الكتاب: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة): أن يحمل الأمر فيه على أنه كان قبل تحريم البا؛ فنسخ بعد ذلك. ومما يوجب القول بذلك ان حديث سمرة أثبت وأقوى؛ أثبته أحمد - رحمه الله - ولم يثبت حديث عبد الله بن عمرو، ثم إن فيه أنه نهي، والنهي عن الفعل دال على أنه كان يتعاطي قبل النهي، والله أعلم ومن باب المنهي عنه من البيوع (من الصحاح) 1995: حديث جابر رضي الله عنه، قال: (نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المحاقلة، والمزابنة، والمخابرة، والمعاومة، وعن الثنيا، ورخص في العرايا):

أكثر ألفاظ هذا الحديث قد جاءت مفسرة في حديث ابن عمر، وجابر، قبل حديث جابر هذا، ولكنا أحببنا أن نذكر معانيها على وجه التحقيق على ما استخرجناه من كتب اللغة وكتب غريب الحديث. فمنها المحاقلة؛ أخذ من (الحقل)، وهو الزرع إذا تشعب ورقة قبل أن يغلظ سوقه، وإلى هذا المعني التفت من ذهب في تفسير المحاقلة إلى أنها بيع الزرع في سنبله بالبر وعلى ذلك فسر في حديث جابر، فقيل: المحاقلة: أن يبيع الرجل الزرع بمائه فرق (حنطة، ولا أدري من المفسر، غير أن قوله (بمائه فرق حنطة) كلام ساقط؛ وكذلك في بقية التفسير، وكان من حق البلاغة أن يأتي بالمثال من غير تسعين في العدد؛ فإن قوله: (بمائة فرق) موهم بأنه إذا زاد أو نقص عن المقدار المنصوص عليه، لم يكن ذلك محاقلة. والحقل - أيضا - القراح الطيب؛ وإلى هذا المعني التفت من قال: هو (اكتراء) الأرض بالحنطة، ومن قال: إنها المزارعة بالمثلث والربع والأقل والأكثر منهما. ومنه: المزابنة، وهي بيع التمر في رءوس النخل بالتمر؛ قال الأزهرى: وأصله من الزبن، وهو الدفع، كأن كل واحد من المتعاقدين يزبن صاحبه عن حقه بما يزداد منه، وقال ابن الأنباري، إذا وقفا على العيب، حرص البائع [87] على إمضاء البيع، وحرص المشترى على فسخه. ومنها: المخابرة، وهى المزارعة على النصيب، والخبرة النصيب؛ يقال: تخبروا خبرة: إذا اشتروا شاة فذبحوها، واقتسموا لحمها. وقيل: هي من الخبير، وهي الأكار، وذكر الهروي عن ابن الأعرابي، أن أصله من خبير؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أقرها في أيدي أهلها على النصيب، فقيل: خابرهم، أى عاملهم في خيبر، ثم تنازعوا، فنهاهم عن ذلك، ثم جازت بعد ذلك. قلت: وعلى هذا ينبغي أن تكون المخابرة لم تعرف قبل الإسلام. والوجهان الأولان أوضح. ومنها: (الثنيا)، والثنيا - بالضم: الاسم من الاستثناء؛ وكذلك الثنوى، وهي في البيع أن يستثني منه شيء وقال الفتيبي: أن يبيع شيئا جزافا، ثم يستثني شيئا منه، قال: وتكون الثنيا في المزارعة أن يستثني بعد النصف أو الثلث: كيلا معلوما. ومنها: العرية؛ قيل: إنها من قولهم: أعريت الرجل النخلة: إذا أطعمته ثمرتها عامها، فيعروها، أي: يأتيها؛ فيكون (أعربته) في معنى: جعلت له أن يأتيها متى شاء.

وعلى هذا: يفسرها أكثر أهل اللغة، وهي فعيلة بمعني مفعولة، وإنما أدخلت فيها الهاء؛ لأنها أفردت فصارت في عداد الأسماء، مثل: النطيحة والأكيلة، ولو جئت بها مع النخلة، قلت: نخلة عرى. قيل: ويحتمل أنها من قولهم: عروت الرجل أعروه عروا: إذا أتيته طالبا معروفه، وتكون أعريته على هذا - في معني أعطيته، وذلك مثل قولك: أسألته وأطلبته: إذا أعطيته مسألته، وآتيته طلبته. وقيل: سميت عرية؛ لأنها استثنيت من جملة النخل، وتكون من عرى يعرى إذا خلا عن الشيء. يقال: أنا عرو من هذا الأمر، أي: خلو منه. والوجه الذي ينفرد أقاويل أهل اللغة فيه هو أن يكون في معني العطية والعارفة، ويحقق ذلك قول الشاعر: وليس بسنهاء ولا رجبية ... ولكن عرايا في السنين الجوائح أراد أنها مخلاة لذوى الفاقة، ولمن يعترى بجسنابهم من المعترين، مسبلة عليهم؛ لأنه قول سلك به مسلك المباهاة، وأخرج مخرج المدح، ولو كانت العرية المستثناة عن جملة المبيع لم يكن لذكرها على وجه المدح معنى. قلت: وحديث العرية ورد ورودا متواترا لم يختلف [88] في صحته أحد من أهل العلم، وإنما اختلفوا في تأويله. فقال قو: هو أن تكون للرجل نخيلات في حائط غيره، فيأتي صاحب الحائط بأهله، فيسكن بين النخيل، فيدخل عليهم صاحب النخيلات؛ فيجدون في أنفسهم ويستضرون بدخوله عليهم؛ فرخص لصاحب الحائط أن يؤتيه مقدار خرص نخيلاته تمرا؛ عوضا عما له في ذلك. قال آخرون: شكا أهل الحاجة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أن الرطب يدرك، ولا يتهيأ لهم بيه؛ لكون أيديهم صفرا من النقد، وعندهم تمر فضل عن أقواتهم، فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصهم تمرا، وقد نقلوا فيه أثرا عن زيد بن ثابت منقطع الإسناد. وقال آخرون: هو أن يتطوع صاحب الحائط ببعض نخيله ويعريها المحاوج ثم يبدو له؛ لدخولهم عليه أو لغير ذلك أن يعطيه بدلها تمرا، أو يبدو لهم أن يأخذوا مكانها تمرا؛ فجعلهم في سعة من ذلك، وهذا التأويل على قياس الوضع اللغوي، ومصداق ما ذكر فيها من الأشعار أقوم التأويلات؛ غير أن في بعض أحاديث العرية ما يصلح للتمسك في المنع عنه؛ وبه يستدل من يرى خلافه. ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (رخص في العرايا): والرخصة إنما تلغى المحظور؛ وعلى هذا فلا معني للرخصة فيه.

[1996] ومنه: حديث سهل بن أبي حثمة، وقد أورده المؤلف بعد حديث جابر - رضى الله عنه - هذا (نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع التمر بالتمر، إلا أنه رخص في العرية أن تباع بخرصها تمرا يأكلها أهلها رطبا). وقد روى في الرخصة أنها وردت على ما يتحرج منه الرجل المسلم من خلف الوعد؛ لأنه إذا أعراها المحتاج، ثم عمل بخلاف ما كان منه، لم يكن موافيا بعهده، أو وردت على صنيع المعرى إذا أخذ البدل؛ لأنه أخذ البدل على ما لم يملكه بالقبض؛ فأشبه من باع ما لم يكن له. وعلى هذا يجعلون لفظ (البيع) فيه مجازا، ويقولون في قول الصحابي: (إلا أنه رخص في العرايا) أنه منقطع في المعني عن الفصل الأول، وقد يقرن الشيء بالشيء، وهما في الحكم مختلفان، وذكروا في قوله: (يأكلها أهلها رطبا): أن أهل العرية ملاكها الذين عادت إليهم بالبدل. وإنا ذكر الصحابي أنه يأكلونها رطبا؛ ليعلم أن ذلك ليس من بيع الرطب بالتمر المنهي عنه في شيء، وذكروا في حديث أبي هريرة (رضي الله عنه). الذي أورده المؤلف بعد حديث سهل بن أبي حثمة (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخص في بيع العرايا بخرصها من التمر فيما دون خمسة أوسق أنه ليس [89] بتوقيف على ذلك المقدار؛ لاحتمال أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص فيه لقوم بلغ مقدار خرصهم في العرية هذا المبلغ؛ فحدث به أبو هريرة - رضي الله عنه على ما انتهي إليه علمه في تلك القضية، ولم يكن قوله هذا نافيا لجريان الرخصة فيما فوق ذلك. ولم يلجئهم إلى هذه المضايق إلا القول (بحمله) النهي، والهرب من قول يفضى بهم إلى تعطيل أحاديث كثيرة وردت في أبواب الربا، وفي النهي عن بيع التمر بالتمر جزافا، وعن المزابنة، وعن بيع ما لم يقبض، وغير ذلك مما لا يعسر على ذي الفهم مدركه.

ونحن لم نستحسن أن ندع أحاديث هذا الباب مبهمة مغلقة فأشرنا بجملة من القول إلى نوع من البيان على سبيل النقل، لا على وجه الاحتجاج؛ فإن كتابنا لا يسع لذلك، ثم إنه شيء قد أتي عليه بحججه ودلائله في كتاب كل فريق، فسلمنا الأمر لهم، واكتفينا بإيضاح الحديث، وإيراد ما ذهب إليه الذاهبون من التأويل على ما [2000] ومنه: حديث جابر - رضى الله عنه-: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهي عن بيع السنين، وأمر بوضع الجوائح). أراد بيع السنين: أن يبيع الرجل ثمرة حائطه الثلاث والأربع، وما فوق ذلك؛ باع شيئا غير موجود ولا مخلوق، وفي معناه: السنتين؛ لوجود تلك العلة في السنة الثانية، ومثله المعاومة. والجائحة: الآفة التي تصيب الثمرة؛ من الجوح، وهو الاستئصال، ومذهب أكثر العلماء في معنيى الأمر بوضع الجوائح: أنه على الندب؛ لأن ما أصاب البيع بعد القبض فهو من ضمان المشترى. وقد ذكر أبو جعفر الطحاوى: أن هذه في الأراضي الخراجية التي حكمها إلى الأمام؛ أمر بوضع الخراج عن أصحاب الجوائح؛ لما فيه من مصالح المسلمين ببقاء العمارة فيها. وأما قوله في حديثه الآخر: (فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا)، فإنه يحمل على ما ل يقبض، وكان بعد في يعد في يد البائع، فأصابتها الجائحة؛ فذلك من ضمانه، والقبض في الثمار يقع بتخلية البائع بين المشترى وبينها وإمكانه من القطاف والجداد.

ويحتمل وجهاً آخر، وهو أن يكون باعه قبل الظهور، وسماها ثمرة باعتبار ما يكون منها، أو قبل بدو صلاحه؛ على قول من لا يرى بيعه، وسماه بيعا على المجاز، والقول الأول أشبه؛ لما في حديث أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أرأيت إن منع الله الثمرة، بم يأخذ أحدكم مال أخيه). والحديث بتمام أورده المؤلف، وذلك على المنع من أخذ المال على ثمرة لم تكن إذ لو كانت لكان الحكم فيها غير ذلك ويدل عليه حديث أبي سعيد الخدري [90]: (أصيب رجل في ثمار ابتاعها، فكبر دينه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (تصدقوا عليه ... الحديث)؛ هذا وجه التوفيق بين هذه الأحاديث؛ كيلا يخالف بعضها بعضا. [2004]: ومنه: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه-، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تلقوا الركبان لبيع ... الحديث):

التلقي: الاستقبال، نهى أن يستقبل الرجل الركبان ليبتاع منه قبل أن يعرفوا الأسعار؛ لما يتوقع في ذلك من الخداع والضرر، واحتمال أن يخبر المتلقي صاحب السلعة بغير ما عليه سعر السوق، ثم لما فيه من الضرر بالمسلمين في أسعارهم، فإن بمثل هذا الصنيع ترتفع الأسعار في البلدان، وفي معناه قوله: (لا تلقوا الجلب) والجلب والأجلاب: الذين يجلبون الإبل والغنم للبيع، ويتوسع فيه؛ فيطلق أيضا على الذين يجلبون الأرزاق إلى البلدان. ومنه: الحديث: (الجالب مرزوق والمحتكر ملعون)، وفي حديث ابن عمر رضي الله عنه: (كنا نتلقى الركبان). والتوفيق بين الحديثين أن يراد بالتلقي المكروه ما يضر بأهل البلدان في أسعارهم، أو ما لا يؤمن على المتلقى فيه الغش والخيانة، فإذا خلا عن هذه الموانع، فلا كراهة فيه على ما في حديث ابن عمر. وفيه: (ولا بيع بعضكم على بيع بعض)، وفي بعض طرق هذا الحديث من الصحاح: (ولا يبع الرجل على بيع أخيه)، وهما سيان في المعني؛ لأن المراد من أخيه: الأخوة في الدين كما أن المراد من قوله: (بعضكم) المواصلة بملة الإسلام. وأما البيع فإنه يستعمل على وجهين: يقال: بعت الشيء، أي: شريته، وبعته أيضا إذا اشتريته، وهو من الأضداد، قال الفرزدق: إن الشباب لرابح من باعه ... والشيب فيه لبائعيه تجار قال الخطابي في تفسير هذا الحديث: إنما يكون ذلك بعد التعاقد، وقبل التفرق عن المجلس؛ فيجئ آخر، فيعرض على المبتاع متاعا أجود من المتاع الذي ابتاعه، وأرخص، فتدعوه الرغبة فيه إلى نسخ البيع المتقدم. وقال آخرون: المعني لا يشتر على شراء أخيه، ـ فإنما وقع النهى على المشترى لا على البائع. والوجه الأول: وإن كان محتملا - فإن الثاني أجود منه وأقوى؛ ويدل على صحة ذلك المناسبة الواقعة بين اللفظين، أعني قوله: (لا يبع أحدكم على بيع أخيه)، وقوله: (ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه)؛ وهذا لفظ حديث أبي هريرة - رضى الله عنه - في إحدى الروايات عنه، وقد أورده المؤلف فيما بعد من هذا الباب، ثم إن العلماء مختلفون في كل واحد من الصيغتين البيع والشرى، هل هو على الحقيقة أم على المجاز؟ فأما من يرى خيار المجلس [91]: فإنه يقول: إنه على الحقيقة، ويراه آخرون على المجاز.

ومما يدل على صحة ما ذهبوا إليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ولا يم الرجل على سوم أخيه المسلم)، وهو حديث صحيح أورده المؤلف فيما بعد من هذا البا، والوم: طلب المتاع بالثمن؛ ومنه: استام على وساومته سواء. فإن قيل: كيف يستقيم لهم هذا القول، وقد باع النبي - صلى الله عليه وسلم - القدح والحلس فيمن يزيد؟ قيل: السوء المنهي في الحديث هو أن يتواضعا على الثمن، ورضي البائع فاستام عليه آخر قبل العقد، فمال إليه صاحب السلعة بعد أن كان عازما على البايعة مع الأول. وأما العرض على المناداة فإن ليس من المواضعة في شيء، بل هو بمنزلة التفتيش عمن يرغب فيه وبمثابة السؤال عن مقدار ما يبذله كل واحد من الراغبين من الثمن. وكذلك النهي عن الخطبة إنما هو قبل المواضعة على ما يريدون من النكاح، وأما قبل المواضعة فلا كراهة فيه، ويدل على هذا حديث فاطمة بنت قيس حين خطبها أبو الجهم ومعاوية، فاستشارت النبي - عليه السلام - فقال لها: (أنكحي أسامة). وإنما نهي عن الأمرين؛ لما فيهما من مظان العداوة والبغضاء، ويدعو إلى التنافر، وكانوا مأمورين أن يتعاملوا فيما بينهم بما تزيد منه الألفة، وتستحكم الموجة. وفيه: (ولا تناجشوا) هو تفاعل من النجش، هو أن تزايد في البيع ليقع غيرك، وليس من حاجتك، وأصل النجش: مدح الشيء وإطراؤه، وقيل: تنفير الناس من شيء إلى غيره. وفيه: (ولا يبع حاضر للباد): نهى الحضري أن يتولى البيع من قبل البدوى لما في ذلك من تبغيض ما أباح الله - تعالى - من الأرباح على أرباب التجارات، وسد أبواب المرافق على ذوى البياعات، والنهي عنه نهى كراهة. وقد روى عن جابر ممثل هذا الحديث وفيه: (دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض): وقد أورده المؤلف في هذا الباب. فإن قيل: أو ليس في ذلك ما يخالف معني قوله: (لا تلقو الركبان)؟ قيل: لا؛ لأن المتلقي بصدد أن يباشر الغش والخيانة في شراه ذلك أو يضيق على الناس في متاجرهم طرق الاكتساب، أو ينفرد بالشرى ليدخر المتاع؛ تربصا به الغلاء، وليس في بيع البدوى إذا انحدر به إلى السوق مظنة الخيانة؛ إذ لم يكن السعر ليخفي عليه مع كثر المساومين، وإن ابتغي الاستنصاح، لم يعدم من بيذل له النصح. وفيه: (ولا تصروا الإبل والغنم). صريت الشاة: إذا لم تحلبها أياما حتى اجتمع اللبن في ضرعها من قولهم: صربت الماء وصريته: إذا جمعته (92) وحسبته، والمعني: لا تفعلوا ذلك؛ فإنه خداع. أما قوله: (وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر):

هذا الحكم معمول به عند كثير من العلماء، ووجه الحديث عند من لم ير ذلك أن يقال: كان ذلك قبل تحريم الربا جوز في المعاملات أمثال ذلك، ثم نسخ. [2011]: ومنه: حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) (نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الحصاة .... الحديث) ... كان أهل الجاهلية يقولن في بياعاتهم: إذا نبذت إليك الحصاة، فقد وجب البيع وقد وجدت فيه عن بعضهم: أنهم كانوا يجعلون البيع لمن أصاب المبيع بحصاة. [2012]: ومنه: حديث ابن عمر: (نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع حبل الحبلة). الحبل - بالتحريك: الحمل، وكذلك الحبلة، والهاء أدخلت فيها للمبالغة، كما أدخلت في ضجعة وقعده، والمراد منه نتاج النتاج، وقد فسر في متن الحديث. [2013]: ومنه: حديث الآخر: (نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عسب الفحل). العسب: الكراء الذي يؤخذ على ضراب الفحل، والعسب - أيضا - ضرابه، ولعله الأصل فيه، ثم سمى الكراء الذي يؤخذ عليه باسمه؛ قال زهير يهجو قوما أخذوا غلاما له: ولولا عسبه لتركتموه ... وشر منيحة فحل معار [2015]: ومنه: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يباع فضل الماء ليباع - صلى الله عليه وسلم - به الكلأ).

رواه مسلم- أيضاً - في كتابه عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السالم - قال: (لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلا) وهذه الرواية أولى الروايتين؛ لأن بيع الماء ليباع به الكلأ غير منتظم في المعني على ما سنبينه، ورواه أبو داود في كتابه، ولفظه: (لا يمنع فضل الماء ليمنع فضل الكلا)، وفي كتاب البخاري، وفي كتاب البخاري: (لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا فضل الكلا). والذي ذكرناه عن كتاب مسلم (يمنع به الكلا) أقوم في المعني؛ لأن صاحب الماء أحق بمائه، فالذي يفضل من حاجته فهو فضل الماء ليس له في الكلا حق يختص به حتى يكون له فضل، والحديث في الرجل يحفر بئرا في وات من الأرض، ثم يمنع ماشية غيره أن ترد على ماء يفضل من حاجته، وقصده في ذلك أن يستبد بما حوله من المراعي في موات الأرض؛ لأن أصحاب المواشي إذا منعوا من الماء في أرض لا ماء بها غيره لم يتهيأ لهم الرعية بها فيتركونها؛ فيصير الكلأ ممنوعا بمنع الماء وقد اختلف العلماء في ذلك: فمنهم من ذهب إلى أن النهي عنه على التحريم. ومنهم من قال: يكره لصاحب الماء أن يمنع؛ لأنه من باب المعروف، ولو منعه فله ذلك ومنهم من قال: يجب عليه بذله بالعوض. والكلأ في موضعه هذا من فصيح الكلام الذي تهتز له أعطاف البليغ (93)؛ لأن العشب يستعمل في الرطب من النبات والحشيش في اليابس منه، والكلأ يعم النوعين. 2020: ومن الحسان: حديث ابن عمر - رضى الله عنهما - (نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الكالئ بالكالئ) أي بيع النسيئة بالنسيئة، والكالئ بالهمز النسيئة، قال الشاعر. وعينة كالكالئ الضمار

أي نقده كالنسيئة التي لا ترجي. [2021] ومنه: حديث عبد الله بن عمرو- رضي الله عنه-: (نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع العربان). فيه ثلاث لغات: العربان، والعربون، والعربون، بالتحريك، وقيل: بالألف مكان العين لغة فيها، والعامة تسميه: الربون، وهو الشيء الذي كان المشترى يدفعه إلى البائع على أنه إن أمضي البيع فمن الثمن، وإن تركه لم يرتجعه. وأما قوله: (نهى عن بيع العربان) أي عن البيع الذي يكون فيه العربان، ويشترط على ما كانوا يتعارفونه في الجاهلية. وأكثر العلماء على فساد ذلك؛ بناء على ما هو الأصل من فساد البيع المعلق بالشرط، وأخذ المال الباطل. فأما الحديث ففي إسناده انقطاع؛ ولهذا جوزه بعضهم. [2022] ومنه: حديث علي- رضي الله عنه-: (نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع المضطرين): ذهب بعضهم في معنى المضطر: إلى أنه المكره. وقال آخرون: هو الذي يعرض الشيء للبيع؛ لضرورة تلجئه إليه، لا يجد معها من البيع بدا؛ فيعلم به المشترى، فلا يزال يظهر الرغبة عنه ويماكسه في الثمن حتى يضطره إلى البيع بالبخس، وهذا أشبه، وعلى الأول فالنهي للتحريم، وعلى الثاني للكراهة. وفيه: (وبيع الغرر) والغرر: ما كان له ظاهر يغر، وباطن مجهول، والغرور ما رأيت له ظاهرا تحبه، وفيه باطن مكروه أو مجهول، وقد قيل: أصله من الغر، وهو الأثر الظاهر من الشيء. ومنه: غر الثوب، وهو الأثر يحصل من طيه، وغره غرورا كأنما طواه على غره.

وقال الأزهري: بيع الغرر ما كان على غير عهدة، ولا ثقة، ويدخل فيه البيوع التي لا يحيط بكنهها المتعاقدان. [2025] ومنه: حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-: (نهى رسول الله- صلي الله عليه وسلم- عن بيعين في بيعة صفقة واحدة). هذا الحديث يؤول من وجهين: أحدهما: أن يقول: بعتك عبدي هذا بكذا، على أن تبعني فرسك هذا بكذا، فإذا وجب لي بفرسك وجب لك غلامي. والآخر: أن يقول: بعتك هذا الثوب بعشرة نقدا، وبعشرين نسيئة، ولا يقطع [94] بأحد البيعتين. [2026] ومنه: حديث ابن عمر- رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يحل سلف وبيع الحديث). هو مثل أن يقول: (بعتك هذا الثوب بعشرة على أن تسلفني مائة درهم في متاع منك إلى سنة، وهو يقرب في المعنى من بيعتين في بيعة. وفيه: (ولا شرطان في بيع): خرج هذا القول مخرج البيان لما ذكرنا في النهي عن بيعتين في بيعة؛ وذلك مثل قولك: أبيعك هذا الثوب بعشرة على أن تؤديها نقدا، وبعشرين على أن تؤديها بعد سنة؛ فلهذا ذكر شرطين، وإلا فلا فرق بين أن يقترن البيع بشرط أو بشرطين أو شروط عن أكثر العلماء في فساد البيع إذا كان الشرط قادحا في تمام العقد وصحته. فأما إذا كان من مصلحة العقد أو من مقتضاه فلا؛ وذلك ما يقع فيه التلفظ به، والسكوت عنه بالنسبة إلى نفس العقد سواء. وفيه: (ولأربح ما لم يضمن).

المعنى: أن الربح في الشيء إنما يحل لمن يكون عليه الخسران؛ وذلك مثل الرجل يشترى ذات در ولم يقبضها، فليس له أن يسترد منافعها التي كانت بعد البيع وقبل القبض؛ لأنها كانت من ضمان البائع، لو هلكت في يده بغير ثمن. وفيه: (ولاتبع ما ليس عندك). قيل: المراد منه بيع العين لا بيع الصفة، وهو بيع السلم؛ وذلك من قبل ما يضمنه بيع الأعيان التي ليست عنده من [الفساد]. [2027] ومنه: قول ابن عمر- رضي الله عنه-: كنت أبيع الإبل بالنقيع). النقيع- بالنون-: مستنقع بالمدينة ينبت العشب فيه عند نضوبه. [2028] ومنه: حديث العداء بن خالد بن هوذة: (أنه أخرج كتابا ... الحديث). حديث العداء هو حديث محفوظ، وقد ذكره البخاري في كتابه وجه الاستدلال من غير سند؛ إذ لم يكن من شرطه. وفيه: (لا داء ولا خبثة ولا غائلة): أراد بالداء: النوع الذي يصح بوجوده الرد، والخبثة: ما كان خبيث الأصل لا يطيب للملاك كمن سبي من أهل العهد، يقال: هذا سبي خبيثه: إذا كان ممن يحرم [95] سبيه، وهذا سبي طيبة، إذا كان ممن يحل استرقاقه، وفسروا الغائلة بالسرقة والإباق. ومعني اللفظ: ما يختال مال المشترى من تدليس وحيلة. وفيه: (بيع المسلم المسلم) أي: باعه بيع المسلم المسلم. وليس في ذلك ما يدل على أن المسلم إذا بايع غير أهل ملته جاز له أن يعامله بما يتضمن غبنا أو غشا. وإنما قال ذلك على سبيل المبالغة في النظر له، فإن المسلم إذا بايع المسلم يرى له من النصح أكثر مما يرى لغيره. أو أراد بذلك بيان حال المسلمين، إذا تعاقدا، فإن من حق الدين وواجب النصيحة أن يصدق كل واحد منهما صاحبه، ويبين له ما خفي عليه. ويكون التقدير: باعه بيع المسلم المسلم، أو اشتراه شرى المسلم المسلم. فاكتفى بذكر أحد طرفي العقد عن الآخر.

[2029] ومنه حديث أنس- رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باع حلسا وقدحا) الحلس للبعير، وهو كساء رقيق يكون تحت البردعة، هذا هو الأصل فيه، وأحلاس البيوت: ما يبسط تحت حر الثياب. وفيه لغتان: حلس وحلس مثل شبه وشبه. وقد أشرنا إلى بيان ما هو مظنه التضاد مع هذا الحديث، من حديث أي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يسم المسلم على سوم أخيه. ومن الفصل الذي يتلوه (من الصحاح) [2030] حديث ابن عمر، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من ابتاع نخلا بعد أن تؤبر، فثمرتها للبائع ... الحديث) التأبير: تلقيح النخل، يقال: أبر فلان النخل، وأبرها إبارا وتأبيرا. أي: لقحها وأصلحها، فهي مأبورة ومؤبرة، وموبرة، وتأبر الفسيل: إذا قبل الإبار، وذلك بأن يؤخذ جف نخل ذكر، فيذر نثاره طلعه على ما تشقق من كفرى النخلة، فيكون ذلك- بإذن الله- أصلا في التلقيح، ومادة للثمرة. [2031] ومنه حديث جابر- رضي الله عنه- (أنه كان على جمل قد أعيا ... الحديث) أعيا: أي: أصابه العياء، فلم يستطع المشي، يقال: أعيا الرجل في المشي، وأعياه الله كلاهما بالألف. استدل بهذا الحديث من لا يرى الشرط الواحد مخلا بالبيع. ووجه الحديث عند من لا يرى ذلك، أن المساومة التي كانت من النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تكن على حقيقة التبايع، وإنما أراد - صلى الله عليه وسلم - أن يوليه معروفا، ولم ير أن يخصه بذلك، من بين نظرائه، فيدخل [46 أ] عليهم داخل، وكان يراعى ذلك كرما وحياء، ولطفا بالمؤمنين، ولم يجد ما يسوى به بينهم في العطاء، فاتخذ المساومة ذريعة إليه، ويدل على صحة هذا التأويل

ما في بعض طرق هذا الحديث أنه قال: (تراني إنما ما كستك لأذهب بجملك، خذ جملك وثمنه، فهما لك) وفي كتاب (مسلم): (أتراني ما كستك لآخذ جملك؟ خذ جملك ودراهمك، فهو لك). وإن قدر أن القصد فيه كان حقيقة البيع، فالوجه فيه: أن المساومة التي كانت من النبي - صلى الله عليه وسلم - وجدناها خالية عن ذكر الشرط وجرى البيع عن جابر على ما كانت المساومة عليه وكان الاستثناء بعد وجوب البيع مفصولا عنه. وفي بعض طرق هذا الحديث عن جابر أنه قال: (فإن لرجل على أوقية ذهب، فهو لك بها، قال: قد أخذته، فتبلغ عليه إلى المدينة) وفي كتاب مسلم (قد أخذته) فتبلغ به إلى المدينة) وسياق هذا الحديث يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بدأه بذلك. وفي بعض طرقه (فأفقرنى ظهره إلى المدينة) والإفقار: إعارة الظهر للركوب، وقد وجدنا في بعض ألفاظ هذا الحديث، مع صحته، اختلافا بينا، لا يكاد يمكننا الجمع بين مختلفاتها، فمن ذلك: ما روى عنه: (فبعت منه خمس أوراق) ومنه، أنه قال: (اشترى منى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعيرا بوقتين وردهم، أو درهمين) ومنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أعطه أوقية من ذهب وزده) وكل هذه الراويات في كتاب مسلم، ولاشك أن الاختلاف فيه إنما وقع ممن لم يضبطه من الرواة، ولعل الاستثناء فيه من قبيل ما لم يضبط. هذا وقد استغنينا في هذا الحديث عن هذا القول وشواكله بما وجدنا فيه من الدليل على أن المبيع لم يكن مقبوضا، فإن ثبت أن قد كان هناك شرط فإنه كان على بعيره الذي ما زالت عنه اليد، بل كان باقيا على ملكه. [2032] ومنه حديث عائشة- رضي الله عنها- (جاءت بريرة، فقالت: إني كاتبت على تسع أوراق، في كل عام وقية .. الحديث) استدل بهذا الحديث من زعم أن البيع إذا اقترن بشرط، فإنه جائز، والشرط باطل، والحديث على ما في كتاب المصابيح لا حجة فيه؛ لأن اشتراط الولاء في هذا الحديث لم يقع في نفس العقد، وإنما جاءت بريرة تستعين عائشة في كتابتها، فقالت: (إن أحب أهلك أن أعدها لهم عدة واحدة) [46 ب] أي: أحصيها لهم دفعة واحدة (ويكون الولاء لي فعلت) ظنا منها أن الولاء إنما يتقل إليها باشتراط من قبلهم، فلما أخبروا بما تريد عائشة، أبوا ذلك، وفي بعض طرق حديث بريرة، أن أهلها قالوا: (إن شاءت أن تحتسب عليك، فلتفعل، ويكون ولاؤك لنا) وقولهم هذا ليس من الشرط في شيء؛ لأنها إذا احتسبت بما تعنيها به من مال الكتابة- كان الولاء لأهلها؛ لأن ولاء المكاتب لمواليه، فأبت عائشة

إلا الشراء، فرضوا بالبيع على أن تجعل الولاء لهم؛ ظنا منهم أن ذلك يثبت بالاشتراط، فلما أخبرت عائشة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحديثهم، قال: (لا يمنعك ذلك، اشتريها فأعتقيها، فإنما الولاء لمن أعتق) فكانت مراجعتهم هذه في القول قبل الشروع في المبايعة، ولم يذكر في هذا الحديث أن البيع كان مشروطا بذلك الشرط، بل ذكر في الحديث ما كانوا يراجعون به عائشة دون المساومة، فأما عند وجوب البيع فلا، هذا هو الذي يدل عليه هذا الحديث، نعم وقد روى البخاري من غير وجه في كتابه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة: (ابتاعيها فأعتقيها، فاشترطي لهم الولاء؛ فإن الولاء لمن أعتق ...) والحديث على هذا الوجه يدل على قول ذلك القائل لو سلم من المعاني المنافية لما زعم، وذلك أم حمله على حقيقة الفعل غير جائز، لأنه نهى عنه وسماه باطلا، وحمله على معنى التعمية عليهم أبعد وأبعد، ومعاذ الإله أن يتوهم ممن طهره الله عن شوائب الخيانة، وأظهر به أمور الديانة أن يصدر عنه قول يتضمن شيئا من التغرير، ومن هذا الوجه أنكر بعض أهل العلم هذا اللفظ، وأبي أن يكون من حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - غير أن الراوية إذا صحت، فعلينا أن نطلب المخرج منها، لا على وجه الرد والنكير، ورأى بعضهم أن يتأول (لهم) بمعنى (عليهم) واستشهد بقوله- سبحانه- {أولئك لهم اللعنة} وهذا التأويل يعتوره الوهن والخلل من وجهين: أحدهما: أن الاستشهاد الذي جاء به غير ملائم لما استشهد عليه، وذلك أن لهم وعليهم نقيضان في الاشتراط، ولا كذلك في اللعنة، فإنها من حيث المعنى فيها سيان. ثم إنا نرى قوله- سبحانه- {أولئك لهم اللعنة} أبلغ في المعني من (عليهم اللعنة)؛ لأن اللام تفيد من المعني أن اللعنة لازمة لهم في عاجل الأمر وآجله، لا تنفك عنهم، وأن ذلك حظهم في الدارين، فلا حاجة بنا إذا أن نقول في تأويله: أولئك عليهم اللعنة، والظاهر أبلغ [47 أ] من التأويل، ثم إن أمثال ذلك من التقديرات إنما يستقيم في موضع تلجيء إليه الضرورة. الوجه الآخر: أن الاشتراط عليهم مع قوله (فإن الولاء لمن أعتق) كلام لا طائل تحته مع ما فيه من مضادة ما حكم به الرسول، وقطع فيه القول، ومن إثبات ما نفاه - صلى الله عليه وسلم - والوجه فيه أن يقال: إن يقال: إن لم يكن أخطأ سمع الناقل في قوله: (اشترطي لهم الولاء، وفيه مظنة للصواب، فإن قوله: (فإن الولاء لمن أعتق) يشهد له من طريق المناسبة بين القولين، فالتأويل أن يقال يحتمل أنه قال ذلك على سبيل المعتبة، حيث روجع كرة بعد أخرى، وقد كان بين حكم الله فيه، وكان المراد منه النهي، وإن وجد منه على صيغة الأمر، كقوله- سبحانه: {اعملوا ما شئتم} وقد قال هذا بعض أهل العلم، ويحتمل أن هذا القول خرج مخرج قطع القول بالشيء، وإسقاط الاعتبار عن قول من يروم خلافه، فكأنه أراد أن يقول: اشترطي لهم الولاء أو لا تشترطي، فاختصر الكلام استغناء بما نادي به في كتاب الله) ومعنى قوله: (في كتاب الله) أي: حكم الله الذي تعبد به عباده في كتابه، وجملة ذلك طاعة

الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما يأمر به وينهي عنه، وإنما عدلنا في شرح هذا الحديث عن لفظ الكتاب إلى غير ما فيه؛ لأن الكل حديث واحد، وإن اختلف طرقه. وقد أخرج البخاري هذا الحديث من طرق شتى، وفي عدة منها: (واشترطي لهم الولاء) فرأينا إهمال بعضه مخلا بالبعض، وتركنا تفسير الأوقية لما سبق فيها من القول في كتاب الزكاة، والأوقية- على ما يأتي في الأحاديث أربعون درهما، وقد دل على أن المراد منها الدراهم قول عائشة: (إن أحب أهلك أن أعدها لهم عدة واحدة) لأن العد إنما يستعمل في الدراهم، فإنها تنفق معدودة، وفي الحديث (في كل عام وقية) هي لغة قليلة في الأوقية. [2034] ومنه حديثه الآخر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (الخراج بالضمان) الخراج: ما يخرج من الأرض ومن كرى الحيوان ونحو ذلك: وكذلك الخرج، ويقع الخراج على الضريبة وعلى الغلة، وعلى مال الفيء وعلى الجزية، وذكر أبو عبيد أن الخراج في هذا الحديث غلة العبد [47 ب] والمراد منه: أن المشترى إذا عثر على عيب في العبد، وكان قد استعمله ثم رده، فالغلة طيبة له؛ لأن العبد حين استغله كان في ضمانه فلو هلك هلك من ماله، لا من مال البائع، فهذا بذاك، وقد أشرنا فيما قبل إلى هذا المعنى، وفسره بعضهم فقال: إنما يخرج من مال البائع، فهو بإزاء ما سقط عنه من ضمان المبيع. قول الفقهاء فيه مختلف، فمنهم من يرى ذلك في الدار والدابة والعبد، ومنهم من يراه في جميع ما حدث عن المبيع في ملك المشترى، ومنهم من قال غير ذلك، وهذا الحديث، وإن كان ضعيفا عند علماء النقل، فإنه معمول به عند الفقهاء.

باب السلم والرهن

ومن باب السلم والرهن [2040] حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الظهر يركب بنفقته، إذا كان مرهونا .. الحديث) الظهر: الإبل القوى الظهر، يطلق على الواحد والجمع، ومنه الحديث: (استأذنا في نحر ظهرنا) ذهب بعض أهل العلم في معناه إلى أن للمرتهن أن ينتفع من الرهن بالحلب والركوب، ومذهب أكثر العلماء على أن منفعة الرهن للراهن؛ لكونها تابعة للملك، فأما من لا يرى استدامة القبض شرطا في الرهن؛ فإنه يرى أن الحكم في الركوب والحلب منصرف إلى الراهن الذي هو مالك الرقبة، وأما من يرى استدامة القبض شرطا في الرهن، وأن للمرتهن احتباس الشيء المرهون، فقد قال المعنى بالذي يركب ويحلب هو المرتهن، وذكر فيه الحديث عن أبي هريرة- رضي الله عنه- وفيه: (إذا كانت الدابة وهنا، فعلى المرتهن علفها، وهو كذلك في رواية هشيم عن زكريا عن الشعبي، عن أبي هريرة، ونجعل حكم هذا الحديث من جملة ما نسخ من الآيات التي نزلت في تحريم الربا من سورة البقرة، وحجج الفريقين محررة في كتبهما، وقصدنا بيان متن الحديث وإيراد ما يحتمله من التأويل. (ومن الحسان) [2041] حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يغلق الرهن الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه) يقال لكل شيء نشب في شيء فلزمه: قد غلق، وهو ضد الفكاك.

باب الاحتكار

قال فهر: وفارقتك برهن لا فكاك له .... يوم الوداع، وأمسى الرهن قد غلقا يقال: غلقت الرهن: أوجبته فغلق، أي: وجب للمرتهن، وكان أهل الجاهلية يرون الرهن مستحقا للمرتهن، إذا لم يفتكه الراهن في الوقت المشروط بأداء ما رهن فيه، فلما جاء الله بالإسلام/ [48 أ] أبطل ذلك. والمراد من الرهن الأول الذي أسند إليه الفعل المصدر، ومن الثاني الشيء المرهون و (غنمه) زيادته ونماؤه، و (غرمه): أداء ما يفك به الرهن، على هذا فسر، وقد فسر: (وعليه غرمه) من يرى الرهن غير مضمون، بأن عليه خسرانه إذا هلك. وهذا الحديث وجدناه في الكتاب موصولا مسندا إلى أبي هريرة، والظاهر أن ذلك ألحق به، فإن الصحيح فيه أنه من مراسيل سعيد بن المسيب، وعلى هذا رواه أبو داواد في كتابه، ولم يوصله غير ابن أبى أنيسة. [2042] ومنه حديث ابن عمر- رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (المكيال مكيال أهل المدينة والميزان ميزان أهل مكة) المراد منه: أن العبرة [فيما] أوجبه الشرع مكيلا بمكيال أهل المدينة. وقد كانوا أصحاب زروع ونخيل، يتعاملون بالمكاييل، وليس ذلك في عموم ما يكال، بل في القسم المذكور مثل: صدقة الفطر، وما أوجبه الشرع من الإطعام في الكفارات ونحو ذلك، وكذلك في العبرة بميزان أهل مكة، فيما ورد به التوقيف من نصب الذهب ونحوه، فإنهم كانوا أصحاب تجارات. [2043] ومنه حديث ابن عباس- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحاب الكيل والميزان .. الحديث) الصحيح في إسناد هذا الحديث أنه موقوف على ابن عباس، ولم يرفعه غير الحسين ابن قيس، وهو ضعيف. ومن باب الاحتكار (من الصحاح) [2044] حديث معمر بن عبد الله بن نضلة العدوى- رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من

احتكر فهو خاطئ) الاحتكار: جمع الطعام وحبسه يتربص به الغلاء، وهو الحكرة- بالضم- وقوله: (خاطئ) أي: آثم. يقال: خطئ، يخطأ، خطا، وخطاة على (فعلة): إذا تعمد الذنب. ومن ذلك قوله تعالى: {إن قتلهم كان خطئا كبيرا} أي: ذنبا كبيرا. والاسم الخطيئة على (فعيلة). ولك أن تشدد الياء. وأخطأ: إذا تعاطي الخطأ، وهو نقيض الصواب، من غير تعمد. وقد اختلف أهل العلم في الجنس الذي يكون فيه الاحتكار، والأكثرون على أنه في الطعام، وهذا القول هو الذي ينصره الوضع اللغوي. واختلفوا فيما يستغله من ضيعته، أو يجلبه من بلد إلى بلد، فيتربص به زيادة السعر، هل يصير به آثما؟ فالأكثرون علة أنه خارج عن القسم المنهي عنه، ويرون القسم المنهي (48 ب) ما يعترض فيه سوق المسلمين، ويدخل الضرر عليهم في أسعارهم. [2045] ومنه حديث عمر- رضي الله عنه- كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله، لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة .. الحديث) بنو النضير: حي من يهود المدينة، صالحوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد قدمته على المدينة، أن لا يكونوا له ولا عليه، فلما وقعت وقعة أحد طارت في رءوسهم نعرة الخلاف، ومناهم المنافقون، فنكثوا العهد، وسار زعميهم الخبيث كعب بن الأشرف في رجال منهم إلى أهل مكة، فحالفوهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - محمد بن مسلمة الأنصاري في نفر الأنفار إليه ليقتله، فقتله ليلا، فصبحهم بالكتائب، فحاصرهم حتى قذف الله الرعب في قلوبهم، وأيسوا من نصر أجلب عليهم البلاء من المنافقين، بإطماعهم في النصر، فطلبوا الصلح فأبي عليهم إلا الجلاء، فجلوا إلى أريحا وأذرعات من الشام وإلى خيبر، إلا طائفة منهم لحقت بالحيرة، فأفاء الله أموالهم على رسوله. أي: جعلها فيئا لهم، والفيء: الغنيمة التي لا يلحق في حيازتها مشقة، أخذ من الفيء والفيئة وهو الرجوع. ومعنى ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خص من ذلك بشيء لم يكن لغيره فكان له أن يستبد به دون غيره، وكان هذا القول من عمر- رضي الله عنه- حين تقاول علي والعباس- رضي الله عنهما- فيما تقاولا من مال الفيء. وفيه: (ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع): اسم لجمع الخيل، وتعلق هذا الحديث بهذا الباب هو: أن حبس الطعام لنفقة العيال إلى تمام السنة ليس من الاحتكار في شيء؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك. [2047] ومنه حديث أنس- رضي الله عنه-: (غلا السعر على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ... الحديث) سمى سعرا تشبيها باستعار النار؛ لأن سعر السوق يوصف بالارتفاع، وسعرت وأسعرت، أي: فرضت وقدرت

الإفلاس والإنظار

سعرًا. وقوله: (الله المسعر) أي: أن ذلك إلى الله، وقد فسر الكلام بما بعده، القول بالقابض الباسط الرازق، وفي ذلك أشد النهي عن التسعير؛ لأن ما تولاه الله بنفسه، ولم يكله إلى العباد، لم يكن لهم أن يتكلفوا فيه، ولو فعلوا لم يزدهم ذلك إلا ضيقا وشدة، عقوبة لهم على معارضة الله في قضاياه- سبحانه- وقوله: (وإني لأرجو أن ألقي ربي ...) إلى تمام الحديث، دليل على أن الذي يسعى في الحطيط في أسعار المسلمين، من غير رضي منهم- سلك مسلك الظلم. باب الإفلاس والإنظار (من الصحاح) [2054] حديث أبي رافع- رضي الله عنه-: (استسلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكرا .. الحديث) البكر: الفتي من الإبل، والأنثى بكرة، ويجمع على بكار وبكارة.

وفيه: (إلا جملا رباعيا) الرباعية: مثل الثمانية، السن التي بين الثنية والناب، يقال للذي يلقي رباعيته: رباع، مثل ثمان، فإذا نصبت أتممت قلت: ركبت حمارا رباعيا، ويقال ذلك لذوات الخف في السنة السابعة، ولم ير جمع من العلماء العمل بهذا الحديث؛ لحديث عبد الله بن عمر: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، ثم لعدم وجود المثل فيه، ورأوا الوجه في حديث أبي رافع- رضي الله عنه- أن ذلك كان قبل تحريم الربا، على ما سبق القول فيه، وعلى هذا يستتم الجمع بين الحديثين. [2056] ومنه حديث أبى هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع) أتبع بفلان، أي: أحيل عليه، ومنه التبيع، وهو الذي لك عليه مال. وقوله: (إذا أتبع أحدكم ..) الحديث بمثابة قولك: إذا أحيل أحدكم على مليء فليحتل، أي: ليقبل الحوالة، وملؤ الرجل: صار ملئا، بالهمز، أي ثقة، فهو غنى ملييء بين الملاءة والملاء، ممدوان. [2057] ومنه حديث كعب بن مالك، أنه تقاضي ابن أبى حدود ... الحديث) تقاضى، أي: تقاضاه دينه، يقال: اقتضى دينه وتقاضاه بمعنى. وابن أبي حدرد هو: عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي، وأبوه: أبو حدرد- أيضا- من الصحابة، وسامه: سلامة، وقيل: عبد، وقيل: عبيد. [2058] ومنه حديث سلمة بن الأكوع، قال: (كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ أتى بجنازة، فقالوا: صل عليها ... الحديث) امتناع النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة على المديون الذي لم يترك وفاء محتمل لوجهين.

أحدهما: التحذير عن الدين. والآخر: أنه كره أن يكون دعاؤه للميت موقوفا غير متلقي بالإجابة، وذلك أنه إذا سأل له المغفرة والتجاوز عن الذنوب، حال دونه حقوق الناس، وهذا أشبه، لأنه كان يفعل ذلك في أول الأمر، فلما فتح الله عليه الفتوح، كان يتولى الأداء عنه من مال الله الذي آتاه، ويصلي عليه، وكان يقول: (أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ..) الحديث أورده المؤلف في هذا الباب من رواية أبي هريرة. [2066] ومنه: ما روى أن معاذا كان يدان ... الحديث) يدان- بتشديد الدال، فهو (افتعل) من: دان فلان يدين دينا: إذا استقرض وصار عليه دين، وهو دائن.

قال الشاعر: ندين ويقضي الله عنا، وقد نرى .... مصارع قوم لا يدينون ضيعا وهذا الحديث على ما فيه من الإرسال غير مستقيم المعني؛ لما فيه من ذكر بيع النبي - صلى الله عليه وسلم - مال معاذ من غير أن [حبسه] أو كلفه ذلك، أو طالبه بالأداء فامتنع، والذي يعرف من مذاهب زعماء النحل فيمن أحاطت به الديون، وطولب بها، وكان له مال، أنه يحبس بها حتى يبيع ماله فيها، وليس للحاكم أن يبيع شيئا من ماله بغير إذنه، أو يأمره الحاكم ببيع ماله [49 ب] فإن امتنع باعه الحاكم فيها، واستثنى بعضهم مما يباع من ماله داره التي لا غني به عنها في السكني وخادمه. والحديث لا يدل على شيء من هذه الأقسام، بل يدافعها، ولم يكن معاذ مع فضله وعلمه أن يمتنع من أمر يحكم به عليه نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يحق أن يظن به ذلك، ولا بأحد ممن نال شرف الصحبة، قال الله تعالي: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم}. [2067] ومنه حديث الشريد بن سويد الثقفي- رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته) اللي: المطل، من قولك: لويت حقه: إذا دفعته به. والواجد: الغنى، من قولهم: وجد في المال وجدا ووجدا ووجدا، وجدة، أي: استغني، ويصح أن تكون من: وجد مطلوبه يجده وجودا، والمراد منه: الذي يجد ما يقضي به دينه، والأول أوثق لمطابقة الحديث الآخر: (مطل الغني ظلم) والمراد بتحليل العرض: ما يستوجبه من الملام، ويتوجه عليه من النسبة إلى الظلم، والتعيير بأكل أموال الناس بالباطل، وبتحليل العقوبة: حبسه دون الإلظاظ والامتناع. [2068] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- لعلي- رضي الله عنه-: (فك الله رهانك من النار، كما فككت رهان أخيك المسلم) فك الرهن: تخليصه، وفك الرقبة: عتقها. وفك الرقبة: عتقها. وفك الإنسان نفسه: أن يسعى فيما يعتقها من عذاب الله، والرهان: جمع رهن، والمراد من قوله هذا: هو أن

نفس المديون مرهونة بعد الموت بدينه، كما هي في الدنيا محبوسة به ومنه الحديث: (صاحب الدين مأسور بدينه) والمأسور هو الذي يشد بالإسار وهو القد، وكانوا يشدونه به، فسمي كل أخيذ أسيرا وإن لم يشد بالقد، يقال: أسرت الرجل أسرا وإسارا، فهو أسير ومأسور، والإنسان مرهون بعمله، قال الله تعالي: {كل نفس بما كسبت رهينة} وقال: {كل امريء بما كسب رهين}، أي: مقيم في جزاء ما قدم من عمله، فلما سعى في تخليص أخيه المسلم عما كان مأسورا به من الدين؛ دعا له بتخليص الله نفسه عما تكون مرهونة به من الأعمال. ولعله ذكر الرهان بلفظ الجمع تنبيها على أن كل جزء من الإنسان رهين بما [كسب] أو لأنه اجترح الآثام شيئا بعد شيء، فرهن بها نفسه رهناً بعد رهن.

باب الشركة والوكالة

ومن باب الشركة والوكالة (من الصحاح) [2073] قوله - صلى الله عليه وسلم - للأنصار، في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-: (لا تكفونا المئونة ونشرككم في الثمرة) المئونة: فعولة. وقيل مفعلة، من الأين، وهو التعب والشدة، فقوله: (لا) رد لما التمسوه [50/أ] من قسمه الأموال، وقوله: (تكفوننا المئونة) خبر معناه الأمر: أي: اكفونا تعب القيام بتأبير النخل وسقيها وإصلاحها، ونشرككم في ثمرتها، وهذا باب عظيم في استعمال الرفق وحسن الخلق مع الخلق، فأنه أراد بهذا القول تسهيل الأمر على الأنصار وأن لا يخرجوا من أموالهم التي بها قيام أمرهم، فصرفهم عن ذلك بما لطف من الكلام، على وجه يحسبه السامع أنه يبتغي به التخفيف عن نفسه وأسرته من المهاجرين، وهذا هو اللطف التام، والكرم المحض. [2076] ومنه حديثه الآخر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك) أي: لا تقابله بخيانة مثل خيانته، والذي يجحد حقه فوجد مثل حقه من مال الجاحد، فله أن يأخذه بما له عليه، ولا يعد ذلك خيانة؛ لأن الخائن هو الذي يأخذ مال غيره ظلما وعدوانا، وهذا لم يأخذه ظلما، وإنما أخذه قصاصا، أو استدراكاً لظلامته.

الغضب والعارية

باب الغضب والعارية (من الصحاح) [2079] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر- رضي الله عنه-: (أيحب أحدكم أن يأتي مشربته) المشربة- بفتح الراء- الغرفة، وكذلك بضمها، وقد وجدت في كتاب الحافظ أبي موسى، الموسوم بالمجموع المغيث، في باب السين مع الراء: المسربة، بضم الراء وفتحها: مثل الصفة بين يدي الغرفة، وقد جاء في بعض الأخبار (دخل مسربته) وقد تصحفت بالمشربة، إلى هنا لفظ كتابه. وهذا شيء لم نجد له فيما اطلعنا عليه من كتب اللغة- أصلا، وإنما المسربة- بالسين المهملة وضم الراء- الشعر المستدق الذي يأخذ من الصدر إلى السرة، وبفتح الراء: واحدة المسارب، وهى: المراعى. وأرى أن قصده كان أن يبين أن المشربة- بالشين المعجمة- قد تصفحت بالسين المهملة، فجرى فيه غلط من سمع ناقل، أو قلم ناسخ، وإن يك غير ذلك، فهو سهو. ولم أستجز إيراد ذلك إلا بعد أن اطلعت على ادعاء بعض الناس أن الصواب فيه السين المهملة، حتى أثبته على حاشية المصابيح، اعتمادا علة نقله، فلم أر أن أعبر عن موضع الحاجة بغير بيان، هذا مع اعترافي بأنه- رحمه الله- هو الطود الأشم، والمعلم الراسخ في هذا العلم، ونحن نروى عن حليته، ونروى عن بقيته. [2080] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس- رضي الله عنه-: (غارت أمكم). غارت من الغيرة، أراد أن الغيرة حملت أمكم على صنيعها ذلك، وإنما قال: (أمكم) لأنه خاطب به المؤمنين، وقد تبين لنا من غير هذا الطريق أن التي ضربت يد الخادم هي عائشة- رضي الله عنها-

وهذا الحديث [50 ب] لا تعلق له بالغضب ولا بالعارية، وإنما كان من حقه أن يورد في باب ضمان المتلفات. وقد روى هذا الحديث عن انس، من غير هذا الوجه، ولفظه: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعار قصعة، فضاعت فضمنها لهم) وهو حديث غير محفوظ. [2082] ومنه قول جابر- رضي الله عنه- في حديثه: (وقد آضت الشمس) أي: عادت لحالها الأولى. ومنه قولهم في الكلام: أيضا: أي: رجع وعاد إليه كرة أخرى. وفيه: (حتى رأيت صاحب المحجن يجر قصبه في النار) المحجن: كالصولجان، وقد ذكروا القصب بضم القاف وسكون الصاد- المعى. وفيه: (ولم يدعها تأكل من خشاش الأرض) الخشاش- بكسر الخاء- الحشرات، وقد يفتح. [2083] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس: (وغن وجدناه لبحرا) (إن) هى المخففة من الثقيلة، والضمير من (وجدناه) راجع إلى الفرس المستعار، واسمه المندوب. أي: المطلوب، ويقال للفرس: إنه لبحر، أي: واسع الجري، تشبيها له في سعة الجري بالبحر الذي هو في غاية السعة.

(ومن الحسان) [2048] حديث سعيد بن زيد بن نفيل العدوى- رضي الله عنه- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من أحيا أرضا ميتة فهي له ... الحديث) الأرض الميتة: هي الخراب التي لا توجد للقوة النامية بها أثر، ويقال لها: الموات. والمراد منها الأرض التي لا مالك لها من الآدميين، ولا ينتفع بها أحد. وإحياؤها إنما يكون بإجراء الماء عليها وبحفرها وتحجيرها ونحو ذلك مما تعود به إلى حال العمارة. وقد ذهب أكثر العلماء إلى من أحياها: ملكها بالإحياء، ولم يشترطوا فيه إذن السلطان، شرط ذلك أبو حنيفة- رحمه الله- لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (عادي الأرض- ولرسوله، ثم هي لكم مني). وفيه: (وليس لعرق ظالم حق) وجدت بعض الحفاظ يرويه على الإضافة. والحديث على ما فسره علماء الغريب على الصفة، بالتنوين فيهما، والعرق الظالم هو المشهور عند أهل اللغة، [وهي] مثل قولهم: ليل نائم. أي: ينام فيه النائمون وقد قال في تفسيره الجمهور: هو أن يجييء الرجل إلى أرض قد أحياها غيره، فيغرس فيها أو يرزع؛ ليستوجب بها الأرض. وقال الخطابي قد تفسيره: هو أن يغرس الرجل في غير أرضه، بغير إذن صاحبها. وهذا وإن كان قريبا- فالأول أصح وأوجه؛ لما نقلناه من أصحاب الغريب ومن أهل اللغة، ثم للمناسبة التي بين الفصلين [51/أ]. والذي قاله الخطابي من المعلوم الذي لم يكونوا مفتقرين إلى معرفته. وفي كتاب المصابيح بعد هذا الحديث: مرسل. وهذا من العجب العجاب أن يسند الحديث إلى الصحابي، ثم يقال: مرسل، وسعيد بن زيد بن نفيل هو الراوي لهذا الحديث، وهو أحد العشرة المبشرة. ومنه روى هذا الحديث في كتابي أبي داود وأبي عيسى، فلعل أحد الأمرين من المؤلف: إما الإسناد وإما الإرسال، والآخر من غيره، فإن هذا الحديث قد روى عن عروة مرسلا ومتصلا عنه عن سعيد، وقد ذكر الترمذي الإرسال أيضا. والجمع بين الأمرين في كتب الحديث المؤلفة لبيان السند والرواية هو المطلوب، وأما في مثل هذا الموضع على هذه الصيغة، فلا.

[2086] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عمران بن حصين- رضي الله عنه-: (ولا شغار في الإسلام) الشغار- بكسر الشين- نكاح كان في الجاهلية، وهو أن يقول الرجل لآخر: زوجني ابنتك أو أختك، على أن أزوجك أختي أو ابنتي، على أن صداق كل [واحدة] منهما بضع الأخرى، كأنهما رفعا المهر، وأخليا البضع منه. والأصل فيه شغر الكلب: إذا رفع إحدى رجليه ليبول. وشغر البلد: إذا خلا من الناس. ومن العلماء من أبطل هذا النكاح، ومنهم من قال: هو جائز، ولكل واحد منهما مهر المثل، وهو مذهب أبي حنيفة وصاحبيه، وإليه ذهب سفيان الثوري، ومعني النهي عندهم: النهى عن استحلال البضع بغير صداق. [2087] ومنه: حديث يزيد بن عبد الله الكندي أبي السائب- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يأخذ أحدكم عصا أخيه لاعبا جادا .. الحديث) المعني: أنه يأخذه على سبيل المداعبة، وقصده في ذلك أن يذهب به جدا، فهو لاعب على ما يظهر، جاد [على ما] يسره، وإنما ضرب المثل بالعصا؛ لأنه من الأشياء التافهة التي لا يكون لها كثير خطر عند صاحبها، ليعلم أن ما كان فوقه فهو بهذا المعنى أحق وأجدر. [2088] ومنه حديث سمرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من وجد عين ماله عند رجل فهو أحق به ... الحديث) المراد منه: ما غضب أو سرق، أو ضاع من الأموال.

[2091] ومنه: حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الرجل جبار، والنار جبار) الجبار: الهدر. يقال: ذهب دمه جباراً، أي: هدراً. ومعنى قوله: (الرجل جبار) أن الدابة إذا أصابت برجلها، فذلك هدر، لا ضمان فيه، إذا كان صاحبها راكباً عليها، أو قائداً لها، وأراد بالنار: الحريق التي تقع في المواضع، فإن الذي أشعلها [51/ ب] أولاً لحاجته لا ضمان عليه. [2093] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-: (ولا يتخذ خبنة) خبنت الطعام: إذا عينته واستعددته للشدة، والخبنة: ما تحمله في حضنك. وقيل: خبنة الرجل: ذلاذل ثوبه [المرقوع] من قولهم: خبنت الثوب: إذا عطفته، وحمل بعضهم معنى هذا الحديث وحديث سمرة الذي قبله: (إذا أتى أحدكم على ماشيته) وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده الذي يتلو هذا الحديث أن للمحتاج أن يفعل ذلك، وحملها بعضهم على المضطر، والذي عليه أكثر العلماء، هو أنه- وإن فعل ذلك اضطراراً، فإنه ضامن، وهو السبيل في تأويل تلك الأحاديث، فإنها لا تقاوم النصوص التي وردت في تحريم مال المسلم.

[2096] ومنه: حديث صفوان بن أمية- رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعار منه أدرعا يوم حنين ... الحديث) اختلف العلماء في العارية: هل هي مضمونة أم غير مضمونة؟ وقد سبقهم الصحابة بالخلاف فيها، ممن لم ير فيها الضمان على وابن مسعود- رضي الله عنهما- وقد قضى بذلك شريح ثمانين سنة بالكوفة. وتأويل حديث صفوان عند من لا يرى الضمان فيها: أنه أراد بالمضمونة ضمان الرد لا ضمان العين، على أن هذا الحديث قد روى من غير طريق، ولم يذكر (مضمونة) في بعضها، وفي بعضها: (بل عارية مؤداة) وقد وردت في بعض الروايات: (بل عارية ومضمونة) وهذه الرواية تدل على أن الضمان وصف زائد على العارية. والوجه في ذلك أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - تلفظ بها تسكيناً لما به وتألفاً له، فإنه كان يومئذ مشركاً، وقد أخذ بمجامع قبله الحمية الجاهلية، هذا ونحن قصدنا بيان تأويل الحديث عند من لا يرى الضمان فيها، فأما أدلة المختلفين فيها، فإن لهم كتباً قد أفردت لها- والعارية تشدد ياؤها، وذكر أهل اللغة أنها منسوبة إلى العار؛ لأنهم رأوا طلبها عاراً وعيباً. قال الشاعر: إنما أنفسنا عارية .... والعوارى قصار أن ترد والعارة: مثل العارية، وقد ذكر بعض أهل العلم في اشتقاقها، إنها من التعاور، وهو التداول ولم يبعد، وقد جاء في كلامهم المستعار بمعنى المتعاور، وقد ذكر فيها بعض الفقهاء أن العرية والعارية يتماثلان في الاشتقاق، ولم يصب فيه، فإن العرية من باب الناقص، والعارية من الأجوف. [2097] ومنه: حديث أبي أمامة رضي اله عنه سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (العارية مؤداة .. الحديث) أي: تؤدى إلى أصحابها، ثم إن العلماء يفترقون في تأويله على حسب اختلافهم في الضمان [52/ أ] فالقائل بالضمان، يقول: تؤدى عيناً حال القيام، وقيمة عند التلف، وفائدة التأدية عند من [لا] يرى خلافه إلزام المستعير مؤنة ردها إلى مالكها. وفيه: (والمنحة مردودة) المنحة: ما يمنحه الرجل صاحبه من ذات در ليشرب درها، أو شجرة ليأكل ثمرها، أو أرض ليزرعها، وقد سبق تفسيرها، وفي قوله: (مردودة) إعلام بأنها تتضمن تمليك المنفعة لا تمليك الرقبة، وفيه: (والزعيم غارم) أي: الكفيل ملزم نفسه ما ضمنه، والغرم: أداء الشيء يلزمه، وقد فسرناه فيما قبل.

باب الشفعة

ومن باب الشفعة [2098] حديث جابر- رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الشفعة فيما لم يقم .. الحديث) الشفع: ضم الشيء إلى مثله، والشفعة: هي طلب مبيع في شركته أو جواره بما بيع به ليضمه إلى ملكه، وهذا الحديث أخرجه البخاري في كتابه، ولفظه: (قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة فيما لم يقسم) ولم يخرج مسلم هذا الحديث، وإنما أخرج حديثه الآخر اذي يتلو هذا الحديث، وكان على المؤلف لما أورد الحديث في القسم الذي هو مما أخرجه الشيخان أو أحدهما أن لا يعدل في اللفظ عن لفظ كتاب البخاري، فإن بين الصيغتين [بون بعيد] ولا يكاد يتسامح فيه ذو عناية بعلم الحديث، وقد روى هذا الحديث أيضاً في غير الكتابين عن أبي هريرة، على نحو ما رواه البخاري عن جابر- رضي الله عنه- وتأويله عند من يثبت الشفعة للخليط في نفس المبيع، ثم للخليط في حق المبيع، ثم للجار أن يقال: إن جابراً أخبر عن قضاء قضى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قضيته، وليس فيه نفي الشفعة عن المقسوم، وأما بقية الحديث، فإنه شيء رآه جابر فأوصله بما حكاه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وتأويلهم الحديث على أن بقية الحديث من كلام جابر، وإن كان أقرب إلى الاحتمال؛ لأنه حكى فعل النبي- عليه السلام- ثم أتى بقوله لم يسنده إليه، فلأن يحمل على أنه من كلام جابر أقرب من أن يحمل على أنه من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - غير أن الترمذي روى في كتابه عن جابر، أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق، فلا شفعة) فحينئذ يؤول قوله: (فلا شفعة) أي: لا شفعة من [جهة] الشركة؛ لأن الشركة في نفس المبيع ارتفعت بالقسمة، وتمييز الحدود، والشركة في حق المبيع ارتفعت بصرف الطرق، وقد قال بعض أهل هذه المقالة: يحتمل أنه أراد بوقوع الحدود وقوعها مع الفاصلة بين الحدين بطريق أو نهر أو غير ذلك، فلا شفعة فيها إذا بوجه من الوجوه، وإنما أحوجهم إلى هذه التأويلات شدة العناية بالجمع بين الأحاديث التي وردت في هذا الباب والجد في الهرب عن رد ما ورد من الاحاديث في الشفعة بالجوار. فمنها: حديث أبي رافع: (الجار أحق بسقبه) وحديث أنس (جار الدار أحق بالدار) وحديث سمرة بن جندب: (جار الدار أحق بشفعة الدار). وحديث جابر: (الجار أحق بشفعته ... الحديث) وكل ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.

وحديث جابر أورده المؤلف في أول الحسان من هذا الباب، وهو حديث حسن. ووجدت بعض أهل العلم قد رماه بالوهن في كتابه من جهة عبد الملك بن أبي سليمان، وتفرده به وزعم أنه لين الحديث، وجعل سناد قوله كلاماً نقله الترمذي في كتابه عن الشفعة في رواية عبد الملك هذا الحديث، ولم يصب في ذلك؛ فإن أحاديث الثقاة لا ترد بوهم واهم. والعجب أنه ذكر ذلك، وترك ما أثنى به الترمذي عليه عقيب ذلك، فمن ذلك قوله: وعبد الملك هو ثقة المأمون عند أهل الحديث، لا نعلم أحداً تكلم فيه غير شعبة، من أجل هذا الحديث. منه أنه ذكر عن سفيان الثوري أنه قال: عبد الملك بن أبي سليمان ميزان. يعني: في العلم، وعلى هذا فالصواب في تأويل حديث جابر ما قدمناه ليتفق حديثه الآخر، ولا يضرب أحدهما بالآخر. [2100] ومنه حديث أبي رافع- رضي الله عنه- سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (الجار أحق بسقبه). السقب- بالتحريك القرب. يقال: سقبت داره- بالكسر- أي: قربت. والسقب من الكلمات التي يتكلم بها العرب بالسين والصاد، والصاد في أشهر اللغتين. قال الشاعر. لا أمم دارها ولا صقب وقد قال الخطابي في المعالم: يحتمل أن يكون أراد به البر والمعونة، وما في معناهما. ورحم الله أبا سليمان، فإنه لم يكن جديراً بهذا التعسف، وقد علم أن الحديث قد روي عن الصحابى في قضية صار البيان مقترناً به، ولهذا أورده علماء النقل في كتب الأحكام في باب الشفعة، وأولهم وأفضلهم البخاري، ذكره بقصته، عن عمرو بن الشريد أنه قال: وقفت على سعد بن أبي وقاص فجاء المسور بن مخرمة، فوضع يده على إحدى منكبي، إذ جاء أبو رافع مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا سعد، ابتع مني بيتي في دارك، فقال سعد: والله، ما أبتاعهما، فقال المسور: والله لتبتاعنهما، فقال سعد: والله، لا أريدك على أربعة آلاف منجمة، أو مقطعة. قال أب رافع: لقد أعطيت بها خمسمائة دينار، ولولا أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (الجار أحق بسقبه) ما أعطيتكها بأربعة آلاف، وأنا أعطي بها خمسمائة دينار، فأعطاه إياه. قلت: قوله: بيتي في دارك. أي: في محلتك، أو في جنب دارك. وحمل بعضهم: (في دارك) على أن البيتين كانا في دار سعد، وكان هو وأبو رافع شريكين في حق البيع. والوجهان اللذان قدمناهما أشبه

وأولى. ومتى كان بالمدينة حينئذ دار تباع منها البيتان بخمسمائة دينار، وإنما أراد بالبيتين المسكنين، وأما قوله: (والله ما أبتاعهما) فإنه حلف على أنه لا يريد ابتياعهما، وعليه انعقدت النية، ثم بدا له في الابتياع، بعد كلام مسور وأبي رافع، ولهذا نفى الابتياع بحرف (ما) التي هي لنفي الحال، ولو كان قصده أن لا يفعله في مستقبل الزمان؛ لنفاه بلا التي هي لنفي المستقبل، ولو لم يكن كذلك، لم يكن مورد ليرد عليه يمينه، ولا ليقسم عليه، فإنهم بررة أتقياء، أحقاء بأن لا يظن بهم غير ذلك. وقوله: (لقد أعطيت بها، وأعطيتكها)، وإنما أعطى بها) (فأعطاها إياه) الضمير في ذلك كله راجع إلى البقعة المشتملة على البيتين. [2101] ومنه: حديث أبي هريرة رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره) هو عند جمع من العلماء على الندب والاستحباب من طريق المواساة وحسن الجوار، ولو منعه فله ذلك، ورأى آخرون على الوجوب. (ومن الحسان) [2103] حديث سعيد بن حريث- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من باع منكم داراً أو عقاراً ... الحديث) العقار- بالفتح-: الأرض والضياع والنخل يقال: ما له دار ولا عقار. ويقال أيضاً: في البيت عقار حسن. أي: متاع وأداة. هذا الحديث تكلموا فيه فلم يثبتوه، مع مخالفته الحديث الثابت: (لا تتخذوا الضيعة، فترغبوا في الدنيا).

باب المساقاة والمزارعة

ومن باب المساقاة والمزارعة (من الصحاح) [2107] حديث ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (دفع إلى يهود خيبر وأرضها، على أن يعتملوها من أموالهم ... الحديث) كانت خيبر مما فتح عنوة ولما ظهر عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أراد إخراج اليهود منها، فسألوه أن يقرهم على أن يعملوا على نصف ما يخرج منها من زرع أو ثمر، فقال: (نقركم بها على ذلك ما شئنا) فكانوا على ذلك زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلافة أبي بكر، وصدراً من خلافة عمر رضي الله عنهما- حتى أجلاهم إلى تيماء، وأريحا .. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قسم خيبر، فأعطى ذوى السهمان سهمانهم، وكان الشطر الذي يؤدونه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جملة ما وقع من الخمس ومن مال الفئ، فإن بعض قرى خيبر سلمها أهلها على أن يأخذوا [53/ ب] منهم شطرها، ويقروهم عليها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (نقركم ما شئنا، وتعتملوها) أي: تسعوا فيها بما فيه عمارة أرضها وصلاح نخلها وتربية ثمرها، وينفقوا عليها من أموالهم، و (اعتمل) أي: اضطراب في العمل، قال الراجز: إن الكريم وأبيك يعتمل وقد قال بظاهر هذا الحديث جمهور العلماء، فأثبتوا المساقاة، ولم ير أبو حنيفة- رحمة الله عليه عقد المساقاة صحيحاً، وذكر في هذا الحديث أن لم يذكر فيه مدة معلومة، بل (نقركم ما شئنا) وفي رواية (نقركم ما أقركم الله) وذلك مما لا يجوز في المعاملة، وإنما استعمل اليهود في ذلك بدل الجزية، يدل عليه أنه لم يكن يؤخذ عنهم الجزية يعني: يهود خيبر، والشطر الذي كان يدفع إليهم إنما كان من طريق المعونة ليتقووا به على ما كلفوا من العمل، وللإمام أن يفعل ذلك إذا رأى فيه المصلحة. وقصدنا إيراد تأويل الحديث عنده، وتركنا ما سوى ذلك من الدلائل، فلها كتب مفردة. [2109] ومنه: حديث رافع بن خديج- رضي الله عنه- (بما ينبت على الأربعاء) الربيع: النهر الصغير

الذي يسقي المزارع، وجمعه أربعاء، وأربعة، مثل: نصيب وأنصباء، وأنصبة، وقيل: يجمع ربيع الكلأ أربعة، وربيع الجداول أربعاء. وفيه: (وكان الذي نهى من ذلك) إلى تمام الحديث، هذه زيادة على حديث رافع بن خديج، أردت في حديثه، على هذا السياق رواه البخاري ولم يتبين لي أنها من قول بعض الرواة، أم من قول البخاري.؟ وقوله: ما لو نظر فيه ذوو الفهم: ذوو بواوين، أريد به الجمع، ومعنى قوه: (لما فيه من المخاطرة أي: من التورط فيما لا يحل لكون حصة كل واحد من الشريكين مجهولة، والمخاطرة من الخطر، الذي هو الإشراف على الهلاك، وفي حديثه أيضاً: (فربما أخرجت ذه، ولم تخرج ذه) ذه: إشارة إلى القطعة من الأرض، وهي من الأسماء المبهمة التي يشار بها إلى المؤنث، يقال: ذي وذه، والهاء ساكنة؛ لأنها للوقف. [2111] ومنه قول طاوس: إن أعملهم أخبرني. يعني: ابن عباس .. الحديث. الضمير عائد إلى من أدركهم طاوس من الصحابة، أو من كان حياً منهم بمكة أيام يفتى بها ابن عباس، ولا يصح أن يراد به العموم؛ لأن ابن عباس هو القائل: معظم علمي عن عمر- رضي الله عنه- وهو أحد الصحابة، وقد روى أنهم كانوا يرون أن عمر ذهب بتسعة أعشار العلم، ولا يصح أن يقال: الضمير عائد إلى بني هاشم لأن منهم علياً رضي الله عنه وابن عباس هو القائل. فإذا علمي بالقرآن في علم علي كالقرارة في المثعنجر وأحاديث المزارعة (54 أ) التي أوردها المؤلف [وما] ثبت منها في كتب الحديث في ظواهرها تباين واختلاف، وجملة القول في الوجه الجامع بينها أن يقال: إن رافع بن خديج سمع أحاديث في النهي، وعللها متنوعة، فنظم سائرها في سلك واحد، ولهذا يقول مرة: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتارة يقول: حدثني عمومتى. وأخرى يقول: أخبرني عماى. والعلة في بعض تلك الأحاديث أنهم كانوا يشترطون فيها شروطاً فاسدة، ويتعاملون على أجرة غير معلومة، فنهوا عنها، وفي البعض أنهم كانوا يتنازعون في

كرى الأرض، حتى أفضى بهم إلى التقاتل، فقال النبي- عليه السلام: إن كان هذا شأنكم، فلا تكروا المزارع، وقد بين ذلك زيد بن ثابت في حديثه، وفي البعض أنه كره أن يأخذ المسلم خرجاً معلوماً من أخيه على الأرض ثم تمسك السماء قطرها، أو تخلف الأرض ريعها، فيذهب ماله بغير شيء، فيتولد منه التنافر والبغضاء، وقد تبين ذلك من حديث ابن عباس: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينه عنه، ولكن قال ... الحديث). والضمير في قوله: (عنه) عائد إلى الزرع في أرض غيره. [2112] ومن حديث جابر: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من كانت له أرض فليزرعها .. الحديث) وذلك من طريق المروءة والمواساة، وفي البعض أنه كره لهم الافتتان بالحراثة والحرص عليها، والتفرغ لها، فيقعهد بهم عن الجهاد في سبيل الله، وتفوتهم الحظ عنه الغنيمة والفئ، ويدل عليه حديث أبي أمامة ورأى سكة وشيئاً من آلة الحرث، فقال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لا يدخل هذا بيت قوم إلا دخله الذل). السكة: الحديدة التي يحرث بها الأرض. قلت: إنما جعل آلة الحرث مظنة للذل، لان أصحابها يختارون ذلك، إما لجبن في النفس، أو قصور في الهمة، ثم إن أكثرهم ملزمون بالحقوق السلطانية في أرض الخراج، ولو آثروا الجهاد لدرت عليهم الأرزاق، واتسعت عليهم المذاهب، وجبى لهم الأموال، مكان ما يجبى عنهم، فهذه جملة القول في تلك الاحاديث. وقد أطلق القول ببطلان المزارعة الاكثرون من أصحاب المذاهب، ونحن نرى التسليم لهم فيما هم بصدده، وإنما تكلمنا في التوفيق بين تلك الأحاديث إلى ما انتهى إليه فهمنا، ومن الله المعونة في الإصابة. (ومن الحسان) [2114] حديث: رافع بن خديج- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من زرع في أرض قوم بغير

باب الإجارة

إذنهم، فليس له من الزرع شيء، وله نفقته) قيل: إن هذا الحديث لم يثبته علماء الحديث، وكان البخاري يضعفه، ورأى [54/ ب] شريكاً قد وهم فيه، وذكر أن شريكاً تفرد به عن أبي إسحق، وتفرد به أبو إسحق عن عطاء، وعطاء لم يسمع من رافع بن خديج شيئاً، ذكر ذلك الخطابى في (المعالم) وقد روى الترمذي عن البخاري أنه سأله عن هذا الحديث، فقال: هو حديث حسن. ونقل الترمذي أوثق، وعلى هذا فالحديث ليس مما يقابل بالطعن والإنكار، ولكنه تأول ليوافق الأصول التي تمسك بها المجتهدون، فيحمل معناه على العقوبة والحرمان للغاصب. ومن باب الإجارة (من الصحاح) [2116] حديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (احتجم وأعطى الحجام أجره، واستعط) السعوط بالفتح الدواء يصب في الأنف، يقال: اسطعت الرجل فاستعط هو بنفسه. [2117] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- (كنت أرعى على قراريط لأهل مكة) القيراط، ذكرناه في باب الجنائز، وإنما ذكر هاهنا القراريط؛ لأنه أراد بها سقط الشهر من أجره الرعية، والظاهر أن ذلك لم يكن يبلغ الدينار أو لم ير أن يذكر مقدارها، استهانة بالحظوظ العاجلة، أو لأنه نسى الكمية فيها، وعلى الأحوال، فإنه قال هذا القول تواضعاً لله تعالى وتصيحاً لمنته عليه. وقد تعمق بعض المتكلفة في تأويله، حتى أتى بما لا حقيقة له، فقال: لعل القراريط موضع بمكة. وذلك قول لم يسبق إليه، وإنما وقع في هذه المهواة حين استعظم أن يرعى نبي الله بالأجرة، ولم يدر أن الانبياء إنما يتنزهون عن الأجرة فيما يعملونه لله، فأما ما كان سبيله الكسب، فإنهم كانوا يعتملون فيه ويكدحون، ولم يزل الكسب سنتهم، والتوكل حالهم، مع أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - تعانى الرعية قبل أن يوحى إليه، ولأنه عمل ذلك العمل بالأجرة، أورد العلماء هذا الحديث في باب الإجارة.

[2118] ومنه حديثه الآخر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (قال الله تعالى: ثلاثة أن خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر ... الحديث) الخصم: مصدر قولك: خصمته خصماً ثم وصف به، ولهذا يستوي فيه الجمع والمؤنث، وكأنه أخذ من الخصم- بالضم- وخصم كل شيء: جانبه وناحيته، وذلك لأنك إذا دفعته من جانب أتاك من جانب آخر. وهذا أبلغ ما يمكن من الوعيد؛ لأن من كان الله خصمه لا ينجو ولا يفلح. وقوله: (أعطى بي) على بناء الفاعل، أي: أعطى الأمان باسمي أو بذكري، أو بما شرعته من ديني. وذلك بأن يقول للمستجير: لك ذمة الله [55/ أ) ولك عهد الله. [2119] ومنه حديث ابن عباس رضي الله عنه: أن نفرا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - مروا بما فيهم لديغ .. الحديث) أراد بالماء: الحي النازلة عليه فاختصره، وتقدير الكلام: بأهل ماء. وفي كتاب البخاري (فيهم لديغ أو سليم) والحديث إنما نقله المؤلف من كتابه، فلم يكن له أن يترك اللفظ الآخر. واللديغ أكثر ما يستعمل في لدغ العقرب. والسليم فيمن لسعته الحي وإنما قيل ذلك تفاؤلا بالسلامة. وقيل: لأنه أسلم وترك يأسا من برئه. والحديث لا تعلق له بأحكام الإجارة. فيه- على ما اختاره المؤلف من الروايات- اختصار. وقد روى هذا الحديث من وجوه كثيرة، وفي بعض طرقه ألفاظ تبين وجه الحديث، فمن ذلك: (واستضافوهم فلم يضيفوهم) رواه مسلم في كتابه. ومنه: (فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم) رواه البخاري في كتابه عن أبي سعيد الخدري، وفيه أيضاً: (فصالحوهم عن قطيع من الغنم) فوجه الحديث: أن أهل تلك السرية كانوا مرملين، وقد وجب على أهل الماء حقهم، على ما صح من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه (قلنا: يا رسول الله إنك تبعثنا فننزل بقوم، فلا يقروننا، فما ترى؟ فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن زلتم بقوم فأمروا بكم بما ينبغي للضيف، فاقبلوا، فإن لم يفعلوا، فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم)، فأبيح لهم أخذ ذلك عوضاً عن حقهم الذي منعوه، ويدل على صحة هذا التأويل قول أبي سعيد: (صالحوهم على قطيع من الغنم) وقد كان أبو سعيد في تلك السرية، ولم تكن الرقية علة لاستحقاقهم ذلك، وإنما كانت ذريعة إلى استخلاص حقهم. وهذا المعنى وما يشاكله هو الصواب في تأويل هذا الحديث لئلا يخالف حديث عبادة بن الصامت وهو حديث صحيح- ولفظه: (علمت ناساً من الصفة الكتاب والقرآن، وأهدى إلى رجل منهم قوساً، فقلت: ليست بمال، وأرمي بها في سبيل الله فأتيته فقلت: يا رسول الله، رجل أهدى إلى قوساً ممن كنت أعلمه

الكتاب والقرآن، وليست بمال، فأمي عليها في سبيل الله، قال: (إن كنت تحب أن تطوق طوقاً من نار فاقبلها) فإن قيل: فإذا ما وجه قوله في حديث ابن عباس: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله- عز وجل) قلنا: أراد به أجر الآخرة. كان سؤالهم عن أخذ الاجر عليه، فعرض هو بما هو الحقيقة فيه والمطلوب منه. وهذا النوع من الخطاب يسميه أهل البلاغة التحويل للكلام ومن هذا الباب قوله - صلى الله عليه وسلم - (55 ب): (الصرعة من يملك نفسه عند الغضب) وقوله: (المحروب من حرب دينه) فإن قيل: فماذا تصنع بحديث خارجة بن الصلت عن عمه، وهو في الحسان، عقيب هذا الحديث، وفيه: (فأعطوه مائة شاة .... الحديث) قلنا: لم يذكر في الحديث أنهم شاطروه على شيء، وإنما كان الرجل متبرعاً بالرقية فرقاه، فبعدما أفاق المرقي أعطوه مائة شاة تكرمه له، هذا وجه هذا الحديث، ليوافق حديث عبادة، فإنه حديث صحيح، وهذا الحديث لا يقاومه في الصحة: فإن قيل: لو سلم لك الأمر فيما ابتغيت من التوفيق بينهما- على ما ذكرت- فكيف يوفق بينهما في غير ذلك المعنى، وهو أن يقال قلت: ولم يذكر في الحديث أنهم شارطوه على شيء، وكان متبرعاً بذلك، فأعطى بعد الرقية مائة شاة، هدية إليه وتكرمه له، وكذلك عبادة علمه القرآن متبرعا به، ثم أهدى إليه القوس هدية [المؤمن إليه المؤمن] فمنعه عن قبلها بأبلغ قول. قلنا: الفرق بين القضيتين أن عبادة كان من مياسير الصحابة، وقد استفتاه في قولها كالمستشير المفوض أمره إليه، فأشار إليه بما هو الأحق له والأولى به. والرجل حدث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحديثه بعد أن كان قبل الشياه، وتناول منها وأفناها، وبعد أن رجع من تلك السفرة، ولعله كان من المحاويج فتصدقوا بها عليه، فلم ير لنهيه بعد وقوع الحادثة، أو بعد افتقاره إلى ذلك وجها ثم إن الحديثين، وإن اتفقا في الحكم، فإنهما مختلفان في الصحة، فإن قيل: فإن كان الأمر على ما قدرت، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أشار إليه بما أشار نظراً له، وشفقة عليه، فعلام أوعده بالعقوبة على صنيع لو أتاه لم يكن آتيا محرماً عليه. قلنا: نرى أن قوله: (إن كنت تحب أن تطوق طوقاً من نار فاقبلها) لم يكن من باب الوعيد بالعقوبة على ارتكاب ذنب، وإنما شبه القوس التي كادت أن تنقض سريرته بالنار المحرقة المفنية لذوات الأشياء، ولما كان من عادة المتسلحة أن يتقلدوا القسى، فيكون عليهم هيئة الطوق، أنزل تلك القوس، إذا تقلد بها منزلة طوق من نار، لما يصيبه [56 أ] [بسببها] من بطلان العمل وانتقاص الأجر، وإن يكن المراد منه

باب إحياء الموات والشرب

العقوبة، فإنه يحمل على أنه نهاه عن ذلك نظراً له- على ما بينا- وكان عليه أن يجيبه لما دعاه، فلو قبلها كان مستوجباً للعقوبة، لأنه لم يتبع أمره، ولم يستمع لقوله، والله أعلم. (ومن الحسان) [2020] حديث عم خارجة بن صلت: (كأنما أنشط من عقال): أي حل، يقال: نشطت الحبل أنشطه، نشطاً: عقدته، وأنشطته أي: حللته، وهذا القول أعني: (أنشط من عقال) يستعملونه في خلاص الموثوق، وزوال المكروه في أدنى ساعة والوجه في هذا الحديث قدمناه. [2021] ومنه قوله: - صلى الله عليه وسلم -: (أعطوا الأخير أجرته ... الحديث) وصف هذا الحديث في المصابيح بالإرسال، فلا أدري أثبت ذلك في الأصل، أم هو شيء ألحق به؟! وقد وجدته مسنداً إلى ابن عمر رضي الله عنه، وقد أورد بقية الحديث بمعناه أبو داود في كتابه بإسناد له عن الحسين بن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (للسائل حق وإن جاء على فرس) معنى هذا القول أن الذي يبذل لك وجهه بالسؤال، وإن وجد على حال تكون مظنة للغني، فإنه أدلى إليك بحق يجب عليك رعايته، وذلك بأن تحسن به الظن وتقرر في نفسك بان حاجة ما دعته إلى ذلك وأن وراء ما ترى خلة، لم يستطع سدها، فتبذل له معروفك، كما بذل لك وجهه، فإن لم تجد إلى ذلك سبياً، فبميسور من القول تحسن مردودك. ومن باب إحياء الموات والشرب (من الصحاح) [2122] حديث عائشة:- رضي الله عنها- النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من عمر أرضاً ليست لأحد فهو أحق

بها) قد سبق القول في بيان إحياء الموات، وبيان الاحكام المتعلقة به، واختلاف العلماء فيها، في باب الغصب. وهذا الحديث مما أخرجه البخاري في كتابه، ولفظه [من عمر] ووجدناه في نسخ من المصابيح (أعمر بزيادة (ألف) وليس بشيء. وفي البخاري- بعد تمام الحديث: قال عروة: قضى به عمر- رضي الله عنه-: في خلافته. [2123] ومنه: حديث الصعب بن جثامة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا حمى إلا لله ولرسوله) كان زعيم القوم في الجاهلية يحمي المكان الخصيب لخيله وماشيته، ويمنع غيره عنا لرعية فيه، فأبطله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأعملهم أن ذلك من الأمور التي لا شرعة فيها لأحد، بل هي إلى الله- تعالى- وإلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - فلا ينبغي لأحد أن يفعل إلا أن يأذن الله لرسوله فيه، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد حمى النقيع، لإبل الصدقة، وحمى عمر- رضي الله عنه- الرف والزبدة، وقد ذكرنا في باب دخول مكة- أن الأكثرين رووا السرف بالسين المهملة، كما هو في سرف اذي بقرب مكة. ورواه ابن وهب بالشين المعجمة. قيل: وهو الصواب. [2124] ومنه حديث عروة: (خاصم الزبير رجلاً من الأنصار في شريج من الحرة) اختلفت الرواية في كتاب البخاري في (شريج الحرة) رواه عن بعضهم: شريج، وعن بعضهم: شراج. وشراج هو الصواب من الروايتين، وهو جمع شرج والشرج: ميل الماء من الحرة. ويجمع أيضاً على شروج والشريج أيضاً لم يعرف في هذا المعنى. وكان خصام الزبير رضي الله عنه مع الأنصاري في ماء المد الذي كان يجري في مسيل الحرة، وحق الشرب في ذلك إنما هو الأول فالأول، وكان ينتهي أولاً إلى أرض الزبير. وفيه: (فقال الأنصاري: أن كان ابن عمتك) أي: لأن كان ابن عمتك حكمت بما حكمت. وقد اجترأ

جمع من المفسرين بنسبة الرجل تارة إلى النفاق، وأخرى إلى اليهودية. [وكلا] القولين زائغ عن الحق، إذ قد صح أنه كان أنصارياً. ولم يكن الانصار من جملة اليهود، ولو كان مغموصاً عليه في دينه لم يصفوه أيضاً بهذا الوصف؛ فإنه وصف مدح. والأنصار- وإن وجد فيهم من يرمى بالنفاق- فإن القرن الاول والسلف بعدهم تحرجوا واحترزوا أن يطلقوا على من ذكر بالنفاق واشتهر به: الأنصاري. والأولى بالشحيح بدينه أن يقول: هذا قول [56 أ) أزله الشيطان فيه بتمكنه منه عند الغضب، وغير مستبدع من الصفات البشرية الابتلاء بأمثال ذلك. وفيه: (حتى يرجع إلى الجدر) الجدر- بفتح اجيم وسكون الدال المهملة- قيل: إنه المسناة، وهي للأرضين كالجدار للدار. وقيل: هو الجدار. وقيل: هو أصل الجدار. ورواه بعضهم بضم الاوليين، على أنه جمع جدار ورواه بعضهم بالذال المعجمة يريد: مبلغ تماما لشرب من جدر الحساب. والجيم منه يفتح ويكسر، وهو أصل كل شيء. وهذه الرواية لا اعتداد بها؛ إذ المحفوظ فيه بالدال المهملة. وفيه: (فاستوعى النبي - صلى الله عليه وسلم - للزبير حقه) أي: استوفاه له، مأخوذ من الوعاء. ومن أهل العلم من يرى أن الحديث من هاهنا من كلام الزهرى، أردجه في الحديث، وهو كثير الإدراج في أحاديثه، من غير فصل يميز به الحديث عما أدرج فيه. وفيه: (حين أحفظه الانصاري) أي: أغضبه. يقال: أحفظته فاحتفظ. أي: أغضبته فغضب. والحفيطة: الغ ب والحمية، وكذلك الحفظة بالكسر. [2125/ 2126] ومنه: حديث أبي هريرة رضي الله عنه وحديث جابر رضي الله عنه في منع الماء، وقد شرحناه فيما قبل. [2127] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-: (لقد أعطى بها أكثر مما أعطى) كلا الفعلين على بناء المفعول.

ومن الحسان: [2129] حديث سمرة بن جندب- رضي الله عنه-عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من أحاط حائطاً على أرض، فهي له) يستدل به من يرى التملك بالتحجير، ولا تقوم به حجة؛ لأن التملك إنما هو بالإحياء. وتحجير الأرض وإحاطته بالحائط ليس من الإحياء في شيء. ثم إن قوله [57 ب]: (على أرض) مفتقر إلى البيان؛ إذ ليس كل أرض تملك بالإحياء. وكثير من أئمة النقل يقولون: (إن الحسن لم يسمع من سمرة. وقال بعضهم: لم يسمع منه غير حديث العقيقة، وإنما يروى عن صحيفة لسمرة اطلع عليها، وهذا من جملتها. [2131] ومنه: حديث ابن عمر- رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (أقطع الزبير حضر فرسه) يقال: أقطعته قطيعة: أي طائفة من أرض الخراج. وفي الإقطاع ما يكون تمليكاً، وفيه ما لا يكون تمليكاً. وهذا الذي أقطع الزبير من موات الأرض، فملكها بالإحياء؛ لأن ورثة الزبير تصرفوا فيها تصرف الملاك في أملاكهم. و (حضر فرسه) أي: قدر ذلك، والحضر: العدو، يقال: أحضر الفرس إحضاراَ، واحتضر، أي: عدا. وأراد به ها هنا طلقة واحدة. وأما الحديث الذي تقدمه عن أسماء رضي الله عنها: (أقطع الزبير نخلاً) فذلك غير تمليك، وإنما هو مما تركه الانصار لإخوانهم من المهاجرين، فلما أفاء الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - من أهل القرى، وفتحت خيبر، رد إلى الأنصار أموالهم، وعوضهم مما في يديه من مال الفئ، وبيان ذلك في حديث أم أيمن- رضي الله عنها- ويحتمل أنه أقطعه من مال الفئ. [2133] ومنه: حديث أبيض بن حمال المأربي- رضي الله عنه- أنه وفد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

فاستقطعه الملح الذي بمأرب، فأقطعه .. الحديث) استقطعه، أي: سأله أن يقطعه إياه. و (مأرب) - بالهمز- موضع باليمن به مملحة. يقال لها ملح شذا. وأبيض ينسب إلى سبأ، ويقال: إنه أزدى، وإنما نسب إلى مأرب لنزوله به. ويقال: إن اسمه كان أسود، فغير رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[58 أ] اسمه، فسماه أبيض. قيل: إنه أقطعه ذلك ظنا منه أن القطيعة معدم يستخرج منه الملح بالكد والعمل فيه، فلما استبان له أنه الماء العد، أي: الدائم الذي لا انقطاع لمادته، استرده منه؛ لأنه وجده منا لمنافع الحاصلة التي يرتفق بها المسلمون، فلم يرد لأحدهم الاستئثار بها دون الناس، وإنما يتملك الشيء منه بالسبق إليه والحيازة له. والرجل الذي قال: (إنما أقطعته الماء العد) هو الأقرع بن حابس التميمي. وفيه: (فسأله ماذا يحمي من الأراك .... الحديث) يحمى- على بناء المفعول؛ لما في غير هذه الرواية (فسأله عما يحمي من الأراك؟) ومنهم من رواه على بناء الفاعل، ونقل في تفسير قوله: (ما لم تنله أخفاف الإبل) عن محمد بنا لحسين المخزومي، أن معناه: أن الإبل ترعى منتهى رءوسها، فتحمي ما فوقه. وهذا المعنى يأباه اللفظ. وقد قيل فيه: تحمي منه ما بعد عن العماره، فلا تبلغه الإبل الرائحة إذا أرسلت في الرعي. وهذا أوجه التأويلين لمطابقته اللفظي ويحتمل أنه أراد: أن لا يحمي منه شيء. لأن الحمى إنما يكون بمن يحميه وأية أرض وجد بها من يحمي الأراك، لم تخل من السارحة، وإنما ذكر الإبل لأنها هي التي تنال أغصانها، فترعاها على أغلب الأحوال دون غيرها من المواشي. [2134] ومنه: حديث ابن عباس- رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (المسلمون شركاء في ثلاث) إنما جاء التأنيث ليدل على الأنواع المشتركة من كل جنس من الأجناس الثلاثة، وأراد (بالماء): الذي لم يملكه أحد. و (بالكلأ): ما يكون منه في أرض غير مستملكة، أو في ملك أذن للمتناول منه في دخوله، على اختلاف فيه، وأما الاشتراك [58 ب] في النار، فهو أن يتناول منها جذوة، أو يشعل منها شعلة، والاشتراك في الماء إنما هو: في الشرب والاستعمال. وكل من سبق إليه فهو أحق بالاستقاء، وأما في سقي الأرض، فهو على الترتيب: الأعلى فالأعلى، وأما ما يساق منه إلى موات الأرض، فهو حق من سبق إليه. وفي معناه:

[2135] حديث أسمر بن مضرس الطائي- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من سبق إلى ماء لم يسبقه إليه مسلم فهو له). [2136] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي أرسله طاوس: (وعادى الارض لله ولرسوله) المراد منه، ما لم يعرف له مالك. وشيء عادى، أي: قديم. كأنه منسوب إلى عاد قوم هد- عليه السلام- والعرب تنسب الشيء إليهم إن لم تدركهم. [2137] ومنه: ما روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (أقطع لعبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- الدور ... الحديث) أقطع له، أي: جعلها قطيعه له، أو ميزها له عن غيرها. والظاهر أنه أقطعه العرصة، ليبني فيها. والعرب تسمي المنزل داراً قبل البناء. وقد قيل في أصل هذه التسمية، أنهم كانوا يأخذون الرمح فيخطون به الدائرة قبل التحجير والإحاطة. وفي الحديث: (أنه أقطع المهاجرين الدور بالمدينة) فوول على ما ذكرنا من إقطاع العرصة. وقيل: أفطعهم الدور عارية، والأول أظهر لما في الحديث: أن زينب امرأة عبد الله بن مسعود- رضي الله عنهما- ورثته داره بالمدينة، ولم يكن لعبد الله دار سواها. وفيه: (وهي بين ظهراني عمارة الانصار). يقال: هو نازل بين ظهري القوم، وبين ظهرانيهم- بفتح النون أي: بينهم، وأقران [59 أ] الظهر: الذين يجيئون من وراء ظهرك في الحرب. وإنما قيل: بين ظهيرهم وظهرانيهم وأظهرهم؛ ليكون دالا على الاستظهار بهم والاستناد إليهم، وكأن معنى التثنية فيه: أن ظهراً منهم قدامه وآخر وراءه، فهو مكنوف من جانبيه، ثم اتسعوا فيه، فاستعملوه في الإقامة بين القوم، وإن لم يكن مكنوفاً، وإنما زيدت الالف والنون في ظهرانيهم للتأكيد كما زيدت في النفساني للعيون، وفي الصيدلاني في النسبة إلى الصيدال، وهو أصل الأشياء وجواهرها.

وفيه: (فقال بنو عبيد بن زهرة: نكب عنا ابن أم عبد) أي: اصرفه واعدل به عنا، وبنو عبد بن زهرة: حي من قريش، أخوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان منزل عبد الله بن منازلهم، وكانوا رهطاً منا لمهاجرين، وكأنهم قالوا هذا استهانة بقربه وتبرماً عن مجاورته. [3139] ومنه: حديث عبد الله بن عمرو- رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى في سيل مهزور ... الحديث) مهزور- بتقديم الزاي المعجمية على الراء المهملة- وادي بني مربضة. وعلى القلب من ذلك: موضع سوق المدينة، تصدق به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبالمدينة واد آخر إلى أصل جبل يثرب، يقال له: مهزول- باللام- ولفظ هذا الحديث في المصابيح وجدناه مصروفاً عن وجه، ففي بعض النسخ: (في السبيل المهزور) وهو الأكثر. وفي بعضها: (في سبيل المهزور) وفي بعضها: (في السبيل المهزورى) وكل ذلك خطأ. وصوابه على ما ذكرناه بغير ألف ولام فيهما صيغة الإضافة إلى علم. [2140] ومنه حديث سمرة بن جندب- رضي الله عنه- (أنه كان له عضد من نخل ... الحديث) ذكر [59 ب] في (عضد) عن أصحاب الغريب أن المراد منه: طريقة من نخل ولم نجد لهذا القول سناداً من الاستشهاد العربي، ولا نظيراً في كلامهم. ثم إن لفظ الحديث يدل على أنه كان فرد نخل؛ لتعاقب الضمير بلفظ التذكير في قوله: (ليبيعه)، (ويناقله)، و (فهبه له) وأيضاً لو كانت طريقة من النخل لم يأمره بقطعها، لدخول الضرر عليه أكثر مما يدخل على صحابه من دخوله. ولم يكلفه أن ينقلها من موضع إلى موضع آخر؛ لأن ذلك قلما يتيسر إلا في الأفراد التي لم يمض عليها من زمان الغراس إلا السنة والسنتان، بل كان يأمره [بالإقراذ] من حائط شريكه. وقد ذكر أن صوابه: (عضيد من نخل) يقال للنخلة- إذا صار لها جدع يتناول منه المتناول-: عضيد، وجمعها: عضدان. وهذا هو الصواب، والله أعلم وأحكم. ومن باب العطايا (من الصحاح) [2142] حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي: (العمرى جائزة) العمرى: الاسم من:

أعمرته الشيء. أي: جعلته له مدة عمره، أو مدة عمري. وكانوا يرون أنها ترجع بعد وفاء المعمر إلى المعمر، قال لبيد: وما المال إلا معمرات ودائع هذا قول أهل اللغة. وإلى معناه يذهب بعض أهل العلم، فيرى أن العمرى تمليك المنفعة دون تمليك الرقبة. والأكثرون على أن العمرى: اسم من: أعمرتك الشيء، أي: جعلته لك مدة عمرك. وعلى أنها لا ترجع إلى المعمر؛ لأنه أوجب الملك في الحال، وعلق الفخ بخطر، فلا عبرة له، ويصير حكمه بعد موت المعمر كحكم سائر أمواله. ويدل على صحة ما ذهبوا إليه الحديثان المتعاقبان بعد هذا الحديث، عن جابر. فإن قيل: أو ليس الحديث الذي بعدهما عن جابر أيضاً، ويدل على خلاف ما ذهبوا إليه. قلنا: ذاك تأويل حدث به جابر، عن رأي واجتهاد. وأحاديثه التي رواها عن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - تدل على خلافة مع ما يعضد قول [60 أ] الجماعة من النظر. (ومن الحسان) [2145] حديث جابر- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا تعمروا ولا ترقبوا ... الحديث) أرقب الرجل: إذا قال لصاحبه: وهبت منك كذا، فأن مت قبلك فهي لك، وإن مت قبلي فهي لي. والاسم منه الرقبى. وهي من المراقبة؛ لأن كل واحد منهما يرقب موت صاحبه. وذهب بعض العلماء إلى أن الرقبى ليست بتمليك؛ لأن الملك لا يجوز تعليقه بخطر حال الحياة.

ووجه الحديث عنده: أن الرقبى المذكورة في هذا الحديث: هي التي يترقب فيها الفسخ. [2146] ومنه حديثه الآخر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (العمرى جائزة لأهلها) أي: صحيحة ممضاة، ولو ذهب ذاهب إلى أن معنى الجائزة العطية، فله وجه. والذي يذهب إلى أن الرقبى ليست بتمليك، فإنه يقول: جائزة، أي: فيما هو حكمها من العارية وتمليك المنفعة. ومن الفصل الذي يليه (من الصحاح) [2149] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس- رضي الله عنه-: (ليس لنا مثل السوء) أي: [لا ينبغي لأهل ملتنا] المكرمين بالإيمان أن يوصفوا بما يسوء في العاقبة، وتنحط به منزلتهم فإن الله تعالى- لم يرض لهم ذلك، وإنما جعل ذلك للمشركين، قال الله تعالى: {للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء}

أي: الصفة الذميمة، وأي وصف أخس من وصف يشابهه في الكلاب،. ومحمل هذا القول عند من يرى الرجوع في الهبة عن الاجنبي أنه على [التنزيه] وكراهة الرجوع، لا على التحريم. ويستدل بحديث عمر- رضي الله عنه- حين أراد شرى فرس حمل عليه في سبيل الله، فسأل عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (لا تبتعه، وإن أعطاكه بدرهم، ولا تعد في صدقتك؛ فإن العائد في صدقة كالكلب يعود في قيئه) قال: فكما لم يكن هذا القول موجباً حرمه ابتياع ما تصدق به، فكذلك هذا الحديث لم يكن موجباً حرمة الرجوع في الهبة. [2151] ومن الحسان حديث عبد الله بن عمرو- رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يحل لواهب [60] أن يرجع فيما وهب، إلا الوالد من ولده) وهذا الحديث يأول عند أبي حنيفة- رحمه الله- على أن (لا يحل) في معنى التحذير عن ذلك الصنيع، مقول القائل: لا يحل للواجد أن يحرم سائله، ولم ير هو أيضاً الرجوع فيما وهب الواهب لذوي الرحم المحرم، ولا فيما وهبه أحد الزوجين للآخر. وقد روى فيه حديث عن عمر- رضي الله عن- موقوفاً: (من وهب هبة لذوي رحم جازت، ومن وهب هبة لغير ذي رحم، فهو أحق بها ما لم يثب منها). وتأويل قوله: (إلا الوالد لولده) عند أبي حنيفة: أن معنى الرجوع ها هنا إباحته للوالد أن يأخذ ما وهب لابنه في وقت الحاجة إليه، كما يحل له أخذ ماله مما سوى الموهوب، ولا يقع ذلك منه موقع الرجوع من الهبة، ولا يكون مثله مثل العائد في هبته. [2153] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-: (لقد هممت أن لا أقبل هدية إلا من قرشي أو أنصاري أو ثقفي أو دوسي) كره قبول الهدية ممن كان الباعث له عليها طلب الاستكثار، وإنما خص المذكورين فيه بهذه الفضيلة لما عرف منهم من سخاوة النفس وعلو الهمة، وقطع النظر عن

الأعواض. [2156] ومنه حديثه الآخر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من لم يشكر الناس لم يشكر الله) فيه تنبيه على أن من شكر النعمة شكر الوسائط، وذلك لأن الله سبحانه أمر عباده بمجازاة المحسن، فإن لم يتهيأ، فبالثناء عليه والدعاء له، والمقصر في القيام بما أمره الله به مقصر في شكر نعمه. وفيه احتمال وجه آخر، وهو: أن الإنسان إذا تهاون بشكر من أسدى إليه معروفاً من الناس، مع حرصهم على حب الثناء، وفقرهم إليه، لجبر النقائص بهم، وقطعهم الرفق عمن لم يقابل إحسانهم بالشكر، [فهو بتهاونه] في شكر نعم الله الذي يحسن إلى المسيء، ويتفضل على المقصر، وهو المتعالى عن المفاقر والحاجات، المستغني عما يكون من العباد، أحق وأجدر. [2157] ومنه: حديث أنس- رضي الله عنه-: (وأشركونا في المهنأ) أرادوا بالمهنأ: ما أشركوهم فيه من زروعهم ونخيلهم من حب وتمر، من قولهم: هنأني الطعام يهنؤني ويهنئني، ولا نظير له في المهوز: هنأ، وهنأ، وهنأت الرجل، أهنؤه وأهنته أيضاً هنأ: إذا أعطيته، والاسم: الهنؤ- بالكسر- وهو العطاء [61 أ] وكل أمر يأتيك من غير تعب فهو هنئ. ولك المهنأ، وهنأته شهراً، أي: كفيته مؤنته. والمهنأ: ما يقوم بكفاية الرجل وإصلاح معاشه.

باب اللقطة

[2159] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-: (يذهب وحر الصدر) الوحر في الصدر: مثل الغل يقال وحر صدره على، أي: وغر، وفي صدره على وحر- بالتسكين- مثل وغر، وهو اسم، والمصدر بالتحريك. ولفظ الحديث يروى بالتحريك على المصدر. وفيه: (ولو بشق فرسن) الفرسن: عظم قليل اللحم، وهو للشاة البعير بمنزلة الحافر للدابة، وفي نسخ المصابيح (ولو بشق فرسن) بزيادة حرف الجر، ونحن نرويه بغير حرف الجر، وهو أقوم، فإن كانت الراية وردت أيضاً بحرف الجر، فالتقدير: ولو أن تبعث إليها، أو تتفقدها، أو مثل ذلك من الألفاظ. ومن باب اللقطة (من الصحاح) [2162] حديث زيد بن خالد الجهني- رضي الله عنه-: (جاء رجل إلى رسول - صلى الله عليه وسلم - فسأل عن اللقطة، فقال: اعرف عفاصها .. الحديث) لقط الشيء والتقطه: أخذه من الأرض.

وقد اختلف قول أهل اللغة في اسم المال الملقوط، فقال قوم: إنه اللقطة- بفتح القاف- وهو الذي يستعمله الأكثرون ويتعارفه المتفقهون قديماً وحديثاً. وأبي ذلك الخليل، فقال: (إنما اللقطة- بفتح القاف- اسم الملتقط، قياساً على نظائرها من أسماء الفاعلين، كهمزة، ولمزة وضحكة. فأما اسم المال الملقوط، فبسكون القاف.، (وعفاصها): المراد منه الوعاء الذي يكون فيه النفقة، والأصل فيها صمام القارورة، وهو الجلد الذي يلبس رأسها، فيكون لها كالوعاء، وليس عرفان العفاص، والوكاء، وهو: الخيط الذي يشد به لرد اللقطة إلى من ينشدها من غير بينه، بل ليميزها بذلك عن ماله ومال غيره، فلا يختلط به، ألا ترى أنه أمره بعد ذلك بالتعريف سنة. وفيه: (وإلا فشأنك بها) أي: اعمل بها ما شئت من التصدق والاستنفاق، على اختلاف فيه بين العلماء في الفقر والغنى. وقوله: (فشأنك) منصوب على المصدر، يقال: شأنت شأنه، أي: قصدت قصده، واشأن شأنك، أي: اعمل ما تحسنه. وفيه: فقال: فضالة الغنم، فقال: (هي لك أو لأخيك [61 ب] أو للذئب) المعنى: إن لم تأخذها أنت أخذها غيرك، أو أكلها الذئب، ويحتمل أن يكون المعنى بأخيك صاحب اللقطة. وفيه: فقال: فضالة الإبل؟ قال: (مالك ولها، معها سقاؤها وحذاؤها) أبان بذلك وجه الرخصة في التقاط الغنم، وهو خشية التلف؛ لضعفها وعجزها عن الرعية بغير راع، وأما الإبل وما في معناها من الدواب، فإنها تترك بحالها، ما لم يخش عليها منا لتلف، فإن ذلك أرجى لمواقعة صاحبها بها عند المراعي التي تألفها، والموارد التي تعتادها. ومعنى قوله: (معها سقاؤها وحذاؤها) أي: يؤمن عليها أن تنقطع من الحفاء والظمأ؛ لأنها تقوى على السير الدائم، والظمأ المجهد: (والحذاء) ما وطئ عليه البعير من خفه، والفرس من حافره. (والسقاء) ما يكون للبن ويكون للماء، وأريد به هاهنا: ما تحويه في كرشها من

الماء، فيقع موقع السقاء في الري، وأريد به: صبرها على الظمأ، فإنها أصبر الدواب على ذلك، وقد استبان لنا من إطلاقاتهم في الإظماء أنها ربما ترد الماء في يوم العشرين من وردها، فيكون ظمؤها عشران، وذلك ثمانية عشر يوماً، وربما زادت على ذلك، فيقال لها: الجازئة. [2164] ومنه: حديث عبد الرحمن بن عثمان التيمي- رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (نهى عن لقطة الحاج) ورد في الحديث ما يدل على التفريق بين لقطة الحرم ولقطة غيره منا لبلاد، وقد ذكرناه. وهذا الحديث يحتمل لذلك المعنى، ويحتمل لغيره، وهو أن يقال: نهى عن أخذه ليتركه بمكانها، ويتعرف بالنداء عليها، فيكون أقرب لنشدانها، وأهدى إلى وجدانها، فإن الحاج لا يلبثون بمكة إلا أياماً قلائل، ثم يصدرن مصادر شتى، لا يتلقى بهم طريق، ولا تجمع بينهم بلدة، فيعدم فائدة التعريف بعد تفرقهم. وعبد الرحمن بن [عثمان] هذا، هو: ابن أخي طلحة بين عبيد الله وعبد الرحمن بن عبيد الله بن عثمان عمه أخو طلحة. ويقال لعبد الرحمن بن عثمان راوي هذا الحديث: شارب الذهب. (ومن الحسان) [2165] حديث عبد الله بن عمرو- رضي الله عنه- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أنه سئل عن الثمر المعلق .. الحديث) وقد ذكرنا- فيما تقدم- حكم هذا الحديث وأن [62 أ] قوله: (فعلية غرامة مثليه) حكم كان في أو الإسلام ثم نسخ، ورأى بعض أهل العلم جواز العقوبات بالأموال، ونقل أن عمر- رضي الله عنه- كان يرى ذلك. وفيه: (حتى يؤويه الجرين) أي: يضمه اجرين، ويصير له مأوى. وفي بعض طرق هذا الحديث: (حتى يأويه الجرين) وآويته- بالمد- وأويته- بالقصر- فعلت وأفعلت بمعنى. إذا أنزلته بك. والجرين: موضع التمر الذي يجفف، وثمن المجن سنبينه- إن شاء الله- في باب الحدود.

وفيه: (وسئل عن اللقطة، فقال: ما كان منها في الطريق الميتاء) الميتاء: طريق [العام] ومجتمع الطريق أيضاً ميتاء. ووصف الطريق ها هنا بالميتاء، والمراد منه: المحجة الواضحة، والذي يكثر المارة به، وهو مفعال، من الإتيان. أي: يأتيه الناس كثيراً، ونظيره: دار محلال. وفي نسخ المصابيح: (طريق الميتاء) على الإضافة، فإن كانت الرواية واردة به، فإنه أضيف لاختلاف اللفظين، أو على تقدير إضمار، كما في قولهم: مسجد الجامع، وحق اليقين، وقد يظن بعض الناس أن قوله: (وسئل عن اللقطة) حديث منفرد، لا تعلق له بما تقدمه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وليس الأمر على ما يقدره، فإن الكل حديث واحد، رواه أبو داود في كتابه كذلك. [2168] ومنه: حديث الجارود بن المعلى العبدري- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ضالة المسلم حرق النار) منع بعض أهل العلم عن أخذ الضالة، بناء على هذا الحديث. وإنما المراد منه: تحذير الذي لا يراعي فيها الأحكام التي شرعت فيها، من التعريف وغير ذلك عن أخذها. و (حرق النار) بالتحريك- قيل: لهبها، والحرق- بالتحريك-: النار. ويقال: في حرق الله، أي: في ناره، شبهها بالنار ولهبها؛ لأنها تؤدي إليها، إذا لم يحفظ فيها حدود الله، أو لما فيها من الضرر بدينه، إذا استأثر بها وبماله إذا اختلط بها. [2169] ومنه حديث عياض بن حمار المجاشعي- رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من وجد لقطة فليشهد ذا عدل .. الحديث) إنما أمره بالإشهاد استبراء لدينه عن تهمة الاستبداد بها؛ ليأمن من تسويلات النفس فيها؛ ولئلا يلحقه تبعة بسببها بعد الموت، إذا عدها الورثة أو [62 أ] غيرهم من ماله

باب الفرائض

وهو أمر تأديب وتعليم وفي نسخ المصابيح (من وجد اللقطة) على التعريف، وليس بتقويم، والرواية فيها على التنكير، كما أوردناه. ومن باب الفرائض (من الصحاح) [2172] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-: (ومن ترك دينا أو ضياعا) ويروى ضياعاً- بفتح الضاد وكسرها والفتح أكثر- وهو العيال، اسم جاء على لفظ المصدر، من قولهم: ضياع يضيع ضياعاً أراد: من ترك عيالا عالة، كقولك: من ترك فقرا. أي: فقراء. وأما بكسر الضاد، فجمع ضائع، كجائع وجياع، وفي رواية: (ومن ترك كلا)، الكل: العيال، والثقل. قال الله تعالى: {وهو كل على مولاه} والجمع: كلول: والكل: اليتيم. قال الشاعر:

أكول المال الكل قبل شبابه .... إذا كان عظم الكل غير شديد (ومن الحسان) [2184] قوله: - صلى الله عليه وسلم - في حديث مقدام بن معدى كرب الكندي- رضي الله عنه-: (أعقل عنه وأفك عانه) عقلت عن فلان: إذا غرمت عنه جنايته، وذلك إذا لزمته دية فأديتها عنه. وفي نسخ المصابيح:

(أعقل له) يقال: عقلت له دم فلان: إذا تركت القود للدية، قالت كبشة بنت معدى كرب: وأرسل عبد الله إذ حان يومه .... إلى قومه: لا تعلقوا لهم دمي ولا معنى له في هذا الحديث (وأفك عانه) فككت الشيء: خلصته، وكل مشتبكين فصلتهما فقد فككتهما، (وعانه) أي: عانيه، فحذف الياء، وروى في الخال يفك عنيه. والعاني: الأسير، وأريد به هاهنا: من تعلقت به الحقوق بسبب الجنايات، يقال: عنى يعنو. أي: خضع وذل، وأعناه غيره يقال: عنا فيهم فلان أسيراً، أي: أقام على إساره واحتبس وعناه غيره، يعينه: حبسه. [2187] منه: حديث عائشة- رضي الله عنها-: (أن مولى لنبي - صلى الله عليه وسلم - مات، ولم يدع ولداً ولا حميماً .. الحديث) وحميم الرجل: قريبه الذي يهتم لأمره، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يرث بقرابة ولا ولاء، وكذلك الأنبياء- صلوات الله عليهم- لا يرثون، ولا يورث عنهم؛ لارتفاع قدرهم عن التلبس بالدنيا الدنية وانقطاع أسبابهم عنها. وقوله- في الحديث الذي تقدم-: (أنا مولى من لا مولى له: أرث ماله) فإنه لم يرد به حقيقة الميراث، وإنما أراد أن الأمر فيه إلى في التصديق به، أو صرفه في مصالح المسلمين، أو تمليك غيره، هذا إذا كان الحديث [63/ أ] محفوظاً، على ما أورده المؤلف، وقد وجدت فيه خبطا من طريق الرواية، ولا أرى هذا السياق إلا سياق ابن ماجه. أعني: سياق حديث المقدام. [2189] منه: حديث علي- رضي الله عنه- (قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات) أعيان القوم: أشرافهم: والأعيان: الاخوة بنو أب وأم. وهذه الأخوة تسمى المعاينة. (وبنو العلات): هو أولاد الرجل من نسوة شتى. سميت بذلك؛ لأن الذي تزوجها على أولى قد كانت

باب الوصايا

قبلها تأهل ثم عل من هذه. ومن باب الوصايا (من الصحاح)

[2200] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث سعد- رضي الله عنه-: (عالة يتكففون الناس) عالة، أي: فقراء. والعيلة والعالة: الفقر والفاقة. يقال: رجل عائل، وقوم عليلة وعالة. و (يتكففون): أي: مادين أكفهم يسألون بها الناس، وتكفف واستكف بمعنى. (ومن الحسان) [2202] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي أمامة- رضي الله عنه-: (وللعاهر الحجر) العاهر: الزاني.

والعهر: الزنا. وكذلك العهر. مثل نهر ونهر. والاسم العهر- بالكسر- يريد أن له الخيبة، فلا حظ له في نسب الولد، وهو كقولك: له التراب. والذي ذهب فيه إلى الرجم فقد أخطأ؛ لأنا لرجم لم يشرع في سائر الزناة، وإنما شرع في المحصن دون البكر.

كتاب النكاح

ومن كتاب النكاح: [2205] حديث عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يا معشر الشباب من استطاع الباءة فليتزوج) الشباب: جمع شاب، وكذلك الشبان. والشباب أيضاً: الحداثة، وكذلك الشبيبة. و (الباءة) والباة: من أسماء النكاح، سمي به؛ لأن الرجل يتبوأ من أهله، أي: يتمكن منها، كما يتبوأ من داره. والاستطاعة. أريد بها استطاعة التزوج، لما يفتقر إليه من الأسباب، لا استطاعة نفس الفعل. وفيه: (فإنه له وجاء) الوجاء- بالكسر- ممدوداً: رض عروق البيضتين حتى تفضخ، فيكون شبيهاً بالخصاء. وقيل: إنه رض الخصيتين. والمعنى: أن الصوم يقع في قطع شهوة لنكاح وتقتيرها موقع الوجاء. [2207] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- (فاظفر بذات الدين تربت يداك) أي: فز بنكاح ذات الدين. وفي بعض طرقه: (فعليك [63/ ب] بذات الدين) وقوله: (فاظفر بذات الدين) أبلغ في المعنى، لما يتضمنه الأمر من الفوز. وقوله: (تربت يداك) يقال: تربت الرجل: أي: افتقر، كأنه قال: لصق بالتراب. وتفسير اللفظ: افتقرت، فلا [أصبت] خيراً، على الدعاء وقد ذهب إلى ظاهره بعض أهل العلم ولم يصب؛ فإن ذلك وما يسلك مسلكه منا لكلام تستعمله العرب على أنحاء كثيرة: كالمعتبة والموجدة، والإنكار، والتعجب وتعظيم الأمر والاستحسان والحث على الشيء، وقد مر بيانه والقصد فيه هاهنا: الحث والتشمير في الطلب المأمور به، واستعمال التيقظ دونه، مثل قولهم: انج لا أبا لك

[2209] ومنه: حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش) يريد: خير نساء العرب، فإنهن يركبن الإبل. و (صالح) أجراه على لفظ خير. وقوله: (أحناه) أي: أعطفه، والضمير فيه: يرجع إلى المحذوف. أي: أحنا من يوجد، أو: وجد، أو: من هناك ونحوه. وهذا من فصيح الكلام. ومثله قول الواصف: أحسنه خلقاً. يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -: أي: أحسن من يذكر ويوجد. [2212] ومنه حديث ابن عمر- رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الشؤم في المرأة والفرس والدار) الشؤم: نقيض اليمن. أي: يوجد ذلك في الأشياء الثلاثة أي: يوجد فيها ما يناسبه ويشاكله. والأشبه أن ذلك على طريق الاحتمال، لا على وجه الحتم والقطع؛ لما في حديث سعد بن أبي وقاص- رضي الله عنه-: (وإن يكن الطيرة في شيء ففي المرأة والفرس والدار) وإنما قال ذلك لرجوع الأشياء الثلاثة بالضرر البالغ على صاحبها، وليعلم أنها من أقرب الأشياء التي يبتلى به الإنسان إلى الآفة وقلة البركة. وقد قيل: إن شؤم المرأة: سوء خلقها. وشؤم الفرس: حرانه وشماسه. وشؤم الدار: ضيق عطنها، وسوء جارها. [2213] ومنه قوله: - صلى الله عليه وسلم - في حديث جابر- رضي الله عنه-: (أمهلوا حتى ندخل ليلاً) أي: عشاء لكي تمتشط الشعثة، وتستحد المغيبة: أي تتزين لزوجها وتتهيأ، [بامتشاط] وإماطة الأذى. و (الاستحداد) استفعال من الحديد يعني: استعماله والاستحلاق به. يحتمل أنه كنى بذلك عما تعالجه بالنتف، أو التنور [64 أ]؛ لأنه أصلح للكناية، وهو الوجه؛ لأن النساء لا [يرين] استعمال الحديد ولا يحسن بهن،

و (المغيبة) هي التي غاب زوجها، يقال: أغابت المرأة فهي مغيبة، بالهاء، ومشهد، بلا هاء. فإن قيل: كيف التوفيق بين قوله: (أمهلوا حتى ندخل ليلاً) وبيم ما روى أنه (نهى أن يطرق الرجل أهله) والطروق: هو أن يجيء أهله ليلاً. قلنا: المنهي عنه من الطروق: هو أن تقدم من سفر ليلاً من غير إعلام واستعلام وإمهال لتتمكن المغيبة من حاجتها، وتستعد للقاء الزوج. وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقدم من سفره نهاراً، وأكثر ما روى قدومه عند ارتفاع النهار وأوله، ويجلس للناس في المسجد، فالوجه في حديث جابر، أنهم قدموا نهاراً، فأمرهم بالتلبث، ليجدوا أهلهم على ما يحبون، فلم يوجد في ذلك المعنى الذي بسببه نهوا عنا لطروق، والأقرب أنه أراد الدخول ليلاً الاجتماع والإفضاء إليهن. (ومن الحسان) [2217] حديث عبد الرحمن بن عويم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (عليكم بالأبكار فإنهن أعذب أفواها، وأنتق أرحاماً، وأرضى باليسير) إنما أضاف العذوبة إلى الأفواه ما تحويه من الريق، ويقال للريق والخمر الأعذبان، والعذب: الماء الطيب، و (أنتق أرحاماً) أي: أرحامهن نتقاً للولد والأصل في (النتق) قلع الشيء والرمي به. ولهذا قيل للمرأة الكثيرة الأولاد: ناتق؛ لأنها ترمي بالأولاد [رمياً] يقال: نتقت المرأة، فهي ناتق، ومنتاق. وقوله: (وأرضى باليسير) أي: من الإرفاق؛ لأنها لم تتعود في سالف الزمان دون معاشرة الازواج ما يدعوها إلى استقلال ما تصادفه في المستأنف. وعبد الرحمن هذا هو عبد الرحمن بن عويم. من أهل العقبة، وولد هو في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم ير له رؤية ولا رواية، فلهذا قال: مرسل. وفي نسخ المصابيح: ابن عويمر، بزيادة الراء، وهو غلط.

باب النظر إلى المخطوبة وبيان العورات

ومن باب النظر إلى المخطوبة وبيان العورات (من الصحاح) [2218] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-: (فانظر إليها، فإن في أعين الانصار شيئاً) يريد به: شيئاً لا يستقر عليه الطبع، يكون سبباً للنفرة. وفي بعض طرق هذا الحديث من قول بعض الرواة بعد قوله: (فإن [64 ب] في أعين نساء الأنصار شيئاً يعني: الصغر. ويكون النبي - صلى الله عليه وسلم - عرف ذلك إما لتحدث الناس به، إما لتوسمه ذلك الشيء في أعين رجالهم. والنساء شقائق الرجال، فاستدل بالشاهد على الغائب وأشار بقوله: (في أعين الأنصار) إلى ذلك فعم الرجال والنساء، أو عرفه ربه فحدث به، ولا رابع لهذه الأسباب الثلاثة. [2222] ومنه: حديث عقبة بن عامر- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إياكم والدخول على النساء، فقال رجل: يا رسول الله، أرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت) والحمو: كل قريب من قبل الزوج، مثل الأب والأخ. وفيه أربع لغات: حما مثل قفا، وحمو مثل أبو، وحم مثل أب، وحمؤ- ساكنة الميم مهموزة. قال أبو عبيد: معنى قوله: (الحمو الموت) أي: فلتمت ولا تفعلن ذلك، فإذا كان ذلك دأبه في أب الزوج- وهو محرم- فكيف بالغريب، قال ابن الأعرابي: هذه كلمة تقولها العرب. كما تقول: الأسد الموت. أي: لقاؤه مثل الموت. وكما تقول: السلطان نار. وهذا اذي ذهبوا إليه صحيح، غير أنهم غفلوا عن بيان وجه النكير وتغليظ القول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والذي ذهب إليه أبو عبيد في تخصيص أب الزوج بالحمو غير سديد، لكونه محرماً مأذوناً له في الدخول على زوجة ابنه، شهد بذلك التنزيل، قال الله

تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن} والوجه فيه أن السائل أطلق القول في الحمو، ولم يبين عن أي الأحماء يسأل، فإن الحمو يتناول عند الإطلاق أخ الزوج الذي هو غير محرم، كما يتناول أب الزوج الذي هو محرم، فرد عليه قوله، كالغضب المنكر عليه لتعميته في السؤال، ثم لجمعه باللفظ الواحد بين من لا يجوز له الدخول عليها، وبين من يجوز له. ويحتمل أنه أراد بالدخول عليهن الخلة بهن، إذا انفرد كل واحد منهما بالخلوة مع صاحبه. ويدل عليه حديثه الآخر: (لا يخلون رجل بمغيبة، وإن قيل: حموها، [ألا]. حموها الموت). (ومن الحسان) [2227] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث المغيرة بن شعبة- رضي الله عنه: (فإنه أحرى أن يؤدم بينكما) يعني: أن يكون بينكما المحبة والاتفاق. قال الشاعر: والبيض لا يؤدمن إلا مؤدما أي: لا يحببن إلا محبباً، من (الأدم) وهو الألفة والاتفاق [65/ أ] يقال: أدم الله بينهما، وآدم، أي: أصلح وألف، وكذلك آدم، فعل وأفعل بمعنى.

[2229] ومنه حديث عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان) العورة: السوءة وكل ما يستحيا منه، وأصلها من العارة، أي: المذمة، ولذلك سمي النساء عورة، أي أن المرأة موصوفة بهذه الصفة، وما كان هذه صفته، فمن حقه أن يستر. ويحتمل أن يكون معنى قوله: (المرأة عورة) أنها ذات عورة، ولما كان من شأن العورة أن تكون مستورة محجوبة، ويستحيى من كشفها، ويستنكف. من هتك حرمتها، وكان شأن المرأة في تبرزها وتبرجها شببها بكشف العورة، سماها هنالك عورة، وذكر أنا إذا خرجت استشرفها الشيطان. والأصل في الاستشراف رفع البصر للنظر إلى الشيء، وبسط الكف فوق الحاجب كهيئة المستظل من الشمس، ومنه قول الحسن بن مطير: فيا عجباً للناس يستشرفونني .... كأن لم يروا بعدي محباً ولا قبلي وفي الحديث وجوه: أحدها: أنه ينظر إليها ويطمح ببصره نحوها، ليغويها أو يغوى بها. وثانيها: أن أهل [الريبة] إذا رأوها بارزة من خدرها استشرفوها؛ لما بث الشيطان في نفوسهم من الشر، وألقى في قلوبهم من الزيغ، فأضاف العمل إلى الشيطان؛ لكونه الباعث على استشرافهم إياها. وثالثها: أنه يود أنها على شرف من الأرض؛ لتكون معرضة له. وعلى هذا الوجه فسر الاستشراف في البيت الذي نقلناه من كتاب الحماسة.

ورابعها: أنه أراد أن الشيطان يصيبها بعينه، فتصير من الخبيثات، بعد أن كانت من الطيبات، من قولهم: استشرفت إبلهم. أي: تعينتها. هذا الذي اهتدينا إليه من البيان. والعجب ممن يتصدى لبيان المشكل وتفسير الغريب ثم يمر على مثل هذا القول غير مكترث به، وربما تدتق في تقدير ظاهر من القول. ولقد فتشت أمهات الكتب التي صنفت في هذا الفن عن بيان هذا الحديث، فلم أصادف أحداً منهم تعرض له بكلمه، فلعلهم غفلوا عنه، أو حبسوه من الواضح الجلى، ونحن استبهناه، فاجتهدنا فيه مبلغ علمنا في الاستكشاف. [2236] ومنه: حديث أم سلمة- رضي الله عنها-: (أنها كانت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وميمونة، إذ أقبل ابن أم مكتوم .. الحديث) وميمونة معطوفة على اسم (كان) ويجوز فيها لجر [65 ب] معطوفة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شرع بهذا الحديث أن ليس للنساء أن يرمين بأبصارهن إلى الرجال من غير ذوي المحارم قصداً، لما يتوقع فيه من الفتنة، ويتوقى عنه من الفساد، وأنهن لسن في فسح من ذلك، كما أنا لرجال ليس لهم ذلك، وإن كان الأمر من حقهم أشد وآكد؛ لأن العلة في النهي عن النظر إليهن غير واحدة، فإن قيل: كيف التوفيق بين هذا الحديث وبين حديث عائشة- رضي الله عنه- (كنت أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون بحرابهم في المسجد). قلنا: نرى أن ذلك كان قبل نزول الحجاب، ويحتمل أنها كانت يومئذ لم تبلغ الحلم، ويحتمل أن كلا الامرين وجد هنالك.

باب الولي في النكاح واستئذان المرأة

ومن باب الولي في النكاح واستئذان المرأة (من الصحاح) [2241] حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تنكح الثيب حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن، وإذنها الصموت) الاستئمار والائتمار: المشاورة، على هذا فسر في كتب أهل اللغة ولا وجه لحمله على التشاور في هذا الحديث؛ لكون الاستئذان حينئذ أبلغ منه، وقد علمنا أن الثيب أتم تصرفا في نفسها، فمعنى الاستئمار فيه طلب الأمر من قبلها، كما أن الاستئذان طلب الإذن. والأمر بالشيء: التقدم به، ولا يكون إلا بنطق. والإذن في الشيء: الإعلام بإجازته والرخصة فيه. والسكوت عنده ينوب مناب القول، ويستدل به على الرضا، لاسيما في هذه القضية؛ لأن الغالب من حال الأبكار أن لا يبدين إرادة النكاح من أنفسهن، حياء وأنفة وكان هذا أمراً مفهوماً، فلما أنزل النبي - صلى الله عليه وسلم - الصمات منها منزلة صريح الإذن، واشتهر علم ذلك في الأمة، صار الصموت في إذنها شرعاً مشروعاً. والصمات والصموت والصمت كلها مصدر: صمت. وبثلاثتها ورد الحديث، ففي هذا الحديث: وإذنها الصموت) وفي حديث ابن عباس- رضي الله عنه- و (إذنها صماتها) وفي بعض طرقه: (وصمتها إقرارها) والثيب المرأة التي دخل بها، وكذلك الرجل الذي قد دخل بامرأته، يقال: رجل ثيب وامرأة ثيب، الذكر والأنثى فيه سواء، وأصله من: ثاب الرجل، يثوب، ثوباً [وثوبانا] أي: رجع بعد ذهابه: والبكر هي التي لم تفتض، سميت [77/ أ] بذلك اعتباراً بالثيب؛ لتقدمها عليها فيما يراد له النساء. وأصل الكلمة: البكرة التي هي أول النهار. [2242] ومنه حديث ابن عباس- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الأيم أحق بنفسها من وليها ..

الحديث) الأيم- فيما يتعارفه أهل اللسان-: الذي لا زوج له من الرجال والنساء، يقال: رجل أيم، سواء كان تزوج من قبل أو لم يتزوج، وامرأة أيم أيضاً، بكراً كانت أو ثيباً، ويدل عليه قوله- سبحانه- {وانكحوا الأيامى منكم}. قال الشاعر: فإن تنكحي أنكح، وإن تتأيمي .... فإن كنت أفتى منكم أتأيم وإنما قيل للمرأة: أيم، ولم يقل: أيمة؛ لأن أكثر ذلك للنساء، فهو كالمستعار للرجال، وفسر جمع من أهل العلم الأيم في هذا الحديث بالثيب، وزعموا أنه فيها خاصة؛ لأنها ذكرت في مقابلة البكر، وأراهم إنما ذهبوا إلى ذلك فراراً من القول بولاية المرأة على نفسها، ويلزمها في البكر ما يلزمهم في الثيب، ثم إنهم وجدوا في بعض طرق هذا الحديث من غير وجه (الثيب أحق بنفسها) فردوا الأيم إليه في المعنى. ونقول: إن ذلك من بعض الرواة، في روايته الحديث بالمعنى، فحسب أن اثيب يسد مسد الأيم، فرواه كذلك، فعلى الوجه الذي ذكرنا من لغة العرب، واستدللنا عليه منا لكتاب الأيم هي: المرأة التي لا زوج لها، بكراً كانت أو ثباً، وإنما أفرد البكر في الاستئذان؛ لأن البكر والثيب، وإن اجتمعنا في حكم الولاية- فإنهما يفترقان في حكم الاستئذان. قلت: وفي بعض طرق هذا احديث من كتاب مسلم: (والبكر يستأذنها أبوها في نفسها) والأمر باستئذان الأب منها، وهو أقوى الأولياء ولاية، يؤيد الوجه الذي ذكرناه. [2245] ومنه: قول عائشة- رضي الله عنها- في حديثها (ولعبها معها) اللعب: جمع لعبة، كركبة وركب. أرادت ما كانت تلعب به، وكل ملعوب به فهو لعبة. وإذا فتح اللام، فهو المرة الواحدة من اللعب، وإذا كسر فهي الحالة التي عليها اللاعب. (ومن الحسان) [2247] حديث أبو موسى الأشعري- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا نكاح إلا بولي) وجه هذا الحديث عند أبي حنيفة- رحمة الله عليه- على تقدير ثبوته، أن يؤو على أن المراد منه النكاح الذي لا يصح إلا بعقد ولي بالإجماع، كعقد نكاح الصغيرة والمجنونة والأمة، وعلى هذا في الطرف الآخر. وقيل: المراد منه: نفي الكمال، وقد زيف بعض أهل [العلم] هذا التأويل. وقال: إنا يتأتى ذلك في العبادات

والقرب التي لها جهتان في الجواز من ناقص وكامل. وأما المعاملات التي لها جهة واحدة، فإن النفي يوجب فيها الفساد، أو كلاماً هذا معناه. والجواب عنه، أن هذا القائل قصد بنفي الكمال ارتهان العقد بما عسى أن ينقصه بعد الإبرام، من اعتراض الولي، فيما له فيه حق الاعتراض، فإذا عقد برضاه؛ انتفى عنه هذه النقيضة. وهذا كلام صحيح. وقد قيل فيه غير ما ذكرنا من التأويل. وإنما أحوجهم إلى ذلك طلب التوفيق بين هذا الحديث وبين حديث ابن عباس- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الأيم أحق بنفسها من وليها) وحديث ابن عباس حديث صحيح متفق على صحته، لا يقاومه حديث أبي موسى، إذ فيه لأهل السند مقال، لما وجد فيه من لاختلاف، فقد روى تارة عن أبي موسى، وتارة عن أبي بردة منقطعاً، وممن رواه كذلك سفيان الثوري وشعبة، روياه عن أبي إسحق عن أبي بردة، ومدار هذا الحديث على أبي إسحق، وقد رواه بعضهم عن يونس بن أبي إسحق عن أبي بردة، ولم يذكر فيه أبو إسحق. [2247] ومنه: حديث عائشة- رضي الله عنها- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها

باب إعلان النكاح والخطبة والشرط

فنكاحها باطل .. الحديث) قد تكلم بعض أه الحديث في هذا الحديث، وذكر في رواية ابن جريج هذا الحديث عن سليمان بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة، أن ابن جريح قال: سألت الزهري عنه فلم يعرفه. قلت: وقد سبق فيما يخالفه من حديث ابن عباس، وقد روى أيضاً عن عائشة- رضي الله عنها- ما يخالف حديثها هذا، مع صحة ذلك وضعف هذا، وذلك أنها زوجت بنت أخيها حفصة بنت عبد الرحمن، المنذر بن الزبير، وعبد الرحمن غائب بالشام، فلما قدم عبد الرحمن قال: أمثلي يفتات عليه في أمر بناته، فكلمت عائشة المنذر، فقال: ذلك بيد عبد الرحمن، فقال عبد الرحمن: ما كنت أرد أمراً قضيتيه .... الحديث) وقد استدل من يرى أن المرأة أحق بنفسها بهذا الحديث، فقال: أنى يستقيم لنا القول بسماع عائشة- رضي الله عنها- هذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد صنعت في ابنة أخيها ما صنعت، حتى أجازت ما لا يخالف صنيعها ذلك، فيؤول على ما أول حديث أبي موسى. وفي كتاب أبي عيسى: (أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها) وفي كتاب أبي داود: (بغير إذن مواليها) وهذا أكثر وأشبه، وعلى هذا يحتمل أن المراد من (امرأة) هو الامة، فكأنه قال (أيما أمه) واعتمد على ما بينه بقوله: (بغير إذن مواليها) فيكون مثل حديثه: (أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه) ومما يدل على اختيار رواية كتاب أبي داود نسق الكلام (فإن تشاجروا)، وفي تاب أبي عيسى (فإن اشتجروا) وهما سيان. يقال: اشتجر القوم وتشاجروا. أي: تنازعوا واختلوا. ولا نزاع في أن الضمير راجع إلى المولى، أو الاولياء. وقال الخطابي: يريد تشاجر العضل والممانعة في العقد دون تشاجر المشاحة في السبق. قلت: وأرى قوله: (فإن اشتجروا فالسلطان ولى من لا ولي له) مشكلا جا؛ لأنه يحكم بانتفاء الولي مع وجوده، إلا أن يقال: إنه أنزل التي وقعت المشاجرة فيها بين مواليها منزلة من لا ولي لها في الحكم، فيقوم السلطان مقام الولي في النظر لها الاعتراض عليها. ومن باب إعلان النكاح والخطبة والشرط (من الصحاح) [2253] حديث عائشة- رضي الله عنها-: (تزوجني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شوال، وبنى بي في

شوال ... الحديث) (بنى بي) صوابه عند أه اللغة بنى علي، علي ما في حديث الربيع بنت [معوذ] (حين بنى علي) ويقولون: العامة تقول بني بأهله، وهو خطأ، وكان الأصل في هذا أن الداخل بأهله كان يضرب عليها ليلة دخوله بها قبة، فقيل لكل داخل بأهله بأن، والظاهر أن يكون من بعض الرواة، فإنها- رضي الله عنها- كانت تضم إلى فصاحة قريش بلاغة، وفصل خطاب، وإنما قالت: (فأي نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت أحظى عنده مني)؛ لأنها سمعت بعض الناس يتطيرون ببناء الرجل على أهله في شوال، وكأن هذا كان من أحاديث أهل الجاهلية، لا يرون الإعراس في أشهر الحجر، فحكت من نفسها ما حكت؛ دفعاً للوهم عن نفوسهم وإزاحة للباطل عن عقائدهم. [2254] ومنه حديث عقبة بن عامر- رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به (الفروج) الشروط التي استحلت به الفروج هي: المهر والنفقة وحسن العشرة، ويحتمل أنه أراد بذلك الشروط التي دعت المرأة إلى الرغبة في الزوجية، فيدخل بذلك الوفاء بما لم تحظره الشريعة، ولم تقدح فيه السنة. [2256] منه: حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تسأل المرأة طلاق أختها .. الحديث) أراد أختها في الدين، إذا رغب زوجها في خطبتها، فسألته المخطوبة أن يطلق زوجته؛ لتكون منفردة بالحظ منه. وقوله: (لتستفرغ صفحتها) أي: تجعلها فارغة عما فيها. وهذا مثل ضربه لحيازة الضرة حق صاحبتها لنفسها. وفي رواية: (لتكتفي بما في إنائها) (وتكتفي): تفتعل. من: كفأت القدر: إذا كببتها لتفرغ ما فيها، (فإن لها ما قدر لها) أي: لن تعدو بذلك ما قسم لها، ولن تستزيد به شيئاً. [2260] ومنه حديث سلمة بن الأكوع- رضي الله عنه-: (رخص رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) عام أوطاس في

المتعة ثلاثاً، ثم نهى عنها) أوطاس، واد من ديار هوازن قسم بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غنائمهم، وذلك بعد الفتح، وكان ذلك في غزوة حنين، فإن سأل سائل عن أحاديث المتعة، فقال: تروون في حديث سلمة أنه رخص فيها عام أوطاس، ثم نهى عنها بعد ثلاث، وتروون في حديث سبرة بن معبد الجهني أنه نهى يوم الفتح عن متع النساء، وتروون من حديث علي- رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: نهى عن متعة النساء عام خيبر، وتروون عن جابر، أنه قال: كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الايام على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر، حتى نهى عن عمر في شأن عمرو بن حريث، وفي حديث أبي نضرة: كنت عند جابر بن عبد الله فأتاه آت فقال: إن ابن عباس وابن الزبير اختلفا في المتعتين، فقال جابر: لعلناهما مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم نهانا عنهما عمر- رضي الله عنه- فلم نعد لهما، وتروون أيضاً عن سبرة بن معبد: (أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمتعة عام الفتح، حين دخلنا مكة، ثم لم نخرج منها حتى نهانا عنها) وكل هذه الأحاديث صحاح، فكيف بالتوفيق بينها؟ فالجواب: أن يقال: المتعة كانت من الأنكحة التي كانوا يعتقدونها في الجاهلية، فلما جاء الله بالإسلام، لم يبين لهم فيها حكم، حتى كان يوم خيبر فنهوا عنها، ونودي فيهم بذلك، على ما في حديث علي- رضي الله عنه- ويحتمل أنهم كانوا قد رخصوا فيه قبل ذلك، ثم نهوا عن، ففي حديث عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه: (كنا نغزو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس لان نساء، فقلنا: ألا نستخصي فنهانا عن ذلك، ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل) ويحتمل أن الرخصة كانت بعد ذلك، ثم إنه بعد النهي عنها عام خيبر رخص فيها عام أوطاس، على ما في حديث سلمة، وكان الفتح ووقعة هوازن في عام واحد، فلا اختلاف بين حديث سلمة وسبرة. وقول سلمة: (رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام أوطاس في المتعة) يدل على تقدما لنهي. وأما حديث جابر: (كنا نستمتع) فإن الأمر فيه محمول على أنا لنهي لم يبلغه إلى زمان عمر- رضي الله عنه- وتأويل قوله: (على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر) أي: نرى ذلك جائزاً في زمان أبي بكر. وذلك غير مستبعد، فإن عبد الله بن مسعود مع غزارة علمه وقدمة صحبته

ومداومته، خفي عليه نسخ التطبيق، فلا ينكر أن يكون جابر لم يعلم بذلك، حتى بلغ عمر- رضي الله عنه- ما كان من عمرو بن حريث، فأغلظ القول، ورأى فيه العقوبة، وأعلم الجاهل بها، حتى استفاض علم ذلك في الامة، ونقله الآخر عن الأول. وقد شهد بتحريمها جمع من [علماء الصحابة]، فمن ذك: ما صح عن علي- رضي الله عنه- وأبي وغيرهم، النكير على ابن عباس في فتواه. وقد صح عن سبرة بن معبد أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (يا أيها الناس، إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة ... الحديث) ولما علم به ابن عباس رجع عن فتواه. وكان ابن عباس قاس أمر المضطر إلى قضاء الشهوة على أمر المضطر إلى الميتة، ولم يبلغه فيها نص، وقد استبان ذلك من قوله لسعيد بن جبير- حين قال له: (أتدري ما صنعت وبما أفنيت: والله ما بهذا أفنيت ولا هذا أردت ولا أحللت إلا مثل ما أحل الله من الميتة والدم ولحم الخنزير). فإن قيل: ألم يكن ابن عباس أكثر الناس ملازمة لعمر- رضي الله عنه- فكيف التبس عليه أمر المتعة إلى زمان ابن الزبير. قيل: يحتمل أنه حسب أن عمر- رضي الله عنه- نهى عن ذلك رأياً واجتهاداً، أو نهى عنها غير المضطر. فإن قيل: فإذا كانت متعة النكاح محرمة بالنص، وأجمعت الصحابة على تحريمه- على ما ذكرتم- فلم قرن عمر- رضي الله عنه- بينها وبين متعة الحجر، ومتعة الحج لم يختلف أحد في جوازها. قيل: إنما قرن بينهما؛ لاشتراكهما في التسمية، وغن كان النهي في أحديهما من جهة التحريم، وفي الأخرى من طريق النظر إل الأتم والأول، ولم يفتقر فيهما إلى بيان تميز أحدهما عن الآخر لمعرفة [68/ أ] السامعين، ثم إنه نهى عن متعة الحج في صيغتين: إحدهما رآها من المنكر، والأخرى نهى عنها من طريق المصلحة، فالأولى هي التي صنعها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ حيث رفضوا الحج وجعلوه عمرة، ولم يكن ذلك لغيرهم عرفناه من الأحاديث التي وردت فيه. فمنها: حديث بلال بن الحارث المزني- رضي الله عنه- قال: (قلت: يا رسول الله، نسخ الحج لنا خاصة أو لمن بعدنا قال: بل لكم خاصة) وإلى ذلك أشار أبو ذر- رضي الله عنه- بقوله: (لا تصلح المتعتان إلا لأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -: متعة النساء ومتعة الحج) فهذه الصيغة هي التي قابلها عمر- رضي الله عنه- بالنكير، وأوعد عليها، والأخرى كان ينهى عنها، لئلا يتخذها الناس ذريعة إلى إزالة التفث وقضاء حاجة النفس بين الإحرامين، فإن الطباع مائلة إلى إيثار الرخص ورفض العزائم، ونرى في الأولى قول عمر- رضي الله عنه-: (متعتان كانتا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا أنهي عنهما وأعاقب عليهما: متعة النساء ومتعة الحج). وكيف يظن به وهو الإمام العدل أن يعاقب على أمر مشروع، وعلى هذا يحمل قول

جابر: فعلناهما مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم نهانا عنه عمر، فلم نعد لهما. ومعلو، أن الصحابة في زمان عمر وبعده كانوا يتمتعون بالعمرة إلى الحج، فأما التي لم يفعلها أحد من الصحابة ثم من بعده، بعد أن بينها لهم عمر هي المتعة التي خص بها الركب الذين كانوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجته، كما خصت متعة النكاح بمن كانوا في زمانه ممن أضر بهم الغلمة، حتى استأذنوا في الخصاء. فإن قيل: قد ذكرتم من حديث سبرة، أنه نهى يوم الفتح متعة النساء وكذلك أخرجه مسلم في كتابه، وقد روى أبو داود في كتابه عن سبرة أيضا ـن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها يوم حجة الوداع، وقد ذكرتم من حديث سبرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إنها حرام من يومكم هذا إلى يوم القيامة) فكيف بالتوفيق بينهما؟ قلنا: روى في كتاب مسلم عن الزهرى، رواه عنه معمر. وفي روايته: (يوم الفتح) ورواه عنه أيضا صالح، وفي روايته [69/أ] (زمان الفت) ورواه عن الزهرى في كتاب أبي داود إسماعيل بن أمية: (يوم حجة الوداع) والعبرة براوية معمر وصالح، على ما رواه مسلم و (يوم حجة الوداع) وهم من إسماعيل أو ممن قبله من الرواة، مع أنه ليس باختلاف تناقض، فيحتمل أنه نهى عنها أيضا يوم حجة الوداع؛ ليكون أبلغ في الإبلاغ. (ومن الحسان) [2262] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-: (كاليد الجذماء) أي: المقطوعة- والجذم: سرعة القطع. يعنى: أن كل خطبة لم يؤت فيها بالثناء على الله، فهي كاليد المقطوعة التي لا فائدة فيها لصاحبها. وأصل التشهد قولك: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، ويعبر به عن الثناء، وفي غير هذه الراوية: (كل خطبة ليس فيها شهادة فهي كاليد الجذماء) الشهادة: الخبر المقطوع به. والثناء على الله أصدق الشهادات وأعظمها.

[2266] ومنه حديث عائشة- رضي الله عنها-: (كانت عندي جارية من الأنصار، زوجتها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا عائشة ألا تغنين .. الحديث) تغنى، وغنى بمعني، وكلا الفعلين فيه جائز، ويحتمل أن يكون على خطاب الغيبة لجماعة النساء، والمراد منهن من يتعانى ذلك من الإماء والسفلة فإن الحرائر من نساء العرب كن يستنكفن عن ذلك، لاسيما في الإسلام، ويحتمل أن يكون على خطاب الحضور لهن، ويكون من باب إضافة الفعل إلى الآمر والآذن فيه نبي الله، فإنه لهو مكروه، ولكن ارتفعت الكراهية عنه في هذه الصورة بالرخصة فيه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - رخص فيه على غير صيغة الأمر؛ لما في إخوتها من الحظر والكراهة وأحلت صيغة اللفظ إلى ما فيه من الاحتمال؛ حيث لم يكن عندي غيها رواية أثق بها.

باب المحرمات

ومن باب المحرمات (من الصحاح) [2273] حديث أم الفضل- رضي الله عنها- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا تحرم الإملاجة [69/ب] والإملاجتان) الملج: المص. يقال ملج الصبي أمه، وأملجت المرأة صبيها. والإملاجة المرة الواحدة منه، وفي معناه حديث عائشة- رضي الله عنها-: (لا تحرم المصة والمصتان)، وأكثر الفقهاء ذهبوا إلى أن قليل الرضاع وكثيره محرم، عملا بالمفهوم من الآية: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة} واعتبار بعمومها، وقد روى أن ابن عمر لما أخبر ابن الزبير يقول: لا تحرم الرضعة والرضعتان، قال: قضاء الله أولى من قضاء ابن الزبير، قال الله تعالى: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة} وقد قال بعض الفقهاء من أتباعهم: اختلفت الصحابة في قبول هذا الحكم الذي يتعلق بالكثير دون القليل، وأنكره طائفة منهم، وما كان هذا سبيله من أخبار الآحاد لا يعترض به على ظاهر القرآن. قال: وقد روى عن ابن عباس- رضي الله عنه- أنه قال فيما روى أنه لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان، فقال: قد كان ذلك ثم نسخ. وقيل: لعل ذلك كان ذلك في رضاع الكبير، حين كان يحرم رضاع الكبير، يعني به: حديث سهلة بنت سهيل زوجة أبي حذيفة، حين قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن سالما مولى أبي حذيفة- معنا في بيتنا، وقد بلغ ما بلغ الرجال، وعلم ما يعلم الرجال. قال: أرضعيه تحرمن عليه) وهو الآن منسوخ بالاتفاق، فسقط حكم العدد فيه، وعلى نحو من هذا الذي ذكرناه يأول حديث عائشة- رضي الله عنها- الذي يتلو هذا الحديث: (كان فيما أنزل من القرآن: عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات) وقولها: فتوفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهن فيما يقرأ من القرآن) يأول على أن بعض من لم يبلغه النسخ كان يقرأه على الرسم الأول؛ لأن النسخ لا يكون إلا في زمان الوحي، وكيف بالنسخ بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يجوز أن يقال: إن تلاوتها قد كان باقيا فتركوها، فإن الله- تعالى- قد رفع قدر هذا الكتاب المبارك عن الاختلال والنقصان، وتولى حفظه، ضمن بصيانته، فقال- عز من قائل-: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} فلا يجوز على كتاب الله أن يضيع منه آية، ولا ينخرم منه حرف كان يتلى في الذكر وإنا له لحافظون} فلا يجوز على كتاب الله أن يضيع منه آية، ولا ينخرم منه حرف كان يتلى في زمان الرسالة، إلا ما نسخ منه. [2275] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عائشة- رضي الله عنها-: (فإنما الرضاعة من المجاعة) يريد

أن الرضاع المحرم المعتد به في الشرع ما يسد الجوعة، ويقوم [70/أ] من الرضيع مقام الطعام، وقد اختلف العلماء في مدة الرضاع، فمنهم من ذهب إلى الحولين، وهو الأكثر، ومنهم من زاد عليهما ستة أشهر، ومنهم من قال: ثلاثة أحوال. وقد تفرد به قائله. وهذا الحديث هو الأصل في نسخ رضاع الكبير- إن صح أنه كان مشروعا، فإن كثيرا من أهل العلم حملوه في سالم على الخصوصية، والله أعلم. [2276] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عقبة بن الحارث- رضي الله عنه-: (كيف وقد قيل ففارقها) ذهب بعض أهل العلم إلى الاكتفاء في إثبات الرضاع بشهادة المرضعة، ووجه ذلك- عند أكثر العلماء- أن قوله: (كيف وقد قيل) حث على التورع منها لمكان الشبهة. ومن الحسان: [2279] حديث البراء بن عازب- رضي اله عنه-: (مر على خالي ومعه لواء ... الحديث) حرف هذا الحديث في كتاب المصابيح، فكتب: مر بى مكان: (على) والصواب على ما أثبتناه. وخاله: أبو بردة بن نيار.

ومن الرواة من قال: (عمى) والصواب هو الأول. وقد ذهب كثير من العلماء إلى أن الناكح كان مستحلا على ما كان في الجاهلية، فصار بذلك مرتدا محاربا لله ولرسوله؛ لذلك عقد اللواء لأبى بردة، ولذلك أمره بأخذ ماله. والله أعلم. [2280] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أم سلمة- رضي الله عنها-: (لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء) فتقت الشيء فتقا: شقتته. والمراد منه: ما وقع موقع الغذاء، وشق الأمعاءـ شق الطعام: إذا نزل إليها، وذلك لا يكون إلا في أوان الرضاع. وقوله: (في الثدي): (في) يعني الوعاء كقولك الماء في الإناء، وهو مثل قولهم: شربت من الإناء وشربت فيه. والارتضاع في الثدي إنما يفتق أمعاء الرضيع؛ لضيق مخرج اللبن من الثدي، ودقة معي الصبي، ولم يرد به الاشتراط في الرضاع المحرم أن يكون من الثدي، فإن إيجاد الصبي اللبن يقوم في التحريم مقام الارتضاع من الثدي. [2281] ومنه: حديث الحجاج بن مالك الأسلمي- رضي الله عنه- أنه قال: (يا رسول الله، ما يذهب عني مذمة الرضاع- الحديث) يعني بمذمة الرضاع: ذمام المرضعة، وكان لنخعي يقول في تفسيره: كانوا يستحبون عند فصال الصبي أن يأمروا للظئر بشيء سوى الأجر، وكأنه سأله: أي شيء يسقط عني

حق التي أرضعتني، حتى أكون قد أديته كاملا. والرواية فيه بكسر الذال، وفتح الذال فيها جائز. يقال: أخذتني منه مذمة ومذمة، أي: رقة وعار من ترك الحرمة. وأما قولهم: البخل مذمة، فإنه بالفتح لا غير. أي: ما يذم عليه. ويقال: أذهب مذمتهم بشيء، أي: أعطهم شيئا، فإن لهم ذماما. وقوله: (غرة: عبد أو أمة) بالتنوين والرفع في الجميع. و (عبد) بدل (غرة) فإنه الغرة عندهم: عبد أو أمة. وقال أبو عمرو: الغرة لا تكون إلا الأبيض من الرقيق. وقيل: الغرة- عند العرب-: أنفس شيء يملك. [2286] ومنه قول الراوي- في حديث صفوان بن أمية- رضي الله عنه-: وجعل له النبي - صلى الله عليه وسلم - تسيير أربعة [74/أ] يقال: سيره من بلده، أي: أخرجه وأجلاه، هذا هو الأصل فيه. والمراد به في الحديث: تمكينه من السير في الأرض آمنا، وذلك إشارة إلى ما أمر الله- تعالى- به نبيه، حين نبذ إلى المشركين عهدهم، وضرب لهم هذه المدة أجلا، بعد نبذ العهد إليهم. أي: يكون لهم الأمان، حتى يأخذوا حذرهم، ويسيحوا في أرض الله حيث شاءوا، قال الله- تعالى-: {براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين (1) فسيحوا في الأرض أربعة أشهر}

باب المباشرة

ومن باب المباشرة (من الصحاح) [2289] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه-: (لا عليكم ألا تفعلوا) في سائر النسخ إلا ما أصلح أو ألحق به: (ما عليكم) وهو- وإن ورد به الحديث- فإنه غير سديد في هذا الموضع؛ لأن المؤلف أورده في قسم الصحاح، [وهذا حديث لم يخرج في البخاري]، وإنما أخرجه مسلم، وفي كتابه: (لا عليكم) وفي بعض طرقه: (ولا عليكم) وكان يلزمه أن يراعى رواية مسلم حين أورده في قسم الصحاح. وفي كتاب مسلم عن ابن عون أنه قال: فحدثت بأ الحسن، فقال: والله' لكان هذا زجر. وفيه أيضا عن ابن سيرين، أنه قال: (لا عليكم) أقرب إلى النهي، وكأنهما يذهبان في معناه إلى أن المراد: ليس عليكم ضرر أن لا تفعلوا ذلك. ويحتمل أن يقال: (لا) نفى لما سألوا عنه، و (عليكم ألا تفعلوا) كلام مستأنف. وقوله- في الحديث الآخر-: (اعزل عنها إن شئت) توهن هذا التأويل. ويؤيده الحديث الآخر: (ذلك الوأد الخفي) إلا أن هذا الوجه يقتضى فتح الهمزة، والذي نعرفه من الراوية (إلا) بكسر الهمزة لا غير، وقد روى عن المبرد في هذا الحديث: (ما عليكم ألا تفعلوا) أي: ما عندكم أن تعزلوا ورسم الخط في ألا تفعلوا في كتاب مسلم بغير نون. وفي المصابيح، أن لا تفعلوا). [2292] ومنه: حديث جذامة بنت وهب الأسدية- رضي الله عنها- قالت: (حضرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

في أناس، فقال: لقد هممت أن أنهى عن الغيلة ... الحديث) الغيلة بالكسر، الأصل فيه أنها الاغتيال. يقال: فتلة غيلة، وهو أن يخدعه، فيذهب به إلى موضع، فإذا صار إليه قتله. ويقال أيضا: أضرت الغلية بولد فلان: إذا أتيت أمه وهي ترضعه. وكذلك إذا حملت أمه وهي ترضعه. والغيل بالفتح اسم ذلك اللبن، وكانت العرب ترى أن المرأة إذا أغالت ولدها شب شبابا غير محمود، وكان ممن لا يغنى غناء. [2297] ومنه: حديث أسماء بنت يزيد، الذي في الحسان من هذا الباب- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تقتلوا أولادكم سرا؛ فإن الغيل يدرك الفارس فيدعثره).

باب الصداق

وفيه: (ذلك الوأد الخفي) الوأد: الدفن في القبر حيا. شبه إضاعة النطفة التي هيأها الله لتكوين الولد منها بالوأد؛ لأنه سعى في إبطال ذلك الاستعداد، بعزل الماء عن محله، وفي ذلك ما يوجب الكراهة. فإن قيل: ففي أحاديث العزل ما يتضمن الرخصة، وفيها ما يفضي به الكراهة، فلأي معني جعل الجواب عنه- مبهما ولم ينه عنه نهيا صريحا، قلنا: النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينهى عن المباح حذرا أن ينتهي ذلك به إلى المحظور، فيشير إلى الكراهة بمعاريض القول. ومن باب الصداق [75/ب] (من الصحاح) [2302] حديث سهل بن سعد- رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاءته امرأة فقالت: يا رسول

الله، إني وهبت نفسي لك .. الحديث) المشكل من هذا الحديث (زوجتكها بما معك من القرآن) وتأويله- عند من يقول: إذا تزوجتها على سورة من القرآن، فالنكاح جائز ولها مهر المثل، إن دخل بها، أو ماتا، أو مات أحدهما، وإذا طلقها قبل الدخول فلها المتعة، أي: زوجتكها لما معك من القرآن، وإنما جعل الباء مكان اللام؛ لأن ذلك صار سببا للاجتماع بينهما، ولعل المرأة وهبت مهرها له، كما وهبت نفسها للنبي - صلى الله عليه وسلم - وفي حديث أنس، (أن أبا طلحة تزوج أم سليم على إسلامه، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فحسنه) فلم يكن إسلام أبى طلحة مهرا لها على الحقيقة، وإنما المعنى: تزوجها إسلامه، وكانت قد شارطته أن تجيبه إلى النكاح إذا أسلم. وفي بعض طرق حديث أنس: (ما كان لها مهر غيره) ومعنى ذلك- والله أعلم- أنها ما أرادت منه مهرا غيره. وقد روى عن الليث أنه قال- وهو احد رواة حديث سهل بن سعد-: لا يجوز لأحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يزوج بالقرآن. قلت: وإنما رأى القائلون بما ذكرنا العدول عن ظاهر الحديث إلى التأويل؛ لحديث عبادة بن الصامت، فيمن كان يعلمه القرآن، فأهدى إليه قوسا، وقد ذكرناه فيما قبل، ولحديث عبد الرحمن بن شبل الأنصاري- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اقرأوا القرآن، ولا تغلوا فيه، ولا تأكلوا به) ثم إنهم قالوا: قد أجمع المسلمون على أن من استأجر رجلا يدرهم على أن يعلمه سورة من القرآن، أن ذلك لا يصلح؛ للجهالة التي فيها، وكذلك لو باع منه بتعليم سورة من القرآن، وكل ما يوجب بطلان الإجارة والبيع من جهة الجهالة؛ فهو يوجب بطلان المهر، مع أن لفظ الحديث لا ينبئ عن التعليم، فإنه قال: (زوجتكها بما معك من القرآن) وما معه من القرآن لا يكون مهرا بحال. ثم إن في عدة طرق من هذا الحديث، أن المرأة قالت: (وهبت نفسي لك يا رسول الله، فقامت طويلا، فقام رجل فقال: يا رسول الله، إن لم يكن لك فيها حاجة، فزوجنيها) ولم يذكر في الحديث أنه شاورها فقام رجل فقال: يا رسول الله، إن لم يكن فيها حاجة، فزوجنيها) ولم يذكر في الحديث أنه شاروها في نفسها، ولا أنها قالت: زوجنى منه، ولابد لهذا القول من تتمة لم تذكر في الحديث، فما ينكر أن يكون قد جعل لها مهرا سوى السورة، وإنما ذكر السورة للمعنى الذي ذكر، والله أعلم. (ومن الحسان) [2304] حديث عمر بين الخطاب- رضي الله عنه-: (ألا لا تغالوا صدقة النساء ... الحديث) صداق المرأة، وصداقها، وصدقتها: ما يعطى من مهرها، والراوية عندنا فيه من الوجهين، أحدهما: (لا تغالوا صدق النساء) على الجمع، مثل: ربط. والآخر: (لا تغلوا في صدقات السناء) أي: لا تتجاوزوا فيه الحد،

أو لا تنافسوا بالمغالاة في مهور النساء. وأصل الغلاء: الارتفاع، والغلو: مجاوزة القدر في كل شيء، يقال: غاليت الشيء وبالشيء، وأغليت به: من غلاء السعر. ومنه قول [76/أ] الشاعر إنا لنرخص يوم الروع أنفسنا .... ولو نسام بها في الأمن أغلينا فإن قيل: في هذا الحديث (ما علمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نكح شيئا من نسائه ولا أنكح شيئا من بناته على أكثر من اثني عشر أوقية). وقد روى في صداق أم حبيبة بنت أبي سفيان-رضي الله عنها- أنه كان أربعة آلاف درهم. قلنا: إن أم حبيبة كانت بأرض الحبشة، فتأيمت عن زوجها عبيد الله بن جحش الذي تنصر بها ومات على النصرانية، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى النجاشي في خطبتها، فخطب إليها النجاشي في خطبتها، فخطب إليها النجاشي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووكلت خالد بن سعيد بن العاص، فتولى العقد عنها. وقيل: تولى العقد عنها عثمان بن عفان- رضي الله عنه- وأصدقها النجاشي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعة آلاف. وقيل: أربعمائة دينار. ولم يكن ما ساق إليها بمؤامرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا باختيار منه، فصار مستثني من جملة ما قال عمر. ويحتمل أنه لم يبلغ عمر- رضي الله عنه- فإنه قال: ما علمت. وأما الزيادة على اثني عشر أوقية في حديث عائشة نش، فإنه أراد عدد الأوقية، أي: أكثر منها في العدد، فلم يبلغ ثلاث عشرة، أو لم يحط علمه بالزيادة. وقول عائشة: (ونش) كذلك هو في كتب الحديث ومرجعه التنوين في نصبه، لعل بعض الرواة لم يثبت الألف، فجرى الأمر من بعده على ما رواه. [2305] ومنه حديث جابر- رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال (مز أعطى في صداق امرأته ملء كفيه سويقا، فقد استحل) الراوية على ما انتهت إلينا من كتاب أبي داود، فقد استحق وجه الحديث عند من لا يجوز المهر بما دون عشرة دراهم، أن يقال: في الحديث إجازة النكاح بهذه التسمية. وليس فيه دلالة على أن الزيادة لا تجب إلى تمام العشرة. هذا وقد كان من عادة العرب قديما وحديثا تعجيل المهر ودفعه إلى المخطوبة عند تمام العقد، فربما كان أحدهم لا يجد إلا الشيء اليسير، فأجيز له في ذلك. وعلى هذا المعنى حمل قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث سهل ابن سعد: (فالتمس ولو خاتما من حديد) إذ لو كان مراده ما يصح العقد عليه لزوجه بمهر في ذمته.

باب الوليمة

وقولهم في حديث عامر بن ربيعة- الذي يتلو هذا الحديث أيضا- على منوال ما ذكرناه، مع احتمال أن يكون قيمة النعلين لم يكن يقصر عن عشرة دراهم، الذي هو مقدار الواجب في الصداق. [2307] ومنه: قول معقل بن سنان الأشجعى- في حديث ابن مسعود- رضي الله عنهما-: (قضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بروع بنت واشق امرأة منا) أصحاب الحديث يكسرون الباء من (بروع) والصواب فيه الفتح؛ لأنه ليس في كلامهم (فعول) إلا (خروع، وغنود) اسم واد. وقوله: (امرأة منا) أي: من قومنا. وبروع كانت أشجعية، وقول الراوى: (ففرح بها ابن مسعود) الضمير يرجع إلى الفتيا، أو إلى القضية، فإن ابن مسعود أفتى بذلك من طريق الاجتهاد. وفي هذا الحديث أن أهل تلك القضية اختلفوا إليه شهرا، أو مرات، فلما قضى قوله قال: (فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ، فمنى ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان) فلما رأى الإصابة في الجواب فرح؛ حيث وافق فتياه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ومن باب الوليمة (من الصحاح) [2308] حديث أنس- رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى على عبد الرحمن بن عوف أثر

صفرة ... الحديث) كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهى أن يتزعفر الرجل، فيحتمل أن قوله: (ما هذا) تعريض بالنكير ولم يصرح بذلك؛ لأنه كان شيئا يسيرا، ويدل على ذلك لفظ الحديث (أثر صفرة) وعرض هو أيضا في جوابه، بأنه لم يقصد ذلك، وإنما هو شيء علق به من مخالطته العروس. وقوله: (على وزن نواة) اختلف فيه أقاويل أهل العلم، فقال أبو عبيد: قد كان بعض الناس يحمل معنى النواية على صفرة ... الحديث) كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهى أن يتزعفر الرجل، فيحتمل أن قوله: (ما هذا) تعريض بالنكير ولم يصرح بذلك؛ لأنه كان شيئا يسيرا، ويدل على ذلك لفظ الحديث (أثر صفرة) وعرض هو أيضا في جوابه، بأنه لم يقصد ذلك، وإنما هو شيء علق به من مخالطته العروس. وقوله: (على وزن نواة) اختلف فيه أقاويل أهل العلم، فقال أبو عبيد: قد كان بعض الناس يحمل معنى النواية على قدر نواة من ذهب قيمتها بخمسة دراهم، ولم يكن ثم ذنب، إنما هي خمسة دراهم، سميت نواة، كما يسمى الأربعون أوقية والعشرون نشا. وقال الأزهري: لفظ الحديث يدل على أنه تزوجها على ذهب قيمته خمسة دراهم، ألا تراه قال: (نواة من ذهب) ولست أدرى لم أنكره أبو عبيد؟! قلت: هذا الذي قاله الأزهري حسن، غير أن قوله: قيمته خمسة دراهم غير موافق للفظ الحديث، وهو قوله: (على وزن نواة من ذهب) ولعل الحديث لم يبلغه إلا على ما ذكره (نواة من ذهب) وإذا اقتفينا لفظ الحديث، فالذي يقتضيه ظاهر اللفظ أحد الوجهين: إما أن يكون تزوجها على تبرة لم يعرف وزنها، فقدرها بوزن نواة من نوى التمر، أو وجدها موازية لها، وإما أن تزوجها على تبرة بلغت في الوزن وزن خمسة دراهم. وقوله: (أو لم) أي: اتخذ وليمة. والوليمة: طعام العرس. [2314] ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (شر الطعام طعام الوليمة)

أي: من شر، وذلك مثل قوله: (شر الناس من أكل وحده) وما أكثر ما يكون في الناس شرا منه، فالمعني: من شر الناس. وسماه شر الطعام على الغالب من أحوال الناس فيها، فإنهم يبتقرون فيه: فيدعون الأغنياء ويدعون الفقراء. وأرى فيه وجها آخر، وهو أن يكون قوله: (يدعى لها الأغنياء- الحديث) صفة للوليمة، والتقدير: من طعام الوليمة التي صفتها كيت وكيت. وفي كتاب مسلم: (يدعى له) وفي بعض طرقه: (بئس الطعام طعام الوليمة) وعلى الجملة لا جائز أن يقال: إنه شر الطعام على الإطلاق. فإن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بالوليمة وأمر بإجابة من يدعو إليها، ومعاذ الإله أن يأمر هو بما فيه شر، أو يدعو إلى ما يقرب من شر، فكيف بما هو الشر المحض.

باب القسم

ومن باب القسم [2326] حديث أم سلمة- رضي الله عنها- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ليس بك على أهلك هوان ... الحديث) السنة في البكر التسبيع وفي الثيب التثليت، والنظر فيه إلى حصول الأفلة ووقع المؤانسة بلزوم الصحبة [78/أ] والبكر لما كانت حديث عهد بصحبة الرجل، وكانت حقيقة بالإباء والاستقصاء، لا تلين عريكتها إلا بجهد جهيد، شرع لها الزيادة لينفى بها نفارها، ويسكن بها روعها، وهي العدد التي يدور عليها الأيام. ولما أراد إكرام أم سلمة أخبرها أن لا هوان بها على أهلها، يعنى: نفسه، وأنزلها في الكرامة منزلة الأبكار. وقد كان - صلى الله عليه وسلم - مخصوصا في أمور العشرة ما يشاء، لم تكن لغيره، قال الله- تعالي-: {ترجى من تشاء منهن وتؤوى إليك من تشاء} الآية.

باب عشرة النساء

وقد اختلف أهل العلم فيما يلزم من بني على أهله بعد التسبيع أو التثليت، هل يقسم بعدها لبقية أزاوجه بحساب ذلك، أو يستأنف القسم، فذهب ذاهبون إلى أن ذلك من حقوق الجديدة، لا شركة لبقية الأزواج فيه. وقال آخرون: إن لبقية الأزواج استيفاء عدة تلك الأيام، والحجة لهم على من خالفهم هذا الحديث، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأم سلمة: (إن شئت سبعت عندك وسبعت عندهن) فقالوا: لو كان الأيام الثلاثة التي هي من حقوق الثيب مسلمة لها مخلصة عن الاشتراك، لكان من حقه أن يدور عليهن أربعا أربعا؛ لكون الثلاثة حقا لها، فلما كان الأمر في التسبيع على ما ذكر، علم أنه في الثلاث كذلك. [2327] ومنه: حديث عائشة- رضي الله عنها- (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقسم بين نسائه فيعدل ويقول اللهم، هذا قسمتي فيما أملك- الحديث) أشار بذلك إلى ميل النفس، وما جبل عليه الإنسان من التزيد الحب بحكم الطبع، وغلبة الشهوة. ومن باب عشرة النساء (من الصحاح) [2329] حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (استوصوا بالنساء خيرا ... الحديث) أي: أوصيتكم بهن خيرا، فاقبلوا وصيتي فيهن. وقد بينا معني الاستيصاء في كتاب العلم. وفيه

(فإنهن خلقن من ضلع) الضلع- بكسر الضاد وفتح اللام- واحدة الضلوع والأضلاع. ثبت أن حواء استخرجت من ضلع آدم، فأشار بذلك إلى أن المرأة خلقت خلقا فيه اعوجاج، لا يستطيع أحد من خلق الله أن يقيمه ويغيره عما جبل عليه، وهي من بدو خلقها وأصل فطرتها ركب فيها العوج، لا يتهيأ الانتفاع بها إلا بمداراتها والصبر على عوجها. [2331] ومنه: حديثه الآخر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يفرك مؤمن مؤمنة ..) الفرك- بالكسر- البغض. تقول منه: فركت المرأة زوجها، أي: أبغضته، فهي فروك وفارك. وكذلك فركها زوجها. ولم يسمع هذا الحرف في غير الزوجين. [2332] ومنه: حديثه الآخر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لولا بنو إسرائيل لم يختز اللحم) خنز اللحم- بالكسر- يختز خنزا، أي: أنتن مثل خزن- على القلب. يشير إلى أن خنز اللحم شيء عوقبت به بنو إسرائيل؛ لكفرانهم نعمة الله، وسوء صنيعهم فيها. [2334] ومنه: قول عائشة- رضي الله عنها- في حديثها: (ينقمعن منه فيسربهن إلى) ينقمعن، أي: يتغيبن ويتسترن. يقال: قمعته وأقمعته بمعني، أي: قهرته وذللته فانقمع. قيل: انقماعهن: دخولهن في بيت أو ستر، (فيسربهن إلى) أي: يرسلهن سربا سربا. يقال: سربت إليه الخيل، وهو: أن يبعثه عليه سربة بعد سربة. وفي حديث علي- رضي الله عنه-: إني لأسربه عليه، أي: أرسله قطعة قطعة، وفي حديث جابر: فإذا قصر السهم قال: سرب شيئا أي: [أرسله] ومعنى الحديث: أن صواحبها كن يهبن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا دخل عليها تغيبن واعتزلن الملعب، فيردهن إليها ليلعبن معها.

[2335] ومنه: حديثها الآخر: (رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقوم على باب حجرتي والحبشة يلعبون الحراب .. الحديث) يحتمل أنهم كانوا في رحبة المسجد، وكانت تنظر إليهم من باب الحجرة وذلك من داخل المسجد فقال: في المسجد؛ لاتصال الرحبة به، أو دخلوا المسجد لتضايق الموضع بهم، وإنما سومحوا فيه؛ لأن لعبهم ذلك لم يكن من اللعب المكروه، بل كان يعد من عدة الحرب مع أعداء الله، فصار بالقصد من جملة العبادات، كالرمي، وأما النظر إليهم، فالظاهر أنه كان قبل نزول الحجاب، وقد مر بيانه بأكثر من هذا. وفيه: (فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو) يقال: قدرت لأمر كذا، أقدر وأقدر: إذا نظرت فيه ودبرته. أي: دبروا أمر الجارية مع حداثة سنها وحرصها على اللهو، وانظروا فيه، إذا تركت وما تحب من ذلك كم تلبث وتديم النظر إليه. يريد بذلك طول لبثها ومصابرة النبي - صلى الله عليه وسلم - معها على ذلك. [2338] ومنه: حديث جابر- رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خطبة حجة الوداع: (اتقوا الله في النساء) الحديث شرحناه في قصة حجة الوداع. [2339] ومنه: حديث أسماء- رضي الله عنها-: (قالت امرأة، يا رسول الله، إن لي ضرة، فهل عليَّ

جناح إن تشبعت من زوجي .. الحديث) تشبعت، أي: تكثرت بأكثر مما عندي والمتشبع: المتزين بأكثر مما عنده يتكثر بذلك، ويتزين بالباطل. وقد مر تفسير قوله: (كلابس ثوبي زور). [2340] ومنه: حديث أنس- رضي الله عنه-: (آلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نسائه شهرا ... الحديث) آلي يؤالى إيلاء: حلف. وتألى وائتلى مثله. والآلية: اليمين. وجعل الإيلاء في الشرع للحلف المانع من جماع المرأة، وكيفيته وأحكامه مذكورة في كتب الفقه. وفيه: (وكانت انفكت رجله) يقال: يسقط فلان فانفكت قدمه، أو إصبعه: إذا انفرجت وزالت. الفكك: انفساح القدم. [2342] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عائشة- رضي الله عنها-: (وإذا مرت صاحبكم فدعوه) تبين لنا من قوله: (وأنا خيركم لأهله) أنه عنى بقوله ذلك نفسه. وعنى بقوله: (فدعو) أي: دعوا التلهف عليه والتحسر، ففي الله خلف عن كل فائت فكأنه لما قال: (وأنا خيركم لأهله) ووجه تلك الكلمة مدعاة لفرط الأسف ومجلبة للهم المتلف، خفف عنهم أعباءها، بقوله: (وإذا مات صاحبكم فدعوه).

[2346] ومن الحسان قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث طلق بن علي- رضي الله عنه-: (فلتأته، وإن كانت على التنور) أي: وإن كانت نخبز، فإن التنور هو الذي يخبز فيه، وإنما علق الأمر بكونها على التنور؛ لأن شغلها بالخبز من الأشغال الشاغلة التي لا يتفرغ معها إلى غيرها، إلا بعد انقضائها والفراغ منها. [2348] ومنه: حديث معاوية بن حيدة القشيري- رضي الله عنه-: (قلت: يا رسول الله، ماحق زوجة أحدنا عليه؟ قال: أن تطعمها إذا طعمت .. الحديث) طعمت: متصلا بتاء الخطاب، وكذلك (إذا اكتسيت) وهو (افتعلت) من الكسوة، وإنما بينته- مع سهولته-؛ لأني وجدت أقواما يروون (طعمت) متصلا بتاء التأنيث على أن ذلك راجع إلى الزوجة. وكذل يروون: (إذا كسيت) وكلاهما غلط، وفي بعض الروايات: (أن تطعمها مما طعمت، وتكسوها مما اكتسيت) وذلك أسد؛ لأن الرجل إذا كان صائما أو غير مشته للطعام، فليس له أن يحبس عنها الطعام حتى يطعم هو. وفيه: (ولا تقبح) أي: لا تشتم، ولا تقل: قبحك الله. قيل: لا تقل: قبح الله وجهك. وفي الحديث: (لا تقبحوا الوجه).

[2349] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث لقيط بن صبرة- رضي الله عنه-: (ولاتضربن ظعينتك ضربك أميتك) الظعينة: المرأة ما دامت في الهودج، فإذا لم تكن في الهودج فليست بظعينة. قال الشاعر: قفي قبل التفرق يا ظغينا ... نخبرك اليقين وتخبرينا فاتسعوا فيها فقالوا للزوجة: ظعينة، وأرى أنهم يكنون بها عن كرائم النساء؛ لأن الهودج إنما يضم الكريمة على أهلها، ولهذا سماها في هذا الموضع ظعينة. أي: لا تضرب الحرة التي هي منك بأعز مكان ضربك أميتك التي هي بأوضع مكان منك. و (أمية) تصغير أمة. [2350] ومنه: قول عمر- رضي الله عنه- في حديث إياس بن عبد الله: (يا رسول الله، ذئر النساء على أزواجهن) أي: نشزن واجتزأن. يقال: امرأة ذئر على (فعل) والذائر: النفور. [2353] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-: (وخياركم خياركم لأهله) أي: من خياركم خياركم لأهله، وقد ذكرنا نظائر ذلك فيما سبق، والله أعلم.

باب الخلع والطلاق

ومن باب الخلع والطلاق (من الصحاح) [2355] حديث عبد الله بن عباس- رضي الله عنه-: (أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس ما أعيب عليه .. الحديث) امرأة ثابت هذه قد اختلف فيها، فمن قائل: إنها جميلة بنت أبي بن سلول، ومن قائل: إنها حبيبة بنت سهل النصارى، وكذلك أورده أبو داود في كتابه، أن حبيبة بنت سهل امرأة ثابت بن قيس، أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانت هذه المرأة التي اختلف فيها فركت زوجها لدمامته، فنشزت عليه. وقولها: (ما أعتب عليه) أي: ما أجد في نفسي منه شيئا لرقة في دينه، أو غلظة في خلقه. والعتب في الأصل: كل مكان ناب بنازله، واستعير العتب والعتبة لغلظة يجدها الإنسان في نفسه على غيره، وعرضت عما في نفسها من كراهة الصحبة وطلب الخلاص منه بقولها: (ولكن أكره الكفر في الإسلام) أي: أكره أن أتعرض في الإسلام لما هو شجنة من الكفر، وذلك كفران العشير، أو أرادات بذلك ما صارت بصددها من اجتراح الآثام بسبب النشوز والفرك، وسماه كفرا لمنأواته حكم الإسلام. [2357] ومنه: حديث عائشة- رضي الله عنها-: (خيرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاخترنا الله ورسوله، فلم

يُعد ذلك علينا شيئا) كان علي- رضي الله عنه- يرى أن المرأة إذا خيرت فاختارت نفسها بانت بواحدة، وإن اختارت زوجها، كان ذلك واحدة رجعية، وكان يزيد بن ثابت في الصورة الأولى يقول: بانت بثلاث، وفي الأخرى بواحدة بائنة، فأنكرت ذلك وقالت قولها. أي: لو كان ذلك موجبا لوقوع الطلاق لعد علينا طلاقا، ولم يعد علينا شيئا، لا ثلاثا وواحدة بائنة ولا رجعية. [2358] ومنه: قولها في حديثها الآخر: (فلتقل: إني أجد منك ريح مغافير) المغافير والمغاثير: جمع مغفور ومغثور- بضم الميم فيهما- وقيل: جمع مغفر ومغثر، وهو ثمر العضاد كالعرفط والعشر والثمام والسلم والطلح وغيرها، إلا أن الذي في هذا الحديث هو ما يجتني من العرفط، لما في الحديث: جرست نحلته العرفط) وما ينضحه العرفط حلو، وله رائحة كريهة. [2359] ومن الحسان: حديث ثوبان- رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أيما امرأة سألت زوجها طلاقا في غير ما بأس .. الحديث) ما صلة، والبأس: الشدة. أي: من غير شدة تلجئها إلى ذلك. وقوله (فحرام عليها) أي: ممنوع، وذلك علي نهج الوعد والمبالغة في التهديد، ووقوع ذلك يتعلق بوقت دون وقت، أي: لا تجد رائحة الجنة إذا وجدها المحسنون، وقد بينا وجه ذلك في كتاب العلم.

[2361] ومنه: حديث علي- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا طلاق قبل النكاح .. الحديث) وقد روى في معناه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وقد رأى جمع من العلماء إيقاع الطلاق النكاح، على ما هو مذكور في كتب الفقه. وقد روى ذلك عم عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- فأخذوا به لما يعضد النظر. وتأويل الحديث عندهم، أنه إذا قال لآخر: تزوج فلانة، فيقول: قد طلقتها ثلاثا. أو قيل له: أسير عند فلان، فيقول: قد أعتقته، فإذا تزوج المرأة أو اشترى العبد لم يضره ذلك. ومن الصحاح: حديث ابن عباس- رضي الله عنهما- في الحرام يكفر: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} أراد ابن عباس: أن من حرم على نفسه شيئا قد أحل الله له يلزمه كفارة يمين، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حرم على نفسه ما أحل له أمر بالكفارة، قال الله- تعالي-: {يا أيها النبي لم تحرم ما احل ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم (1) قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} الآية. والأسوة: الحالة التي يكون عليها الإنسان من اتباع غيره، إن حسنا وإن قبيحا، ولهذا وصفت في الآية بالحسنة.

باب المطلقة ثلاثا

[2365] ومنه: حديث عائشة- رضي الله عنها-: (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لا طلاق ولا عتاق في إغلاق) فسر كثير من أصحاب الغريب الإغلاق بالإكراه، كأنه يغلق عليه الباب ويحبس ويضيق عليه حتى يطلق أو يعتق. وقيل: لا يطلق التطليقات في دفعة واحدة، حتى لا يبقي منها شيء، ولكن يطلق [82/أ] طلاق السنة، وهذا تأويل حسن، لو استقام لنا في العتاق استقامته في الطلاق. ووجدت بعض أهل العلم فسر الإغلاق بالغضب، وكأنه التفت فيه إلى ما في الغضب من الإطباق والتضييق، وليس التفسير الذي سبق بأحق من هذا. والمعني: أنه إن طلق من حدة الطبع وثوران الغضب، فربما بثه بالمحرجات الثلاث، فيتأثم بترك طلاق السنة. وربما لم يكن الطلاق من [قصده ونيته] فيستفزه الشيطان، فيلقيه على لسانه، فيفرق بينه وبين امرأته. وفي العتاق إذا فعل ذلك من حال الغضب من غير قصد صحيح ونية صالحة صادقة يتوجه بها إلى الله، حبط أجره وضل عمله، فنهى عنه، وهو نهى عن فعله، وليس بنفي عن حكمه. ومن باب المطلقة ثلاثا (من الصحاح) [2369] حديث عائشة- رضي الله عنها-: (جاءت امرأة رفاعة القرظى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

الحديث) ورفاعة هذا هو: رفاعة بن السموءل القرظى، وامرأته تميمة بنت وهب. وقيل: بنت أبي عبيد والظاهر أن أبا عبيد هو وهب. وفيه: (فبت طلاقي) أي: قطعه، فلم يبق من الثلاث شيئا. يقال: صدقة بتة: إذا انقطعت عن ملك صاحبها. وفيه: (فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير) أكثر أهل النقل يفتحون الزاي ويكسرون الباء. ورواه أبو بكر النيسابوري بضم الزاى وفتح الباء، وكذلك أخرجه البخاري في تاريخه. وقولها: (وما معه إلا مثل هدية الثوب) كناية عن صغر هنه وقلة غنائه. وفيه: (حتى تذوقى عسيلته) قيل: إنه كناية عن حلاوة الجماع، شبه لذته بالعسل، وإنما أنث؛ لأنه أراد قطعة من العسل. وقيل: أنث؛ على معنى النطفة. وقيل على إرادة اللذة. وقيل: العسل يذكر ويؤنث، فذهب في تصغيره إلى التأنيث. (ومن الحسان) [2370] حديث ابن مسعود- رضي الله عنه-: (لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المحلل والمحلل).

قيل: هو أن يطلق الرجل امرأته ثلاثا، فيتزوجها رجل آخر، على شريطة أن يطلقها بعد مواقعته إياها؛ لتحل للزوج الأول. يقال حللت له امرأته، فأنا حال، وهو محلول له. وفيه ثلاث لغات: حللتها- بالتخفيف وحللتها بالتشديد، وأحللتها. وروي: (لعن الله المحل والمحل له) قيل سماه محلا لقصده إلى التحليل، وإن كانت لا تحل إذا كان قصده. [2371] ومنه: ما روى عن سليمان بن يسار: (أدركت بضعة عشر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم يقول: يوقف المولى) قد ذكرنا قول أهل اللغة في البضع في أول باب من الكتاب وترك المميز، وهو رجلا أو شخصا، لما دل عليه قوله: (من أصحاب) يقال: بضعة عشر رجلا، وبضع عشر امرأة. ومعنى قوله [70/ب]: (يوقف المولى) ذهب بعض الصحابة وبعض من بعدهم من أهل العلم: أن المولى عن امرأته، إذا مضى عليه مدة الإيلاء، وهي عند بعضهم أكثر من أربعة أشهر وقف، فإما أن يفيء، وإما أن يطلق. وإن طلق عليه الحاكم، وذلك شيء استنبطوه من الآية رأيا واجتهادا. وخالفهم آخرون فقالوا: الإيلاء أربعة أشهر، فإذا انقضت بانت منه بتطليقه، وهو مذهب أبي حنيفة- رحمه الله عليه- وهو الذي يقتضيه ظاهر الآية، قال الله- تعالى-: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم} {فإن فاءوا} يعنى: في الأشهر. وفي حرف ابن مسعود- رضي الله عنه-: {فإن فاءوا فيهن} والتربص: الانتظار. أي: ينتظر بهم إلى مضي تلك الأشهر. {وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم} أي: عزموا الطلاق بتربصهم إلى مضى المدة، وتركهم. وتأويله- عند من يرى أنه يوقف-: فإن فاءوا وإن عزموا الطلاق بعد مضى الطلاق بعد مضى المدة. ومن الفصل الذي يليه (من الصحاح) [2374] حديث معاوية بن الحكم السلمي- رضي الله عنه- في حديثه: (فأسفت عليها) أي: غضبت. ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أين الله؟ فقالت: في السماء .. الحديث) أشكل على كثير من المحصلين حقيقة ما أريد من هذا السؤال والجواب وتشعبت بهم صيغة القول في الفصلين حتى انتهى بفريق منهم إلى النكير والطعن على العمياء في الحديث، ولم يعد إليهم من ذلك إلا إفك صريح، فإن الحديث حديث صحيح. وأفضى بآخرين منهم إلى ادعاء ما لم يعرف له في الحديث أصل، وذلك زعمهم أن الجارية كانت

باب اللعان

خرساء، فأشارت إلى السماء [وكلى] القولين مردود؛ لأنهم قابلوا الصدق بالكذب، وعارضوا اليقين بالشك. والسبيل- فيما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتلقى بالقبول، فإن تدارك الله المبلغ إليه بالفهم فيه، فذلك هو الفضل العظيم، وإن قصر عنه فهمه، فالسلامة في التسليم، ورد العلم فيه إلى الله وإلى الرسول، مع نفى ما يعترض الخواطر فيه من المعاني المشتركة والأوصاف الموهمة للمشاكلة، وقد عز جناب الكبرياء عما تتصرف فيه الأوهام، وتتلقفه الأفهام، وتدركه الأبصار، وتحيط به العقول [361/]: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} ثم إن المتنفر عن هذا الحديث، المجد في الهرب عنه، لو أنعم النظر فيه، وفيما يتلى عليه من الآيات والذكر الحكيم، ويروى له من السنن بالنقل القويم؛ لم يعدم له نظائر في القبيلين، قال الله- سبحانه-: {أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور}. ولاشك أنه يريد به نفسه، وليس ذلك أنه محصور فيها، ولكن على معني أن أمره ونهيه جاءا من قبل السماء، فوقعت الإشارة من النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث إلى مثل ما نطق به التنزيل. وقد كان - صلى الله عليه وسلم - في توقيف العباد على الشئون الإلهية والأمور الغيبية على صراط مستقيم، لم يكن لغيره أن يسلك ذلك المسلك إلا بتوقيفه، وقد أذن له في ذلك ما لم يؤذن لغيره. وكان رحمة من الله على عباده، بعث إلى كافة الخلائق، بعد أن كانوا على طبقات شتى ومنازل متفاوتة من عقولهم وآرائهم وإدراكاتهم واستعدادتهم، وكان منهم القوى والضعيف، والبالغ والقاصر، والكامل والناقص، فكان يأتي في تعريف ما قد علم أن بالناس حاجة إلى معرفته سهل المتناول، غزير المعنى، يأخذ العارف منها حظه، ويعلم الجاهل بها دينه، ويتضح بها ما أشكل، ويقرب بها ما بعد، {قد علم كل أناس مشربهم} وكان - صلى الله عليه وسلم - معنيا بأن يكلم الناس على قدر عقولهم، فلم يكن ليكلم جارية ضعيفة العقل واهية الرأي، فاترة النظر، قاصرة الفهم بما يقتضيه صرف التوحيد، ويكشف عن حقيقته نور القدس، فتزداد حيرة إلى حيرتها، لكن قنع منها بأن تعلم أن لها ربا {يدبر الأمر من السماء إلى الأرض} فسألها عن ذلك، على ما تبصره من حالها، وتبينه من مقدار عقلها، وكان - صلى الله عليه وسلم - أعرف الخلق بالله، وأعلمهم بطريق الهداية إليه، فليس لأحد من خلق الله أن يشمئز عن قاله قالها، أو يتنكب عن محجة سلكها، فما يأتي منه إلا ما طاب وكرم، وما له منا- فيما بلغنا عنه- إلا السمع والطاعة، والرضا والتسليم، صلى الله عليه أفضل ما صلى على أحد من عباده المكرمين. ومن باب اللعان (من الصحاح) [2375] حديث سهل بن سعد الساعدى- رضي الله عنه-: (أن عويمر العجلاني قال: يا رسول الله

الحديث) عويمر هذا هو: عويمر بن أبيض العجلانى الأنصاري، وبنو عجلان [71/ب]- بفتح العين- بطن وفي حديثه متمسك لمن يرى أن الفرقة بين المتلاعنين إنما تقع بتفريق الحاكم؛ وذلك في قول عويمر: (كذبت عليها يا رسول الله، إن أمسكتها، فطلقها ثلاثا) ولو كانت الفرقة واقعة بينهما بنفس اللعان، لم يكن للتطليقات الثلاث معنى. وفيه (أسحم أدعج العينين) الأسحم: الأسود. والسحمة السواد. والدعج: شدة سواد العين مع سعتها. وفيه: (خدلج الساقين) أي: عظيم الساقين [وممتلئها]. والخدلج- بتشديد اللام: الممتلئ الذراعين والساقين. وفى معناه: خدل الساقين وخدلم، بزيادة ميم، وقد ورد في بعض طرق هذا الحديث (خدل الساقين) ويحتمل أن يكون بالذال المعجمة. يقال: مخلخل خذل، أي: ضخم. وفيه: (كأنه وحرة) الوحرة- بالتحريك- دويبة حمراء تلزق بالأرض. [2378] ومنه: حديث ابن عباس- رضي الله عنهما-: (أن هلال بن أميا قذف امرأته بشريك بن

سحماء ... الحديث) امرأة هلال اسمها خولة. وهي: بنت عاصم الأنصارية، وهذا أول لعان كان في الإسلام، وفيه نزلت الآية وفي صاحبته. وفيه: (البينة أو حدا في ظهرك) أي: أقم البينة، أو حدا، نصب على المصدر، أي: تحد حدا. وفي البخاري: (وإلا حد في ظهرك) والتقدير: وإلا عليك حد أو لك حد. وفي كتاب أبي داود: (أو حد في ظهرك)، وفيه: (فلما كانت الخامسة وقفوها، أي: الشهادة الخامسة: (ووقفوها) أي: حبسوها ومنعوها عن المضي في الشهادة الخامسة. يقال: وقفت الدابة، تقف،، وقوفا. ووقفتها أنا، يتعدى ولا يتعدى. وقالوا: (إنها) أي: الخامسة (موجبة) أي: موجبة للتفريق بينكما، أو لحكم اللعان. ويحتمل أن يكون معنى: (وقفوها) أي: أطلعوها على حكم الخامسة أنها موجبة، من قولهم: وقفته على ذنبه، أي: أطلعته. قال ابن عباس: (فتلكات) أي: توقفت. يقال: تلكأ عن الأمر تلكأ، أي: تباطأ عنه وتوقف فيه. وفيه: (ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم) أي: جميعه. واللام فيه للجنس. أي: سائر الأيام. وهو في معنى قولهم: سائر الدهر. أي: لا أصدق الزوج؛ فإن فيه فضيحة قومي آخر الدهر، فيعيروني لمكان منهم. وفيه: (فمضت) أي: في الخامسة، فلم تتأخر عنها، وفيه: (أبصروا، فإن جاءت به أكحل العينين، سابغ الإليتين) يقال: شيء سابغ، أي: كامل تام واف. فإن قيل: ما فائدة هذا الكشف، ولم يتضمن إلحاق الوالد بالزاني، وإقامة الحد على المرأة، مع أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتحرى الستر على ذوى الهنات، ويأمر بذلك [72/أ].

قلنا: فيه فوائد، فمنها: أنه يدخل في أعلام النبوة؛ لأنه قدر أمر المولود على نعت [لم يتعد] عنه، ثم ما فيه من التنبيه على أن لا عبرة بالشبه، وأن لا تأثير لوضوح الأمر بعد وقوع الفرقة بين المتلاعنين، وإليه وقعت الإشارة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لولا [ما] مضى من كتاب الله؛ لكان لها [شأنا] والمعنى: لولا ما سبق من حكم الله في المتلاعنين، لجعلتها عبرة للناظرين، وتذكرة للسامعين؛ لهتكها الحرمة بينها وبين ربها، تارة بالزنا، وأخرى بالأيمان الكاذبة. فبين بذلك أولا: شدة غضب الله وغضب رسوله عليها، وأعلن ثانيا بأن لا سبيل عليها بالعقوبة والتنكيل فيما ارتكبته من المنكر الشنيع والعضيهة الفظيعة، وإن وجد الشبه وعرفت الأمارات، إذ لو كان ذلك لأحد، لكان أولى الناس به نبى الله الذي أيد بالإصابة فيما يخبر عنه، وأعين بالعصمة عن الزيغ فيما يحكيه. فإن قيل: فكيف التوفيق بين حديث اللعان وبين قوله: (الولد للفراش، وللعاهر الحجر) قيل: حديث إلحاق الولد بالفراش ورد فيمن يدعى الولد من غير فراش، فنفى عنه وجعله لصاحب الفراش، إذا لم ينتف عنه، فإن انتفى الولد دعة إلى الملاعنة، فإن لاعن عنه، لم يلحق به، فلا مصادة إذا بين الحديثين؛ لأن حديث اللعان فيمن ينفى الولد مع الفراش، والحديث الاخر فيمن يدعى الولد من غير فراش. [2383] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الأعرابي، رواية هريرة- رضي الله عنه-: (هل فيها من أورق) الأورق من الإبل: الذي في لونه بياض إلى سواد. وقد قيل: إنه أطيب الإبل لحما، وليس بمحمود عندهم في عمله وسيره. وفيه: (عرق نزعها) نزعت الشيء من مكانه، أي: قلعته، ونزعت القوس: مددتها. فقوله: (عرق نزعها) أي: قلعها ومدها من ألوان فحلها ولقاحها، ومن المثل: العرق نزاع. ونزع إلى أبيه في الشبه، أي: ذهب. والنزاع من الخيل: التي نزعت إلى أعراق. والمراد من العرق: النار والأصل، وما درس فيه من الطباع. أخذ من عرق الشجر. يقال: أعرق الرجل: إذا صار عريقا، وهو الذي له عرق في الكرم، وفلان معرق، ويقال ذلك في الكرم واللؤم جميعاً.

ضرب له المثل بما شاهده من لون إبله التي [92/ب] تخالف الفحل واللقاح في شياتها وألوانها، وبين له من طريق القياس أن اختلاف اللون ليس من الدلائل التي يجب الحكم بها. وفي بعض طرق هذا الحديث أن الرجل كان من بني [فزارة] وقد ذكر بعض الحفاظ أن اسمه ضمضم، واسم أبيه قتادة، وامرأته من بني عجل. [2384] ومنه: حديث عائشة- رضي الله عنها-: (كان عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أخيه .. الحديث) عهد إليه، أي: أوصاه (أن ابن وليدة زمعة منى) أراد بالوليدة: الأمة. وكان أهل الجاهلية إذا الحديث) عهد إليه، أي: أوصاه (أن ابن وليدة زمعة منى) أراد بالوليدة: الأمة. وكان أهل الجاهلية إذا وطئ أحدهم أمة غيره، ترقب بها الحبل، فإن حبلت عقيب ذلك، زعم أن الحمل منه، فإذا وضعته ادعاه فألحق به، وكان عتبة قد صنع هذا الصنيع، فأوصى أخاه سعد بن أبي وقاص- رضي الله عنه- حين مات بمكة أن يضم إليه ابن وليدة زمعة، على أنه ابنه، فلما كان يوم فتح مكة طلب سعد أن ينتزعه من ذويه ويؤويه فألحقه بأبيه، وأقر له بالأخوة (فتساوقا) أي: ذهبا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأن كل واحد منهما يسوق صاحبه إليه، فكم بينهما بما ينبئ عنه بقية الحديث. ووجه الحديث ومعناه عند من لا يرى للأمة فراشا، ولا يرى أن يلحق الولد بالمولى إلا بإقرار منه، أنه لم يحكم فيه بشيء سوى اليد التي جعله بها لعبد بن زمعة ولسائر ورثته دون سعد، ولعل ذلك بحق الولاية، ولم يكن ذلك من الحكم بالنسب في شيء؛ لأنه أمر سودة بالاحتجاب منه، ولو كان المراد إثبات النسب، لم يأمرها بالاحتجاب؛ لأنه خلاف ما شرعه - صلى الله عليه وسلم -. ومعنى قوله: (الولد للفراش) على جهة التعليم والتعليل. أي: إنك تدعى أنه لأخيك عتبة، ولم يكن له فراش حتى يكون له الولد، وإذا لم يكن له فراش، فللعاهر الحجر. وأما ما ذكر في الحديث من الشبه، فإنه من قول الراوي، حمل الأمر فيه على الشبه، ولو كان الشبه معتدا به في هذا الباب، لما قال للأعرابي الفزارى: (فلعل عرقا نزعه) فإن قيل: ففي الكتاب ويروى: (هو أخوك) قيل: إن ثبت، فالوجه فيه: إنه أخوك بإقرارك، فيشاركك في حصتك من الميراث. وإقرار الوارث في مثل هذه القضية يعتبر به في الميراث، ولا عبرة في إثبات النسب.

وذهب آخرون في قوله: (احتجبي منه) إلى أنه رأى الشبه، فلم يأمن أن يكون من مائه، فأجراه في التحريم مجرى النسب. ويحتمل أنه استعمل الورع في اتقاء الشبهات، وأخذ بالأحوط من الأمرين، وبني الأمر على مقتضي الغيرة. وكان - صلى الله عليه وسلم - أولى الناس بتلك الخلال، وأحقهم بها [73/أ] وعتبة بن أبي وقاص مات بمكة كافرا، وهو الذي كسر رباعية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد. وقد ذكره بعض المتأخرين من أهل الرواية في أعداد الصحابة، ولم يصب، ولم يسبق إليه، ولم يتابع عليه. [2385] ومنه: حديثها الآخر: (دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مسرور، فقال: أي عائشة، ألم ترى أن مجززا المدلجى ... الحديث) مجزز هذا هو القائف، من بنى مدلج. قيل: لم يكن اسمه مجززا، وإنما سمى به؛ لأنه كان إذا أخذ أجيرا جز ناصيته، فغلب عليه هذه التسمية. وكان من أمر زيد بن حارثة وابنه أسامة أن زيدا كان أبيض اللون، وأسامة أسود، وأم أسامة أم أيمن كانت جارية حبشية الأصل، ورثها النبي - صلى الله عليه وسلم - من أبيه عبد الله، فأعتقها، وكانت حاضنته، وكان أهل ذلك البيت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكان لم يشاركهم فيه أحد، وكان المنافقون يتعرضون بالطعن في نسب أسامة لسواد لونه، يبغون بذلك أذية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمر عليهما القائف وهما نائمان في المسجد، قد تغطيا رءوسهما، فنظر إلى أقدامهما، وهو لا يدرى من هما، ولم ير وجههما فقال قوله، فسر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما فيه من إشادة الحق، وغيظ أهل النفاق، واستحسن حديثه ودقة نظره في ذلك. (ومن الحسان) [2388] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه: (ولن يدخلها الله جنته)، أي: مع من يدخلها من المحسنين، بل يؤخرها أو يعذبها ما شاء، إلا أن تكون كافرة فيجب عليها الخلود.

وفيه: (وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه) ذكر النظر تحقيق لسوء صنيعه، وتعظيم للذنب الذي ارتكبه؛ حيث لم يرض بالفرية حتى أماط جلباب الحياء عن وجهه. [2389] ومنه: حديث ابن عباس- رضي الله عنهما-: (جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن لي امرأة لا ترد يد لامس .. الحديث) لقد غلط جمع من الناس في تأويل قول الرجل: (لا ترد يد لامس) فظنوا أنه رماها ببذل البضع لمن روادها عنه، وهذا وإن كان اللفظ يقتضيه احتمالا، فإن قوله - صلى الله عليه وسلم -: (فأمسكها إذن) يأباه. ومعاذ الله أن يأذن رسول الله في إمساك من لا تماسك لها عن الفاحشة، فضلا [73/أ] من يأمر به، وإنما الوجه فيه: أن الرجل شكا إليه عنهها وخرقها وتهاونها بحفظ ما في البيت، والتسرع إلى بذل ذلك لمن أراده، فلا ترد يد لامس بل تدعه حتى يأخذ حاجته من ماله. [2390] ومنه حديث عبد الله بن عمرو- رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (قضى أن كل مستلحق استلحق بعد أبيه .. الحديث) المستلحق: بفتح الحاء- هو طلب الورثة أن يلحقوه بهم. واستلحقه، أي: ادعاه، وذلك إذا توفي الرجل عن حمل أو ولد على فراشه بملك اليمين، فلم ينتف عنه ولم يلحقه بنفسه فاستلحقه الورثة، وبقية الحديث تكشف عن المراد.

باب العدة

ومن باب العدة (من الصحاح) [2392] حديث فاطمة بنت قيس القرشية الفهرية- رضي الله عنها- أن أبا عمرو بن حفص طلقها البته ... الحديث) أرادت بالبتة: التطليقات الثلاث. وقيل: إن البتة كانت آخر تطليقة بقيت لها من الثلاث. وفيه: (فأرسل إليها وكيله الشعير، فسخطته) سخطته، أي: استقلته. يقال: سخط عطاءه، أي: استقله، ولم يقع موقعا. وفيه: (ليس لك نفقة) على هذا النحو رواه الحجازيون. ورواه الشعبي عنها وفي روايته: (لا نفقة لك ولا سكنى) والحديث- وإن كان صحيحا- فقد روى عنها بألفاظ مختلفة المعنى. ولم ير جمع من العلماء العمل بها، ولهم في خلافه متمسك أقوى منه، فمنه حديث النخعى أن عمر- رضي الله عنه- أخبر بذلك، فقال: لسنا بتاركي آية من كتاب الله وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقول امرأة، لعلها وهمت. سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لها السكنى والنفقة) وقد أنكرت عليها عائشة- رضي الله عنها- في روايتها، فقالت: (ما لفاطمة من خير أن تذكر ذلك) وقد أنكر عليها أسامة، وقد صح أن حديثها رفع إلى عمر- رضي الله عنه- فقال: (لسنا بتاركي كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة) وذلك بمحضر من الصحابة، فلم ينكر عليه أحد. ولو كانوا يرون، أو يعلمون خلاف ذلك لم يسكتوا عنه، وكفى به حجة. والوجه في حديثها: أنها نسيت أو أخطأ سمعها. قلت: وقد روى في هذا الحديث أنها ردت الشعير على وكيله، وذكر أنها كانت تتسلط على أحمائها وتؤذيهم بطول لسانها. وروى أنها لم تكن تلبث عند بني مخزوم، وهم رهط [74/أ] زوجها. وكل ذلك يدل على بذائها ونشوزها، وإذا نشزت المرأة على زوجها وهي في حبالته لم تستحق النفقة، وذلك أكد حقا من كونها في عدته، فبالحري أن تمنع النفقة والسكنى مع العلل التي ذكرناها.

وفيه: (وأما أبو الجهم فلا يضع عصاه عن عاتقه) قيل في معناه: إنه كثير الأسفار، لقولهم: ألقى عصاه: إذا أقام قال الشاعر: فألقى عصاه واستقر به النوى وقيل: إنه كناية عن كثرة ضربه النساء وهذا أولى التاويلين، لاسيما وقد ورد في بعض طرقه: (فرجل ضراب للنساء) وابو جهم هذا هو: أبو جهم بن حذيفة القرشي العدى صاحب الخميصة، ولم يعرف له سمى في الصحابة، على الصحيح. [2393] ومنه: حديث عائشة- رضي الله عنهما-: (أن فاطمة كانت في مكان وحش ... [الحديث]) أرض وحشة وبلد وحش بالتسكين فيهما- أي: قفر يقال: لقيته بوحش إصمت، أي: ببلد قفر. وفي حديث ابن مسعود: (أنه كان يسمى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأرض وحشا) أي: وحده ليس معه غيره. وأصل الوحشة: الفرق من الخلوة. ويقال للخلوة: الوحشة، وللهم أيضا. [2396] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أم سلمة- رضي الله عنها-: (وقد كانت إحداكن في

الجاهلية ترمى بالبعرة على رأس الحول) كانت المرأة من أهل الجاهلية إذا توفي عنها زوجها دخلت بيتا صغيرا مظلما مبتذلة في شر ثيابها، معتزلة عن الطيب والكحل وما يجرى مجراهما من زينة النساء، حتى يمضي عليها حول، ثم تؤتى بدابة: حمار أو شاة أو طائر، فتفتض، أي: تكسر بها عدتها، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمى بها تشير بذلك إلى أن الذي رعته من حق زوجها بتلك العدة لا يقع في جنب ما لزمها من حقه موقع تلك البعرة. أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا القول تعبيرهن. أي: كانت إحداكن في الجاهلية تتحمل هذه المشاق، ويعز على إحداكن في الإسلام أن تتربص بنفسها أربعة أشهر وعشرا. [2398] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أم عطية- رضي الله عنها-: (إلا إذا طهرت نبذة من قسط أو أظفار) قوله: (نبذة) أي: قطعة على هذا فسر. والنبذ من الشيء هو اليسير منه. يقال: ذهب ماله وبقي نبذ منه. وبأرض كذا نبذ من ماء أو كلأ. وفي رأسه نبذ من شيب. وأصاب الأرض نبذ من مطر [74/ب] والنون من (نبذة) إذا كانت بمعنى الناحية- تفتح وتضم وأما في هذا الحديث فلا أعرفها إلا بالفتح. والقسط، قيل: هو العود الذي يتبخر به. وقيل: هو طيب غيره. وقول أهل اللغة فيه: [إنه] من عقاقير البحر. وفي بعض الروايات: (من كست) والقاف والكاف يبدل أحدهما من الآخر كالطاء والتاء، والأظفار، قيل: إنه جنس من الطيب، لا واحد له من لفظه. ونقل عن الأزهري أنه قال واحده ظفر. وقال غيره: الأظفار شيء من العطر أسود، والقطعة منه [شبيه] بالظفر.

باب الاستبراء

(ومن الحسان) [2400] قوله: - صلى الله عليه وسلم - في حديث أم سلمة- رضي الله عنها-: (إنه يشب الوجه) أي: يوقده ويلونه. من: شبت النار، إذا أوقدتها. ولعل المعنى يحسنه. يقال للجميل: إنه لمشبوب. وهذا شبوب لكذا، أي: يزيد فيه ويقويه. يقال: شعرها يشب لونها، أي: يطهره ويحسنه. وفيه: (تغلفين به رأسك) تغلفين- مفتوحة التاء، والأصل: تتغلفين، فحذف إحدى التائين، وهو من قولك: تغلف الرجل بالغالية، وغلف بها لحيته غلفا، من قولك: غلفت القارورة، أي: جعلتها في الغلاف. [2401] ومنه: قوله- عليه السلام- في حديثها الآخر: (ولا الممشقة) أي: الحلة المصبوغة، أو الثياب المصبوغة بالمشق، مكسورة الميم، أي: الطين الأحمر، وهو المغرة. ومن باب الاستبراء (من الصحاح) [2402] حديث أبى الدرداء- رضي الله عنه-: (مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بامرأة مجح ... الحديث) المجح- بتقديم الجيم على الحاء المهملة- هي: الحامل المقرب. وأصل الإجحاح للسباع، تقول قيس لكل سبعة إذا حملت فأقربت وعظم بطنها: قد أجحت، فهي مجح.

ومعنى قوله: (كيف يستخدمه ... إلى تمام الحديث) أنه إذا ألم بأمته التي تملكها وهي حامل، كان تاركا للاستبراء، وقد فرض عليه، وأثار الشبهة على نفسه في ولد غيره، وإذا أتت بولد في زمان يحتمل الحمل فيه وأقر به لحق الولد به، وليس له، مع احتمال أن يكون الولد من غيره، أن يشركه في الميراث مع أولاده أو غيرهم ممن يجب له الميراث، ولا أن يوقفه موقف العبيد، لما فيه من احتمال أن يكون منه، فاستحق اللعن بتركه الاستبراء، وإتيانه ما لم يحل له [75/أ] وسقيه زرع غيره، وقد نهي عنه.

باب النفقات وحق المملوك

ومن باب النفقات وحق المملوك (من الصحاح) [2410] حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا صنع لأحدكم خادمه طعامه، ثم جاءه وقد ولى حره ودخانه ... الحديث) (ولى) يجوز أن يكون من الولاية، أي: تولى ذلك، ويجوز أن يكون من (الولي) وهو القرب والدنو، وعلى التقديرين كناية عن مقاساته الحر والدخان في اتخاذ ذلك الطعام. وفيه: (فإن كان الطعام كشفوها قليلا)، فسر المشفوه بالقليل من قولهم: رجل مشفوه: إذا كثر السؤال الناس إياه حتى نفذ ما عنده، وماء مشفوه: إذا كثرت الواردة عليه. وعلى قول من يفسره بالقليل، (فقليلا) بدل منه. ويحتمل أن يكون تفسيرا له، وأرى أن المراد من المشفوه- ها هنا- ما كثرت أكلته، وهو من الشفه، وأصلها شفهة. ويتضمن الحديث حينئذ أمرين، أحدهما: كثرة الأكلة. والثاني: قلة المأكول. وفيه (فليضع في يده أكلة) الهمزة منها مضمومة، وهي: اللقمة.

(ومن الحسان) [2416] حديث عبد الله عمر- رضي الله عنه-: (أن رجلا أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني فقير وليس لي يتيم .. الحديث) أضاف اليتيم إلى نفسه لمكان ولايته عليه بالقرابة القريبة. ولهذا رخص له أن يتناول من مال يتيمه، وذلك بأنه يأكل منه قوتا مقدرا محتاطا في تقديره على وجه الحرة، أو استقراضا، على ما في ذلك من الاختلاف. وعن بعض علماء التفسير في: {ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف} أنه ينزل نفسه منزلة الأجير فيما لابد منه. وكان عمر- رضي الله عنه- يقول: إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة ولى اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف، وإذا أيسرت قضيت. و (المبادر) هل: الذي يبادر إلى أخذ مال اليتيم مخافة أن يبلغ فينتزع ماله من يده. (ولا متأثلا) أي: غير جامع مالا من مال اليتيم، فيتخذه أصل ماله. وقد فسر التأثل فيما قبل. [2417] ومنه: حديث أم سلمة- رضي الله عنها- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (أنه كان يقول في مرضه: الصلاة، وما ملكت أيمانكم) المعنى: أحفظوا الصلاة [75/ب] أو أحذركم الصلاة وما ملكت أيمانكم أن تضيعوها. وقد ذهب بعض الناس في تأويل قوله: (وما ملكت أيمانكم) إلى أنه الزكاة. والأكثر والظهر أنه أراد به المماليك. وإنما قرنه بالصلاة ليعلم أن القيام بمقدار حاجتهم من الكسوة والطعام واجب على من ملكهم وجوب الصلاة التي لا سعة في تركها، وقد ضم بعض العلماء البهائم المستملكة في هذا الحكم إلى المماليك، وإضافة الملك إلى اليمين كإضافته إلى اليد. والاكتساب والأملاك تضاف إلى الأيدي لتصرف المالك فيها وتمكنه من تحصيها باليد، وإضافتها إلى اليمين أبلغ من إضافتها إلى اليد؛ لكون اليمين أبلغ في القوة والتصرف، وأولى بتناول ما كرم وطاب. وأرى فيه وجها آخر، وهو: أن المماليك خصوا بالإضافة إلى الإيمان تنبيها على شرف الإنسان وكرامته، وتبيينا لفضله على سائر أنواع ما يقع عليه اسم الملك، وتمييزا له بلفظ اليمين عن جميع ما احتوته الأيدي، واشتملت عليه الأملاك. [2418] ومنه: حديث رافع بن مكيث- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (حسن الملكة يمن

الحديث) يقال ما في ملكه شيء، ومت في ملكه شيء، أي: لا يملك شيئا. وكذلك: ما في ملكته شيء- بالتحريك، إلا أن الملكة في الغالب تختص باستعماله في المماليك. يقال: فلان حسن الملكة: إذا كان حسن الصنع إلى مماليكه. و (اليمن): البركة. ومعنى ذلك: أن المحسن في ملكته يبارك له فيما ملك لإحسانه؛ لأن المماليك يرغبون فيه لذلك، ويحسنون خدمته، ويأثرون طاعته، وبضد منه أمر سييء الملكة. وفيه: (ويدفع عنه ميتة السوء) الميتة- بكسر الميم-: الحالة التي يكون عليها الإنسان من موته، كالجلسة، والركبة. يقال: مات فلان ميتة حسنة، أو ميتة سيئة. وفيه: (والبر زيادة للعمر) يحتمل أنه أراد بالزيادة البركة فيه، فإن الذي بورك له في عمره يتدارك في اليوم الواحد من فضل الله ورحمته ما لا يتداركه غيره [76/أ] في السنة من سني عمره. أو أراد: أن الله جعل ما علم منه من البر سببا للزيادة في العمر، وسماه زيادة باعتبار طوله، وذلك كما جعل التداوى سببا للسلامة، والطاعة سببا لنيل الدرجات، وكل ذلك كان مقدرا كالعمر. وقد تقدم القول في هذا المعنى.

[2425] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبى ذر- رضي الله عنه-: (من لاءمكم من مملوكيكم) أي: وافقكم وصلح لكم. ولاءمت بين القوم ملاءمة: إذا أصلحت وجمعت. وإذا اتفق الشيئان فقد التأما. ومنه قولهم: هذا طعام لا يلائمنى، ولا يقل: لا يلاومنى، فإنما هو من اللوم. ولليم: الصلح والاتفاق بين الناس. وفي الحديث: (ليتزوج الرجل لمته) أي: مثله وشكله، والهاء عرض من الهمزة الذاهبة في وسطه.

باب بلوغ الصبي وحضانته

ومن باب بلوغ الصبي وحضانته (من الحسان) [2429] قول المرأة في حديث عبد الله بن عمرو- رضي الله عنه-: (وحجري له حواء) حجر الإنسان- يفتح ويكسر- والحواء- في الأصل-:جماعة بيوت من الناس مجتمعة، والجمع: الأحوية، وهى من الوبر، ويستعمل في المكان الذي يحوى الشيء، وهو المراد في الحديث.

كتاب العتق

ومن كتاب العتق (من الصحاح) [2433] حديث أبي ذر- رضي الله عنه-: (سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -: أي العمل أفضل ... الحديث) قد ذكرنا وجه التوفيق بين هذا الحديث وبين ما يخالفه نظما وترتيبا في أفضل الأعمال، فلا حاجة بنا إلى إعادة القول فيه. وفيه: (أو تصنع لأخرق) الأخرق: الذي لا يكون في يديه صنعة، يقال: خرق وخرق، بالضم والكسر: إذا لم يحسن العمل. وفي معناه حديث جابر: (فكرهت أن أجيئهن بخرقاء مثلهن) الخرقاء: هي التي تجهل ما يجب أن تعلمه. (ومن الحسان) [2434] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث البراء بن عازب- رضي الله عنه-: (والمنحة الوكوف) قد ذكرنا أن (المنحة) هي: الناقة أو الشاة يمنحها صاحبها بعض المحاويج؛ لينتفع بلبنها ووبرها زمانا ثم يردها. (الوكوف) الغزيرة الدر. (والقيء على ذي الرحم الظالم) أي العطف عليه والرجوع إليه بالبر، والذي نعرفه من الإعراب في المنحة والفيء هو النصب، أي: وامنح وآثر الفيء ونحو ذلك. وإن وردت الرواية بالرفع فالتقدير: ومن ذلك المنحة والفيء أو نحو ذلك.

باب إعتاق العبد المشترك وشراء القريب والعتق في المرض

ومن باب إعتاق العبد المشترك وشراء القريب والعتق في المرض [76/ب] (من الصحاح) [2436] حديث ابن عمر- رضي الله عنهما-: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من أعتق شركا له في عبد .. الحديث) أراد بالشرك: نصيبه، سماه شركا للاشتراك الذي فيه ومنه حديث معاذ- رضي الله عنه- (أنه أجاز بين أهل اليمن الشرك) أي: الاشتراك في الأرض. وقد اختلف أهل العلم في حكم هذا الحديث، فمنهم من ذهب إلى أنه في الموسر خاصة دون المعسر، واستدلوا بما روى عنه في غير هذه الراوية، أن قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من اعتق شركا له في عبد، وكان له مال يبلغ ثمن العبد، قوم عليه قيمة العبد، فأعطى شركاؤه حصصهم .. الحديث). [2439] ومنه: حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-: (لا يجزئ ولد والده ... الحديث) ذهب بعض

أصحاب الظاهر وفرقة من المتكلمين إلى أن الأب لا يعتق على الابن إذا ملكه، وقالوا: إذا صح الشرى فقد ثبت الملك. ويعتق عليه عند جمهور العلماء، ومعنى قوله: (فيعتقه) أي: يعتقه بشرائه، أضاف العتق إليه، لأن سببه وجد منه، وهو الشرى. ويؤيد هذا التأويل حديث عبد الله عمر وسمرة- رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من ملك ذا رحم محرم فهو حر) وقد ذكر الحديث في الحسان. (ومن الحسان) [2443] حديث جابر- رضي الله عنه-: (بعنا أمهات الأولاد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر- رضي الله عنه- الحديث) يحتمل أن النسخ لم يبلغ العموم في عهد الرسالة، ويحتمل أن بيعهم في زمان

النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قبل النسخ، وهذا أولى التأويلين، وأما بيعهم في خلافة أبي بكر- رضي الله عنه- فلعل ذلك كان في فرد قضية فلم يعلم به أبو بكر- رضي الله عنه- ولا من كان عنده علم بذلك، فحسب جابر أن الناس كانوا على تجويزه، فحدث بما تقرر عنده في أول الأمر، فلما اشتهر نسخه في زمان عمر- رضي الله عنه- عاد إلى قول الجماعة، يدل عليه قوله: (فلما كان عمر نهانا عنه فانتهينا) وقوله هذا من رضي الله عنه- عاد إلى قول الجماعة، يدل عليه قوله: (فلما كان عمر نهانا عنه فانتهينا) وقوله هذا من رضي الله عنه- عاد إلى قول الجماعة، يدل عليه قوله: (فلما كان عمر نهانا عنه فانتهينا) وقوله هذا من أقوى الدلائل على بطلان بيع أمهات الأولاد؛ وذلك أن الصحابة لو لم يعلموا أن الحق مع عمر- رضي الله عنه- لم يتابعوه عليه، ولم يسكتوا عنه أيضا، ولو علموا أنه يقول ذلك عن رأى واجتهاد لجوزوا خلافه، لاسيما الفقهاء منهم، وإن وافقه بعضهم [77/أ] خالفه آخرون. ويشهد بصحة هذا التأويل حديث ابن عباس- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا ولدت أمة الرجل منه فهي معتقة عن دبر منه) فإن قيل: أو ليس علي- رضي الله عنه- قد خالف القائلين ببطلانه. قيل: لم ينقل عن علي- رضي الله عنه- خلاف عند اجتماع آراء الصحابة على ما قال عمر- رضي الله عنه- ولم يصح عنه أنه قضي بجواز بيعهن أو أمر بالقضاء به، بل الذي صح عنه أنه كان مترددا في القول به، وقد سأل شريحا عن قضائه فيه أيام خلافته بالكوفة فحدثه أن يقضى فيه بما اتفق عليه الصحابة عند نهى عمر- رضي الله عنه- عن بيعهن منذ ولاه عمر- رضي الله عنه- القضاء بها. فقال لشريح: فاقض فيه بما كنت تقضي، حتى يكون للناس جماعة، فأرى فيه رأيي وأفاوض فيه علماء الصحابة. وهذا الذي نقل عنه محمول على أن النسخ لم يبلغه، أو لم يحضر المدينة يوم فاوض عمر- رضي الله عنه- علماء الصحابة فيه. وجملة القول أن إجماعهم في زمانه على ما حكم هو به لا يدخله النقض، بأن يرى أحدهم بعد ذلك خلافه اجتهادا، والقوم رأوا ذلك توفيقا، لاسيما ولم يقطع علي- رضي الله عنه- القول بخلافه، وإنما تردد فيه ترددا. [2448] ومنه حديث أم سلمة- رضي الله عنها- قالت: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا كان عند مكاتب إحداكن وفاء، فلتحتجب منه) هذا الحديث على هذا السياق مختصر، وقد روى من غير وجه أتم من هذا فمن ذلك. ما رواه الزهري عن نبهان مولي أم سلمة زوج النبي-

- صلى الله عليه وسلم - في طريق مكة، وقد بقى من كتابته ألفا درهم، قال: فكنت أتمسك بهما كيما أدخل عليها وأراها فقالت وهي تسير: ماذا بقي عليك من كتابتك يا نبهان؟ قلت: ألفا درهم. قالت: فهما عندك؟ فقلت: نعم، قالت: ادفع ما بقى عليك من كتابك إلى محمد بن عبد الله بن أمية، فإني قد أعنته بهما في نكاحه، وعليك السلام، ثم ألقت دوني الحجاب، فبكيت وقلت: والله، لا أعطيه أبدا. قالت: إنك والله، يا بني، لن تراني أبدا، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد إلينا أنه إذا كان عند مكاتب إحداكن وفاء بما بقي عليه من كتابه، فاضربن دونه الحجاب). روى هذا الحديث على هذا السياق أبو جعفر الطحاوي- رحمه الله- في كتابه الموسوم (بمشكل الآثار)، ورواه أيضا من عدة وجوه، ثم ذكر كلاما، زبد [77/ب]: أن المكاتب ما بقي عليه من مال الكتابة شيء فهو في حكم العبيد؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (المكاتب عبد ما بقي عليه درهم) وقد أباح الله- تعالى- للعبيد النظر إلى من تملكهم من النساء، فقال- سبحانه-: {لا جناح عليهم في آبائهن} إلى قوله: {ولا ما ملكت أيمانهن} فتأملنا فيه فصادفنا العلة الموجبة للأمر بالاحتجاب عنهم، بعد أن أبيح لهم النظر، أنه وجد تأخير الأداء بعد تمكن المكاتب عنه سببا إلى استباحة ما يحرم إليه بالأداء، وهو النظر إلى السيدة، فأمر بالاحتجاب سدا لهذا الباب. ثم إن أبا جعفر استخرج من هذا الحديث أحكاما منها: أن تأخير الأداء مع القدرة عليه يحرم على المكاتب والمكاتبة، إذا أراد بذلك إسقاط ما يجب عليهما بعد العتق من الزكاة، وكذلك المكاتبة، إذا كان قصدها أن تصلى بغير فناع، وكذلك إذا طلبت إسقاط الإحداد على زوجها المتوفى عنها، أو أحبت أن تعتد عدة الإماء، وهي في عدة الوفاة، وعدة الطلاق، فالتأخير في سائر هذه الصور حرام عليها، إذا قصدت به استباحة ما لا يباح لها في حال العتق. قلت: ومن تدبر الحديث وتفكر في قوله لأم سلمة، وفيما كان من أمر نبهان مولاها، علم أن هذا الحديث داخل في أعلام النبوة.

باب الأيمان والنذور

[باب الأيمان والنذور] [2453] حديث عبد الرحمن بن سمرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا تحلفوا بالطواغى ولا بآبائكم) قيل: إنها جمع طاغية، وليس من الطواغيت، فلعله أراد بها من جاوز الحد في طغيانه من عظماء الكفر ورؤسائه، ويشبه أن يكون أراد بها الأوثان، على ما ورد في الحديث: طاغية دوس، وطاغية فلان، وهي مصدر جاءت على فاعلة، ومعناها الطغيان، سميت الأوثان بها؛ لأنها من أعظم ما يطغى الإنسان بها، فكأنها نفس الطغيان، حتى أن الطغيان لو قدر أن يكون شبحا لكانت الأوثان ذلك الشبح. وفي بعض الروايات: (ولا بالطاغوت) والطاغوت: عبارة عن كل متعد وكل معبود من دون الله، ووزنه- فيما قيل- فعلوت، مثل جبروت وملكوت، وهو وإن جاء على وزن (لاهوت) فهو مقلوب؛ لأنه من طغا، و (لا هوت) غير مقلوب؛ لأنه من (لاه) وعلى هذا قيل: إنه بمنزلة (الرغبوت، والرهبوت) أصله: (طغووت) لكن قلب لام الفعل، ثم قلب الواو ألفا؛ لتحركه وانفتاح ما قبله. وأرى أن المراد من النهى في هذا الحديث هو: النهى عن الغفلة عن محافظة اللسان [78/أ] فيجرى عليه ما قد تعوده زمان الجاهلية، فإن القوم كانوا قبل أن أنعم الله عليهم بالإسلام يحلفون بالطواغى، وقد نشأوا على ذلك، وجرت بذلك ألسنتهم، فلم يؤمن عليهم زلة اللسان، فنبهوا على التيقظ في محاوراتهم؛ لئلا ينتهز عنهم الشيطان فرصة. هذا وجه الحديث، ومعاذ الله أن يظن بهم أنهم [كانوا] يتسامحون نفسه ويقاولون به حتى نهوا عنه، فإن ذلك مما لا يظن بأقل المسلمين علما، وأسخفهم رأيا، فكيف بالقرن الذين هم أصدق القرون إيمانا، وأخلصهم طاعة، وأرضاهم سريرة وعلانية. ومما يبين صحة ما ذهبنا إليه حديث سعد بن أبى وقاص- رضي الله عنه- أنه قال: (حلفت باللات والعزى، وكان العهد حديثا، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: (إني حلفت باللات والعزى، وكان العهد حديثا، فقال: قلت هجرا، اتفل عن يسارك ثلاثا، وقل: لا إله إلا الله وحده، واستغفر الله- عز وجل- ولا تعد) قوله: (لا تعد) حث على التيقظ وملازمة الحزم، على ما ذكرنا. وأما النهى عن الخلف بالآباء، فإنهم كانوا يحلفون بآبائهم، لا يرون به بأسا، حتى نهوا عنه. وقد ذهب فيه بعض العلماء إلى النسخ؛ طلبا للتوفيق بين ما نقل فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن الصحابة، وبين النهى الوارد فيه، ولا أراها إلا زلة من عالم، فإن النسخ إنما يتأتى فيما كان في الأصل جائزا. وروى عن ابن عمر- رضي الله عنهما- أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من حلف بغير الله فقد أشرك) وكل ما

كان راجعًا إلى إخلاص الدين وتنزيه التوحيد عن شوائب الشرك الخفيّ، فإنّه مأمور به في جميع الأديان القويمة، وسائر القرون الخالية، وإنما الوجه فيه - والله أعلم - أن نقول: قد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث طلحة بن عُبيد الله - رضي الله عنه -: (جاء رجلٌ من أهل نجد ثائر الرأس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ...) الحديث (أفلح وأبيه إن صدق) وفي حديث فجيع العامريّ: (ذاك وأبى الجوع) وفي حديث أبي هريرة (لتنبّأنّه وأبيك) للرجل الذي سأله: (أي الصدقة خير). أما قوله - في حديث طلحة -: (أفلح وأبيه) فقد زعم بعضهم أنّه تصحيف (والله) ونحن نرويه عن كتاب مسلم: (أفلح وأبيه) وعلى هذا فإنه ليس بحلفٍ، فإنّه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ليحاف بغير الله، وقد أخبر أنّه شرك، وإنما هو تدعيم للكلام وصلة له، وهذا النوع [78/ب] وإنْ كان موضوعا في الأصل لتعظيم المحلوف به - فإنمهم قد اتّسعوا فيه، حتى كانوا يُدَعمون به الكلام ويُوصِلونه، وهذا النوع لا يُراد به القسم. ومنه قول ابن ميّادة: أظنّت سفاهًا من سفاهة رأيها .... لهجوها، لا هجتني محاربُ فلا وأبيها، إننيّ بعشيرتي .... ونفسي عن ذاك المقام لراغبُ. فهذا وجه قوله: (أفلح وأبيه) إنّ صحّ وسلم من اختلاف الروايات، وكذلك في حديثي أبي هريرة - رضي الله عنه - وفجيع، إن ثبتا. وأمّا غير النبي - صلى الله عليه وسلم - ممن جمعه زمان النبوة؛ فإنّ بعضهم كانوا يحلفون بآبائهم؛ تعظيمًا لهم، وبعضهم عادة، وبعضهم عصبيَّة، وبعضهم للتوكيد، وقد أحاط بسائرها دائرة للنهيّ، وإن كان بعضها أهونّ من بعضٍ؛ لئلا يلتبس الحقّ بالباطل، ولا يكون مع الله محلوفٌ به، والنبي - صلى الله عليه وسلم - وإن امتاز عن غيره بالعصمة عن التلفّظ بما يكاد أن يكون قادحا في صرف التوحيد، ولا يُشبه حاله في ذلك حال غيره، فالظاهر أنّ اتساعه في استعمال هذا اللفظ، قد كان قبل النهي ولم يعدْ إليه بعده؛ كيلا يقتدي به من لا يهتدي إلى صرف الكلام. [2455] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ثابت بن الضحاك الأنصاري الخزرجي - رضي الله عنه -: (مَن لعن مؤمنا فهو كقتله، ومَن قَذف مؤمنا بكفر فهو كقتله) ليس معنى قوله: (إنّه كقتلهِ) من سائر الوجوه، بل من وجهٍ دون وجهٍ، وهو أن الله - تعالى - كما حرّم قتل المؤمن، حرّم لعنه وقَذفه بالكفر، فهما في التحريم كقتله، إلاّ أن يكون مستحلا، فيستوي الأمر في سائرها.

[2455] ومنه: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: (والله، لأن يلج أحدُكم بيمينه في أهله - الحديث) لجِجت - بالكسر - أَلَجُّ - بالفتح، من اللج، واللجاجة، ولَجَجت - بالفتح، ألجُّ - بالكسر لغةٌ فيه. أراد به الرجل يحلف على الشيء أن لا يفعله، وقصدُه فيه اللجُّ مع أهله، فإذا سئل أن يفعل تعلّل باليمين، والحديث يقرب في المعنى من قوله - سبحانه -: {ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس} وقوله: (آثم) أي: هو بصنيعه ذلك آثمُ منه، أن لو فعل المحلوف عليه وأعطى الكفارة، ولم يُرد بذلك أن في تكفير تلك اليمين إثمًا، حتى يكون في تركه أشدّ وآكد؛ لأن الشرع ورد بتكفير اليمين في تلك الصورة من غير حرج. ولكنّه أخرج الكلام مخرج المعارضة فيما يدّعيه من السبرّ، في التعلّل [79/أ] باليمين عند اللجاجة، فكأنّه قال: إن كان يرى في تلك اللجاجة وتكفير اليمين إثما، فهو فيما آتخذه ذريعة إلى الامتناع عن فعل ما هو أسلم وأ [ر له، أشدّ وزرًا وأكثر إثما. ونقل عن بعضهم في تفسيره، أنه قال: استحل فلانٌ متاع فلان وتلجَّجَه: إذا ادّعاه، فذهب في معنى اللج إلى ادّعاء البِرّ. وقد قيل فيه غير ذلك. والوجه فيه ما قدّمنا. ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - لعبد الرحمن بن سمرة: (وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها، فكفر عن يمينك. [2460] ومنه: حديثهُ الآخر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يمينك على ما يصدّقك عليه صاحبُك). المراد منه: اليمين الواجبة في الدعوى الذي يدّعيه من تسعه دعواه على من لا يسعه الجحود، فلا يحلّ له أن يورى فيها، بل يأتي بها في الظاهر على النعت الذي هي عليه في الباطن، وإذا لم يكن المدَّعِى محقاً فالمدَّعَى عليه في سعة من ذلك.

وقد أشار الشيخ أبو جعفر الطحاوي في كتاب مشكل الآثار إلى نحو هذا المعنى، واستدلّ عليه بحديث سُويد بن حنظلة أنّه قال: "خرجنا نريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعنا وائل بن حُجر الضرميّ، فأخذه عدوّ له، فتحرّج القوم أن يحلفوا وحلفت أنّه أخى، فخلّوا سبيله، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته، فقال: (صدقت المسلم أخو المسلم). (ومن الحسان). [2465] حديث بريدة الأسلمي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (مَن حلف بالأمانة فليس منّا) أي: ليس ممن ينضوي إلينا، ولا من ذوى الأسوة بنا لمخالفته هدينا. قيل: إنما كره ذلك؛ لأنه غير داخل

في أسماء الله وصفاته، فلم ير أن يحلف به. ويحتمل أن يكون الحلف بالأمانة من مبتدعات أهل الكتاب، فكرهه، مع ما فيه من العدول في الحلف عن أسماء الله وصفاته، فنفى الحالف عن نفسه بالتبرّى عنه، هذا إذا حلف بالأمانة، أمَّا إذا حلف بأمانة الله، فقد اختلف فيه أقاويل العلماء، والمشهور عن أبي حنيفة - رحمة الله عليه - أنّ يمينه ينعقد، فجعل أمانة الله من أقسام الصفات؛ لأن من أسماء الله الأمين، وأحلّها محل الإرادة من المريد، والقدرة من القدير، ويحتمل أن يقال: إنّه في معنى كلمة الله، على ما يذهب إليه غير واحد من علماء التفسير في تأويل قوله - سبحانه -: {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال} فقالوا الأمانة: كلمة التوحيد، ولا مخالفة بين قول من يجعل الحلف بأمانة الله [79/ب] يمينا، وبين ما ورد فيه الحديث، فإن النهي ورد في الحلف بالأمانة، لا بأمانة الله، وقد روى عن أبي يوسف خلافهُ. واختيار الطحاوي: أن اليمين لا تنعقد بأمانة الله، سواء نوى اليمين أو لم ينو.

الفصل الذي في النذر

ومن الفصل الذي في النذر (من الصحاح) [2474] حديث: ابن عباس - رضي الله عنه -: "بينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب: إذ هو برجلٍ قائم، فسأل عنه، فقالوا: أبو إسرائيل، نذر أن يقوم ولا يقعد ... الحديث) الظاهر أن قول الراوي: فسأل عنه، أي: فسأل عن علّة انتصابه قائما، ولم يُرد به السؤال عن اسمه حتى يعلم مَن الرجلُ، فإن أبا إسرائيل هذا رجلٌ من قريش من بني عامر بن لؤيّ، فاشتبه على السامعين، فلم يدروا عن أيّ الأمرين يسأل؟ فأخبروه بهما جميعا. والنذر: أن توجب على نفسك ما ليس بواجب، وحكمه حكم اليمين عند كثير من العلماء، فإن استطاع الناذر أن يفي به، ولم يكن مما نُهي عنه، فعليه الوفاء به، وإن كان غير ذلك، فالكفّارة كما في اليمين، وحجّتهم فيما ذهبوا إليه، حديث عقبة بن عامر عن النبي - عليه السلام -: (كفّارة النذر كفّارة اليمين) وحديث عائشة الذي في أول الحسان من هذا الباب، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا نذر في معصيةٍ، وكفارته كفارة اليمين) وحديث ابن عباس الذي يتلوه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من نذر نذرا لم يسمّه - الحديث) فإن قيل: فإن أبا إسرائيل نذر أن لا يقعد ولا يستظلّ، وذلك مما لا يستطاع، وأن لا يتكلّم، وذلك مّما نهى عنه، ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بأن يترك ذلك، ولم يأمره بالكفارة، قيل: يحتمل أنّه لم يأمره بها؛ لأنّه أسمعهم ذلك غير مرَّة، على ما ذكر في الأحاديث التي ذكرناها. ويحتمل أنّه أمره بها ولم ينقل إلينا، هذا وجه هذا الحديث، لم يقع التضادّ بينه وبين الأحاديث التي وردت في وجوب الكفارة. [2475] ومنه: قول أنس - رضي الله عنه - في حديثه: "يُهادي بين ابنيه" قال: جاء فلان يُهادى بين اثنين: إذا كان يمشي بينهما معتمدا عليهما من ضعف به، وقد ذكرناه. [2477] ومنه: قول كعب بن مالك - رضي الله عنه - في حديثه: (يا رسول الله، إنّ من توبتي أن أنخلع من مالي) أي: من تمام توبتي أن أصير منخلِعًا من مالي فأخرجه صدقة في سبيل الله.

وقد وجد المتخبِّطين في كتاب المصابيح، بل في الجامع الصحيح للبخاري يروونه (أتخلّع) من التخلع، وإنّما [80/أ] الصواب فيه روايةً ولغةً (أنخلع) من الانخلاع. (ومن الحسان) [2480] حديث ثابت بن الضّحاك الأنصايّ - رضي الله عنه- "أتى رجلٌ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنّي نذرت أن أنحر إبلا ببُوانة) بُوانة - بالضم - اسم موضع، قال وصَّاح اليمن: أيا نخلَتَي وادِي بُوانَةَ حبَّذا .... إذا نام [أحرسُ] النخيل جَناكُما وقد جاء في الشعر محذوفة الهاء، قال الشاعر: ماذا تذكرت من الأظعانِ .... طوالعا من نحو ذى بُوانِ [2481] ومنه: حديث عبد الله بن عَمرو - رضي الله عنه -: "آن امرأة قالت: يا رسول الله، إني نذرت

أن أضرب على رأسك بالدّفّ ... الحديث) إنما قال لها: (أوفى بنذرِك)؛ لأن ذاك لم يكن من قبيل اللهو واللعب المنهى عنه، بل صار ذلك نوعا من أنواع البرّ بالقصد الصحيح، وهو: إظهار السرور، بمرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - مصحوبَ السلامة والظفر على أعداء الدين. وإذا أبيح ذلك لإعلان السكاح؛ ي يخالف صيغته صيغة السفاح الذي لم يزل الناس يغشونه في السرّ والخفاء، فلأن يباح في إعلاء كلمة الله العليا، وإعزاز الداعي إليها أحقّ وأولى. [2486] ومنه ما رواه سعيد بن المسيب - رضي الله عنه -: (فكل مالي في رتاج الكعبة): الرتاجد والرتجُ - بالتحريك - الباب العظيم، ويقال: الرتاج الباب المغلق وعليه باب صغير. والمراد من قوله (في رتاج الكعبة) أي: مالي لها ويحتمل أنهم استعملوا فيه الرتاج؛ لأن أحدهم كان إذا جعل ماله للكعبة فسلّمه لها، وضعه في جوف الكعبة حيث كان كنزلها ثم أغلق.

كتاب القصاص

من كتاب القصاص (من الصحاح) [2491] حديث المقداد بن الأسود - رضي الله عنه - أنه قال: (يا رسول الله أرأيت إن لقيتُ رجلا من الكفار .. الحديث) الحديث المشكل من هذا الحديث ما توهَم أنه سوّى بين الكافر وبين قاتل النفس المسلمة، بقوله: (فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله - إلى تمام الحديث) وقد عرفنا من أصول الدين أن التسوية بينهما من سائر الوجوه غير جائز، فعقلنا بذلك تأويل الحديث، وهو: أن نقول: المسئول عنه كان قبل قوله: (أسلمت لله) مباح الدم بالكفر، ويصير بعد قوله ذلك محقون الدم بالإيمان، فيصير قائله بعدما قال لأفقاله] مباح الدم بالقصاص، فيصير هو بمنزلتك في حقن الدم بالإسلام، وتصير أنت بمنزلته قبل الكلمة في إباحة الدم، فالتسوية واقعة بين الأمرين من جهة إباحة الدمين، لا من جهة الجنايتين. [2492] ومنه حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنه - قال: (بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ناس من جهينة

فأتيت على رجل منهم .... الحديث). [اسم الرجل على الصحيح] واختلف في اسم أبيه فذكر الفقيه أبو عمر بن عبد البر الحافظ النمري أنه مرداس بن نهيك الفزاري، وذكر الحافظ أبو الفضل بن طاهر المقدسي في كتاب (إيضاح الإشكال) أنه مرداس بن عمرو الفدكي وقد تبين له من القولين أنه لم يكن جُهنيا وإنما كان دخيلاً فيهم غريباً بأرضهم فحسبُوه من جملتهم؛ لأنهم وجدوه في بلاد جهينة وكان يرعى غنماً له فلما قال: لا إله إلا الله، رأوا أنه يقول ذلك تعوذَا، ولم يكن يبلغهم في ذلك نص فقتله أسامة على أنه مباح الدم والخطأ موضوع عن المجتهد ولهذا لم يلزمه الدية. ومذهب جمع من العلماء أن الرجل بقوله لا إله إلا الله لم يكن محكومًا بإسلامه حتى يضم إليه محمد رسول الله، وإنما وجب الإمساك عنه حتى يعرف حاله، فتوجه النكير على أسامة لتركه التوقف في أمره حتى يستبين له الحق. [2493] ومنه حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قتل مُعاهدا لم يرح رائحة الجنة .. الحديث) المعاهد: اتلذميّ وقوله: (لم يرح) يروى على ثلاثة أوجُه: لم يرح [بفتح الراء] من رِحت الشيء أراحُه: إذا وجدتَ ريحه. ولم يرح - بكسر الراء - من رَحتُ الشيء أربحه. ولم يُرح - بضم الياء وكسر الراء - من أرحت الشيء أريحه أي لا يجد رائحة الجنة. وقد بينا وجه ذلك في كتاب العلم من أول هذا الكتاب. [2494] ومنه حديثه الآخر بعن النبي - صلى الله عليه وسلم - (من تردى من جبل فقتل نفسه. الحديث) التردّى إذا أسند إلى الإنسان فمعناه التعرض للهلاك والمراد منه ها هنا أن يتهور الإنسان فيرمي نفسه من جبل (يجأ بها بطنه) وجأته بالسكين أي: ضربته به. قلت: لما كان الإنسان بصدد أن يحمله الضجر والحنق والضغب على إتلاف نفسه ويسول له الشيطان أن الخطب فيه يسير وهو أهون من قتل نفس أخرى حرم قتلها عليه وإذا لم يكن لصنيعه مُطالب من قبل

الخلق فالله يغفر له، أعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - المكلفين أنهم مسئولون عن ذلك يوم القيامة ومعذبون به عذابًا شديدًا وأن ذلك في التحريم كقتل سائر النفوس المحرمة وقوله (خالدًا مخلداً فيها) محمول على من يفعل ذلك مستبيحًا له، فيصير باستباحته مستوجبًا للخلود، هذا وجه الحديث كيلا يخالف الأحاديث الصحاح التي وردت في خروج من قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله من النار وإن عمل الكبائر، لا سيَّما [81/ أ] وقد ثبت التواتر في جنسها وأيّد معناها بالآية من كتاب الله تعالى قال الله سبحانه: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}. فإن قيل: كيف يستقيم لك هذا التأويل وقد خصصت حكم الخلود بالمستبيح ثم تقول: إن غير المستبيح أيضا مسئول عنه معذب به، والحديث لم يفرق بين المستبيح وغيره، وإنما سلك بالكل مسلكا [واحدا؟] قلنا: قد عرفنا حكم الخلود من قول الشارع مبينا في غير هذا الحديث فرددنا المجمل منه إلى المفصل في غيره فإن قيل [فلم يأت به في] هذا الحديث على الوجه الذي تدعيه في غيره؟ قلنا: أبهمه إبهامًا إيفاء لوظيفة الخوف على أصحاب النفوس المتمردة فإنه على تلك الصيغة أبلغ في الوعيد وأمثل في الزجر، فيرتدع به الغاوى، ولا يشتبه على الخبير، لما انتهى إليه من الواضح الجلى. فإن قيل: فما قولكم في الحديث الذي يتلوه رواية جندب بن عبد الله البجلي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح ... الحديث) قلنا: يحتمل أنه مستبيحًا فلا تضادّ فيه إذًا، ويحتمل أنه لم يكن مستبيحًا فحرم عليه الجنة في أول الأمر حتى يذيقه وبال أمره بإدخاله النار ثم ينجيه منها بفضله ورحمته. [2497] ومنه حديث جابر - رضي الله عنه - (أن الطفيل بن عمرو الدَّوْسي لما هاجر .. الحديث) قلت: هذا الحديث وإن كان فيه ذكر رؤيا أريها الصحابي للاعتبار بما يؤول إليه تعبيره فإِنَّ قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم وليديه فاغفر) من جملة ما ذكرنا من الأحاديث الدالة على أن الخلود غير واقع في حق من أتى بالشهادتين وإن قتل نفسه؛ لأن نبي الله صلى الله عليه دعا للجاني على نفسه بالمغفرة، ولا يجوز في حقه أن يستغفر لمن وجب عليه الخلود، بعد أن نهى عنه مع ما يدل على كونه صحيح الحال في قصة الرؤيا من ذكر الهيئة الحسنة. وفي الحديث من الألفاظ المفتقرة إلى التفسير: (المشاقص) جمع مشقص، وهو من النصال: ما طال وعرُض (والبراجم) وهي مفاصل الأصابع بين الرواجب والأشاجع فالتي تلي الأنامل هي الرواجب ثم البراجم ثم الأشاجع وهي التي تلي الكف وقوله: (فخشيت يداه) أي سألت دما. والأصل فيه: الخشب،، وهو ما خرج من تحت يد الحالب عند كل غمزة.

[2498] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي شريح الكعبي - رضي الله عنه -: (فأهله بين خيرتين إن أحبُّوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا العقل). الخيرة - بكسر الخاء [81/ب] وفتح الياء - الاسم من الاختيار. والعقل: الدية. قيل باعتبار عقل البعير، وقيل: عقلت القتيل أي: أعطيت ديَّته. والأصل فيه أن يعقل الإبل بفاء وليّ الدم. وقيل: لأنّه يعقل الدم أن يُسْفك. يستدل بهذا الحديث من يرى أن كل واحد من القصاص والدية يجب لولي الدم في العمد على جهة التخيير. والذي يرى أن الواجب له القصاص لا غير فإنه يأول الحديث على أنه بين خيرتين: القصاص أالدية إن بذلت له. والوجوه التي تلجئهم إلى هذا التأويل مثبتة في كتبهم، ونحن لو استقصينا في إيراد ذلك وأمثاله أخرجنا به الكتاب عن قاعدة كتب الحديث، مع ما يتضمن ذلك من الإسهاب الممل. [2499] ومنه حديث أنس - رضي الله عنه - (أن يهوديًا رضَّ رأس جارية بين حجرتين .. الحديث) أكثر العلماء على أن المماثلة في صيغة القتل ليست بشرط وإنما رضَّ رأس اليهودي، لأنه صار في حكم قاطع الطريق بما أخذ منها من الأوضاح ثم إنه نقض العهد ففعل به ما فعل نظرا إلى ما فيه من المصالح وقد قيل يحتمل أنه كان قبل نسخ المثلة والله أعلم بصحة ذلك.

[2501] ومنه حديث علي - رضي الله عنه - (والذي فلق الحبة وبرأ النسمة) فلق الحبة أي: شقها فأخرج منه النبات الغَضَ وبرأ النسمة فلق الحبة أي خلقها والنسمة النفسُ وكل دابة فيها روح فهي نسمة يشير بذلك إلى أن المخلوق به سبحانه هو الذي فطر الرزق وخلق المرزوق وكذلك كان يحلف إذا اجتهد في يمينه وإنما سأله الراوي أبو جحيفة عن ذلك؛ لأن شيعته يومئذ كانوا يزعمون ويتوهمون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خص أهل بيته لاسيما عليا - رضي الله عنه - من علم الوحي بما لم يفض به إلى غيره، فحلف حلقه أن ليس عنده من ذلك سوى القرآن ثم استثنى استثناء أراد به استدراك معنى اشتبه عليهم معرفته فقال: (إلا فهماً يُعطي رجل في كتابه) والمعنى أن التفاوت في العلوم لم يوجد من قبل البلاغ وإنما وقع من قبل الفهم ثم قرن بذلك ما في الصحيفة احتياطًا في يمينه، وحذرا من أن يكون ما في الصحيفة عند غيره، ويحتمل أنه تفردّ بسماع ما فيها وكانت تلك الصحيفة في علاقة سيفه، فإن في غير هذه الرواية: (والله، ما خصّنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء دون الناس، إلا فهما يعطي رجل في كتابه) والاستثناء منقطع، ثم استدرك وقال (وما في الصحيفة) صحيفة كانت في علاقة سيفه. قلت: وقد تبين لنا من غير هذه الرواية أن ما في الصحيفة لم يكن مقصورا على ما في هذا الحديث

ومما يدل عليه قوله حين سئل عمّا في الصحيفة (لإقال: لعن الله من غيّر منار الأرض، لعن الله من تولى غير مواليه) فيحتمل أنه حدث بجميع ما فيها فلم يحفظه الراوي أو حدّث بها في مجالس شتى، ويحتمل أن قد كان فيها غير ذلك فاقتصر على ذكر البعض أو لم يحضره ساعتئذ [82/أ] ما في الصحيفة بأجمعه. وأراد بالعقل: أسنان ما يؤدى في الدية وعددها. (ومن الحسان) [2503] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي سعيد وأبي هريرة - رضي الله عنهما - (إلا كبهم الله في النار) كبّة لوجهه أي صرعه فأكب هو وهذا من النوادر أن يقال: (أفعلت أنا وفعلت غيري ولم يوجد فيه خلاف عن أهل اللغة فالصواب كبَّهم والذي رووه في هذا الحديث لا يكون إلا سهوًا من بعض الرواة والمؤلف أتى به على ما وجَده في كتاب أبي عيسى. [2506] ومنه حديث أبي الدرداء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا يزال المؤمن مُعنقاً صَالحاً ... الحديث) أعنق أي سار العنق وهو ضربٌ من السير السريع. وقد فسره صاحب الغريبين فقال: أي منبسطأً في سيره يعني في القيامة. ولا أرى قوله - يعني في القيامة سديدًا؛ فإن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يزال المؤمن مُعنقاً)

مشروط بقوله: (ما لم يصب دمًا حرامًا) ولا يصح أن يصيب دمًا حرامًا في القيامة، وإنما معنى الحديث: أن المؤمن لا يزال موفَّقا في الخيرات مُسارعًا إليها ما لم يُصب دمًا حرامًا، فإذا أصاب ذلك انقطع فلم يوفق للمسارعة بشؤم ما ارتكب من الإثم. يقال: بلح الرجل بلوحًا أي أعيا قال الأعشى: واشتكى الأوصال منه وبَلَحْ وبلحَ تبليحًا مثله. والرواية في هذا الحديث بالتشديد. [2509] ومنه حديث أبي رمضة التيمي - رضي الله عنه - (قال دخلت مع أبي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. الحديث) أبو رمثة هذا ليس بأبي رِمْثَة البَلَوى وإنما هو أبو رمثة التيمي من تيم الرباب ويقال التميميّ. واختلف في اسمه واسم أبيه اختلافاً كثيراً فقيل: حبيب بن حيان، وقيل: حيان بن وهب، وقيل: رفاعة بن يثربي وقيل غير ذلك، والأكثر في اسم أبيه يثربي. وفيه: (فرأى أبي الذي بظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) يريد به موضع خاتم النبوة فإن ذلك كان ناتئًا عن ظهره على ما بيناه في صفة ذلك في أول الكتاب. وكان الأغمار من الأعراب يتوهَّمون أنه سلعة تولدت من فضلات البدن ولهذا قال أبوه: (دعني أعالج الذي بظهرك)؛ فقال: (أنت رفيق والله الطبيب) الرِفق والرُفق لين الجانب ولطافة الفعل أي أنت المتصدي للعلاج بلطافة الفعل وإنما الشافي المزيل للداء هو الله سبحانه ذهب في ذلك إلى مقتضى المعنى من الطبيب لا إلى مقتضاه في اللفظ. وهذا النوع من باب تحويل الكلام أي أن الذي تدعيه إنما هُو إلى الله. وفي الحديث: (طبيبها الذي خلقها) ولا يوجب هذا جواز تسمية الله [82/ب] سبحانه طبيبًا، بل الوجه في ذلك كما هو في قوله: (فإن الهل هو الدَّهر) أي الذي ينسبونه إلى الدهر، فإن الله فاعله لا الدّهر. وفيه: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من هذا معك؟ قال: ابني فاشهد به). قد تبين لنا من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -

للرجل: (إنه لا يجني عليك) أنه عنى بقوله: فاشهد بأني ابني، الالتزام بضمان الجنايات عنه على ما كانوا يتعاملون به في الجاهلية من مؤاخذة الابن بما جناه الأب، ومؤاخذة الأب بما جناه الابن وقيل أحدهما بالآخر فقال: إنه لا يجني عليك أي: لا يجني جناية يكون القصاص أو الضمان فيها عليك، ويحتمل أن يقال لفظه خبر ومعناه نهى أي لا يجْن عليك ولا تجن عليه، والتأويل الصحيح هو الأول، وإليه التفات من أورد هذا الحديث في كتاب القصاص من أهل العلم بالحديث. ومن الناس من يقول فأشهدته، على لفظ الماضي، وهو تصحيف، وإنما هو على لفظ الأمر. [2511] ومنه حديث سمرة - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من قتل عبدهُ قتلناه .. الحديث) هذا الحديث يحمل على الزجر دون إرادة الإيقاع، ومن أهل العلم من يراه منسوخا ويقول: إن الحكمين ثبتا معاً فنسخا معا، يستدل بسقوط القصاص في الأطراف بين الحر والعبد بالإجماع. [2513] ومنه حديث علي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (المسلمون تتكافأ دماؤهم .. الحديث) تتكافأ أي: تتساوى في الديات والقصاص يقال: تكافأ القوم: إذا تساووا، وهذا الحديث من جملة ما قد كان في الصحيفة التي كانت في قراب سيفه. وفيه (يسعى بذمته أدناهم) قد مر تفسير ذلك فيما مضى، وفيه (ولا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده) تأويله عند من يرى قتل المسلم بالذمىَّ أن المراد من الكافر الحربي دون الذمي وقوله: (ولا ذو عهد في عهده) معطوفًا على مسلم وفيه تقديم وتأخير ومثله في كتاب الله تعالى {وللائي يسئن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن} ثم إنهم قالوا: لو أن المراد به هذا لكان الكلام

باب الديات

خالياً عن الفائدة لحصول الإجماع على أن المعاهد لا يقتل في عهده. [2515] ومن قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس - رضصي الله عنه -[83/أ]: (من قتل في عميّةٍ) أي: في أمر لا يستبين ما وَجهُه يقال: هم في عميّتهم أي: في جهلهم. والميم منها مشددة، فكان أصله من التعمية وهو التلبيس. وفي بعض طرق هذا الحديث عن طاوس مرسلا (من قتل في عمياً) على وزن فعيلا من العمى كما يقال: رمّيا من الرَّمى، والمراد أن يوجد بينهم قتيل يعمى أمره ولا يتبيَّن قاتله ولا حاله. [2516] ومنه حديث جابر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا أعفى من قتبل بعد أخذ الدية) أي: لا أدع القاتل بعد أخذ الدية فيعفى عنه أو يرضى منه بالدية من قولهم: أعفني من الخروج معك، أي: دَعني والمراد منه التغليظ عليه لمباشرته الأمر الفظيع فلم ير أن يعفى عنه أو يرضى منه بالدية زجرًا لغيره عن تعاطي صنيعه. وفي بعض النسخ (لا يُعفى) على بناء المفعول من العفو، لفظه خبر ومعناه نهى، وهو حسن، إن صحت الرواية فيه. ومن باب الديات (من الصحاح) [2520] حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - (افتتلت امرأتان من هذيل ... الحديث) المرأتان كانتا

ضرتين وكانتا من هذيل على ما في حديث المغيرة وحديث أبي هريرة في جنان امرأة من بني لحيان يريد به ما ذكره في حديثه هذا ولا تناقض فيه فإن بني لحيان بطن من هذيل. ولحيان هو لحيان بن هذيل والمضروبة هي مُلَيكة بنت عويم والضاربة أم عفيف بنت مسروح بن النابغة ذكرت في حديث أخيها العلاء بن مسوح وحمل بن مالك بن النابغة ابن عمها وقيل له: غطيف بالغين المعجمة والأول أثبت. وقد روى حديثها المغيرة بن شعبة وأبو هريرة وجابر بن عبد الله وليس في حديثهم القود وإنما فيه العقل. وقد روى هذا الحديث أيضا حملُ بن مالك وفي فرد طريق منه (فقضى في جنينها بغرة وأن تقتل) ولا عبرة بهذه الزيادة؛ لأنها مخالفة للأحاديث الصحاح ثم إن أكثر الروايات وأصحها عن حمل بن مالك لم يذكر فيها (وأن تقتل) والحديث حجة لأبي حنيفة - رحمة الله عليه - ومن يذهب مذهبه في سقوط القود عن القاتل بالحجر والعصا وما يشبه ذلك. وفيه (فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن دية جنينها غرّة عبد أو أمه) قد ذكرنا تفسير الغرة في باب الرضاع على ما بلغنا من أهل اللغة. [83/ ب] وأصحاب الغريب، وذكرنا أنها تروى على لصفة وهو الأكثر، وتروى على الإضافة. وقد فسّرها الفقهاء بما يبلغ ثمنه من العبيد عشر الدية، على حسب اختلافهم في مقادير أنواع ما يقتضي به في الدية.

[2523] ومن الحسان حديث عمرو بن حزم الأنصاري الخزرجي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى أهل اليمن وكان في كتابه (أن من اعتبط مؤمنا فهو قود يده .. الحديث) عمرو بن حزم استعمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على نجران ليفقههم في الدين ويعلمهم القرآن ويأخذ صدقاتهم وذلك في السنة العاشرة وكان هو ابن سبع عشرة سنة، وكتب له كتاباً فيه الفرائض والسنن والصدقات والديات وقوله: (من اعتبط مؤمناً) أي قتله بلا جناية توجب ذلك، أخذ من قولهك: عبطت الناقة واعتبطتها: إذا ذبحتها وليست بها علة، فهي عبيطة ولحمها عبيط. ومات فلان عبطة أي شابا صحيحا ومنه قول [أمية]: مَنْ لَمْ يَمُتْ عَبْطَةً يَمُتْ هَرمًا ... للموتِ كأسٌ والمرء ذائقها وقوله: (فإنه قود يده) أي يقتص منه بما جنته يده من القتل والقود قتل القاتل بالقتيل يقال: أقدته به واستقدت الحاكم أي سألته أن يقتاد لي. والأصل فيه: الخضوع والانقياد وإلقاء مقادة أمر القاتل إلى وليّ المقتول. وفيه (وفي الأنف إذا أوعب جدعُهُ) أُوعب على بناء المفعول، ويجوز أن يكون على بناء الفاعل أي أوعبه الجادع يقال: جدعه فأوعب أنفه أي: استأصله. وفي الشتم: جدعه الله جدعًا مُوعباً. وفي غير هذه الرواية (وفي الأنف إذا استوعب جدعه الدية) أي: إذا لم يترك منه شيء، فاستيعاب الشيء: استئصاله. وفيه (وفي الجائفة ثلث الدية) قال الأصمعي: هي طعنةٌ تنفذ إلى الجوف يقال: أَجَفْتُهُ الطعنة وجفْتُهُ بها قيل: وقد تكون الجائفة التي تخالط الجوف. وفيه (وفي المنقلة) - بكسر القاف الشجة التي تنقل العظم أي: تكسره حتى يخرج منها فراش العظام. وفي حديث حذيفة (ما منا من أحد إلا فتش عن جائفة أو منقلة) يريد: ليس منا أحد إلا وفيه عيب عظيم، فأتى بالجائفة والمنقلة على وجه التمثيل وفيه (وفي الموضحة) الموضحة: الشجة التي تبدي وضيح العظم، أي: بياضه [84/أ]. [2526] ومنه حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - (خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح ثم قال: أيها الناس إنه لا حلف في الإسلام .. الحديث) الحلف - بالكسر - العهد يكون بين القوم. وقد حالفه أي:

عاهده. وتحالفوا أي: تعاهدوا. وكان الرجل في الجاهلية يُعاقد الرجل فيقول: دمي دمك، وهدمي هدمك، وثآري ثأرك، وحربي حربك، وسلمي سلمك، وترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك، وتعقل عني وأعقل عنك. فيعدون الحليف من جملة القوم الذين دخل في حلفهم ويطالبونهم بجريرته، فلما جاء الله بالإسلام واستقر أمره نهى أن يحدث ذلك في الإسلام وأٌر ما كان منه في الجاهلية لتعلق المصالح به من حقن الدماء وطلب الحقوق وحفظ العهود وجمع الشمل وضبط الأنساب وصيانة الأعراض وغير ذلك، وهو المراد من قوله: (وما كان من حلف في الجاهلية فإن الإسلام لا يزيده إلا شدة) وقد نسخ من أحكامه التوارث به قال الله تعالى {والذين عقدت أيمانكم قآتوهم نصيبهم} وقد رُوى أن الرجل كان يرث حليفه، ومعنى {عقدت أيمانكم} أي: عاقدتهم أيديكم وما سمحتموهم بها، وأما إثبات الولاء بالموالاة فليس من الحلف المهني عنه في شيء، وقد أجاز ذلك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وإليه ذهب أبو حنيفة وصاحباه وأوّلُوا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث تميم الداري - رضي الله عنه - حيز سأله عن الرجل يُسلم على يدي الرجل: (وهو أولى الناس بمحياه ومماته) على أنه أولى الناس بموالاته وكان عمر بن عبد العزيز وآخرون من أهل العلم يرون أنه يرث إذا لم يكن له وارث من غير عقد موالاة. وفيه (والمؤمنون يد على من سواهم) أي ينصر بعضهم بعضا، ويعين بعضهم بعضا .. جعلهم بمثابة اليد الواحدة في التناصر والتفاضل. وفيه (يجير عليهم أدناهم، ويرد عليهم أقصاهم) قد مر تفسيره فيما مضى

وفيه (ويرد سراياهم على قعيدتهم) أراد بالقعيدة: الجيوش النازلة في دار الحرب يبعثون سراياهم إلى العدو، فما غنمت يرد به على القاعدين حصّتهم؛ لأنهم كانوا ردءًا لهم. وفيه (لا جلب ولا جنب) وقد سبق تفسيره في كتاب (الزكاة) ومنه قول المؤلف بعد حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - في أسنان الدية وأقسامها: والصحيح أنه موقوف على ابن مسعود وخشف [84/ب] مجهول. العجب منه كيف شهد بصحته موقوفاً، ثم طعن في الذي يرويه عنه؟ وقوله: (وخشف مجهول) قول لم يبتدعه هو، بل سبقه به الأولون الذين خالفوا هذا الحديث. وأراه قد تقلد في إيراده الخطابي فإنه

ذكر ذلك في الأعلام وكان عليه ألا يبادر فيه، فإن من جملة من أخذ بحديث ابن مسعود - رضي الله عنه - من أصحاب الحديث أحمد، وهو من علم الرجال بمكان لا ينازعه فيه الخطابي، وقد ذكره البخاري في تاريخه فقال: خشف بن مالك سمع عمر، وابن مسعود - رضي الله عنه - من أصحاب الحديث أحمد، وهو من علم الرجال بمكان لا ينازعه فيه الخطابي، وقد ذكره البخاري في تاريخه فقال: خشف بن مالك سمع عمر، وابن مسعود وروى عنه زيد بن جبيرة الطائي، وروى حديثه أبو جعفر الطحاوي وفي روايته عن زيد بن جبيرة الجشمي عن خشف بن مال الطائي. والأسنان التي ذكرت في هذا الحديث فسرناها في كتاب الزكاة. [2532] ومنه حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - (قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن عقل المرأة بين عصبتها) المعنى أن العصبة يتحملون عقل المرأة الذي يجب عليهم بسبب جنايتها تحملهم عن الرجل فإنها ليست كالعبد في جنايته إذ العاقلة لا تحمل عنه بل تتعلق الجناية برقبته. [2534] وفيه: (قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العين القائمة السادّة لمكانها) أراد بها العين التي لم تخرج من الحدقة ولم يخل موضعها فبقيت في رأي العين على ما كانت لم تشوه خلقتها ولم يذهب بها جمال الوجه والحديث لو صح فإنه يحمل على أنه أوجب فيها ثلث الدية على معنى الحكومة. [2537] ومنه حديث عمران بن حُصين - رضي الله عنه - (أن غلاماً لأناس فقراء قطع أُذن غلام لأناس أغنياء ... الحديث) المراد من الغلام الجاني هو الحرّ لا العبد، لأنه لو كان عبدًا لتعلقت الجدناية برقبته ولم يكن فقر مواليه يُدافع عنه، وإنما لم يجعل فيه شيئا؛ لأن عاقلة الغلام كانوا فقراء باب ما لا يضمن من الجنايات (من آل صحاح) [2539] حديث يعلى بن أمية - رضي الله عنه - (غزوتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جيش العسرة .. الحديث) المراد من جيش العسرة غزوة تبوك قيل لها جيش العسرة لعسرة حالهم فيها فإنهم كانوا في عسرة من الظهر وعُسرة من الزاد وعُسرة من الماء، وكانوا في شدة من حُمّارة القيظ ومن الجدب. ويشتبه على بعض الناس غزوة ذات العسرة بغزوة ذات العُثشيرة أو العُشيرة بعين مضمومة وبالشين المعجمة وهي من

بطن ينبع ولعلها سُمّيت [85/أ]. بذلك لما بها من العشير وهي شجر لها صمغ. وهذه الغزوة كانت في أول الإسلام قبل بدر ولم يلتق فيها الفريقان. وفيه (فأندر ثنيته) ندر الشيء ينذر ندرًا: سقط، وأندره غيره أي: أسقطه. والمعنى: أسقط تثنيته فسقطت. [2543] ومنه حديث سهل بن سعد - رضي الله عنه - (ومع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مدرى يحك بها رأسه) المدْري: القرن، وكذلك المدارة، وربما تصلح بها الماشطة قرون النساء، وهي شيء كالمسلة يكون معها. [2544] ومنه حديث عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه - (أنه رأى رجلا يخذف) أي يرمي الحصا بالأصابع ومنه المخذفة وهي المقلاع وكل شيء يرمى به. [2547] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: (فلعل الشيطان ينزع في يده) أي:

يرمى به في يده كأنه يدفع يده فيحقق إشارته. وأصل النزع: القلع. يقال: نزعت الشيء من مكانه أي: قلعته. وروى بالغين المعجمة، ومعناه: يُغريه فيحمله على تحقيق الضرب حين يشير به عند اللعب والهزل. ونزغ الشيطان: إغراؤه، ويحتمل أن يكون المعنى: يطعن في يده من قولهم: نزغه بكلمة أي: طعن فيه، وقد فسرناه بأكثر من هذا فيما مضى. [2551] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديثه أيضا "ونساء كاسيات [وعاريات] المعنى: أنهن يلبسن من رقائق الثياب ما تبدُو عنه أجسامهن فيصفها للناطرين فهن عاريات على الحقيقة، وإن كن كاسيات. وقد قيل: كاسيات من نعم الله عاريات من الشكر. وأرى الوجه فيه الأول؛ لأنه قال في أول الحديث: "صنفان من أهل النار لم أرهما" ولم يخلُ زمانه عنهن على التأويل الثاني؛ لأنه إن لم يوجد هذا الصنف في مؤمنات زمانه فما أكثر ما وجد في المنافقات والكوافر. وفيه "مميلات مائلات" ذكر فيه أبو عبيد الهروى عن ابن الأنباري "مائلات" أي: زائغات عن استعمال الطاعة لله وما يلزمهن من حفظ الفروج "ومميلات" يُعلّمن غيرهن الدخول في مثل فعلهن قال: وفيه وجه آخر مائلات: متبختراتٌ في مشيهنز مميلات: يملن أكتافهن في أعطافهن. قال: وفيه وجه ثالث: يمتشطن المشطة الميلاء: وهي التي جاءت كراهتها وهي مشطة البغايا. قال: ويجوز أن يكون المائلات والمميلات بمعنى، كما قالوا: جادٌّ مجدٌّ. قلت: ويحتمل أن يكون المعنى في المائلات: اللاتي يملن إلى الفجور، وفي المميلات: [المميلات] إليه من يرغب فيهن من الرجال. وفيه "رءوسهن كأسنمة البخت المائلة" قيل: أراد أنهن يعظمن رءوسهن بالخُمر والعمائم [85/ب] حتى يشبه أسنمة البخت. ويحتمل أنه أراد بذلك عظمها وميلها من السمن. وفيه "لا يدخلن الجنة ... إلى تمام الحديث" وقد مر تأويله غير مرة.

[2552] ومنه حديثه الآخر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه؛ فإن الله خلق آدم على صورته" ذهب بعض أهل العلم في تأويل "خلق آدم على صورته" إلى أن الضمير راجع إلى آدم وفائدته: أن أحدًا من خلق الله لم يخلق على ما هو عليه من تمام الصورة غير آدم، فأما غيره فإنه منقلب في أطوار الخلقة من نطفة إلى علقة إلى مضغة، ثم إلى غير ذلك من تارات الحالات يصير من صغر إلى كبر، حتى يبلغ أشده. وهذا الكلام وإن كان صحيحًا فإن التأويل عليه فاسد لوجهين أحدهما: لما صح من طرق هذا الحديث "فإن الله خلق آدم على صورة الرحمن" والثاني: أن الكلام يبقى خاليا عن الفائدة؛ لأن كون آدم مخلوقاً على صورته التي كان عليها لا يقتضي الاجتناب عن الوجه في المقابلة مع الاشتراك الذي كان بين آدم وحواء في تلك الصفة، وإنما الوجه فيه: أن يكون الضمير راجعًا إلى الله - سبحانه - رجوعاً إليه في بيت: الله، وناقة الله، وما يشبه ذلك من إضافة التكريم. والمعنى: أن الله تعالى أكرم هذه الصورة بإضافتها إليه؛ لأنه أبدعها إبداعًا عجيبًا لم يشارك الإنسان فيها أحد، فهي أحسن الصورة، كما قال سبحانه {وصوركم فأحسن صوركم} ثم أكرمها [بسجود] ملائكته، فمن حق هذه الصورة أن تركم فلا يستهان بها، فإن الله أكرمها وليس لأحد أن يستخف بما أله الله لباس الكرامة، فيكره أن يقصد الوجه بالضرب؛ لأن الله خلق آدم على صورته التي أكرمها بالإضافة إلى نفسه للمعاني التي ذكرناها. [2556] ومنه حديث سمرة - رضي الله عنه - "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقد السير بين الأصبعني" القد الشق طولاً تقول: قددتُ السير وغيره أقُدّه قدا. ومنه الحديث: "كانت ضرباتُ علىّ - رضي الله عنه - أبكارًا، إذا اعتلت قَدَت، وإن اعترضت قطّت".

باب القسامة

وإنما نهى عن ذلك لما يتضمَّنه من الخطر، إذ لا يؤمن أن يخطئ الصّانعُ في قدّ السَّير فتعود الحديدة إلى ما بين الأصبعين فيجرحه. ومن باب القسامة (من الصحاح) [2559] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث رافع بن خديج وسهل بن أبي حثمة - رضي الله عنهما - (استحقوا قتيلكم أو قال صاحبكم بأيمان خمسين) المعنى: استحقوا دية قتيلكم أو صاحبكم. وفي غير هذه الرواية (وتستحقون دم صاحبكم) والمراد من [86/أ] الدم: الدية؛ لأنها تؤخذ بسبب الدم فَسمّيت به، ويؤيد هذا التأويل ما رواه مالك عن ابن أبي ليلى عن سهل بن أبي حثمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إما أن تدوا صاحبكم وإما أن تؤذنُوا بحرب) وقد اختلف العلماء فيمن يبدأ به في القسامة فذهب قوم إلى ظاهر هذا الحديث فرأوا أن يبدأ بالمدَّعين، وقد سبقهم بالخلاف فيه آخرون، فرأوا أن يبدأ بالمدعى عليهم كما في سائر الدعاوى وبعد هذا القياس فلهم متمسك من الحديث وهو ما رواه أبو سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار عن رجال من الأنصار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ليهود أنه يحلف منكم خمسون وبدأ بهم: قيل: ودية هذا القتيل قد توجهت على اليهود؛ لأنه وجد بين ظهرانيهم، والعداوة بينهم وبين المسلمين كانت ظاهرة. وإنما وداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عنده؛ لأنه كان قد جعل لليهود العهد فلم ير أن يُبطله، وإن كان ظاهرة. وإنما وداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عنده؛ لأنه كان قد جعل لليهود العهد فلم ير أن يُبطله، وإن كان سببُ النقض ظاهرًا من قبلهم. وقيل: إنما وداه؛ لأنه كره أن يبطل دمه.

باب قتل أهل الردة والسعادة بالفساد

ومن باب قتل أهل الردة والسعادة بالفساد (من الصحاح) [2560] حديث عكرمة (قال أتى عليّ - رضي الله عنه - بزنادقة فأحرقهم ... الحديث) الزنديق من الثنوية وهو معرَّب والجمع الزنادقة والهاء عوض من الياء المحذوفة وأصله الزناديق وقد تزندق والاسم الزندقة والأصل في هذا النَّبرزوند كتاب بالفهلوية وضعه الخبيث زراد شت في المجوسية، ولما كان هؤلاء الفئة المعلونة في أول الأمر مظهرين للإسلام مُسترين للكفر سمى به كل ملحد في الدين خوان في الإسلام، يتستر بإظهار الكلمة وهو لا يأوى إلى دين وملة. والنفر الذين أحرقهم على - رضي الله عنه - بالنار هم السبائية على ما يذكره أهل العناية بضبط الملل والنحل، وهم أصحاب عبد الله بن سبأ، وكان ابن سبأ يهوديا يتستر بإظهار الإسلام ابتغاء للفتنة في هذه الأمة فلم يزل يسعى في الإثارة على عثمان - رضي

الله عنه - حتى كان ما كان، ثم دس نفسه الخبيثة في الشيعة وأفضى إلى شرذمة من الجهال والأغمار منهم أن عليا - رضي الله عنه - هو المعبود، فعلم بذلك على - رضي الله عنه - فاستتابهم فأبوا فحفر لهم حفرًا وأشعل النار وأمر أن يرمى بهم فيها وفيه يقول: وإنني لما رأيت منكرا ..... أوقدت نارًا ودعوت قنبرا وإنما أحرقهم تنكيلاً بهم [86/ب] وكان ذلك منه عن رأى واجتهاد لا عن توقيف، ولهذا لما بلغه قول ابن عباس "لو كنت أنا لم أحرقهم ... الحديث" قال: ويح أم ابن عباس. وأكثر أهل العلم على أن قوله: ويح أم ابن عباس ورد مورد المدح والإعجاب بقوله والاستشهادات فيه من العربية كثيرة، وزعم بعض أهل العلم على أنه لم يحرقهم، ولكن حفر لهم أسرابًا ودخن عليهم واستتابهم فلم يتوبوا، حتى قتلهم الدخان. والصحيح أنه أحرقهم. وفي تلك القصة يقول قائلهم: لترم بي المنايا حيث شاءت .... إذا لم ترم بي في الحفرتين إذا ما قرنوا حَطبا ونارا .... فذاك الموت نقدا غير دين وفي كتاب أبي داود أنَّ عليا أحرق ناساً أرتدوا عن الإسلام. حمل الراوي أمرهم على الردة لما عرفوا به من إظهار الإسلام قبل إظهار ما أظهروه من الكفر، وبين في الرواية الأخرى التي في كتاب المصابيح من قوله: (أتى بزنادقة) أنهم كانوا قبل ذلك لا يتدينون بدين، وإنما تستروا بإظهار الكلمة. [2567] ومنه حديث أنس - رضي الله عنه - (قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفر من عكل فأسلموا فاجتووا المدينة ... الحديث) النفر بالتحريك عدّة رجال من ثلاثة إلى عشرة. وقد عرفنا من الروايات الصحاح أن أولئك كانوا ثمانية. وعكل قبيلة وبلد أيضا وأريد بها هاهنا القبيلة. وفي بعض طرق هذا الحديث (نفر من عرينة) وفي بعضها (رهط من عُرْينة) وفي بعضها (رهط من عُكل وعُرينة) فإن لم يكن عُرينة بطن من عكل فلعلَّ بعضهم كان من عكل وبعضهم من عُرينة والأول أشبه لاشتهار القصة بالعربنيَّين وفي بجيلة بطن يقال لها عُرينة مصغرة، والنسبة إليها عُرَيْنى.

وقوله: (فاجتووا المدينة) أي استوخموها فكرهُوا المُقام بها [يقال:] جويت نفسي: إذا لم توافقك البلد، واجتويت البلد: إذا كرهت المقام به، وإن كنت في نعمة. وقد كان وقع يومئذ بالمدينة الموم وهو البرسام. وفي هذا الحديث (وقتلوا رعاتها) وفي غير هذه الرواية (وقتلوا الراعي) وهو أكثر الروايتين من كتاب البخاري. والمعتد به أنهم قتلوا الراعي لما في بعض طرق هذا الحديث (فقتلوا أحد الراعيين وجاء الآخر). ويحتمل أن قد كان معهما رُعاة لآخرين فقتلوهم لتتفق الروايات. ولم يعرف ممن قتلوه غير راعي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يسار مولاه وكان نوبيا فقتلوه وقطعوا [87/أ] يديه ورجليه وغرزوا الشوك في لسانه وعينيه، النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يسار مولاه وكان نوبيا فقتلوه وقطعوا [87/أ] يديه ورجليه وغرزوا في لسانه وعينيه، فعاقبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بما ذكر في الحديث. وكان قد بعث في طلبهم فئة من الأنصار وأمَّر عليهم كرز بن جابر الفهري. يستدل بهذا الحديث من يرى أن يقتص من القاتل بمثل صنيعه. وأما من يذهب إلى حديث النعمان بن بشير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا قود إلا بالسيف) فإنه يرى أن حديث العرينيين ان قبل النهي عن المثلة، ولا أدرى أيحتمل تاريخ العرينيين هذا التقدير أم لا، فإن ذلك كان في شوال سنة ست من الهجرة، ثم إن في حديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لما قتل حمزة ومثل به: (لئن ظفرت بهم لأمثلهن بسبعين رجلا منهم) فأنزل الله تعالى {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} فقال: بل نصبر) ورواه أبو هريرة كذلك. وهذا يدل على جواز المثلة يومئذ ومعنى قوله {بمثل ما عوقبتم به} أي: الواحد بالواحد، ونزول الآية بعد أحد. ولا شك أن المثلةحرمت بعد ذلك، غير أن معرفة تاريخ التحريم على التحقيق لم نجد إليها سبيلا، فإن كان أمر العرينين على ما ادعوه فهو وجه الحديث، وإلا فالوجه فيه أن يقال: إن هؤلاء ارتدوا وسفكوا الدم الحرام وأفرطوا فيه وقطعوا الطريق فللإمام أن يجمع بين العقبات في مثل هذه القضية، وكذلك قولنا في حديث اليهودي الذي أخذ أوضاح الجارية ورضخ رأسها بالحجارة. (ومن الحسان) [2569] حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - في حديثه (فرأينا حُمَّرةً) الحُمّر: ضرب من الطير كالعصفور، الواحد حُمَّرة قال الشاعر: قد كنتُ أحسِبكم أسودَ خفيةٍ .... فإذا لصافٍ تبيضُ فيها الحُمَّر

وفيه (فجعلت تُفرش) وفي كتاب أبي داود (فجعلت تفرش أو تُعْرش) بضم حرف المضارع من التفريش والتعريش. وذكر الخطابي أن التفريش مأخوذ من فرش الجناح وبسطه. والتعريش: أن ترتفع فوقها وتظلل عليهما - يعني على الفرخين - وقد ذكر الحافظ أبو موسى في كتابه (المجموع المغيث) عرّش الطائر: ارتفع ورفرف ومنه الحديث (فجاءت حمرة جعلت تعرش أو تفرش) فأراه نقله من كتاب الخطابي. قلت: وقد دل التباسهما على الراوي أنه لم يكن في أحد اللفظين على ثبت. وهذان الإمامان إنما سلكا هذا المسلك في التفسير لما انتهى إلينا من الرواية وفيه تعسف؛ لأن التفريش لم يوجد في كلامهم على معنى بسط الطير جناحه، وإنما هو التفرش يقال [8/ب]: تفرش الطائر، إذا رفرف بجناحيه وبسطهما قال أبو دؤاد يصف ربيئة: وأتانا يسعى تفرش أم الب يض .... شدا وقد تعالى النهار والتعريش المشهور فيه تعريش الكرم ويقال أيضا عرش الحمار بعانته: إذا حمل عليها ورفع رأسه وشحافاه. والذي ذكراه في معناه شيء استنبط على تكلف فيه، ولا أرى الصواب فيه إلا تَفرّشَ، على بناء المضارع، حذف تاؤه لاجتماع التائين. [2570] ومنه حديث أبي سعيد الخدري وأنس بن مالك - رضي الله عنهما - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (سيكون في أمتي اختلاف وفرقة: قوم يحسنون القيل ... الحديث) هذا الكلام يحتمل التقدير من وجهين أحدهما: سيكون في أمتي أهل اختلاف وفقة: وهم قوم. والآخر: سيكون في أمتي اختلاف وفرقة، يفتتن بهما قوم، أو يضلُّ فيهما قوم أو نحو ذلك. وفيه: (يقرءون القرآن لا يجوز تراقيهم) أي: لا يفضي إلى صدورهم وقلوبهم، بل تنشأ القراءة من حنارهم، فلا تجد من ذلك إلا صوتا لا حقيقة وراءه؛ لخلو القلب من التأثر بوعده ووعيده، وقلة المبالاة بحلاله وحرامه وأمره ونهيه، وعدم الاتعاظ والاعتبار بمواعظه وقصصه. وفيه (يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية) مروق السهم خروجه من الجانب الآخر، والرمية: الصيد الذي ترميه فتقصده، وكذلك كل دابة مرمية. والسهم لا يمرق من الرمية إلا إذا كان سريعَ النفوذ، لا يحجزه شيء ولا يتثبث بشيء. ضرب مثلهم في دخولهم في الدين وخروجهم منه بالسهم الذي لا يكاد يلاقيه شيء من الدم؛ لسرعة نفوذه، تنبيهًا على أنهم لا يتمسكون من الدين بشيء، ولا يلوون عليه. وقد أشار إلى هذا المعنى في غير هذه الرواية بقوله: سبق الفرث والدم".

وفيه (لا يرجعون حتى يرتد السهم إلى فوقه) أي: لا يرجعون إلى الدين حتى يرتد السهم إلى فوقه والفوق: موضع الوتر من السهم، وذلك مما لا يكون. أي لا يُراجعون الدين حتى يكون ما لا يكون، وذلك مثل قوله تعالى {ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط}. وفيه (هم شر الخلق والخليقة) الخليقة: جمع الخلائق يقال: هم خليقة الله، وهم خلق الله أيضًا. وهو في الأصل مصدر، وإنما جاء باللفظين تأكيدا للمعنى الذي أراده، وهو استيعاب أصناف الخلق [88/أ] ويحتمل أنه أراد بالخليقة من خُلق، والخلق: من سيخلق. وفيه (ما سيماهم) أي ما علامتهم وشعارهم؟ فقال: (التحليق) أتى بهذا البناء إما لتعريف مبالغتهم في الحلق أو لإكثارهم منه، وقد حدث به تنبيها على أمارتهم، وتوفيقًا على شعارهم الظاهر، وليس في ذلك ما يدل على الوضع ممن يتخذ الحلق دأبا، فقد وصفهم بكثرة الصلاة والصيام، كما وصفهم بالتحليق. والشيء إذا كان محمودًا في نفسه لا يصير مذموماً باستنان من يتنّ به من أهل الزيغ في حق العموم، وإنما يذم بالنسبة إليهم لعوج قصدهم وفساد نيتهم. والحلق من جملة شعائر الله وأنساكه وسمت عباده الصالحين. [2573] ومنه حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (من أخذ أرضا بجزيتها فقد استقال هجرته) الجزية: ما يؤخذ من أهل الذمة من رءوسهم سمَّيت بذلك؛ لأنها طائفة مما عليهم أن يجزوه أي يقضوه، من جزى يجزي، أو لأنهم يجزُون بها من مّن عليهم بالإعفاء عن القتل من قولهم: جزيته بما صنع جزاء. وقيل: تسميتها بذلك للإجزاء به في حقن دمه وفيه نظر؛ لأن الجزية من باب الياء".

والاجتزاء من باب الهمزة. وأريد بها في هذا الحديث: الخراج الذي يوضع على الأرض التي تترك في يد الذمى، فيأخذها المسلم عن متكفلاً بما يلزمه من ذلك. وتسميته بالجزية لأنه يجري في الموضوع على الأراضي المتروكة في أيدي أهل الذمة مجراها فيما يؤخذ من رءوسهم. وإنما قال: (فقد استقال هجرت)؛ لأن المهارج له الحظ الأوفر والقدح المُعلى في مال الفئ يؤخذ من أهل الذمة ويُرد عليه، فإذا أقام نفسه مقام الذمى في أداء ما يلزمه من الخراج، فقد أحل نفسه في ذلك محل من عليه ذلك، بعد أن كان له، فصار كالمستقيل عن هجرته بتبخيس حق نفسه. وفي معنى القول الأول (ومن نزع صغار كافر من عنقه) والصغار - بالفتح - والذلّ والضيم، ومثله: الصُغر - بالضم - والمصدر: الصَغَر بالتحريك. [2574] ومنه قول جرير - رضي الله عنه - في حديثه: (فأمر لهم بنصف العقل) إنما أمر لهم بنصف العقل) إنما أمر لهم بنصف العقل؛ لأنهم كانوا قد أعانوا على قتل أنفسهم بالإقامة بين أظهرُ المشركين. وفيه (لا تتراءى ناراهما) [88/ب] تراءى الجمعان: رأى بعضهم بعضاً. قال الله تعالى: {فلما تراءت الفئتان} والحديث أوّله أبو عبيد بن سلام من وجهين أحدهما: أنه لا يحل لمسلم أن يسكن بلاد المشركين فيكون كل واحد منهما على مسافة من الآخر يرى نار صاحبه، فأضاف الرؤية إلى النار ولا رؤية لها، ومعناه: أن تدنو هذه من هذه. والآخر: أنه أراد نار الحرب. يقال: هما مختلفان، هذه تدعو إلى الله، وهذه تدعو إلى الشيطان، فكيف يتفقان؟ وهذه حال هؤلاء وهؤلاء فأنّى يساكنهم المسلم في بلادهم، وقد قيل: إن النار هاهنا بمعنى السَّمت، يقال: ما نار هذه الناقة أي: ما سمتها؟ وفي المثل: نجارها نارُها قال الراجز: وقد سقوا آبالهم بالنار ... والنار قد تشفى من الأوار وقوله: (أنا برئ) يحتمل أن يكون المراد منه البراءة من دمه. ويحتمل أن يكون أراد به البراءة من مُوالاته. [2575] ومنه حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (الإيمان قيد الفتك. لا يفتك مؤمن) الفتك: أن يأتي الرجل صاحبه وهو غارّ غافل حتى يشد عليه فيقتله، وفيه ثلاث لغات: بالحركات الثلاث من الفاء. ومعنى قيد أي: منع عنه. أراد أن الإيمان يمنع صاحبه عن الفتك كما يمنع المقيد قيّده. وقال للفرس الجواد: قيد الأوابد؛ لأنه يمنع الوحش عن الفوات؛ لسرعته قال امرؤ القيس: بمنجرد قيد الأوابد هيْكل

وقوله: (لا يفتك مؤمن) خبر معناه النهي. أي: لا يفعل ذلك؛ لأنه محرَّم عليه وهو ممنوع عنه لما يتضمنه من الغدر والمكر والخديعة. ويجوز فيه الجزم على النهي. ومن الناس من يتوهم أنه على بناء المفعول فيرويه كذلك، وليس بقويم رواية ومعنى. فإن قيل: قد بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محمد بن مسلمة الخزرجي في نفر من الخزرج إلى كعب بن الأشراف ففتكوا به، وكذلك بعث عبدالله بن عتيك الأوسي في نفر منهم إلى أبى رافع بن أبي الحقيق، وبعث عبد الله بن أنيس الجهني ثم الأنصاري إلى سفيان بن خالد بن "بيج" فكيف التوفيق بين هذا الحديث وبين تلك القضايا التي أمر بها. قلنا: يحتمل أن النهي عن الفتك كان بعدها وهو الأظهر؛ لأن أولاها [89/أ] كانت في السنة الثالثة، والثانية كان في السنة الرابعة، والثالثة كانت بعد الخندق في السنة الخامسة. وإسلام أبي هريرة كان عام خيبر في السنة السابعة فثبت بذلك تأخر الحديث عن تلك القضايا. ويحتمل أن يكون ذلك خصيصي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أُيّد به من العصمة. ويحتمل أن تلك القضايا كانت بأمر سماوي لما ظهر من المفتوكين من الغدر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتعرض له بما لا يجوز ذكره من القول والمبالغة في الأذية والتحريش عليه.

كتاب الحدود

ومن كتاب الحدود (من الصحاح) [2579] قول أحد الخصمين في حديث أبي هريرة وزيد بن خالد - رضي الله عنهما - (فاقض بيننا بكتاب الله) أي: بحكم الله. قال تعالىى: {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي} أي حكم وقضى وقال سبحانه {لولا كتاب من الله سبق} أي وإما قال: اقضِ بيننا بكتاب الله وقد علم أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ليحكم بغيره على وجه تمهيد القول وتقريره. وفيه: (إن ابني كان عسيفًا على هذا). العسيف: الأجير. ومنه الحديث (أنه بعث سرية فنهى عن قتل العُسفاء) وإنما قال (على هذا) لما يتوجه للأجير على المستأجر من الأجرة، بخلاف ما لو قال: عسيفا لهذا، لما يتوجه للمستأجر عليه من الخدمة والعمل. وفيه (تغريب عام) أي: نفيه عن بلده عاماً تقول: أغربته وغرّبته: إذا نحيته ونفيته عن بلده ومن لم ير من العلماء التغريب حداً واجباً كوجوب الجلد والرجسم فإنه يحمل الأمر فيه على النظر والمصلحة إن رآه الإمام، كما له أن ينفي من رأى نفيه من أهل الفساد. وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (أن رآه الإمام، كما له أن ينفي من رأى نفيه من أهل الفساد. وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (أن رجلاً قتل عبده عمداً فجلده النبي الله - صلى الله عليه وسلم - مائة ونفاه سنة .. الحديث). ولم يكن ذلك حدًا واجباً.

[2582] ومنه حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا .. الحديث) كان هذا القول من حين شرع الحد في الزاني والزانية. والسبيل هاهنا الحد؛ لأنه لم يكن مشروعا ذلك الوقت، وكان الحكم فيه ما ذكر في كتاب الله {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم} إلى تمام الآية. [2584] ومنه قول جابر - رضي الله عنه - في حديثه: (فلما أذلقته الحجارة وفرَّ) أي: أقلقته وبلغت منه الجهد. والذلق بالتحريك والقلق. وقد ذلق وسنان أذلق. وفي حديث عائشة - رضي الله عنها - أنها كانت تصوم في السفر حتى أذلقها السموم أي: أذابها. وقيل: جهدها وقيل: أضعفها. [2586] ومنه قوله بريدة - رضي الله عنه - في حديث الغامدية (وكفلها رجل من الأنصار) أي: ضمها إلى عياله وصار كفيلا بتوليها والقيام بمصالحها والكافل: الذي يكفل إنساناً يَعُوله.

وفيه (فيقبل خالد بن الوليد) وجدنا كثيرًا ممن يتعنَّى بكتاب المصابيح روى هذا اللفظ بالياء ذات النقطتين من تحت بين القاف واللام على زنة الماضي من باب [التفعيل] وليس ذلك بشي معنى ورواية، وإنما أتاهم الغلط من حيث إن الراوي أتى به على بناء المضارع من الإقبال كأنه يريد: فرأيت خالدا يقبل بحجر على وجه حكاية الحال، ورأى أنه لو كان من الإقبال لأتى به على زنة الماضي؛ لكونه أشبه بنسق الكلام. وفيه (لو تابها صاحب مكس) الأصل في المكس: الخيانة والماكس: العَشّار، والماكس: ما يأخذه قال الشاعر: أفى كل أسواق العراق إتاوة ... وفي كل ما باع امرؤ مكس درهم

[2588] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: (فليجلدها الحد ولا يثرب) التثريب كالتأنيب والتعيير والاستقصاء في اللَّوم، وهو أن يقبح على الملوم فعله. وقد ذهب في معناه جمع من أصحاب الغريب إلى أن المراد منه أن لا تبكتها وتؤنيها بعد الضرب. والأشبه أن المراد منه أن لا يكتفي في أمرها بالتعبير، بل يقام عليها الحد فإن عقوبة الزناة قبل أن شُرع الحد كانت التثريب. وإلى هذا المعنى ذهب بعض المفسرين في قوله سبحانه: {واللذان يأتيانها منكم فآذوهما}. [...] ومن الحسان حديث نعيم بن هزال الأسلمي - رحمة الله عليه - (أن ما عزًا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - .. الحديث) كان لهزال أبي نعيم مولاة اسمها فاطمة فوقع عليها ما عز فعلم به هزال فاستحمقه، وأشار إليه بالمجئ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والاعتراف بالزنا على نفسه، وحسن في ذلك شأنه، وهو يريد به السوء والهوان فلهذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لو سترته بثوبك كان خيرا لك) وفيه تعريض بالتوبيخ على صنيعه في هتك ستره.

[2592] ومنه حديث [90/أ] عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وأقيلوا ذوى الهيئات عثراتهم) الهيئة: الشارة وهي صورة الشئ وشكله. يقال: فلان حسن الهيئة. وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن المراد من ذوى الهيئات أصحاب المروءات وذوو الوجوه بين الناس. فقال بعضهم: المراد منهم ذوو الصلاح. لعله التفت إلى قولهم: تهيأت للشيء أي أصلحته وقيل: هم الذين لم يعرفوا بالشر فيهفوا أحدهم الهفوة وتندر عنه الذلة بالندرة وقد عرف من أصل الدين أن ذلك فيما دون الحد؛ لتشدد النبي - صلى الله عليه وسلم - في إقامتها وللتهديد الوارد عنه فيمن حالت شفاعته دون حدّ من حدود الله، ثم لما في بعض طرق هذا الحديث من استثناء الحدود من جملة العثرات، فإن فيه: (إلاّ الحدود) وقد ذهب جمع من العلماء إلى أن الخطاب فيه للأئمة الذين إليهم إقامة العقوبات وذهب بعضهم إلى أنه لذوى الحقوق. قلت: وليس أحد القولين أحق بالقبول من الآخر،؛ بل الوجه فيه أن يكون الخطاب لهما جميعا، فإن من العثرات ما يتوجه فيه التعزيز؛ لإضاعة حق من حقوق الله. ومنها ما يطالب به من قبل من يستحق المطالبة به، فأمر كل واحد من الفريقين بذلك أمر ندب واستحباب بالتجافي عن زلآتهم. [2595] ومنه قول وائل بن حجر الحضرمي - رضي الله عنه - (فتجلّلها) أي: علاها. وهو عبارة عن غشيان المرأة يقال: تنجلَّل بالثواب إذا لبسه.

[2597] ومنه حديث سعيد بن سعد بن عبادة (أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - برجل كان في الحي مخدج .. الحديث) المخدج: الناقص الخلق وقد فسر قبل ذلك. ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - (خذوا له عثكالاً فيه مائة شمراخ). العثكال: الكباسة وهي الرطب بمنزلة العنقود للعنب والشمراخ ما عليه البسر من عيدان الكباسة، على هذا فسره أصحاب الغريب. ووجدت كثيرا من علماء العربية لم يفرقوا بين العثكال والشمراخ ففروا أحدهما بالآخر، والصحيح ما قدمناه لاسيما وقد شهد به لفظ الحديث، ولعل الذي جعلها شيئًا واحدًا أخذه عن بعض الأعراب الذين لا دربة لهم بأحوال النخيل، ولا يهتدون إلى صفاتها. ولم ير كثير من العلماء العمل بهذا الحديث لما فيه من تعطيل ما ثبت بالأحاديث الصحاح، والحديث [90/ب] لم يبلغهم إلا بطريق الإرسال أو بما يشبه الإسال؛ لأن سعيدًأ لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يذكر أنه سمع أباه. ورواه أيضا أبو أمامة بن سهل بن حنيف عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يعينه، فلما صادفوا القضية على ما ذكرنا، ردّوا الأمر في الزمن وفيمن أفناه المرض إلى ما أجمع العلماء عليه من أمر الحامل إذا زنت فإنهم لم يروا أن تُضرب بشماريخ النخل. فإن قيل فما وجه الحديث على ما تزعمون؟ قلنا: نبني الأمر فيه على التخصيص نظرًا إلى مصلحة الرجل وحذرًا عليه أن يستمرّ به القنوط ويُداخله اليأس من رحمة الله عند الموت فأفتاه بذلك تنفيساً عنه حتى إذا برأ أمر بإقامة الحد عليه، أو خشى عليه أن يعتوره الكمد على ما فرط منه فيزداد مرضه زيادة تشفي به

باب قطع السرقة

على الموت، فرأى ذلك بمنزلة إقامة الحد عليه في أسباب التلف فأفتاه بذلك تسكينا لما به إلى أن يبرأ. وقد ذكر في بعض طرق هذا الحديث من سوء حال الرجل وتحسره على ما فرط في جنب الله ما يُقوى المعنى الذي أردناه وهو أن أبا أمامة بن سهل بن حنيف روى عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأنصار أنه اشتكى رجل منهم حتى أضنى فعاد جلدَه على عظمه، فدخلت عليه جارية لبعضهم فهش لها فوقع عليها، فلما دخل عليه رجال قومه يعودونه أخبرهم بذلك وقال: استفتوا لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنى قد وقعت على جارية دخلت على، فذكروا ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: ما رأينا بأحد من الناس من الضرّ مثل الذي هو به، لو حملناه إليك لتفسخت عظامه، ما هُو إلا جلد على عظم ... الحديث". [2602] ومنه حديث عائشة - رضي الله عنها - (فلمّا نزل أمر بالرجلين والمرأة فضربوا الحد) الرجلان حسّان بن ثابت ومسطح بن أثاثة، والمرأة حمنة بنت جحش - عفا الله عنهم - وكانوا قد خاضوا في حديث الإفك. ومن باب قطع السرقة (من الصحاح) [2604] (حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قطع النبي - صلى الله عليه وسلم - يد سارق في مجنَّ ثمنه ثلاثة دراهم) وجه هذا الحديث عند من لا يرى من العلماء قطع يد السارق في أقل من عشرة دراهم: أن التقويم لعلّه كان من ابن عمر رأيا واجتهادًا على ما تبين له، لأنا وجدنا القول في قيمة المجن مختلفا عن جمع من الصحابة فروى عن ابن عباس أن قيمته كانت عشرة دراهم. وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مثله. وكذلك روى عن أم أيمن واسمها بركة [91/أ] مولاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحاضنتُه. وقد رُوى عن ابنها أيضا أيمن بن عبيد الله الحبشي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أدنى ما يقطع فيه السارق ثمن المجن) وكان يقوم يومئذ دينارًا. فلما وجد هذا الاختلاف وكان الأخذ بحديث من روى أن قيمة المجن المقطوع فيه كانت عشرة دراهم داخلاً فيما أجمع المسلمون عليه والأخذ بما دونه خارجا عن الإجماع، رأوا الأخذ بالأمر المجمع عليه أحق وأولى لاسيما في الحدود، فإن الشارع - صلى الله عليه وسلم - أمرنا أن نسلك فيها السبيل السالم عن اعتراض الشبه.

فإن قيل: فقد روى عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (تقطع يد السارق في رب دينار فصاعدا) فالجواب عنه: أن هذا الحديث يروى في أثبت الروايتين موقوفاً على عائشة. وقد روى عنها أيضا من غير هذا الوجه بطرق شتى لم يخل من اختلاف الرواة فيها، فحملوا الأمر فيه على أنها ذكرت ربع دينار؛ لأن قيمة المجن كان عندها ربع دينار. قلت: وأهل النقل يرون الترجيح لحديث ابن عمر وحديث عائشة؛ لأنهما أصح سندًا وأهل النظر يرون أحق الروايتين بالقبول رواية ابن عباس ومن نحا نحوه؛ لما يؤيده المعنى الذي ذكرناه، ولا يرون أن يقطعوا القول بالمراد عن قوله سبحانه {والسارق والسارقة} إلا على الوجه الذي لا اعتراض للشبهة فيه، على ما بيننا، والله أعلم. فإن قيل: إن الأحاديث التي [ذكرتموه] في قيمة المجنّ أنها كانت عشرة دراهم حكم تنفيذ وليس بتحديد، والسارق إذا قُطع في عشرة لم يلزم منه أن لا يقطع فيما دون ذلك، وقد روى أبو داود حديث ابن عباس في كتابه ولفظه: (قطع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يد رجل في مسجنّ قيمته دينارًا وعشرة دراهم) قيل: هذه رواية ابن نُمير عن محمد بن إسحاق عن أيوب بن موسى عن عطاء عن ابن عباس وقد رواه الأثبات أيضا عن محمد بن إسحاق وفي روايتهم (كانت قيمة المجن الذي قطع فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة دراهم) فعرفنا أن المجن المذكور في حديث ابن عباس هو المجن الذي اختلف في قيمته، وجعل أصلا في معرفة نصاب السرقة، فيكون قوله هذا على وجه التحديد. وحديث أيمن أوضح منه في معنى التحديد. [2605] ومنه حديث [91/ب] أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لعن الله السارق يسرق البيضة ... الحديث) رأى بعضهم أن المراد من البيضة البيضة من الحديد، وليس الأمر على ما توهّمه وآخر الحديث ينقض عليه ذلك، وهو قوله: (ويسرق الحبل) وإنّما أراد أنه يتبع نفسه في أخذ الشيء اليسير مثل البيضة والحبل حتى يعتاد السرقة فيفضى به ذلك إلى أخذ ما يقطع فيه اليد. (ومن الحسان) [2606] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث رافع بن خديج - رضي الله عنه - (لا قطع في ثمر ولا كثر) الكثر بالتحريك جُمّار النخل وهو شحمها. ويقال: طلعها والأول أصح.

[2608] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - (ولا في حرية جبل فإذا أواه المراح والجرين ..) الحديث. الحرية: الشاة تسرق ليلاً. واحترسها فلان أي: سرقها ليلا. وإنما أضيفت إلى الجبل إما لأنها تؤوى إلى الجبال لكونها أمنع فيحترسها المحترس أو لأن المحترس يذهب بها إلى الجبل ليكون أحرز من الطلب (والمُراح) بالضم حيث يأوى إليه الإبل والغنم بالليل. (والجرين) موضع التمر الذي يُجفّفُ. [2612] ومنه حديث بُسر بن أرطاة ويقال: ابن أبي أرطاة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لا تقطع الأيدي في الغزو). قلت: قد ذكر ابن عبد البر عن يحيى بن معين أنه قال: لا تصح لبر بن أرطاة صحبة. وكان يحيى يسئ فيه القول؛ لأنه ابتُلى بأفاعيل يسمح ذكرها في الأحدوثة. والله المرجو أن يجنبنا عاقبة السوء وأن يتجاوز عمن ابتلى بها. فإن ثبت الحديث فالوجه فيه أن لا تقطع إذا كانت الجيش في دار الحرب ولم يكن فيهم الإمام وإنما يتولاهم أمير الجيش، وعلى هذا مذهب أبي حنيفة. وذهب إلى حديث بسر الأوزاعي فلم ير أن يقطع حتى يقفل الأمير من الدرّب، ولعله رأى فيه احتمال افتتنان المقطوع بأن يلحق بدار الحرب، أو

باب الشفاعة في الحدود

رأى أنه إذا قطعت يده والأمير متوجه إلى العدو لم يتمكن من الدفع عن نفسه، ولا يغنى غناء، فيترك إلى أن يقفل الجيش. [2614] ومنه حديث جابر - رضي الله عنه (جئ بسارق إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: اقطعوه فقطعوه .. الحديث) هذا الحديث إن ثبت فالوجه فيه أن يقال: إنه منسوخ فقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال [92/أ]: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة". ومن باب الشفاعة في الحدود [2618] حديث عائشة - رضي الله عنها - "أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخومية .. الحديث) تقول: أهمني الأمر: إذا أقلقك وأحزنك. يقال: همك ما أهمك. والمرأة المخزومية هي: فاطمة بنت الأسود بن

عبد الأسد بنت أخي أبي سلمة. وإنما ضرب المثل بفاطمة بنت محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنها كانت أعز أهله عليه، ثم لأنها كانت سَميّة لها، وفاطمة المخزومية هي التي ذكرت عائشة - رضي الله عنها - في الحديث الآخر أنها كانت تستعير المتاع فتجحد. قلت: وهذا القول منها أعنى الجحود فيما استعارت على سبيل التعريف أي: كان ذلك صنيعها فقطعت في السّرقة ولم تسرد بذلك وجوب القطع عليها بجحود ما أعيرت، على هذا فسره أهل العلم. وقد ذهب بعضهم إلى ظاهر الحديث وقد شذ به. وقوله: (فأختطب) أي: خطب ويستعمل في الخطبة والخطبة. (ومن الحسان) [2620] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عمر - رضي الله عنهما - (أسكنه الله رَدَغَة الخبال) الردغةُ بالتحريك الماء والطين والوحل الشديد، وكذلك الرَدغة بالتسكين. وأهل الحديث يروونه بالتسكين لا غير. وتفسيرها في الحديث: عصارة أهل النار. وفي حديث آخر: من شرب الخمر سقاه الله من طينة الخبال) وفي حديث آخر (من قفا مؤمنا بما ليس فيه وقفه الله تعالى في ردغة الخبال حتى بجئ بالمخرج منه) والخبال: الفساد في اللغة، سمى به الصديد في الحديث؛ لأنه من المواد الفاسدة. [2621] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي امية المخزومي - رضي الله عنه - (ما إخالك سرقت) خلت

باب حد الخمر

الشئ خيلا وخيلةً ومخيلة وخيلولة أي: ظننته ويكسرون في المستقبل الألف، وهو الأفصح، غير بنى أسد فإنهم يفتحونها، وهو القياس. وإسناد هذا الحديث ليس مما يقوم به حجة. وأبو أميّة المخزومي لا يُعرف في الصحابة إلا بهذا الحديث، ولم ينسب ولم يذكر اسمه فيما وقفنا عليه من كتب المعارف، فإن يكن له أصل فالوجه فيه ما قاله الخطابي، وهو: أنه قال: وجه هذا الحديث عندي أنه ظن بالمعترف [92/ب] غفلة عن السرقة وأحكامها، أو لم يعرف معناها، فأحب أن يستيقن ذلك منه يقيناً، ثم إنه قال: وقد نقل تلقين السارق عن جماعة من الصحابة. ومن باب حد الخمر (من الصحاح) [2623] حديث السائب بن يزيد - رضي الله عنه - قال: (كان يؤتي بالشارب على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإمرة أبي بكر - رضي الله عنه - ... الحديث) ذهب كثير من العلماء إلى أن الحد في الخمر في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن فيه عدد معلوم. وقد دل هذا الحديث على ذلك وروى أن عليا - رضي الله عنه - قال بحضرة عمر - رضي الله عنه - حين استشار الصحابة في حد الخمر حين انهمك الناس فيها: نرى يا أمير المؤمنين، ثمانين جلدة. وروى أنه قال: إذا سكر هدْى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون. وروى أن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - قال: نرى فيها أخف الحدود ثمانين. ولو كان فيه توقيف لم يكن عمر - رضي الله عنه - ليجعله في الشورى. ولم يكن الصحابة مخبرين عن آرائهم مع العلم بالتوقيف. فإن قيل: فما ترون إذا في حديث أنس الذي قبل هذا الحديث. قلنا: الوجه فيه أن نقول: يحتمل أن أنساً عدَّ ذلك كرَةً فوجده على ما ذكر بحكم الاتفاق، فحمل الأمر فيه على التحديد. ويحتمل أنه قال ذلك على وجه التقريب، ويدلّ عليه ما روى عنه في بعض الروايات أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (أتى برجل شرب الخمر فأمر به فضرب بجريدتين نحواً من أربعين) ثم إن الصيغة التي ذكرت في حد الشارب على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - تشهد على ذلك، فمن ذلك قول السائب في حديثه هذا: (فنقوم عليه بأيدينا ونعالنا وأرْديتنا) وحديث عبد الرحمن بن الأزهر القرشي الزهري ابن أخي عبد الرحمن بن عوف: (كأني أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى برجل قد شرب الخمر) الحديث بنمامه قد ذكر في الحسان من هذا الباب. وفي غير هذه الرواية أنه كان بحنين، وحديث النعيمان وفيه (فأمر من كان في البيت فضربوه بالنعال والجريد) وقلما يحتمل هذه الهيئات الضبط والإحصاء. ومما يدل عليه قول علي - رضي الله عنه -:

ما حددت أحدًا حدًا فمات فيه فوجدت في نفس شيئاً إلا الخمر، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يَسنَّ فيه شيئاً فإن قيل: فقد روى عن علي - رضي الله عنه - في إقامة الحد على الوليد بن عقبة بأمر عثمان - رضي الله عنه - أنه قال [93/أ] لعبد الله بن جعفر - رضي الله عنه - حين بلغ أربعين أمسك. ثم قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلد أربعين وجلد عمر ثمانين، وكل سنة. قلنا: قد رُوى عنه أنه ضرب الوليد أربعين بسوط له طرفان فتقع هذه الأربعون موقع الثمانين، وكيف يختار الأربعين في زمان عثمان، وهو الذي رأى الثمانين زمان عمر - رضي الله عنه - وقد عرف اتفاق الصحابة على ما حده عمر - رضي الله عنه - والذي ذكره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إن ثبت فإنه يحمل على التقريب لئلا يفضي بما روى عنه في ذلك إلى التَّضادّ، ويدل عليه أيضاً حديث أنس اتلذي أورده المؤلف في أول الباب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضرب في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين. ويحتمل أن يكون حديث على - رضي الله عنه - جلد أبو بكر أربعين وجلد عمر ثماتنين وكل سُنّة، وقد روى هذا الحديث على هذا الوجه فوهم بعض الرواة فرواه كذلك وقوله (وكل سنة)؛ لأن مبنى القضيتين على السُنّة، فسمىّ كلا منهما سنة لأنهما أخذتا من السنة ويبين هذا المعنى قوله - صلى الله عليه وسلم - (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين) هذا وجه التوفيق بين هذه الرواية كيلا تختلف اختلاف التناقض ولا تضرب الأحاديث الواردة فيه بعضها ببعض. [2625] ومن الحسان قول عبد الرحمن بن الأزهر - رضي الله عنه - في حديثه: (ومنهم من ضربه بالميتخة) ذكره الهروى أنها الدرة، وجعلها من: تاخ يتوخ. ولم نجد لهذا الاشتقاق أصلا فيما اطلعنا عليه من كتب اللغة. وقد ذكر بعض علماء العربية أن ذلك لو كان على ما زعم لكان من حقه أن يَرد على وفاق المشورة والمروحه. وقد روى هذا اللفظ من وجهين سوى ما ذكرنا أحدهما: المتيخة على وزان السكينة والثاني: الميتخة بتقديم الياء المنقوطة باثنتين من تحت على الناء، وعلى الوجهين فالميم أصلية، وذلك من قولهم: متخ الله رقبته، ومتخه بالسهم، أي: ضربه. وقد وردت الرواية بالوجوه الثلاثة. ونقل في الوجه الأول أن التاء مبدلة من الطاء من: طيخه العذاب، أي: ألحَّ عليه. أو من الدال، من: ديَّخه أي: ذلّله [قال الشيخ رحمه الله]: وقد وجدت الحافظ أبا موسى قدم الوجهين اللذين ذكرنا أن الميم فيهما أصلية تنبيهاً على أن ذلك أوثق الروايتين عنده.

باب ما لا يدعى على المحدود

[2627] ومنه قول ابن عباس - رضي الله عنه - فَلقى يميل في الفَجّ) الفجُّ [93/ب]: الطريق الواسع بين الجبلين، وأرى أن ذلك كان بمكة؛ لأن دار العباس بها واقعة في أحد شعابها؛ إذ ليست الدار التي تنسب إلى العباس بالمدينة في فج من الفجاج ولا مقاربة منه. ومن باب ما لا يدعى على المحدود (من الصحاح) [2628] حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - (أن رجلاً اسمه عبد الله يلقب حمارًا ... الحديث) هذا الرجلا لا يُعرف في الصحابة إلا بهذا الاسم وهذا اللقب، وحديثه عند زيد بن أسلم عن أبيه.

باب التعزير

وفيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تلعنوه، فوالله ما علمت أنه يحب الله ورسوله) أي الذي علمتُ أنه يحب الله ورسوله. ومن باب التعزير (من الصحاح) [2633] حديث أبي بردة بن نيار - رضي الله عنه: (لا يجلد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله) اختلفت أقاويل أهل العلم في جلدات التعزير، فمنهم من ذهب إلى ظاهر هذا الحديث {وقليل ما هم} والأكثرون الذين رأوا خلافه اختلفوا فيه: فمنهم من قال: لا يبلغ به إلى أربعين. ومنهم من قال: هو ما بين عشرين إلى ثلاثين. ومنهم من قال: إلى خمسة وسبعين. ومنهم من قال: يراعى فيه عظم الذنب وصغره. ثم إنهم اختلفوا بعد ذلك: فمنهم من قال: إن للإمام أن يبلغ به إلى أقل من ثمانين. ومنهم من قال: إن رأى أن يعاقبه بما فوق الثمانين فله ذلك، على حسب ما يراه من العقوبة فيما ارتكبه. وفي أقاويل هؤلاء دلالة على أنهم أوّلوا حديث أبي برة، أو حملوا الأمر فيه على النسخ. والوجه فيه أن يقال: روى ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إذا قال الرجل للرجل يا يهودي فاضربوه عشرين) وروى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلاً قتل عبده فجلده النبي - صلى الله عليه وسلم - مائةً ونفاه سنة ولم يكن شيء مما ذكر في هذين الحديثين من جملة الحدود المنصوص عليها، ولم يتحقق التقدم والتأخر من حديث

أبي بردة، فحملنا الأمر فيه على أنه أراد بقوله (إلا في حد من حدود الله) ما يقام على سبيل العقوبة والتنكيل. وأراد بما يعزر فاعله بعشر جلدات ما يقام على طريق التأديب والتقويم، كالذي يضرب ولده الصبي على ترك الصلاة أو عبده لتقصير كان منه ونحو ذلك. وضمّ ما سواه إلى جملة الحدود، وإن لم يكن منها، للمشابهة التي بين النوعين في ارتكاب المحظور وعظم الذنب. أو سماه حدًا؛ لأن المتهافت فيه تجاوز الحدّ الذي شرع له، هذا هو السبيل في تأويل هذا الحديث لئلا يلزم من الأخذ بظاهره ردُّ ما عداه. [94/أ]. [2635] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس - رضي الله عنه - (ومن وقع على ذات رحم محرم فاقتلوه) حمل جمع من العلماء الأمر بالقتل في هذا الحديث وفيما يجري مجراه على أنه في حق المستحل. وقد اتفق العلماء أن فاعل ذلك لا يجب عليه القتل، إنما يجب عليه الرجم إن كان محصناً، ثم إنهم اختلفوا إذا كان ذلك بنكاح: فمنهم من لم يفرق بين الصورتين، ومنهم من قال: يجب فيه التعزير والعقوبة البليغة. وقالوا: لّما أمر بالقتل ولم يأمر بالرجم علم أنه ليس بحد، وهو قيل أبي حنيفة وسفيان الثوري. وقد استدل مخالفوهم أيضا بحديث البراء "مرَّ على خالي ومعه لواء .. الحديث) وقد ذكرنا الحديث قبل ذلك، وبينا ما يدل على أن الرجل كان محارباً مستحلاً. [2636] ومنه حديث عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا وجدتم الرجل قد غل في سبيل الله فاحرقوا متاعَه) قد ذكرنا في غير موضع أن هذا الحديث وما يجرى مجراه في العقوبة بأخذ المال أو بإحراقه كان في أول الأمر بالمدينة ثم نسخ.

=====

=====

كتاب الإمارة والقضاء

ومن كتاب الإمارة والقضاء (من الصحاح) [2652] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-: (وإن قال بغيره فإن عليه منه) قال بغيره أي: أحبه وأخذ به إيثاراً له وميلاً إليه. وذلك مثل قولك: فلان يقول بالقدر، ويقول بالرجعة، وما أشبه ذلك. فالمعنى: أنه يحبه ويؤثره. ويجوز أن يكون معناه: حكم بغيره، فإن القول يستعمل في معنى الحكم ومنه القيل. وقوله: (فإن عليه منه) أي: عليه وزر من صنيعه ذلك. [قال الشيخ رحمه الله]: وقد وجدناه في أكثر نسخ المصابيح (فإن عليه منه) بتشديد النون مع ضم الميم وتاء التأنيث آخره، على أنها كلمة واحدة، وهو تصحيف غير محتمل لوجه هاهنا، وإنما هو حرف الجر مع الضمير المتصل به. [2657] ومنه قول عبادة بن الصامت- رضي الله عنه- في حديثه (والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا) يقول: بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن نسمع ونطيع فيما تنشط فيه النفس وفيما تكرهه، وبايعناه على أثرة

علينا الأثرة بالتحريك الاسم من الاستئثار يقال: استأثر الرجل بالشيء أي: استبد به، وجمع الأثرة الأثر. ومنه قول الحطيئة في أمير المؤمنين عمر- رضي الله عنه-: ما آثروك بها إذ قدموك لها ... لكن لأنفسهم كانت بن الأثر (وعلى أثرة علينا) راجع إلى من يلي الأمر من الأمراء وأصحاب البيعة من أولى الأمر فيستأثر بحق المبايع غيره عليه فإن هذا [94/ب] مما لا يمكن في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - ومما لا يظن أيضاً بالخلفاء الراشدين. وأراد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ منا البيعة على أن نصبر على أثرة علينا، فلا ننابذ من بويع من ولاة الأمر فصنع هذا الصنيع. وهذا الذي ذكره عبادة في حديثه هو الذي أشار إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله في حديث أسيد بن حضير لرجل من الأنصار وقد خلا به- (إنكم سترون بعدي أثرة). وفيه: (كفراً بواحاً) أي: جهاراً لا خفاء به، من قولهم: باح الشيء وأباحه: إذا جهر به. [2660] ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة الجاهلية .. الحديث) الميتة بكسر الميم: الحالة التي يكون عليها الإنسان من الموت كالجلة والركبة يقال: مات فلان ميتة حسنة، وإنما قال: جاهلية؛ لأن أهل الجاهلية لم يكونوا متمسكين بطاعة أمير ويعدون ذلك سفاهة ودناءة، لا جرم أن القوي منهم كان يأكل الضعيف، ثم لا يزعه وازع. وكان ذلك الرأي منهم حقيقاً بان يخطأ ويسفه ويذم عليه. وفيه (ومن قاتل تحت راية عميقة) أي: قاتل على أمر مظلم لا يعرف فيه الحق من الباطل، وقد مر تفسير العمية. وفيه (فقتل، فقتلة) قتلة بكسر القاف وهي: الحالة التي تكون عليها من القتل على ما مر. وذلك؛ لأن الأمر الموصوف كان من سنن أهل الجاهلية المخالف لهدى أهل الإسلام.

[2662] ومنه حديث أم سلمة- رضي الله عنها- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (يكون عليكم أمراء تعرفون وتنكرون .. الحديث) أي ترون منهم من حسن السيرة ما تعرفون وترون من سوء السيرة وما تنكرون (فمن أنكر) يعني بلسانه فيفاوضهم فيما هو حق الدين وواجب النصيحة (فقد برئ) يعني: من النفاق والمداهنة. (ومن كره) ذلك بقلبه ومنعه الضعف عن إظهار ما يضمر من النكير (فقد سلم) من العقوبة على ترك النكير ظاهراً. وقوله: (ولكن من رضى وتابع) المعنى: ولكن الذي رضى بالمنكر وتابع عليه هو الذي لم يبرأ من النفاق ولم يسلم من العقوبة. [2663] ومنه حديث ابن مسعود - رضي الله عنه- قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إنكم سترون بعدي أثرة وأموراً .. الحديث) قد ذكرنا المراد من الأثرة وإنما أعدناه؛ لأن في بعض نسخ المصابيح (أموراً) بغير واو والرواية المعتد بها بواو العطف. وفي كتاب مسلم (سيكون بعدي أثرة وأمور). [2665] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر- رضي الله عنهما- (من خلع يداً من طاعة) وفي الحديث أيضاً (من نزع يداً من طاعته) وكلا اللفظين عبارة عن نقض البيعة وذلك؛ لأن من شأن المبايع أن يضع يده في يد من يبايعه فلما كان وضع اليد كناية عن إنشاء البيعة وإمضائها؛ صار خلع اليد ونزعها عبارة عن نقضها.

[2667] ومنه حديث أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إذا بويع الخليفتين فاقتلوا الآخر منهما) الوجه في هذا الحديث أن يحمل القتل فيه على القتال. او يقال المراد من القتل بإبطال بيعة الآخر وتوهين أمره. من قولهم: قتلت الشراب أي: مزجته وكسرت سورته بالماء. ومنه قول حسان بن ثابت- رضي الله عنه-: إن التي ناولتني فرددتها ... قتلت قتلت! فهاتها لم تقتل

[2678] ومنه حديث عبد الله بن عمرو- رضي الله عنه-: (ألا وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته .. الحديث) الأصل في الرعي حفظ الحيوان، إما بغذائه الحافظ لحياته، وإما بذب العدو عنه. يقال: رعيت الإبل أرعاها رعياً. وكذلك رعي البعير الكلأ بنفسه رعياً ورعي الأمير رعيته رعاية، وهو القيام على إصلاح ما يتولاه. أي: كلكم يسأل عما استرعى أي شيء كان، فلا يكونن مقصراً في إصلاح ذلك الشيء ورعايته، فإن الله سائلة عن ذلك. [2681] ومنه حديث عائشة- رضي الله عنها- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (إن شر الرعاة الحطمة) الراعي يجمع على رعاء ورعاة. أراد به الراعي الذي يظلم رعيته يقال: رجل حطم وحطمة: إذا كان قليل الرحمة للماشية يلقى بعضها على بعض قال الراجز: قد لفها الليل بسواق حطم [2683] ومنه حديثه الآخر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن المقسطين على منابر من نور .. الحديث) القسط بالكسر العدل. والأصل فيه التنصيب. تقول منه: قسط الرجل: إذا جار، وهو أن يأخذ قسك غيره. والمصدر: القسوط. وأقسط: إذا عدل. وهو أن يعطي نصيب غيره. ويحتمل أن الألف أدخل فيه لسلب المعنى كما

أدخل في كثير من الأفعال إزالة القوط. وقد فر المقسطين في الحديث بما وصفهم به من قوله: (الذين يعدلون .. إلى آخر الحديث) والمراد من قوله: (عن يمين الرحمن) كرامتهم على الله وقرب محلهم وعلو منزلتهم وذلك، لأن من شأن من عظم قدره في الناس أن يتبوأ عن يمين الملك ثم إنه نزه ربه سبحانه عما سبق إلى فهم من لم يقدر الله حق قدره من مقابلة اليمين باليسار، وكشف عن حقيقة المراد بقوله: (وكلتا يديه يمين). [2685] ومنه حديث أنس- رضي الله عنه- (كان قيس بن سعد من النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنزلة صاحب الشرط من الأمير) قيس هذا هو قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري سيد الخزرج وابن سيدها أحد دهاة العرب وأهل الرأي ورياسة الجيوش، وكان من ذوي النجدة والبسالة والكرم والسخاء، وكان طوالاً سناطاً. أراد: أنه كان منتصباً بين يديه لتنفيذ ما يريد ويأمر به كصاحب الشرط الذي يتقدم بين يدي الأمير لتنفيذ أوامره وهو الحاكم على الشرط للأمور السياسية. والشرط جمع شرطة وشرطي، وهم قواد الأمير وحراسه ومسالحه، سموا بذلك؛ لأنهم جعلوا لأنفسهم علامة يعرفون بها. (ومن الحسان) [2687] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث حذيفة- رضي الله عنه-: (من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه) قيد شبر أي: قدره يقال: بينهما قيد رمح وقاد- رمح أي: قدر رمح. ومنه

الحديث (حين مالت الشمس قيد الشراك). وفي حديث آخر (حتى ترتفع الشمس قيد رمح) يعني في رأي العين في الحديثين وفي حديث آخر: (لقاب قوس أحدكم من الجنة أو قيد سوطه) قيل: أصل قيد قود من القود وهو المماثلة والقصاص يدل عليه قولهم: قيس كذا (والربق) بالكسر: حبل فيه عدة عرى يشد به إليهم. الواحدة من العروة ربقة. شبه ما لزم الأعناق من حق الدين وذمة الإسلام بالربقة التي تجعل في أعناق إليهم، فاستعملها موضع العهد؛ لأنها تلزم لزوم الربائق الأعناق. والمعنى: أن الذي خرج عن الطاعة وفارق ما عليه الجماعة بترك السنة واتباع البدعة ونزع اليد عن الطاعة ولو كان قدراً يسيراً يقدر في الشاهد قيد شبر، فقد نبذ عهد الله [96/أ] وأخفر ذمته التي لزمت أعناق العباد لزوم الربقة. وفيه: (من دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثي جهنم) الدعوى: الدعاء. قال الله سبحانه: {وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين} يقال: دعوته أي ناديته. والمعنى: من نادى بمثل نداء الجاهلية، وذلك أن الرجل منهم إذا غلب في الخصام ونيل منه نادى بأعلى صوته يا لفلان مستصرخاً ذويه وقومه فأتاه الصريخ من هنا وهنا مهرولين نحوه لا يلوون على شيء، قائمين بنصره ظالماً أو مظلوماً جهلاً منهم وعصبية، فأعلمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الذي يبتغي في الإسلام سنة الجاهلية ويقتفيها فغنه من أهل جهنم. وجثى المقصورة فسرت بالجماعات وذلك أن الجثوة بالحركات الثلاث الحجارة المجموعة، وجثى الحرم- بضم الجيم وكسرها أيضاً- ما اجتمع فيه من حجارة الجمار والمفتوحة فيها يجمع على جثوات. وعلى هذا فضم الجيم وكسرها جائز فيها. والتي نحث والتي تحققها رواية الضم، ومن حقها أن تكتب بالياء. وأصحاب الحديث يرجعون في أمثال ذلك إلى ما يقتضيه التلفظ، فيكتبون بالألف كثيراً من الألفاظ التي حقها أن تكتب بالياء؛ لئلا تلتبس على الناقل، وهو سبيل لا يرتضيه أهل العربية. وقيل: (من جثى جهنم) بالياء المشددة جمع جاث. أي: الذين يجثون فيها. وأرى هذا الوجه- وإن قلت منه الرواية- أشبه بالصواب؛ لما يؤيده صيغة التنزيل قال الله تعالى: {ونذر الظالمين فيها جثياً} وعلى هذا فيجوز كسر الجيم فيه لما بعدها من الكسرة وقد قرئ بها في كتاب الله. [2692] ومنه حديث حذيفة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (إن العرافة حق ولابد للناس .. الحديث) العريف شاهد القوم وضمينهم كالنقيب يقوم بأمر القبيلة والمحلة ويلي أمورهم ويتعرف الأمير منه أحوالهم وهو دون الرئيس، والجمع عرفاء، تقول: عرف فلان- بالضم- عرافة- بالفتح- أي: صار عريفاً

مثل: خطب خطابة بالفتح: إذا صار خطيباً. وإذا أردت أنه عمل ذلك قلت: عرف يعرف عرافة مثل كتب يكتب كتابة والتي في هذا الحديث (العرافة) بالكسر. وقوله (حق) يقع هاهنا موقع المصلحة والأمر الذي تدعو إليه الضرورة في ترتيب البعوث والأجناد وما يلم به شعثهم من الأرزاق والأعطيات والإحاطة بعددهم [96/ب]؛ لاستخراج السهمان ونحوه. وقوله: (العرفاء في النار) أي: فيما يقربهم إليها ورد هذا القول مورد التحذير عن التبعات التي يتضمنها والآفات التي لا تؤمن فيها والفتن التي يتوقع منها، والأمر بالتيقظ دونها، وغير ذلك من البليات التي قلما يسلم منها الواقع وفيها. [2694] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث بن عباس- رضي الله عنهما-: (من سكن البادية جفا) جفا أي: غلظ فلا يرق قلبه لبر أو صلة. وفي غير هذه الرواية (من بدا جفا) من البداوة. وإنما يؤنس منه الفظاظة والغلظة لقلة اختلاطه الناس، وطول عهده بأهل العلم ومن يستفيد منه أدبا لحرمته عن تركه الجمعة والجماعات. ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - (البداء من جفا) أي: من غلظ الطبع.

باب ما على الولاة من التيسير

ومن باب ما على الولاة من التيسير [2707] حديث أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لكل غادر لواء عند استه .. الحديث) الأصل في الغدر ترك العهد. والغادر: هو الذي يختل قولاً ولا يفي فعلاً. والمعنى: أن الله تعالى يشهده على رءوس الأشهاد بما ارتكبه من الغدر بلواء يعرف به كما يعرف زعيم الجيش باللواء الذي ينصب خلفه. وإنما قال (عند استه) استخفافاً بذكره واستهانة لأمره. قوله: (ولا غادر أعظم غدراً من أمير عامة) أراد المتغلب الذي يستولي على الأمر من غير استحقاق ولا مشورة من أهل الحل والعقد فيؤمره العامة وتقدمه وقد أخره الكتاب والسنة.

باب العمل في القضاء والخوف منه

(ومن الحسان) [2708] حديث عمرو بن مرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (من ولاه الله شيئاً من أمر المسلمين .. الحديث) [أي: أبعده وأقصاه ومنعه] عما يبتغيه، فلا يجد سبيلاً إلى حاجته. والحاجة والخلة والفقر متقاربة في المعنى. وإنما ذكرها إما على وجه التأكيد، وإما لأنه أراد بالأولى ما هو أخف مؤنة من الثانية، وبالثانية ما هو أمس وأصعب، وعلى هذا الثالثة، على حسب مراتب ذوي الفاقة والحاجة. وهذا الوجه أمثل الوجهين. ومن باب العمل في القضاء والخوف منه (من الحسان) [2711] ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (من جعل قاضياً بين الناس فقد ذبح بغير سكين ليعلم أنه [97/أ] أراد به الذبح على وجه الاتساع؛ وذلك أنه ابتلى بالعناء الدائم والأمر المعضل الذي لا يجد عنه بدا، وشتان بين الذبحين فإن الذبح بالسكين عناء

ساعة، والآخر عناء عمر، بله ما يعقبه من الندامة في يوم القيامة، ثم إن الذبح بالسكين أهون على المذبوح وأروح له. والمراد منه: التوقيف على الأخطار المتضمنة للقضاء، والتنبيه على التوقي منه، والتحذير عن الحرص عليه. [2714] ومنه حديثه الآخر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من طلب قضاء المسلمين حتى يناله ثم غلب عدله جوره .. الحديث) ربما يسبق إلى فهم بعض من لا يتحقق القول أن المراد من الغلبة أن يزيد ما عدل فيه

باب رزق الولاة وهداياهم

على ما جار وهذا باطل، وإنما المراد من الغلبة في كلا الصيغتين: أن يمنعه إحداهما عن الأخرى فلا يجوز في حكمه أو لا يعدل، وأرى في قوله: (من طلب قضاء المسلمين) تنبيهاً على أن الذي لم يطلبه ولم يلتبس به اختياراً ورغبة أهون عقوبة من الذي اختاره. ومن باب رزق الولاة وهداياهم (من الصحاح) [2720] حديث عائشة- رضي الله عنها- لما استخلف أبو بكر- رضي الله عنه- قال: (لقد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مؤنة أهلي) وأراد بالحرفة هنا الصناعة وهي: ما كان يتعنى به من الكسب. يقال: هو يحرف لعياله أي: يكسب من هاهنا وهاهنا. أي: قد علمت قريش أن الذي كنت أتعامل فيه وأتعانى به من الكسب كان يقوم مؤنة أهلي. يريد: أني شغلت اليوم بأمر المسلمين، فلا سبيل لي إلى التفرغ لما كنت بصدده (فسيأكل آل أبي بكر) يعني: أهله وعياله. وآل الرجل: من يئول إليه في دين أو مذهب أو نسب، وقد يطلق على الشخص نفسه. [وقد مر بيانه فيما تقدم. وفي نسق الكلام نوع من (الإشارة) على أنه أراد بآل أبي بكر نفسه] وهو قوله: (ويحترف للمسلمين) أي: يكتسب بالتصرف في أموال المسلمين للمسلمين بدل ما يتناول من ذلك [قلت:] ويعرب كلامه هذا عما أسره من إخلاص العمل لله، والأخذ بحقائق الأمور، والتنزه عما عسى أن يحدث شائبة شبهة، أو يورث خلجة في الصدور؛ ذلك أنه رأى أن يجعل سعيه في استزادة مال الله وتنميته، عوض ما يأكل منه. ولم ير أن يأكل بالخلافة وبما يقوم به من أمر الدين، وإن كان في فسحة من ذلك، ولم يرض بذلك أيضاً ولم يقدم عليه [97/ب] إلا بعد أن ألجئ إليه، فإنه لما بويع رؤى عصر يومه ذلك وعلى منكبه أثواب مطوية يعرضها للبيع، فاستعظم ذلك المسلمون وطفقوا يقولون: أصبح خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبيع ويشتري في السوق، فتألبوا عليه وكلموه كلاماً شديداً، ثم قالوا: خذ من مال الله أو من أموالنا أكثر ما كنت تنال من كسبك؟ فقال: أعهد عهده إليكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالوا: لا، قال: أفتأمروني أن أحدث بدعة؟ فلما ألحوا عليه ورأى أنهم مصيبون في قصدهم عما يرون من تعظيم أمر الخلافة والاهتمام بها كل الاهتمام؛ قال قوله هذا، ثم

فرض لنفسه مدين من الطعام وإداماً زيتاً أو نحوه ورداء في الصيف شحريين أو يمانيين أو هجرتيين، وفروة أو جبة في الشتاء، وظهر بعير لحاجته في السفر والحضر، وكان هذا الذي يتناول من مال الله حتى مضى لسبيله- رضي الله عنه- (ومن الحسان) [2722] حديث عمر- رضي الله عنه- في حديثه (فعملني) أي أعطاني عمالتي وأجرة عملي وكذا أعلمني. وقد يكون عملني بمعنى ولاني وأمرني. [2723] ومنه قول معاذ- رضي الله عنه- في حديثه (فلما سرت أرسل في أثري) أثر الشيء: حصول ما يدل على وجوده، ومن هذا يقال للطريق المستدل به على ما تقدم: آثار. ويقال أثره بالتحريك، وإثر بكسر الهمزة وتخفيف الياء، وبالصيغتين وردت الرواية. [2726] ومنه حديث عبد الله بن عمر- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الراشي والمرتشي) الراشي هو المعطي والمرتي هو الآخذ. ومن الزيادة في بعض طرق هذا الحديث (والرائش) وهو الذي يمشي بينهما. والرشوة- بكسر الراء وضمها- الوصلة إلى الحاجة بالمصانعة، أخذ من الرشاء

وهو: الحبل يستقى به الماء، فجعلت الرشوة في التوصل إلى ما ينبغي مكان الرشاء في التوصل إلى الاستيفاء، وقيل: هي من رشى الفرخ: إذا مد عنقه إلى أمه لتزقه. والرشوة قلما تستعمل إلا فيما يتوصل به إلى إبطال حق أو تمشية باطل، فأما ما يعطيه الرجل ليتوصل به إلى حق أو يدفع به ظلماً، فلا يستوجب عليه اللعن، وقد رخص فيه جمع العلماء. وروى أن ابن مسعود- رضي الله عنه- أخذ في شيء بأرض الحبشة- فأعطى دينارين حتى خلى سبيله [98/أ]. [2727] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عمرو بن العاص- رضي الله عنه- (وأزعب لك زعبة) يقال: زعبت له زعبة من المال، بالزاي المنقوطة والعين المهملة- أي: دفعت له قطعة منه، والزعبة- بفتح الزاي وضمها الدفعة من المال.

كتاب الأقضية والشهادات

ومن كتاب الأقضية والشهادات [2729] حديث بن مسعود- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (من حلف على يمين صبر ... الحديث) يريد يمينا يصبر فيها أي: يحبس فيصير ملزماً باليمين، ولا يوجد ذلك إلا بعد التداغي. والأصل في الصبر الحبس. وقد ذكرنا فيما مر قوله: (على يمين صبر) أقام اليمين مقام المحلوف عليه، أو أراد حلف على تلك الصيغة. [2730] ومنه حديث أبي أمامة بن ثعلبة الأنصاري الحارثي- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من اقتطع حق امرئ [مسلم] بيمينه .. الحديث) اقتطع أي: ذهب بطائفة من ماله ففصلها عنه. يقال: اقتطعت من الشيء قطعة. وأما وجه قوله: (أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة) قد ذكرنا فيما تقدم أن ما ورد من الوعيد على هذا المنوال فإنه لا يحكم به في حق المؤمن، إلا أن يحمل على تحريهما في وقت مؤقت دون التأبيد. وإنما يخرجه الشارع هذا المخرج تعظيماً للأمر وتهويلاً منه، ومبالغة في الزجر وذلك؛ لأن المرتكب هذه الجريمة قد بلغ في الاعتداء الغاية القصوى حيث انتهك حرمة بعد حرمة. إحداهما: اقتطاع مال لم يكن له ذلك. والثانية: الاستخفاف بحرمة وجب عليه رعايتها وهي حرمة الإسلام وحق الإخوة. والثالثة: الإقدام على اليمين الفاجرة. وإذا عدلنا فيه عن هذا التأويل، فلا سبيل إلا أن يحمل على المستحل لذلك ديناً وملة. [2731] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أم سلمة- رضي الله عنها-: (ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته) أي: أفطن بها. من اللحن- بفتح الحاء- وهو الفطنة. وإنما ابتدأ في الحديث بقوله: (إنما أنا بشر) تنبيهاً على أن السهو والنسيان غير مستبعد من الإنسان، وأن الوضع البشرى يقتضي أن لا يدرك من

الأمور إلا ظواهرها فإنه خلق خلقاً لا يسلم من قضايا تحجبه عن حقائق الأشياء. ومن الجائز أن يسمع الشيء يسبق إلى وهمه أنه صدق ويكون الأمر بخلاف ذلك، وأنى إن تركت على ما جبلت عليه من القضايا البشرية ولم أؤيد بالوحي السماوي طرأ ما منها [98/ب] ما يطرأ على سائر البشر. فإن قيل: أو لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - مصوناً في أقواله وأفعاله معصوماً على سائر أحواله؟ قلنا: غن العصمة تتحقق فيما يعد عليه ديناً ويقصده قصداً. وما نحن فيه فليس بداخل في جملته، فإن الله تعالى لم يكلفه فيما لم ينزل عليه إلا ما كلف غيره، وهو الاجتهاد في الإصابة، يدل عليه ما روى عنه في الحديث الذي ترويه أم سلمة من غير هذا الوجه، وهو في حسان هذا الباب: (إنما أقضي بينكم برأيي فيما لم ينزل على). فإن قيل: أفيجوز أن يظن به في الحكم غير الحق وفي الاجتهاد سوى الإصابة قلنا: عوذاً بالله مما قدرت أو ما علمت أن كتمان الحق من الشهود واستمرار أحد المتداعيين على الباطل وعجز أحدهما عن تقرير الحق في نصابه لا يعود على الحاكم بخطأ أو جور، فإن ذلك لم ينشأ من قبله، ولم يكن من كسبه. وجملة القول في هذا الباب أن نقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - اما كان أسوة للعالمين، أخذ به في أحكام الشريعة مسلكاً يتيسر للتابعين سلوكه، ويتضح للمتقدمين نهجه. ولو كشف له الغطاء، وأزيل له الخفاء في الأحكام الجارية بين العباد عن الحق الأبلج والصدق الصراح بالوحي السماوي، لم يدرك المؤتى به شأوه، ولم يعرف الناقل عنه مأخذه ومغزاه، ثم كان ذلك أيضاً سبباً لكشف الأسرار، وذريعة إلى هتك الأستار، وألجئ الخلق فيه إلى الحق من غير اختبار في أخبار الديانات، واختيار موجب للمتوبات والعقوبات، وبغيرهما جرت سنة الله في العباد والبلاد. وقد كان المنافقون يأتون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقول الزور، فيكتفي عنهم بالظاهر منه، إما لأن الله تعالى، زوي عنه علم ذلك، وإما لأن الله تعالى ائتمنه عليه فخصه به، وقد كان القاذف يحد، وربما كان صادقاً في حديثه فلا يبين له، وكذلك المتلاعنان، كل ذلك بعلم الله وأمره وقضائه وقدره في عباده {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة} هذا، ومن تدبر هذا الفصل وتصور هذا القول، سهل له سبيل السلامة عما يكاد يحيك في النفوس، أو يختلج في الصدور من أحاديث هذا الباب، والله الملهم للصواب. [2732] ومنه حديث عائشة- رضي الله عنها-[99/أ] عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (قضى بيمين وشاهد) وجه هذا الحديث عند من لا يرى باليمين والشاهد الواحد على المدعى عليه أنه محتمل؛ لأن يكون قضى بيمين المدعي عليه بعد أن أقام [المدعي] شاهداً واحداً، وعجز أن يتم البينة، وذلك لأن الصحابي لم يبين في حديثه صيغة القضاء. وقد روي عن ابن عباس بطرق مرضية ان النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين مع

الشاهد، وهذه الرواية تقوي ذلك الاحتمال، ولا يترك مع وجود ذلك الاحتمال ما ورد به التنزيل قال الله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان} وقال {وأشهدوا ذوي عدل منكم} فلما ورد التوقيف بذلك لم يروا أن يحكموا بأقل من ذلك إلا بدليل مقطوع به. واستدلوا أيضاً بحديث وائل بن حجر الذي يتلو حديث ابن عباس هذا، وذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ألك بينة) قال: لا قال: (فلك يمينه) فلما أعاد عليه القول قال: (ليس لك منه إلا ذلك) وقد ذكروا في اختلاف الروايات وما روى بخلافه عن بعض التابعين أن القضاء بيمين المدعي وشاهد لم يكن إلا بعد الخلفاء الراشدين ما لم نر التعرض له؛ حذراً عن الإطالة. [2734] ومنه حديث وائل بن حجر الحضرمي- رضي الله عنه- (جاء رجل من حضر موت ورجل من كندة .. الحديث) الحضرمي هو ربيعة بن عيدان بفتح العين وياء منقوطة بثنين من تحت. ومن الرواة من يكسر العين، والكندي هو امرؤ القيس بن عابس، وهما اللذان عناهما الأشعث بن قيس في حديثه، وهو في الحسان من هذا الباب. [2736] ومنه حديث زيد بن خالد- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ألا أخبركم بخير الشهداء .. الحديث) أراد به الشاهد الذي يكون ذاكراً لشهادته، متربصاً للأداء، متحرجاً عن الكتمان، فإذا علم بالمشهود له حاجة إلى أدائها سبق إعلامه إياها بما عنده سؤاله عنها. وعند كثير من العلماء إقامة الشهادة [99/ب] قبل السؤال غير قادح في العدالة، ولا مفض إلى التهمة، ويرون قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ويشهدون ولا يستشهدون) محمولاً على أنه فيمن لم يستشهد في بدء الأمر فشهد بالزور ليتوافق الحديثان. قلت: ولو حمل قوله: (ويشهدون ولا يستشهدون) على من يأتي بها قبل المطالبة [اعتناء] بالمشهود له، وعناداً مع المشهود عليه، وحرصاً على أذيته، لم يلزم منه اختلاف. [2737] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن مسعود- رضي الله عنه-: (ثم يجئ قوم تسبق شهادة أحدهم

يمينه)، أشار بذلك إلى أنه يكون ظنيناً في شهادته، مغموضاً عليه في أمور الديانات، لا يعبأ بشهادته لاشتهاره بالزور، فتارة يحلف على شهادته قبل أن يأتي بها، وتارة يشهد فيحلف عليها تزجية للشهادة باليمين. (ومن الحسان) [2741] حديث جابر- رضي الله عنه- في حديثه: (أنها دابته نتجها)، أي: ولدها، ومصدرها النتج، وقد بين معنى النتج، والنتاج مستوعباً في باب القدر.

[2745] ومنه حديث الأشعث بن قيس الكندي- رضي الله عنه-: (كان بيني وبين رجل من اليهود .. الحديث) الرجل اسمه معدان أبو الخير، ويقال: جفشيش، والأثبت والأكثر أن معدان هو جفشيش وجفشيش. لقب ومعدان هو اسم. وقيل: هو جرير بن معدان. ويقال: جفشيش بالجيم والحاء وبالخاء والأكثر الجيم. وقد اختلفت أقاويل الحفاظ في المتحاكم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الأشعث، فذكر أبو نعيم في كتابه أنه جفشيش، وذكره أيضاً الحافظ المقدسي أبو الفضل، على ما ذكره أبو نعيم فإن كان الأمر على ذلك فلا نراه إلا وقد أسلم يعد أن كان يهودياً؛ لأنه مذكور في كتب المعارف في جملة من يذكر من الصحابة، ذكره ابن عبد البر وغيره، وعلى ما ذكره ابن عبد البر فإنه غير المتحاكم مع الأشعث، فقد روي عن الشعبي عن الأشعث قال: (كان بين رجل منا وبين رجل من الحضرميين، يقال له: الجفشيش خصومة في أرض) فإن كان هذا أثبت الروايتين، فهما غير اللذين ذكرا في حديث وائل بن حجر [والله أعلم]. [2748] ومنه حديث جابر- رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يحلف أحد عند منبري هذا- الحديث) وجه ذكر المنبر فيه، عند من يرى ذلك تغليظاً في اليمين ظاهر، وأما عند من لا يرى التغليظ يتأتى في شيء من الأزمنة والأمكنة، فالوجه فيه أن يقال: غنما جرى ذكر المنبر؛ لأنهم كانوا يتحاكمون ويتحالفون يومئذ في المسجد، فاتخذوا الجانب الأيمن منه، وهناك المنبر محلا للأقضية. وقد وجدت القاضي بالمدينة- عظم الله حرمها وعلى ساكنها الصلاة والسلام- يحكم عند المنبر، فذكر في الحديث على ما كان. وأرى

هذا تأويلاً حسناً، لا نرى العدول عنه، لئلا نفتقر ان نعدل بالحلف بالله شيئاً. واليمين الآثمة موجبة لسخط الله ونكاله على أية صيغة كانت. [2750] ومنه حديث عائشة- رضي الله عنه- ترفعه يعني: إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة .. الحديث). ذهب بعض أهل العلم إلى أن لا اختصاص للخيانة في هذا الحديث بأمانات الناس دون ما ائتمن الله عليه عبادة من أحكام الدين قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم}. وهذا القول وإن كان حسناً من طريق الاستنباط، مستقيماً من حيث التقرير المعنوي، فإن حمله في هذا الحديث على أمانات الناس أوجه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي يتلوه من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (ولا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا زان ولا زانية) ولو كان الأمر على ما قدره لاستغنى بذكر الخيانة عن ذكر الزنا، فعلمنا أنه أراد بالخائن: الخائن الذي يخون في أمانات الناس، وعلى هذا وجدنا استعمال هذا اللفظ في الأكثر والأغلب من اللغة العربية، والخيانة- إن كانت من جملة الخفيات التي لا يطلع على حقيقتها إلا عالم الأسرار- فإنها تعرف بالدلالات والأمارات، وأراد بالخائن: الذي لا يكاد يخفي أمره على ذوي المعرفة به، لاشتهاره بالخيانة، وظهور ذلك عنه كرة بعد أخرى. وفيه: (ولا مجلود حدا) الأقرب أن يكون المجلود هذا الذي جلد في القذف، على ما ورد به التنزيل وإن ذهب ذاهب إلى أن المراد منه الفاسق الذي عرف بالفسق وتبين منه ذلك، بما أقيم عليه من الحد، ولم ير منه فيئة، ولم يعلم له توبة، فله محمل، والوجه هو الأول. وفيه: (ولا ظنين في ولاء ولا قرابة) قيل: إن الظنين في الولاء هو الذي ينتمي إلى غير مواليه، وعلى هذا، فالظنين في القرابة هو الذي ينتسب إلى غير أبيه، أو إلى غير دويه، والظنين بالظاء- هو المتهم، ولعل العلة في رد شهادتهما التباسهما بما يقبح في الأحدوثة، وانتهاجهما، في ذلك منهجاً لا يرضى به ذو دين ولا مروءة، وذلك إذا كانا مؤثرين للانتماء قصداً منهما، وكل ذلك من نواقض العدالة.

وفيه: (ولا القانع مع أهل البيت) هو كالتابع والخادم. وأصله السائل، وذلك لوجود التهمة في جر المنفعة إليهم، وكل ما وجد أحاديث هذا الباب غير معمول به عند بعض العلماء، فلا يخلو عن وهن في الحديث، أو ترجيح فيما يخالفه من طريق الرواية، أو احتمال تأويل يستقيم معه الجمع بين المختلف فيه من الروايات. [2752] ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تجوز شهادة بدوي على صاحب القرية) ذهب إلى ظاهره بعض العلماء، والوجه فيه- على قول من يرى خلاف ذلك- أن يقال: يحتمل أن يكون معنى قوله: (لا تجوز) أي لا يحسن ذلك، ولا يرتضى؛ لحصول التهمة ببعد ما بين الرجلين، ثم لتعذر الوقوع بالبدوي عند الحاجة إلى إقامة الشهادة. [2753] ومنه حديث عوف بن مالك- رضي الله عنه-: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بين رجلين، فقال المقضي عليه لما أدبر: حسبي الله ونعم الوكيل .. الحديث) العجز: أصله التأخر عن الشيء وحصوله عند عجز الأمر، وصار في التعارف اسماً للقصور عن فعل الشيء، وأريد به هاهنا التأخر عن الأمر بترك التدبير، والتقاعس عن مظان الطلب، والكيس ضد الأحمق. وأريد به هاهنا: التيقظ في الأمر وإثباته من حيث يرجى حصوله، وقد تبين لنا من نسق الكلام أن الرجل كان متكاسلاً لم يعط خصمه في الجواب حقه، ثم عرض بقوله: حسبي الله ونعم الوكيل أن صاحبه تعدى عليه فيما ادعاه، فبين له نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سلك في ذلك في سبيل العجز، فصار ملوماً من قبل الله، حيث ترك ما أقام له من الأسباب ويسر عليه من المقال، وإنما كان عليه أن يبذل مجهوده في بيان الحق، وكف المتغلب عن العدوان، ثم إن غلبه الأمر وعز عليه المطلب، فلم يجد إلى الدفع سبيلاً حسن فيه أن يقول: حسبي الله ونعم الوكيل.

كتاب الجهاد

ومن كتاب الجهاد (من الصحاح) [2757] قوله - صلى الله عليه وسلم - في ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-: (انتدب الله لمن يخرج في سبيله) يقال: ندبه لأمر فانتدب له، أي: دعاه له فأجاب، ولما كان المجاهد في سبيل الله متعرضاً بعمله بسؤال المغفرة والنصر على أعداء الله استجيب بأن يرجعه من وجهه ذلك بما نال من أجر وغنيمة، أو يدخله الجنة، يعني بالشهادة، ويروي: (أو غنيمة) وهو لفظ الكتاب، ويروى بالواو، وهو أوجه الروايتين وأسدهما معنى، وفي بعض طرقه: (يضمن الله) وفي بعضها: (تكفل الله) وكلاهما أشبه بنسق الكلام من قوله: (انتدب الله) وكل ذلك صحاح.

[2760] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث سلمان- رضي الله عنه: (وأمن الفتان) الفتان يروى بفتح الفاء على لفظ الواحد، قيل: أريد به الشيطان يفتن الناس بخداعه وغروره وتزيينه لهم المعاصي. قلت: والأقرب أن يكون المراد منه الذي يفتن المقبور بالسؤال فيعذبه، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (فيقبض له أعمى أصم) وقال: (ولقد أوحى إلى أنكم تفتنون في قبوركم) ويروى بضم التاء، على الجمع، وفي حديث قيلة: (المسلم أخو المسلم، يتعاونان على الفتان) أي: يعاون بعضهم بعضاً على الذين يفتنون الناس عن الحق، الواحد: فاتن، ويؤيد ما ذهبنا إليه في تأويل هذا ما ورد في بعض طرقه عن سلمان: (ومن مات فيه وقى فتنة القبر)، وما في حديث المقدام بن معدي كرب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (ويجار من عذاب القبر) يعني: الشهيد. [2763] ومنه: حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من خير معاش الناس رجل ممسك بعنان فرسه .. الحديث) يقال: عاش الرجل معاشاً ومعيشاً وكل واحد منهما يصلح أن يكون مصدراً، وأن يكون اسماً مثل معاب ومعيب وممال ومميل. وفي هذا الحديث (معاشاً) يصح أن يكون مصدراً، ويصح أن يكون اسماً وفي بعض طرق هذا الحديث: (ألا أنبئكم بخير الناس، رجل ممسك بعنان فرسه) ووجه التوفيق بين الصيغتين أن نقول: معنى قوله: (بخير الناس) أي: من خيرهم معاشاً، وذلك مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: (خيركم ألينكم مناكب في الصلاة) وما يجري مجراه، وقد يكون فيهم من هو خير منه، على غير هذا النعت، وبيان هذا النوع من الكلام قد تقدم فيما سبق من الكتاب. وفيه: (يطير على متنه) الطيران على متن الفرس عبارة عن المصارعة إلى سداد ما يكاد يتثلم، وصدع ما يكرب يتشعب. وفيه: (كلما سمع هيعة) الهيعة: كل ما أفزعك من صوت أو فاحشة تشاع والأصل فيها سيلان الشيء المصبوب على وجه الأرض مثل الميعة، والهائعة: الصوت الشديد. ومعنى الفزعة هاهنا الاستغاثة، يقال: فزع إذا زعر، وفزع إذا استغاث. وفيه: (يبتغي القتل والموت مظانة) الكلمات الثلاث المتواليات منصوبة: (القتل والموت) على المفعولية و (مظانة) على الظرفية، اي: يطلبه حيث يظن أنه يكون: ومظانة جمع مظنة، هي: مكان الشيء ومألفه.

يقال: موضع كذا مظنة من فلان، أي: معلم منه، من قولهم: ظن، أي: علم. قال النابغة: رضي الله عنه: فإن مظنة الجهل الشباب ويقال: هو مظنة (لكذا) أي: حرى أن يكون موضعه. والمظنة أيضاً: الوقت الذي يظن كون الشيء فيه. قالت قتيلة بنت النضر بن الحارث- رضي الله عنها: يا راكبا إن الأثيل مظنة ... من صبح خامسة وأنت مونق قلت: وأكثر ظني أني وجدت في بعض كتب أصحاب الحديث: (يبتغي القتل أو الموت) فإن ثبت ذلك، فالوجه في توحيد الضمير ظاهر، غير أن الصحيح منه على ما هو في كتاب المصابيح، كذلك أخرجه مسلم في كتابه، والوجه فيه أن يقال: اكتفى بإعادة الضمير إلى الأقرب كما في قوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله}. وقد سبق القول فيه. والمعنى: انه يخوض الغمرات التي يكون القتل والموت منه بمرصد، ويباشر الأخطار التي يتوقع فيها ذلك. وفيه: (في رأس شعفة من هذا الشعف) الشعفة- بالتحريك- رأس الجبل، والجمع شعف وشعوف وشعاف، وشعفات. وقوله: (من هذه الشعف) إشارة إلى الجنس الذي كانوا يعرفونها، لا إلى شعف بعينها. وفيه: (حتى يأتيه اليقين) أي: الموت: والأصل فيه: العلم وزوال الشك، سمى به الموت لتحققه عند كل أحد، وزوال الشك فيه. [2764] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث زيد بن خالد الجهني- رضي الله عنه-: (ومن خلف غازياً في أهله) يقال: خلفه في أهله وفي قومه: إذا قام مقامه في محافظتهم، وإصلاح أودهم، وذلك بأن يتولى مصالح الغازي في أهله وماله، وينوب منابه فيما يهتم به في غيبته. [2765]] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث بريدة الأسلمي- رضي الله عنه- (فما ظنكم) أي: فما ظنكم بمن أحله الله بهذه المنزلة، وخصه بهذه الفضيلة وبما يكون وراء ذلك من الكرامة.

[2769] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-: [102/أ]: (وجرحه يثعب) ثعبت الماء: فجرته؛ فانثعب. أضاف الفعل إلى الجرح؛ لأنه السبب في فجر الدم وتبجسه و (دماً) يكون مفعولاً، ولو أراد به التمييز لكان من حقه أن يقول: ينثعب دماً، أو يثعب على بناء المجهول، ولم أجده رواية و (دماً) لم يذكر إلا في بعض الروايات، والأكثر (يثعب) من غير ذكر الدم، وكذلك هو في نسخ المصابيح إلا ما ألحق فيها بحاشية الكتاب. [2771] ومنه حديث عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه-: (وسئل عن هذه الآية: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله} الآية، فقال: قد سألنا عن ذلك فقال .. الحديث).

قلت: المسئول والقائل هو رسول الله، ولم يذكره لمعرفة السامع، ثم للاتكال على كون النبي - صلى الله عليه وسلم - مختصاً بالإخبار عن الغيب، بحيث لا يعترض لمسلم فيه شك، لاسيما وقد أسند الفعل إلى شخص بعينه، وليس هذا النوع مما يطلق القول في الأخبار عنه أو يتكل الصحابي في على غير النبي - صلى الله عليه وسلم -. قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أرواحهم في أجواف طير خضر) أراد بذلك- والله أعلم -أن الروح الإنسانية المخصوصة المميزة بالإدراكات بعد مفارقتها البدن، المعنية بجواب المنكر والنكير يهيأ لها طير أخضر فتنتقل إلى جوفه، ليعلق ذلك الطير من ثمر الجنة، فتجد الروح بواسطته لذة النعمة وروح البهجة والسرور، وإلى هذا يشير قوله- سبحانه-: {يرزقون، فرحين بما آتاهم الله من فضله}. ولعل الروح تحصل لها تلك الهيئة إذا تشكلت وتمثلت بأمر الله سبحانه طيراً أخضر، كتمثل الملك بشراً، وعلى أية حال كانت، فالتسليم واجب علينا، لورود البيان الواضح على ما أخبر عنه الكتاب وروداً صحيحاً من قبل من لا سبيل إلى خلافه - صلى الله عليه وسلم -. [2773] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي قتادة- رضي الله عنه-: (يكفر كل شيء إلا الدين) أراد بالدين هاهنا: ما يتعلق بذمته من حقوق المسلمين، إذ ليس الدائن أحق بالوعيد والمطالبة عنه من الجاني والغاصب والخائن والسارق. [2774] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-: (يضحك الله إلى رجلين) قلت: الضحك في تعارف أهل اللغة انبساط الوجه وتكشر الأسنان من سرور النفس، ويستعار للسخرية، يقال: ضحكت به ومنه، وربما استعمل مكان التعجب، وقولهم: ضحكت إليه أي: انبسطت إليه وتوجهت تلقاءه بوجه طلق، وأسنان مكشورة: من البشر والفرح. وقد علمنا من أصول الدين: أن الذهاب [102/ب] إلى حقيقة وجه من ذلك الوجوه فيما يوصف به الله سبحانه غير جائز. وإنما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سبيل المجاز؛ تحقيقاً للمعنى الذي أراده، وهو ان الله سبحانه وتلقاهما بالقبول والرضى، وتداركهما بحسن النظر إلى ما توخياه من عملهما. [2776] ومنه قول أنس- رضي الله عنه- في حديثه: (فأصابه سهم غرب) الراء تسكن وتحرك، والأقوى عند أهل الغريب التحريك، (وسهم غرب): هو الذي لا يعرف راميته، ونقل عن بعض أهل اللغة أنه قال: تسكن الراء إذا أتاه من حيث لا يدري، وتفتح إذا رماه فأصاب غيره.

ونظر غرب: ليس بقاصد. والغرب بالفتح: ضرب من الشجر لا يثمر، سمى به لتباعده من الثمرات، وهو بالفارسية: اسنيذدار، وقد يتخذ من الهام، فيقال: سهم غرب، فيضاف ولا يضاف، والذي ذكرناه في الحديث ليس من هذا في شيء. [2777] ومنه قول أنس- رضي الله عنه- في حديثه: (حتى سبقوا المشركين إلى بدر) بدر موضع يذكر ويؤنث وهو اسم ماء. قال الشعبي: بدر: بئر كان لرجل يدعى بدراً، ومنه يوم بدر، وفيه (قال عمير بن الحمام: بخ بخ) عمير بن الحمام بضم الحاء، وهو حمام بن الجموح الأنصاري، أحد بني سلمة، قيل: إنه أول من قتل من الأنصار في الإسلام، قتله خالد بن الأعلم، ومما ارتجز به عمير يومئذ قوله: ركضاً إلى الله بغير زاد ... إلا التقى وعمل المعاد والصبر في الله على الجهاد ... فكل زاد عرضة النفاذ غير التقى والبر والرشاد وقوله: (بخ): كلمة تقال عند المدح والرضى بالشيء، وكررت للمبالغة، فإذا أفردت وقفت عليها، وإن كررتها وصلت الأولى بالأخرى ونونتها، فأما أصحاب الحديث فإنهم يروونها بسكون الخاء في الوصل والوقف. ومن أهل اللغة من يشدد الخاء فيها، وقد جمع الشاعر بين التخفيف والتشديد فيها فقال: روافده أكرم الرافدات ... بخ لك بخ لبحر خضم وفيه: (لا والله يا رسول الله) سبق إلى فهم الرجل من قوله - صلى الله عليه وسلم -: ما يحملك على قولك: بخ بخ)، أنه توهم أن قوله ذلك صدر عنه من غير نية وروية شبيهاً بقول من سلك مسلك الهزل والمزاح، فنفى ذلك عن نفسه بقوله: (لا والله)، أي: ليس الأمر على ما توهمت، وقوله: (إلا رجاء) أي: ما قلت ذلك إلا رجاء (فاخترج تمرات) الأشبه بالصواب (فأخرج) لأنا لو استعملنا في القياس فقلنا: خرج واخترج كقولهم: كسب واكتسب لم يستقم، لأن خرج لازم، واخترج استعمل [103/أ] هاهنا استعمال المتعدي، ثم إن لم نجد هذا اللفظ مستعملاً في كلامهم أصلاً: اللهم إلا أن يكون ورد بمعنى اللازم.

[2778] ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما تعدون الشهيد فيكم؟ ..) الحديث (ما) استفهامية، ويسأل بكلمة (ما) عن جنس هذا الشيء ونوعه، وعن صفات جنس الشيء ونوعه، وقد يسأل بها عن الأشخاص الناطقين، ولما كانت حقيقة الاستفهام هاهنا السؤال عن الحال التي ينال بها المؤمن رتبة الشهادة، استفهم عنها بكلمة (ما) ليكون أدل على وصفها وعلى المعنى المراد منها، ثم إنها مع ذلك تسد مسد (من)، ولهذا اجابوا عنها بقولهم: (من قتل في سبيل الله). والشهيد في التعارف الشرعي من قتل في سبيل الله، وأما تسميته بذلك من حيث الاشتقاق اللفظي فقد قيل: لأنه يشهد حينئذ الملائكة المبشرين بالفوز والكرامة، ويحتمل أنه سمي بذلك؛ لأنه يشاهد حينئذ ما اعد له من النعيم، أو لأنه يحضر عند ربه، قال الله تعالى: {والشهداء عند ربهم} وقد قيل: سمي شهيداً؛ لأنه تبين مما بذله من نفسه في سبيل ربه استقامته على الإيمان، وإخلاصه في الطاعة، والأصل الشهادة التبيين، وله 1 ايقال للشهادة الشهود: بينة. وقد قيل: لأنه يكون تلو الرسل في الشهادة على الأمم، فيشهد بمثل ما يشهدون به، وكفى بذلك شرفاً ومنزلة. ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ومن مات في سبيل الله .. إلى آخر الحديث) أنهم يشاركون الشهداء في نوع من أنواع الثوبات، التي يستحقها الشهداء، ولم يرد به- والله أعلم- المساواة في سائر أنواع الفضيلة، وإنما اخترنا ذلك للفرق الذي عرفناه من أصل الدين بين القبيلين. [2779] ومنه حديث عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ما من غازية أو سرية .. الحديث) أراد بالغازية: الجيش التي تخرج في الجهاد في سبيل الله، والغزو: الخروج إلى محاربة العدو، وهو في تعارف أهل الإسلام الخروج إلى محاربة أعداء الله. والسرية: القطعة من الجيش، وليس (أو) من

قول الراوي، وإنما هو من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أتى بها للتقسيم وغثبات الحكم المذكور في الكثير منهم والقليل. وإنما قال: (إلا تعجلوا ثلثي أجورهم)؛ لأن الناس في الغزو على أحوال ثلاثة: إما أن يغنموا ويسلموا أو يسلموا ولم يغنموا، أو يخفقوا ويصابوا بقتل أو جراحة، فإذا غنموا وسلموا فاتهم أجر الإخفاق والإصابة، وسلم لهم ثلث الأجر بمحاربتهم [103/ب] أعداء الله. والأجر الكامل إنما يستوفيه من أخفق وأصيب، يقال: أخفق الرجل: إذا غزا ولم يغنم، وأخفق أيضاً: إذا رجع ولم يصطد. [2783] ومنه حديثه الآخر: _جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستأذنه في الجهاد .. الحديث) قد علمنا من استئذان الرجل أنه كان متطوعاً في الجهاد فرأي له النبي - صلى الله عليه وسلم - خدمة أبويه أهم الأمرين وأفضلهما، لاسيما إذا كان بهما حادة إليه. ويحتمل أنه نبئ أن الرجل ليس ممن يغني في الحرب غناء، فلم ير له مفارقتهما لأمر لا ضرورة به فيه. وقد أشرنا فيما مضى إلى التفاوت الذي يقع في باب الفضيلة على حسب تفاوت الأشخاص. [2784] ومنه حديث ابن عباس- رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم الفتح: (لا هجرة بعد الفتح) فإن قيل: كيف التوفيق بين هذا بين هذا الحديث وبين الحديث الذي يرويه معاوية- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة .. الحديث)؟ قلنا: قد تكلموا في سند هذا الحديث، ولكن لم يبلغ به ذلك إلى الرد، وقد ورد في غير ذلك من الأحاديث ما يؤيد معناه، والوجه أن نقول: الهجرتان مختلفتان في الحد والحقيقة، وذلك أن الهجرة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قد فرضت على من بمكة من المسلمين، وعلى من كان بين ظهراني قوم كفار لئلا يكثر بهم سواد أهل الشرك المحاربة لله ولرسوله، ثم لينصروا دين الله، وليعزروا رسوله، وليتمكنوا من إقامة ما فرض عليهم من الفرائض، فلما فتح الله مكة، وانكسرت شوكة الكفر، وقلت أنصاره، وطهر الله الحرم الشريف عن رجس الجبت والطاغوت، بحيث لم يبق للكفر به معلم- سقط فرض الهجرة عنهم، وعادت الفضائل المجعولة للمهاجرين مختصة بمن هاجر قبل الفتح، هذا ولم يرتفع بذلك فذل الهجرة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لنيل شرف الصحبة والتفقه في الدين، والمسارعة إلى مرضاة الله ومرضاة رسوله؛ ألا ترى أنه قال لعكرمة بن

أبي جهل- رضي الله عنه- لما قدم عليه، وكان قد فر منه يوم الفتح إلى اليمن: (مرحباً بالراكب المهاجر)؟! وأما الهجرة التي لا تنقطع حتى تنقطع التوبة، فإنها الهجرة لله من الأرض التي يهجر عنها المعروف، ويشيع بها المنكر، ولا يستقيم بها لذي دين دينه، أو الهجرة من الأرض التي أصاب فيها الذنب، وارتكب الأمر الفظيع، وذلك مندوب إليه، وربما بلغ حد الواجب إذا استضر بتركه في دينه، والآن قد ظهرت الفتن في الإسلام فأنها أشد تأكيداً، وإليها يلتفت قوله - صلى الله عليه وسلم -[104/أ] في حديث عبد الله بن عمرو: (ستكون هجرة بعد هجرة .. الحديث) (ومن الحسان) [2785] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عمران بن حصين: (ظاهرين على من ناوأهم) أي: غاليين على من عاداهم، والمناواة: المعاداة، والأصل فيه الهمز؛ لأنه من النون وهو النهوض، وربما ترك همزه، وإنما استعمل ذلك في المعاداة؛ لأن كل واحد من المتعاديين ينهض إلى قتال صاحبه. [2786] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي أمامة- رضي الله عنه-: (أو يخلف غازياً في أهله بخير) أي ينوب مناب الغازي في أهله، وقد مر تفسيره. وفيه: (أصابه الله بقارعة) القارعة: الشديدة من شدائد الدهر.

[2791] ومنه حديث معاذ بن جبل- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من قاتل في سبيل الله فواق ناقة .. الحديث). الفواق بالفتح والضم: ما بين الحلبتين من الوقت؛ لأنها تحلب ثم تترك سويعة يرضعها الفصيل لتدر، ثم تحلب، يقال: ما أقام عنده إلا فواقاً، ومنه الحديث: (وفدر فواق ناقة). وفيه: (ومن خرج به خراج) الخراج بالضم: ما يخرج في البدن من القروح. وفيه: (فإن عليه طابع الشهداء) الطابع بالفتح: الخاتم، والطابع بالكسر لغة فيه. [2794] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- (ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبداً) الشح: بخل مع حرص، والإنسان مجبول عليه، قال الله تعالى: {وأحضرت الأنفس الشح} والنبي - صلى الله عليه وسلم - استعاذ من الشح المطاع، ولم يستعذ من الشح لعلمه بأن ذلك أمر جبلي فطر عليه الإنسان، وكل ما كان من هذا القبيل لم يخل من المصلحة. والإنسان إنما جبل عليه ليكون شحيحاً بدينه، وليتمكن به عن الإمساك حيث أمر بالإمساك، والمحمود منه ما كان في سلطان القلب، والمذموم منه المطاع، وذلك إذا غلب سلطانه على القلب، ومركز الشح النفس، فلا يتمكن من القلب ويستقر فيه إلا بعد خلوه من الإيمان؛ باستيلاء سلطان النفس على القلب، فإن النفس ظلمانية والقلب نوراني، واستيلاء كل واحد منهما على الآخر يدل على زوال صفة المضادة، والضدان لا يجتمعان في قلب واحد، والله أعلم.

[2796] ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-: مر رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بشعب فيه عيينة من ماء عذب ... الحديث) وجدنا في سائر النسخ: (فيه غيضة) وليس ذلك بسديد، ولم تشهد به رواية، وإنما هو عيينة تصغير عين (وعذبة) (104/ب) مرفوعة على الصفة لها. ووجدت جمعاً من علماء النقل رووها مجرورة، فتكون مجرورة على الجوار؛ كقولهم: جحر ضب خرب. [2798] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- (وعفيف متعفف) أي: عفيف عما لا يحل، متعفف عن السؤال. [2799] ومنه حديث عبد الله بن الحبشي- رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل: (أي الأعمال أفضل؟ ... الحديث) سبق بيان ذلك في أول الكتاب، ووجه الجمع بينه وبين ما يخالفه في الترتيب،. وحبشي بضم الحاء على زنة جندي، سمي باسم جبل بأسفل مكة يقال له: حبشي.

[2803] ومنه حديث أبي أمامة الباهلي- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين ..) الحديث؛ الأثر بالتحريك: ما بقى من رسم الشيء، وحقيقته: حصول ما يدل على وجود الشيء، ومنه يقال للطريق المستدل به على من تقدمه: آثار؛ قال الله تعالى: {فهم على آثارهم يهرعون}. قلت: يحتمل أن يكون المراد منهما خطوة الماشي في سبيل الله، وخطوة الساعي في فريضة من فرائض الله، ويحتمل أن يكون المراد من أثر المجاهد ما يبقى عليه من أثر جراح أو خراج أو غير ذلك، فقد يقال لما بقى على البدن من ضربة السيف: أثر، بالتحريك، ولما يبقى من أثر الجرح بعد البرء: أثر، وأثر بالضم مثل عشر وعشر، وأن يكون المراد من أثر في فريضة: العلامة التي تبقى عليه مما أصابه في فريضة مثل الذي يتوضأ فتتفطر قدماه، أو يصوم فينحل بدنه وتجف شفتاه، أو يحج فيشحب لونه ويذهب بشر، وكلا الوجهين حسن، والأول أوجه، وقد وجدنا في بعض نسخ المصابيح: (أو أثر فريضة)، وليس بسديد رواية ومعنى، وإنما الرواية: (في فريضة من فرائض الله). [2804] ومنه حديث عبد الله بن عمرو- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تركب البحر إلا حاجاً أو معتمراً أو غازياً في سبيل الله ..) الحديث فيه التهويل عن ركوب البحر، عما يتضمنه من الأخطار، وأن اختيار ذلك لغرض من الأغراض الفانية سفه وجهل؛ لأن فيه تلف النفس،. وبذل النفس لا يحمد إلا فيما يقرب العبد إلى الله. وفي قوله: (فإن تحت البحر ناراً .. الحديث) إشارة إلى أن راكبه متعرض للآفات المهلكة كالنار والفتن المغرقة كالبحر، إحداهما وراء الآخرى. هذا القول المجمل فيه، وقد فصلت القول فيه في كتاب (مطلب الناسك في علم المناسك) فمن أحب القول [105/أ] المستوعب فليراجعه.

[2807] ومنه حديثه الآخر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (قفلة كغزوة)، يريد به والله أعلم- أن الغازي مأجور في قفوله كما هو مأجور في خروجه إلى دار الحرب، وذلك لأنه يستجم به نفسه، ويستعد بالحرب باتخاذ أداته، ويرجع إلى أهله وعياله لدفع الضرر عنهم بما أصابهم لغيبته، وقد أشار الخطابي في معناه إلى نحو من ذلك، وذكر فيه وجهاً آخر، وهو حمله على التعقيب، وهو أن يرجح في الوجه الذي جاء منه منصرفاً إلى العدو ليأمن بأسهم، أو يوقع بهم على غرة منهم وذكر كلاماً هذا معناه، والأول أقوم؛ لأن القفول إنما يستعمل في الرجوع عن الوجه الذي ذهب إليه لحاجة إلى حيث توجه منه، والقافلة عندهم هي الرفقة الراجعة من السفر، وقال الطحاوي: يحتمل أن يكون- يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن قوم قفلوا لخوفهم أن يكر عليهم من عدوهم من هم أكثر عدداً منهم إلى فئتهم ليزدادوا [عددا] ثم يكروا عليهم، وكان ذلك فرضهم. [2808] ومنه حديثه الآخر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (للغازي أجره، وللجاعل أجره، وأجر الغازي) الجعل بالضم: ما يجعل للإنسان من الشيء على الشيء يفعله. وكذلك الجعالة بالكسر والجعيلة مثله. قلت: لم يرد بالجاعل في هذا الحديث المستأجر، ولا بالمجعول له الأجير، ولهذا ذكره بلفظ الجعل لا بلفظ الإجازة، وعبر عن المجهول له بالغازي لا بالأجير، وإنما أراد بالجاعل الذي يتبرع بشيء يعطيه من ماله كمن يستعين به على الجهاد، ويستنفقه على نفسه وعياله، ثم ذكر أن للمجهول له أجرأ، وهو أجر الغزو وللجاعل أجرين: أجراً على ما بذل من المال، وأجراً على ما حرض وحث عليه من القتال، حيث شارك الغزاة في مغزاهم. وقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي أيوب- رضي الله عنه- بعد هذا الحديث: (ألا وذلك الأجير إلى آخر قطرة من دمه) لا يناقض ما ذكرناه؛ لأنه أراد بقوله هذا من حضر القتال رغبة فيما عقد عليه من المال، لا رغبة في الجهاد، ولهذا سماه أجيراً، وسمي الذي في حديث الجعالة غازياً، وكذلك الوجه في حديث يعلي بن أمية- رضي الله عنه- الذي يتلو حديث أبي أيوب، فإنه ذكر أن قد استأجره للخدمة. وأما قول من ذهب من العلماء إلى أن الأجير يسهم له إذا حضر الوقعة، فإنه محمول على أن حديث يعلي بن أمية إما لم يثبت عندهم، أو رأوه مخصوصاً في الحكم بذلك الأجير؛ لأنه قال قوله ذلك في أجير بعينه، ولم يعم به الأجراء، فلعله اطلع فيه على أمر اقتضى ذلك، وأما حديث أبي أيوب فلا دليل فيه أن الأجير لا يهم له، وإنما فيه أنه لا ينال ثواب الغزاة [105/ب] لأنه عمل عملاً مدخولاً فيه [والله أعلم].

=====

باب إعداد آلة الجهاد

ومن باب إعداد آلة الجهاد (من الصحاح) [2822] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-: (من احتبس فرساً في سبيل الله) حبسه واحتبسه بمعنى. واحتبس أيضاً بنفسه يتعدى ولا يتعدى، والمعنى أنه يحبسه على نفسه لسد ما عسى أن يحدث في ثغر من الثغور من ثلمة. ومثله حديثه الآخر: (من خير معاش الناس رجل ممسك بعنان فرسه .. الحديث) وقد مر تفسيره. [2824] ومنه حديث عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (سابق بين الخيل التي أضمرت من الحفيا ..) الحديث. الضمر والضمر مثل العسر والعسر: الهزال وخفة اللحم. وأراد بالإضمار التضمير، وهو أن يعلف الفرس حتى يسمن ثم يرده إلى القوت، وذلك إلى أربعين يوماً. وقد كانوا

عليه السرج ويجللونه بالجل حتى يعرق تحته فيذهب رهله ويشتد لحمه، وهذه المدة تسمى المضمار، والموضع الذي يضمر فيه الخيل أيضاً مضمار، والرواية على ما ذكرنا، والمشهور من كلام العرب التضمير، فلعله من بعض الرواة، أقام الإضمار موقع التضمير، [؛ إذ] كانوا يستعملون ذلك (والحفيا) بفتح الحاء وسكون الفاء وتمد ونقصر، ومن الناس من يضم الحاء وهو خطأ. وفيه: (وأمدها ثنية الوداع) أضيفت الثنية إلى الوداع؛ لأنها موضع التوديع، وهو اسم قديم جاهلي. [2825] ومنه حديث أنس- رضي الله عنه-: (كانت ناقة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسمى العضباء .. الحديث) قد ذكرنا فيما تقدم، وذلك في قصة حجة الوداع أنها لم تكن عضباء، وإنما لقبت بذلك، كما لقبت بالقصواء والجدعاء، وغير ذلك، وقررنا القول فيها على نصابه وفي ذلك كفاية [والله أعلم] (ومن الحسان) [2826] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عقبة بن عامر- رضي الله عنه- (ومنبله): الضمير في منبله راجع إلى الرامي به، وهو الذي يناوله النبل، يقال: استنبلني فأنبلته أي: ناولته النبل، وفي حديث سعد- رضي الله عنه- (أنه كان يرمي بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد ذهب الناس، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ينبله، كاما نفدت نبله أعطاه نبلاً)، وفي معناه (نبلته) بالتشديد، وفي الحديث (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: كنت أنبل على عمومتي يوم الفجار)، أي: أجمع لهم النبل.

[2828] ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا سبق [106/أ] إلا في نصل أو خف أو حافر) السبق بالتحريك: ما يجعل من المال للسابق على سبقه، والسبق بسكون الباء مصدر سبقت. أي: لا يجوز مسابقة بالعوض، ولا يحل أخذ المال بالسبق إلا في هذه الأشياء، والذي لا يرى السبق في الخف من العلماء فلعل الحديث لم يبلغه، أو لم يصح عنده. [2830] ومنه حديث عمران بن حصين- رضي الله عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا جلب ولا جنب) قد ذكرنا معنى قوله: (لا جلب ولا جنب) في كتاب الزكاة من حديث عبد الله بن عمرو، وذكرنا وجه من يجعله في الرهان، وقول القائل: يعني في الرهان، هو من كلام بعض رواة الحديث، وليس من قول الصحابي، وقد أورد أبو داود هذا الحديث في كتابه ولم يدرج فيه هذه الزيادة، وأغلب ظني أنه من تفسير المؤلف. [2831] ومنه حديث أبي قتادة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (خير الخيل الأدهم الأقرح الأرثم) الأدهم: الذي اشتد سواده، والأقرح: الذي في وجهه القرحة، وهي ما دون الغدة، والأرثم: الذي جحفلته العليا بياض. وفيه: (ثم الأقرح المجحل طلق اليمين) التحجيل: بياض في قوائم الفرس أو في ثلاث منها، أو في رجليه قل أو كثر، بعد أن تجاوز الأرساغ، ولا يجاوز الركبتين والعرقوبين (وطلق) بضم الطاء واللام: إذا لم يكن في إحدى قوائمه تحجيل. وفيه: (فإن لم يكن فكميت على هذه الشية) الكميت: من الخيل، يستوي فيه المذكر والمؤنث. والمصدر الكمتة، وهي حمرة يدخلها قترة. قال الخليل: إنما صغر؛ لأنه بين السواد والحمرة، لم يخلص له واحد منهما، فأرادوا بالتصغير أنه قريب منهما. (على هذه الشية): أي على هذا اللون. والشية: كل لون يخالف معظم لون الفرس وغيره. والهاء عوض من الواو الذاهبة من أوله، وهمزها خطأ.

[2832] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي وهب الجشمي: (أو أشقر أغر محجل) الفرق بين الكميت والأشقر بالعرف والذنب، فإن كانا أحمرين فهو أشقر، وإن كانا أسودين فهو كميت. [2835] ومنه حديثه الآخر: (وقلدوها ولا تقلدوها الأوتار) نهاهم أن يقلدوا الفرس الوتر؛ لأنهم كانوا يزعمون أن ذلك يرد عين العائن، وقيل غير ذلك، وقد مر بيانه في باب الاستنجاء. [2836] ومنه حديث [106/ب] ابن عباس- رضي الله عنهما-: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبداً مأموراً .. الحديث) عبداً مأموراً: أي مطواعاً فيما يؤمر به من قول أو فعل؛ فلم يكن ليتعدى عما أمر به، وإنما افتتح هذا الفصل بهذا القول تنبيها على أنه لم يكن ليخصهم لقرابتهم عنه بشيء دون الناس، وإنما خصهم بالخلال الثلاث بأمر سماوي، ولولا ذلك لم يكن ليأمرهم بها دون الناس. وفيه: (أمرنا أن نسبغ الوضوء .. الحديث) إسباغ الوضوء: إتمامه، وذلك يوجد من وجهين: إتمامه على ما فرض الله، وإكماله على ما سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحث عليه أمته، وهذا هو الذي أراده ابن عباس؛ لأن الأمر بالمفروض منه لم يكن مختصاً بهم دون الناس، والظاهر أنه أمرهم بذلك أمر ندب واستحباب، لا أمر وجوب، ونهاهم عن إنزاء الحمير على الخيل نهى تنزيه، لا نهى تحريم، فإن قيل: أو ليس الأمر أن قد قرن بما هو الواجب عليهم وهو الامتناع عن أكل الصدقة؟!. قلنا: قد وجدنا لهذه الصيغة في السنة نظائر، فمن ذلك الجمع بين النهى عن كسب الحجام والنهي عن مهر البغي، والأول نهى تنزيه والثاني نهى التحريم، وقع الاعتماد فيهما على ما يشهد له الأصول، ومن

تدبر هذا القول- أعنى قول ابن عباس: أمرنا بإسباغ الوضوء- عرف من طريق الفهم أنه من أعلام النبوة، وذلك أن الآخرين ممن ينتمي إلى بيت النبوة نسباً، أو يدعي موالاة أهل البيت عصبية- قد أحدثوا فى الإسلام بدعة شنعاء وهى القول بمسح الأرجل دون الغسل، اختلاقا وافتراء على الأولين من أهل بيت النبوة، صدقا وعدلا، ومعاذ الإله أن يظن بأولئك السادة مثل ذلك، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أمرهم بالإسباغ نفيا لهذه البدعة عنهم، وإنما نهاهم عن إنزاء الحمير على الخيل؛ لما فى ذلك من استبدال {الذى هو أدنى بالذى هو خير}، وذللك أن البلغة ليس لها نتاج، ثم لا سهم لها فى الغنيمة، ولهذا المعنى قال - صلى الله عليه وسلم - فى حديث على- رضى الله عنه - الذى يتلو هذا الحديث: (إنما يفعل ذللك الذين لا يعملون) أى: الذين لا يعلمون أحكام الشريعة، ولا يهتدون إلى ما هو الأولى بهم والأنفع لهم سبيلا. ومعنى النهي راجع إلى ما يتضمنه الإنزاء من استبدال الأدنى بالأفضل لا إلى نفس الإنزاء. [2839] ومنه حيث مزيدة العبدي- رضى الله عنه - (دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح مكة وعلى سيفه ذهب وفضة) هذا الحديث لا تقوم به حجة إذ ليس له سند يعتد به [107/أ] وقد ذكر أبو عمر النمري فى كتاب (الاستيعاب) فى ترجمة مزيدة العبدي من عبد القيس حديثه هذا، ثم قال: إسناده ليس بالقوى. [2841] ومنه حديث ابن عباس- رضى الله عنهما - (كانت راية نبى الله - صلى الله عليه وسلم - سوداء، ولواؤه بيضاء) الراية: العلم الكبير، وكذلك البند، واللواء دون ذلك، فالراية هى التى يتولاها صاحب الحرب، ويقاتل عليها، وإليها تميل المقاتلة، واللواء علامة كبكبة الأمير تدور معه حيث دارت.

باب آداب السفر

ومن باب آداب السفر (من الصحاح) [2843] قول كعب بن مالك - رضى الله عنه - (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج إلى سفر خرج الخميس وكان يحب ان يخرج يوم الخميس). قلت: اختياره يوم الخميس للخروج محتمل لوجوه: أحدها: أنه يوم مبارك، ترفع فيه أعمال العباد إلى الله، وقد كانت سفراته لله، وفى الله، وإلى الله، فأحب أن يرفع فيه عمل صالح، فأنشأ سفرته فى الخميس. والثانى: أنه أتم أيام الأسبوع عدداً. والثالث: أنه كان يتفاءل بالخميس فى خروجه، وكان من سنته أن يتفاءل بالاسم الحسن. والخميس: الجيش؛ لأنهم خمس فرق: المقدمة، والقلب، والميمنة، والميسرة، والساقة، فيرى فى ذلك من الفأل الحسن، حفظ الله له؛ وإحاطة جنوده به حفظاً وحماية. [2845] ومنه حديث أبى بشير الأنصارى - رضى الله عنه - (أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى بعض أسفاره فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسولا: لا يبقين فى رقية بعير قلادة. .الحديث) قد سبق القول فى نظائره وقد قيل: إنه أمر بقطع ذلك؛ لأنهم كانوا يعلقون بها الأجراس من رقبة البعير، وهى مزامير الشيطان، ثم إنها تحول بين الرفقة وبين الملائكة الذين يصاحبونهم للتأييد والدعاء لهم، والتبرك بهم، والتبريك عليهم. [2846] ومنه حديث أبى هريرة- رضى الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا سافرتم فى الخصب فأعطوا الإبل حقها من الارض ... الحديث) أى: حظها من نبات الأرض، وفى رواية أخرى: (فأعطوا السن حظها) أى: ذوات السن. وحظها الرعى، وسن الرجل إبله: إذا أحسن رعيتها والقيام عليها، كأنه صقلها،

وفي رواية: (إذا سافرتم في السنة فبادروا بها نقيها) وفي رواية أخرى: (فانجوا عليها بنقيها). ومن الناس من يصحف فيه فيقول: (بنقبها) بالباء المنقوطة بواحدة ويرى أن الضمير الراجع إلى الأرض، ويفسر النقب بالطريق أي: بادروا بها في نقب الأرض، وليس ذلك بشيء، وهو من التصحيفات التي ربما زل فيها العالم، فضلاً عن الجاهل، وإنما هو التقى [107/ب] بالياء، وهو المخ ثم، يقال للشحم أيضاً النقي. أي: أسرعوا عليها السير ما دامت قوية، قبل الهزال والضعف. [2848] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-: (فإذا فقضى أحدكم تهمته) أي: حاجته التي توجه لها إلى سفره، والنهمة: بلوغ الهمة في الشيء، وقد نهم بكذا فهو منهوم أي: مولع به. [2853] ومنه حديث جابر- رضي الله عنه-أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا دخلت ليلاً فلا تدخل حتى تستحد الغيبة) الاستحداد: حلق شعر العانة، وأغابت المرأة: إذا غاب عنها زوجها، فهي مغيبة- بالهاء ومشهد، بلا هاء. وأراد بالاستحداد: أن تعالج شعر عانتها بما هو معتاد من أمر النساء، ولم يرد به استعمال الحديد، فإن ذلك غير مستحسن في أمرهن.

(ومن الحسان) [2858] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس-رضي الله عنه-: (عليكم بالدلجة) أي: سيروا أول الليل، من الإدلاج بالتخفيف، والاسم منه الدلجة بالضم، وقد ذكرناه فيما تقدم. ومنهم من جعل الإدلاج بالتخفيف لليل كله، وكأنه المعنى به في الأحاديث؛ لأنه عقبه بقوله: (فإن الأرض تطوي بالليل ما لا تطوي بالنهار) ولم يفرق بين أوله وآخره. [2859] ومنه حديث عبد الله بن عمرو- رضى الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب) سمي الواحد شيطاناً، والاثنين شيطانين، لأن كل واحد من القبيلتين يسلك سبيل الشيطان في اختيار الوحدة، والرغبة عن صلاة الجماعة، والتعرض للفتن التي قلما يتخلص عنها، أو يعذر دونها، والتأهب بالاحتياط لما عسى أن يحدث به من حادث فيفارق الدنيا من غير وصية ولا يحضره من يوصي إليه، ويشهد عليه، ويقوم بتجهيزه والصلاة عليه، والدفن، وما يضاهيه.

[2868] ومنه حديث أبى هريرة- رضى الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (تكون إبل للشياطين وبيوت للشياطين) أما إبل الشياطين فقد فسرها الصحابي. وقوله: (لا يعلو بعيراً منها) أي: لا يركبه؛ لاستغنائه عنه بكثرة ما أوتى، وبيوت الشياطين قد فسرها التابعي. وأراد بالأقفاص التي [تستر] بالديباج: المحامل التي كان المترفون يتخذونها في سبيل مكة.

باب الكتاب إلى الكفار

[2870] ومنه حديث جابر- رضى الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن أحسن ما دخل الرجل على أهله إذا قدم من سفر أول الليل) فإن قيل: كيف التوفيق بين هذا الحديث وبين حديثه الآخر: (إذا أطال أحدكم الغيبة فلا يطرق أهله ليلاً). وقد قال كعب بن مالك رضي الله عنه: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يقدم من سفر إلا نهاراً في الضحى)؟!. قلنا: وجه حديث [108/أ] جابر هذا عندنا أن يحمل على الدخول على أهله ليخلو بها، ويقضي عنها حاجة النفس؛ لأن القدوم عليها ليلاً، وطروقها، فغن ذلك قد نهي عنه في عدة أحاديث، وإذا حملنا الأمر فيه على ما ذكرنا اتفق الحديثان، وانتفى التنقاض. وإنما تعلق الظرف بالدخول على أهله لا بالقدوم، وقوله: (إن أحسن ما دخل الرجل أهله)، الحديث إرشاد له إلى الوقت الذي لا يزاحمه فيه الزوار فلا يقطعونه عما هو فيه. وإنما اختار له أول الليل؛ لأن المسافر يقدم في غالب أحواله عن غلبة شهوة، فإذا قضي نهمته من أول الليل، كان ذلك أجلب النوم، وأدعي إلى الاستراحة. ومن باب الكتاب إلى الكفار (من الصحاح) [2871] حديث ابن عباس- رضي الله عنهما- (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام ... الحديث) قيصر لقب ملك الروم وبه كان يلقب كل من ملك أمرهم، كما كان يلقب كل من ملك أمر الفرس كسري، وكل من ملك أمر الحبشة النجاشي. وفيه: (إلى عظيم بصري) أي الذي كان يعظمه أهل بصرى، وبصرى موضع بالشام ينسب إليها السيوف. وفيه: (أدعوك بداعية الإسلام) مصدر كالعافية والعاقبة، وكذلك الدعاية كالرماية، والدعاء والدعوى والدعاية كلها مصادر، والدعاء إلى الشيء: الحث على قصده، والمعنى: أدعوك بالدعوى التي أحثك بها على الدخول في الإسلام.

وفيه (يؤتك الله أجرك مرتين) وقد سبق في الذي يؤتى أجره مرتين في أول الكتاب. وهذا يدل على أن هرقل كان قبل الإسلام على النصرانية التي لم تبدل، ولم تغير. وفيه (فإن توليت فإن عليك إثم الأريسين) قد اختلف الروايات في هذا اللفظ، واختلفت أقاويل أصحاب الغريب في تفسيره، ونحن نأتي على سائرها، إن شاء الله، فنقول: منهم من رواه: الأريسيين على الجمع من أريسي، وهم الأكثرون من أصحاب الحديث، وقد قال أبو عبيدة معمر بن المثني: إنهم لم يصيبوا فيه، وإنما هو: الأريسيين بالتخفيف جمع أريس، وهم الأتباع والخول، يريد: إنك إذا أبيت [الحق] أبته أولئك تأسياً بك، فيكون وزرهم عليك. قلت: ومصداق ذلك من الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من سن سنة سيئة فله وزره ووزر من عمل بها). وقد قام أبو جعفر الطحاوي بنصرة أصحاب الحديث في تشديد الياء. فقال: إنما قيل لهم: الأريسيون؛ لأنهم تسبوا إلى رئيس لهم يقال له: أريس. وقال بعض أهل المعرفة (108/ب) بهذا الشأن: إن في رهط هرقل فرقة تعرف بالأروسية، توحد الله وتعترف بعبودية المسيح، وبما هو الحق فيه. ومنهم من رواه بتخفيف الراء تارة مع فتح الهمزة، وبتشديد الراء أخرى مع كسر الهمزة، على أنها جمع أريس، أو أريس، وكلاهما الأكار، وذلك راجع إلى معنى الأتباع. وذكر بعضهم أنه كان في الزمن الأول رجل يسمى عبد الله بن أريس، فبعث الله نبياً فقتله ذلك الرجل وأشياعه، فذكر له ذلك الرجل وجعله في الإثم مثل من اتبع ذلك الرجل، وقيل: الأريس على فعيل، من الأضداد، يقال ذلك للأجير، ويقال أيضاً للملك أي عليك إثم الملوك إذا تعاونوا على الإثم والعدوان. وروى في كتاب البخاري وفي كتاب مسلم في إحدى الطرق بالياء بدل الهمزة وتشديد الياء الأخرى على النسبة، فإن أصاب فيه الراوي فهو من باب إبدال الهمزة المكسورة ياء. قلت: وأقرب هذه الروايات إلى القبول الأريسين بكسر الهمزة وتشديد الراء؛ لما في كتاب معاوية إلى قيصر ملك الروم ولأجعلنك أريسا، من الأرارسة، ترعى الخنازير، ولم يكن ليخاطبهم إلا بما يعرفون، ثم إنه يحقق أن المراد منه: الأتباع والأجراء [والله أعلم] [2872] ومنه كلام أدرجه سعيد بن المسيب في حديث ابن عباس- رضي الله عنه- على طريقة الإرسال: (فدعا عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يمزقوا كل ممزق)، أي: يفرقوا كل نوع من التفريق، وأن يبددوا

من كل وجه، والممزق مصدر كالتمزيق، والذي مزق كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو أبدويذ بن أنو شروان، قتله ابنه شيرويه، ثم لم يلبث بعد قتله إلا ستة أشهر. يقال: ان أبدويذ لما أيقن بالهلاك وكان مأخوذاً عليه فتح خزانة الأدوية وكتب على حقه السم: الدواء النافع للجماع، وكان ابنه مولعاً بذلك، فاحتال في هلاكه، فلما قتل أباه فتح الخزانة فرأى الحقة فتناول منها فمات من ذلك السم، وتزعم الفرس أنه مات أسفاً على قتله إياه، ولم يقم لهم بعد الدعاء عليهم بالتمزيق أمر نافذ، بل أدبر عنهم الإقبال، ومالت عنهم الدولة، وأقبلت عليهم النحوسة، حتى انقرضوا عن آخرهم. [2875] ومنه حديث أنس- رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (كان إذا غزا بنا قوماً لم يكن يغز بنا) هكذا هو في الكتاب، وأرى الواو قد سقط عن قلم الكاتب، وصوابه (لم يكن يغزو بنا)، إذ لا وجه

لإسقاط حرف العلة هاهنا. [109/أ] ولو جعلناه من الإغزاء فقلنا: يغزينا على زنة يلهينا لم يستقم؛ لأن قول القائل: أغزيت فلاناً أي جهزته للغزو، ولا معنى له هاهنا. وفيه: (فإن سمع أذانا أغار عليهم) قلت: لا يلزم من قوله هذا جواز الإغارة إذا لم يسمع أذانا، بل يحمل الأمر فيه على التثبت والاحتياط في مغزاه لاحتمال شيئين: أحدهما أن أكثر القوم كانوا أصحاب خباء يتحولون عن منزل إلى منزل فيختلف مراتع أنعامهم ومضارب خيامهم، فربما اعلم بمكان الحي ولم يأمن أن يكونوا قد تحولوا إلى غير ذلك من الأماكن أو أنذروا به فلجأوا إلى بعض المعاقل وقد حل مكانهم آخرون ممن دخل في دين اللهوإنما يتأتى ذلك من سكان البوادي دون أصحاب الحصون. والآخر: احتمال أن يكون قد بدا لهم في الإسلام فأسلموا فكان يحب أن يستقصى في استبانة أمرهم كل الاستقصاء، وإلا فإنه لم يكن ليغير على قوم لم يتحقق منهم الكفر، أو يغير على من لم يسمع منهم الأذان. وفيه: (بمكاتلهم ومساحيهم) المكتل: شبه الزنبيل يسع خمسة عشر صاعاً، والمسحاة كالمجرفة إلا أنه من حديد، أخذ من سحوت الشيء: إذا قشرته، وذلك لما يحي في البطن عن وجه الأرض. وفيه (محمد والله والجيش) أي: هذا محمد والله، ومعه الجيش، أو أتانا محمد. (ومن الحسان) [2877] حديث النعمان بن مقرن- رضي الله عنه- في حديثه: (وينزل النصر) معنى ذلك ما قاله قتادة بن دعامة الراوي عن النعمان في الحديث الذي يتلو هذا الحديث: كان يقال: عند ذلك تهيج رياح النصر. قلت: ومصداق ذلك من الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم - (نصرت بالصبا).

باب القتال في الجهاد

ومن باب القتال في الجهاد (من الصحاح) [2881] قول كعب بن مالك- رضي الله عنه- في حديثه: (لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد غزوة إلا ورى بغيرها) أي سترها ووهم بغيرها، تقول: وريت الخبر تورية إذا سترته وأظهرت غيره، كأنه مأخوذ من وراء الإنسان كأنه يجعله وراءه حيث لا يظهر. وفيه: (واستقبل سفراً بعيداً ومفازاً) أراد بالمفاز واحدة المفاوز، فحذف منه التاء إرادة للجنس كما يقال في تمرة وتمر، ويحتمل أنه راعي فيه حسن الأدب، فإن المفازة إنما يراد منها المهلكة، من قولهم: فوز أي: هلك، وقد قيل: سميت بذلك تفاؤلاً بالسلامة منها، والمفاز [109/ب] المصدر كالفوز، فسماها بالمصدر ليكون أبلغ في المعنى. [2882] ومنه حديث جابر- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (الحرب خدعة) يروي ذلك من وجوه ثلاثة بفتح الخاء وسكون الدال، أي أنها خدعة واحدة من تسيرت له حق له الظفر، وبضم الخاء وسكون الدال أي معظم ذلك المكر والخديعة، وبضم الخال وفتح الدال أي أنها خداعة للإنسان بما تخيل إليه أو تمنيه ثم إنه إذا لابسها وجد الأمر بخلاف ما خيل إليه.

[2887] ومنه حديث الصعب بن جثامة- رضي الله عنه- (سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أهل الدار يبيتون ..) أراد بالدار يبيتون من الحلة باعتبار أنها تجمعهم وتدور حولهم وليس معنى قوله: (هم منهم) استباحة قتل الولدان، وإنما فيه نفى الحرج عمن أصابهم بسهم أو سيف أو رمح لكون الليل حاجزاً بينه وبين التمييز؛ لاختلاط الذرية بالمقاتلة. والسؤال وقع عن حصول الإثم ولزوم الدية فأفتى لهم أن حكم الأبناء في هذه الصورة حكم آبائهم؛ لأن الولدان في حكم الكفر تبع للأبوين. [2888] ومنه حديث البراء- رضي الله عنه- (بعث رسول الله رهطاً من الأنصار إلى أبي رافع .. الحديث) الرهط ما دون العشرة لا واحد له من لفظه، وأبو رافع هذا هو ابن أبي الحقيق اليهودي احد بني النضير، وقد كان يؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويحرش عليه، وكان قد عاهده فخفر العهد، وأبدي سريرته الخبيثة، فبعث إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رهطاً من الأنصار من الخزرج ليكتفوا به، فدخل عبد الله بن عتيك وكان هو المؤمر عليهم الحصن وحده، لم يشعر به أحد، ولم يزل يفتح باباً فإذا دخل أغلق على نفسه، حتى خلص إلى البيت الذي فيه الخبيث فقال: من هذا؟ فنحا نحو الصوت فضربه فلم يقض عنه وطراً، فاستغاث فخرج عنه ثم رجع إليه يريه أن الصريخ قد جاءه، فقال: مالك يا أبا رافع؟ فقال: أصابني رجل بالسيف، فأهوى السيف نحوه فضربه بالسيف حتى برد، فصاحت امرأته فقال: اسكتي وإلا أصبتك بمثله، فسكتت فخرج وطفق يفتح ما أغلق على نفسه فوقع من الدرجة [110/أ] فأصيب في ساقه، فأتى أصحابه وقال: قتلت الخبيث، غير أني لا أبرح حتى أسمع الناعية؛ لأرجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخبر الصحيح، فلما دخل وقت

السحر صاحت الناعية من أعلى الحصن: أنعي إليكم أبا رافع تاجر الحجاز، فانفتلوا راجعين إلى المدينة، فرآهم رسول الله ... - صلى الله عليه وسلم - مقبلين وهو يخطب فقال: "أفلحت الوجوه" ثم أنه - صلى الله عليه وسلم - مسح ساق ابن عتيك المكسورة، فبرأت بإذن الله، وذلك في السنة الرابعة من الهجرة. [2889] ومنه حديث ابن عمر - رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطع نخل بني النضير وحرق ... الحديث) قلت: وكان سبب ذلك أنهم نقضوا العهد وهموا بقتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أتاهم يستعين بهم في دبة رجلين من بني عامر، فأخبره الله بما هموا به فقام من مجلسه، ولم يشعروا به حتى أتى مسجد المدينة، فبعت إليهم محمد بن مسلمة أن اخرجوا من المدينة ولا تساكنوني، فإنكم هممتم بقتلي، ونقضتم عهدي. فبعت إليهم الخبيث ابن أبي: لا تخرجوا فإنا معكم وبنو قريظة معكم. فأتاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحاصرهم خمسة عشر يوماً، فقذف الله في قلوبهم الرعب فصالحوا علي حقن دمائهم، وعلي ما تحمل إبلهم، فخرجوا إلى قرى خيبر، وإلى غيرها مما لم يفتح من البلاد، وذلك في السنة الرابعة من الهجرة. والبوبيرة المذكورة في شعر حسان: موضع من بلد بني النضير. [2891] ومنه قول ابن عمر - رضي الله عنه - في حديثة (غارين في نعمهم بالمريسيع) أي: شن عليهم الغارة وهو في غفلة وغرة عنه. والغار: الغافل، والذي يغر غيرة أيضاً. والمريسيع: أسم ماء لبني المصلطق بالمعصب، وهو من ناحية قديد، ورواه بعضهم بالغين المعجمة وهو تصحيف. [2891] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي السيد الساعدي- رضي الله عنه - (إذا أكثبوكم ...) أي: إذا قاربوكم (فارموهم والكثب: القرب، ورواه بعضهم (كثبوهم) بغير ألف أي: قربوا منكم، وقال الهروي: فلعلها لغتان. والراوي هو أبو أسيد بضم الهمزة وفتح السين، ومنهم من فتح الهمزة وكسر السين، والأول أصح وأشهر

(ومن الحسان) [2893] حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه - (ابغوني في ضعفائكم) أي: أطلبوني في حفظ حقوقهم وجبر قلوبهم تجودني هنالك. [2894] ومنه حديث عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - (عبأنا النبي - صلى الله عليه وسلم -) يهمز ولا يهمز، يقال: عبأت الجيش وعبيتهم تعبئة وتعبية وتعبياً، أي: هيأتهم في مواضعهم وألبستهم السلاح. وفيه: (فليكن شعاركم حم لا ينصرون) الشعار في الأصل (111/ب) العلامة ينصبوها ليعرف الرجل بها رفقته، ثم استعير في القول الذي يعرف به الرجل أهل دينه فلا يصيبه مكروه. قال الخطابي: بلغني عن ابن كيسان النحوي أنه سأل أبا العباس أحمد بن يحيى فقال: معناه الخبر، ولو كان بمعنى الدعاء لكان: لا ينصرون مجزوماً، كأنه قال: والله لا ينصرون. قال الخطابي: وقد روي عن ابن عباس أنه قال: حاميم اسم من اسماء الله، فكأنه حلف بأنهم لا ينصرون، وقال الخطابي: إنما تثبت أسماؤه - سبحانه- بالكتاب أو بالسنة الموجبة للعلم، وحاميم غير مشهور في أسماء الله، ثم إنا لم نجد اسما من أسمائه إلا وقد أفصح عن ثناء ومحمدة، وعن معنى من معاني صفاته، وحم حرفان من حروف المعجم لا معنى تحته فيما نعلم ونفهم، ولو كان أسم لعرب لأنه عار من علل البناء، ألا ترى أنه أعرب حيث جعل اسما للسورة، قال الشاعر: يناشدني حاميم والرمح شاجر ... فهلا تلا حاميم قبل التشاجر منعت الصرف للعملية والتأنيث ولا تجمع قال ابن مسعود - رضي الله عنه-:"إذا وقعت في آل حاميم وقعت في روضات دمثات"

والوجه في الحديث أن يقال: إن سورة حاميم لها شأن وذكرها مما يستظهر به عند استنزال النصر، و (لا ينصرون) كلام مستأنف كأنه حين قال: قولوا حاميم قيل: ماذا يكون إذا؟ قال: لا ينصرون، أو قاله تيمنا وتفاؤلاً [2898] ومنه حديث سمرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم) أي صبيانهم قوله: (أي صبيانهم) ليس هو من متن الحديث ولا من كلام الصحابي، فلعل بعض الرواة في بعض طرقة أدرجه في الحديث فوجده المؤلف فيما بلغه، فذكره. فالظاهر أنه من عند المؤلف. قوله - صلى الله عليه وسلم - (واستحيوا) أي استبقوا و (شرخ) بفتح الشين وسكون الراء جمع [شارخ] وهو الشاب كصاحب وصحب، وشارب وشرب، وقال ابن الأنباري قولا آخر فقال: الشرخ أول الشباب، فهو واحد يكفي من الواحد والاثنين والجمع، كقولك: رجل صوم، ورجلان صوم، ورجال صوم، وذكر أبو عبيد القاسم بن سلام في تأويله وجهين. أحدهما: أنه أراد بالشيوخ الرجال المسان أهل النجدة والبأس ولم يرد الهرمى، وأراد بالشرخ الصغار الذين لم يدركوا، فصار تأويله: اقتلوا البالغين، واستبقوا الصبيان. والآخر: أن يكون أراد بالشيوخ الهرمي الذين إذا سبوا لم ينتفع بهم للخدمة، وأراد بالشرخ الشاب اللذين يصلحون للملك وللخدمة. قلت: وفي الشيوخ وجه آخر وهو أن نقول [أ/111]: لم ير استبقاء هؤلاء للملك والخدمة لما في نفوسهم من العبيه ولاستمرارهم على الكفر، ثم لما فيهم من النكر والدهاء، فلا يؤمن إذا عائلتهم ودخلتهم وما يتولد منهم من فساد في الدين، أو ثلمة في الإسلام وهؤلاء غير الفتاه الذين لا يعبأ بهم ولا يكترث لهم، وهذا أولى ما يأول عليه هذا الحديث؛ لئلا يخالف حديث أنس - رضي الله عنه - الذي في هذا الباب، وذلك ما روى عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (انطلقوا باسم الله، وبالله، وعلى مله رسول الله، لا تقتلوا شيخاً فانيا ... الحديث) وهذا الحديث ليس بأقل اعتبارا من حديث سمرة. وقد ذكرنا - فيما مضى - قول أهل الحديث في صحيفة سمرة، وراية الحسن عنها [2899] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - لأسامة - رضي الله عنه - (أغر على ابني) ابني بضم الهمزة موضع من بلاد جهينة، ومن الناس من يجعل بدل الهمزة لاما ولا عبرة به.

[2902] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس - رضي الله عنه - (بسم الله، وبالله) أي: سيروا متبركين باسمه معتصمين به [2904] ومنه حديث ابن عمر - رضي الله عنه - (بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سرية، فحاص الناس حيصة) قال الهروي: أي جالوا جولة قلت: وفي الحديث دلالة على أنه عبارة عن الفرار، يقال: حاص يحيص حيصة إذا مال ملتجئا. ومنه قوله سبحانه وتعالى: {ولا يجدون عنها محيصا} أي: مهرباً ومحيدا، وفي معناه: جاض الناس بالجيم والضاد المنقوطة، وقد وردت به الرواية

باب حكم الأسارى

وفيه (بل انتم العكارون) قيل: أي العطافون، ويقال للرجل الذي تولى عن الحرب ثم يكر راجعا، عكر واعتكرا. وفيه (وأنا فئتكم) الفئة: الجماعة المتظاهرة التي يرجع بعضهم إلى بعض في التعاضد، وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى قوله سبحانة وتعالى {إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة} يريد: لستم الفرارين حين رجعتم إلى التعاضد ومن باب حكم الأسارى (من الصحاح) [2905] حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل) قد مضى القول في العجيب إذا استعير في أفعال الله سبحانه، وتأويله في هذا الحديث أنه عظم شأن قوم هذا شأنهم، وأحله محل العجب. وقوله (يدخلون الجنة في السلاسل) أي يؤتي بهم في السلاسل والقيود وهم الأسارى. ومراد الله منهم أن يهديهم إلى سواء السبيل، فيدخلون الجنة، فأحل الدخول (111/ب) الإسلام محل الدخول في الجنة؛ لكونه المفضي بهم إلى الجنة. ويحتمل أنه أراد بالسلاسل ما يرادون به من الإجبار ويمتحنون به من الكره للدخول في دين الله. [2906] ومنه حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - (لما نزلت بنو قريظة على حكم سعد) الحديث. قلت: كان بنو قريظة قبل الإسلام حلفاء أوس، وبنو النضير حلفاء خزرج، فلما كانت السنة الخامسة من الهجرة أقبلت الأحابيش من قريش ومن تابعهم وغطفان وأشجع، ومن أطاعهم لحرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقامت الحرب بينهم في شوال وهي غزوة الخندق، ودونها نقضت بنو قريظة العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما انكشفت الأحزاب عن المدينة، وكفى الله المؤمنين شرهم، آتى جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - ظهر اليوم الذي تفرقت الأحزاب في ليلته فقال (وضعتم السلاح والملائكة لم تضع أسلحتها إن الله يأمرك

بالسير إلى بني قريظة) فأتاهم عصر يومه وحاصرهم خمسا وعشرين ليله فجهدهم الحصار وقذف والله في قلوبهم الرعب، فطلبوا النزول على حكم سعيد بن معاذ سيد الأوس، ظنا منهم أنه يحوط جانبهم، فلا يحكم فيهم بما يستأصل شأفتهم، فلما تواثقوا على ذلك ونزلوا، دعى سعد، وكان قد أصيب أكحله يوم الخنق فجئ به على حمار شاكيا مدمي، فلما دنا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن حضره من أوس (قوموا إلى سيدكم) يريد: قوما إليه فأعينوه لينزل برفق، فلما أتى به وجلس مجلسه من النبي - صلى الله عليه وسلم - واخبره أن القوم نزلوا على حكمه قال: فأني أحكم فيهم بأن تقتل مقاتلهم، وتسبي ذريتهم فقال: (لقد حكمت بحكم الملك) أي: أصبت حكمة فيهم، أو قضيت بقضاء ارتضاء الله ونفذه فيهم، ويروي الملك بكسر اللام وهو الأكثر والأولى لما في رواية أخري بحكم الله ويروي فتح اللام أضيف الحكم تلي الملك؛ لانه تلقاه من قلبه برسالة ربه إياه. [2909] ومن حديث أبي هريرة - رضي الله عنه-: (بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيلا قبل نجد ... الحديث) قلت: كان ذلك في السنة السادسة بعثت سرية إلى القرطاء من أرض نجد، وعليها محمد بن مسلمة فاستأسر ثمامة بن أثال الحنفي رضي الله عنه. وفيه: (إن تقتل، تقتل ذا دم)، يحتمل أنه أراد بذلك شرفه في قومه، وأنه ليس ممن يطل دمه، بل يطلب ثأره، ويحتمل أنه أراد بذلك: إن تقتل تقتل من توجه عليه القتل بما أصابه [112/أ] من دم وأراه أوجه للمشاكلة التي بينه وبين قوله (وإن تنعم تنعم على شاكر) وقد روى أبو داود هذا الحرف أعني (ذا

دم) بالذال المعجمة المكسورة من الذمام. وفي كتاب أبي عبيد الهروي مما رواه عن أبي عبيدة معمر بن المثني فقال له: على ذمة وذمام ومذمة، وهي الذم، وأنشد: كما ناشد الذم الكفيل المعاهد وعلى هذا يكون المعنى: أن تقتل، تقتل من إذا عقد ذمة وفى بها، وبالدال المهملة، هي الرواية المشهورة المتبوعة. [2910] ومنه حديث جبير بن مطعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في أسارى بدر: (لو كان المطعم بن عدى حيا ثم كلمنى في هؤلاء النتني لتركتهم له) النتني جمع نتن، كالزمن والزمنى، والهرم والهرمى، ونتن بمعنى منتن، وإنما سماهم نتنى: إما لرجسهم الحاصل من الكفر، فجعلهم بمثابة الجيف المنتنة، وإما أ، هـ أراد بذلك الذين ألقيت جيفهم في بئر بدر، وإنما قال ذلك؛ لأن المطعم بن عدي كانت له يد عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك أنه أجاره مرجعه من الطائف وذب عنه، فأحب أن لو كان حيا فكافأه عليها؛ لئلا يكون لمشرك عنده يده. ويحتمل أنه قال ذلك تأليفا لابنه على الإسلام، وعلى كلا التقديرين فإن الحديث لم يخل من التصريح بتحقير شأن أولئك النفر، ثم من التعريض بما من الله تعالى على نبيه - صلى الله عليه وسلم - من الكرامة، حيث إنه تمكن من تركهم لمشرك كانت له عنده يد، وقد رأى لنفسه من المنزلة عند الله أنه لو فعل ذلك لاتصل به الإمضاء من الله سبحانه وتعالى. [2911] ومنه قول أنس - رضي الله عنه - في حديث (فأخذهم سلما) بفتح اللام، أي: مستسلمين، يقال: رجل سلم ورجال سلم أي: أسراء

[2912] ومنه قول أبي طلحة - رضي الله عنه - في حديثة (وقذفوا في طوى من أطواء بدر خبيث مخبث) الطوى: البئر المطوبة بالحجارة أو غيرها، وإنما وصفه بالخبث لإلقاء تلك الجيف فيها، وقوله: (مخبث) أي: ذي خبث، أو أصحابه خبثاء، وفي الحديث (أعوذ بك من الخبيث والمخبث) أي: الذي أعوانه خبثاء كما يقال: قوى مقو، فالقوى في نفسه والمقوى أن تكون ذابته قوية، وفي حديث الدعاء يحتمل أن يكون المخبث الذي يعلم الناس الخبث، وقيل: الذي ينسبه الناس إلى الخبث. وفي (على شفه الركى) أي: على حافة البئر، وكان الصواب فيه الركية، لأنها في التوحيد يقال: ركية، وفي الجمع: ركى، وركايا، والصحيح أنهم ألقوا في بئر واحدة لما في الحديث (قذفوا في طوى) وفي الحديث أيضاً: (فألقوا في قليب بدر) فإن قيل: كيف التوفيق بين الطوى والقليب، والقليب، البئر التي لم تطو. قلنا يحتمل أن الراوي رواه بالمعنى، ولم يدر أن بينهما فرقاً، ويحتمل أن بعضهم ألقي في طوى وبعضهم في قليب.

[2914] ومنه حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه - (كان ثقيف حلفاء لبني عقيل) قد ذكرنا فيما مضى الحلف الذي كان أهل الجاهلية يتعاطونه، وهو العهد، والمحالفة: المعاهدة والحليف: المحالف وعقيل- مصغر- قبيلة. وفيه (بجريرة حلفائك) الجريرة الجناية لعلها سميت بذلك؛ لأنها تجر العقوبة إلى الجاني يقال: جر عليه جريرة، أي: جني عليه جناية، قد اختلف في تأويله فمنهم من قال: في الكلام إضمار معناه: إنما أخذت لتدفع بك جريرة حلفائك ثقيف، فنفدى بك الأسراء الذين أسرتهم ثقيف. يدل عليه قول الراوي: فقداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالرجلين اللذين أسرتهما ثقيف وقيل: هذا الرجل كافر لا عهد له يجوز أسرة وقتله، فإذ جاز أن يؤخذ بجريرة نفسه، وهي الكفر، جاز أن يؤخذ بجريرة من كان على مثل حاله من حليف وغيره، وقيل: هذا يدل على أنهم كانوا عاهدوا بني عقيل أن لا يتعرضوا للمسلمين ولا لأحد من حلفائهم فنقض حلفائهم العهد، فلم ينكره عليهم بنو عقيل، فأخذوا بجريرتهم. قلت وأشبه التأويلات أن نقول: كانت القبيلة مع حلفائهم في العهد، فلما تعرض حلفاؤها للمسلمين، أخذوا بها وقول الأخذ (فيهم أخذت) يدل على أنه كان شبهة عهد، ولولا ذلك لم يقل قوله هذا؛ لاستشهار الحكم بين العرب في استباحة أهل هذه الملة دماء الكفار وأموالهم، إذا لم يكن لهم عهد لاسيما في التاريخ الذي أحطنا به علما من قبل الراوي، فإن عمران بن حصين أسلم في سنة سبع من الهجرة، ولولا شبهة العهد لكان الجواب: أخذت بكفرك فلما اعتل بجريرة حلفائهم، فأكد ذلك المعنى، وفي بعض طرق هذا الحديث (ويم أخذت سابقة الحاج) أراد بها: الغضباء ومنه [113/أ] (أخذت وتملكها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت مما أفاء الله عليه)، وأما امتناع النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قبول الإسلام منه بعد أن قال: إني مسلم، فمحمول على ما خص به الرسول من من الإطلاع على الأمور المكنونة، وليس ذلك لأحد بعده، ولهذا قال لأسامة (هلا شققت عن قلبه) حين أدعى أنه قال: لا إله ألا الله تعوذا وفرقا من القتل، فعلمنا أ، الله تعالى أطلعه على كذبه، ونبأه أن الرجل تكلم بما تكلم به تقيه لا رغبة في الإسلام. (ومن الحسان) [2915] حديث عائشة - رضي الله عنها - (لما بعث أهل مكة في فداء أسرائهم بعثت زينب في

فداء أبي العاص ... الحديث) زينب هذه بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت تحت أبي العاص بن الربيع ابن عبد شمس القرشي العبشمي، فلما أسر ببدر بعثت في فدائه وهي بمكة، فرق لزينب حين رأى القلادة وتذكر غربتها [وحدتها] ووجدها به، وتذكر عهد خديجة فإن القلادة كانت لها. وفيه (وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخذ عليه أن يخلي سبيل زينب) أخذ عليه يريد به العهد، ولم يرد بتخلية سبيلها الطلاق، وإنما أراد به أن يريلها، بإذن لها في الهجرة إلى المدينة، وكان حكم المناكحة بين الكفار والمسلمات بعد باقياً (وبطن يأجج): من بطون الأودية التي حول الحرم، والبطن: المنخفض من الأرض. [2918] ومن حديث على - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أن جبريل هبط عليه ... الحديث) هذا الحديث مشكل جدا لمخالفته ما يدل على ظاهر التنزيل ولما صح من الأحاديث في أمر أسارى بدر أن أخذ الفداء كان رأيا رأوه فعوتبوا عليه، ولو كان هناك تخيير بوحي سماوي لم تتوجه المعاتبة عليهم، وقد قال الله تعالى {ما كان لنبي أن يكون له أسرى} إلى قوله: {لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم} وإنما أظهر لهم شأن المعاقبة فقتل سبعين منهم بعد غزوه أحد عند نزول قوله سبحانه {أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها} يعني: مقتل سبعين من أصحاب بدر وأسر سبعين منهم ثم قال {قل هو من عند أنفسكم} قيل في تأويله: لأخذكم الفداء، وممن نقل عنه هذا التأويل من الصحابة على - رضي الله عنه - فلعل عليا ذكر هبوط جبريل في شأن نزول هذه الآية وبيانها، فأشتبه الأمر فيه على بعض الرواة، ومما جرأنا على هذا التقرير سوى ما ذكرناه هو أن الحديث تفرد به يحيي بن أبي زكريا بن أبي زائدة عن سفيان من بين أصحابة، فلم يروه غيره، والسمع قد يخطئ، والنسيان كثيرا قد يطرأ على الإنسان، ثم إن الحديث روي عنه [113/ب] متصلاً، وروي عن غيره مرسلاً، وكل ذلك مما يمنع عن القول بظاهره.

[2919] ومنه حديث عطية القرظي - رضي الله عنه- (كنت في سبي بني قريظة ... الحديث) قلت: إنما اعتبر الإثبات في حقهم لمكان الضرورة، وإذا سئلوا عن الاحتلام أو عن مبلغ سنهم لم يكونوا ليحدثوا بالصدق؛ إذ رأوا فيه الهلاك، والسنن إنما تتبع على ما وجدت في مواضعها ولا تصرف عن جهتها. [1920] ومنه قول علي - رضي الله عنه - (خرج عبدان ... الحديث) عبدان-بكسر العين وضمها وسكون الباء فيهما-جمع عبد، وكذلك عبدان-بكسر الحرفين وتشديد الثالث. زفي الحديث روى بالتخفيف وسكون الباء، وإنما غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنهم عارضوا حكم الشرع فيهم أنهم صاروا بخروجهم من دار الحرب مستعصمين بعروة الإسلام أحراراً، فكان معاونتهم لأوليائهم تعاوناً على العدوان, والله أعلم.

باب الأمان

ومن باب الأمان (من الحسان) [2922] حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - (المسلمون تتكافأ دماؤهم ... الحديث) كان أهل الجاهلية لا يرون دم الوضيع فيم بواء لدم الشريف، فإذا قتل الوضيع الشريف تعدوا منه إلى غيره، فربما قتلوا بالواحد العدد الكثير، فلما جاء الله بالإسلام نبأهم نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أن المسلمين الذين شرع الله فيهم القصاص تتساوى دمائهم، والتكافؤ: الاستواء ومنه الحديث في العقيقة: (شاتان متكافئتان) أي: متساويتان والكفئ والكفؤ والكفو: النظير. وفيه (يسعي بذمتهم أدناهم) أي: لا يخفر ذمة الأدنى منهم منزلة، إذا أجار كافراً أو أكثر، بل يمضي جواره، وذلك مثل النساء والضعفاء، وفي العبد خلاف، إذا كان ممن لا يقاتل، فعند أبي حنيفة وأصحابه لا يمضي جواره، وعند بقية فقهاء الأمصار: يمضي جواره، وإن كان مما لا يقاتل وقد مر بيان الحديث بأكثر من هذا. [2925] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عمرو بن عبه - رضي الله عنه - فيما رواه سليم بن عامر (أو ننبذ إليهم على سواء) أي: ننبذ العهد إلى القوم بحيث يستوي ذلك في علم النابذ والمنبوذ إليه، وكان معاوية قد أجتهد فرأى أن له يقرب من بلاد العدو في أيام العهد حتى إذا قصرت المسافة بينه وبين العدو، وانقضت مدة العهد الذي بينهم وأغار عليهم على غرة منهم، وهم واثقون بأن عسكر المسلمون لا تبرح من مكانها [114/ب] حتى ينقضي العهد، فأعلمه الصحابي بأن ذلك غير جائز فلما استبان له الخطأ رجع عن مغزاه.

[2926] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي رافع - رضي الله عنه - (إني لا أخيس بالعهد ولا أحبس البرد) لا أخيس بالعهد أي: لا أنكثه، يقال خاس به، يخيس به، ويخوس: إذا غدر به، والأصل في الخيس أ، تروح الجيفة، ومنه خاس البيع والطعام: إذا فسد (والبرد) جميع بريد، وهو الرسول، قال الشاعر: رأيت للموت بريداً مبردا أي رسولاً مفذا، ومنه الحديث (أذا أبردتم إلى بريدا فاجعلوه حسن الوجه حسن الاسم) والبريد أيضا اثنا عشر ميلا، وبه سمي كل سكه من سكك البريد بريدا، والبريد أيضا: الدابة التي أقيمن [لسير] البريد عليها ولم نجد في كتب اللغة ما نطلع به على مأخذ هذه الكلمة، ولقد وجدت في كتاب لبعض المغاليق من الكتاب أن الأصل فيه: أن ملوك العجم كانوا يقيمون لورود الكتب عليهم ووصل الأخبار عليهم من أطرف ممالكهم مضيقا معجلا في كل مرحلة رجالا، ينتهي الأول إلى الثاني، والثاني إلى الثالث، وجعلوا المسافة بين المرحلتين أربعه فراسخ، ورتبوا كل مرحلة بغالا وبرازين للمسير عليها، وجعلوا قطع أذنابها علما لذلك، وكانوا يسمونها بريده دم، فأعربها العرب [فقالت] البريد، ثم اتسع ذلك في الرسول والسكة التي يسلكها. وإنما أبي أن يأذن له في الاحتباس عنهم؛ لأن الرسل كما حملوا تبليغ الرسالة حملوا تبليغ الجواب، فلزمهم القيام بكلا الأمرين، فيبصرون برفض ما لزمهم موسومين بسمة الغدر، وكان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أبعد الناس عن ذلك، ثم إن تردد الرسل المحصلة الكلية، ومهما جوز حبسهم أو التعرض لهم بمكروه صار ذلك سببا لانقطاع السبل بين الفئتين المختلفتين، وفي ذلك من الفتة والفساد ما لا يخفى على ذي اللب موقعه، وكذلك حكم الوفد لا يحل سفك دم أحد منهم حتى يعود إلى مأمنه، وإنما رفع القتل عن الرسل، والوفد لقوله سبحانه وتعالى {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه} والوافد في حكم المستجير. [2927] ومنه حديث نعيم بن مسعود الأشجعي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لرجلين جاءا من عند مسيلمة ... الحديث)

كتاب قسمة الغنائم

قلت: إنما قال لهما قوله؛ لأنهما قالا بحضرته: نشهد أن مسيلمة رسول الله، وأحد الرجلين عبد الله بن النواحه والآخر [114/ب] رجل يقال له: ابن أثال حجر، وابن النواحه دخل في عمار المسلمين بعد مقتل مسيلمة، وأرسل زمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى الكوفة في أمداد اليمن، وكان إمام قومه من بني حنيفة، فشهد عليه حارث بن مضرب وعلى أصحابه أنهم كانوا يتدارسون بعد صلاه الصبح في مسجدهم الفرية التي اختلقها الملعون، وزعم أ، ها مما أوحى إليه، وروى حارثة أتى بن مسعود فقال: ما بيني وبين أحد من العرب أحنة، وما مررت بمسجد بني حنيفة فإذا هم يؤذنون بمسيلمة، واتاه أبضا عبد الله بن معيز السعدي فقال: خرجت أسفد فرسا لي في السحر فمررت على مسجد بني حنيفة فسمعتهم يشدون أن مسيلمة رسول الله وكان على الكوفه عبد الله بن مسعود معلما ووزيرا وأبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - أميرا فأحضرت الفئة الطاغية واستبان غيتهم فاستتيبوا فتابوا فقبلت عنهم التوبة إلا ابن النواحه، فأن ابن مسعود: أن كانت سرائرهم على ما كانت عليه فسيفينهم طاعون الشام، وإلا فلا سبيل لنا عليهم، وإما ابن النواحه فأبي مسعود إلا قتله؛ لأنه كان من الزنادقة الدعاة، ثم أنه يقول سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول (لولا أنك رسول لقتلتك) ولست اليوم برسول، فأمر قرظه بن كعب فضرب عنقه في السوق. ومن كتاب قسمة الغنائم (من الصحاح) [2930] حديث أبي قتادة الأنصاري السلمي - رضي الله عنه - خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام حنين فلما التقينا كانت للمسلمين جولة ... الحديث) جال في الحرب جولة: أي: جار وقد فسرت [في] هذا الحديث بالهزيمة، وأرى الصحابي كره لهم لفظ الهزيمة، فكنى عنها بالجولة. ولما كانت الجولة مما لا استقرار عليه استعملها في الهزيمة، تنبيها على أنهم لم يكونوا ليستقروا عليها، وفي مغناه الحديث (للباطل جولة ثم يضمحل) أراد: أن أهله لا يستقرون على أمر يعرفونه ويطمئنون إليه. وفيه (علسي بن عاتقه) حبل العاتق: عصب، وحبل الوريد: حب في العنق، وحبل الذارع: في اليد، والعاتق: موضع الرداء من المنكب، يذكر ويؤنث

وفيه (فله سلبه) للسلب - بالتحريك المسلوب، وكذلك السليب وقد فسره أصحاب الغريب بما مع المقتول من آلات الحرب، وقيل: هو السلاح والمنطقة [115/أ] والثياب والدابة، وللعلماء في بابه اختلاف كثير، أضربنا على الأتيان عليها، حيث لم نر في بيان هذا الحديث ضرورة بنا إلى إيرادها. وفيه (قال أبو بكر: لاها الله أذا) الألف قبل الذل زيادة من بعض الرواة، والصواب (لاها الله ذا) أي: لا والله، لا يكون ذا، وها بدل عن واو القسم، وهم يجرون بحرف التنبيه في هذه الصيغة، ويفرقون بين حرف التنبيه وبين ذا، ويقدمونها كما قدم في قولك ها هوا ذا، وها أنا ذا، قال زهير: يعملن ها لعمر الله ذا قسما ولذلك أن تحذف الألف من ها، قال سيبويه: الأصل فيه: والله لا الأمر هذا، فحذفت واو القسم وقدمت ها فصارت عوضا من الواو, وذا خبر المبتدأ المقدم، والجملة جواب للقسم، وقد نقل بعض الحفاظ عن الأخفش أنه قال: ذا خبر نعت للفظة الله وجواب القسم لا يعمد، والأول أبلع وأشهر. وفيه (لا يعمد) يعمد فيعطيك- بالياء فيها- يريد به النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه (فابتعت به مخرفا في بني سلمه) المخرف -بفتح الميم-هو: الحائط يخرف منه الثمرة، ويكسر الميم: الوعاء الذي يخرف فيه ولا معنى له ههنا، والراء منها مفتوحة، وبني سلمه بكسر اللام. وفيه (وإنه لأول مال تأثلته في الإسلام) أي: اقتنيته وجمعته، وكل شيء له أصل قديم أو جمع حتى يصير له أصل فهو مؤثل، وأثله الشيء: أصله [2913] ومنه حديث ابن عمر - رضي الله عنه - (فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسهم للرجل ولفرسه ثلاثة أسهم ... الحديث) قلت: هذا الحديث على شرط أصحاب الحديث لا صحيح لا يرون خلافه، وقد وجدت شرذمة منهم ذكروا في كتبهم أن أبا حنيفة قال: لا أفضل بهيمة على مسلم، معرضين بهذا القول أنه ترك العمل بهذا الحديث مع صحته بما اقتضاه رأيه، وكان غير هذا القول أولى بهم عفا الله عنهم، ومتى ترك أبو حنيفة السنة الثابتة عنده بالقياس وهو الذي أخذ بحديث القهقهة مع ضعفه عندهم والقياس يقتضي خلافه، وذهب إلى حديث الصائم إذا أكل ماسيا، والقياس يقتضي خلافه، وإنما ترك العمل بهذا الحديث لما يعارضه من

حديث عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، فيما رواه عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (للفارس سهمان وللراجل سهم) والحديث الذي قدماه يرويه عبيد الله بن عمر بن حفص عن نافع. وأصحاب الحديث يرون أن عبيد الله أحفظ وأثبت من عبد الله، بل لا يرون (115/ب) الاحتجاج بحديثه، وأبو حنيفة يسلك في هذا الباب سبيل حسن الظن بالرجل المسلم فلم بر الطعن فيمن لم يثبت عنده جرحه، ورأى الأخذ به أحوط لحديث مجمع بن جاريه، والحديث مذكور في الحسان من هذا الباب، وسنذكر بيان ذلك إذا انتهينا إليه، إن شاء الله. [2933] ومنه حديث سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - في حديثة: (أغار على ظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ...) أراد به السرح يقال: عند فلان ظهر، أي: إبل جياد الظهور. ومنه قولهم: بعير ظهير، أي: بين الظهارة، إذا كان قويا، وناقة ظهيرة، والبعير الظهرى، بالكسر: المعد للحاجة أن احتج له. وفيه (فناديت ثلاثا يا صباحاه) يا صباحاه: كلمة استغاثة عند الغارة، كأنه يدعو من يغيثه ويوم الصباح يوم الغارة. قال الأعشى: غداة الصباح إذا النقع ثارا وفيه: (واليوم يوم الرضع) أي: هذا اليوم يوم قتل اللئام، ومن قولهم: لئن راضع، وأصله على ما زعموا: رجل كان يرضع إبله وغنمه فلا يحلبها؛ خشية أن يسمع صوت حلبه فيطالب منه، ثم قالوا رضع الرجل بالضم كأنه كالشيء طبع عليه، وفي حديث ثقيف (أسلموا الرضاع واتركوا المضاع) وفيه (إلا جعلت عليه آرما) الأرم: حجارة تنصب علماً في المفازة، والجمع آرام، وأروم مثل: ضلع وأضلاع وضلوع. أراد: أنه نصب على ما استقبله منهم علما يعرف به الراءون أن ذلك من جمله ما أحرزه من متاع القوم فلا يستبد غيره. والأشبه بنسق الكلام أن يكون لفظ الحديث (إلا جعلت

عليه أرماً) ولكن الرواية وجدناها على الجمع، وتسمى هذه الغزوة غزوة ذي قرد، وكانت في السنة السادسة، وذو قرد: اسم ماء في شعب. [2934] ومنه حديث ابن عمر - رضي الله عنه - (نفلنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سوى نصيبنا من الخمس فأصابني شارف) نفلنا: أي أعطانا من الخمس زيادة على سهامنا من المغنم، والشارف: المسنة من النوق [2937] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث جبير بن مطعم - رضي الله عنه - (إنما بنو المطلب، وبنو هشام شيء واحد) رواه يحيى بن معين بالسين المهملة أي: كل واحد منهما مقرن بالآخر ملاصق به، لا يقال لهما: سيان، بل سي واحد، والسي: المثل

[2941] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - (على رقبته نفس لها صياح) يريد بالنفس المملوك الذي يكون قد غله السبي. وفيه (رقاع تخفق) أراد بها: الثياب يغلها من الغنيمة، ونخفق أي: تضرب اضطراب الراية، يقال: خفقت الراية تخفق وتخفق خفقاً، وخفقانا [2942] ومنه قول أبي هريرة - رضي الله عنه - في حديثة (سهم عائر) قيل: أنه السهم الذي لا يدرى رامية. ولعله أخذ من التمره العائرة وهي الساقطة [116/أ] لا يعرف لها مالك ومنه الحديث (كان يمر بالتمرة العائرة فما يمنعه من أخذها إلا مخافة أن تكون من الصدقة) والكلب العائر: الذي يجيء ويذهب، ولا يقتنيه أحد. ومنه حديث بن عمر - رضي الله عنه - (إنما هو عائر) أي: الكلب. [2943] ومنه حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - (كان على ثقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل يقال له كركرة) الثقل - بالتحريك - متاع المسافر، والكركرة، بكسر الكافين، والأصل فيه الجماعة من الناس ورحى زور البعير

(ومن الحسان) [2947] حديث خالد بن الوليد، وعوف بن مالك الأشجعي - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى في السلب للقاتل ولم يخمس السلب. قلت: وجه هذا الحديث عند من لا يرى لا يستحق السلف إلا أن يجعل له الإمام ذلك تحريضا على القتال أن نقول: إخبار الراوي أنه لم يخمسه لا يكون حجه على أن السلب لا يخمس، لأن ذلك كان إليه، كان له أن يخمس وكان له أ، يترك التخميس سماحة بجميع السلب على أهل النجدة والبلاء، فالراوي حدث بنا علمه من ظاهر الأمر، ويكون قد قضى له عند منازعة بعض من أدعى المشاركة إياه في ذلك، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جعل السلب في تلك الغزوة للقاتل، وأرى هذا الحديث مما يعجب منه، فإن عوف بن مالك شهد مؤتة وروى عنه أن مدديا [قتل في تلك الغزوة] رجلا من الروم، وأٌقبل بفرسه بسرجه ولجامه، وسيفه، ومنطقته، وسلاحه إلى خال بن الوليد فاستكثره خالد فأخذ منه طائفة ونفله بقيته، فأنكر عليه عوف وقال: أما والله لأعرفنكها عند رسول الله، فلما تقدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبره خبر خالد، فأمره أن يدفع المددي بقيه السلب، فولى خالد ليفعل ذلك فقال: كيف ترى يا خالد، ألم أوف لك ما وعدتك؟ فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا خالد، لا تعطه) وأٌقبل على عوف وقال: (هل انتم تاركو أمرائي لكم صفوه أمرهم، وعليهم كدرة) فلو كان قضاؤه في السلب على وجه الإيجاب له جعل لع ذلك، أو لم يجعل لم يكون ليقول: يا خالد لا تعطه) في حديثه الآخر. فإن قيل: يحتمل أن يكون حديثهما هذا متأخر عم الحديث الذي ذكرته في غزوة مؤته. قلما: نعم وهو الأظهر [و] الأصح؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما قال: [116/ب] (من قتل قتيلا فله سلبه) يوم حنين، وغزوة

مؤتة كانت في جمادى الأولى سنه ثمان، وغزوة حنين في ذي القعدة منها، وإنما بأول هذا الحديث على ما أولناه لقضاء عمر - رضي الله عنه - على البراء بن مالك أخي أنس في سلب مرزبان زارة بخلاف ما يذهبون إليه هو، أن البراء بارز مرزبان الزارة فقتله وأخذ سلبه، فبلغ عمر أن سلبه بلغ ثلاثين ألفا فاستكثره فأتى أبا طلحه وكانت أم البراء وأنس تحته، وقال: إ، اكنا لا نخمس الأسلاب، وإن سلب البراء قد بلغ مالا، ولا أرانا إلا خامسيه. قال أنس: فقومناه ثلاثين ألفاً ودفعنا إلى عمر ستة آلاف. قلت وأنس هو الذي روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال يومئذ - يعني يوم حنين - (من قتل كافرا فله سلبه) فقتل أبو طلحه يومئذ عشرين رجلا وأخذ أسلابهم. وقد ذكر هذا الحديث في كتاب المصابيح قبل حديث خال وعوف، فلو لم يكن الأمر فيه موكلا إلى رأي الإمام، أن شاء الله نفل وإن شاء خمس، لم يكن عمر- رضي الله عنه - ليخالف السنة. فإن قيل: يحتمل أنه نسى أو لم يبلغه الأمر فيه: فالجواب: أن عمر حضر الوقعة، وفي الحديث أنه رد على الرجل الذي أخذ سلب القتيل الذي قتله أبو قتادة بمثل ما رد عليه أبو بكر - رضي الله عنه - ثم إن تسلم أبي طلحة وأنس لقضائه في سلب مرزبان زارة، دفعتهما ستة آلاف من قبل البراء يدل على أنه لم يكن هناك نسيان، بل كانا يعلمان أن الحق ما توخياه، ولو علما خلاف ذلك لأخبراه، ولم يجوزا كتمان الشاهدة في موضع الحاجة. [2949] ومنه قول عمير مولى آبي اللحم (من خرثي المتاع) الخرثي: أُثاث البيت وأسقاطه. [2950] ومنه حديث مجمع بن جارية: (قسمت خيبر على أهل الحديبية، قسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانية عشر سهماً ... الحديث) قد بين الراوي عدد الجيش وعدد فرسانها، وثمانية عشر سهماً إذا قسمت على كلتا العددين كان للراجل سهم وللفارس سهمان، على ما رواه عبد الله بن عمر بم حفص عن نافع، وقول المؤلف (وهذا وهم إنما كانوا مائتي فارس) ليس [117/أ] من كيسه، وإنما هو شيء وجده في كتاب المعالم، والخطابي أنما نقله عن أبي داود. وهذا النقل على الوجه ليس بمستقيم، لأن سهمان مائتي فارس على ما يذهب إليه هذا الناقل ستمائة فبقى اثنا عشر سمهما لبقية الجيش، وهم ألف وثلاثمائة، فعاد الوهم إليه، فإن قيل: إنما قال قوله على هذا أن الجيش كان ألفا وأربعمائة، إذ ثبت ذلك عنده من غير هذا الحديث

قلنا: فلم يأت إذا بالحديث على وجهه؛ إذ كان من حقه أن يبين الوهم في كلا العددين أعني: عدد الجيش وعدد الخيالة منها، وأما الجواب عن قول من يأخذ بحديث من روى أن الجيش كانت ألفا وأربعمائة، فهو أن تقول: قد اختلف في ذلك عن جمع من الصحابة: فروى عن المسور بن مخرمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج عام الحديبية في بضع عشرة مائة، وروى عن عبد الله بن أبي أوفى أنه قال: كنا يومئذ ألفا وثلاثمائة، ولا متمسك لإحدى الفئتين في هذين الحديثين، وروى عن البراء أنه قال في حديثه: (ونحن أربع عشرة مائة) وروى عن سلمة بن الأكوع مثله، وروى ذلك عن جابر. وقد اختلف عليه في الجامعتين، فروي عنه أنه قال: كنا يوم الحديبية أربع عشرة مائة، وروي عنه أنه قال: كنا خمس عشرة مائة، ثم إن قتادة قال: قلت لسعيد بن المسيب: كم كان الذين شهدوا بيعة الرضوان قال: خمس عشرة مائة قال: فقلت: إن جابر بن عبد الله قال: كانوا أربع عشرة مائة فقال: يرحمه الله وهم، هو حدثني أنهم كانوا خمس عشرة مائة. قلت: وإنما ذهب سعيد إلى صحة ما حدثه به دون ما حدث به قتادة، لأن سعيدا سمعه عنه قبل أن سمعه قتادة بزمان، وسمعه قتادة وقد كبر سنه وذهب بصره، وكان يومئذ حريا بأن يهم ويغلط، وحديث مجمع يؤيده ما رواه سعيد بن المسيب. قلت: وأرى الوجه الجامع بين تلك الروايات أن نقول: كل ما ذكرناه من اختلاف الروايات، فإنه في حديث الحديبية، وحديث بيعة الرضوان، والذي يذهب إلى أن خيبر قسمت على أربعمائة، فإنما يذهب إلى ذلك لما في الحديث أن خيبر قسمت على أهل الحديبية) [117/ب] ومن الجلي الواضح أن قد شاركهم فيها غيرهم؛ لما في حديث أبي موسى الأشعري في ذكر قدومه مع من هاجر إلى الحبشة جعفر وأصحابه: (وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر إلا لأصحاب سفينتنا) ومن المعلوم أنهم لم يدخلوا في غمار أهل الحديبية فيأول قول من روى أن خيبر قسمت على أهل الحديبية، على أن الغلبة كانت لهم، وإنما انضوى إليهم العدد القليل، ثم إن أحدا ممن شهد الحديبية لم يغب عن فتح خيبر، وإذ قد تبين لنا من حديث أبي موسى الزيادة على أربعمائة، حملنا الأمر في خمس عشرة مائة على أنه قد انضم إليهم من أعراب المسلمين وغيرهم من أصحاب السفينة من قد تم بهم ذلك العدد، وكان عددهم في بيعة الرضوان بالحديبية على ما ذكر في حديث من قال: إنهم كانوا أربعمائة، وعددهم عند القسمة على ما في حديث مجمع بن جارية؛ لاسيما وفي حديثه أنه شهد فتح خيبر، فالذي يذهب إلى حديث مجمع إنما يذهب إليه لخلوه عن الاختلاف، ثم لما يؤيده حديث ابن المسيب عن جابر، ثم لما يعضده النظر ويقويه. والذي ذكرناه من وجه الجمع بين الروايتين كالسناد لصحة ما ذهب إليه، ومجمع بن جارية من قراء الأنصار وفضلائهم، وأما أبوه جارية فأبعده الله؛ فإنه كان من أهل مسجد الضرار، وهو جارية بالجيم والياء.

[2952] ومنه حديث حبيب بن مسلمة القرشي الفهري - رضي الله عنه - (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ينفل الربع بعد الخمس ... الحديث) المراد منه: أنه كان يبعث السرية فيجعل لهم ربع ما يغنمونه بعد التخميس، زيادة على نصيبهم من المغنم، ترغيبا لهم في البدار إلى دار الحرب قبل سائر الجيش، وإذا قفل الجيش يجعل لهم الثلث بعد أن يخمس ما غنموه، وإنما زادهم في الرجعة لما تورثهم الرجعة من الملال والكلال والضعف في البدن، والرقة في الظهر، ثم لما فيها من الخطر؛ لأن في البدأة يتفق الوجهتان وجهة السرية ووجه الجيش، فيكون الجيش ردءا لهم في مسراهم، وفي الرجعة يختلفان؛ لأن السرية راجعة إلى دار الحرب والجيش مولية عنها، ووجه الحديث عند من لا يرى التنفيل [118/أ] بعد إحراز الغنيمة هو أن يقال: معنى قوله: (لا نفل) أي: لا يعطى الغازي ما جعل له الإمام قبل أن يحرز الغنيمة إلا بعد التخميس. [2953] ومنه حديث معن بن يزيد - رضي الله عنه - (لولا أني سمعت رسول [الله - صلى الله عليه وسلم -: لا] نفل إلا بعد الخمس لأعطيتك). هذا كلام مبهم، والحديث لم نصادفه بطرق مستوعبة فيطلع منها على المراد منه، والذي نهتدي إليه أحد الشيئين: إما الحمل على أن الرواي كان يرى النفل بعد التخميس، ويراه من الخمس ويرى ذلك موكولا إلى رأي الإمام، ولما كان هو أميرا على الجيش لم ير لنفسه أن يتصرف في الخمس دون الإمام. وإما الذهاب إلى أن الحديث لم يرو على وجهه، ووقع فيه السهو من جهة الاستثناء، وإنما الصواب فيه (لا نفل

بعد الخمس) أي: لا نفل بعد إحراز الغنيمة، ووجوب الخمس فيه، وهو الأشبه والأمثل، ومعن بن يزيد بن الأخنس السلمي - رضي الله عنه - هو القائل (بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا وأبي وجدي). [2962] ومنه حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تنفل سيفه ذا الفقار) أي: أخذه زيادة لنفسه، والمراد منه أنه اصطفاه لنفسه، ومنه الصفي، وهو العلق الذي يتخيره من المغنم. ولم أجد تنفل مستعملا في المعنى الذي ذكرناه، والرواية وجدناها كذلك، (وذا الفقار) سيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه كانت فيه حفر صغار حسان. والمفقر من السيوف: الذي فيه حزوز مطمئنة. وقول ابن عباس: وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد) معناه: أنه رأى في منامه أنه هز ذا الفقار فانقطع من وسطه، ثم هزه هزة أخرى فعاد أحسن ما كان. [2963] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث رويفع بن ثابت - رضي الله عنه - (حتى إذا أعجفها) أعجفها أي: هزلها.

[2966] ومنه حديث القاسم مولى عبد الرحمن عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - (وأخرجتنا مملوءة منه) قلت: الأخرجة جمع الخراج، وهو الإتاوة جمع على أخراج وأخاريج وأخرجة. وأريد بها هاهنا: جمع الخرج الذي [118/أ] هو من الأوعية، والصواب فيه الخرجة - بكسر الخاء وتحريك الراء - على مثال جحرة وأراد بالمملأة: المبالغة من ملأته.

باب الجزية

ومن باب الجزية (من الصحاح) [2972] رواية بجالة من حديث عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذها من مجوس هجر) هجر اسم بلد باليمن، وهو قاعدة البحرين بينها وبين البحرين عشر مراحل، وهو مذكر مصروف وفي المثل: (كمبضع تمرا إلى هجر) يرويه أهل اللغة منونا، والنسبة إليه هاجري على غير قياس. ومنه قيل للبناء: هاجري، وأكثر الرواة يرويه غير مصروف، وليس بصحيح. (ومن الحسان) [2973] قول معاذ - رضي الله عنه - (أو عدله معافر) عدله أي: ما يساويه وهو ما يعادل الشيء من غير جنسه، فتحوا عينه للتفريق بينه وبين العدل الذي هو المثل. قال الجوهري في كتابه: وبعض العرب يكسرها وكأنه منهم غلط، ومعافر حي من همدان لا ينصرف من الجمع، وإليهم ينسب الثياب المعافرية، تقول: ثوب معافري فنصرفه؛ لأنك أدخلت عليه ياء النسبة، ولم يكن في الواحد، وقوله: معافر أي: ثياب معافر فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه. وأما وجه الحديث عند من لا يرى ذلك حدا محدودا في الجزية، أن يقال: إن ذلك كان إما على سبيل المواضعة والمصالحة، وإما لأن من أمر بالأخذ منهم كانوا فقراء، ولا بد من الذهاب إلى أحد الوجهين؛ لأن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بعث حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف - رضي الله عنهما - إلى أرض فارس ليضربا الجزية على من دخل في الذمة، وفرق بين المياسير منهم والفقراء، وذلك بمحضر من الصحابة، ونقل مثله عن علي - رضي الله عنه-.

[2974] ومنه حديث ابن عباس - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تصلح قبلتان في أرض واحدة ... الحديث). قلت: قد ذهب بعض أهل العلم إلى أن معناه راجع إلى إجلاء اليهود والنصارى من جزيرة العرب ذهب فيه مذهب قوله: (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب)، وليس لفظ الحديث بمنبئ [119/أ] عما ادعاه؛ لأن قوله: (بأرض واحدة) يقتضي معنى العموم. وأرى فيه - والله أعلم - أن يقال: معنى قوله (لا تصلح قبلتان) أي: لا يستقيم دينان بأرض على سبيل المظاهرة والمعادلة، أما المسلم فليس له أن يختار الإقامة بين ظهراني قوم كفار، وأما الذي يخالف دينه دين الإسلام، فلا يمكن عن الإقامة في بلاد الإسلام إلا ببذل الجزية، ثم لا يؤذن له في الإشادة بدينه، والإشاعة بشعائره. وفيه: (وليس على مسلم جزية) ذهب بعض العلماء في معناه إلى أن المراد منها الخراج الذي وضع على الأراضي التي تركت في أيدي أهل الذمة، والأكثرون على أن المراد منه: أن من أسلم من أهل الذمة قبل أداء ما وجب عليه من الجزية، فإن لا يطالب؛ لأنه مسلم وليس على مسلم جزية، وهذا قول سديد، لو صح لنا وجه التناسب بين الفصلين، اللهم إلا أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يوصل بينهما على أنهما حديثان اثنان، فأدرج الصحابي أو الرواي عنه أحدهما في الآخر. ومما يدل على ذلك أن أبا داود أخرجه عن ابن عباس ولم يزد أن أقول: إن الذمي إنما أقر على ما هو عليه ببذله الجزية، فالذمي عليه الجزية، وليس على المسلم جزية، فصار ذلك رافعا لأحد القبلتين واضعا لإحدى القبلتين، وإذا حملنا قوله: (لا تصلح قبلتان في أرض واحدة) على أن المراد منه زجر المسلم عن استيطانه أرضا يتولاها الكفار، فالوجه فيه أن نقول: المسمل إذا صنع ذلك فقد أحل نفسه فيهم محل الذمي فينا، وليس له أن يجر إلى نفسه الصغار، ويتوسم بسمة من ضرب عليه الجزية وأنى له ذلك، وليس على مسلم جزية. [2975] ومنه قول أنس - رضي الله عنه - في حديثه إلى (أكيدر دومة) هو أكيدر بن [119/ب] عبد الملك الكندي صاحب دومة الجندل أضيف إليها إضافة زيد إلى الخيل في قولك: زيد الخيل، ودومة بضم الدال وقد تفتح، وأنكر الفتح ابن دريد، وهو من بلاد الشام قرب تبوك، وأكيدر كان نصرانيا فبعث إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية من المهاجرين وأعراب المسلمين مقفلة من تبوك وعلى المهاجرين أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - وعلى الأعراب خالد بن الوليد، وقال لخالد: (إنك ستجده يصيد البقر) فانتهت السرية من

باب الصلح

الحصن منظر العين في ليلة مقمرة صافية وهو على سطح ومعه امرأته، فأتت البقرة وجعلت تحك بقرونها باب القصر، فقالت له امراته: هل رأيت مثل هذا قط، قال: لا والله، قالت: فمن يترك مثل هذا؟ قال: لا أحد، فنزل فأمر بفرسه فأسرج، وكب معه نفر من أهل بيته فيهم أخ له يقال له: حسان، فخرجوا معه بمطادرهم فتلقتهم خيل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذت أكيدرا وقتلوا أخاه حسان. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد وصاهم: ألا تقتلوه وابعثوا به إلي، فبعثوا به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحقن له دمه، وصالحه على الجزية، وخلى سبيله، ثم إنه أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه. ومن باب الصلح (من الصحاح) [2977] حديث المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم قالا: (خرج نبي الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية في بضع عشرة مائة) إنما قيل: عام الحديبية وغزوة الحديبية لنزول النبي - صلى الله عليه وسلم - حين صد عن البيت بذلك الموضع. والحديبية من الحل، وإليها ينتهي حد الحرم، وفي الباء منها التخفيف لا غير، وقولهما: (في بضع عشرة مائة) قد قدمنا من بيانه ما وقعت به الغنية عن الإعادة. وفيه (حل، حل) حل: زجر الناقة إذا حثثتها على السير، وهي بالتسكين، فإن وصلتها بأخرى نونت الأولى، والمحدثون يسكنونها في الوصل وليس بشيء. وفي حديث ابن عباس - رضي الله عنه - (أن حل ليوطئ ويؤذى، ويشغل عن ذكر الله) يعني أن زجرك بقولك [120/ب]: حل عند الإفاضة إلى المشعر يوطئ الناس ويؤذيهم، ويشغلك عن ذكر الله. وفيه (خلأت القصواء) خلأت الناقة خلأ وخلاء بالكسر والمد، أي: حرنت وبركت من غير علة، كما يقال في الجمل: ألح، وفي الفرس حرن، وأما القصواء فقد بينا المراد منها في باب الحج.

وفيه (على ثمد) الثمد: الماء القليل الذي لا مادة له، وإنما وصفه بالقلة مع استغنائه عنها بلفظ الثمد إرادة للتأكيد في كونه أقل من القليل. (يتبرض الناس) أي: يأخذونه شيئا فشيئا، والتبرض أيضا التبلغ بالقليل، يقال: برض الماء من العين يبرض بالضم أي: خرج، وهو قليل. وماء برض أي: قليل، وكذا البراض بالضم، وبرض لي من ماله يبرض ويبرض برضا أي: أعطاني منه شيئا قليلا. وفيه (يجيش لهم بالري) يقال: جاش الوادي أي زخر وامتد جدا، والأصل فيه قولك: جاشت القدر أي: غلت، أي: ما زال يمتد بما يرويهم من الماء، أو بالماء الكثير، من قولهم: عين رية أي: كثيرة الماء. وفيه (هذا ما قاضى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي: فصل الأمر بالقضاء والإحكام له في أمر المصالحة من [قولك:] قضى الحاكم، أي: فصل في الحكم، ووزنه فاعل، من: قضيت الشيء؛ لأن القضية كانت بينه وبين أهل مكة. وفيه (فضربه به حتى برد) أي: مات، وبرده: قتله، ومنه: السيوف البوارد، وذلك لما تعرض للميت من عدم الحرارة بفقدان الروح، أو لما عرض له من السكون. وفيه: (ويل أمه، مسعر حرب لو كان له أحد) المسعر، والمسعار: الخشب الذي يسعر به النار أي: تهيج وتلهب. ومنه قيل للرجل: مسعر حرب. أي: يحمي به الحرب وتهيج، شبه بمسعر التنور، و (ويل أمه) لفظ تعجب من حسن نهضته بالحرب وجودة معالجته لها. وقوله: (لو كان له أحد) أي لو وجد ناصرا ينصره، ومعيناً يعينه.

وفيه: (حتى أتى سيف البحر) أي: ساحله. قلت: والسيف - بالكسر - ساحل البحر، ولعل إضافته إلى البحر إنما كانت لمكان الاشتباه بسيف النخل، وهو: ما التف بأصول السعف كالليف. وفيه: (يناشده الله والرحم لما أرسل إليهم) الرواية في (لما) بالتشديد، وهي في موضع (إلا)، وقد ذكر الجوهري في كتابه أن قول من قال: (لما) بمعنى (إلا) فليس يعرف في اللغة، قلت: وقد ذكر أهل التفسير لاسيما المتبحرون منهم في علم العربية في قوله تعالى {إن كل نفس لما عليها حافظ} على قراءة من قرأها بالتشديد أنها بمعنى إلا، ويحمل قول الجوهري على أنه لم يصادفه فيما بلغه من كلامهم، والعرب تستعمل هذا الحرف في كلامهم على الوجه الذي في الحديث، إذا أرادوا المبالغة في المطالبة، كأنهم يبتغون من المسئول ألا يهتم بشيء إلا بذلك، ومعنى [الحديث]: أرسلت قريش إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تقسم عليه أن لا يعاملهم بشيء، إلا بإرساله إلى تلك الطائفة، وردهم إلى مأمنهم بالمدينة، كيلا يتعرضوا لهم في سبيلهم. [2978] ومنه قول البراء - رضي الله عنه - (ولا يدخلها بجلبان السلاح) الجلبان بتسكين اللام قيل: هو القراب وهو شبه الجراب من الأدم يوضع فيه السيف مغمودا، ويطرح فيه السوط، والآلات، ويعلق من أخرة الرحل، وأكثر المحدثين يروونه مضمومة اللام مشددة الباء، وفسره بعض أهل اللغة فقال: إنما سمي بذلك لجفائه، قال: ويقال: امرأة جلبانة: إذا كانت جافية الخلقة. ومن عادة العرب ألا يفارقهم السلاح في السلم والحرب، فاشترطوا أن تكون السيوف في القرب كيلا يظن أنهم يدخلوتها عنوةـ، وليكون ذلك أمارة للسلم، وقال الخطابي: يحتمل أن يكون جمع جلب، ودليل ذلك رواية مؤمل عن سفيان (ألا يجلب السلاح)، وجلب السلاح نفسه كجلب الرحل، إنما هو [نفس] خشب الرحل كأنه أراد به نفس السلاح، وهو السيف من غير أن يكون [121/أ] معه [أدوات] الحرب من لأمة ورمح وحجفة ونحوها ليكون علامة للأمن. قال: وقد جاء جريان السيف في هذا المعنى. قال الأصمعي: هو قراب السيف، فيحتمل أن يكون من باب تعاقب اللام والراء.

(ومن الحسان) [2981] حديث المسور ومروان وعلي: (إن بيننا عيبة مكفوفة) فسره ابن الأعرابي فقال: يريد أن بيننا صدرا نقيا من الغل والخداع والدغل، مطويا على الوفاء بالصلح. والمكفوفة: المشرجة المشدودة: والعرب تكنى عن القلوب والصدور بالعياب؛ لأنها مستودع السرائر، كما أن العياب مستودع حر الثياب. قال ابن الأنباري موادعة ومكافة: يجريان مجرى المودة التي تكون بين المتصافين الذين يفشي بعضهم إلى بعض أسرارهم. قلت: والذي قاله ابن الأعربي في بيان ألفاظه من طريق اللهجة العربية فإنه حسن مستقيم، وهو الإمام الذي سبق كثيرا ممن يتعنى هذا الفن غير أني أرتاب في تقدير هذا المعنى، على أن بيننا صدرا نقيا من الغل فلا أدري: أيصح عنه أم لا، وذلك أن نقاوة الصدر من الغل بين المسلم والكافر أمر لا يكاد يستتب؛ كيف وقد فرض الله على المسلم بغض الكافر ومحبة هوانه، وأرى الوجه فيه أن يقال: إنهم أرادوا بذلك ترك ما كان بين الفئتين من الأضغان والدماء وانتهاب الأموال، وانتهاك الحرم مشرجا عليه في صدور القبيلين لا يكثر شيء منها إلى انقضاء الأجل. ويحتمل أنهم أرادوا بالعيبة: نفس الموادعة، أي: تكون الموادعة مطوية على تلك الخلال مشرجة عليها، وحملها في كلامهم على السرائر أكثر وأشهر، قال الشاعر: ولقد حملت حديثهم في أضلع .... للسر مشرجة على الكتمان وفيه: (لا إسلال ولا إغلال) الإسلال: السرقة الخفية، وكذلك السلة. ومنه قولهم: الخلة تورث السلة، والإغلال: الخيانة، ورجل مغل أي: خائن.

ومن الباب الذي يليه (من الصحاح) [2982] حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -[121/ب] في حديثه (حتى جئنا بيت المدارس) المدارس: صاحب دراسة كتبهم، ومفعل ومفعال من أبنية المبالغة في الفعل الذي يشتق منه. وفيه: (إني أريد أن أجليكم) الخطاب لمن بقى بالمدينة من يهود بني قينقاع وغيرهم بعد إخراج بني النضير، وقتل بني قريظة، فإن حرب بني النضير ومصالحتهم على الخروج منها كانت في السنة الرابعة، وقتل بني قريظة في السنة الخامسة، وإسلام أبي هريرة في السنة السابعة. [2984] ومنه قول ابن عمر في حديثه (فأجلاهم عمر وأعطاهم قيمة ما كان لهم من الثمر ... الحديث) الثمر بالثاء المنقوطة بالثلاث، والمراد ما ثبت لهم باعتمالهم في النخل بالسقي والتأبير وغير ذلك من حصة الثمر في سنتهم تلك، على ما تقدم ذكره في حديث اعتمال يهود خيبر على الشطر. فيكون قد أجلاهم في زمان قد فرغوا فيه من العمل.

باب الفيء

وفي هذا الحديث دليل على أن أرضهم ونخيلهم أخذت منهم عنوة، ولم يكن لهم فيها حق غير ما شورطوا عليه بالاعتمال. [2985] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس: (وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم) أي: أقيموا لهم مدة إقامتهم ما يقوم بحاجتهم، وقد مضى القول في بيان الجائزة، وإنما أخرج ذلك بالوصية عن عموم المصالح لما فيه من المصلحة العظمى، وذلك أن الوافد سفير قومه، وإذا لم يكرم رجع إليهم من سفارته بما يفتر دونه رغبة القوم في قبول الطاعة والدخول في الإسلام. ثم إن الوافد إنما يفد على الإمام فتجب رعايته من مال الله الذي أقيم لمصالح العباد والبلاد، وإضاعته تفضي إلى الدناءة التي أجار الله عنها أهل الإسلام. ومن باب الفيء (من الصحاح) [2989] حديث عمر - رضي الله عنه - (كانت أموال بني النضى مما أفاء الله على رسوله ... الحديث)

أي: رده إليه، وجعله فيئا له، وضع قوله: (مما لو يوجف المسلمون عليه) موضع الفيء؛ لأن ما أوجف المسلمون [عليه] فهو غنيمة، وما لم يوجفوا عليه فهو من الفيء. أي: سلطه الله عليه من غير قتال منهم ولا غلبة، ولم يكن كالغنيمة التي يقاتل عليها وتؤخذ عنوة وقهرا. والإيجاف: من الوجيف، وهو السير السريع. وقد أشرنا إلى قصة بني النضير [122/ب] في غير موضع. ومنه: (فكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة) أراد بالخاصة أنها خصت به خاصة لم تكن لأحد بعده من الأئمة أن يتصرفوا فيها تصرفه، بل عليهم أن يضعوها في فقراء المهاجرين والأنصار، وفي الذين اتبعوهم بإحسان، وفيما يجري مجرى ذلك من المصالح. وقد تبين لنا هذا المعنى من الأحاديث التي نقلت عن عمر - رضي الله عنه - في حكم أمال بني النضير وفدك وخيبر مما أفاء الله على رسوله، وجعله صفايا له. وفيه: (ويجعل ما بقى في السلاح والكرع) الكراع: اسم [لجميع] الخيل. (ومن الحسان) [2992] حديث مالك بن أوس بن الحدثان - رضي الله عنه - (قال: ذكر عمر بن الخطاب يوما الفيء، فقال: ما أنا بأحق بهذا الفيء منكم) الحديث. كان من مذهب عمر أن الفيء لا يخمس كما

تخمس الغنيمة، لكن تكون جملته معدة لمصالح المسلمين، ومجعولة لهم على تفاوت درجاتهم، وتفاضل طبقاتهم وذلك معنى قوله (إلا أنا على منازلنا من كتاب الله، وقسم رسوله) ويريد بقوله (من كتاب الله) أي: مما بينه بقوله سبحانه وتعالى: {للفقراء والمهاجرين} إلى آخر الآيات الثلاث من سورة الحشر، ومما دل عليه الكتاب من تفاضل المسلمين في ترتيب طبقاتهم وتعريف درجتهم كقوله سبحانه {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار} الآية. وقد قال بقوله الجمهور وممن يدور عليهم علم الفتيا إلا الشافعي - رحمه الله - ويريد (بقسم الرسول) ما كان يستعمله فيهم من مراعاة التمييز بين أهل بدر وأصحاب بيعة الرضوان وذوي المشاهد وأولي المرتبة وغيرهم، ومن المعيل والمنفرد والآهل والأعزب، وذلك معنى قوله (فالرجل وقدمه، والرجل وبلاؤه) الحديث، وقدمه بكسر الكاف أي: سابقته في الإسلام، وبلاؤه أي: شجاعته وغناؤه في سبيل الله، وذلم فيما أبلى به في الحروب والمقامات المحمودة، والأصل فيه: استخراج ما كمن فيه من الجودة، وإظهار ما خفي منه من صدق النية. وتقدير الكلام: فالرجل يقسم له ويراعي قدمه في القسمة، أو الرجل ونصيبه على ما يقتضيه قدمه، أو الرجل وقدمه يعتبران، كقولهم: الرجل وضيعته، وفي كتاب المصابيح: (والرجل وقدمه) بالواو فليس بسديد رواية ومعنى، وإنما هو بالفاء (فالرجل وقدمه) على وجه التفسير لقوله: (إلا أنا على منازلنا من كتاب الله) [123/أ] وقسم رسوله). وفيه: (فليأتين الراعي وهو بسرو حمير نصيبه) السرو: من ناحية اليمن، وإنما أضافه إلى حمير؛ لأنه محلتهم، وذكر سرو حمير لما بينه وبين الموضع من المسافة الشاقة، وذكر الراعي مبالغة في الأمر الذي أراده، وذلك لأن الراعي تشغله الرعية عن طلب حقه، ثم إنه غامض في الناس، قلما يعرف أو يؤبه به. وأراد بقوله: (لم يعرق فيه جبينه) أنه يأتيه عفوا صفوا، لم يمازجه كدر، ولم تكدره منة.

كتاب الصيد

ومن كتاب الصيد (من الصحاح) [2994] قول عدي بن حاتم في حديثه (إنا نرمي بالمعراض) المعراض السهم الذي لا ريش عليه. وأكثر ما يصيب ذلك بعرض عوده دون حده وقوله: (كل ما خزق) خزق بالخاء والزاي المنقوطتين: أي نفذ، والخزق: الطعن بالسهم، والخازق من السهام: المقرطس. ويقال: خزقتهم بالنبل، أي: أصبتهم بها. وفيه (فإنه وقيذ) أي: موقوذ، وهو ما يثخن ضربا بعصا أو حجر حتى يموت. [2995] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي ثعلبة الخشني - رضي الله عنه - (ما لم ينتن) بضم حرف المضارع منه، ويفتح. من نتن الشيء وأنتن: إذا صار ذا نتن.

[2998] ومنه حديث علي - رضي الله عنه - (ما خصنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون الناس بشيء) الحديث سبق القول فيه، وفي وجه التخصيص، وفيه (لعن الله من سرق منار الأرض) المنار العلم والحد بين الأرضين وذلك بأن يسويه أو يغيره ليستبيح بذلك ما ليس له بحق من ملك أو طريق. وفيه (من آوى محدثا) محدثا بكسر الدال، وهو الذي جن على غيره جناية، وإيواؤه: إجارته من خصمه والحيلولة بينه وبين ما يحق استيفاؤه، ويدخل في ذلك الجاني على الإسلام بإحداث بدعة، إذا حماه من التعرض له، والأخذ على يده لدفع عاديته (وآوى) تجوز بقصر الألف أيضا فإنه يتعدى ولا يتعدى. [2999] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث رافع بن خديج - رضي الله عنه - (ما أنهر الدم فكل) أي: ما أساله، شبه خروج الدم من موضع الذبح بجري الماء في النهر، وهو أفعل من النهر قال الشاعر: [123/أ] ملكت بها كفي فأنهرت فتقها وفيه (إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش) الأوابد: التي قد تأبدت أي: توحشت ونفرت من الإنس، وهذه إشارة إلى جنس الإبل، واللام فيه تفيد معنى (من). [3001] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث شداد بن أوس - رضي الله عنه -: (فأحنوا القتلة) القتلة بكسر القاف: الحالة التي عليها القاتل في قتله كالجلسة والركبة يقال: قتله قتلة سوء.

[3004] ومنه حديث جابر - رضي الله عنه - (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر عليه حمار قد وسم في وجهه) الحديث. إن قيل: كيف التوفيق بين هذا الحديث وبين ما ورد من الأحاديث في النهي عن لعن المسلم، مع أن الواسم لم يرتكب في صنيعه ذلك كبيرة، وقد وجدناه - صلى الله عليه وسلم - قد أظهر النكير على الذي لعن [نعيمان] حيث أتى به كرة بعد أخرى في شرب الخمر؟ فالجواب أن يقال: يحتمل أن الواسم لم يكن مسلما، أو كان من أهل النفاق، أعلمه بذلك ربه سبحانه فلم يصرح به ليكون أدعى إلى الانزجار عما زجر عنه، ويحتمل أن ذلك لم يكن على وجه الدعاء عليه، بل على سبيل الإخبار من الغيب، واستحق ذلك؛ لأنه علم بالنهى فأقدم عليه مستهينا به، ويحتمل أنه غضب على فاعل ذلك، فقابل صنيعه باللعن ليرتدع به غيره، ثم إن حاله في ذلك قد كانت مفارقة لحال غيره، فإنه سأل الله تعالى لا يجيب له في أمته فيما يدعو به عليهم مما يحمله عليه الغضب ويستحثه عليه البشرية، وذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - (اللهم إنما أنا بشر آسف كما يأسفون، وإني أعهد إليك عهدا لن تخلفينه فأيما مسلم سببته، لعنته، آذيته، فاجعلها له زكاة ورحمة) والله أعلم. (ومن الحسان) [3006] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عدي بن حاتم - رضي الله عنه - (أمر الدم بما شئت) يلحن كثير من المحدثين في هذا اللفظ فيشددون الراء، ويحركون الميم ظنا منهم أنه من الإمرار، وليس بقويم، وإنما هو

بتخفيف الراء من مرى يمري، إذا مسح الضرع ليدر، والمعنى: استخرج الدم وسيله، ورواه بعضهم بتحريك الميم وقطع الألف من أمار الذي هو أفعل من مار الدم يمور مورا: إذا أجرى. [3007] ومنه حديث أبي العشراء عن أبيه - رضي الله عنه - أنه قال: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبة ... الحديث). وجه هذا الحديث عند أكثر الفقهاء أن يحمل على ذكاة [123/ب] الضرورة، وجعلوها كالصيد، وبعضهم لم ير القول به، وأبو العشراء اسمه أسامة على الأصح من الأقوال المختلفة فيه، وأبوه مالك بن قهطم الدرامي. ومنهم من يقول: قحطم بالحاء. [3012] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث هلب بن يزيد الطائي - رضي الله عنه - (لا يتخلجن في صدرك شيء ضارعت فيه النصرانية) يتخلجن يروى بالحاء المهملة وبالخاء المعجمة، وأراها أكثر الروايتين فمعناه بالمهملة لا يدخلن قلبك منه شيء فإنه مباح نظيف، وذكر الهروي في كتابه عن الليث أنه قال: دع ما

تخلج في صدرك، وما تخلج أي: ما شككت فيه. قال: وكذلك قال الأصمعي، ومعناه بالخاء المعجمة: لا يتحركن الشك في قلبك. قلت: والذي نجده في كلام العرب - إذا استعملوه في معنى الشك - هو التخالج. تقول: تخالج في صدري منه شيء أي: شككت، ويستعملون التخلج في المفلوج إذا استدار في مشيته، ورواه بعضهم (لا يحيكن في صدرك شيء) والحيك: تأثير الشيء في النفس، وقوله: (ضارعت) المضارعة: المقاربة في الشبه. يقال: هذا ضرع هذا، أي: قريب منه في الشبه. ولعله أخذ من الضرع لمشابهة الأخلاف بعضها بعضا، وقد ذكر بعض أهل العلم بالحديث أن في طرق هذا الحديث (أنه سأله عن طعام النصارى) ثم قال: فعلى هذا، كأنه أراد: لا يكونن في قلبك شك. إن ما شاركت وشابهت فيه النصارى خبيث أو حرام. قلت: ولست أدري ما وجه هذا الكلام، فإنا نشارك النصارى في ذبائحهم ونشابههم في بعض أمور الملة، وإنما المعنى: أن تشك في الطعام الذي لم يحرمه الشرع، وتحرجك عما لم ينه عنه شيء ضارعت فيه النصرانية. يريد أن مثل هذا التشكيك والتحرج من دأب النصارى وصنيعهم، والرجل الذي سأله عن ذلك هو عدي بن حاتم الطائي، وكان قبل الإسلام على النصرانية. وقال الحافظ أبو موسى: إن روى بالصاد المهملة فالمعنى خاصمت ونازعت، والظاهر أنه قال قوله هذا على الاحتمال؛ إذ لو كان وجد فيه رواية لذكرها. [3014] ومنه قول العرباص بن سارية - رضي الله عنه - في حديثه (وعن الخليسة) قيل: هو ما يؤخذ عن السبع فيدركه الموت قبل الذكية، سميت بذلك لاختلاس السبع إياها. [3015] ومنه [124/ب] حديث ابن عباس - رضي الله عنه - (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شريطة

الشيطان) معنى الشريطة وإن كان مبينا في الحديث، فإن لفظ الشريطة غير مفسر، وتفسيره: أنه أخذ من شرط الحجام، وكان أهل الجاهلية يقطعون شيئا يسيرا من حلق البهيمة فيرون ذلك ذكاتها. قلت: ويحتمل أنه من الشرط الذي هو العلامة أي: شارطهم الشيطان فيها على ذلك. ومن الباب الذي يليه (من الصحاح) [3020] حديث ابن عمر - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من اقتنى كلبا إلا كلب ماشية أو

باب ما يحل أكله أو يحرم

ضار ... الحديث) الضاري من الكلاب: ما لهج بالصيد يقال: ضرى الكلب بالصيد ضراوة أي: تعوده وكلب ضار، وكلبة ضارية. ومن حق اللفظ في هذا الحديث (أو ضاريا) عطفا على المستثنى، وهو كذلك في بعض الروايات، فتحقق من تلك الروايات، فتحقق من تلك الرواية أو ترك التنوين فيه خطأ من بعض الرواة، وليس ذلك مما يعزى إلى كتاب المصابيح؛ لأنا وجدناه كذلك في مصنفات جمع من أئمة الحديث. ومن باب ما يحل أكله أو يحرم (من الصحاح) [3031] قول أنس - رضي الله عنه - (أنفجنا أرنبا بمر الظهران) نفج الأرنب أي ثار، وأنفجته أنا، ومر الظهران بفتح الميم والظاء: موضع بين الحرمين. [3033] ومنه قول خالد - رضي الله عنه - في حديثه (فاجتررته) اجتررته بمعنى: جررته يقال: جره واجتره.

[3035] ومنه حديث عبد الله بن أوفى (غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبع غزوات كنا نأكل [معه] الجراد). قلت: في كتاب البخاري (سبع غزوات أو ستا) وفي كتاب مسلم (سبع غزوات) في إحدى طرقه، وفي أخرى (ست أو سبع) وفي أخرى (ست غزوات) ولم يذكر مسلم في شيء من روايته: (معه) وكذلك الترمذي. ورواية من روى: (معه) يأول على أنهم أكلوه وهم معه فلم ينكر عليهم، وهذا يدل على إباحته. ولو صرفه مأول إلى الأكل فإنه محتمل. وإنما رجحنا التأويل الأول لخلو أكثر الروايات من هذه الزيادة، ثم لما ورد في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يأكل الجراد، وذكر ذلك من حديث سليمان - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد سئل عن الجراد، فقال: (أكثر جنود الله، لا أكله ولا أحرمه) وهو في الحسان من هذا الباب. فإن قيل: كيف يترك الحديث الصحيح بمثل هذا الحديث؟ قلنا: لم نتركه، وإنما أولناه لما فيه من الاحتمال كي يوافق سائر [124/ب] الروايات، ولا يرد الحديث الذي أوردناه، وهو من الواضح الجلي، بما فيه خفاء والتباس، ولم يرد الرواي بقوله: (كنا نأكل الجراد) أنهم ألجئوا إليه في سبع غزوات حتى لم يكن لهم ما يتقوتون به غيره؛ لأن ذلك لم يذكر في شيء من الأحاديث، وإنما أراد أنهم كانوا إذا وقعوا به أكلوه. [3036] ومنه حديث جابر - رضي الله عنه - (غزوات جيس الخبط) أي: مع جيس الخبط. وإنما سموا جيش الخبط؛ لأنهم أكلوا الخيط من الجوع حتى قرحت أشداقهم. والخبط - بالتحريك - الورق المخبوط. والمصدر: الخبط، وهو: أن يضرب الشجر بعصا لينحات ورقه. [3037] ومنه حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم) الحديث.

قلت: قد وجدنا لكون أحد جناحي الذباب داء وللآخر دواء فيما أقامه الله لنا من عجائب خلقه وبدائع فطرته، شواهد ونظائرها، فمنها: النحلة يخرج من بطنها الشراب النافع، وينبت من إبرتها السم الناقع. والعقرب: تهيج الداء بإبرتها، ويتداوى من ذلك بجرمها. أما اتقاؤه بالجناح الذي فيه الداء على ما ورد في غير هذه الرواية، وهو في الحسان من هذا الباب، فإن الله تعالى ألهم الحيوان بطبعه الذي جبله عليه ما هو أعجب من ذلك، فلينظر المتعجب من ذلك، إلى النملة التي هي أصغر وأحقر من الذباب: كيف تسعى في جمع القوت؟ وكيف تصون الحب عن الندى باتخاذ الزبية على نشز من الأرض؟ ثم لينظر إلى تجفيفها الحب في الشمس إذا أثر فيه الندى، ثم إنها تقطع الحب جزلتين؛ لئلا تنبت، وتترك الكزبرة على ما هي عليه؛ لأنها لا تنبت وهي صحيحة، فتبارك الله رب العالمين. وأية حاجة بنا إلا الاستشهاد على ما أخبر عنه الصادق المصدوق، لولا الحذر من اضطراب الطبائع، والشفق على عقائد ذوي الأوضاع الواهية، وإلى الله اللجأ، ومنه العصمة. [3039] ومنه حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول (اقتلوا الحيات، واقتلوا ذا الطفيتين، والأبتر) الحديث. الطفية: خوصة المقل. شبه الخطين اللذين على ظهره بخوصتين من خوص المقل، وأراد بالأبتر: الذي يشبه المقطوع الذنب؛ لقصر ذنبه، وهو من أخبث ما يكون من الحيات. وقوله: (فإنهما يطمسان البصر) أي: تبغيان طمس البصر. وإسقاط الحبلى جبلة جبلا عليه أو أنهما [125/أ] بخاصيتهما يورثان ذلك بعض الأشخاص عند النظر إليهما. وقد ذكر في خاصية الأفعى أن الحبل تلقى جنينتها عند مواقعة النظرين، وقد ذكر شيء من هذا النوع عن خاصية بعض الحيات في طمس البصر. [3040] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - (إن لهذه البيوت عوامر) عمار البيوت وعوامرها: سكانها من الجن.

[3042] ومنه حديث أم شريك - رضي الله عنه - (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل الوزغ وقال كان ينفخ على إبراهيم) الوزغ: الدويبة التي يقال لها: سام أبرص، والجمع وزغان وقيل: سمي وزغا لخفته وسرعة حركته، وقوله: (كان ينفخ على إبراهيم) ليس بتعليل للقتل، وإنما ورد مورد البيان لفساد ذلك الجنس وخبثه، وأنه أبلغ في ذلك مبلغ النهاية؛ وليدل ذلك على أنه من الدواب التي سخرت للشياطين، فتستعمله فيما يكاد يتأتى منه من الخبث والفساد حتى استعملته في النفخ على إبراهيم، أي: نفخ في النار التي ألقي إليها خليل الله - صلى الله عليه وسلم - وإنما قال (على) تنبيها على أنه صنع ذلك إعانة على نبي الله. وفي حديث عائشة - رضي الله عنها - لما أحرق بيت المقدس كانت الأوزاخ تنفخه. يقال: نفخته ونفخت فيه. قلت: ومما بلغني من خبث هذه الدويبة من ذوي الخبرة وأولي التجربة أنها شغفت بإفساد الطعام وإدخال المضرة فيه؛ بحيث يتوصل إلى ذلك بإلقاء خرئها فيه، وخرؤها من جملة السموم القتالة، فإن منعها مانع عن التفوق عليه ارتقت السقف، وألقت خرءها من الموضع الذي يحاذيه فيه. ولقد نعي إلى جماعة من أصدقائي هلكوا ببلاد الهند مهلك رجل واحد، فاستعملت خبرهم فحدثت أنهم اجتمعوا على جفنة فيها [رز بلبن] فألقت تلك الدويبة خرءها من عل إلى الجفنة، فأخذه بعضهم بالملعقة ورمي به، وأعاد الملعقة إلى الطعام من غير مسحة وتنقية، فمرضوا منه وهلكوا عن آخرهم، وأكبر ظني أني حدثت أن الأكلة كانوا سبعة أنفس، ولقبها أعني: سام أبرص ينبئ عن خبثها وشؤمها، ولهذا استحق قاتله بضربة مائة حسنة على ما في الحديث الذي يتلو هذا الحديث.

=====

(ومن الحسان) [3060] حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما سالمناهن منذ حاربناهن ... الحديث) الضمير للحيات، والمعنى [125/ب] أن العداوة بيننا متأكدة ولم تزل قائمة، لم تزل قائمة، لم نأمن غوائلهن منذ عرفناهن بالعداوة. ويذهب بعضهم في معناه إلى ما كان من الحية في أمر آدم. أي: وقعت الحرب بيننا من لدن دم ولم يرفعها سلم. وفيه (ومن ترك شيئا منهن خيفة فليس منا) أي: من ترك التعرض لها مخافة أن يلحقه ضرر أو من صاحبتها فليس منا. أي: ليس من المقتفين لهدينا والمقتدين بسنتنا. وفي معناه قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي قبله (خشية ثائر) والثائر: هو الذي لا يبقي على أحد حتى يدرك ثأره، والثأر: الذحل والله أعلم.

باب العقيقة

ومن باب العقيقة (من الصحاح) [3067] حديث سلمان بن عامر الضبي - رضي الله عنه - سمعت رسول الله ? يقول: (مع الغلام عقيقة) أي: مع ولادته مسنونة أو مشروعة، والعقيقة - هاهنا - الشاة التي تذبح عن المولود يوم أسبوعه، وهي في الأصل صوف الجذع وشعر كل مولود من الناس والبهائم الذي يولد عليه، ومنه سمي ما يذبح عن المولود عقيقة؛ لأنها تذبح يوم حلق عقيقته؛ وقيل: بل لأن حلقومها شق، والعق في الأصل: الشق والقطع، وذكر الهروي أبو عبيد: أن الشعر الذي يخرج المولود من بطن أمه وهو عليه، إنما سميت عقيقة، لأنها إن كانت على إنسي حلقت، وإن كانت على بهيمة نسلتها. وفيه (وأميطوا عنه الأذى) قيل: أراد به حلق شعر المولود، وقيل: أراد به تطهيره عن الأوساخ والأوضار التي تلطخ بها حالة الولادة. وذهب بعضهم فيه إلى الختان، وليس ذلك بشيء؛ لأن الأذى إنما يستعمل فيما يؤذى أو يكره لقذره ورجسه، وليس الختان من أحد المعنيين في شيء، ثم إن الصحيح من طريقة العرب في الختان وسنتهم في الإسلام أنهم كانوا يختنون أولادهم من السبع إلى العشر، وربما انتهى إلى ما فوقها حتى يقرب سن الاحتلام. ويدل عليه حديث ابن عباس - رضي الله عنه - (كنت مختونا وكنت قد ناهزت الاحتلام).

(ومن الحسان) [3070] حديث أم كزر الخزاعية الكعبية - رضي الله عنها - سمعت رسول الله ? يقول: (اقروا الطير عل مكناتها) مكناتها بفتح الميم [126/أ] وكسر الكاف جمع مكنة وهي بيضة الضب، ويضم الحرفان منها أيضا، والمعنى: لا تنفروها، ولا تتعرضوا لها، وقال بعض الفصحاء: إنما هي وكناتها جمع وكنة، وهي عش الطائر، فأما المكنات فإنما هي للضباب. قال أبو عبيد: ويجوز أن يجعل للطير تشبيها بمكنات الضب، قال زهير يصف الأسد: له لبد أظفاره لم تقلم وإنما له المخالب. قال: ويجوز أن يراد به على أمكنتها أي: على مواضعها التي جعلها الله لها فلا يزجروها ولا يلتفتوا إليها فإنها لا تضر ولا تنفع. يقال: الناس على مكناتهم أي: على استقامتهم. وقال شمر: الصحيح فيها أنها جمع المكنة، وهي التمكن تقول العرب: إن فلانا لذو مكنة من السلطان. أي: ذو تمكن، فيقول: أقروها على كل مكنة ترونها عليها، ودعوا التطير بها. وهذا مثل التبعة: من التتبع، والطلبة: من التطلب. قلت: وقد روى أيضا (على وكناتها) قال أبو عمرو: الوكنة والأكنة بالضم: مواقع الطير، حيثما وقعت. وقال الأصمعي: الوكن: مأوى الطير في غير عش، والوكد ما كان في عش، وقد وكن الطائر بيضه يكنه وكنا: حضنه. وفيه (ولا يضركم ذكرانا كن أو إناثا) الضمير للشياه التي تعق بها عن المولودين. [3072] ومنه حديث سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله ? (الغلام مرتهن بعقيقته) الحديث. نقل عن بعض علماء السلف أنه قال: شفاعته للأبوين مرتهن بعقيقته. يريد أنه لا يشفع إذا لم يعق عنه. قلت: ولا أدري بأي سبب تمسك ولفظ الحديث لا يساعد المعنى [الذي] أتى به، بل بينهما من

المباينة ما لا يخفى على عموم الناس فضلا عن خصوصهم. والمعنى إنما يؤخذ عن اللفظ، وعند اشتراك اللفظ عن القرينة التي يستدل بها عليه، والحديث إذا استبهم معناه فأقرب السبل إلى إيضاحه استيفاء طرقه، فإنها قلما تخلو عن زيادة أو نقصان أو إشارة بالألفاظ المختلف فيها رواية فيستكشف بها ما أبهم منه. وفي بعض طرق هذا الحديث (كل غلام رهينة بعقيقته) أي: مرهون، يقال: مرهون ورهين، والهاء - هاهنا - لم تدخل للتأنيث، وإنما هي للمبالغة كقولهم: فلان كريمة قومه، والمعنى أنه [126/ب] كالشيء المرهون لا يتم الانتفاع والاستمتاع به دون فكه، والنعمة إنما تتم على المنعم عليه بقيامه بالشكر، ووظيفة الشكر في هذه النعمة ما سنه نبي الله ? وهو أن يعق عن المولود شكرا لله تعالى، وطلبا لسلامة المولود، ويحتمل أنه أراد بذلك [أن] سلامة المولود، ونشوءه عل النعت المحبوب رهينة بالعقيقة، هذا هو المعنى، اللهم إلا أن يكون التفسير الذي سبق ذكره متلقى من قبل الصحابي، ويكون الصحابي قد اطلع على ذلك من مفهوم الخطااب أو قضية الحال، ويكون التقدير: شفاعة الغلام لأبويه مرتهن بعقيقته، وفي لفظ هذا الحديث نظر وهو أن المرتهن هو الذي يأخذ الرهن، والشيء مرهون ورهين، ولم نجد فيما يعتمد عليه من كلامهم بناء المفعول من الارتهان، فلعل الراوي أتى به مكان الرهينة من طريق القياس. وفيه (ويدمى) مكان (ويسمى) قلت: قد ذهب بعضهم في معناه إلى تدمية المولود بدم العقيقة المذبوحة عنه، وليس بشيء، فإن السنة في المولود يوم الذبح عنه أن يماط عنه الأذى، فكيف يؤمر بازدياده؟! وذهب بعضهم في تأويله إلى الختان، وليس ذلك أيضا مما يتبع؛ لما ذكرناه من السنة في الختان، مع أنه أقرب التأويلين، لو صحت الرواية فيه. [3075] ومنه حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - سئل رسول الله ? عن العقيقة فقال: (لا يحب الله العقوق) كأنه كره الاسم.

قلت: (كأنه كره الاسم) كلام أدرج في الحديث من قول بعض الرواة، ولا يدرى من القائل منهم، وعلى الجملة، فإنه قول صدر عن ظن، والظن يخطئ ويصيب، فالظاهر أنه وقع هاهنا في القسم الأول؛ لأن النبي ? ذكر العقيقة في عدة أحاديث، ولو كان يكره الاسم لعدل عنه إلى غيره، ومن سنته تغيير الاسم إذا كرهه، وكذلك عدوله عن اللفظ المكروه إلى ما عداه، وكان يشير إلى كراهة الشيء بالنهي عنه، كقوله: (لا تقولوا للعنب الكرم). وإنما الوجه فيه أن يقال: يحتمل أن السائل إنما سأله عنها لاشتباه تداخله من الكراهة والاستحباب والوجوب والندب، أو أحب أن يعرف الفضيلة فيها، ولما كانت العقيقة من الفضيلة بمكان لم يخف على الأمة موقعه من الله أجابه بما ذكر تنبيها على أن [127/أ] الذي يبغضه الله من هذا الباب هو العقوق لا العقيقة، ويحتمل أن يكون السائل ظن أن اشتراك العقيقة مع العقوق في الاشتقاق مما يوهن أمرها، فأعلمه أن الأمر بخلاف ذلك، ويحتمل أن يكون العقيقة في هذا الحديث مستعارا للوالد، كما هو حقيقة في حق المولود، وذلك أن المولود إذا لم يعرف حق أبويه وأبى عن أدائه صار عاقا، فجعل إباء الوالد عن أداء حق المولود عقوقا على الاتساع، فقال: (لا يحب الله العقوق) أي: ترك ذلك من الولد مع قدرته عليه يشبه إضاعة المولود حق أبويه، ولا يحب الله ذلك، والله أعلم.

كتاب الأطعمة

ومن كتاب الأطعمة (من الصحاح) [3079] حديث أبي حذيفة بن عقبة القرشي البشمي- رضي الله عنه - صلى الله عليه وسلم -: (إن الشيطان يستحل الطعام أن لا يذكر اسم الله عليه). المعنى: أنه يجد سبيلا إلى تطيير بركة الطعام بترك التسمية عليه في أول ما يتناوله المتناولون، وذلك حظه من ذلك الطعام. ومعنى الاستحلال هو: أن تسمية الله تمنعه من الطعام، كما أن التحريم يمنع المؤمن عن تناول ما حرم عليه، والاستحلال: استنزال الشيء المحرم محل الحلال، وهو في الأصل مستعار من حل العقدة. [3080] ومنه حديث جابر- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه) الحديث. قلت: فيه تنبيه على أن الشيطان لا يستطيع أن يأوى إلى بيت ذكر صاحبه [اسم] الله عند دخوله، ولا ينتفع من طعام ذكر اسم الله عليه، وذلك أن انتهازه الفرصة من الإنسان دون الغفلة ونسيان الذكر يقع منه موقع الغذاء من الإنسان لتلذذه بذلك وتقويه، ويحتمل أن يكون إصابته من الطعام التقوى برائحته، والذكر هو المانع له عن حضور الطعام. [3082] ومنه حديث ابن عمر- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا يأكلن أحدكم بشماله) الحديث.

المعنى أنه يحمل أولياؤه من الإنس على ذلك الصنيع ليضاد به عباد الله الصالحين، ثم إن من حق نعم الله، والقيام بشكره أن يكرم، ولا يستهان بها، ومن حق الكرامة أن تتناول باليمين، ويميز بها بين ما كان من النعمة وبين ما كان من الأذى. [3086] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث جابر- رضي الله عنه- (ولا يدعها للشيطان) إنما صار تركها للشيطان؛ لأن فيه إضاعة نعمة الله والاستحقار لها من غير ما بأس، ثم إنه من أخلاق المتكبرين، والمانع عن تناول تلك اللقمة في الغالب هو الكبر، وذلك من عمل الشيطان. [3088] ومنه حديث أنس- رضي الله عنه-[127/ب] (ما أكل النبي - صلى الله عليه وسلم - على خوان قط، ولا في سكرجة) الحديث. الخوان: الذي يؤكل عليه، معرب. والأكل عليه لم يزل من دأب المترفين، وصنيع الجبارين لئلا يفتقروا إلى التطأطؤ، عند الأكل. (ولا في سكرجة) الرواة يضمون الأحرف الثلاثة من أولها، وقيل: إن الصواب فتح الراء منها. قلت: وهو الأشبه؛ لأنه فارسي معرب، والراء في الأصل منه مفتوحة، والعجم كانت تستعملها في الكواميخ وما أشبهها من الجوارشنات على الموائد حول الأطعمة للتشهي والهضم، فأخبر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأكل على هذه الصفة قط.

[3090] ومنه حديث سهل بن سعد- رضي الله عنه- (ما رأى رسول الله النقى) المراد بالنقى: الخبز الحواري، قال الشاعر: من نقى فوقه أدمه ومنه الحديث في صفة أرض المحشر: (كقرصة النقى). [3093] ومنه حديث أبي موسى (أن المؤمن يأكل في معي واحد) الحديث. أراد بذلك أن المؤمن يقل شرهه على الطعام ويبارك له في مطعمه ومشربه حتى تقع النسبة بينه وبين الكافر، كنسبه من يأكل في معي واحد مع من يأكل في سبعة أمعاء. فإن قيل: فقد يوجد في المؤمنين من تزداد نهمته على الكافر. قلنا: الأوضاع مختلفة والناس يتفاوتون في التناول على حسب الأوضاع، فليس إلى المعنى الذي أراده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا الوجه سبيل. وإنما يتحقق ذلك المعنى إذا قدرت ذلك في شخص واحد أو في مؤمن، وكذلك في الأشخاص. وقد قيل في تأويله: إنه مثل؛ لأن المؤمن لا يأكل إلا من الحلال ويتوقى الحرام والشبهة، والكافر لا يبالي ما أكل، ومن أين أكل، وكيف أكل. وهذا تأويل حسن غير أن في الحديث قصة تنقض هذا التأويل على قائله، وهي: ما ذكر أبو هريرة- رضي الله عنه- في حديثه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضافه ضيف كافر، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشاة فحلبت فشرب حلابها، ثم أخرى فشربه، ثم أخرى فشربه، حتى شرب حلاب سبع شاه [128/أ] ثم أصبح من الغد فأسلم، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشاة فحلبت فشرب حلابها، ثم أمر له بأخرى فلم يستتمها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (المؤمن يشرب في معي واحد) الحديث. وهو حديث حسن. وقد اختلف في الرجل من هو فقيل: هو نضلة بن عمرو الغفاري. وقيل: هو أبو نضرة جميل بن بصرة الغفاري، وقد اختلف في جميل، فمنهم من قال بالحاء المهملة المضمومة، ومنهم من [قاله] بالجيم المفتوحة، وهو جد عزة التي يشبب بها كثير، أبو أبيها.

[3095] ومنه حديث عائشة- رضي الله عنها- سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (التلبينة مجمة لفؤاد المريض) الحديث. التلبينة: حساء يتخذ من دقيق أو نخالة، وربما جعل فيها عسل، سميت بذلك تشبيها باللبن لبياضها ورقتها، ويقال لها بالفارسية: سبوساب. ومعنى مجمة أي: مريحة إذا ضمت ميمها، وقيل: تسرو عنه همه. وفي معناه: الحساء يرو عن فؤاد السقيم. وقيل: يجمعه ويكمل صلاحه ونشاطه، ومنهم من يفتح الميم، والضم أكثر وأجود. [3098] ومنه قول عمرو بن أمية- رضي الله عنه- في حديثه (يحتز من كتف شاة) بالحاء المهملة أي: يقطع. [3101] ومنه حديث سعيد بن زيد- رضي الله عنه- (الكمأة من المن) الكمأة: واحدها (كمء) على غير قياس، وهو من النوادر، تقول: هذا كمء، وهذان كمآن، وهؤلاء أكمؤ ثلاثة، فإذا كثرت فهي الكمأة.

وقد فسر المن في الرواية الأخرى، وقال أبو عبيد: إنما شبهها بالمن الذي كان يسقط على بني إسرائيل عفوا بلا علاج، كذلك الكمأة لا مؤنة فيها ببذر ولا بسقى. قلت: ويستعمل المن في النعمة، ويستعمل بمعنى القطع، والذهاب فيه إلى كلا المعنيين صحيح أما النعمة فظاهر، وأما القطع فلأنه يسقط كالشيء المقطوع، ولهذا يقال للترنجبين. [3103] ومنه قول جابر- رضي الله عنه- في حديثه (نجني الكباث) الكباث: بالفتح: النضيج من ثمر الأراك، وما لم يونع منه فهو برير. [3107] ومنه حديث سعد بن أبي وقاص- رشي الله عنه- (من تصبح بسبع تمرات عجوة) الحديث. قيل: هو تفعل، من: صبحت القوم أي: سقيتهم الصبوح، وصبحت لغة في صبحت، والأصل في الصبوح شرب الغداة، وقد يستعمل في الأكل أيضا؛ لأن شرب اللبن عند العرب بمنزلة [128/ب] الأكل.

والعجوة: شرب من أجود التمر بالمدينة، ونخلتها تسمى اللينة. والخاصية التي ذكرها فيها إنما كانت بدعائه؛ وذلك أن القوم تبرموا عن الاجتراء بالتمر حتى قالوا: أحرق بطوننا التمر، وكان قد دعا في طعام المدينة غير مرة، وأعلمه الله بما جعل فيه من البركة، ووضع فيه من المنفعة، لاسيما في التمر الذي كان أكثر طعامهم، أعلمهم بما أعلمه الله ليعرفوا مواقع نعمة الله عليهم، ويشكروها ولا يزدروها. [3112] ومنه قول عائشة- رضي الله عنها- في حديثها (توفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما شبعنا من الأسودين) الأسودان: التمر والماء، والسواد للتمر دون الماء، فنعتا بنعت واحد، والعرب تفعل ذلك في الشيئين يصطحبان فيسميان معا باسم الأشهر منهما. هذا قول أصحاب الغريب. قلت: وقد بقى عليهم بقية، وذلك أنهم لم يبينوا وجه التسوية بين التمر والماء في العوز، ومن المعلوم أنهم كانوا في سعة من الماء، قلت: إنما قالت ذلك؛ لأن الري من الماء لم يكن ليحصل لهم من دون الشبع من الطعام، فإن أكثر الأمم لاسيما العرب يرون شرب الماء على الريق بالغا في المضرة، فقرنت بينهما لعوز التمتع بأحدهما بدون الإصابة من الآخر، وعبرت عن الأمرين: أعني الشبع والري بفعل واحد كما عبرت عن التمر والماء بوصف واحد. [3116] ومنه حديث جابر- رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (أتى بقدر فيه خضروات ... الحديث). كذا رواه البخاري في كتابه بالقاف، وقد قيل: إن الصواب فيه (أتى ببدر) بالباء، وهو طبق يتخذ من الخوص، ولعله سمي بذلك لاستدارته استدارة بالبدر، وخضروات بفتح الخاء وكسر الضاد جمع خضرة أي: بقول خضرات، ورواه بعضهم بضم الخاء وفتح الضاد.

[3118] ومن قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي أمامة- رضي الله عنه- (غير مكفي، ولا مودع، ولا مستغني عنه ربنا). قال الخطابي في معناه: غير محتاج إلى الطعام؛ فيكفى لكنه يطعم فيكفى، (ولا مودع): ولا متروك الطلب إليه والرغبة فيما عنده، فإن كل من استغنى عن الشيء تركه. قلت: وعلى هذا فالضمير من بناء المفعول في الألفاظ الثلاثة راجع إلى الله تعالى، (ربنا) خبر [129/أ] للمبتدأ وهو (غير). قلت: وأكثر ظني أني وجدت الرواية فيهما بالنصب. وعلى هذا (فغير) منصوب صفة للمصدر الذي هو الحمد. وربنا على النداء، ويكون غير مكفي في معنى غير كاف أي: نحمدك حمدا لا نكتفي به بل نعود فيه كرة بعد أخرى. وكذلك المعنى فيما بعده. وقد روى في بعض طرق هذا الحديث (غير مكفور) وهو مستقيم على الروايتين. والله أعلم. (ومن الحسان) [3122] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أمية بن مخشي الخزاعي- رضي الله عنه- (فلما ذكر اسم الله استقاء ما

في بطنه) أي: صار ما كان له وبالا عليه مستلبا عنه بالتسمية. وهذا تأويل على سبيل الاحتمال غير موثوق به، فإن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يطلع من أمر الله في بريته على ما لا سبيل لأحد إلى معرفته إلا بالتوقيف من جهته. [3126] ومنه حديث سلمان- رضي الله عنه- (قرأت في التوراة ... الحديث) المراد من الوضوء- ها هنا- غسل اليد وتنظيفها لا غير. ولو ذهب ذاهب إلى أن المراد منه الطهارة الكاملة) التي نؤتي بها للصلاة رد قوله بحديث ابن عباس الذي يتلو هذا الحديث. فإن قيل: فما يمنعك أن تذهب في حديث سلمان إلى تأسيس العزيمة وفي حديث ابن عباس إلى تشريع الرخصة.

قلنا: يمنعنا قوله: (والوضوء بعده)؛ لأن الوضوء بعده على نعت الكمال لا معنى له في حصول البركة بعد الفراغ منه، كما أن أحدا لو ذكر الله سبحانه على غير طهر ثم تطهر لينال فضل الذكر على طهارة فيما سبق منه لم يقع ذلك موقعه. ومعنى البركة في الوضوء بعده: عظم فائدة الطعام باستعمال النظافة، فإنه إذا ترك ذلك أضر به الغمر الذي حصل في يده من الطعام وعاقه عن استمرائه، فيعود ترك ذلك إليه بالنقصان في قلة النماء ووجدان المنفعة. قلت: والإتيان بالوضوء عند التناول والفراغ إنما يستحب في طعام تتلوث عنه اليد ويتولد منه الوضر. [3132] ومنه حديث أم المنذر بنة قيس الأنصارية- رضي الله عنها- (دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه على، ولنا دول معلقة ... الحديث). الدوالي: عذوق بسر تعلق فإذا أرطب أكل، واحدها في القياس دالية. قال أبو عبيد الهروي: ولم أسمع به. [3133] ومنه حديث أنس- رضي الله عنه- (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعجبه الثفل) [130/ب] الثفل في الأصل: ما سفل من كل شيء [وقولهم]: (تركت بني فلان مثافلين) أي: ليس لهم لبن فهم يأكلون الحب، وذلك عند البدوي من أشد الأحوال، وقد فسر بعض العلماء الثفل بما يقتات. وفسره إبراهيم الحربي في هذا الحديث بالثريد، وأنشد: يحلف بالله وإن لم يسأل ... ما ذاق ثفلا منذ عام أول قلت: [وصيغة] القول في الحديث تشهد له بالإصابة. [3134] ومنه حديث نبيشة الخير الهذلي- رضي الله عنه- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (من أكل في قصعة

فلحسها ... الحديث) استغفار القصعة عبارة عما صودف فيها من أمارة التواضع ممن أكل فيها وبرائته من الكبر، وذلك مما يوجب له المغفرة، فأضاف إلى القصعة؛ لأنها كالسبب لذلك. [3136] ومنه قول ابن عباس- رضي الله عنه- في حديثه: (والثريد من الحيس). الحيس: تمر يخلط بأقط وسمن. والأصل فيه الخلط، ومنه قول الراجز: التمر والسمن جميعا والأقط ... الحيس إلا أنه لم يختلط [3140] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث سعد بن أبي وقاص- رضي الله عنه- إنك رجل مفؤود، وآت الحارث بن كلدة) الحديث. المفؤد: الذي أصابه داء في فؤاده. وفأدته فهو مفؤود: أصبت فؤاده. ويقال: رجل مفؤد وفئيد أي: لا فؤاد له. وأهل اللغة يقولون: الفؤاد هو القلب، وقيل: الفؤاد غشاء القلب. وقد قيل: يشبه أن سعدا كان مصدورا فكنى بالفؤاد عنه؛ لأنه كان محله. ويشكل من هذا الحديث: أنه نعت العلاج، ثم أحاله إلى الطبيب، ثم أمر الطيب باستعمال ما نعته. والوجه في ذلك أن نقول: إنما صنع ذلك لتحققه بان رأي الطبيب يوافق قوله، فأحب أن يصدقه ويشهد له بالإصابة، أو كان إحالته إلى الطبيب لعلمه باتخاذ الدواء والصنعة فيه وحذقه بكيفية الاستعمال، وذلك من الأبواب العملية، وقلما يوجد ذلك إلا من كثرة الممارسة منه. وإنما قال: (من عجوة المدينة) لما عرف فيها من البركة والخاصية التي جعلها الله فيها بدعائه، ثم لموافقتها مزاج من تعودها. وكان سعد قد مرض مرضه ذلك بمكة عام الفتح، ولهذا قال: (من عجوة المدينة) وكان مرضه هذا قبل الهجرة (فليجأهن) أي: فليدقهن [131/أ] وفي غير هذه الرواية أنه وصف له الوجئة وهي المدقوقة، حتى يلزم بعضها بعضاً،

وتبل عند الدق بسمن ولبن ليكون أشد لزوما. وإنما قال: (ليلدك) وهو سقي الإنسان الدواء في أحد شقي فيه؛ لأنه وجده على حالة من المرض لم يكن يسهل له تناوله الدواء إلا على تلك الهيئة، أو علم أن تناوله على تلك الهيئة أنجع. والحارث بن كلدة الثقفي مات في أول الإسلام، ولم يصح إسلامه. ويستدل بهذا الحديث على جواز مشاورة أهل الكفر في الطب إذا كانوا من أهله، وابنه الحارث بن الحارث بن كلدة يعد في المؤلفة قلوبهم. [3143] ومنه حديث سلمان- رضي الله عنه- (سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن السمن والجبن والفراء) قلت: إنما سئل عنها توقيا عن الشبهات، فإن العرب يومئذ كانوا مسلمين وكفارا، فتداخلهم الشبهة لذلك، وقد غلط بعضهم في الفراء فرأى أنه جمع الفرا وهو الحمار الوحشي، وإنما هي جمع الفرو الذي يلبس. وإنما سألوا عنها حذرا من صنيع أهل الكفر في اتخاذهم الفراء من جلود الميتة من غير دباغ، ومما يبين صحة ما ذكرنا أن علماء الحديث أوردوا هذا الحديث في اللباس، ولو أورده مورد في باب الطعام لم يكن ذلك حجة على الاختلاف فيها؛ فإن الحديث مشتمل على السؤال مما هو طعام ومما هو لباس؛ فصح الاستدلال بهذا الحديث في كل واحد من الجنسين. [3144] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر- رضي الله عنه- (من برة سمراء ملبقة بسمن) السمراء:

الحنطة. وقيل: هي حنطة فيها سواد خفي، وعلى هذا يصح أن يكون سمراء صفة لبرة. ولعل هذا النوع كان أحمد الأنواع عندهم. وإن لم يثبت هذا، فإن سمراء بدل من برة. و (ملبقة) ملخوطة به خلطا شديدا. يقال: ثريدة ملبقة: إذا خلطت خلطا شديدا. [3148] ومنه قول عكراش بن ذؤيب المزني- رضي الله عنه- في حديثه (أتينا بجنفة كثيرة الثريد والوذر) الوذر: جمع وذرة مثل تمر وتمرة: وهي القطعة من اللحم. [3149] ومنه حديث عائشة- رضي الله عنها- (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أخذ أهله الوعك ... الحديث). الوعك: الحمى وشدة مراسها. والحساء- بالفتح والمد- طعام معروف، وكذلك الحسو على فعول. وفيه (وإنه ليرتو) أي: يقوى ويشد. [3150] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-: (العجوة من الجنة) يريد بذلك (131/ب) المبالغة في الاختصاص بالمنفعة والبركة.

باب الضيافة

ومن باب الضيافة (من الصحاح) [3155] حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- في حديثه (فأتى رجلا من الأنصار) الرجل: هو أبو الهيثم بن التيهان الأنصاري الخزرجي- رضي الله عنه-. وفيه: (يستعذب لنا الماء) أي: يطلب لنا الماء العذب، وذلك لأن أكثر مياه المدينة كانت مالحة. وفي الحديث (كان يستعذب له الماء) وفي حديث آخر أن الجماعة الذين كانوا يسمون القراء كانوا يستعذبون بالأسحار الماء لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفيه (فجاءهم بعذق) العذق ههنا بكسر العين وهو الكباسة والله أعلم.

(ومن الحسان) [3156] حديث المقدام بن معد يكرب- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (أيما مسلم ضاف قوما ... الحديث). ضفت الرجل ضيافة وتضيفه: إذا نزلت عليه ضيفا. وأضفت الرجل وضيفته: إذا أنزلته بك ضيفا وقربته، وحكم الحديث قد ذكر في أول الكتاب. [3159] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي سعيد (كمثل الفرس في آخيته) الآخية- بالمد والتشديد- واحدة الأواخي: وهي أن يدفن طرفا قطعة من الحبل في الأرض وفيه عصية أو حجير، فيظهر منه مثل عروة تشد إليه الدابة. والآخية أيضا: الذمة والحرمة. وقيل: الآخية: البقية من الناس أيضا. ومنه قول عمر للعباس- رضي الله عنهما- (أنت آخية آباء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

ومن الفصل الذي يليه (من الحسان) [3162] حديث فجيع العامري- رضي الله عنه- أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - (فقال: ما يحل لنا من الميتة؟) الحديث. قلت: هذا لفظ أبي داود في كتابه، وقد وجدت في كتاب الطبراني وغيره (ما يحل لنا الميتة) وهذا أشبه بنسق الكلام؛ لأن السؤال لم يقع عن المقدار الذي يباح، وإنما وقع عن الحالة التي تفضى به إلى الإباحة، وقد تمسك بهذا الحديث من يرى تناول الميتة مع أدنى شبع، والتناول منه عند الاضطرار إلى حد الشبع. وقد خالف في هذا الحديث حديث أبي واقد الليثي، وقد أورده المؤلف بعد هذا الحديث. والأمر الذي يبيح له الميتة هو الاضطرار، ولا يتحقق ذلك مع ما يتبلغ به من الغبوق والصبوح فيمسك الرمق، فإن ثبت الحديث فالوجه فيه أن يقال: الاغتباق بقدح والاصطباح بآخر إنما كانا على سبيل الاشتراك بين القوم كلهم، ومن الدليل عليه قول السائل: (ما يحل لنا) كأنه كان وافد قومه، فلم يسأل لنفسه خاصة. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -[132/أ]: (طعامكم) فلما تبين له أن القوم مضطرون إلى أكل الميتة لعدم الغناء في إمساك الرمق بما وصفه من الطعام أباح لهم تناول الميتة على تلك الحالة. هذا وجه التوفيق بين الحديثين. والتفسير الذي ذكره بعد الحديث مدرج في الحديث من قول عقبة بن وهب بن عقبة العامري الراوي هذا الحديث [من] أبيه. وأبوه هو الراوي عن فجيع العامري. ومن الغصص التي لا أراها توغ: أني وجدت بعض مشيخة فارس- وكان الناس يرونه المرجوع إليه في مشكل هذا الكتاب- قد كتب هذا الحديث فحرف قوول المؤلف: (فسروا) فجعل الضمة على السين والتشديد على الراء، ذهابا إلى أنه من المسرة، وجعله من تمام الحديث، ثم جعل فاصلة بين الكلمتين. أعني: فروا قوله- بصفر وأعلم (قوله) بالرفع؛ تنبيها على أنه مبتدأ. وإنما ذكرت ذلك تشديدا لرغبة الراغبين، وتسديدا لقصد القاصدين في تناول هذا العلم عن رجاله، والتوقي عن التخوض فيه بمجرد التقليد. [والله أعلم].

باب الأشربة

[3163] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي واقد الليثي- رضي الله عنه-: (أو تحتفئوا بها بقلا) أكثر الرواة يروونه بالهمز. قال أبو عبيد: هو من الحفاء وهو أصل البردي الأبيض الرطب منه وهو يؤكل. يقول: ما لم يقتلعوا الحفاء فيأكلوه. وأبي أبو سعيد بن الأعرابي الهمز وقال: هو باطل، والبردي ليس من البقل، والبقول لا عرق لها، وإنما تنبت من العشب على وجه الأرض، ولا بردي في بلاد العرب، وإنما الصواب فيه ترك الهمز من الاحتفاء يقال: احتفى الرجل: غذا أخذ من وجه الأرض بأطراف أصابعه. وكل شيء احتفى فقد استؤصل، ومنه إحفاء الشعر. ومن باب الأشربة (من الصحاح) [3167] حديث أنس- رضي الله عن- (أنه نهى أن يشرب الرجل قائما) قد اختلف الأحاديث في

هذا الباب وحديث النهي أكثر وأبعد من التعليل والتأويل. وحديث أبي هريرة الذي يتلو هذا الحديث- مع النهي الذي فيه- ينبئ عن شدة النكير، حيث أمره بالتكلف للقيء فإن الاستقاء والتقيء: هو أن يتكلف الرجل القيء. وحديث ابن عباس: (أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بدلو من ماء زمزم) يأول على أنه شرب قائما؛ لأنه لم يجد موضع القعود لازدحام الناس على زمزم، وابتلال المكان مع احتمال النسخ، فقد روي عن جابر أنه لما سمع رواية من روى أنه شرب قائما [132/ب] قال: قد رأيته صنع ذلك، ثم سمعته بعد ذلك ينهي عنه. على هذا الوجه يمكن التوفيق بين تلك الأحاديث. [3170] ومنه حديث جابر- رضي الله عنه- (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على رجل من الأنصار ومعه صاحب له فسلم فرد الرجل وهو يحول الماء) الحديث. يحول الماء أي: ينقله من عمق البئر إلى ظاهرها. وفيه: (إن كان عندك ماء بات في شنة وإلا كرعنا) لشن والشنة: القربة الخلق، وكأن الشنة هي الصغيرة من الشنان. وكانوا يردون الماء من الليل في الشنان؛ لأنها أبلغ في التبريد. وكرع في الماء يكرع كروعا: إذا تناوله بفيه [من] موضعه من غير أن يشرب بكفيه ولا بإناء. وفيه: (ثم حلب فيه من داجن) قال ابن السكيت: شاة داجن إذا ألفت [البيوت] واستأنسن. قال: ومن العرب من يقولها بالهاء. [3171] ومنه حديث أم سلمة- رضي الله عنها- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (الذي يشرب في إناء

الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم) قال أبو منصور الأزهري: يجرجر أي: يحدر فيه، فجعل للشرب والجرع جرجرة. وهي: صوت وقوع الماء في الجوف. وقال الزجاج: يجرجر في جوفه أي: يردده فيه. قلت: كأنه ذهب في ذلك إلى جرجرة البعير وهو: صوت يردده في حنجرته. وقيل: الجرجرة صب الماء في الحلق. وعلى كلا الوجهين يروى الحديث فترفع الراء من (نار جهنم) بالفعل اللازم وتنصب بالمعتدى منه. (ومن الحسان) [3180] حديث أبي سعيد الخدري (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن النفخ في الشراب) قلت: إنما نهى عن

باب النقيع والأنبذة

النفخ والتنفس فيه؛ لأن الماء للطفه ورقته تسرع إليه الاستحالة بالرائحة الكريهة، فإذا تنفس فيه الإنسان أثر فيه النكهة التي تتولد من خلوف الفم، فيتأذى به الشارب ولا يستمرئه، ويدخل في معنى ذلك الأشربة. ومن باب النقيع والأنبذة (من الصحاح) [3187] قول عائشة- رضي الله عنهما- في حديثها-: (وله عزلاء) العزلاء: فم المزادة الأسفل والجمع العزالي بكسر اللام، ولك أن تفتحها مثل الصحارى والصحاري.

باب تغطية الأواني

(ومن الحسان) [3192] حديث أبي مالك الأشعري- رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (ليشربن ناس من أمتي الخمر) الحديث. المراد منه- والله أعلم-[133/أ] أنهم يتسترون في شربها بأسماء الأنبذة المباحة. ومن باب تغطية الأواني (من الصحاح) [3193] حديث جابر- رضي الله عنه- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا كان جنح الليل ... الحديث). جنح الليل بالفتح وجنحه بالكسر: طائفة من الليل. وأراد به- ههنا- الطائفة الأولى منه عند امتداد فحمة العشاء.

وفيه: (كفوا صبيانكم) أي: امنعوهم عن التردد. وفي رواية (اكفتوا صبيانكم) أي: ضموهم غلى أنفسكم وفيه: (ولو أن تعرضوا) تعرضوا بالكسر والضم أي: ولو أن تضعوا عليه شيئا من خشبة أو غيرها بالعرض. وفيه (فأجيفوا الأبواب) أي: ردوها. يقال: أجفت الباب أي: رددته. [3194] ومنه حديث جابر- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا ترسلوا فواشيكم) الحديث. الفواشي: كل شيء منتشر من الأموال: كالغنم السائمة والإبل وغيرها. يقال: أفشى الرجل: إذا كثرت فواشيه. وفي بعض نسخ المصابيح (مواشيكم) بالميم، وهو خلاف الرواية. وفيه: (حتى تذهب فحمة العشاء) فحمة العشاء: ظلمته. يقال: أفحموا عن العشاء وفحموا أي: لا تيسروا في أول فحمته [حتى] تفور الظلمة، وهو أشد الليل سوادا. [3196] ومنه حديثه الآخر (جاء أبو حميد- رجل من الأنصار- من النقيع ... الحديث). النقيع- بالنون: موضع بالمدينة ينحدر إليه السيل فيستنقعه، ثم ينبت منه الكلأ والعشب والكثير، وهو المرعى الذي حماه عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- لإبل الصدقة.

=====

كتاب اللباس

ومن كتاب اللباس (من الصحاح) [3202] حديث عائشة- رضي الله عنها- (خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات غداة وعليه مرط مرحل ... الحديث). ذات الشيء: نفسه، وإذا استعمل في نحو: ذات يوم، وذات ليلة، وذات غداة، فغنها إشارة إلى حقيقة المشار إليه نفسه. والمرحل بالحاء المهملة هو: الموشي سمي مرحلا؛ لأن عليه تصاوير الرحال. هذا قول أصحاب الغريب. وذكر الجوهري: أنه إزار خز فيه علم. قلت: ولعلهم ذهبوا في هذه التسمية إلى اختلاف الألوان والخطوط التي فيه، فإن الأرحل من الخيل هو الأبيض الظهر، ومن الغنم الأسود الظهر، ويسمون [الطنافس] الحيرية: الرحال، فالأشبه فيه أن يفسر بأنه كان كالموشي للخطوط التي فيه ليوافق النظائر التي ذكرناها، وهو الأولى أن يقدر في لباس لبسه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. [3204] ومنه قول أبي بردة- رضي الله عنه- (أخرجت إلينا عائشة- رضي الله عنها- كساء مبلدا) المبلد: المرقع. يقال: لبدت الثوب ولبدته وألبدته. ومنه قيل للرقعة التي يرقع بها قب القميص: اللبدة. [3207] ومنه قولها في حديثها الآخر: (مقبلا متقنعا) أي: مغطيا رأسه بردائه شبه القناع، يقال: تقنعت المرأة: إذا لبست القناع، وهو من عادة العرب عند الظهائر.

[3208] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث جابر- رضي الله عنه- (والرابع للشيطان) يشير بذلك إلى أن الرغبة في عرض الدنيا ومتاع البيت فوق الحاجة، مما يستدعي إلى التوسع في زخارفها، وذلك مما يرتضيه الشيطان ويستحسنه، فيقع الفراش الرابع من الشطان موقع الوطاء من الإنسان. [3211] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر- رضي الله عنه- (فهو يتجلجل في الأرض) أي: يسوخ فيها أبدا. قال ابن شميل: يتحرك فيها، والجلجلة: الحركة مع صوت، ومنها الجلاجل. [3213] ومنه حديث جابر- رضي الله عنه- (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأكل الرجل بشماله وأن يمشي في نعل واحدة). سبق القول في هذا الحديث في باب الصلاة. ومنه قول المؤلف أو غيره.

[3219] روي عن عمر- رضي الله عنه- (أنه خطب بالجابية) الجابية، مدينة بالشام. [3220] ومنه حديث أسماء بنت أبي بكر- رضي الله عنها- (أنها أخرجت جبة طيالسة) الحديث. الجبة: ثوبان يطارفان ويجعل بينهما فصل، فإن كانت من صوف جازت أن تكون واحدة غير محشوة (وجبة طيالسة) يروى على الإضافة، [وفسر] بالخلق. ومنهم من يقول: جبة طيالسة، على النعت وفيه بعد. وقد فتشت عن بيان ذلك من حيث الوضع اللغوي فلم أجد له ذكرا في كتب اللغة على هذا الوجه، ولا فيما اطلعت عليه من كلام الشارحين وأصحاب الغريب، وأرى في تقريره وجوها ثلاثة: أحدها: أن يقال: إنهم كنوا بالإضافة إلى الطيالسة عن الخلق؛ لأن صاحب الخلق لم يكن ليلبسه إلا بطيلسان ليواري به ما تخرق منه. والثاني: أن تكون الجبة منسوبة إلى الباعة الذين يبيعون الخلقان ويكون بناء الطيالسة من الطلس، مثل بناء الصيارفة من الصرف، والهاء فيه للنسبة يقال: ثوب أطلس أي: خلق، وكذلك الطلس بالكسر، وجمعه أطلاس. ويقال أيضا للأسود الموسخ من طول ما لبس: أطلس. والثالث: أن يكون الصواب فيها جبة أطلاسا. كقولهم: ثوب أخلاق، إذا كانت [134/أ] الخلوقة فيه كله كقولهم: برمة أعشار. ويكون الخطأ من بعض الرواة. وكسروانية: منسوبة إلى كسرى. وفيه: (لها لبنة ديباج) أرادت بها ما يرقع به القب (ولبنة القميص): جربانه.

وفيه: (وفرجيها مكفوفين بالديباج) كذا هو في المصابيح. والصواب: (وفرجاه مكفوفان) الفرج: المشقق، وهو موضع الشق من الجبة والقباء. والكف: عطف أطراف الثوب. فإن قيل: كيف التوفيق بين هذا الحديث، وبين حديث عمران بن حصين- وهو في الحسان من هذا الباب: (ولا ألبس القميص المكفف بالحرير)؟ قلنا: لعله رأى الكراهة في القميص، ولم يراها في الجبة؛ لأن ذلك من أعمال أهل التوضيع، أو كان قوله في حديث عمران متأخرا عن لبس الجبة، وكان قد وهبها لعائشة- رضي الله عنها- فبقيت عندها إلى أن ورثتها أسماء- رضي الله عنها-. [3222] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبد الله بن عمرو- رضي الله عنه- (أحرقها) أراد بالإحراق الإفناء ببيع أو هبة أو إهلاك صبغهما بغسل، فقد ورد الإحراق بمعنى الإفناء والإهلاك وذلك؛ لأنه لم يكن ليأمر بإضاعة المال، وصدر عنه بلفظ الإحراق تنبيها على شدة النكير. وقد روي عن عبد الله بن عمرو من غير هذا الوجه أنه لما عرف كراهته لذلك أتى أهله وهم يسجرون التنور فقذفها فيه، وأتاه من الغد فقال: (يا عبد الله، ما فعلت الريطة)؟ فأخبره فقال: (أفلا كسوتها بعض أهله، فإنه لا بأس بها للنساء). ولو صح الأمر بالإحراق لكان له أن يقول: أمرتني بذلك، فالوجه فيه ما ذكرنا، ويكون الصحابي قد فهم المعنى المراد منه، إلا أ، هـ قد فعل ذلك كراهة لها أو حسب أنها يكره للنساء كما يكره للرجال. (ومن الحسان) [3226] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه-: (إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه)

أي: الحالة التي ترتضى منه في الائتزار هي أن يكون على هذه الصفة. والإزرة بكسر الهمزة: كالجلسة والركبة يقال: ائتزر إزرة حسنة. [3228] ومنه حديث أبي كبشة الأنماري- رضي الله عنه- (كانت كمام أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). الكمام جمع كمة وهي القلنسوة المدورة؛ لأنها تغطي الرأس. وقوله [134/ب] (بطحا) بسكون الحاء أي: لازقة غير ذاهبة في الهواء. وأصحاب الحديث رووه بغير ألف. وكذلك لفظ المصابيح بغير ألف بالتنوين وهو خطأ، فلعل بعضهم رواه من كتاب كذلك فاتبع الرواة رسم خطه، وهذا دأبهم، ولا يتخطون اللفظ المروى عنه وإن كان خطا. وهذا الحديث رواه عن أبي كبشة عبد الله بن بشر أبو سعيد وقد تكلم فيه الجمهور. وحديثه هذا من جملة المناكير، وهو مما تكلفنا بإيضاحه في [عنوان الكتاب].

[3239] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عائشة- رضي الله عنها- (ولا تستخلقي ثوبا حتى ترقعيه). تستخلقي بالقاف أي: لا تعديه خلقا، واستخلق نقيض استجد، ومن الناس من يرويه بالفاء من الخلف، وهو العوض، ولفظ الحديث يشهد بفساده، وهو أن استعمال الاستخلاف على هذا المعنى إنما يصح مع (من) الجارة. تقول: استخلفت منه، وأما قولك: استخلفته أي: جعلته خلفيتي، فلا يستقيم هنالك. وهذا حديث فيه مقال عند أهل النقل من قبل صالح بن حسان، فإنه منكر الحديث. [3240] ومنه حديث أبي أمامة-رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن البذاذة من الإيمان) البذاذة:

رثاثة الهيئة، وترك ما يدخل في باب الزينة. يقال: رجل بذ الهيئة وباذ الهيئة، أي: رث اللبسة وفي هيئته بذاذة. والمراد من الحديث: أن التواضع في اللباس والتوقي عن التأنق في الزينة من أخلاق أهل الإيمان، والإيمان هو الباعث عليه. [3241] ومنه حديث ابن عمر- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (من لبس ثوب شهرة ... الحديث). الشهرة: ظهور الشيء في شنعة حتى يشهره الناس ويشتهر هو به، ويكون ذلك فيما لا يحل لبسه من الثياب، فإن الوعيد على المباح غير جائز، اللهم إلا أن يدخله فساد القصد، كالذي يلبس لباسا يريد به ليشهر نفسه في الناس والزهد والتقشف، أو الذي يتخذ لباسا لا يشاكل لباس أهل الدين وذوي المروءة؛ ليجعل نفسه به ضحكة بين الناس [كالمساخرة] وإن ذهب فيه مأول إلى الاشتهار بالعمل الذي يراد به المراءاة، فله محمل؛ فإن الكناية بالثوب عن العمل شائع في كلامهم.

[3250] ومنه حديث أبي ريحانة- رضي الله عنه- (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عشر: عن الوشر والوشم ... الحديث). الوشر: أن تحدد المرأة أسنانها وترققها تشبها بحديثات الأسنان، وهي الواشرة. و (المؤشرة): التي تسأل أن يفعل بها ذلك. وقد استحقا اللعن على صنيعها لما في ذلك من التغرير، وتغيير خلق الله. وفيه: (وعن مكامعة الرجل الرجل) المكامعة: المضاجعة، والكميع: الضجيع. وفيه: (لبس الخاتم إلا لذي سلطان). قلت: قد ذهب إلى هذا الحديث بعض السلف، والأكثرون لم يروا به بأسا؛ لما في الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يلبس خاتما من ذهب ثم قام فنبذه، وقال: لا ألبسه) [وفيه: فنبذ] الناس خواتيمهم) وهذا يدل على أن الصحابة كانوا يلبسون الخواتيم. قال أبو جعفر الطحاوي: فإن قيل: كيف يحتج بهذا الحديث، وهو منسوخ. قلنا: إن الذي احتججنا به من الحديث ليس بمنسوخ، وإنما المنسوخ منه لبس خاتم الذهب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولغيره من أمته، ولما كان هو وغيره في ذلك سواء قبل النسخ، [فإن] النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يمنعه النسخ عن التختم بالفضة، دل ان الحكم أول في التختم باق على حاله بعد ما نسخ من التختم بالذهب وأن حكم غيره بعد النسخ كحكمهم فيه قبل النسخ). وهذا الذي قاله صحيح، غير أنه لا يحكم بكون الأمر ثابتا على ما كان عليه احتمال أن يكون حديث أبي ريحانة متأخرا فيقال إذاك: إن تختم من تختم من الصحابة، ومن بعدهم من التابعين، وأعلام الأمة ممن لم يكن بذي سلطان، قد دل على نقل الحكم على ما كان عليه من الإباحة. قلت: وأرى الوجه فيه أن يحمل النهي على أنه كره التختم للزينة المحضة التي لا يشوبها أمر من باب المصلحة، ورأى ذلك لذي سلطان؛ لأنه يحتاج إليه في حفظ الأموال، [وجنس] الحقوق، وختم الكتب ونحوها. ويدخل في معناه من شاركه في معنى من تلك المعاني، واحتاج إليه لحفظ مال أو ضبط بضاعة أو صيانة أمانة أو نحو ذلك؛ لئلا يعطل شيء من الأحاديث التي وردت في هذا الباب، ولا يعلل بعضها ببعض، بل يسلك بها سبيل التوفيق.

[3251] ومنه حديث علي- رضي الله عنه- (نهاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن خاتم الذهب وعن لبس القسي والمياثر) تفسير القسي والمياثر قد مضى فيما تقدم من الكتاب. [3252] ومنه حديث معاوية- رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تركبوا الخز ولا النمار) يعني بالنمار: جلود النمور. والصواب فيه: النمور، وقد روي كذلك، وإنما نهي عنهما لما فيهما من الزينة والخيلاء. وقد قيل: إنما نهي عن جلود النمور؛ لأنها من زي العجم. وفي الحديث (أن أبا أيوب أتى بدابة سرجها نمور فنزع الصفة فقيل: الجديان نمور، فقال: إنما نهي عن الصفة. [3254] ومنه قول أبي رمثة التيمي- رضي الله عنه- في حديثه (وبها ردغ من حناء): أي: لطخ. يقال به ردغ من زعفران. أي: لطخ وأثر. وأبو رمثة هذا من تيم الرباب. ومنهم من قال: التيمي، مكان التيمي. [3255] ومنه قول أنس- رضي الله عنه- في حديث (وعليه ثوب قطر قد توشح به) القطر بكسر القاف: ضرب من [برود] اليمن فيه حمرة يقال لجمعها القطرية. وقطر بتحريك الطاء: موضع. قال أبو منصور الأزهري: أظن القطرية نسبت إليه، والأصل: قطري. قال جرير: لدي قطريات إذا ما تغولت أراد نجائب. نسبها إلى قطر. وعنه أيضا القطرية: ثياب حمر لها أعلام فيه بعض الخشونة منسوبة إلى قطر موضع بين عمان وسيف البحر. وأنشد: كساك الحنظلي كساء خز ... وقطريا فأنت به ثقيل قلت: والأظهر أن القول الأول من أبي منصور كان قبل التحقق والمتحقق فيه هو الثاني.

[3256] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عائشة- رضي الله عنها-: (قد علم أني من أتقاهم لله وآداهم للأمانة) يقال: هو آدى منك للأمانة، بمد الألف. [3257] ومنه حديث عبد الله بن عمرو- رضي الله عنه- في حديثه (وعلى ثوب مصبوغ بعصفر موردا) أي: صبغا موردا أقام الوصف مقام المصدر الموصوف. والمورد: ما صنع على لون الورد، وهو دون المضرج. [3258] ومنه حديث عامر بن عمرو المزني- رضي الله عنه- (رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنى يخطب على بغلة وعليه برد أحمر وعلى يعبر عنه) معنى قوله: (يعبر عنه) أي: يبلغ؛ وذلك ان القول لم يكن ليبلغ أهل الموسم ويسمع سائرهم الصوت الواحد، لما فيهم من الكثرة، ولما يعلوهم من الجلبة والدوى، فافتقر أن يقيم من كل صقع مبلغا حتى ينتهي إليهم كلامه، وكان المبلغ يسمعه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يؤديه بأعلى صوته إلى من وراءه، فيحتمل أن عليا- رضي الله عنه- تفرد يوم خطب بمنى لضيق المكان وتقارب الصدفين، ويحتمل أن قد كان معه غيره فلم يذكره الراوي، وأما يوم الحج الأكبر فقد أقيم لهذا الأمر جماعة، وكانوا يصرخون صراخا. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ولا يؤدي منى إلا علي) فإن ذلك حين [135/أ] بعثه إلى مكة ليقرأ سورة براءة على أهل الموسم، وكان من مذهب العرب أن لا يبلغ عنهم إلا من يعد في جملتهم ويختص بهم قرابة ورحما. وهذا الحديث مما يزعم فيه طائفة من أهل النقل أن أبا معاوية الضرير أخطأ فيه؛ لأن يعلي بن عبيد قال فيه: عن هلال بن عامر عن رافع بن عمرو. وقال أبو معاوية: عن هلال بن عامر عن أبيه.

[3261] ومنه حديث دحية بن خليفة الكلبي- رضي الله عنه- (أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بقباطي) الحديث. قباطي بفتح القاف جمع قبطية وهي ثياب بيض رقاق تتخذ من كتان بمصر، وقد تضم القاف؛ لأنهم يغيرون في النسبة كما قالوا: سهلى ودهرى. [3262] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أم سلمة- رضي الله عنها- (لية لا ليتين) أمرها أ، تلوى الخمار على رأسها وما تحت الحنك عطفة واحدة ولا تجعلها ليتين فتكون مشتبهة بالمتعممين.

باب الخاتم

ومن باب الخاتم (ومن الصحاح) [3268] حديث أنس-رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لبس خاتم فضة في يمينه ... الحديث) قلت: قد خالف هذا الحديث حديثه الآخر الذي يتلو هذا الحديث، ولا أرى القول برد أحدهما بالآخر؛ لأنهما صحيحان، ولا الذهاب في أحدهما إلى النسخ؛ لأنه حدث بهما بعد ارتفاع النسخ بوفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يكنا لصحابي ليتحدث بالناسخ مع المنسوخ من غير بيان، مع علمه بذلك، أو يذكر السنة المتروكة وقد عرف أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - عدل عنها، ولا أن يقدر في أحدهما النسيان عليه عند كبر سنه؛ لثبوت كل واحد من الأمرين برواية غيره، فإن حديث اليمين رواه أيضا عبد الله ب جعفر وابن عمر وابن عباس وعائشة، وحديث اليسار روي عن ابن عمر، كما روي عن أنس، فعلمنا أنه صنع الأمرين، ولم يحط علما بالمتقدم والمتأخر، إلا فيما يقوله الفقهاء: أنه كان يتختم في يمينه، ثم تحول إلى يساره، ويروون فيه حديثا، وواها لها من حجة لو استبان لنا غي من رشده، فالوجه فيه أن يقال: إنه ارتضى كل واحدة من الخصلتين التختم في اليمين فلكرامة اليمين واستحقاقها للتقديم على صاحبتها في المعاني المحمودة [135/ب] وأما اليسار فلأنه جعل العبرة فيه للفعل لا للمحل، وذلك أنه إذا تختم في يساره يصير الفعل منسوبا إلى اليمين؛ لأن التختم والنزع يصدران من قبل اليمين، فلم يخل إذا أحد الأمرين من معنى التيمن هذا هو الوجه في التوفيق بين الروايتين. وأما القول فيه من حيث الرواية، فإن أحاديث اليمين أكثر وأسلم من الاختلاف؛ وذلك لأن الذي يروي حديث اليسار يروي حديث اليمين، وقد تفرد بحديث اليمين جماعة قد سبق

ذكرهم، والعجب من الفئة المتشيعة وتشددهم في اختصاص اليمين، حتى يجعلوه شعارا لمذهبهم. والصحيح من السبطين الحسن والحسين- رضي الله عنهما- أنهما كانا يتختمان في اليسار [والله أعلم]؟ (ومن الحسان) [3274] قول معاوية- رضي الله عنه- في حديثه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (وعن لبس الذهب إلا مقطعا) أوله أبو سليمان الخطابي وأحله محل التنزيه والكراهة فجعل النهي مع الاستثناء مصروفا إلى النساء. وقال: أراد بالمقطع: الشيء اليسير نحو الشنف والخاتم. كره من ذلك الكثير الذي هو عادة أهل السرف وزينة أهل الخيلاء والكبر. واليسير ما لا تجب الزكاة فيه. وهذا تقدير جيد يشير إلى معناه قوله - صلى الله عليه وسلم -: (يا معشر النساء أما لكن في الفضة ما تحلين به) غير أن لفظ حديث معاوية ما هو بمنبئ عن ذلك، ولا مميز في صيغة النهي بين الرجال والنساء، ثم إنه رتب النهي عن لبس الذهب على النهي من ركوب النمور، وذلك عام في حق الرجال والنساء، فيحتمل أن معاوية روى النهي عن لبس الذهب كما رواه غيره، ثم رأى أن اليسير التافه منه إذا ركب على الفضة التي أبيحت للرجال فيحلى به قبيعة السيف أو حلقة المنطقة أو يشد به فص الخاتم غير داخل في النهي، قياسا على اليسير من الحرير، فاستدرك ذلك بالاستثناء من كلامه، والله أعلم بحقيقة ذلك. [3275] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث بريدة- رضي الله عنه- (ما لي أرى عليك حلية أهل النار) قلت: أظهر له بالنكير وشدة القول فيه شدة كراهيته لذلك [136/أ] والحديث الذي أورده المؤلف بعد هذا الحديث عن سهل بن سعد على سبيل المدافعة ورد الأول بالآخر فليس على ما توهمه، وليس من الاحتياط أن يعطل من الأحاديث التي لم يتفق أهل النقل على أنها ساقطة الاعتبار من غير أن يتحقق فيه النسخ، بل يوفق بينه وبين ما يخالفه ما أمكن، وقد نظرنا في هذين الحديثين فاستبان لنا في التوفيق بينهما أن نقول: معنى قوله: (ولو خاتما من حديد) هو المبالغة في بذل ما يمكنه تقدمه للنكاح، وإن كان شيئا يسيرا على ما بيناه في بابه، كقول الرجل: أعطني ولو كفا من تراب. وخاتم الحديد- وإن نهى عن التختم به- فإنه لم يدخل بذلك في جملة ما لا قيمة له، فإن الحديد من العروض التي لا تسقط قيمتها وإن قلت.

هذا [ويحتمل] أن يكون النكير على التختم بخاتم الحديد بعد قوله في حديث سهل بن سعد: (التمس ولو خاتما من حديد) فنقول: إن حديث سهل بن سعد كان قبل استقرار السنن واستحكام الشرائع، وما في حديث بريدة بعد ذلك. ويقال: إنما قال: (حلية أهل النار)؛ لأنه زي بعض الكفار وهم أهل النار. قلت: ويحتمل أنه ذهب فيه إلى السلاسل والأغلال التي يعذبون بها في جهنم، وتلك في المتعارف بيننا متخذة من الحديد [والله أعلم]. [3276] ومنه حديث عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكره عشر خلال: الصفرة ... الحديث) الصفرة: فسرت في الحديث. وقد عرفنا من غير هذا الحديث أنه كره ذلك للرجال دون النساء، وإنما أهل الحصابي بيانه اعتمادا على اشتهار الأمر فيه. وفيه (تغييب الشيب) يريد التغيير الذي يبلغ به إلى السواد فيتشبه بالشبان إخفاء لشيبه وتعمية على أعين الناظرين، دون الخضاب بالحناء، وما يضاهيه، فإنه تغير لا تلتبس معه حقيقة الشيب. وفيه: (والتبرج بالزينة في غير محلها) التبرج: إظهار المرأة زينتها ومحاسنها للرجال، فكأنهم شبهوها في إظهار ذلك بالثوب المبرج وهو المعين من الحلل. وقيل: هو الثوب الذي صور عليه البروج، أو سمي تبرجا لخروج المرأة من برجها أي: قصرها [136/أ] ومحلها- بكسر الحاء- حيث يحل لها إظهار الزينة. ويبينه قوله تعالى {ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن} الآية. ومحل الهدى: حيث يحل فيه نحرها. وفيه (والضرب بالكعاب) وهو النرد وما كانفي معناه. وفيه (والرقي إلا بالمعوذات) يريد بالمعوذات: الدعوات المأثورة، وأسماء الله الحسنى، وما يجري مجرى ذلك. وفيه تنبيه على الترقي عن أباطيل أهل الجاهلية فيما كانوا يتعاهدونه في الرقي من أسماء الشياطين، والإتيان فيها بما يخل بالعقائد، واستعمال ألفاظ لا يعرف معناها. ولهذه المعاني أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرض الرقي عليه. وفيه (وعقد التمائم) يريد بها التمائم التي تحتوي على ما ذكرناه من رقي أهل الجاهلية. وفيه: (وعزل الماء لغير محله) أي: صبه في غير الموضع الذ يحل. قال الخطابي: وسمعت في هذا الحديث (وعزل الماء

عن محله) قلت: وأكثر الروايات فيه بفتح الحاء. والكسر أعرفه صحيحا من حيث المعنى، ولا أحققه رواية. ومحل [الماء هي] المرأة، كره عزل الماء عنه؛ لأن فيه قطع النسل. وفيه (وفساد الصبي) وهو أن يطأ المرأة المرضع، فمن الناس من يرى فساده من قبل الحبل، فإنه يستضر بذلك، ومنهم من يرى وطأ المرأة حين ترضع مضرا بالرضيع، مخلا بقوة اللبن. [3279] ومنه حديث عرفجة بن أسعد التيمي- رضي الله عنه- (أن أنفه قطع يوم الكلاب) الكلاب بالضم والتخفيف ماء عن يمين جبلة وشمام، وهما جبلان، وللعرب به يومان مشهوران في أيام أكثم بن صيف، يقال لهما: الكلاب الأول، والكلاب الثاني. [3280] ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أحب أن يحلق حبيبه ... الحديث) حبيبه- بالحاء المهملة، وأرد ابه: من يحبه من ولد أو زوجة. ولا يحمل هذا النكير على التهديد بل على النظر له. والمعنى: أن ذلك يضر بحبيبه مضرة النار. ويحمل الحديث الذي يتلوه على أن المراد منه ما لا يؤدي زكاته، لتتفق الأحاديث التي وردت في هذا الباب [137/أ] فلا يضرب بعضها ببعض، والتحليق في هذا الحديث راجع إلى معنى قولهم: إبل محلقة: إذا كان وسمها الحلق.

باب النعل

ومن باب النعل (من الصحاح) [3283] حديث أنس- رضي الله عنه- (أن نعل النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لها قبالان) أي: زمامان يجعلان بين أصابع الرجلين. والقبال- بالكسر: الزمام الذي يكون بين الأصبع الوسطى والتي تليها.

باب الترجل

ومن باب الترجل (من الصحاح) [3294] حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الفطرة خمس) الحديث. قد ذكرنا فيما تقدم من الكتاب معنى الفطرة، والوجوه التي تتصرف عليها، والكل راجع إلى معنى الابتداء بالشيء وإبداعه. وقد فسرت في هذا الحديث، وفيما يجري مجراه من الأحاديث بالسنة؛ نظرا إلى أنها من سنن الأنبياء المعزبة إليهم في أول الوضع. فإن قيل: فكيف [التوفيق] بين هذا الحديث وبين حديث عائشة (شعر من الفطرة) قلنا: هو أن نقول: يحتمل أنه أشار بهذا الحديث إلى معظمها، ويحتمل أنه أراد به حصر ما يختص بالتناول في سنة الأنبياء من الفضولات والزوائد المتصلة بالبدن، فإنها لا تتعدى عن هذه الخمس. [3295] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر- رضي الله عنه- (واحفوا الشوارب): أحفوا مقطوعة الألف أي: بالغوا في أخذها حتى تلزقوا الجز بالشفة. والأصل في الإحفاء: الاستقصاء في الكلام. وفي معناه: (انهكوا الشوارب) في الرواية الأخرى، والنهك: يستعمل في الطعام والشتم والعقوبة والقتال وغير ذلك. ويراد منه: المبالغة في ذلك الشيء. ومنه الحديث: (انهكوا الأعقاب أو لتنهكنها النار) أي: بالغوا في غسلها. وتنظيفها في الوضوء. وفي الرواية الأخرى: (واعفوا اللحى) هو مثل قوله: (أوفروا اللحى) أي: لا تأخذوا منها حتى تكثر. يقال: عفا البنت والشعر وغيرهما أي: كثر. وعفوته أنا وأعفيته، لغتان: إذا فعلت به ذلك. وعلى هذا فللراوي أن يقطع الهمزة ويوصلها.

[3298] ومنه قول جابر- رضي الله عنه- في حديثه (كالثغامة بياضا) الثغام بالفتح: نبت يبيض إذا يبس ويشبه [138/أ] به الشيب، الواحدة ثغامة. ويقال له بالفارسية درمنه اسفند. [3302] ومنه حديث ابن عباس- رضي الله عنهما-: (لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - المخنثين من الرجال، والمترجلات من النساء). قلت: وفي بعض طرق هذا الحديث: (والرجلة من النساء)] وهي: التي تشبه بهم في زيهم. وهذه الرواية أشبه بالصواب؛ لأن [الرجل] لم يستعمل في هذا المعنى فيما وجدناه من كتب أهل اللغة. ويلحق بالمكروه من تشبههن بالرجال في زيهم: رفع الصوت والمشي وما يضاهي ذلك، مما لا يحمد منهن. وأما التشبه في العلم والرأي فمحمود، ومن ذلك قولهم: (كانت عائشة-رضي الله عنها- رجلة الرأي) أي: كان رأيها رأي الرجال.

[3306] ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- (العين حق) الحديث. أراد بالعين: الإصابة بالعين. ومعنى أنه حق أي: كائن مقضي به في الوضع الإلهي، لا شبهة في تأثيره في النفوس والأموال. [3310] ومنه حديث نافع- رضي الله عنه- كان ابن عمر- رضي الله عنهما- إذا استجمر استجمر بألوة غير مطراة). الحديث. الألوة بفتح الهمزة وضمها: العود الذي يتبخر به. قال الأصمعي: وأراها كلمة فارسية عربت. والمطراة هي: المرباة بما يزيد في الرائحة من الطيب يقال: عود مطرى، ومطير أيضا، وهو مقلوب من مطرى. قال الشاعر: إذا ما مشيت نادى بما في ثيابها ... ذكى الشذى والمندلي المطير

[3321] ومن الحسان قول أنس- رضي الله عنه- في حديثه (ويكثر القناع) قلت: لم نجد في هذا اللفظ عن أحد من أهل المعرفة بالحديث ومعانيه ما يحقق لنا المعنى المراد منه. ولم نجد هذا الحديث بزيادة لفظ يهتدى به إلى المعنى. والذي يستبين لنا منه أنه أراد بذلك أحد الشيئين إما اتخاذه القناع على رأسه شبه الطيلسان على رأسه، وإما اتخاذه ذلك عند التدهن؛ لئلا تتسخ العمامة منه. والقناع: أوسع من المقنعة، ويكون فيه حذف على التأويلين أي: يكثر اتخاذ القناع.

[3325] ومنه قول فضالة بن عبيد الليثي- رضي الله عنه- في حديثه (كان ينهانا عن كثير من الإرفاه) الإرفاه، على زنة المصدر هو: التدهن والترجيل كل يوم. وإنما أدخل فيه الكثير وهو فعل واحد لكونه مشعرا بالمواظبة على أنواع من الزينة. وأصل الكلمة من الرفه، وهو ورود الإبل الماء كل يوم، ومنه أخذت الرفاهية. كره ذلك؛ لأنه من دأب أهل الخفض والدعة. ومن الناس من يفتح الهمزة منه ظنا [138/أ] منه أنه جمع رفه، وليس كذلك، ولعل أهل اللغة جعلوا الإرفاه عبارة عن التوسع في الزينة؛ نظرا إلى أنه دخول في الرفه، كما جعلوا الإفطار تارة عبارة عن الدخول في وقت الإفطار. [3329] ومنه حديث ابن عمر- رضي الله عنه- (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يلبس النعال السبتية) السبت- بالكسر: جلود البقر المدبوغة بالقرظ يحذى منها النعال السبتية. قال الأزهري: كأنها سميت سبتية؛ لأن شعرها قد سبت عنها أي: حلق وأزيل. وقيل: سميت سبتية؛ لأنها انسبتت بالدبغ أي: لانت.

[3337] ومنه حديث عبد الله بن جعفر (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمهل آل جعفر ثلاثا). الحديث. إنما قال: ثلاثا عناية لليالي. وقوله (ادعوا لي بني أخي) أراد عبد الله وعونا ومحمدا بني جعفر بن أبي طالب. وإنما حلق رءوسهم؛ لأنه رأى أمهم أسماء بنت عميس حقيقة بأن تشغل عن ترجيل شعورهم وغسل رءوسهم لما أصابها من الفجيعة، أو لزمها من أمر العدة، أو أهمها من القيام بمصالح نفسها، فأشفق عليهم من الشعث والوسخ والقمل فحلق رءوسهم.

[3338] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أم عطية- رضي الله عنها- (لا تنهكي) أي: لا تبالغي في الخفاض حتى تستأصلي الهن المقطوع منه في الخفاض. وفي غير هذه الرواية عن أم عطية أيضا: (أشمي ولا تنهكي) أي: لا تبالغي في إسحاته. وقوله: (لا تنهكي) تفسير لقوله: أشمي. [3342] ومنه قوله ابن عباس- رضي الله عنه- في حديثه (والنامصة والمتنمصة) النامصة: التي تنتف الشعر من الوجه. ومنه قيل للمنقاش: المنماص. والمتنمصة: التي يفعل بها ذلك. [3345] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ثوبان- رضي الله عنه- (اشتر لفاطمة قلادة من عصب وسوارين من عاج) العصب- بكون الصاد: سن دابة بحرية تسمى فرس فرعون، يتخذ من الخرز، يكون أبيض،

ويتخذ منه أيضاً نصاب السكين وغير ذلك. وقد تخبط جمع من أهل العلم في تفسيره، حيث لم يجدوه في كتب أهل اللغة، وذلك مشهور عند أهل اليمن. قال الخطابي في المعالم: العصب في هذا الحديث، إن لم يكن هذه الثياب اليمانية، فلست أدري ما هو. ولا أرى القلادة تكون منها. وذكر الخطابي في تفسير هذا الحديث أن العاج هو الذبل، وهو عظم ظهر السلحفاة البحرية، ونقل ذلك عن الأصمعي. قلت: ومن العجب العدول عن اللغة [138/ب] المشهورة إلى ما لم يشتهر بين أهل اللسان. والمشهور أن العاج: عظم أنياب الفيل، على هذا تفسيره الناس أولهم وآخرهم. [3346] ومنه حديث ابن عباس- رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (اكتحلوا بالإثمد فإنه يجلو البصر وينبت الشعر) الإثمد: هو الحجر المعدني الذي يكتحل به. وقوله: (ينبت الشعر) أي: شعر الأهداب الذي ينبت على أشفار العين. [3347] ومنه حديث الآخر (إن خير ما تداويتم به اللدود والسعوط) اللدود: ما سقي المريض في أحد

شقي فيه من الدواء. وقد سبق القول فيه. والسعوط: ما يصب منه في الأنف. والمسعط: الإناء يجعل فيه السعوط، وهو أحد ما جاء بالضم مما يعتمد عليه. (والمشي): المسهل من الدواء. يقال: شربت مشيا ومشوا يعني: دواء المشي. وفيه: (وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث عرج به ما مر على ملأ) الحديث. لم يسند قوله هذه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. غير أنا نعلم أن الصحابي لا يقدم على مثل ذلك إلا بالتلقي من قبل الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو ممن سبع عنه. ووجه مبالغة الملائكة في الحجامة سوى ما عرفوا فيها من المنفعة التي تعود إلى الأبدان هو أن الدم مركب القوى النفسانية الحائلة بين العبد وبين الرقي إلى ملكوت السموات، والوصول إلى الكشوف الروحانية، وبغلبته يزداد جماح النفس وصلابتها، فإذا نزف الدم يورثها ذلك خضوعا وخمودا ولينا ورقة، وبذلك تنقطع الأدخنة المنبعثة من النفس الأمارة، وتنحسم مادتها، فتزداد البصيرة نورًا إلى نورها.

باب التصاوير

ومن باب التصاوير (من الصحاح) [3354] حديث عائشة- رضي الله عنها- (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يرى في بيته شيئا فيه تصاليب إلا نقضه) أخرج الراوي تصاليب مخرج تماثيل. وقد اختلفا في الأصل؛ فإن الأصل في تصاليب هو التصليب، فكأنهم سموا ما كان فيه صورة الصليب تصليبا تسمية بالمصدر، ثم جمعوه كما فعلوا في تصاوير. وهذا الحديث مخرج في كتاب أبي داود ولفظه (كان لا يترك في بيته شيئا فيه تصليب إلا قصبه) ومعنى قصبه أي: قطعه. ويحتمل أن يكون خلاف اللفظين من بعض الرواة. والحديث على ما في كتاب أبي داود أفصح وأقيس. [3356] ومنه حديثها الآخر (أنها اتخذت على سهوة لها سترا) قيل: السهوة كالصفة تكون بين يدي

البيت. ويقال: هو بيت صغير شبه المخدع [139/أ] وقال ابن الأعرابي: السهوة: الكوة بين الدارين، وهي الكندوج أيضا. وفيه (فاتخذت منه نمرقتين) النمرق والنمرقة: وسادة صغيرة، وكسر النون والراء لغة. وإنما سموا الطنفسة التي فوق الرحل نمرقة. [3362] ومنه حديث ابن عباس- رضي الله عنه- أنه قال: (من تحلم بحلم لم يره كلف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل) حلم يحلم حلما: إذا رأى رؤيا. وتحلم: ادعى ذلك كذبا. والمعنى تحدثه كاذبا بما لم يره في منامه, قال أبو عبيد الله الحليمي: ليس معنى قوله: كلف أن يعقد بين شعيرتين أن ذلك يكون عذابه وجزاءه، ولكن أراد أن ذلك يكون شعاره؛ ليعلم الناس أنه تزور الأحلام في الدنيا. وذلك أن العقد بين الشعيرتين ليس مما يكون ويتأتى في اليقظة، لكن النائم يخيل إليه ذلك فيجعل اشتغاله في اليقظة بما لا يليق إلا بالنوام مما لا إمكان له ولا حقيقة. قلت: وحمله على العذاب أشبه وأولى؛ وذلك أن يعذب حتى يفعل ما كلف ولا يتأتى منه ذلك. يدل عليه بقية الحديث (ومن صور صورة كلف أن ينفخ فيها وليس بنافخ). قلت: وأري الوجه في تخصيص الشعيرتين بالذكر في هذا الموضع أن الرائي إذا رأى ذلك في منامه قضى له في تعبيرها بإدراك أمرين يعسر الجمع بينهما، ويشعر ما لم يكن ليشعر منهما، فالمتحلم لما جمع بين ما لم يكن من صيغة الرؤيا، وبين ما تقتضيه من التأويل على وجه لا يستقيم في البصيرة، كما أنه لا يتصور في البصر، كلف الجمع بين ما يضاهي فريته صورة معنى، وقلب عليه الأمر، فإن الرؤيا ترد في التأويل من الصورة إلى المعنى، وحلمه رد من المعنى إلى الصورة. [3363] ومنه حديث بريدة الأسلمي- رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من لعب بالنردشير) الحديث. النردشير: هو النرد الذي يلعب به، وهو من موضوعات شابور بن أردشير بن بابك. أبوه

أردشير أول ملوك الساسانية، شبه رقعته بوجه الأرض، والتقسيم الرباعي بالفصول الأربعة، والرقوم المجعولة ثلاثين بثلاثين يوما، والسواد والبياض بالليل والنهار، والبيوت الاثنا عشرية بالشهور، والكعاب بالأقضية [139/ب] السماوية واللعب بها بالكسب. فصار اللاعب به حقيقا بالوعيد المفهوم عن تشبيه أحد الأمرين بالآخر؛ لاجتهاده في إحياء سنة المجوس المستكبرة على الله، واقتفاء أبنتيهم الشاغلة عن حقائق الأمور. ولم يصب من جوز اللعب به من غير مخاطرة؛ فإن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - بنى الوعيد فيه والنكير عليه على اللعب فحسب، هذا وقد انتظمت الأخبار الدالة على تحريم اللعب بالنرد قمارا، ودل بعضها على تحريم من غير قمار. وقد روي في الشطرنج حديث مثلما روي في النرد، وذلك الحديث- وإن لم يبلغ رتبة حديث النرد في الصحة- فإن القياس يؤيده، وشدة النكير عن جمع الصحابة وفرقة كثيرة من علماء السلف تعضده، وقد كفانا المفهوم من كتاب الله تعالى قوله: {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون} فكل لهو دعا قليله إلى كثيره، وأوقع العداوة والبغضاء بين العاكفين عليه، وصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، فهو كشرب الخمر في التحريم، فإن الله تعالى جمع بين الخمر والميسر في التحريم، ووصفهما بما وصفهما، ومعلوم أن الخمر- وإن أسكرت- فإن الميسر لا يسكر، ثم لم يكن عند الله تعالى أن افترقهما في ذلك يمنع من التسوية بينهما في التحريم؛ لأجل ما اشتركا فيه من المعاني، فكذلك افتراق اللعب بالنرد والشطرنج وشرب الخمر في أن الشرب يسكر، واللعب لا يسكر لا يمنع عن الجمع بينهما في التحريم؛ لاتفاقهما فيما اتفقا فيه من المعاني، ثم إن ابتداء اللعب يورث الغفلة، فتقوم تلك الغفلة المستولية على القلب مقام السكر، فيغفل ويلهي، فيصد بذلك عن ذكر الله وعن الصلاة. (ومن الحسان) [3365] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- (يخرج عنق من النار) عنق أي: طائفة.

[3369] ومنه حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يتبع حمامة) الحديث. يتبع أي: يقفو أثرها لاعباً بها. وإنما سماء شيطاناً لمباعدته عن الحق، واشتغله بما لا يعنيه، وسماها شيطاناً؛ لأنها أورثته الغفلة عن ذكر الله والشغل عن الأمر [140/أ] الذي كان بصدده في دينه ودنياه.

الطب والرقى

ومن باب الطب والرقى (من الصحاح) [3373] حديث جابر -رضي الله عنه- (رمي أُبَيٌّ يوم الأحزاب) الحديث. من الناس من يصحف في أبي فيظن أنه يريد أباه، وأبو جابر استشهد بأحد، وذلك قبل الأحزاب بسنتين، وإنما أراد أبي بن كعب، والأكحل: عرق في اليد يقصد، ولا يقال: عرق الأكحل. والله أعلم. [3377] ومنه حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: (جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن أخي استطلق بطنه) الحديث. استطلاق البطن: مشيه.

وفيه (صدق الله وكذب بطن أخيك) أي: اخطأ الدواء فلم يصب حظه منه. وقد بيناه في باب الوتر في حديث عبادة: كذب أبو محمد. وإنما أمره بشرب العسل عن الاستطلاق لعلمه بأن الاستطلاق كان من فضله بلغمية فاحتاج معها إلى شرب العسل كرة بعد أخرى حتى يسهل ما بقي من ذلك. [3379] ومنه حديث أنس -رضي الله عنه- (لاتعذبوا صبيانكم بالغمز من العُذرة) العُذرة: وجع يهيج في الحلق من الدم، وكانوا يعالجون منها بغمز الحلق. [3380] ومنه حديث أم قيس بنت مستحصن -رضي الله عنها- (على ما تدغرن أولادكن). الحديث. كانت المرأة إذا أصاب ولدها العُذره عمدت إلى خرقة قتلتها قتلاً شديداً وأدخلتها في أنفه وطعنت به موضع العذرة وهو الخرم الذي بين آخر الأنف وأصل اللهاة، فينفجر منه دم أسود، وربما أقرح الطعن ذلك الموضع، وذلك الطعن كانزا يسمونه الدَّغَر. وفيه: (بهذا العلاق) كذلك رواه البخاري ومسلم وفي كتاب مسلم أيضاً (بهذا الإعلاق) وهو أولى الروايتين وأصوبها [140/ب] والإعلاق: هو الدَّغَر. يقال: أعلقت المرأة ولدها من العذرة أي: دفعتها بيدها. ومن الدليل على صحة هذه الرواية قول أم قيس في بعض طرق هذا الحديث (وقد أعلقت عليه) وفسره يونس بن يزيد وهو الراوي عن ابن شهاب أعلقت: غمزت. هذا لفظ كتاب مسلم، فأما تأويل الحديث على رواية من روي بهذا العلاق، وقد قيل: إن المرأة كانت إذا فعلت ذلك علقت عليه علاقاً. والمعنى بسبب هذا العلاق؛ وذلك لأن المعالجة كانت بغمز ثم تعلق، ولا أراه يستقيم لا لفظاً ولا معنى. وقال مصعب بن عبد الله: إنما سميت عذرة؛ لأنها تصيب الصبيان عند طلوع في أوان الحر. وفيه (عليكم بهذا العود الهندي) يريد: القسط. وقد أعرب عنه في غير هذه الرواية. وفي بعض طرقه (الكُسْت) والقاف والكاف يبدل أحدهما عن الآخر، وكذلك التاء والطاء، وفي رواية (الكط) وهو من عقاقير البحر، أمر أن يؤخذ ماؤه فيسعط به؛ لأنه يصل إلى العذرة فيقبضها. [3381] ومنه حديث ابن عمر -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (الحُمَّى من فيح جهنم فأبردوها بالماء) أي: اسقوا المحموم الماء ليقع به التبريد. وقد وجدت في كلام بعض الأطباء المتدينة أن ذلك من أنفع

الأدوية وأنجعها في التبريد عن الحميات الحادة؛ لأن الماء ينساغ بعفو وسهولة، فيصل إلى أماكن العلة، ويدفع حراراتها، من غير حاجة إلى معاونة الطبيعة، فلا يشغل بذلك عن مقاومة العلة. [3382] ومنه حديث أنس -رضي الله عنه- (رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الرقية) الحديث. قلت: الرخصة إنما تكون بعد النهي، وكان - صلى الله عليه وسلم - قد نهى عن الرُقي لما عسى أن يكون فيها من الألفاظ الجاهلية، وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم من الكتاب، فانتهى الناس [141/أ] عن الرقى، فرخص لهم فيها إذا عربت عن الكلمات التي أشرنا إليها. وفيه (والحُمة والنملة) الحمة بالتخفيف: سَمُّ الهامة كالحية والعقرب وغيرها والنمل والنملة: بثور صغار مع ورم يسير تنقرح فتسعى وتتسع ويسميها الأطباء: الذباب. [3384] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أم سلمة -رضي الله عنها- (فإن بها النظرة) يقول: بها عين أصابتها من نظر الجن. [3387] ومنه حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- (العين حق) الحديث. أي: الإصابات بالعين من جملة ما يحقق كونه. وقوله: (ولو كان شيء سابق القدر) كالمؤكد للقول الأول. وفيه تنبيه على سرعة نفوذها وتأثيرها في الذوات.

وفيه (وإذا استغسلتم فاغسلوا) كانوا يرون أن يؤمر العائن فيغسل أطرافه وما تحت الإزار فتصب غسالته على المعيون فيستشفون بذلك، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لا يمتنعوا عن الاغتسال إذا أريد منهم ذلك. قلت: وأدنى ما في ذلك دفع الوهم الحاصل من ذلك دفع الوهم الحاصل من ذلك، وليس لأحد أن ينكر الخواص المودعة في أمثال ذلك ويستبعدها من قدرة الله وحكمته، لاسيما وقد شهد بها الرسول -عليه الصلاة والسلام- وأمر به وذلك مذكور في الحسان من هذا الباب في حديث أبي أمامة بن سهل بن حنيف. (ومن الحسان) [3389] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عقبة بن عامر -رضي الله عنه- (فإن الله يطعمهم ويسقيهم) أي يمدهم بما يقع موقع الطعام والشراب، فيقويهم على احتمال المكروه، ويهب لهم الصبر على ألم الجوع وسورة العطش، فوق ما كانوا عليه في حال الصحة. [33390] ومنه حديث أنس -رضي الله عنه- (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كوى سعد بن زرارة من الشوكة) الحديث. الشوكة: حمرة تعلو الوجه والجسد. ورجل مشوك: إذا أصابه ذلك. ويقال: شيك الرجل، وكذلك إذا أصابه الشوك. [3393] ومنه حديث أسماء بنت عميس -رضي الله عنها- (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سألها بم تستمشين قالت:

بالشبرم) الحديث. ورد الاستمشاء -ههنا- بمعنى طلب الإسهال. والأصل فيه شرب المشي يقال: شربت مشيا ومشوا. وفي معناه: استمشيت، ولا يستقيم ذلك في هذا الحديث. والشبرم من العقاقير المسهلة، وهو حب شبيه بالحمص. وفيه (حارٌّ حارّ وفي بعض الطرق (حار حِارّ) إتباع له. يقال (حار يار) و (حران يران) وفي بعض الكتب (جار) بالجيم وكذا هو في المصابيح وهو أيضاً إتباع وبالباء في كلامهم أكثر استعمالاً. [3399] ومنه حديث جابر -رضي الله عنه- (أن النبي - صلى الله عليه وسلم -[141/ب] احتجم على وركه من وثء كان به) الوثأ: وجع يصيب العضو من غير كسر، وهو من باب الهمز، ومن الرواة من يترك همزه ويكتبه بالثاء، وكذلك هو في المصابيح، والعامة تقول ذلك، وليس بشيء. [3401] ومنه حديث عبد الرحمن بن عثمان -رضي الله عنه- (أن طبيباً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ضفدع

يجعلها في دواء .... الحديث) يحتمل أنه لم يستغرق الجنس؛ لأنه استفتى في فرد ضفدع كان يريدها لأجل الدواء، وفتح الدال منه غير سديد وإنما هو بالكسر، مثل الخنصر. ولم يكن النهي عن قتلها إبقاء عليها وتكرمة لها، بل لأنه لم ير التداوي بها لرجسها وقذارتها. ويحتمل أنه عرف منها من المضرة فوق ما عرف المتطيب منها المنفعة. [3410] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- و (التولة شرك) التولة والثولة - بكسر الثاء وضمها شبيه بالسحر.

قال الأصمعي: هي ما تحبب المرأة إلى زوجها. وقال ابن الأعرابي: يقال: إن فلاناً لذو ثولات: إذا كان ذا لطف وتأن حتى كأنه يسحر صاحبه. وفبه (وكانت عيني تقذف) على بناء المجهول أي: ترمي بما يهيج الوجع. ويدل على هذا المعنى قولها: فإذا رقاها سكنت، يحتمل أن يكون على بناء الفاعل أي: ترمي بالرمص والماء من الوجع، ولا أحقق أحد اللفظين من طريق الرواية، إلا هو أكبر ظني. [3411] ومنه حديث جابر -رضي الله عنه (سئل -النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النثرة .... الحديث) النشرة: ضرب من الرقية والعلاج، يعالج بها من كان يظن به مس الجن، وسميت نشره؛ لأنهم كانوا يرون أنه ينشر بها عن الملموس ما خامره من الداء قال جرير: أدعوك دعوة ماهوف كأن به .... ما من الجن أو ريحاً من النثر قلت: وفي الحديث (فلعل طباً أصابه) يعني سحراً (ثم نشره بقل أعوذ برب الناس) أي: رقاه. ونشره أيضاً: إذا كتب له النشره، وهي كالتعويذ والرقية، فعلمنا بذلك أن النشرة التي قال فيها: إنها من عمل الشيطان، إنما أراد به النوع الذي كان أهل الجاهلية يعالجون به، ويعتقدون فيه. [3412] ومنه حديث جابر -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ما بالي ما أتيت إن أنا شربت ترياقاً أو تعلقت تميمة) الترياق بكسر التاء: دواء السموم، وإنما تنزه عن شربه لما فيه من الدواء الخبيث، وأما التميمة فأنها في الأصل خرزات كانت العرب تعلقها على أولادهم ينفون بها العين بزعمهم. وقد اتسعوا فيها حتى سموا بها كل عوزة. وفي الحديث: (التمائم والرقى [142/أ] من الشرك) فعلمنا أن المراد به منها ما كان من تمائم الجاهلية ورقاها، على ما بين في غير موضع، فأما القسم الذي يختص بأسماء الله وكلماته، فإنه غير داخل في جملته، بل هو مستحب مرجو البركة، عرف ذلك من أصل السنة، لا ينكر فضله وفائدته.

[3414] ومنه حديث عمران بن حصين -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا رقية إلا من عين أو حمة) المعنى أي: لا رقية أنفع وأجدى من الرقية للمعيون والملوع، ولم يرد نفي الرقية فيما سوى الأمرين، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يرقي أصحاب الأوجاع وذوي الأمراض بكلمات الله التامات، وآياته المنزلات المباركات. [3417] ومنه حديث الشفاء بنت عبد الله القرشية العدوية -رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها وهي عند حفصة (آلا تعلمين هذه رقية النملة كما علمتها الكتاب) يرى أكثر الناس أن المراد من النملة ههنا هي التي يسميها المتطيبون الذباب. وقد خالفهم فيه الملقب بالذكي المغربي النحوي فقال: إن الذي ذهبوا إليه من معنى هذا القول شيء كانت نساء العرب تزعم أنه رقية النملة، وهو من الخرافات التي كان ينهى عنها، فكيف يأمر بتعليمها إياها، وإنما عني برقية النملة قولاً كن يسمينها رقية النملة وهو قولهن: العروس تنتعل، وتختضب وتكتحل، وكل شيء [تنعل] غير أنها لا تعصي الرجل. فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا المقال تأنيب حفصة والتعرض بتأديبها، حيث أشاعت السر الذي استودعه إياها، على ما شهد به التنزيل، وذلك قوله تعالى} وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً {الآية. على هذا المعنى نقله الحافظ أبو موسى -رضي الله عنه- في كتابه. قلت: وإن يكن الرجل متحققا بهذا اللغز، عارفا به من طريق النقل، فالتأويل ما ذهب إليه. [3418] ومنه قول عامر بن ربيعة في حديث سهل بن حنيف (ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة) المخبأة: الجارية المعصر التي لم تتزوج بعد؛ لأن صيانتها أبلغ من صيانة المتزوجة.

باب الفال والطيرة

[3420] ومنه حديث عائشة -رضي الله عنها- (قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل رئى فيكم المغربون) بتشديد الراء وكسرها، وهم: الذين يشترك فيهم الجن على ما في الحديث، سموا المغربين؛ لأنه دخل فيهم عرق غريب أو جاء من نسب بعيد. ومن باب الفال والطيرة (من الصحاح) [3422] حديث سعد بن أبي وقاس -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا عدوى) الحديث. العدوى ههنا مجاوزة العلة من صاحبها إلى غيره. يقال: أعدى فلان فلاناً [142/ب] من خلقه أي: من علة به. وذلك على ما يذهب إليه المتطيبة في علل سبع: الجذام، والجرب، والجدري، والحصبة، والبخر، والرمد، والأمراض الوبائية. وقد اختلف علماء الأمة في تأويل هذا الحديث فمنهم من يقول: إن المراد منه نفي ذلك وإبطاله على ما يدل عليه ظاهر الحديث، والقرائن المنسوقة على العدوى وهم الأكثرون، ومنهم من يرى أنه لم يرد إبطالها فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (وفر من المجذوم فرارك من الأسد) وقال: (لا يوردن ذو عاهة على مصح) وإنما أراد بذلك نفى ما كان يعتمده أصحاب الطبيعة، فإنهم كانوا يرون العلل المعدية مؤثرة لا محالة، فأعلمهم بقوله هنا أن الأمر ليس على ما يتوهمون، بل هو متعلق بالمشيئة، إن شاء كان، وإن لم يشأ لم يكن، ويشير إلى هذا المعنى قوله: (فمن أعدى الأول) أي: إن كنتم ترون أن السبب في ذلك العدوى لا غير، فمن أعدى الأول؟ وبين بقوله: (وفر من المجذوم) وبقوله: (لا بوردن ذو عاهة على مصح) أن مداناة ذلك من أسباب العلة فليتقه كما اتقاه من الجدار المائل، والسفينة المعيوبة. وقد رد الفرقة الأولى على الثانية في استدلالهم

بالحديثين أن النهي فيهما إنما جاء شفقاً على من باشر الأمرين، فيصيبه علة في نفسه، أو عاهة في إيله، فيعتقد أن العدوى حق. قلت: وأرى القول الثاني أولى التأويلين، لما فيه من التوفيق بين الأحاديث الواردة فيه، لأن القول الأول يفضي إلى تعطيل الأصول الطبية، ولم يرد الشرع بتعطيلها، بل بإثباته، والعبرة بها، على وجه لا يناقص أصول التوحيد، ولا يناقصه في القول بها على الوجه الذي ذكرناه، وأما استدلالهم بالقرائن المنسوقة عليها، فإنا قد وجدنا الشارع يجمع في النهي بين ما هو حرام وبين ما هو مكروه وبين ما ينهى عنه لمعنى وبين ما ينهي عنه لمعان [143/أ] كثيرة، فيدل على صحة ما ذكرنا قوله - صلى الله عليه وسلم - للمجذوم المبايع: (قد بايعناك فارجع) في حديث الشريد بن سويد الثقفي، وهو مذكور فيما بعد هذا الباب. وقوله - صلى الله عليه وسلم - للمجذوم الذي أخذ بيده فوضعها معه في القصعة (كل ثقة بالله وتوكلاً عليه) ولا سبيل إلى التوفيق بين هذين الحديثين إلا من هذا الوجه تبين بالأول التعرض للأسباب وهو سنته، وبالتالي ترك الأسباب وهو حاله. وفيه (ولا طيرة) الطيرة: التفائل بالطير والتشاؤم بها، كانوا يجعلون العبرة في ذلك تارة بالأسماء وتارة بالأصوات، وطوراً بالسنوح، وطوراً بالبروح، وكانوا يهيجونها من أماكنها لذلك. والطيرة تطير طيرة كما يقال: تخير خيرة. ولم يأت من المصادر على هذه الصيغة غيرهما. ولم يأت من الأسماء على وزانهما إلا التولة وسبى طيبة، والتولة بالضم أيضاً. وفيه (ولا هامة) الهامة: من طير الليل، وهو الصدى، وكانت العرب تزعم أن روح القتيل الذي لا يدرك ثأره تصير هامة فتزقو تقول: اسقوني اسقوني، فإذا أدرك ثأره طارت. وإلى هذا المعنى يلتفت قول الشاعر: ومنا الذي أبلى صدى ابن مالك .... ونفر طيراً عن جعادة وقعا وفيه (ولا صفر) الصفر فيما كانت العرب تزعم: حية في البطن تعض الإنسان إذا جاع. واللذع الذي تجده عند الجوع يرونه من عضه. قال أعشى باهلة: ولا يعض على شرسوفه الصفر وقيل إنه تأخيرهم المحرم إلى صفر، والوجه هو الأول. وفي رواية: (ولا نوء) النوء عند العرب: سقوط نجم وطلوع نظيره من الفجر. أحدهما في المشرق والآخر في المغرب، من المنازل الثمانية والعشرين. كانوا يعتقدون أنه لا بد عند ذلك من مطر أو ريح، فمنهم من يجعله الطالع [143/ب]؛ لأنه ناء. ومنهم من ينسبه إلى الغارب، فنفى صحة ذلك، ونهى عن القول به، وكفر من يعتقد أن النجم فاعل ذلك. وفي الرواية الأخرى عن جابر (ولا غول) الغول بفتح الغين وسكون الواو المصدر، ومعناه: البعد والإهلاك: ويضم الغين الاسم، وهو من السعالي، والجمع: أغوال وغيلان. وكانت العرب تزعم أن الغيلان في الفلوات تراءى للناس فتغول تغولاً أي تلون تلوناً فتضلهم عن الطريق فتهلكهم. وقد عارض هذا الحديث حديث أبي أيوب -رضى الله عنه- وهو قوله: كان لي نمر في سهوة وكانت الغول تجيء فتأخذ) الحديث.

قال الطحاوي: يحتمل أن الغول قد كان ثم دفعة الله عن عباده قلت: وفي حديث آخر: (إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذن) فيحتمل أن المراد من قوله (لا غول) أي: على ما يعتقدون من تصرفه في نفسه وتلونه باختياره، وهذا أولى الوجهين. (ومن الحسان) [3428] حديث قبيصة بن مخارق الهلالي -رضي الله عنه- (العيافة والطرق والطيرة من الجبت) العيافة: زجر الطير والاعتبار بأسمائها وأصواتها ومساقطها وأمثال ذلك. والعائف: المتكهن، ومن أشعار العرب في هذا المعنى: وقال صحابي: هدهد فوق بانة .... هدى وبيان بالنجاح يلوح وقالوا: حمامات فحم لقاؤها .... وطلح فتيلت والمطىُّ طليح وقال جران العود: جرى يوم جئنا بالركاب [تزقها] .... عقايغ وشحاج من الطير مشيج التفت من العقاب إلى العقوبة ومن الشحاج إلى الغراب، فإنه يشير إلى الاغتراب. والمتيح: الذي يعرض في كل جهة. وقال آخر:

تغنى الطائران ببين سلمى .... على غصنين من غرب وبان وقال آخر: جرت سنحا فقلت لها أجيزى .... نوى مشمولة فمتى اللقاء؟ السانح مما كانوا يتمنون به. أي: قلت للنفس السانحة خلفي حال نوى. والمشمولة: المكروهة، من الشمال فإنهم يكرهونها؛ لما فيها من البرد، وذهابها بالغيم الذي فيه الخصب والحياء. وبنو أأسد يذكرون بالعياقة وأشهرهم بها بنو لهب [144/أ] بكسر اللام، وهم بطن من الأزد ويقال لهم: الأزد والأسد. والطرق: الضرب بالحصى، وهو ضرب من التكهن. والطراق: المتكهنون. والجبت: كلمة تقع على الصنم والكاهن والساحر ونحو ذلك. وقد فسر قوله سبحانه} بالجبت والطاغوت {بالكهنة والشيطين. والظاهر أن المراد منه في هذا الحديث أن تلك الأشياء من أعمال الكهنة. وعلماء العربية يقولون: إن الجبت ليس من محض العربية لاجتماع الجيم والباء في كلمة واحدة من غير حرف ذولقى. [3429] ومنه قول ابن مسعود في حديثه (وما منا) أي: وما منا إلا من يتعرض له الوهم من قبل الطيرة، كلاه أن يتم كلامه ذلك لما يتضمنه من الحال المكروهة، وهذا نوع من أدب الكلام يكتفي دون المكروه منه بالإشارة، فلا يضرب لنفسه مثل السوء. [3431] ومنه قوله حديث سعد بن أبي وقاص (فإن تكن الطيرة في شيء ففي الدار والفرس والمرأة) الأصل في الطيرة هو التشاؤم بالطير على ما ذكرناه، ثم إنهم اتسعوا فيها حتى وضعوها موضع الشؤم. وفي بعض طرق هذا الحديث (إن يكن الشؤم في شيء) فقد ذهب بعض أهل العلم في تأويله إلى أن شؤم الدار الضيق فنائها وسوء جوارها، وشؤم الفرس جموحه وشموسه، وشؤم المرأة سوء خلقها. قلت: ويحتمل أنه عرف أن في هذه الأشياء ما يقع عن اليمن بمعزل فلا يبارك لصاحبه فيه. ويدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس.

باب الكهانة

[3434] (ذروها ذميمة) ولما كان ذلك أمراً مخفياً لا اطلاع لأحد على حقيقته إلا برجم الظن دون ااوهم تاحاصل من قبل التجربة، رأى أنه يخبر عنه على صيغة للتردد؛ لئلا يجترئ أحد على القول فيه بالظن والتخمين. [3435] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث فروة بن مسيك (من القرف التلف) القرف: مداناة المرض والدخول في الأهوية الوبيثة، من مدناة المرض، ولهذا قال في الوباء (وإذا سمعتم بها بأرض فلا تقدموا عليها). ومن باب الكهانة (من الصحاح) [3436] حديث معاوية بن الحكم قلت: (يا رسول، أموراً كنا نصنها في الجاهلية) الحديث [144/ب] قد ذكرنا تأوله في كتاب الصلاة.

[3437] ومنه قوله في حديث عائشة -رضي الله عنها- (فيقر في أذن وليه قر الدجاجة) فيقر، أي: يصوت بها في أذن صاحبه قرا كقر الدجاجة. أراد: صوتها إذا قطعته، والقر أيضا: الفروجة. ومن الناس من رواه (قر الزجاجة) بالزاي، وأرها أحوط الروايتين لما في غير هذه الرواية (فيقرها في أذن وليه قر القارورة) يقال: قررت على رأسه دلوا من الماء أي: صببته. وقر الحديث في أذنه يقره: كأنه صبه فيها: واستعمال قر الحديث في الأذن شائع مستفيض في كلامهم، وأما استعماله على الوجه الذي فسروا عليه الحديث، فإنه غير مشهور، لم نجد له شاهداً في كلامهم، وكل ذلك يدل على أن الدجاجة بالدال تصحيف أو غلط من السامع.

كتاب الرؤيا

ومن كتاب الرؤيا (من الصحاح) [3449] حديث [أبي قتادة]-رضي الله عنه- الرؤيا الصالحة من الله، والحلم من الشيطان) الرؤيا كالؤية جعل ألف التأنيث فيها مكان تاء التأنيث للتفريق ما يراه في المنام وبين ما يراه في اليقظة، والحلم عند العرب يستعمل استعمال الرؤيا، ويدل عليه قول القائل: رأيت رؤيا ثم عبرتها .... وكنت للأحلام عبارا فعلم بهذا ونظائره من كلامهم أن التفريق بين الأمرين بهذين اللفظين إنما كان من الاصطلاحات الشرعية التي لم يقتضيها بليغ، ولم يهتد إليها حكيم، بل سنها صاحب الشرعية للفصل بين الحق والباطل، كأنه كره أن يسمي ما كان من الله وما تان من الشيطان باسم واحد، فجعل الرؤيا عبارة عن القسم الصالح؛ لما في صيغة لفظها من الدلالة على مشاهدة الشيء بالبصر أو البصيرة، وجعل الحلم عبارة عما كان من الشيطان؛ لأن أصل الكلمة لم يستعمل إلا فيما يخيل إلى الحالم في منامه، ولهذا خص الاحتلام بما يخيل إلى المحتلم في منامه من قضاء الشهوة، وذلك مما لا حقيقة له.

[3451] ومنه حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (إذا اقترب الزمان لم تكد تكذب رؤيا المؤمن) [145/أ] ذهب بعضهم في تأويل اقتراب الزمان إلى اعتدال الليل والنهار، واعتمد فيه على ما حكى عن ذوي العبارة أن أصدق المنامات ما يرى عند اعتدال الليل والنهار، أو عند اعتدال الزمان، الشك مني، ولا خفاء بأنهم أرادوا بقولهم ذلك على كلا التقديرين فصل الربيع؛ لما فيه من اعتدال الهواء، واستقامة أحوال المزاح، ولو أرادوا به اعتدال الليل والنهار على ميزان الساعات الزمانية، لكان فصل احريف في هذا الباب كالربيع، وليس الأمر على ذلك. وقال آخرون: أراد بالاقتراب اقتراب الساعة، فإنهم يقولون للشيء إذا ولى وأدبر: تقارب. ويقال للقصير: مستقارب. وهو أولى التأويلين كما في غير هذه الرواية (إذا كان آخر الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب). وفيه (ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة) قيل: معناه أن الرؤيا جزء من أجزاء علم النبوة، والنبوة غير باقية وعلمها باق، وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - (ذهبت النبوة وبقيت المبشرات: رؤيا الصالحة). قلت: ونظير ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: (السمت الحسن، والتؤدة، والاقتصاد جزء من أربعة وعشرين جزءااً من النبوة) أي: من أخلاق أهل النبوة. وقيل: معناه أنها تجئ على موافقة النبوة، لا أنها جزء باق من النبوة. وقيل: معناها أنها تجئ على موافقة النبوة، لا أنها جزء باق من النبوة. وقيل: إنما قصر الأجزاء على ستة وأربعين؛ لأن زمان النبوة كان ثلاثاً وعشرين سنة، وكان أول ما بدئ به من الوحي الرؤيا الصالحة، وذلك على ستة أشهر من سنى الوحي، ونسبة ذلك إلى سائرها، نسبة جزء إلى ستة وأربعين جزءاً.

قلت: أما حصر سني الوحي في ثلاث وعشرين، فإنه مما ورد به الروايات المعتد بها، مع اختلاف في ذلك وأما كون زمان الرؤيا فيها ستة أشهر فشيء قدره هذا القاتل في نفسه، لم يساعده فيه النقل، وأرى الذاهبين إلى التأويلات التي ذكرناها قد هالهم القول بأن الرؤيا جزء من [145/ب] النبوة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (ذهب النبوة) ولا حرج على أحد في الأخذ بظاهر هذا القول، فإن جزءاً من النبوة لا يكون نبوة، كما أن جزءاً من الصلاة على الانفراد لا يكون صلاة، وكذلك عمل من أعمال الحج، وشعبة من شعب الإيمان. وأما وجه تحديد الأجزاء بستة وأربعين، فأرى ذلك مما يتجنب القول فيه، وتلقى بالتسليم، فإن ذلك من علوم النبوة التي لا تقابل بالاستنباط، ولا يتعرض له بالقياس، وذلك مثلما قال في حديث عبد الله بن سرجس في السمت الحسن والتؤدة والاقتصاد إنها (جزء من أربعة وعشرين جزءاً من النبوة) وقلما يصيب مأول في حصر هذه الأجزاء، ولئن قيض له الإصابة في بعضها؛ لما يشهد له الأحاديث المستخرج منها، لم يسلم له ذلك في البقية. [3456] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي موسى (فذهب وهلى) الوهل بتسكين الهاء: الوهم. يقال: وهلت إليه بالفتح أهل وهلاً: إذا ذهب وهمك إليه، وأنت تريد غيره. وليس لك أن تحرك الهاء منه، لمكان الاشتباه فإن الوهل بالتحريك الفزع. [3457] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة: (فأوحى إلى أن أنفخهما) أنفخهما: من النفخ بالخاء المعجمة يقال: نفخته ونفخت فيه قال الشاعر: لولا ابن جعدة لم يفتح فهندزكم .... ولا خراسان حتى ينفخ الصور نبه بالنفخ على استحقار شأن الكذابين: أسود العنسي صاحب صنعاء، ومسيلمة صاحب اليمامة، وعلى

أنهما يمحقان بأدنى ما يصيبهما من بأس الله، حتى يصيرا كالشيء الذي ينفخ فيه فيطير في الهواء، قال القطامي: ألم يخز التفرق آل كسرى .... ونفخوا في مدائنهم فطاروا [3459] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث سمرة بن جندب (ورجل قائم على رأسه بفهر) الفهر: حجر ملء الكف، يذكر ويؤنث، والجمع: أفهار، وكان الأصمعي يقول فهرة وفهر.

وفيه: (إذا ضربه تدهده الحجر) أي: تدحرج. يقال: دهدهت الصخرة ودهديتها [146/أ] وتدهدي وتدهده بمعنى. (ومن الحسان) [3460] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي رزين العقيلي -رضي الله عنه- (وهي على رجل طائر ما لم يحدث بها) قلت: وفي أكثر الروايات وأوثقها عن أبي رزين (ما لم تعبر) تعبر: على بناء المفعول خفيفة الباء، والتشديد فيها لم يوجد في الكتاب ولا في السنة، وهي وإن وردت في كلامهم، فإنها لغة قليلة. ومعنى الحديث: لا تستقر الرؤيا قرارها كالشيء المعلق على رجل طائر، وذلك مثل قولهم: كأنه على جناح طائر. أراد بذلك -والله أعلم- أن الرؤيا على ما يوقة التقدير إليه من التفسير، فإذا كانت في حكم الواقع قيض لك من يتكلم بتأويلها على ما قدر. وقد فسره أبو عبيدة الهووى في كتابه فقال: نقول ذلك القسم الذي قسمه الله معلق بما قدره الله له وطيره له يعني قسمه، ولا استقامة لهذا القول مع بقية الحديث، والأول هو الصحيح. وفي هذا الحيث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (وهي لأول عابر) يريد أن العبرة فيها بعبارة أول عابر، وذلك إذا كان عارفا بمعاني التعبير. فإن قيل: كيف له التخير فيمن يعبر على ما ورد به الحديث ولا يقصها إلا على واد أو ذي رأي والأقضية لا ترد بالتوقي عن الأسباب، ولا تختلف أحكامها باختلاف الدواعي. قلنا: هو مثل السعادة والشقاوة والسلامة والآفة المقضي بكل واحدة منها لصاحبها، ومع ذلك فقد أمر العبد بالتعرض للمحمود منها، والحذر عن المكروه منها. وفيه (ولا تقصها إلا على واد أو ذي أرى) قال الزجاج: إنما أمر بذلك؛ لأن الواد لا يحب أن يستقبلك في تفسيرها إلا بما تحب؛ لأن تعبيرها يزيلها عما جعلها الله عليه، وأما ذو الرأي فمعناه: ذو العلم بعبارة الرؤيا فإنه يخبرك بحقيقة تفسيرها أو بأقرب ما يعلم منه.

[3462] ومنه قول أبي بكرة في حديثه: (فرأيت الكراهة في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). قلت: إنما ساءه -والله أعلم- من الرؤيا التي ذكرها ما عرفه من تأويل رفع الميزان، فإن فيه احتمالاً لانحطاط رتبة الأمر في زمان القائم به بعد عمر -رضي الله عنه- عما كان عليه من النفاذ [146/ب] والاستعلاء والتمكن بالتأييد. ويحتمل أن المراد من الوزن: موازنة أيامهم، لما كان يطرأ فيها من رونق الإسلام وبهجته، ثم إن الموازنة إنما تراعى في الأشياء المقاربة مع مناسبة ما، فيظهر الرجحان، فإذا تباعدت كل التباعد لم يوجد للموازنة معنى فلهذا رفع الميزان، والله تعالى أعلم.

كتاب الآداب

ومن كتاب الآداب (من الصحاح) [3463] حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (خلق الله آدم على صورته) ذهب بعض أهل العلم أن الضمير من الصورة راجع إلي آدم لمعنى خص به، وذلك أن الناس كلهم خلقوا على أطوار سبعة: نطفة ثم علقة إلى تمام ما فصله نص الكتاب، ثم إنهم كانوا يتدرجون من صغر إلى كبر حتى تسموا سن النماء ويبلغوا سن النشوء سوى آدم، فإنه خلق أولا علي ما كان عليه آخرا، فهذا وجه التخصيص، وهذا كلام صحيح في موضعه، وأما في تأويل هذا الحديث فإنه غير سديد؛ لما في حديث آخر (خلق آدم على صوره الرحمن) لما في غير هذه الرواية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا يضرب وجه غلامه فقال (لا تضرب الوجه، فإن الله خلق آدم علي صورته) والمعنى الذي ذهب إليه هذا المأول لا يلائم هذا القول، وأهل الحق في تأويل ذلك علي طبقتين: أحدهما المتنزهون عن التأويل، مع نفي التشبيه، وعدم الركون إلى مسميات الجنس، وإحالة المعنى فيه إلى علم الله الذي أحاط كل شيء علما، علي ما ذكرنا في غير موضع، وهذا أسلم الطريقين والطبقة الأخرى: يرون الإضافة فيها إضافة تكريم وتشريف، وذلك أن الله تعالى خلق آدم أول البشر على صورة لم يشاكلها شرف الصور، في الجمال والكمال، وكثرة ما احتوت عليه من الفوائد الجليلة، فاستحقت الصورة البشرية أن تكرم ولا تهان إتباعا لسنة الله فيها تكريما لما كرمه. (3464) ومنه حديث عبد الله بن عمر (أن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي الإسلام خير) الحديث. أراد

أي أدب الإسلام وخصال أهله خير؟ وإنما قال: (تطعم الطعام [147/أ] ولم يقل: إطعام الطعام، وإلقاء السلام، ليعلم بذلك أن الناس متفاوتون في تلك الخصال على حسب أوضاعهم ومراتبهم في المعارف، وأن الخصلتين المذكورتين تناسبان حال السائل، وأنهما خير له بالنسبة إليه، لا إلى سائر المسلمين، أو علم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يسأل عما يعامل به المسلمين في إسلامه، فأخبره بذلك، ثم رأى أن يجيب عن سؤاله بإضافة الفعل إليه، ليكون أدعى إلى العمل، والخبر قد يقع موقع الأمر. [3471] ومنه حديث أنس -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم). قلت: قد روى جمع من الصحابة حديث رد السلام علي أهل الكتاب، فمنهم من روى (عليكم) ومنهم

من رواه بغير واو وحديث ابن عمر - رضي الله عنهما- الذي قبل هذا الحديث (إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم: السام عليك فقل: عليك) رواه البخاري في كتابه بالواو: (فقل: وعليك) بإثبات الواو في الرد عليهم، إنما يحمل على معنى الدعاء لهم بالإسلام إذا لم يعلم منهم تعريض بالدعاء علينا، وأما إذا علم ذلك فالوجه فيه أن يكون التقدير، وأقول: عليكم ما تستحقونه، وإنما اختار هذه الصيغة ليكون أبعد من الإيحاش وأقرب إلى الرفق، فإن رد التحية يكون إما بأحسن منها، أو بقولنا: وعليكم السلام والرد عليهم بأحسن مما حيونا به فلا يجوز لنا. وعليك وأما الرد بغير الواو فظاهر، أي: عليكم ما تستحقونه. (ومن الحسان) [3474] حديث أبي جرى الهجيمى -رضي الله عنه- (أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: عليك السلام يا رسول

الله ... الحديث) لم يرد بذلك أن الميت ينبغي أن يسلم عليه على هذه الصيغة، فإنه كان يسلم على الموتى فيقول: (السلام عليكم ديار قوم مؤمنين) وإنما أراد بذلك أن قولك هذا مما تحيي به الأموات لا الأحياء، لأن الحي شرع له أن يسلم على صاحبه، وشرع لصاحبه أن يرد عليه السلام، فلا يحسن أن يوضع ما وضع للجواب موضع التحية، ولا ينكر ذلك في الأموات إذ لا جواب هنالك فاستوت التحيتان في حقهم، ثم إن السلام شرع لمعاني أحدهما: المسارعة إلي أمان المسلم عليه، مما يتوهم من قبل المسلم مكروه. وإذا قال: عليك السلام لم يحصل له الأمن حصوله بتقديم السلام؛ لاشتباه الحال على المسلم عليه في الدعاء والدعاء عليه حتى يذكر السلام، وإذا قدم [147/ب] السلام تبين له الأمر من أول الوهلة، ولا مدخل لشئ مما ذكرنا في تحية الأموات وأبو جرى هذا هو: جابر بن سليم وقيل: سليم بن جابر. [3484] وحديث جابر -رضي الله عنه- عن النبي عليه الصلاة والسلام (السلام قبل الكلام) مداره علي عنبسة بن عبد الرحمن وهو ضعيف جدا، ثم إنه يرويه عن محمد بن زاذان، وهو منكر الحديث، وهذا من جملة مازعم المؤلف أنه أعرض عنه، ولم يعرض عنه.

[3488] وكذلك حديثه الآخر (إذا كتب أحدكم كتابا فليرتبه) والمحنة فيه من قبل حمزة بن عمرو النصيبينى فإنه الراوي عن أبي الزبير عن جابر. وكذلك الحديث الذي يتلوه عن زيد بن ثابت (ضع القلم على أذنك) الحديث. ومداره أيضا على عنبة بن عبد الرحمن ومحمد بن زاذان، وقد وجدناه في كتاب المصابيح وقد أخطئ، فيه في موضعين: أحدهما (على أذنيك) وإنما هو (على أذنك) والآخر: (فإنه أذكر للممل) وإنما هو (للمملي).

باب الاستئذان

ومن باب الاستئذان (من الصحاح) [3494] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن مسعود: (وأن تستمع سوادى) السواد، بالكسر: السرار. يقال: ساودته مساودة وسوادا. والأصل فيه: اقتراب السوادين، وهما شخصا المتناجيين. (ومن الحسان) [3498] حديث كلدة بن حنبل- رضي الله عنه- (أن صفوان بن أمية بعث بلبن وجداية

باب المعانقة والمصافحة

وضغابيس ... الحديث) الجداية بكسر الجيم: الغزال وقد يفتح، وقال الأصمعى: هو بمنزلة العناق من الغنم، والضغابيس: صغار القثاء، واحدها ضغبوس، ويشبه به الرجل الضعيف. ومن باب المعانقة والمصافحة (من الصحاح) [3502] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة: (أثم لكع) يقال للصبي الصغير: لكع، ذهابا إلى صغر جثته، كما يقال في الجحش. وأما قولهم للعبد واللئيم: لكع، فلعلهم ذهبوا فيه إلى صغر قدره.

[3507] ومنه حديث عائشة -رضي الله عنها- في حديثها (ما رأيته عريانا قبله ولا بعده) كذا رواه الترمذي في كتابه ومن العجاب أن تحلف أم المؤمنين على أنها لم تره عريانا قبله أي: قبل ذلك اليوم ولا بعده مع طول الصحبة وكثرة الاجتماع في لحاف واحد. ولعل الصواب: ما رأيت عريانا، تريد: مثله، فحذف مثله اعتمادا على وضوحه. وهذا من الحذف الذي هو أتم في المعنى لما فيه من الاتكال، فكأنه يشير إلى تأكيد الأمر فيه بحيث [148/أ] لا يفتقر إلى تمام القول فيه. [3510] ومنه قول أسيد بن حضير: (اصبرني) معناه: أقدنى. يقال: أصبره القاضي أى: أقصه، والاصطبار: الاقتصاص.

باب القيام

[3513] ومنه قوله عائشة -رضي الله عنها- في حديثها (أشبه سمتا وهديا ودلا) السمت: هيئة أهل الخير في الدين، وليس من الجمال في شئ. والأصل فيه: القصد والطريق. والهدى: السيرة. يقال: فلان حسن الهدى. أى: حسن المذهب في الأمور كلها، والدل قريب منه. وهما يستعملان في السكينة والوقار، ويستعمل الدل في حسن الحديث. وكأنها أشارت بالسمت: إلى مايرى علي الإنسان من الخشوع والتواضع لله، وبالهدى: إلى ما يتحلى به من السكينة والوقار، وإلى ما يسلكه من المنهج المرضى، وبالدل: على دماثة الخلق وحسن الحديث. ومن باب القيام (من الصحاح) [3515] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي سعيد الخدري للأنصار: (قوموا إلى سيدكم).

قلت: ليس هذا من القيام الذي يراد به التعظيم على ما كان يتعاهده الأعاجم في شئ، وكيف يجوز أن يأمر بما صح أنه نهى عنه، وعرف منه النكير فيه إلى آخر العهد، وإنما كان سعد بن معاذ وجعا لما رمى في أكحله، مخوفا عليه من الحركة، حذرا من سيلان العرق بالدم، وقد أتى به يومئذ للحكم الذي سلمت بنو قريظة إليه عند النزول على حكمه، فأمرهم بالقيام إليه ليعينوه على النزول من الحمار، ويرفقوا به فلا يصيبه ألم، ولا يضطر إلى حركة ينفجر منه العرق، فكان معنى قوله: (قوموا إليه) أى: إلى إعانته وإنزاله من المركب، ولو كان يريد به التوقير والتعظيم لقال (قوموا لسيدكم) وما ذكر في قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - لعكرمة بن أبي جهل عند قدومه عليه، وما يروى عن عدي بن حاتم (ما دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا قام لي أو تحرك لي) فإن ذلك لا يصح الاحتجاج به لضعفه، والمشهور عن عدى (إلا وسع لي) ولو ثبت فالوجه فيه أن يحمل على الترخيص حيث يقتضيه الحال، وقد كان عكرمة من رؤساء قريش، وعدى كان من سيد بني طئ، فرأى تأليفهما بذلك على الإسلام، أو عرف من جانبهما تطلعا عليه، على حسب ما يقتضيه حب الرياسة. والله أعلم.

باب الجلوس والنوم والمشي

ومن باب الجلوس والنوم والمشي (من الصحاح) [3526] [148/ب] حديث عبد الله بن زيد بن عاصم المازني: (رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستلقيا واضعا إحدى رجليه على الأخرى). قلت: قد خالف حديثه هذا حديث جابر الذي يتلوه، ولا سبيل إلى القول بالنسخ، لأن الأعلام من الصحابة قد فعلوا ذلك بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم ينكر عليهم أحد منهم. ووجه التوفيق بين الحديثين أن يقال: إن النهى يختص بلابسي الأزر دون السراويلات، فإنهم إذا فعلو ذلك بدت سوءاتهم، وأما أصحاب السراويلات فإنهم في فسحة من ذلك. [3529] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة (فهو يتجلجل فيها) أي: يسوخ في الأرض من حين خف به إلى يوم القيامة. والأصل في الجلجلة: الحركة مع صوت.

(من الحسان) [3532] حديث قيلة بنت مخرمة الغنوية (أنها رأت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد وهو قاعد القرفصاء ... الحديث) القرفصاء بضم الفاء: ضرب القعود يمد ويقصر، أخذ من القرفصة وهو: أن يجمع الأنسان ويشد يديه ورجليه، وقعد فلان القرفصاء: كأنك قلت: قعد قعودا مخصوصا، وهو: أن يجلس على أليتيه، ويلصق ببطنه فخذيه، ويحتبي بيديه يضعهما على ساقيه. وقيل: هو أن يجلس على ركبتيه متكئا، ويلصق بطنه بفخذيه، ويتأبط كفيه. وفيه: (فلما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتخشع) يجوز أن يكون التخشع نعتا له، ويجوز إن يكون مفعولا ثانيا، ويكون التقدير: الرجل المتخشع. وفيه تنبيه على أنها فزعت منه، حيث رأته خاشعا. والأول اتم معنى، فإنه يفيد أنه مع تخشعه كان قد ألقيت عليه المهابة، والمتخشع بمعنى الخاشع، ويحتمل أنها أرادت بذلك الزيادة علي الخشوع، حتى كانه بلغ من ذلك مبلغا لا يتهيأ لغيره إلا على وجه التكلف. [3533] ومنه قول جابر بن سمرة في حديثه (حتى تطلع الشمس حسنا) قلت: قد وجدنا كثيرا من الناس يروونه: حسنا على الصفة، وهو خطأ وإنما الصواب حسنا على المصدر أى: طلوعاً حسناً.

[3538] ومنه حديث علي بن شيبان الدئلي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من بات على ظهر بيت ليس عليه حجاء) يروى بفتح الحاء وكسرها، فمن كسره ذهب فيه إلى معنى الستر المانع عن الوقوع، تشبيها بالحجى الذي هو العقل؛ لأنه المانع عن الوقوع في الهلكات، ومن فتحه أراد به أيضا الستر، فإن الحجا هو الطرف والناحية والستر. وفي غير هذة الرواية: (من بات على ظهر إجار) والإجار بالكسر: هو السطح بلغة أهل الحجاز والشام. وفيه (برئت منه الذمة) يريد بذلك [149/أ] أن لكل أحد من الله عز وجل عهدا وذمه بالكلاءة، فإذا ألقى بيده إلى التهلكة، خذلته ذمة الله. [3541] ومنه حديث حذيفة (ملعون على لسان محمد من قعد وسط الحلقة) المراد منه الماجن الذي يقيم نفسه مقام السخرية ليكون ضحكة بين الناس وما يجرى مجراه من المتأكلين [بالمسمعة] والشعوذة.

[3544] ومنه حديث أبي هريرة إذا كان أحدكم في الفئ فقلص عنه ... الحديث) قلص أي: ارتفع وقلص الظل أي: أرتفع. وقلص الماء في البئر أي: ارتفع. وفيه (فإنه مجلس الشيطان) هذا الحديث روى موقوفا على أبي هريرة وروى مرفوعا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأصل فيه الرفع، وإن لم يرو مرفوعا؛ لأن الصحابي لا يقدم على التحدث عن بالأمور الغيبية إلا من قبل الرسول، لا سيما وقد وردت به الروايات من غير هذا الوجه عن نبي الله، ولعله نهى عن ذلك؛ لأن الإنسان إذا قعد ذلك المقعد فسد مزاجه؛ لاختلاف حال البدن لما يحل به من المؤثرين المتضادين، وأضاف المجلس إلى الشيطان؛ لأنه الباعث على الجلوس فيه، أو كره ذلك المجلس لوقوعه بين النقيضين، واحتوائه علي اللونين، وذلك يشبه من حيث الصورة [مراصيد] الشيطان بين الكفر والإيمان، والطاعة والعصيان، والذكر والنسيان من حيث المعنى. ومبني القولين علي الاحتمال، والحق الأبلج فيه وفيه أمثاله التسليم لنبي الله - صلى الله عليه وسلم - في مقاله، فإنه يعلم ما لا يعلم غيره، ويرى ما لا يرى غيره. [3545] ومنه قول على في حديثه: (إذا مشى تكفأ تكفيا) تكفأت المرأة في مشيتها: ترهيات ومادت كما تتحرك النخلة العيدانة على هذا فسره أبو عبيد وغيره. قالوا: والأصل فيه الهمزة ثم تركت وألحقت بالمعتل وقد رواه بعضهم على الأصل تكفأ تكفئا. قلت: والأشبه في تفسير هذا اللفظ أن يحمل على صب المشي دفعة واحدة كالإناء الذي يفرغ، ويدل عليه ما بعده (كأنما ينحط [149/ب] من صبب) وفي معناه (إذا مشي تقلع) أي: دفع رجله دفعا ثابتا متداركا إحداهما بالأخرى مشية أهل الجلادة. [3546] ومنه قول أبي هريرة في حديثه (لنجهد أنفسنا) يجوز فيه فتح النون وضمه، يقال: جهد دابته وأجهدها: إذا حمل عليها في السير فوق طاقتها.

باب العطاس والتثاؤب

وفيه (وإنه لغير مكترث) أي: مبال بمشينا يقال: ما أكترثت له أي: ما أبالي به. [3547] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أسيد الأنصاري: (فأنه ليس لكن أن تحققن الطريق) أي: تمشين في حاقتها وهو وسط الطريق. يقال: سقط فلان على حاق رأسه أي: وسطه، وكذلك جثته في حاق الشتاء. ومن باب العطاس والتثاؤب (من الصحاح) [3550] حديث أبي هريرة (إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب) قلت: العطاس يورث الخفة في الدماغ ويروحه ويزيل كدر النفس، ولهذا عدَّه الشارع نعمة من الله فنّ الحمد عقيبه، والتثاؤب إنما ينشأ من ثقل النفس وامتلائها، فيورث الغفلة والكسل. وبذلك يجد الشيطان إليه سبيلا، ويقوي سلطانه عليه فيستلذه ويرضى به وهو المعنى في ضحكه، وقد كتب تثائب والتثاؤب في جميع المواضع الذي يذكر فيها من هذا الكتاب بالواو، وليس بسديد وإنما هو باب التفاعل وعينه الهمزة، وهاؤه حكاية صوت المتثائب وذلك يكون في أبلغ أحواله من المكظة وعليه النوم، ومعنى قوله في حديث أبي سعيد: (فإن الشيطان يدخل) أي: يجد السبيل إلى ما يبتغيه: من تثبيطه عن العبادة عند استرسال العبد فيما يهيج الغفلة، ويذهب التيقظ.

(ومن الحسان) [3556] حديث أبي هريرة: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا عطس غطى وجهه بيده أو بثوبه) قلت: هذا نوع من الأدب بين يدي الجلساء، وذلك لأن العاطس لا يأمن عند العطاس مما يكرهه الراءون من فضلات الدماغ. [3559] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث سالم بن عبيد الأشجعي للعاطس المسلم: (السلام عليك وعلى أمك) قلت: نبه بهذا القول على بلاهته وبلاهة أمه، فإنها كانت محمقة، فصارا مفتقرين إلى السلام، فيسلمان به من الآفات.

باب الضحك

ومن باب الضحك (من الصحاح) [3562] حديث عائشة: (ما رأيت النبي مستجمعاً ضاحكاً) المعنى مستجمعاً في الضحك حالة الضحك فكأنها قالت: مستجمعاً ضحكاً [150/أ] يقال استجمع الفرس جرياً: إذا وجد منه سائره. ويقال: استجمع كل مجمع. ومن باب الأسامي (من الصحاح) [3566] حديث جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (سَمُّوا باسمي ولا تكنوا بكنيتي) قلت: العرب تخاطب الأكابر بالكنى، ثم الكنى تكون على مراتب:

منها: ما يوجد على نعت التعظيم: كأبي المكارم، وأبي المعالي، وأبي الدنيا. ومنها ما يسند إلى البنين والبنات، وفي نوعه كثرة) وهو الأغلب. ومنها: ما يشترك فيه النوعان: كأبي الفضل، وأبي العلاء، وأبي الغوث، وأبي الخير، وأبي الرجاء، ونحوها. ومنها: ما يجري مجرى الأسماء [ومنها ما] يعدم منه النوعان كأبي عمير وأبي عمرو، ومثل ذلك للمولود. وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول لأبي عمير بن طلحة وهو رضيع: (يا أبا عمير ما فعل النغير). ومنها: ما يكنى به الرجل للحال التي هو عليها كأبي هريرة قال: (كنت أحمل هرة يوماً في كمي فرآني رسول الله فقال: (ما هذه؟ قلت: هرة فقال لي: يا أبا هريرة. وروي عنه من غير هذا الوجه أنه قال: كنيت بأبي هريرة؛ لأني وجدت هرة فحملتها في كمي فقيل لي: ما هذه فقيل لي: وأنت أبو هريرة. ومثله عن أنس (كناني رسول الله ببقلة كنت أجتنيها) يعني: أبا حمزة، أو يكنى به المولود لمهنى يعرض للوالد حال الولادة، كأبي ذر، وأبي ذرة، وأبي عقرب، وأبي شيخ ونحوها. ومنها: ما يكون للنعت الذي هو عليه: كأبي شقرة، وأبي السواد ونحوها. وعلى جملة: فمذهب العرب في العدول عن [الاسم إلي] الكنية هو التوفير، إلا أن تكون الكنية نبزا يتأذى منه المدعو به. ولما كان من حق الرسول فيما يراد به التعظيم أن لا يشاركه فيه أحد، كره أن يكنى أحد بكنيته، ودخل هذا في الباب الذي نهينا عنه أن نسوي بينه وبين غيره. قال الله تعالى:} لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً {وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا المعنى في بقية الحديث وذلك قوله: (وإنما جعلت قاسماً أقسم بينكم) فقد كان يتولى القسمة من قبل الله في العلم الذي يوحي إليه، وإنزال الناس منازلهم في الفضيلة، وإعطائه المال إياهم على قدر عنايتهم وحسب حاجاتهم [150/ب] وكان ذلك مما لم يشاركه فيه أحد. وأكثر الناس يرون أنه كني بابن له من خديجه يقال له: قاسم وهذا، وإن ذكره أصحاب السير، فإن هذا الحديث يرد عليهم ما ذهبوا إليه، فإنه أشار فيه إلى المعنى الذي أوجب له أن يكنى بأبي القاسم. فإن قيل: فكيف التوفيق بين هذا الحديث وما ورد في معناه من أحاديث النهي، وبين حديث عائشة (قالت امرأة: يا رسول الله، إني ولدت غلاماً فسميته محمداً وكنيته بأبي القاسم) وهو مذكور في الحسان من هذا الباب.

قلنا: هذا الحديث لا يقاوم أحاديث النهي في السند، وإن ثبت، فإن نأوّله على أنه نفي فيه التحريم دون الكراهة، فعرفهم بأحاديث النهي ما خصه الله به من المنزلة، وأرشدهم إلى طريق الأدب، ثم لم ير أن يحرج عليهم، حتى يفضي بهم إلى الحرمة، فقال قوله ذلك، وأرى فيه وجهاً هو أبلغ من ذلك، وهو أنه نهي الرجال إذا ولد لهم مولود أن يسموه قاسماً ليكتنوا به، فينادون بحضرته فيقع الاشتباه في المنادى، فيقضي إلى الوضع من حقه، ألا ترى أن ذلك كان عاة النهي، وذكر ذلك في حديث أنس الذي أورده المؤلف في أول هذا الباب، ولم ينه عن ذلك في حديث عائشة؛ لأن المولود كان المكنى بأبي القاسم وقد علم أنه لا يبلغ في زمانه السن الذي يدخل به في غمار من يصحبه وينادي يحضرته؛ فكان في هذا المعنى كالذي كان في غير زمانه، وقد استبان بحديث على أن التمييز كان مقصوراً على زمانه، وهو أنه قال: (يا رسول الله، أرأيت إن ولد لي بعدك ولد، أأسميه محمداً وأكنيه بكنيتك؟ قال: نعم). على هذا رأينا التوفيق بين هذه الأحاديث. [3569] ومنه حديث سمرة بن جندب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لاتُسمينَّ غلامك يساراً ولا رباحاً ولا نجيحاً ولا أفلح ...) الحديث. المراد من الغلام -على ما بّينه الصحابي في هذه الرواية -الرقيق. أخرج مسلم في كتابه عن سمرة أنه قال: (نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نسمي رقيقنا بأربعة أسماء ....) الحديث. قلت: والمشكل من هذا الحديث هو أن المعنى الذي يمنع عن التسمية بها على ما ذكره في الحديث أنه إذا قال: أثم أفلحُ؟ فيقال: لا عاد الأمر فيه من الفأل الحسن إلى ما ينافيه. وهذا معنى يستوي فيه العبيد [151/أ] والأحرار، فما وجه تخصيص العبيد به، وقد كان الأحرار يُسمون بتلك الأسماء في زمان النّبوة وقبلها؟! يشهد به أسماء الصحابة من وجوه القبائل وأسماء آبائهم الذين لم يجر عليهم رق في جاهلية ولا إسلام. قلنا: يحتمل أنه أسند النهي إلى تسمية الأرقاء؛ لأنهم هم الأكثرون في تسميتهم بتلك الأسماء. ويحتمل أنه أراد بالغلام الصبي الذي يسمى، حراً كان أو عبداً. ويحتمل أنه أراد بالغلام الصبي الذي يسمى، حراً كان أو عبداً. قال الله تعالى حكاية عن زكريا -عليه السلام-:} قال رب أنى يكون لي غلام {ففهم الصحابي عنه المملوك، ففسره على حسب ما وقع له، وإنما أقدمنا عل هذا التأويل؛ لأن الغلام في الحديث لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - وتفسيره بالرقيق من كلام الصحابي، فالأشبه أنه سمعه على ما ذكرنا ثم فسره على ما نقلناه من كتاب مسلم. ويحتمل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ير التسمية بها للعلة التي ذكرت في متن الحديث، ولما فيه من التزكية.

ثم إن تركه المسمّين بها على ما هم عليه من غير تغيير تلك الأسماء، دال على أنه سلم الأمر فيما مضى، ووصاهم بغير ذلك فيما بقي واكتفاؤه في النهي بخطاب الواحد يشير إلى شيء من ذلك. ويدل على صحة هذا التأويل. [3570] حديث جابر -رضي الله عنه- (أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينهى أن يسمي بيعلي ...) الحديث. إلى قوله: (ثم قبض ولم ينه عنه). [3571] ومنه حيث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أخنى الأسماء يوم القيامة ...) الحديث. أخنى الأسماء: أي: أفحشها وأفسدها. وفي غير هذه الرواية: (أخنع الأسماء)، أي: أذلها وأوضعها، والخانع: الذليل. وهذه الرواية أولى بأن تتبع؛ لأنها أقوم في اللغة العربية، وكذلك رواه مسلم في كتابه. وقوله: (ملك الأملاك)، فسره سفيان الثوري فقال: هو شاهنشاه. [3572] ومنه حديثه الأخر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (أغيظ رجل على الله يوم القيامة ...) الحديث. قيل: إن هذا من مجاز الكلام، معدول به عن ظاهره، والمراد به عقوبة الله للمتسمّى بهذا الاسم، أي أنه أشد أصحاب هذه الأسماء عقوبة.

[3578] ومنه حديثه الآخر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا تقولوا: الكْرمُ، فإن الكرم قلب المؤمن). إنما سَمّت العربُ كرماً ذهاباً إلى أن الخمر تكسب شاربها كرما. وإلى هذا يلتفت قول الشعراء في تسميتهم الخمر بابنة الكرم. [151/ب] ومنه قول القائل: فيا بنة الكرم لا .... بل يا بنة الكرم فلما جاء الله بالإسلام وحرم الخمر نهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قولهم ذلك، وبين لهم أن قلب المؤمن هو الكرم؛ لأنه معدن التقوى، وأن ما كان سبياً لسخط الله ومقته فهو بمعزل عن المعنى الذي قصدوه، وهذا من باب تحويل الكلام من معنى إلى معنى آخر، وفيه تحويل من المجاز إلى الحقيقة. والحيلة هي الأصلة من العتبة، تخفف وتثقل. [3579] قوله: [فإن الله هو الدهر]، قد مر تفسيره في أول الكتاب. [3582] ومنه حديث عائشة -رضى الله عنها- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يقولن أحدكم خبثت نفسي، ولكن ليقل: لقست نفسي).

لقست نفسه أي: غثت. والعرب تستعمل كلا اللفظين مكان الآخر، أعني: لقس وخبث. وكان - صلى الله عليه وسلم - يسلك في ألفاظه مسلك التنزه؛ فكره أن يضرب المؤمن لنفسه مثل السوء، ويضيف إليها الخباثة التي هي ملحقة بالكفار الُمصرين على المعاصي، ولم ير للمؤمن أن يصف نفسه بالخبث. فإن قيل: ففي الحديث: (وإلا أصبح خبيث النفس كسلان) فيمن لم يقم لصلاة الليل فكيف نهى عنه واستعمله في حق المؤمن. قلت: سئل عنه الطحاوي -رحمه الله- فأجاب بما ينبئ أنه رأى الحديث الذي ذكرناه كالناسخ لما بعده. وأرى الوجه في التوفيق بينهما أن أقول: حديث صلاة الليل ورد مورد الوعيد في حق من يثبطه الشيطان عن القيام، لا في حق رجل بعينه، وكم مثل ذلك في السنن: (نهى عن لعن المسلم أشد النهي، ثم قال: (لعن الله من تولى غير مواليه)، و (لعن الله من سرق منار الأرض)، وأمثال ذلك، مما كان القصد فيه الوعيد والزجر، لا اللعن لمسلم بعينه. وكذلك قوله: (أصبح خبيث النفس) وأما الحديث الذي نحسن فيه، فإنه للنهي عن إضافة المؤمن الخبث إلى نفسه، ولهذا المعني كان يغير الأسماء القبيحة، كما غير اسم عمر التي سماها عاصية، وغنما كان ذلك منه في الجاهلية؛ فإنهم كانوا يسمون بالعاصي والعاصية ذهاباً إلى معنى الإباء عن قبول النقائص والرضا بالضيم، فلما جاء الله بالإسلام كره ذلك لهم، والله أعلم.

(ومن الحسان) [3589] حديث أبي مسعود الأنصاري -رضي الله عنه- سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في زعموا: (بئس مطية الرجل). قلت: أراد بذلك المتحدث الذي يتوعر عليه طرق الكلام، فيأخذ في أساليب القول مستعيتاً في اختراع القول بإسناده إلى من لا يعرف، فيقول: زعموا أن قد كان كذا وكذا، فيتخذ قوله (زعموا) مطية يقطع بها أودية الإسهاب، وما أشبه ذلك بقول من يروي ما لا يكاد يصح، ثم يقول: العهدة على الراوي. والزعم حكاية قول يكون مطية للكذب؛ ولهذا جاء في كتاب الله تعالى في كل موضع ذم القائلون به نحو قوله:} زعم الذين كفروا {،} بل زعمتم ألن نجعل لكم موعداً {. [152]،} أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون {،} قل ادعوا الذين زعمتم من دونه {.

باب البيان والشعر

ومن باب البيان والشعر (من الصحاح) [3596] حديث ابن عمر: (قدم رجلان من الشرق فخطبا ...) الحديث يحسب أكثر الناس أن هذا القول مورده مورد المدح، وليس الأمر على ما توهم، بل ورد مورد الذم، والمراد منه أن من البيان نوعاً يحل من العقول والقلوب في التمويه محل السحر، فإن السحر من شأنه أن يزين الباطل في عين المسحور حتى يراه حقاً، وكذلك المعجب بحسن البيان وترصيف النظم يُرى الباطل في لبسة الحق، والحق في لبسة الباطل، وهو أن المتكلم بمهارته في البيان ومعرفة تصرف القول يَسلُبُ العقل بتفنُّته في البلاغة، ويشغل السامع عن التفكير فيه والتدبر له، حتى يخيل إليه الباطل حقاً، فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن جنس البيان وإن كان محموداً فإن فيه ما يذم للمعنى الذي ذكرناه، وأن جنس الشعر وإن كان مذموماً فإن فيه ما يُحمد، للمعنى الذي ذكرناه لاشتماله على الحكمة. ويبين المعنى الذي ذهبنا لإليه قوله في حديث بريدة في آخر هذا الباب: (إن من البيان سحراً، وإن من العلم جهلاً ....) الحديث. والبيان: اجتماع الفصاحة والبلاغة وذكاء القلب مع اللسن، وكان هذا القول منه عند قُدوم وفد بني تميم، وكان فيهم قيس بن عاصم والزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم، ففخر الزبرقان فقال: (يا رسول الله: أنا سيد تميم، والمطاع فيهم والمجاب، أنعهم من الظلم، وآخذ لهم بحقوقهم، وهذا يعلم ذلك -يعني عمرو بن الأهتم، فقال عمرو بن الأهتم: إنه لشديد العارضة مانع لجانبه، مطاع في أذنيه. فقال الزبرقان: والله، يا رسول لقد علم مني غير ما قال، وما منعه أن يتكلم إلا الحسد. فقال عمرو بن الأهتم: أنا أحسدك! فوالله إنك للئيم الخال، جديب المال، ضيق العطن، أحمق الولد، مضيع في العشيرة. والله، يا

رسول الله لقد صدقت فيما قلت أولاً. وما كذبت فيما قلت آخراً، ولكني رجل إذا رضيت قلت أحسن ما علمته، وإذا غضبت قلت أقبح ما وجدته، ولقد صدقت في الأولى [152/ب] والأخرى جميعاً فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن من البيان لسحراً). [3598] ومنه حديث عبد الله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (هلك المتنطّعون) قالها ثلاثاً، أراد به المتعمقين الغالين في خوضهم فيما لا يعنيهم من الكلام، والأصل في المتنطع الذي يتكلم بأقصى حلقه، مأخوذ من النطع، وهو الغار الأعلى فيه آثار كالتحزيز، تخفف وتثقل، وإنما ردَّد القول ثلاثاً تهويلاً منه وتنبيهاً على ما فيه من الغائلة، وتحريضاً على التيقظ والتبصر دونه، وكم تحت هذه الكلمة من مصيبة تعود على أهل اللسان والمتكلفين في القول الذين يرومون بسبك الكلام سبى قلوب الرجال، نسأل الله العافية. [3600] ومنه حديث الشريد بن سويد الثقفي (ردفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً، فقال: (هل معك من شعر أية بن أبي الصلت شيء ....) الحديث. قلت: إنما استنشده شعره؛ لأن أمية أيضاً كان ثقفيا، وكان أمية ممن ترهب قبل الإسلام، وكان حريصاً على استعلام أخبار النبي الموعود به من العرب مصدقاً بخروجه، فلما أخبر بأنه من أهل الحرم وأنه من قريش، قال: كنت أرجو أن يكون من قومي، وكان يشير بذلك إلى نفسه، فلما بلغه خروج النبي منعه الحسد عن الإيمان به، ولم يلبث أن مات وكان قبل معنياً بالحقائق، مكاشفاً بالعجائب، يشعر بذلك شعره، ولهذا كان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يستنشد شعره. وفي بعض طرق هذا الحديث أنه قال: (أسلم شعره وكفر قلبه). ولما قدمت أخته القارعة بنت أبي الصّلت بعد فتح الطائف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت ذات نسب ومنصب وجمال، قال لها رسول الله يوماً: (أتحفظين من شعر أخيك شيئاً)؟ فأخبرته بخبره وما رأت منه، وأنشدته أبياته التي يقول فيها: ما أرغب النفس في الحياة وإن .... تحيا قليلاً فالموت لاحقها من لم يمت عبطه يمت هرماً .... للموت كأس والمرء ذائقها

[153/أ]. وذكرت في خبر وفاته أنه قال عند المعاينة: إن تغفر الّلهم تغفر جما .... وأي عبد لك لا ألّما ثم قال: كل عيش وإن تطاول دهراً .... صائر مرة إلى أن يزولا ليتني كنت ما قد بدا لي .... في قلال الجبال أرعى الوعولا ثم مات. فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (كان مثل أخيك كمثل الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين). وقوله: (هيه) بمعنى: إيه. على هذا رواه الراوون، وكأنه قلب الهمزة هاء. وإيه: اسم سُمّي به الفعل؛ لأن معناه الأمر، تقول للرجل إذا استزته من حديث أو عمل: إيه بكسر الهاء. وقال ابن السكيت: فإن وصلت نونت قلت: إيهٍ حديثاً. وقول ذي الرُمة: وقفنا فقلنا إيه عن أم سالم .... وما بال تكليم الديار البلاقع فلم ينون وقد وصل؛ لأنه نوى الوقف. قال ابن السَري: إذا قلت إيهِ يا رجل فإنما تأمره بأن يزيدك من الحديث المعهود بينكما، كأنك قلت: هات الحديث، وإن قلت: إيهٍ بالتنوين كأنك قلت: هات حديثاً؛ لأن التنوين تنكير. وذو الرمُمة أراد التنكير فترك للضرورة، وإنا سلكنا هذا المسلك، لأن المحدثين يلحنون فيه؛ فيه؛ فمنهم من ينونه، وليس بسديد على القولين. ومنهم من يرويه على السكون، وليس بصحيح. [3601] ومنه حديث جندب بن سفيان البجلي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في بعض المشاهد وقد دميت إصبعيه، فقال: (هل أنت إلا إصبع دميت .... وفي سبيل الله ما لقيت) يسأل عن ذلك وعما أشيهه من الرجز الذي جرى على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مع شهادة الله له بأنه لم يعلمه الشعر وما ينبغي له، وقد سبقنا بالجواب عنه فنقل الخطابي في ذلك وجوهاً عن أهل العلم: منها: قول بعض أهل العلم: إن الرجز ليس بشعر [153/ب] وإنه خارج عن المعاريض المشهورة، وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينشد قط بيت الشعر؛ ولهذا لما ذكر قول طرفَة أخرجه عن وزان الشعر بتأخير الحرف المقدم فقال: (ويأتيك من لم تزود بالأخبار) فأعيد عليه فأبى إلا قوله ذلك.

ومنها: قول بعضهم في قول الله سبحانه:} وما علمناه الشعر {رد على المشركين قولهم: بل هو شاعر، ولا يلزم من البيت الواحد هذا الاسم، فإن الشعر هو الذي يقصد الشعر، ويعرف أفانينها ويراعي قوانينها، فلا يلزمه الاسم المنفي عنه إنشاد البيت الواحد ونحوه. ومنها قول بعضهم: إنه لم يقصد به الشعر، وإنما جرى على لسانه بحكم الاتفاق، وقد وجدنا لذلك نظائر كلام الله. قلت: وكل هذه الوجوه قويمة، والوجه الأخير أقومها. [3605] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عائشة لحسان: (إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله). روح القدس: جبريل؛ لأنه يأتي إلى أنبياء الله بما فيه الحياة والطهارة، أو لأنه الروح الذي طبع على الطهارة. ونافحت: أي دافعت واجتهدت في الذب عن حرمهما. من قولهم: قوس تَفُوح، إذا كانت بعيدة الدفع للسهم. والمعنى: أن شعرك هذا الذي تنافح به عن رسوله يلهمك الملك سبيله، بخلاف ما يتقوله الشعراء إذا اتبعوا الهوى، وهاموا في كل واد، فإن مادة قولهم من إلقاء الشيطان إليهم. [3606] ومنه قوله في حديثها أيضاً: (فشفي واشتفى) يحتمل أنه أراد بالكلمتين التأكيد، أي: شفي من الغيظ بما أمكنه من الميسور من القول والمعسور. ويحمتل أنه أراد أنه شفى غيره واشتفى نفسه.

[3607] ومنه حديث [البراء] بن عازب: (كان رسول الله ينقل التراب يوم الخندق ...) الحديث. الرجز الذي في هذا الحديث قاله عبد الله بن رواحة. ذكره البخاري من قول البراء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تمثل بكلمات ابن رواحة. وفي قصة خيبر أن بعض الصحابة قال لعامر بن سنان الأكوع عم سلمة بن الأكوع: يا عامر ألا تُسمعُنا من هُنَيّهاتك، فجعل يرتجز ويقول ... الحديث. فتبين لنا من حديث البراء أن قائل تلك الأراجيز هو ابن رواحة فقالها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق، وارتجز بها عامر في حُدائه في مسراهم إلى خيبر، وأما وجه تلُّفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - بها فقد سبق في هذا الباب. [3609] ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لأن يمتلئ [جوف أحدكم] حتى يريه ...) الحديث. يقال: رآه الرائي يريه وريا وهو أن يدوي جوفه. قال الشاعر: قالت له وريا إذا تنحنحا أي: دعت عليه بالورى. وإنما يمتلئ من الشعر ما كان خالياً من كتاب الله وسنة رسوله، فلا يسعه [154/أ] غير ذلك. وهذا الحديث رواه مسلم في بعض طرقه عن أبي سعيد الخُدري، وفي رواية أنه قال: (بينا نحن نسير مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعرج إذ عرض شاعر ينشد فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خذوا الشيطان أمسكوا الشيطان) ثم ذكر بقية الحديث.

(ومن الحسان) [3610] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث كعب بن مالك- رضي الله عنه-: (لكأنما ترمونهم به نضح النبل). تضحته بالنبل أي: رميته به. يقال: انضح عنا الخيل أي: ارمهم، استعير من نضح الماء ورشه. يقال: نضحهم بالنبل ورشهم به. والمعنى أن الهجاء يقع منهم موقع النبل. [3611] ومنه حديث أبي أمامة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الحياء والعي شعبتان من الإيمان). أرى معنى ذلك -والله أعلم- أن المؤمن يحمله الإيمان على الحياء فيترك المقابح حياء من الله، ويمنعه عن الاجتراء على الكلام شفقاً من عثرة اللسان وتبعة القول فهما شُعبتان من شعب الإيمان. [3612] ومنه حديث أبي ثعلبة الخُشني -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: أنه قال: (إن من أحبكم إلى ...) الحديث. في بعض طرق هذا الحديث: (أحاسنكم أخلاقاً) وهو جمع أحسن، يذهب إلى معنى: وأحسن من يوجد، أو وجد خُلقاً، وفي حديث: (خيركم محاسنكم قضاءٌ) جمع محسن بفتح الميم والسين. ويحتمل أن يكون سماهم بالصفة، أي: ذوو المحاسن قضاءٌ، وكذلك القول في مساويكم أو أساويكم. والثرثار: الذي يكثر الكلام تكلفاً وخروجاً عن الحق، والمتشدق: الذي يتكلف في الكلام فيلوي به شدقيه. وقيل: هو المستهزئ بالناس الذي يلوي شدقه بهم وعليهم. والمتفيهق: هو المتوسع المتنطع في الكلام، وأصله الفهق وهو الامتلاء. وكل ذلك راجع إلى معنى التزيد والتكلف في الكلام ليميل بقلوب الناس وأسماعهم إليه.

[3613] ومنه حديث سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال): لا تقوم الساعة حتى يخرج قوم يأكلون بألسنتهم) الحديث. ضرب للمعنى مثلا بما يشاهده الراءون من حال البقر; ليكون أثبت في الضمائر، وذلك أن سائر الدواب تأخذ من نبات الأرض بأسنانها والبقر بلسانها، فضرب بها] المثل [لمعنيين: أحدهما أنهم لا يهتدون من المآكل إلا] إلى [ذلك سبيلا] 154/ب [كما أن البقرة لا تتمكن من الاحتشاش إلا بلسانها. والآخر: أنهم في مغزاهم ذلك كالبقرة التي لا تستطيع أن تميز في رعيها بين الرطبة والشوكة، وبين الحلو والمر، بل يلف الكل بلسانه لفا، فكذلك أولئك الذين يتخذون ألسنتهم ذريعة إلى مآكلهم لا يميزون بين الحق والباطل، ولا بين الحلال والحرام {سماعون للكذب أكالون للسحت}. ] 3614 [وفي معناه حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- الذي يليه، وفيه (الباقرة) مكان البقرة، كأنه أدخل الهاء فيها على أنها واحد من جنس كالبقرة من البقر، وقد قرئ في الشواذ {إن البقر تشابه علينا}. والذي وجدناه من قول أهل اللغة، أن البقر اسم للجنس. وجمعه الباقر ولم نجد الهاء ملحقة بها إلا في هذا الحديث. ] 3616 [ومنه قوله في حديث أبي هريرة (من تعلم صرف الكلام ...). أريد به الزيادة من القول على ما مر بيانه، مأخوذ من صرف الدراهم. والصرف الفضل يقال: هو لا يحسن صرف الكلام, أي فصل بعضه من بعض.

[3617] ومنه حديث عمرو بن العاص: لو قصد في قوله لكان خيرا له سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لقد رأيت أو أمرت أن أتجوز في القول ..) الحديث. قوله: لو قصد أي: لو أخذ في كلامه الطريق المستقيم، والقصد ما بين الإفراط والتفريط. ومعنى قوله: أن أتجوز: أي أسرع فيه وأخفف المؤنة على السامة، من قولهم تجوز في صلاته: أي خفف، ويقال تجوز في كلامه، أي تكلم بالمجاز، وليس له في هذا الحديث وجه.

باب حفظ اللسان والغيبة

ومن باب حفظ اللسان والغيبة (من الصحاح) ] 3629 [حديث أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم). أهلكهم بضم الكاف. ويروى أيضا] 155/أ [بفتح الكاف. قيل: هذا إذا قاله استحقارا واستصغارا لشأنهم وما هم عليه، لا تحزنا وإشفاقا، فيكون ما أكتسب بذلك عجبا بنفسه أشد مما هم فيه. وقيل: المراد به أهل البدع والغلاة الذين يؤيسون الناس من رحمة الله ويوجبون لهم الخلود بذنوبهم، إذا قال ذلك في أهل السنة والجماعة. وعلى الفتح معناه أنهم ليسوا كذلك إلا هلكوا، إلا من قبله، بما نسبهم إليه من الهلاك، لا من قبل الله.

[3637] ومنه حديث عائشة: (أن رجلا استأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ائذنوا له فبئس أخو العشيرة ..) الحديث. لا سبيل الى معرفة وجه هذا الحديث وما ورد في معناه إلا بعد التحقق بامتياز حال النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك من حال غيره، فإنه كان يخبر عن الغيب بأمر الله، ولو لم يأذن له لم يكن ليفعل، ففي قوله: (ائذنوا له فبئس أخو العشيرة) تنبيه للسامعين على أخذ حذرهم منه، ورخصة للأمة في التوقى عن شر من لا يؤمن شره، بإظهار البشر له والانبساط اليه. وقولها: تطلق له، يحتمل أنه بني من الطلاقة. ويحتمل أنه بمعنى الانشراح يقال: ما تطلق له نفسي، أي ما تنشرح.

[3638] ومنه حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين) .. الحديث. يعني الذين يعملون المعاصي جهرة، ويكشفون ما ستره الله عليهم من ذلك. وفيه وجه آخر، وهو أنهم يجاهرون بأعمالهم القبيحة فيتحدثون به. يقال: جهر به وأجهره. وهذا الوجه أشبه بنظم الكلام.

و (المجاهرين) حرف في كتاب المصابيح، وقدم الهاء على الجيم ثم كتب مرفوعا، وحقه النصب على الاستثناء،] والمجانة [أن لا يبالي الإنسان ما صنع. (ومن الحان) ] 3647 [حديث أبي سعيد الخدري رفعه الى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا أصبح ابن دم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان ..) التكفير: أن يخضع الإنسان لغيره كما يكفر العلج للدهاقين يضع يده على صدره ويتطامن له. قال جرير: وإذا سمعت بحرب قيس بعدها ... فضعوا السلاح، وكفروا تكفيرا.

[3659] ومنه حديث عائشة: قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: (حسبك من صفية أنها كذا) يعني قصيرة. فقال: (لقد قلتي كلمة لو مزجت بالبحر لمزجته) قلت: قد حرفت الفاظ هذا الحديث في كتاب المصابيح، والصواب على ما ذكرناه، والمزج على معنى] 155/ب [المجاز والاتساع. والمراد منه أن تلك الكلمة التي اغتبت بها أختك المؤمنة، وعبتها بها لو قدر أن لو كانت مما تمزج بالبحر مع غزارته لغيرته عن حاله.

باب الوعد

ومن باب الوعد (من الحسان) [3667] حديث عبد الله بن أبي الحسماء العامري قال: بايعت النبي قبل أن يبعث بيعا.

باب المزاح

ومن باب المزاح (من الحسان) [3673] حديث أنس -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لي: (يا ذا الأذنين) الأظهر أنه حمده لذكائه وفطنته ويقظته وحسن استماعه. ويحتمل أنه قال ذلك على سبيل الانبساط اليه والمزاح معه.

=====

المفاخرة والعصبية

باب المفاخرة والعصبية [3681] حديث البراء بن عازب: (فلما غشيه المشركون نزل فجعل يقول: أنا النبي لا كذب, أنا بن عبد المطلب). ليس لأحد أن يحمل هذا على المفاخرة، والشيخ لم يصب في ايراد هذا الحديث في هذا الباب المترجم بالمفاخرة والعصبية, ولا أشك أنه اتبع بعض أصحاب الحديث في مصنفاتهم على ما ذكره, ولم يصيبوا أولئك أيضا وقد نفى نبي الله عن نفسه أن يذكر الفضائل التي خصه الله بها فخرا، بل شكرا لأنعمه، فقال: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر)، وذم العصبية في غير موضع, فأنى لأحد أن يعد هذا الحديث من أحد القبيلين, وكيف يجوز على نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أن يفتخر بمشرك، وكان ينهى الناس أن يفتخروا بآبائهم. وإنما وجه ذلك أن نقول: تكلم بذلك على سبيل التعريف ; فإن الله تعالى قد أرى قوما قبل ميلاده، وقبل مبعثه في ابن عبد المطلب ما قد كان علما لنبوته، ودليلا على ظهور أمره، وأظهر علم ذلك على الكهنة، حتى شهد به غير واحد منهم، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - ذكرهم بذلك، وعرفهم أنه ابن عبد المطلب الذي رؤى فيه ما رأى، وذكر فيه ما ذكر. ] 3682 [زمنه حديث أنس (جاء رجل الى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا خير البرية، فقال: ذلك ابراهيم) وجه ذلك الحديث أن يحمل على معنى التواضع منه, حتى يوافق الأحاديث التي دلت على فضله على سائر البشر، أو يحمل على أنه قال ذلك ولم ينبأ بعد أنه خير الناس. أو يحمل على أن ابراهيم كان يدعى بهذا النعت حتى صار علما له كالخليل، فقال: (ذلك ابراهيم) أي: المدعو بهذه التسمية إبراهيم، إجلالا له وتوقيرا، ويكون معنى (خير البرية) في ابراهيم راجعا الى خلق حينئذ دون من لم] 156/أ [يخلق، ولم يكن ذكر البرية على معنى العموم، فلم يدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - في غمارهم.

ومن الحسان [3685] حديث أبي هريرة عن النبي قال: (لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم ..) الحديث. قلت: كفانا هذا الحديث دليلا على ما ذهبنا اليه في معنى قوله (أنا ابن عبد المطلب). وفيه يدهده الخر أي: يدحرجه يقال: دهدهته فتدهده أي دحرجته فتدحرج والدحروجة: ما يدحرجه الجعل. وفيه: (أن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية) أي: نخوتها، يقال: رجل فيه عبية، وعبية بضم العين وكسرها أي: كبر وتجبر. والمحفوظ عن اهل الحديث بتشديد الباء، وذكر ابو عبيد الهروي عن بعض أهل اللغة أنه من العبء يعني: الحمل الثقيل، ثم قال: وقال الأزهري: بل هو مأخوذ من العبء وهو النور والضياء, يقال هذا عبء الشمس, وأصله عبوء الشمس, وعلى هذا فالتشديد فيه كما هو في الذرية من الزرء بالهمز، والجوهري أورده في باب المضاعف. ] 3686 [ومنه حديث سمرة ابن جندب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (الحسب المال ..) الحديث الحسب عند العرب ما يعده الرجل من مفاخر آبائه. وأما معنى قوله: (الحسب المال) فقد قال وكيع: أراد أن الرجل إذا صار ذا مال عظموه. ] 3687 [ومنه حديث أبي ابن كعب سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا). يقال عزوته الى أبيه. وعزيته الى أبيه أيضا لغة, إذا نسبته اليه فاعتزى وتعزى، قال أصحاب

الغريب: أنتسب وأنتمي اليها في قوله: يا آل فلان. قال أبو عبيد الهروي: أي: قولوا] 156/ب [،أعضض بأير أبيك، ولا تكن عن الأير بالهن ; تأديبا له وتنكييلا. وأرى المعنى -والله أعلم- أن من أنتسب وأنتمى الى الجاهلية بإحياء سنة أهلها، واتباع سبيلهم في الشتم واللعن ومواجهتهم بالفحشاء والمنكر فاذكروا له ما تعرفون من مثالب أبيه ومن مساوئه، وما كان يعير به من لوم ورذالة صريحا لا كتابة، كي يرتدع به عن التعرض لأعراض الناس، هذا هو وجه الحديث. ] 3689 [ومنه حديث أبي مسعود الأنصاري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من نصر قومه على غير الحق فهو كالبعير الذي تردى ..) الحديث. ردي في البئر وتردى: إذا سقط فيها والمعنى: أن من أراد أن يرفع نفسه بنصرة قومه على الباطل فهو كالبعير الذي سقط في بئر، فماذا يجدي عنه أن ينزع بذنبه، فإنه وإن اجتهد كل الجهد لم يتهيأ له أن يخلصه من تلك المهلكة بنزعه أياه بالذنب.

باب البر

[3694] ومنه حديث عبد الله بن الشخير العامري قال: (انطلقت في وفد بني عامر الى رسول الله فقلنا: انت سيدنا، فقال: السيد هو الله ...) الحديث. سلك القوم معه في الخطاب مسلكهم مع رؤساء القبائل فإنهم كاموا يخاطبونهم بنحو هذا الخطاب فكره ذلك ; لأنه كان من حقه أن يخاطبوه بالنبي والرسول، فهي المنزلة التي لا منزلة وراءها لأحد من البشر، وحول الأمر فيه الى الحقيقة فقال: السيد هو الله أي: الذي يملك نواصي الخلق ويتولى أمرهم ويسوسهم. وقوله (قولوا قولكم) أي: قول أهل ملتكم فخاطبوني بما تخاطبونني به، ودعوا التكلف والهرت في المدح. ويحتمل أنه أراد بالقول القول الذي جئتم له وقصدتموه ولا يستجرينكم أي: ليستتبعنكم الشيطان فيتخذكم جرية أي: وكيله فيتكلم على ألسنتكم. يقال: جريت جريا واستجريته أي اتخذته وكيلا. ومن باب البر (من الصحاح) ] 3697 [قول أسماء -رضي الله عنها- في حديثها (يا رسول الله، إن أمي قدمت علي وهي راغمه)، قيل أي: هاربة من قومها، وقيل كارهة اسلامي وهجرتي، وهذا أولى التأويلين.

يقال: راغمت فلاناً إذا هاجرته، ولم تبالي رغم أنفه، وقد روي بالباء بدل الميم أي: راغبة في صلتي، وكذلك هو في المصابيح، والصواب ما قدمناه. ] 3698 [ومنه حديث عمرو بن العاص، سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن آل أبي ليسوا لي بأولياء ...) الحديث. المعنى أني لا أوالي أحدا بالقرابة وانما احب الله -سبحانه- لما يحق له على العباد، وأحب صالحي المؤمنين لوجه الله وأوالي من أوالي بالإيمان والصلاح، وأراعي لذوي الرحم حقهم في صلة الرحم. وقوله: (أبلها ببلالها) أي: أنديها بما يجب أن تندى لئلا تنقطع. ومنه قوله: (بلوا أرحامكم) أي صلوها وندوها والعرب تقول للقطعية والعرب تقول للقطعية اليبس. قال الشاعر: فلا تيبسوا بيني وبينكم الثرى .... فإن الذي بيني وبينكم مثرى يريد لا تقطعوا رحمي. وبلال يروي بفتح الباء على المصدر، وبكسرها فيكون جمع بلل مثل جمل وجمال، شبه قطيعة الرحم بالحرارة تطفئ بالماء. ويندى بالصلة. ] 3699 [ومنه حديث المغيرة بن شعبة (إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنع وهات ...) الحديث. عبر] 157/أ [بالكلمتين منع وهات عن البخل والمسالة أي: كره أن يمنع الرجل ما عنده، ويسأل ما عند غيره. و (منع) يروى على بناء الماضي، وعلى بناء المصدر. (وقيل وقال): يحتما أن يكونا على بناء الماضي، ويحتمل أن يكونا مصدرين، يقال قلت قولا وقيلا.

وقالا وقد أتى بالمصدرين إما إرادة التأكيد، وإما للدلالة على كراهة المقاولة والمنازعة في القول، وأقل ما يوجد ذلك بين الاثنين، وإذا كانا على بناء الماضي ففيهما تنبيه على ترك الخوض في اقتصاص أخبار الناس وتتبع أحواهم وحكاية أقوالهم. (وكثرة السؤال): يحتمل أن يكون كثرة السؤال عن أحوال الناس، ويحتمل أن يكون عن المسائل فإنه يفضي به إلى مالا يعنيه. ولا أرى حمله على سؤال المال: فإن ذلك مكروه، وإن لم يبلغ حد الثرة. ] 3701 [ومنه حديث بن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إن من أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولى). الكلمة الخيرة من الحديث يتخبط الناس فيها، والذي أعرفه هو أن الفعل مسند إلى أبيه، أي: بعد أن يغيب أبوه أو يموت، من ولى يولى، يدل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي أسيد الساعدي -رضي الله عنه-: (وانفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما). ] 3702 [ومنه حديث أنس -رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره ...) الحديث. في أثره، أي في أجله، وسمي الأجل أثرا، لأنه يتبع العمر. قال كعب ابن زهير: يسعى الفتى لأمور ليس يدركها .... والنفس واحدة والهم منتشر والمرء ما عاش ممدودا له أمل .... لا ينتهي العمر حتى ينتهي الأثر وروى: لا ينتهي العين، وهو أشبه. وقيل: يجوز أن يكون المعنى: أن الله يبقي أثر واصل الرحم في الدنيا طويلا] 157/ب [فلا يضمحل سريعا. ] 3703 [ومنه حديث أبي هريرة -رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (خلق الله الخلق فلما فرغ ...) الحديث.

فرغ: أي قضاه وأتمه ونحو ذلك مما يشهد بأنه من مجاز القول فإنه -سبحانه وتعالى- أن يشغله شأن عن شأن، أو يطلق عليه الفراغ الذي هو ضد الشغل. وفيه: (فأخذ بحقوى الرحمن) معناه فاستجارت بكنفي رحمته والأصل في الحقو معقد الإزار، ولما كان من شأن المستجير أن يستمسك بحقوى المستجار به، وهما جانباه الأيمن والأيسر، أستعير الأخذ بالحقو في اللياذ بالشيء تقول العرب: عذت بحقو فلان أي: استجرت به واعتصمت. وفيه: (فقال مه) أي: ما تقول؟ على الزجر أو الاستفهام. وها هنا إن كان على الزجر فبين، وإن كان على الاستفهام فالمراد منه الأمر بإظهار الحاجة دون الاستعلام، فإن الله تعالى يعلم السر وأخفى. وقيل: هو في الحقيقة ضرب مثل واستعارة، اذ الرحم معنى وهو اتصال القربى بين أهل النسب. ] 3704 [ومنه حديث عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (الرحم شجنة من الرحمن). الشجنة بالكسر: عروق الشجر المشتبكة، وكذلك الشجنة بالفتح، والشجن بالتسكين: واحد شجون الأودية وهي طرفها، ويقال الحديث ذو شجون أي: يدخل بعضها في بعض. قال أصحاب الغريب في معناه، أي قرابة مشتبكة كاشتباك العروق، وعلى هذا فكأنهم يريدون أنها موهوبة من الرحمن أو مجعولة كذلك، وهذا المعنى صحيح، فإن كل الأشياء من الله خلقا وإيجادا، ولكنه ليس بمعنى الحديث، وإنما المراد من الرحمن أي: من هذا الاسم، يدلك عليه حديثه الآخر: (شققت لها من اسمي) وفي الحدث (إن لله تعالى مائة رحمة أنزل منها واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون وبها يتراحمون) الحديث. فتبين لنا من هذا الحديث أن معنى قوله (شجنة من الرحمن): أي اسم اشتق من رحمة الرحمن أو أثر من آثار رحمته مشتبكة بها، فالقاطع منها قاطع من رحمة الله.

[3708] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: (فكأنما تسفهم المل). يقال: سففت الدواء بالكسر واسففته: إذا أصبت منه غير ملتوت، وأسففته غيري أيضا. والمل: التربة المحماة-قاله الأزهري- تدفن فيها الخبزة ثم يهال عليها. وقال القتيبي: المل الجمر. قلت: والتربة المحماة والرماد، الذي] 158/أ [فيه قوة من النار أشبه بالاستفاف، فإن الجمر وما كان مثله في الجرم لا يستعمل فيه الاستفاف، يقال استف الرمل، ولا يقال استف الحجر. وقال أصحاب الغريب في معناه: إنهم اذا لم يشكروك فإن عطاءك إياهم حرام عليهم، ونار في بطونهم، قلت: والأشبه به والأمثل فيه أن يقال: إحسانك إليهم إذا كانوا يقابلونه بالإساءة، يعود وبالا عليهم، حتى كأنك في إحسانك إليهم مع إساءتهم إياك أطعمتهم النار؟ (ومن الحسان) ] 3709 [حديث ثوبان -رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يرد الدعاء إلا القدر) الحديث. قلت: معنى رد القدر أن يهون عليه الأمر المقدور حتى يصير كأنه قد رد. وتحمل الزيادة في العمر معنى البركة فيه، ويحتمل أن يكون المراد من القدر: الأمر الذي كان يقدر لولا دعاؤه، ومن العمر: العمر الذي كان يقصر لولا بره، فيكون الدعاء والبر [سببان] من أسباب

ذلك، وهما مقدران أيضا، كما أن الأعمال حسنها وسيئها سببان من أسباب السعادة والشقاوة، ولا شك أنهما مقدران أيضا. ] 3712 [ومنه حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الوالد أوسط أبواب الجنة). أوسط أي أفضل باعتبار أن الشيء كان بين الإفراط والتفريط فإنه أفضل مما سواه. ومنه قوله سبحانه وتعالى: {قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون} أي: خيرهم وافضلهم. ] 3715 [ومنه حديث عبد الله بن أبي أوفى -رضي الله عنه- سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لا تنزل الرحمة على قوم فيهم قاطع رحم). قلت: يحتمل أنه أراد بالقوم الذين يساعدونه على قطيعة الرحم، ولا ينكرون عليه. ويحتمل أنه أراد بالرحمة المطر, أي يحبس عنهم المطر بشؤم القاطع.

[3717] ومنه حديث جبير بن مطعم -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا يدخل الجنة منان ..) الحديث. محمل هذا الحديث أنه لا يدخلها مع الفائزين، أو لا يدخلها حتى يعاقب بما اجترحه من الإثم بكل واحد من الأعمال الثلاثة.

باب الشفقة والرحمة

ومن باب الشفقة والرحمة (من الصحاح) [3724] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث [158/ب] عائشة- رضي الله عنها: (من بلي من هذه البنات ...) الحديث. (بُلى): من البلاء، وفي كتاب مسلم: (من ابتلى من هذه البنات بشيء) وهو الصواب، ويتخبط الناس في الرواية التي اختارها المؤلف لمكان قوله (شيئاً). ويروى (يلي) من الولاية، وليس بشيء، والصواب فيه: (من بلى من هذه البنات بشيء)، وهذه إشارة إلى جنسهن.

[3735] ومنه حديث عياض بن حمار المجاشعي- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط ...) الحديث. المقسط: العادل، والقاسط: الجائر. قال الله تعالى: {واقسطوا إن الله يحب المقسطين}. وفيه: (وعفيف متعفف) أي: عفيف عما لا يحمل، متعفف عن السؤال. ويحتمل أن يكون أشار بالأول إلى ما في نفسه من القوة المانعة عن الفواحش، وبالثاني إلى إبراز ذلك بالفعل. وفيه: (الضعيف الذي زبر له)، فسر أصحاب الغريب الزبر بالعقل، وهو صحيح من طريق اللغة، غير أن المعنى لا يستقيم عليه؛ لأن من لا عقل له لا تكليف عليه، فكيف يحكم بأنه من أهل النار. وأرى الوجه فيه أن يفسر بالتماسك، فإن أهل اللغة يقولون: لا زبر له، أي: لا تماسك له كما يقولون: لا عقل له. وهو في الأصل مصدر، والمعنى: لا تماسك له عند مجئ الشهوات، فلا يرتدع عن فاحشة ولا يتورع عن حرام. وفيه: (الذين هم فيكم تبع لا يبغون أهلا ولا مالا) يعنى به الخدام الذي يكتفون بالشبهات والمحرمات التي يسهل عليهم التطرق غليها عما أبيح لهم، فليس له همة ناهضة إلى ما وراء ذلك من أهل ومال. وفيه: (والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه)، أي: لا يتطلع إلى موضوع خيانة إلا خان، وإن كان المطموع فيه شيئاً يسيراً، وإنما قال: (لا يخفى)؛ لأن الإنسان قلما يظهر طمعه، بل يستسر به.

ويحتمل أن يكون لا يخفى على بناء المجهول، من أخفيته أي: أزلت خفاءه، أي: لا يبرز له شيء يطمع فيه، ويكون الطمع الذي هو المصدر بمعنى القول أي: لا يظهر له شيء يطمع فيه إلا خانه، وإن كان شيئاً يسيراً. وفيه: (وذكر البخل والكذب) أي: البخيل والكذاب، أقام المصدر مقام اسم الفاعل: والشنظير: السيء الخلق، يقال: رجل [159/أ] شنظير وشنظيرة. والفحاش: نعت للشنظير وليس بمعنى له، أي: يكون مع سوء خلقه فحاشا. [3741] ومنه حديث تميم الداري- رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الدين النصيحة ثلاثاً، قلنا: لمن يا رسول الله). الحديث. الأصل في النصيحة تحري قول أو فعل فيه صلاح صاحبه، أو تحري إخلاص الود له، وهو لفظ جامع لمعان شتى، فالنصيحة لله: إخلاص العمل له ونصرة الحق فيه وتحري مرضاته بالدعاء إلى توحيده، والذب عن حريم حرمته. والنصيحة لكتابه: هي بذل المجهود في الذب عنه دون تأويل الجاهلين وتحريف الغالين وانتحال المبطلين. والنصيحة لرسوله هي: النصرة له والنصيحة بحقه والذب عن سنته، ونحو ذلك، والنصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم هي: تحري قول يكون فيه صلاحهم، وذلك يختلف باختلاف مراتبهم.

=====

(ومن الحسان) [3752] حديث عوف بن مالك الأشجعي- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أنا وإمرأة سفعاء الخدين ...) الحديث. السفعة في الوجه: سواد في خدي المرأة الشاحبة، لم يرد أنها كانت من أصل الخلقة سفعاء. ألا ترى أنه قال: (ذات منصب وجمال) بل أراد أنها أقامت على ولدها بعد وفاة زوجها، فتركت الزينة وعودت نفسها الجهد والمشقة حتى شحبت وذهب تناصف وجهها و (آمت) أي: مات زوجها، وصارت أيما فصبرت على الأيمة.

باب الحب في الله

ومن باب الحب في الله (من الصحاح) [3766] حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-: (الأرواح جنود مجندة ...) الحديث. (مجندة) مفسرة بمجموعة، وهو مثل آلاف مؤلفة، والمراد أنها جبلت على ضرائب وشواكل، فكل ما شامل منها في عالم الأمر في شاكلته تعارفت في عالم الخلق فانتلف، وكل ما كان على غير ذلك في عالم الأمر تناكرت في عالم الخلق فاختلفت.

[3769] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-: (هل له عندك من نعمة تربها) أي: تقوم بشكرها، من قولهم: رب الصنيعة [159/ب] أي: أصلحها وأتمها.

(ومن الحسان) [3774] حديث أبي مالك الأشعري- رضي الله عنه- قال: (كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن لله عباداً بأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء بقربهم ...) الحديث. الغبطة: أن يتمنى الإنسان مثل حال المغبوط من غير أن يريد زوالها عنه، وهي في الحقيقة عبارة عن حسن الحال، ومنه قولهم: اللهم غبطاً لا هبطاً، أي: نسألك الغبطة ونعوذ بك أن نهبط. فإن قيل: على أي وجه نتصور ذلك في أنفسنا، وقد عرفنا من أصل الدين أن المؤمن المستعد لثواب الله في الدار الآخرة معصوم عن الحرة والتلهف والتطلع إلى ما ليس له، والغبطة لا تخلو عن شيء من ذلك؟. قلنا: مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك بيان فضل المتحابين وأن الله يحلهم من الكرامة محلاً يقع ممن فوقهم في المنزلة بمحل الشيء المغبوط به؛ لأن النفوس الصالحة المستعدة لنيل ثواب الله [لا] يبقى فيها تنازع وتطلع إلى ما ليس لها، ولا ينبغي لها من المرتبة. فإن قيل: فهل يلزم من ذلك أن المغبوطين ينالون من المرتبة ما لا يناله ذوو الغبطة؟ قلنا: لا، ونظير ذلك الرجل له من المماليك ألف، ولآخر واحد، وصاحب الألف يريد أن لو كان له مثل ذلك الواحد أيضاً، فلا يلزم من ذلك أن صاحب الفرد أتم غنى من صاحب الألف. فإذا قيل: فلم لم يؤت الأنبياء والشهداء مثل ما أوتي أولئك؟ قلنا: أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقدر تقديراً يبين به مقدار تلك الفضيلة فقد ذلك في فئتين اختارهم الله بفضله، وأكرمهم برحمته. فأما الشهداء فيقدر فيهم أن المرادين بذلك هو الذين- وإن- بلغوا رتبة الشهادة فإنهم لم يعاملوا الله سبحانه بتلك المعاملة، فلما وردوا القيامة، ورأوا قربهم من الله أحبوا أن لو أنهم عاملوا الله بمثل معاملتهم، وذلك لأن التحاب في الله غير ذلك، وهو أنهم أحبوا الاتباع دون ما أحبوا هم؛ فكان قسط الأتباع في [160/أ] حبهم في الله إياهم أوفى وأوفر من قسط الأنبياء. وذلك لأن التحاب في الله إنما يقع على قدر المنزلة والقرب من الله، ولما كان الأنبياء أحب إلى الله من الأتباع، لم يكن للأنبياء أن يتعدوا سنة الله فيهم، بل وجب عليهم أن يحبوا أنفسهم في موافقة الحق سبحانه فوق ما يحبون أنفس الأتباع، وعلى الأتباع أن يحبوهم فوق ما يحبون أنفسهم، فصار قسطهم من هذه المنزلة أوفى وأوفر من قسط الأنبياء

من الوجه الذي ذكرناه؛ فلهذا اغتبطوهم، وهذا معنى دقيق وقع لي من طريق الفهم، والله ألهمهم للصواب. وفيه: (يتحابون بروح الله). روح الله: بضم الراء، فسروا روح الله بالقرآن قال الله تعالى: {وأيدهم بروح منه} قيل: أراد به القرآن، والمراد منه في الحديث أن السبب الداعي بينهم إلى المحابة هو الوحي المنزل الهادي إلى سواء السبيل.

باب ما ينهى من التهاجر

ومن باب ما ينهى من التهاجر (من الصحاح) [3783] حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إياكم والظن ...) الحديث. يحذرهم اتباع الظن، وقد سبق بيان الحديث بتمامه. [3785] ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (تعرض أعمال الناس في كل جمعة مرتين ...) الحديث. المراد منه الأسبوع، وقد بينه بقوله: يوم الاثنين ويوم الخميس. وقوله: (فيغفر لكل عبد مؤمن إلى عبداً) وجدناه في كتاب المصابيح: إلى عبد على الرفع، وهو في كتاب مسلم بالنصب، وهو الأوجه؛ فإنه استثناء من كلام موجب، وبه وردت الرواية الصحيحة. [160/ب]. وفيه: (اتركوا هذين حتى يفيئا). هذا الحديث على هذا السياق رواه مسلم في كتابه، وفيه: (اتركوا أو اركوا) فأسقط عنه في المصابيح (أو اركوا). وقد رواه مسلم بطرق شتى، وفي بعضها: (اتركوا)، وفي بعضها: (انظروا)

وأما السياق الذي في المصابيح فعلى ما ذكرت، وقد ورد في بعض الروايات (اركوا)، من غير تردد، وهو الأمثل، ومعناه أخروا، يقال للغريم: اركني إلى كذا، أي: أخرني. [3787] ومنه حديث أم كلثوم بنت عقبة- رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، فيقول خيراً أو ينمي خيراً). يقال: نميت الحديث: إذا بلغته على وجه الإصلاح وطلب الخير أنميه، فإذا بلغته على وجه النميمة وإفساد ذات البين قلت: (نميته) بالتشديد، وإنما لم يكن هذا النوع كذباً؛ لأن القصد فيه صحيح، ثم على قائله أن يوري ما استطاع عن حقيقة القول بالكناية، فنقول مثل قوله: أرجو أن لا يصدر عن صاحبك شيء تكرهه، وإني لا أظن أنه يقول فيك قولاً سيئاًن وقد سمع منه أخبث قول وأفحش كلام فيوري عنه بقوله: (لا أظن)، وحقيقة القول أني لا أظن بل أتحقق. ومثل ذلك أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب). هذا هو السبيل في الأنواع الثلاثة التي ذكرتها في حديثها، وكذلك في حديث أسماء بنت يزيد الأنصارية- رضي الله عنها- وهو تال لهذا الحديث. (ومن الحسان) [3789] حديث عائشة- رضي الله عنها- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يكون لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة ...) الحديث.

قلت: إنما لم يكن له الزيادة على ثلاثة أيام فيما كان بينهما من الأمور الدنيوية. وأما إذا كان الهجران في حق من حقوق الله، فله ما فوق ذلك، ولقد هجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الثلاثة الذين خلفوا: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع- رضي الله عنهم- فلم يكلمهم خمسين يوماً، وأمر الناس بهجرانهم. ولما اعتل بعير صفية فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لزينبك أعطيها بعيراً، وكان عندها فضل ظهر، فقال: أنا أعطي تلك اليهودية، فغضب رسول الله [161/ب]- صلى الله عليه وسلم - فهجرها ذا الحجة والمحرم وبعض صفر. قلت: ولم نجد في السنة مدة الهجران عن المسلم أبلغ من هذا. قلت: قد وجدنا من السلف من هجر أخاه المسلم في أمر كرهه عنه من أمور الدين السنة والسنتين، ومنهم من هجر صاحبه في ذلك عمره، ورأوا أنفسهم في فسحة من ذلك ما لم يعد المهجور عما ابتدعه. وفيه: (فقد باء بإثمه) أي: رجع بإثمه فصار عليه، والضمير في (إثمه) محتمل لوجهين: أحدهما: أن يعود إلى الهاجر أخاه، أي اكتسب وزراً من حيث لم يرد السلام عليه فرجع به. ويحتمل أن يعود على المسلم فيكون ذلك على الاتساع وهو الواصل المسلم يكسب عملاً صالحاً فيحط به عن خطيئته، والمعرض يكتسب خطيئة بعدما كان عليه من الهجران وذلك تركه لرد السلام لواجب عليهن فصار هو فيما زاد من خطئه (ونقص من خطيئة) صاحبه كالذي عاد بإثم صاحبه.

وقوله في هذا الحديث (ثلاثة)، أي: ثلاثة أيام، وفي الحديث التالي لهذا الحديث، وهو حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- (ثلاث) أي: ثلاث ليالي، وفي حديثه هذا: (فمات دخل النار)، أي استوجب الدخول، والواقع في الإثم كالواقع في العقوبة. [3795] ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب) استدل بهذا الحديث من يقول بإحباط العمل من المبتدعة الضلال، ولا حجة لهم في ذلك، لما في الأحاديث الصحاح من خلاف ما ذهبوا إليه، وهي أكثر وأظهر وأوضح مما تمسكوا بالمفهوم عنه، فمنها حديث المفلس (الذي يأتي يوم القيامة وقد ضرب هذا وشتم هذا وأخذ مال هذا وسفك دم هذا، فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته ..) الحديث. فلو كانت الكبيرة محبطة للحسنات لم يكن يبقى لهذا المتعاطي تلك الكبائر حسنة يعطي خصمه مع الكبائر التي ذكرت؛ فلابد إذاً أن يأول هذا الحديث على وجه لا يخالف الأحاديث الصحاح والأصول المستنبطة من الكتاب والسنة، وذلك من وجهين: أحدهما: أن نقول إن الحسد يفضي بصاحبه إلى اغتياب المحسود، وشتمه، وربما يتلف ماله [161/ب] ويسعى في سفك دمه، وكل ذلك مظالم يقتص عنها بها في الآخرة، ويذهب في عرض ذلك حسناته، وهذا هو المراد من الإحباط. والوجه الآخر: أن نقول: التضعيف في الحسنات يوجد على حسب استعداد العبد وصلاحه في دينه، فمهما كان مرتكباً للخطايا نقص من ثواب عمله فيما يتعلق بالتضعيف ما يوازي انحطاطه في المرتبة بما اجترحه من الخطايا، مثل أن يقدر أن ذا رهق عمل حسنة فأثيب عليها عشراً، ولو لم يكن رهقه لأثيب أضعاف ذلك، فهذا الذي نقص من التضعيف بسبب ما ارتكبه من الذنب هو المراد من الإحباط. وقد مر في باب الصلاة نحو هذا القول، والله أعلم.

[3800] ومنه حديث سعيد بن زيد العدوي- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق). قوله: (أربى الربا) الربا أكثرها وبالاً وأشدها في التحريم، والأصل في الربا الزيادة والارتفاع والكثرة، والاستطالة والتطاول: استحقار النار والترفع عليهم، وإنما عبر عنه بلفظ الربا؛ لأن المتعدي يضع عرضه في مقابلة عرضه ثم يستزيد عليه. وفي قوله: (بغير حق) تنبيه على أن العرض ربما تجوز استباحته في بعض الأحوال، وذلك في مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لي الواجد يحل عرضه). فيجوز لصاحب الحق أن يقول فيه: إنه ظالم، وإنه متعد، ونحو ذلك. ومثله الكلام في جرح الشاهد، والشهادة على الخائن، ونحو ذلك.

باب الحذر والتأني

[3804] ومنه حديث المستورد بن شداد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أكل برجل مسلم ..) الحديث. يريد أنه يقع في عرض مسلم ويتعرض له بالأذية حتى ينال ممن يعاديه ويريد هوانه، طعمة أو كسوة. وأما قوله: (ومن قام برجل مقام سمعة ورياء) أي: ينبه إلى ذلك ويشهره به فإن الله يفضحه ويهينه ويقيمه مقام أهل السمعة والرياء ويشهره بذلك على رءوس الأشهاد، ويعاقبه عقوبة المرائين. ومن باب الحذر والتأني (من الصحاح) [3806] حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين). قال الخطابي- رحمه الله- هذا يروى على وجهين: أحدهما: على الخبر، والآخر: على النهي.

فمعنى الأول أن المؤمن الممدوح هو المتيقظ الحازم الذي لا يؤتي من ناحية الغفلة فيخدع مرة بعد أخرى، ولا يفطن هو به. قال: وقد قيل: إنه الخداع في أمر الآخرة [162/أ] دون أمر الدنيا. ومعنى الثاني لا يخدعن المؤمن ولا يؤتين من ناحية الغفلة فيقع في مكروه. قال: وهذا يصلح أن يكون في أمر الدنيا والآخرة. قلت: وأرى أن الحديث لم يبلغ الخطابي على ما كان عليه وهو مشهور عند أهل السير، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مَن على بعض أهل مكة وهو أبو عزة الشاعر الجمحي، وشرط عليه أن لا يجلب عليه، فلما بلغ مأمنه عاد إلى ما كان عليه، فأسر تارة أخرى فأمر بضرب عنقه، فكلمه بعض الناس في المن عليه فقال: (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين). (ومن الحسان) [3812] حديث عبد الله بن سرجس- رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (السمت الحسن والتؤدة والاقتصاد ..) الحديث. التؤدة: السكون، يقال: اتأد في مشيه وتوأد وهو افتعل وتفعل من التؤدة. والاقتصاد على ضربين: أحدهما: ما كان متوسطاً بين محمود ومذموم كالمتوسط بين الجور والعدل، والبخل والجود، وهذا الضرب أريد بقوله سبحانه: {فمنهم مقتصد}. والثاني: محمود على الإطلاق، وذلك فيما له طرفان: إفراط وتفريط، كالجود فإنه بين الإسراف والبخل، والشجاعة فإنها بين التهور والجبن. [وهذا] الذي في الحديث هو الاقتصاد المحمود على الإطلاق. وذكر في حديث ابن سرجس أن الخلال المذكورة جزء من أربع وعشرين جزءاً من النبوة وفي حديث ابن عباس- رضي الله عنه- الذي يليه: من خمس وعشرين.

باب الرفق والحياء

ومن حق (أربع وخمس) في هذا الحديث أن يلحق به تاء التأنيث، ومثل ذلك لا يعرف في كلام القرن الأول، بل يقع ذلك من الرواة الذين لا دربة لهم بعلوم العربية، والتفاوت الذي بين العددين يحتمل أن يكون من غلط الرواة. والطريق إلى معرفة حقيقة ذلك العدد ووجهه بالاختصاص من قبل الرأي [والاستنباط] مسدود، فإنه من علوم النبوة وقد سبق القول في هذا المعنى في كتاب الرؤيا. ومن باب الرفق والحياء (من الصحاح) [3818] حديث عائشة- رضي الله عنها- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله يحب الرفق ..) الحديث. ٍ

معنى ذلك أن الله يريد بعباده اليسر، ولا يريد بهم العسر، فلا يكلفهم فوق طوقهم، بل يسامحهم ويلطف بهم. والرفق [162/ب] ضد العنف، وهو لطافة الفعل ولين الجانب. فإن قيل: فما معنى قوله في الحديث: (أنت رفيق والله الطبيب)؟ قلنا: الطبيب الحاذق بالشيء الموصوف، ولم يرد بهذا القول نفي هذا الاسم مما يتعاطى ذلك، وإنما حول المعنى من الطبيعة إلى الشريعة، وبين لهم أن الذي يرجون من الطبيب فالله فاعله والمنان به على عباده، وهذا كقوله: (فإن الله هو الدهر) وليس الطبيب بموجود في أسماء الله سبحانه، ولا يجوز أن يقال في الدعاء: يا طبيب وكذلك لا يجوز أن يقال: يا رفيق؛ فإن أسماء الله تعالى إنما تؤخذ عن النقل والمتواتر. ولم يوجد في الطبيب ولا في الرفيق نقل متواتر يجب به العلم. وقد ذهب بعضهم في (الرفيق الأعلى) أنه اسم من أسماء الله تعالى. قال الأزهري: غلط قائل هذا، والرفيق- هاهنا- جماعية الأنبياء الذين يسكنون أعلى عليين، اسم جاء على فعيل، ومعناه الجماعة، ومنه قوله سبحانه {وحسن أولئك رفيقًا}. يقال للمرافق: الرفيق، ويطلق الرفيق على الواحد والجمع، وقوله: (إن الله رفيق). لم يوجب إطلاق هذا الاسم عليه، كما لم يوجب (إن الله حي ستير) إطلاق ذلك عليه، وإنما أراد به إيضاح معنى لم يكن يقع في الأفهام إلا من هذا الطريق. [3822] ومنه حديث ابن مسعود- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى ...) الحديث. المعنى: إن مما بقي بين الناس فأدركوه من كلام الأنبياء أو مما أوحى إليهم في أول الخلق، وأشار بقوله: (النبوة الأولى) إلى أنه كان مندوباً إليه في الأولين، كما أنه محثوث عليه في الآخرين.

وفيه: (فاصنع ما شئت)، قيل: أمر أريد به الخبر، أي: صنعت ما شئت، وقيل: وعيد كقوله سبحانه: {اعملوا ما شئتم}. وقيل: إن الشيء إذا كان مما لا يستحيي منه من قبل الله أو قبل الخلق فاصنع ما شئت منه، فإنه لا حرج عليك منه، بل أنت في سعة منه. [3823] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث النواس بن سمعان- رضي الله عنه-: (والإثم ما حاك في صدرك). حاك: أثر، من الحيك، وهو أخذ القول في القلب. يقال: ما تحيك فيه الملامة: إذا لم تؤثر فيه، يريد أن الإثم ما كان في القلب منه شيء، فلا ينشرح له الصدر. والأقرب أن ذلك أمر يتهيأ لمن شرح الله صدره للإسلام دون عموم المكلفين. ومثله قوله - صلى الله عليه وسلم - لوابصة بن معبد- رضي الله عنه-: [163/أ] (وإن أفتاك المفتون]. (ومن الحسان) [3829] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عكرمة بن وهب: (لا يدخل الجنة الجواظ والجعظري).

الجواظ: قيل إنه الضخم المختال في مشيته، وقيل: هو الذي جمع ومنع، والأول أمثل؛ لأنه أشبه بالتفسير الذي أدرج في الحديث من قول بعض الرواة. والجعظري: قيل إنه الفظ الغليظ، يقال للرجل إذا كان ضخماً قصيراً: جعظارة بكسر الجيم. والحديث مرسل؛ لأن عكرمة بن وهب لم يذكره أحد في الصحابة. [3834] ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (المؤمن غر كريم، والفاجر خب لئيم). الغر: الذي يغره كل أحد، ويغتر بكل شيء، أي: ليس بذي [نكر] ينخدع لانقياده ولينه وسلامة صدره وحسن ظنه بالناس. والخب: بفتح الخاء الجربز الذي يسعى بين الناس بالفساد، وشاكلة الخب خلاف شاكلة الغر. [3835] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي يليه وهو مرسل: (المؤمن كالجمل الأنف) مقصورة. أنف البعير

باب الغضب والكبر

أي: اشتكى أنفه من البره، فهو أنف على القصر، والمد فيه خطأ، والبعير إذا كان أنفًا للوجع الذي به ذلول منقاد، أي سبيل سلكوا به فيه اتبع وأي مناخ وعر ناب أنيخ عليه استناخ. قال أبو عبيد: كان الأصل في هذا أن يقال: مأنوف: لأنه مفعول به، كما قالوا: مصدور ومبطون، وجميع ما في الجسد على هذا، وجاء هذا الحرف شاذاً، والله أعلم. ومن باب الغضب والكبر (من الصحاح) [3838] حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- (أن رجلاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - أوصني، قال: لا تغضب ..) الحديث. قلت: قد كان - صلى الله عليه وسلم - مكاشفاً بأوضاع الخلق عارفاً بأدوائهم، يضع الهناء مواضع النقب، يأمرهم بما هو أولى بهم، فلما استوصاه الرجل، وقد رآه ممنواً بالقوة الغضبية لم ير له خيراً ان يتجنب عن دواعي الغضب، ويزحزح نفسه عنه. [3839] ومنه حديثه الآخر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (ليس الشديد بالصرعة). الصرعة على مثال الهمزة: الذي يصرع الناس [163/ب]. حول المعنى فيه من القوة الظاهرة إلى القوة الباطنة، وقد سبق القول فيه.

[3842] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن مسعود- رضي الله عنه-: (الكبر بطر الحق وغمط الناس). البطر: سوء احتمال الغنى. وقيل: الطغيان عند النعمة. وقيل: معنى بطر الحق أن يجعل ما جعله حقاً من توحيده وعبادته باطلاً. وأصله مأخوذ من قول العرب: ذهب دمه بطراً أو بطرا. وقيل: البطر الحيرة، ومعناه أن يتحير عند الحق فلا يراه حقاً. وقيل: هو أن يتكبر عند الحق فلا يقبله. وتفسيره على الباطل أشبه لما ورد في غير هذه الرواية: (إنما ذلك من سفه الحق وغمض الناس)، أي: رأى الحق سفهاً. وغمط الناس: أي احتقرهم، وفي معناه غمض وقد ورد بهما الرواية. (ومن الحسان) [3846] حديث عبد الله بن عمرو- رضي الله عنه- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يحشر المتكبرون أمثال الذر).

يحمل ذلك على المجاز دون الحقيقة، أي: أذلاء مهانين يطأوهم الناس بأرجلهم. وإنما منعنا عن القول بظاهره ما أخبرنا به الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - أن الأجساد تعاد على ما كانت عليه من الأجزاء حتى إنهم يحشرون غرلاً يعاد منهم ما انفصل عنهم من القلفة، وإلى هذا المعنى أشار بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (يغشاهم الذل من كل مكان). وفيه: (تعلون نار الأنيار) المشهور في الأنيار أنها جمع النير وهو العلم، وهو أيضاً الخشبة المعترضة في عنق الثورين، ويجمع على نيران وأنيار، وجمع النار: نور وأنور ونيران، فلعل بعض الرواة رواه كذلك قياساً على النيران والأنيار. ومعنى نار الأنوار: أن النار تحترق منها احتراق الأشياء من النار. [3847] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عطية بن عروة السعدي- رضي الله عنه-: (إذا غضب أحدكم فليتوضأ). أراد أن ذلك يسكن غضبه، وقد ذكر السبب فيه، وقد روى في هذا الحديث الاغتسال مكان الوضوء [164/أ] فيحمل أمر الاغتسال على الحال التي يكون الغضب فيها أقوى وأغلب [أم] يحمل على أنه أتم الأمرين. [3849] ومنه حديث أسماء بنت عميس- رضي الله عنها- سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (بئس العبد تخيل واختال). أي: تخيل له أنه خير من غيره. واختال أي: تكبر. (يختل الدنيا بالدين) أي يراودها ويطلبها.

باب الظلم

شبهه في مخرفته بالصائد يختل الصيد، والاصل فيه الخداع. والمعنى أن يطلب الدنيا بعمل الآخرة. وفيه (يخبل الدين بالشبهات)، بالباء المنقوطة بواحدة، من الخبال وهو الفساد، أي يفسد دينه بالشبهات فصحف. وفيه: (رغب يذله) الرواية عندي بفتح الغين، أي تذله الرغبة في الدنيا، ومن الناس من يقول رغب بضم الراء وسكون الغين، وهة الشره يقال: الرغب شؤم، ولعل الأصل في السعة، يقال: جوف رغيب، أي: واسع، فكنى به عن الحرص والشره. والحديث فيه كلام، رواه الترمذي بإسناد له عن هشام بن سعيد الكوفي وقد ذكره ابن أبي عدي في كتابه، وقال: عامة ما يرويه لا يتابع عليه. وقد ذكر الترمذي بعد الحديث أن إسناده ليس بالقوي. ومن باب الظلم (من الصحاح) [3853] حديث ابن عمر- رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما مر بالحجر قال: (لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا أنفسهم ...) الحديث. الحجر: منازل ثمود، وذلك في مسيره إلى تبوك، خشى على أصحابه أن يجتازوا على تلك الديار ساهين غير متعظين بما أصاب أهل تلك الديار، وقد أمرهم الله بالانتباه والاعتبار في مثل تلك المواطن. وفيه: (قنع رأسه) يحتمل وجهين:

أحدهما: أنه أخذ قناعاً على رأسه شبه الطيلسان، وهو الأظهر. والآخر: أن يكون مبالغة من الإقناع أي: أطرق فلم يلتفت يميناً ولا شمالاً كيلا يقع بصره عليها وقد حلت بأهلها المثلات، وهم فيهان فصارت معلمة بمقت الله وغضبه. وفي الحديث: أنه نهاهم أن يشربوا ماءها، وكانوا قد خمروا به عجينتهم، فأمرهم أن يعلفوها [164/ب] دوابهم، ولم يرخص لهم في الأكل منها. [3855] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-: (فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم، فطرح عليه ثم طرح في النار). فإن قيل: كيف التوفيق بين قوله سبحانه: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} وبين هذا الحديث؟. قلنا: تأويل هذا الحديث عندنا أن نقول: إذا لم يكن له حسنة يقتص بها ما عليه من المظالم أخذ بمظلمة صاحبهن فطرح في النار، وغفر لصاحبه خطاياه؛ لكون مظلوماً، فيصبر كأنه أخذ من المظلوم ما عليه من الوزر، وطرح على الظالم. (ومن الحسان) [3856] حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها ..) الحديث. لتؤدن: على بناء المجهول، والحقوق مرفوع. هذه هي الرواية المعتد بها، ويزعم بعضهم ضم الدال ونصب الحقوق، والفعل مسند إلى الجماعة الذين خوطبوا به، والصحيح ما قدمناه. (الجلحاء): التي لا قرن لها:، يقال: بقر جلح.

باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

[3857] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث حذيفة- رضي الله عنه: (لا تكونوا إمعة). يقال: رجل إمع وإمعة للذي يكون لضعف رأيه مع كل أحد، ولا يستعمل ذلك في النساء، فلا يقال: امرأة إمعة، هذا قول أهل اللغة. وأما معناه هاهنا فإنه جعل الإمعة من يكون مع من يوافق هواه ويلائم أرب نفسه. ومن باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (من الصحاح) [3861] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث [أسامة بن زيد]- رضي الله عنه: (فتندلق أقتابه في النار).

تندلق: أي تخرج خروجاً سريعاً، والاندلاق التقدم، يقال: اندلق السيف: إذا خرج من غمده من غير سل. والأقتاب: الأمعاء، وأحدها قتب بالكسر، وقال أبو عبيدة: القتب ما يحوي من البطن وهو الحوايا، وأما الأمعاء فهي الأقصاب.

(ومن الحسان) [3867] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- (ولا غدر أكبر من غدر أمير [165/أ] العامة). أراد أمير العامة المتغلب الذي يستولى على أمور المسلمين وبلادهم بتأمير العامة ومعاضدتهم إياه من غير مؤامرة من الخاصة وأهل العقد من أولي العلم ومن ينضم إليهم من ذوي السابقة ووجوه الناس. وفيه: (يغرز لواؤه عند استه). من شأن الأمراء أن يكون لواؤهم خلفهم ليعرفوا به، ويوم القيامة يكون لكل من دعا إلى حق أو باطل لواء يعرف بهن وذكر عند استه استهانة به وتنبيهاً على أنه يلصق به ويدنى منه دنوا لا يكون معه اشتباه.

[3870] ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لن يهلك الناس حتى يعذروا من أنفسهم). عذر أو أعذر: إذا كثرت ذنوبه، وحقيقة المعنى في الحديث أنهم يذنبون فيستوجبون العقوبة فيقيمون عذر من يعاقبهم على ذلك. ويحتمل أن يكون المعنى: يزيلوا عذرهم من قبل أنفسهم. ولفظ الحديث يعذروا على بناء الفاعل من الإعذار، كذلك نرويه، ويجوز فيه فتح حرف المضارع. [3872] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن مسعود- رضي الله عنه: (حتى تأطروهم أطراً)، الأطر: العطف، أي: تعطفوهم على الحق، يقال: أطرت القوس، أي: عطفتها.

كتاب الرقاق

ومن كتاب الرقاق (من الصحاح) [3877] حديث جابر- رضي الله عنه- (مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجدي أسك). الأسك: الصغير الأذن، ويقال للذي لا أذن له. [3881] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- (تعس انتكس وإذا شيك فلا انتقش). التعس: الهلاك، وأصله الكب، ويقال: نكسته نكساً إذا قلبته على رأسه فانتكس. ونقشت الشوكة من الرجل وانتقشتها، أي: استخرجتها، يدعو على من استعبده الدينار والدرهم والخميصة بالهلاك والانكباب والانتكاس وفقدان الفرج فيما يصيبه من البلاء. (فلا انتقش): على بناء المفعول. ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث أيضاً (إن كان في الحراسة كان في الحراسة [165/ب] وإن كان في الساقة ..). أراد بالحراسة حراسة العدو أن يهجم عليهم، وذلك يكون في مقدمة الجيش. والساقة: مؤخرة الجيش، والمعنى ائتماره لما أمر، وإقامته حيث أقيم لا يفقد من مكانه بحال، وإنما ذكر

الحراسة والساقة، لأنهما أشد مشقة وأكثر آفة. الأول: عند دخولهم دار الحرب، والآخر: عند خروجهم منها. قلت: هذا حديث واحد، وقد فصل بين قوله: (وإذا شيك فلا انتقش)، وبين قوله: (طوبي لعبد) في بعض نسخ المصابيح بفصل ظناً منهم بأن ذلك حديثان، وليس كذلك. [3882] ومنه قول أبي سعيد الخدرى- رضي الله عنه - في حديثه: (فمسح عنه الرحضاء). يريد أنه أوحى إليه ففاض عنه العرق، وكان يأخذه الرحضاء عند شدة البرحاء، فلما سرى عنه مسحها. والرحضاء: العرق الذي في أثر الحمى. وفيه: (وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حيطا أو يلم). حبطت الدابة تحيط حبطا: إذا أصابت مرعى طيباً فأفرطت في الأكل حتى تنتفخ فتموت. وقوله: (أو يلم) أي يقرب أن يهلك أو يكاد. وفيه: (إلا آكلة الخضر) في أكثر الروايات بكسر الضاد، وهو من النبات الرخص الغض. قال الأزهري: الخضر- هاهنا -ضرب من الجنة وهو ما له أصل غامض في الأرض فالماشية تشتهيه فتكثر منه، واحدتها خضرة. وقد روى بزيادة هاء، وروى بضم الخاء. وفيه: (حتى امتدت خاصرتها)، وهو عبارة عن الشبع فإنهما تمتدان عند امتلاء البطن. وقوله: (واستقبلت عين الشمس) أي: ذاتها وقرصها. وفيه: (فثلطت)، ثلطت أي: ألقت بعرها، يقال: ثلط البعير: إذا ألقى بعره رقيقا. وفيه: (وإن هذا المال خضرة حلوة) كذلك يرويه من كتاب البخاري على التانيث، وقد روى أيضا (خضر حلو).

وهذا وإن كان أمثل من طريق اللغة، ويدل على ذلك الضمير من قوله: (فمن أخذه بحقه)، فإن الرواية في الأول أو ثق وأكثر، والحديث إذا روى عن جمع من الصحابة على سياق واحد كان وروده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - باللفظ الذي رووه [166/أ] أقوى وأثبت، وقد رواه أبو سعيد الخدرى وحكيم بن حزام وخولة بنت حكيم- رضي الله عنهم كذلك. والوجه فيه أن يقال: إنما أنث على معنى تأنيث المشبه به، أي: أن هذا المال شيء كالخضرة. وقيل: معناه كالبقلة الخضرة، أو يكون على معنى فائدة المال، أي: إن الحياة به (أو) العيشة خضرة. وأما معناه على لفظ التذكير فظاهر، أي: إن هذا المال ناعم مشتهى، شبهه بالمراعي الشهية للأنعام. والحديث مشتمل على مثلين ضرب أحدهما: للمفرط في جمع الدنيا ومنعها، الآخذ من غير حلها، فلا تزال به حتى تهلكه، والآخر: للمقتصد الذي يأخذها من حلها فينتفع بها وينفق الفضل منها، ولا يحمله الحرص على تناول ما يهلكه وإمساك ما يستضر بإمساكه.

(ومن الحسان) [3896] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة- رضى الله عنه-: (... إلا هرماً مفنداً او موتاً مجهزاً). الرواية فيهما بالتخفيف، ومن شددهما فليس بمصيب. (والهرم المنفد) الذي يبلغ بصاحبه إلى النفد: وهو ضعف الرأي، يقال: أفند الرجل: إذا كثر كلامه من الخوف، وأفنده الكبر أيضاً. وموت مجهر أي: وحي، والجهيز: السريع.

[3904] ومنه حديث عثمان- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال ..) الحديث. أراد بالحق ما وجب له من الله من غير تبعة في الآخرة، ولا سؤال عنه إذا لكتفى بذلك من حله، لم يسأل عنه، لأنه من الحقوق التي لا بد للنفس منها. وأما ما سواه فإنه من الحظوظ يسأل عنه ويطالب بشكره، ويلزمه فيه من حقوق الله وحقوق العباد ما حده الشرع.

وفيه: (وجلف الخبز)، الجلف فسر هاهنا بالظرف كالخرج والجوالق، ويقال: للدن الجلف. وقد رواه الترمذي في كتابه ثم روى بإسناده عن النضر بن شميل أنه قال: جلف الخبز يعني: ليس له إدام. ولم يبين مأخذه، وقد وجدت هذا اللفظ في نسخة من كتاب الترمذي بخط بعض الحفاظ مقروءة على جمع من حفاظ اصبهان [166/ب] مقيدا بفتح اللام في متن الحديث، وفيما ذكره عن النضر بن شميل. [3907] ومنه حديث أبي أمامة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - انه قال: (غن من أغبط اوليائي عندي عبد مؤمن خفيف الحاذ ..) الحديث. المعنى: إن من أحق أحبابي وأنصاري عندي بالغبطة مؤمن مخف لا يثبطه أهل ولا مال. والحاذان من الدابة: ما وقع عليه الذنب من أدبار الفخذين، والإنسان غذا كان يحاذيه قلة لحم كان أمكن لمشيه، فاستعير خفة الحاذ لخفة الظهر. وفيه: (ثم نقد بيده)، نقد بالدال من نقدت الشيء بأصبعي، ويقال: نقد الطائر الحب: إذا كان يلقطه واحدا بعد واحد، وأريد به- هاهنا- ضرب الأنملة على الانملة أو ضربها على الأرض كالمتقلل للشيء، أي: لم يلبث إلا قليلا حتى قبضه الله، يقلل مدة عمره وعدد بواكيه ومبلغ تراثه، وقد فسر ذلك في بعض طرق هذا الحديث في متن الحديث، أورده أبو عبد الله أحمد- رضي الله عنه- في مسنده، وفيه: يقلها. ومن الرواة من يروي (نقر) بالراء، أي نقر بأصبعه، وكذلك رواه الترمذي في كتابه، ومن كتابه نقله المؤلف.

[3909] ومنه حديث عبد الله بن محصن الخطمى- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (من أصبح منكم آمنا في سربه ...) الحديث. المشهور فيه كسر السين، يقال: فلان آمن في سربه، أي: في نفسه، وفلان واسع السرب، أي: رخى البال. وقيل: في سربه بفتح السين، أي: في مسلكه، يقال: خل له سربه أي: طريقه. وأبى بعضهم إلا السرب بفتح السين والراء، أي: في بيته، ولم يذكر فيه رواية، ولو سلم له قوله أن يطلق السرب على كل بيت كان قوله هذا حريا بأن يكون أقوى الأقاويل، إلا أن السرب يقال للبيت الذي هو في الأرض. [3911] ومنه حديث ابن عمر- رضي الله عنهما- (سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يتجشأ ....) الحديث. الرجل هو وهب أبو جحيفة السوائي، روى عنه أنه قال: (أكلت ثريدة بر بلحم وأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أتجشأ ...) وذكر الحديث [167/أ]. الاسم من التجشؤ الجشأة على مثال الهمزة. قال الأصمعي: ويقال الجشاء على فعال كأنه من باب العطاس والبوال والدوار. وقوله: (أقصر عنا) بقطع الألف، أي: اكفف عنا، يقال: أقصرت عنه أي: كففت ونزعت مع القدرة عليه، فإن عجزت قلت قصرت بلا ألف. والنهي عن الجشاء هو النهي عن الشبع فإنه هو السبب الجالب له، والجشاء إذا استمر بالإنسان لم يقدر على دفعه، لأنه أمر طبيعي، فنهى عن السبب فإنه أمر مستطاع. وكان أبو جحيفة في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبلغ الحلم، وهو معدود في صغار الصحابة. وقد ذكر في كتاب المعارف أنه لم يأكل ملء بطنه حتى فارق الدنيا، كان إذا تعشى لا يتغدى، وإذا تغدى لا يتعشى- رضي الله عنه-

باب فضل الفقراء

[3913] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس- رضي الله عنه- (بجاء بابن آدم يوم القيامة كأنه بذج). البذج من أولاد الضأن بمنزلة العنود من أولاد المعز. أراد بذلك هوانه وعجزه. وفي بعض طرق هذا الحديث (كأنه بذج من الذل). ومن باب فضل الفقراء (من الصحاح) [3916] حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (رب أشعث مدفوع بالأبواب ...) الحديث .. يريد أنه يدفع عند الدخول إما باليد وإما باللسان، فيرد بالفعل وهو الفع بالقهر، أو بالقول وهو أن لا يؤذن له، بل يعلل بالعذر.

وصحف الكلمتان في المصابيح فلم نجد نسخة إلا ما أصلح من النسخ غلا وفيها: (مرقوع الأثواب) بالراء والقاف والثاء المنقوطة بثلاث. وفيه: (لو أقسم على الله لأبره). يذهب كثير من الناس في معنى ذلك إلى أنه مثل قول القائل: اللهم إني أقسم عليك بجلالك أن تفعل كذا. ولا يستقيم هذا المعنى في مثل هذا الموضع، لأنه قال: لأبره، أي: صدقه وصدق يمينه، يقال: أبر الله قسمك: إذا لم يكن حانثا. ولا مدخل للصدق والكذب في مثل هذه اليمين، فيدخلها الإبرار. وإنما المعنى أنه لو حلف يمينا على أن الله يفعل الشيء أو لا يفعله جاء الأمر فيه ما يوافق يمينه. يدل عليه حديث أنس بن النضر [167/ب] عم أنس- رضي الله عنهما- أنه قال حين كسرت أخته الربيع ثنية جارية من الأنصار، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقصاص: (لا والله لا تكسر ثنيتها يا رسول الله) فرضي القوم وقبلوا الأرش، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره). قلت: وقد وجدنا فيما ذكر عن السلف أن أبا جعفر الدوانيقي لما قرب من الحرم في آخر قدمة قدمها أنذر به سفيان الثوري وخوف منه، وكان سيء الرأي في سفيان فقال: برنت من رب هذه البنية لو دخلها ابو جعفر، فقتله القولنج ميمون ولم يدخلها. [3918] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة- ضي الله عنه: (وأصحاب الجد محبوسون). أصحاب الجد هم الأغنياء، والجد بالفتح الغنى.

[2924] ومنه قول أنس- رضي الله عنه- في حديثه: (أنه مشى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بخبز شعير وإهالة سنخة). الإهالة: الدسم ما كان. والنسخة: المتغيرة. يقالب: سنخ الطعام وزنخ: إذا تغير. [3925] ومنه حديث عمر- رضي الله عنه-: (دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مضطجع على رمال حصير). رملت الحصير أي: سففته، وأرملته مثله، ورمل سريره وأرمله إذا رمل شريطا أو غيره فجعله ظهرا له. ورمال الحصير: ما نسج منه عودا عودا. يقال لكل نسجة منه رمل، وتجمع على رمال. وفي كتاب الترمذي (على رمل حصير) مكان رمال، فكأنه جعل الكل نسجة واحدة، وفي بعض الروايات (على رمال سرير). وفي حديث عمر هذا (رمال حصير) أثبت، وكذا روى في الصحاح.

=====

=====

باب الأمل والحرص

ومن باب الأمل والحرص (من الصحاح) [3945] حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (أعذر الله إلى امرئ ...) الحديث. المعنى: أنه أفضى بعذره إليه، فلم يبق له عذرا. يقال: أعذر الرجل إلى فلان، أي: بلغ به أقصى العذر. ومنه قولهم: أعذر من أنذر، أي: أتى بالعذر أو أظهره، وهذا مجاز من القول، فإن العذر لا يتوجه على الله تعالى، وإنما يتوجه [168/أ] له على العبيد. وحقيقة المعنى فيه: أن الله لم يترك له شيئا في الاعتذار يتمسك به.

(ومن الحسان) [3952] حديث عبد الله بن الشخير- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (مثل ابن آدم [إلى جنبه تسعة وتسعون منية) الحديث. الكلام فيه حذف كأنه قال: مثل ابن آدم] مثل الذي إلى جنبه ... الحديث. وتسعة من حقها تسع وتسعون، وأمثال ذلك في الحديث يقع من تخبط الرواة.

=====

باب التوكل والصبر

ومن باب التوكل والصبر (من الصحاح) [3965] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه: (فإن لو [تفتح] عمل الشيطان) لم يرد به كراهة التلفظ بتلك الكلمة في جميع الأحوال وسائر الصور، وإنما عنى به الإتيان بها في صيغة يكون فيها منازعة القدر دون التأسف على ما فاته من أمور الدنيا، ويبين هذا المعنى قوله سبحانه: {لو كان لنا من

الأمر شيء ما قتلنا هاهنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم} فأتت الآية على القسمين ما يحمد منه وما يذم، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت) وما أشبهه من كلامه غير داخل في هذا الباب؛ لأنه لم يرد منازعة القدر، وإنما قصد فيه القصد الصحيح. وقوله: (لو

باب الرياء

استقبلت)، كان في قصة نسخ الحج إلى العمرة، والتحليل عنها، فلما رأى ما يداخلهم من الكراهة قال هذا القول تطييبا لقلوبهم، وتنبيها لهم على أن العمل الذي أمرهم به ليس مما يتورع هو منه. وفي غير هذه الرواية: (إياك ولو) أي: أن قولها واعتياد معناها يفضي بالعبد إلى تكذيب بالقدر أو عدم الرضا بصنع الله؛ لأن القدر إذا ظهر بما يلزم العبد قال: لو فعلت كذا لم يكن هذا، وقد مر في علم الله أنه لا يفعل إلا الذي فعل، ولا يكون إلا الذي كان، وقد أشار - صلى الله عليه وسلم - بقوله قبل ذلك: (ولكن قدر الله وما شاء فعل). ومن باب الرياء (من الحسان) [3976] حديث عبد الله بن عمرو- رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من سمع الناس بعمله سمع الله به أسامع خلقه). هذا الحديث يروى من وجهين: (سمع الله به سامع خلقه) سامع بالرفع على نعت [168/ب] الفاعل وهو الله. (وأسامع خلقه) بالنصب على المفعولية. وأسامع: جمع الجمع. يقال: سمع وأسمع وأسامع، والمعنى: يفضحه يوم القيامة. ومثله: (من راءى راءى الله به). وقيل: من أذاع على مسلم عيبا، وسمعه عليه أظهر الله عيوبه. وقيل: سمع به أي: أسمعه المكروه.

باب البكاء والخوف

[3981] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه: (فإن صاحبها سدد وقارب) المعنى: إن لازم صاحبها، يعني صاحب الفترة والشرة القصد القويم وسلك المنهج المستقيم غير مفرط ولا مفرط، ولا يقصر ولا يتعمق. وقد مر بيان الكلمتين فيما مضى، والله أعلم. ومن باب البكاء والخوف (من الصحاح) [3984] حديث أم العلاء الأنصارية- رضي الله عنها- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (والله لا أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم).

لا يجوز حمل هذا الحديث ولا ما ورد في معناه على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مترددا في عاقبة أمره، غير متيقن بما له عند الله من الحسنى؛ لما ورد عنه من الأحاديث الصحاح التي ينقطع العذر دونها بخلاف ذلك، وأنى يحمل على ذلك وهو المخبر عن الله تعالى أنه يبلغه المقام المحمود، وأنه أكرم الخلائق على الله، وأنه أول شافع وأول مشفع، وأنه وأنه ... إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في معاني الاجتباء. فيحمل ذلك على أنه نفى علم الغيب عن نفسه، وأنه ليس بمطلع على المكنون من أمره وأمر غيره. وقد كان هذا القول منه حين قالت امرأة لعثمان بن مظعون لما توفي: (هنيئا لك الجنة) وقد اختلف أهل النقل في تلك المرأة؛ فمنهم من قال: هي أم السائب. ومنهم من قال: هي أم خارجة. ومنهم من قال: هي أم العلاء الأنصارية. وعلى مثل هذا التأويل تأويل قوله سبحانه: {قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم} وقد حسن دخول (لا) في قوله: {ولا بكم} مع أن وجه الكلام: ما أدري ما يفعل بي ولا بكم، ليتناول النفي في: لا أدري، ما يفعل بي وما في حيزه، بل يتضمن فائدة لم تكن توجد بدونه، وهو اشتمال النفي على كل واحد من القبيلين على حدة، ثم فيه تنبيه على الافتراق في صيغتي ما يفعل به وما يفعل بهم. [3985] ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (رأيت عمرو بن لحى يجر قصيه في النار ...) الحديث [169/أ] عمرو هذا هو ابن لحى بن قمعة بن خندف الكعبي، وهو أول من سن عبادة الأصنام بمكة، وسيب لها السوائب، حملهم على التقرب إليها بتسييب السوائب، وذلك بأن تسيب في المرعى فلا ترد عن حوض ولا علف، ولا يحمل عليها ولا تركب. وكانوا يسيبون العبيد فيقولون: هو سائبة فيعتق، ولا يكون ولاؤه لمعتقه، ويضع ما له حيث يشاء. وأصل الكلمة من سيبته فساب, وفي كتاب مسلم: (وكان أول من سيب السيوب) مكان السوائب، والمشهور في السيوب أنه الركاز. ومنه الحديث: (وفي السيوب الخمس) فإن كان اللفظ محفوظا عن فصحاء الرواة دون العجم منهم، فالوجه فيه أن يكون جمع سيب، فإن السائبة تجمع على سيب مثل نائحة ونوح، ثم تجمع السيب على سيوب أو جمع السيايب، وعنى به: الظهر، على سيوب مثل راكب وركوب، وساجد وسجود.

وفيه: (يجر قصبه في النار) القصب بالضم المعي. قال تعالى: {وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم}. ولعله كوشف من سائر ما كان يعاقب به في النار يجر قصبه في النار؛ لأنه استخرج من باطنه بدعة جر بها الجريرة إلى قومه، والله أعلم. [3986] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث زينب بنت جحش- رضي الله عنها-: (إذا كثر الخبث) يريد به الفسق والفجور. والعرب تقول للزنا وتدعوه خبثا وخبثة. [3987] ومنه حديث [أبي مالك الأشعري] رضي الله عنه أنه قال: (ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحر ...) الحديث الحر: بتخفيف الراء: الفرج. قال الأصمعي: أصله حرح، فنقصوا في الواحد وأثبتوا في الجمع فقالوا: أحراح. قال الراجز: في قبة موقرة أحراحا وقيل: حرون، كما قالوا: لدون في جمع المنقوص، والواحد حرة، وقد صحف هذا اللفظ في كتاب المصابيح، وكذلك صحفه بعض الرواة من أصحاب الحديث فحسبوه الخز بالخاء والزاي المنقوطتين، والخز لم يحرم حتى يستحل. وفي الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب وعلى رأسه عمامة خز، والنهي الذي في الخز إنما هو في ركوبه وفرشه للوطء؛ لأنه من الإسراف الذي يتعاطاه المترفون. وأما لبسه فلم يرد فيه نهي، ولقد وجدت من الناس من اغتر بخط من كان [169/ب] يعرف بعلم الحديث وحفظه فقد كان قيده بالخاء والزاي المنقوطتين حتى يثبت له أنه صحف أو اتبع رواية بعض من لم يعلم. وقد ذكر الحافظ أبو موسى هذا اللفظ من هذا الحديث في كتابه الموسوم (بالمجموع المغيث) في باب الحاء، وفسره على نحو ما فسرناه، ولم يرو فيه خلافا. وفيه: (والمعازف) المعازف: الملاهي، والعازف: اللاعب بها، وقد عزف عزفا كأنه أخذ من عزف السحاب، وعزفت الجن. والعزيف: صوت الجن، وعزيف الرعد: دويه.

وفيه: (ولينزلن أقوام إلى جنب علم، يروح عليهم بسارحة لهم) سقط منه فاعل يروح فالتبس المعنى على من لم يعلم به. وإنما الصواب (يروح عليهم رجل بسارحة لهم) كذلك رواه مسلم في كتابه، وإنما السهو من المؤلف؛ لأنا وجدنا النسخ سائرها على ذلك. (والسارحة): الماشية السائمة، يقال: سرحت الماشية وسرحت هي نفسها. يقال: سرحت بالغدوة وراحت بالعشي. وفيه: (فيبيتهم الله ويضع العلم). المراد من العلم في الموضعين الجبل، وقد سقط عنه كلمة، وهو أني وجدت: (ويضع العلم عليهم) أي: عذبهم الله بياتا بوضع الجبل عليهم، فلم ير منهم أثر، ولم يسمع لهم حسيس. (ومن الحسان) [2992] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي ذر- رضي الله عنه-: (ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله). الصعدات: جمع صعد، وصعد جمع صعيد، والصعيد: وجه الأرض، وقيل: التراب، ولا معنى له هاهنا، وإنما المعنى: لخرجتم من منازلكم إلى الجبانة متضرعين إلى الله.

ومن حالة المحزون أن يضيق به المنزل فيطلب الفضاء الخالي لشكوى بثه. وقوله: (قال أبو ذر: ليتني كنت شجرة تعضد) وهو من قول أبي ذر، ولكن ليس في كتاب أحد ممن نقل هو عن كتابه: قال أبو ذر، بل أدرج في الحديث. ومنهم من قال: قيل هو من قول أبي ذر. قلت: وقد علموا أنه بكلام أبي ذر أشبه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أعلم بالله من أن يتمنى عليه حالا هي أوضع عما هو فيه، ثم إنها مما لا يكون. [3993] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-: (من خاف أدلج) أدلج بالتخفيف، وهو السير من أول الليل، والادلاج- بالتشديد: السير من آخر الليل. ومنهم [170/أ] من جعل الادلاج الليل كله، وهو أشبه بمعنى الحديث ومما ينشد من قول علي- رضي الله عنه-: اصبر على السير والإدلاج في السحر ... وفي الرواح على الحاجت بالبكر فجعل الإدلاج في السحر على الاتساع. ويحتمل أن يكون قوله: في السحر متعلقا بالسير. [3997] ومنه قول أبي سعيد- رضي الله عنه- في حديثه: (كأنهم يتكشرون).

باب التغير

يكتشرون: أي يضحكون، والمشهور في اللغة الكسر، يقال: كشر الرجل إذا افتر فكشف عن أسنانه، وكشر البعير عن نابه، أي كشف عنها. [2999] ومنه حديث أبي جحيفة السوائي- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (شيبتني هود وأخواتها) يريد أن اهتمامي بما فيها من أهوال يوم القيامة والمثلات النوازل بالأمم الماضية أخذ مني مأخذه حتى شبت قبل أوان الشيب خوفا على أمتي. ومن باب التغير (من الصحاح) [4000] حديث ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إنما الناس كالإبل المائة ...) الحديث. الرواية فيه على الثبت (كإبل مائة) بغير ألف ولام فيهما. والمعنى: أنك لا تكاد تجد في مائة إبل راحلة تصلح للركوب، فإنما يصلح للركوب ما كان وطئا سهل القياد، وكذلك لا تجد في مائة من الناس من يصلح للصحبة فيعاون صاحبه، ويدمث له جانبه.

(ومن الحسان) [4003] حديثه الآخر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا مشت أمتي المطيطياء ...) الحديث. المطيطياء: مشية فيها تبختر ومد يدين. ومنه حديث أبي بكر- رضي الله عنه- (أنه مر على بلال وقد مطى في الشمس) أي: مد: ومنهم من يرويه المطيطاء من غير ياء بعد الطاء الأخيرة، وكذلك وجدناه في [كتب] أهل اللغة. [4005] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث حذيفة رضي الله عنه-: (لكع ابن لكع). قال أبو عبيد: اللكع: العبد، وقد يكنى به عن الحمق، ويوصف به اللئيم. قلت: ويقولون للعبد: لكع لما فيه من الذلة، وللجحش: لكع لما فيه من الخفة، وللصبي لما فيه من الضعف، ويقال أيضا [170/ب] للذليل الذي تكون نفسه نفس العبيد، وأريد به هاهنا الذي لا يعرف له أصل ولا يحمد له خلق.

[4009] ومنه حديث ثوبان- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يوشك الأمم أن تداعى عليكم ...) الحديث. يريد أن فرق الكفر وأمم الضلالة يوشك أن تتداعى عليكم بعضهم بعضا ليقاتلوكم ويكسروا شوكتكم، ويغلبوا على ما ملكتموه من الديار والأموال، كما أن الفئة الآكلة يتداعى بعضهم بعضا إلى قصعتهم التي يتناولونها من غير ما بأس ولا مانع، فيأكلونها عفوا صفوا فيتفرغوا ما في صحفتكم من غير تعب ينالهم، أو ضرر يلحقهم، أو بأس يمعنهم، والرواية في الأكلة بالمد على نعت الفئة أو الجماعة أو نحو ذلك. كذا روي لنا عن كتاب أبي داود، وهذا الحديث من أفرده. وفيه: (ولكنكم غثاء كغثاء السيل) الغثاء- بالضم والمد وبالتشديد أيضا: ما يحتمله السيل من القماش، شبههم بذلك لقلة غنائهم ودناءة قدرهم وخفة أحلامهم. وقول القائل: (وما الوهن؟) سؤال عن نوع الوهن، أو كأنه أراد من أي وجه يكون ذلك الوهن، فقال: (حب الدنيا) يريد أن حب البقاء في الدنيا وكراهية الموت يدعوهم إلى إعطاء الدنية في الدين، واحتمال الذل عن العدو. نسأل الله العافية فقد ابتلينا به، وكنا نحن المعنيين بذلك.

ومن باب آخر (من الصحاح) [4010] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عياض بن حمار المجاشعي- رضي الله عنه- فيما يرويه عن الله سبحانه (كل مال نحلته عبدا حلال) يعني أن كل ما أعطيت عبدا من مال وملكته إياه فهو حلال، لا يستطيع أحد أن يحرمه من تلقاء نفسه. وفيه: (وإني خلقت عبادي حنفاء) أي مستعدين لقبول الحق والميل عن الضلال إلى الاستقامة. وهو في معنى قوله: (كل مولود يولد على الفطرة) وقد بينا اختلاف أهل العلم فيه، ونصرنا الوجه الأسد من ذلك في موضعه. وفيه: (وأنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم) أي: ساقتهم عنه وصرفتهم. يقال: اجتال الرجل الشيء: أي ساقه وذهب به. وقيل: [استخفهم] فجالوا معه. وفيه: (وأمرتهم أن يشركوا بي [171/أ] ما لم أنزل به سلطانا) السلطان: الحجة، سميت به لتسلطه على القلوب عند الهجوم عليها بالقهر والغلبة. أي: أمرتهم بالشرك الذي لم يجعل الله له سلطانا على قلوب عباده، ولم يقيض له موقعا منها، ولما لم تكن الحجج الباهرة والبراهين القاطعة متلقاة إلا من قبل الله رد عليهم بقوله: (ما [لم أنزل به] سلطانا) أن يكون لأحد منهم في الإشراك بالله تعلة. وقد قيل: إن في سياق هذا القول- أعني (ما لم أنزل به سلطانا) تهكم إذ لا يجوز على الله أن ينزل برهانا بأن يشرك به غيره.

وفيه: (إلا بقايا من أهل الكتاب) المراد بهم: من بقى على الملة القويمة من الفرقة الناجية من النصارى. وفيه: (وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الما) فيه أربعة أوجه: أحدها: أنا لم نكتف بإيداعه الكتب فيغسله الماء، بل جعلناه قرآنا محفوظا في صدور المؤمنين. قال الله تعالى: {بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم}. وثانيها: أن المراد من الغسل النسخ، والماء مثل: أي: أنزلت عليك كتابا لا ينزل بعده مني كتاب ينسخه كالكتب التي قبله وقد ضرب الله مثل القرآن بالماء، فقال: {أنزل من السماء ماء}. وثالثها: أنه ضرب المثل في الإبطال والإفناء بالماء؛ لأنه من أقوى الأسباب في هذا الباب، أي: لا تبطله حجة تبطل بمثلها الأشياء. وقد يستعمل الغسل في معنى الإبطال والإدحاض. قال الشاعر: سأغسل عني العار بالسيف جالبا ... على قضاء الله ما كان جالبا ورابعها: أنه لا يبطله غسل، ولا يفنيه، وإن غسل بالماؤ. وكل هذه الوجوه مذكور في كتب أهل العلم، وأسدها وأشبهها بنسق القول الوجه الأول. قلت: ويحتمل وجها آخر وهو أن يقال: أراد به غزارته وكثرة فوائده، فإن الواصف إذا وصف مال الرجل بالوفور والدثور قال: عنده مال لا يفنيه الماء والنار. وفيه: (يقرؤه نائما [ويقظان]) قيل: تجمعه حفظا وأنت نائم، كما تجمعه حفظا وأنت يقظان. وقيل: أراد يقرؤه في يسر وسهولة ظاهرا، يقال للرجل إذا كان قادرا على الشيء ماهرا به: هو يفعله نائما. وهذا أولى الوجهين بالتقديم. ويجوز أن يحمل على ظاهره، فإن الرجل إذا [171/ب] كان شديد العناية تقول: غلب ذلك على مصورات خياله، ويسبق ذهنه إليه في نومه، كما يسبق إليه في يقظته، فيتلفظ بذلك وهو نائم لشدة عنايته بتحفظه ودراسته. وفيه: (وإن الله أمرني أن أحرق قريشا) يريد: أمرني أن أهلكهم، والإحراق يرد بمعنى الإهلاك. ومنه الحديث: (أحرقتنا نبال ثقيف). وفي حديث المظاهر: (احترقت) وفي رواية (هلكت). وفيه: (فقلت رب إذا يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة). يثغلوا: أي يشدخوا. وقيل: الثلغ فضخك الشيء الرطب بالشيء اليابس حتى ينشدخ. قلت: ومعنى قوله: (فيدعوه خبزة) أي: يتركوه بالشدخ بعد الشكل الكروي مصفحا مثل خبزة.

وقد وجدت بعض أهل العلم من رواة كتاب مسلم قيده في نسخته المسموعة عليه بكسر الخاء والراء المهملة، وفسره بخطه أو بخط غيره على حاشية الكتاب، أي: تجعلوا شدخ رأسي اختبارا وامتحانا لهم. وما أراه إلا مصحفا اخترع المعنى من عنده فأحال فيه. وقد غلط أيضا في قوله: (واغزهم نغزك) فرواه: نعزك بالعين المهملة وتشديد الزاي. وإنما هو بالغين المنقوطة من الإغراء، تقول: أغزيت فلانا، أي: جهزته للغزو، والمغزية: المرأة التي غزا زوجها. ومنه حديث عمر- رضي الله عنه- (لا يزال أحدهم كاسرا وساده عنده مغزية). قلت: وحديث عياض هذا حديث طويل أورد المؤلف نصفه في هذا الباب، والنصف الآخر وهو آخر الحديث في باب الشفقة والرحمة، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: (وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان ...) الحديث. [4011] ومنه قول أبي لهب في حديث ابن عباس- رضي الله عنهما- (تبا لك سائر اليوم). التباب: الخسران والهلاك، يقال: تبا له، ينصب على المصدر بإضمار فعل، أي: ألزمه الله هلاكا وخسرانا. (وسائر اليوم): أجمعه، منصوب بالظرفية. وفي أمثالهم في اليأس من الحاجة: (أسائر اليوم وقد زال الظهر). ومن ذهب في (السائر) إلى البقية، فإنه غير مصيب؛ لأن الحرف من السير لا من السؤر. وفيه: (فانطلق يربأ أهله)، أي: يرقب ويعتان لهم، يقال: ربأت القوم ربئا، وارتبأتهم إذا رقبتهم. وكذلك [172/أ] إذا كنت لهم طليعة فوق شرف. وفيه: (غير أن لهم رحما سأبلها ببلالها) وقد فسرناه في باب البر والصلة. وفيه: (سليني ما شئت من مالي). قلت: أرى أنه ليس من المال المعروف في شيء، وإنما عبر به عما يملكه من الأمر وينفذ تصرفه فيه، ولم يثبت عندنا أنه كان ذا مال، لاسيما بمكة. ويحتمل أن الكلمتين، أعني (من) و (ما) وقع الفصل فيهما من بعض من لم يحققه من الرواة، فكتبهما منفصلتين.

(ومن الحسان) [4015] حديث عائشة- رضي الله عنها- سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إن أول ما يكفأ ...) الحديث. يكفأ: أي يمال فيفرغ، من قولك: كفأت القدر: إذا كببته لتفرغ ما فيها، وأريد به هاهنا الشرب؛ لأن من شأن الشارب إذا أراد أن يستفرغ ما في الكأس أن يميلها إلى فيه كل الميل. وقول الراوي: يعني الإسلام سقط منه (في) وصوابه (في الإسلام من الأشربة المحرمة شرب الماء الخمر). وقوله: (يسمونها بغير اسمها) يقول: إنهم يتسترون بما أبيح لهم من الأنبذة فيتوصلون بذلك إلى استحلال ما حرم عليهم منها.

=====

كتاب الفتن

ومن كتاب الفتن (من الصحاح) [4017] حديث حذيفة- رضي الله عنه- سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (تعرض الفتن على القلوب كالحصير ...) الحديث. ذكر أبو عبيد الهروي عن بعضهم في تفسيره أي يحيط بالقلوب، يقال: حصر به القوم أي أطافوا به. وذكر عن الليث أنه قال: حصير الجنب عرق يمتد معترضا على جنب الدابة إلى ناحية بطنها. يريد أنها تلصق بقلبه لصوق ذلك العرق بجنب الدابة. وقيل. أراد عرض السجن. قال الله تعالى: {وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا}. قلت: وذكر عن بعضهم أنه هو الحصير المنسوج، وهذا هو التأويل المستقيم على سياق الحديث. وأما البقية فقد ضربوا فيها يمينا وشمالا، ولم يبعدوا عن الإصابة، لولا مكان قوله: (عود عود). ولعل الذاهبين إلى غير ذلك لم يبلغهم الحديث بتمامه، فأولوه على ما بلغهم. وفي بعض طرق هذا الحديث: (تعرض الفتن على القلوب عرض الحصير)، ولم يذكر (عود عود) وعلى المؤول أن لا [172/ب] يسارع إلى التأويل حتى يستوفي طرق الحديث، فإن الزيادات التي توجد فيها قلما تخلو عن لفظ يرشد إلى الأقوم والأقرب من وجوه التأويل. وإذا حمل على الحصير المعروف ففيه وجهان: أحدهما: أن يقال: تعرض الفتن عليها شيئا فشيئا، وتنسج فيها واحدا بعد واحد، كالحصير الذي ينسج عودا عودا. والآخر: أن يقال: يلصق بعرض القلوب كما يلصق الحصير بجنب النائم عليه، ويؤثر فيه. وقيل: (تعرض) تظهر لها وتعرف ما تقبل منها وما تأباه وتنفر منه. ومنه: عرضت الخيل، وعرض السجان أهل السجن، أي: أظهرهم واختبر أحوالهم.

ومنه قوله سبحانه: {وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا} أي: أظهرناها لهم، وقوله: (عود عود)، فقد روي بالرفع، وهكذا نرويه عن كتاب مسلم، وعلى هذا الوجه أورده المؤلف، والتقدير: وهو عود عود. ورواه آخرون بالنصب، ورواه بعض من يرويه بالنصب بفتح العين على المصدر أي يعاد على القلب ويكرر، ولم يبعد في المعنى لو ساعدته الرواية. ورواه بعضهم بالذال المعجمة، أي أعوذ بالله منها عوذا، ولا عبرة به فإنه تصحيف يشبه الصواب. وفيه: (أبيض مثل الصفا). الصفا: الحجارة الصافية الملساء، وأريد به هاهنا النوع الذي صفا بياضه، وعليه نبه بقوله: (أبيض)، وإنما ضرب المثل به لأن الأحجار إذا لم تكن معدنية لم تتغير بطول الزمان، ولم يدخلها لون آخر لاسيما النوع الذي ضرب به المثل، فإنه أبدا على البياض الخالص الذي لا تشوبه كدرة. وفيه: (والآخر أسود مرباد)، الربدة لون بين السواد والغبرة، ومنه ظليم أربد، وقد اربد اربدادا، أي: تلون وصار على لون الرماد. ومنه الحديث: (كان إذا نزل عليه الوحي اربد وجهه). قلت: وإنما وصف القلب بالربدة، لأنه أنكر ما يوجد من أنواع السواد، بخلاف ما يشوبه صفاء ويعلوه طراوة من النوع الخالص. وفيه: (كالكوز مجخيا). التجخية: الميل. قال الشاعر: كفى سوءة أن لا تزال مجخيا وفي حديث البراء- رضي الله عنه- أنه جخى في سجوده، أي: خوى ومد ضبعيه وتجافى عن الأرض. وروى (جخ في سجوده). قلت: وإنما ضرب المثل بالكوز المائل، لأنه إذا مال انصب [173/أ] ما فيه. وفي بعض طرق هذا الحديث أن حذيفة أمال كفه عند التحدث بقوله: مجخيا. قلت: أبان بالإشارة ما أريد به من المعنى، وهو أن القلب يخلو ويفرغ عما أودع فيه من المعارف ومحاسن الأخلاق والآداب. [4018] ومنه حديثه الآخر عن- النبي - صلى الله عليه وسلم - أن: (الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ..) الحديث. جذر كل شيء بالفتح: أصله. روي عن الأصمعي. وروي بالكسر عن أبي عمرو.

وعشرة في حساب الضرب جذر مائة، يريد أن الأمانة أول ما نزلت في قلوب رجال الله واستولت عليها، فكانت هي الباعثة على الأخذ من الكتاب والسنة. وفيه: (فيظل أثرها مثل الوكت). الوكتة كالنقطة في الشيء. يقال: وكت البسرة توكيتا من نقط الإرطاب. يريد أن الأمانة ترفع عن القلوب عقوبة لأصحابها على ما اجترحوه من الذنوب، حتى إن الرجل إذا استيقظ من منامه لا يجد قلبه على ما كان عليه، ويبقى فيه أثر تارة مثل الوكت، وتارة مثل المجل، وهو انتفاط اليد من العمل. أراد به خلو القلب عن الأمانة، مع بقاء أثرها من طريق الحسبان، فضرب المثل بالشاهد ليدله ذلك على ما خفي عليه واستتر منه من المعنى. وفيه: (كجمر دحرجته على رجلك). أي: يكون أثر ذلك في القلب كأثر جمر قلبته على رجلك. يقال: دحرجته فتدحرج، والمدحرج: المدور. وفيه: (فنفط فتراه منتبرا) قلت: إنما أتى بالحرفين على التذكير إرادة للموضع الذي دحرج عليه الجمر من رجله. (والمنتبر): المنتفط, ومنه الحديث: (إن الجرح ينتبر في رأس الحول) أي: يرم وينتفط. ومنه قول عمر- رضي الله عنه-: (إياكم والتخلل بالقصب، فإن الفم ينتبر منه).

والمعنى يخيل إليك أن الرجل ذو أمانة، وهو في ذلك بمثابة النفطة التي تراها منتفطة ولا طائل تحتها. ومنه قوله في حديثه الآخر: (وفيه دخن). الدخن بالتحريك: الدخان، والدخن أيضا: الكدورة، والمعنى أن ذلك لا يصفو بل تشوبه كدورة. ومنه قولهم: (هدنة على دخن)، أي سكون لعلة لا للصلح. وفيه: (يستنون بسنتي) أي يؤثرونها في الظاهر، ولا يقومون بما لا يطلع عليه منهم أحد، فيراعون سنتي في الظاهر، ويخالفون هديي في الحقيقة. وفيه: (وهم من جلدتنا)، أي من أبناء جنسنا، والجلدة: أخص من الجلد، وذلك مثل قولك: ما رأيت رجلا في مسلاخه خيرا من فلان. وفيه: (ولو أن تعض [173/ب] بأصل شجرة) أي: تتمسك بما يصبرك، وتقوي به عزيمتك على اعتزالهم، ولو بما لا يكاد يصح أن يكون متمسكا. [4022] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- (من تشرف له تستشرفه) أي من تطلع لها دعته إلى الوقوع فيها. والتشرف: التطلع يقال: تشرفت الحرباء.

ومنه الحديث: (لا تشرفوا للبلاء) واستعير هاهنا للإصابة بشرها من قولهم: استشرفت إبلهم. أي: تعينتها، وأريد به أنها تدعوه إلى زيادة النظر إليها وقيل: إنه من استشرفت الشيء أي: علوته، يريد من انتصب لها انتصبت له وتلته وصرعته. وقيل: هو من المخاطرة والإشفاء على الهلاك، أي: من خاطر بنفسه فيها أهلكته، وقد بينا معنى هذا اللفظ في قوله - صلى الله عليه وسلم - (استشرفها الشيطان) يعني المرأة. [4026] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- (يتقارب الزمان) يريد اقتراب الساعة، ويحتمل أنه أراد بذلك تقارب أهل الزمان بعضهم من بعض في الشر، أو تقارب الزمان نفسه في الشر حتى يشبه أوله آخره. وقيل: بقصر أعمار أهله.

(ومن الحسان) [4031] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث حذيفة- رضي الله عنه- (وإمارة على أقذاء) أي يكون اجتماع الناس على من جعل أميرا على فساد من القلوب. شبهه بقذى العين يقال: فعلت كذا وفي العين قذا، إذا فعله على كره. وأقذاء جمع قذى، وقذى جمع قذاة (وهدنة على دخن) قد مر تفسيره في هذا الباب. وفيه: (وإلا فمت وأنت عاض على جذل شجرة) أي: على أصلها، وربما جعلت العرب الجذل العود. ومنه حديث: (لا تبصر الجذل في عينك) ومعنى الحديث: أنك إذا لم تفعل ذلك أدتك المخالفة إلى ما لا تستطيع أن تصبر عليه. وفيه: (ثم ينتج المهر فلا يركب حتى تقوم الساعة) منج من النتج لا من النتاج ولا من الإنتاج، تقول: نتجت الفرس أو الناقة، على بناء ما لم يسم فاعله نتاجا، ونتجها أهلها نتجا، والإنتاج: اقتراب ولادها. وقيل: استبانة حملها. وقوله: (فلا يركب) بكسر الكاف من قولهم أركب المهر: إذا حان وقت ركوبه. وفيه: (عمياء وصماء) وزاد أبو هريرة- رضي الله عنه- في روايته: (بكماء).

يريد أن الإنسان يقع فيها من غير بصيرة وحجة، فلا يرى فيها موضع قدمه، ولا يستطيع أن يقيم حجة على ما يأتيه من أمره، ولا يستمع إلى الحق ولا يلوى إلى من يريد نصحه، فأضاف العمى والصم والبكم إليها، لأن الناس يعمون فيها ويصمون ويبكمون على ما [174/أ] ذكرنا. [4032] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي ذر رضي الله عنه (يبلغ البيت العبد) أراد بالبيت القبر، أي يباع بالعبد لكثرة الأموات، وقلة من يقوم بأمرهم. وقد ذهب بعض أهل العلم فيه إلى أن مواضع القبور تضيق عليهم. والصواب هو الأول، لأن الموت، وإن استمر بالأحياء وفشا فيهم كل الفشو لم ينته بهم إلى ذلك، وقد وسع الله عليهم الأمكنة. وفيه: (تغمر الدماء أحجار الزيت) أحجار الزيت هي من الحرة التي كانت بها الوقعة زمن يزيد، والأمير على تلك الجيوش العاتية مسلم بن عقبة المري، الملقب بالمسرف المستبيح لحرم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكان نزوله بعسكره في الحرة الغربية من المدينة، فاستباح حرمتها وقتلها وقتل رجالها وعاث فيها ثلاثة أيام، وقيل: خمسة، فلا جرم أنه انماع كما ينماع الملح في الماء، ولم يلبث أن أدركه الموت وهو بين الحرمين، {وخسر هنالك المبطلون}. [4033] ومنه حديث عبد الله بن عمرو- رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (كيف بك إذا بقيت في حثالة من الناس ...) الحديث.

الحثالة: ما يسقط من قشر الشعير والأرز والتمر وكل ذي قشارة، ثم إنه يستعمل في الرديء من كل شيء. وفيه: (مرجت عهودهم) أي: اختلطت وفسدت فبلت فيهم أسباب الديانات. وقوله: (هكذا وشبك أصابعه) أي: يموج بعضهم في بعض، ويلتبس أمر دينهم، فلا يعرف الأمين من الخائن، ولا البر من الفاجر. [4034] ومنه حديث أبي موسى- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن بين يدي الساعة فتنا كقطع الليل المظلم). يريد بذلك التباسها وفظاعتها وشيوعها واستمرارها. وفيه: (كونوا أحلاس بيوتكم) أي: لا تبرحوا منها. وأحلاس البيوت: ما يبسط تحت حر الثياب، فلا تزال ملقاة تحتها. [4036] ومنه حديث عبد الله بن عمرو- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ستكون فتنة تستنظف) الحديث.

(تستنظف العرب): أي تستوعبهم هلاكا. ويحتمل أن يراد أنها تعمهم حتى إنهم وإن اعتزلوها أصابهم من دخنها. يقال: استنظفت الشيء: إذا أخذته كله، واستنظفت الخراج. [4038] ومنه قول ابن عمر- رضي الله عنهما- في حديثه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (حتى ذكر فتنة الأحلاس) بينها لهم - صلى الله عليه وسلم - لما سألوه عنها بأماراتها ولم يتعرض لمعنى اللفظ لظهوره، وهو أنه شبهها بالحلس للزومها ودوامها. وفيه: (ثم فتنة السراء دخنها من تحت قدمي رجل من أهل بيتي) يحتمل أن يكون سبب وقوع الناس في تلك الفتنة وابتلائهم بها أشر النعمة فأضيف إلى السراء.

[174/ب] ويحتمل أن تكون صفة للفتنة فأضيف إليها إضافة مسجد الجامع، ويراد منها سعتها لكثرة الشرور والمفاسد. ومن ذلك قولهم: قناة سراء جوفاء، إذا كانت وسيعة. وقوله: (دخنها) أي إثارتها وهيجانها، شبهها بالدخان الذي يرتفع، وإنما قال (من تحت قدمي رجل) تنبيها على أنه هو الذي يسعى في إثارتها أو إلى أنه يملك أمرها. وفيه: (ثم يصطلح الناس على رجل كورك على ضلع) يريد أن الناس يصطلحون على بيعته ولا يستقيم له أمر كما أن الورك لا يستقيم على ضلع أو لا يستعد لذلك فلا يقع عن الأمر موقعه، كما أن الورك على ضلع يقع غير موقعه. وفيه: (ثم فتنة الدهيماء) قيل: أراد بها الدهماء السوداء، وإنما صغر على مذهب الذم. وقيل: أراد بها الداهية ذهابا إلى دهيم استعيرت في الداهية، وهي في الأصل اسم ناقة غزا عليها سبعة إخوة معاقبين فقتلوا عن آخرهم، وحملوا عليها فصارت مثلا في كل داهية. [4042] ومنه حديث عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (تدور رحا الإسلام لخمس وثلاثين) الحديث. قال الخطابي: دوران الرحا كناية عن الحرب والقتال. شبهها بالرحا الدوارة التي تطحن الحب لما يكون فيها من تلف الأرواح وهلاك الأنفس. قال الشاعر: فدارت رحانا واستدارت رحاهم قلت: إنهم يكنون عن اشتداد الحرب بدوران الرحا، ويقولون: دارت رحا الحرب، أي: استتب أمرها، ولم تجدهم استعملوا دوران الرحا في أمر الحرب من غير جريان ذكرها أو الإشارة إليها. وفي هذا الحديث لم يذكر الحرب وإنما قال (رحا الإسلام)، فالأشبه أنه أراد بذلك أن الإسلام يستتب أمره ويدوم على ما كان عليه المدة المذكورة في الحديث. ويصح أن يستعار دوران الرحا في الأمر الذي يقوم لصاحبه ويستمر له، فإن الرحا توجد على نعت الكمال ما دامت دائرة مستمرة.

باب الملاحم

ويقال: فلان صاحب دارتهم: إذا كان أمرهم يدور عليه. ورحا الغيث: معظمه، ويؤيد ما ذهبنا إليه ما رواه الحربي في بعض طرقه: (تزول رحا الإسلام) مكان تدور. ثم قال: كأن تزول أقرب؛ لأنها تزول عن ثبوتها واستقرارها. قلت: وأشار بالسنين الثلاث إلى الفتن الثلاث: مقتل عثمان وكانت سنة خمس وثلاثين، وحرب الجمل، وكانت سنة ست، وحرب صفين وكانت سنة سبع، فإنها كانت متتابعة في تلك الأعوام الثلاثة. وفيه: (فإن [175/أ] هلكوا فسبيل من قد هلك) أي: فسبيلهم سبيل من قد هلك من القرون السالفة، (وإن يقم لهم أمر دينهم) قال الخطابي: أراد بالدين الملك، وأنشد قول زهير: لئن حللت بجو في بني أسد ... في دين عمرو وحالت بيننا فذك قال: ويشبه أن يكون أراد بهذا ملك بني أمية وانتقاله عنهم إلى بني العباس. وكان ما بين استقرار الملك لبني أمية إلى أن ظهرت الدعاة بخراسان، وضعف أمر بني أمية، ودخل الوهن فيه نحوا من سبعين سنة، ورحم الله أبا سليمان، فإنه قال قولا صحيحا، ولكن لا تعلق له بهذا الحديث، والجواد ربما يكبو، أو لو تأمل الحديث كل التأمل، وبني التأويل على سياقه لعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرد بذلك ملك بني أمية، دون غيرهم من الأمة، بل أراد به استقامة أمر الأمة في طاعة الولاة، وإقامة الحدود والأحكام، وجعل المبدأ فيه أول زمان الهجرة، وأخبرهم أنهم يلبثون على ما هم عليه خمسا وثلاثين أو ستا وثلاثين أو سبعا وثلاثين، ثم يشقون عصا الخلاف فتفترق كلمتهم، (فإن هلكوا فسبيلهم سبيل من قد هلك قبلهم) وإن عاد أمرهم إلى ما كان عليه من إيثار الطاعة ونصرة الحق، تم لهم ذلك إلى تمام السبعين. هذا مقتضى اللفظ، ولو اقتضى اللفظ أيضا غير ذلك لم يستقم له ذلك القول، فإن الملك في أيام بعض العباسية لم يكن أقل استقامة منه في أيام المروانية، مع أن بقية الحديث تنقض كل تأويل يخالف تأويلنا هذا، وهي قول ابن مسعود: قلت: يا رسول الله (أمما بقى أو مما مضى). يريد: أن السبعين تتم لهم مستأنفة بعد خمس وثلاثين، أم تدخل الأعوام المذكورة في جملتها. قال: مما مضى، يعني يقوم لهم أمر دينهم إلى تمام سبعين سنة من أول دولة الإسلام، لا من انقضاء خمس وثلاثين أو ست وثلاثين أو سبع وثلاثين إلى انقضاء سبعين. ومن باب الملاحم (من الصحاح) [4043] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه: (وهو يليط حوضه). لطت الحوض بالطين،

أي ملطته به وطينته والأصل فيه اللصوق يقال: لاط الشيء بقلبي يلوط ويليط، وهو أليط بقلبي وألوط، وإني لأجد في قلبي لوطا وليطا، يعني اللازق القلب. [4045] ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا خوزا وكرمان ...) الحديث. [175/ب] خوز: جيل من الناس، وكذلك كرمان، وإنما جاء في الحديث منونا لسكون وسطه. وقد ذهب بعض المتقدمين في قوله: (نعالهم الشعر) إلى أنهم الديلم، فإن في بعض طرقه: (نعالهم الشعر) وهذا هو البارز، فقال بعضهم: هم الديلم، والبارز بلدهم.

وقال سفيان مرة: هم أهل البارز بتقديم الزاي وفتحها أيضا. وذهب بعضهم في تفسير البارز إلى أنه عني به البارزين لقتال أهل الإسلام. قلت: والذي يدل عليه نسق الكلام والأحاديث التي وردت في هذا الباب هو أنه أراد بالموصوفين بما وصفهم الترك، ولعل فيهم من انتشر من هذين القبيلين، فنسب كل واحد منهما إلى أحد الأبوين. وقد ذكر في التواريخ أن أولاد نوح لما ضاق بهم أرض بابل انتشروا في البلاد، فنسب كل صقع إلى من استقر به كخوزستان وفارس وكرمان وخراسان والصين وصقلاب وخزر والسند والهند وأرمين والروم، وإلى غير ذلك، فلعل من الترك من ينسب إلى خوزا وكرمان لانتشاره من أحدهما، أو لأنهم سكنوا إحدى الناحيتين فسموا بها، وقد غلبت الترك غير مرة على تلك البلاد واستوطنوها، ثم إنه لم يشتهر عندنا كما لم يشتهر بنو قنطورا، وقد نسبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى قنطورا. وقد روى الخطابي أن قنطورا كانت جارية لإبراهيم- عليه السلام- انتشر منها أمة من الترك. فإن قيل: فما يمنعكم أن تحملوا الحديث على أهل خوزستان وكرمان، فقد قاتلهم الصحابة في أول الإسلام؟ قلنا: يمنعنا منه الوصف الذي وصفوا به في الحديث، ولم يوجد أهل تلك الديار على النعت المذكور، بل وجدت عليه الترك، ثم إنه وصف الترك وما هم عليه من الحلية في غير هذا الحديث، فتوافق الوصفان فرددنا المبهم إلى الواضح الجلي. فإن قيل: فلم نجد الترك ينتعلون الشعر؟ قلنا: ولعلهم يظهرون بعد ذلك لو كانوا يعرفون بذلك السمت فيما قبل من الزمان. قلت: وفي بعض طرق هذا الحديث: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون الترك، قوما وجوههم كالمجان المطرقة، يلبسون الشعر، ويمشون في الشعر). رواه مسلم في كتابه. والأشبه أن أولئك نشء آخر سوى من ابتلينا بهم كفانا الله شرهم. وفيه: (فطس الأنوف) الفطس- بالتحريك: تطامن قصبة الأنف وانتشارها، والرجل أفطس، والجمع فطس. وفيه: (وجوههم كالمجان المطرقة) المجان- بفتح الميم: جمع المجن وهو التسرس. والمطرقة: التي يطرق بعضها على بعض كالنعل المطرقة المخصوفة. وقيل: هي أطرقت بالعقب أي: ألبست به أو بالجلد، وترس مطرقة. قلت: وفي أكثر نسخ المصابيح: (وجوههم المجان). [176/أ] وهو خلاف الروايات المعتد بها،

فالظاهر أن قوله: (كأن)، سقط من قلم الكاتب، وإن وردت الرواية فالوجه فيه أن يقال: أحل وجوههم محل الشيء المشبه به ليكون أبلغ في التشبيه. [4049] ومنه حديث جابر بن سمرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ليفتحن عصابة من المسلمين كنز آل كسرى). (ليفتحن) وجدناه في أكثر نسخ المصابين لتفتتحن بتاءين بعد الفاء، ونحن نرويه عن كتاب مسلم بتاء واحدة، وهو أمثل معنى؛ لأن الافتتاح أكثر ما يستعمل بمعنى الاستفتاح، فلا يقع موقع الفتح في تحقيق الأمر ووقوعه. والحديث إنما ورد في معنى الإخبار عن الكوائن. و (العصابة): الجماعة من الناس والخيل والطير، وأراد بالأبيض أبيض المدائن، وهو قصر حصين كان لكسرى، وكانت الفرس تسميه كوشك، وهو اليوم موضع المسجد بها. وقد سمعت بعض أهل الحديث [بهمدان أن] الأبيض الذي في الحديث هو الحصار الذي بهمدان، يقال له: شهرستان، وهو مما بناه دارا ب دارا، والأول أكثر. [4052] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عوف مالك الأشجعي- رضي الله عنه- (ثم موتان يأخذ فيكم كعقاص الغنم). أراد بالموتان الوباء وهو في الأصل موت يقع في الماشية. والميم منه مضمومة، واستعماله في الإنسان تنبيه على وقوعه فيهم وقوعه في الماشية، فإنها تسلب سلباً سريعاً.

وكان ذلك في طاعون عمواس في زمن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وهو أول طاعون وقع في الإسلام، مات منه سبعون ألفا في ثلاثة أيام. وعمواس: قرية من قرى بيت المقدس، وقد كان بها معسكر المسلمين. والعقاص: داء يأخذ الغنم فلا يلبثها أن تموت. ] 4053 [ومنه حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تقوم الساعة حتى تنزل الروم بالأعماق أو بدابق ..) الحديث. العمق والعمق: ما بعد من أطراف المفارز، وليس الأعماق ها هنا بجمع، وإنما هو اسم موضع بعينه من أطراف المدينة، وفيما وقع منها -على ليلتين أو ثلاث- موضع يقال له: العمق بضم العين وفتح الميم، والعامة بضم الميم وربما تسكنها. ويحتمل أن يقال له: الأعماق والعمق أيضا ويحتمل أنهما متغايران. (ودابق) بفتح الباء دار نخلة موضع سوق بالمدينة. وفيه: (فإن تصافوا قالت الروم خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا). قلت: سبوا منا على بناء الفاعل، يريدون بذلك مخايلة المؤمنين بعضهم عن بعض، ويبغون به تفريق كلمتهم، والمرادون بذلك هم اللذين غزوا بلادهم فسبوا ذريتهم. والأظهر أن هذا القول منهم يكون بعد الملحمة الكبرى التي تدور رحاها بين الفئتين بعد المصالحة والمناجزة لقتال عدو يتوجه الى المسلمين، وبعد الغدرة] 176/ب [الروم بهم، وذلك قبل فتح قسطنطينية، فيطأ الروم أرض العرب فتنزل بالأعماق أو بدابق، فنسأل المسلمين أن يخلوا بينها وبين من سبى ذريتهم فيردون الجواب عليهم على ما ذكرنا في الحديث. ومن الناس من يرويه على بناء المجهول، يرون أن المراد منهم الموالي، ولا أحققه.

[4054] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- (فيشرط المسلمون شرطة للموت).

الشرطة-بضم الشين وسكون الراء: أول طائفة تشهد الوقعة وتستقدم الجيش. ومنه سمي الشرطين لتقدمها الربيع, وكونها أول المنازل المنحصرة في ثمانية وعشرين، (وأشراط الساعة): مقدماتها, وهي مقدمات بين يديها أيضا، وكذلك أشراط الأشياء أوائلها، وقيل: أشراطها: أعلامها. وقد مر القول في أشراط الساعة. وأشرط نفسه للشيء: أعمله. ومنه سمي الشرط، ويشكل معنى ذلك من بقية الحديث (فيفيء هؤلاء وهؤلاء كل غير غالب، وتفنى الشرطة) فلو كانت الشرطة؟ ههنا على ما وصفوه فما معنى قوله: ويفنى الشرطة وقد ذكر كل فئة من الفئتين يرجع غير غالب؟ والوجه في تصحيح هذه الرواية من طريق المعنى أن يقال: أراد بمن يفيئ غير غالب معظم الجيش وصاحب رايتهم، لا النفر الذين تقدموا وهم الشرطة. وقوله: (يتشرط) فإنه في الحديث كذلك استعمل تشرط مكان أشرط، يقال: أشرط فلان نفسه لأمر كذا، أي: قدمها وأعدها وأعلمها. ولو وجدت الرواية بفتح الشين من الشرطة لكان معناها أوضح وأقوم مع قوله: (ويفنى الشرطة) أي: يشترطون فيما بينهم شرطا أن لا يرجعوا إلا غالبة، يعني يومهم ذلك، فإذا حجز بينهم الليل ارتفع الشرط الذي شرطوه، وإنما أدخل فيه التاء ليدل على التوحيد، أي: يشترطون شرطة واحدة لا مثنوية فيها، ولم يعرف ذلك من طريق الرواية. وفيه: (ونهد اليهم بقية أهل الإسلام) نهد الى العدو ينهد بالفتح، أي: نهض. (والدبرة) بالتحريك: الهزيمة في القتال, وهو اسم من الإدبار. (ومن الحسان) ] 4060 [قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث بن عمر -رضي الله عنهما- (حتى يكون أكبر مسالحهم سلاح)، والمسالح جمع مسلحة، وهي كالثغر والمرقب.

ومنه الحديث: (كان أبعد مسالح فارس الى العرب العذيب) والمسلحة أيضا: قوم ذوو سلاح. ] 4063 [ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث: (دعوا الحبشة ما ودعوكم). (ودعوكم): تركوكم، وقلما يستعملون الماضي منه إلا ما روى في بعض الأشعار كقول القائل: غاله في الحب حتى ودعه وقد ذكرنا ذلك في باب الجمعة. ويحتمل أن يكون الحديث:] 177/أ [(ما وادعوكم) , أي: سالموكم، فسقط الألم عن بعض الرواة.

[4066] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس -رضي الله عنه- (وعليك بضواحيها) ضاحية كل شيء: ناحية البارزة. ومن حديث عمر -رضي الله عنه- (أنه رأى عمر بن حريث فقال: إلى أين؟ قال: إلى الشام. قال: أما إنها ضاحية قومك). أي: ناحيتهم. ومنه الحديث: (قريش الضواحي). وفي الحديث: (أخاف عليك من هذه الضاحية) أي: الناحية البارزة التي لا حائل دونها. ] 4067 [ومنه قول أبي هريرة -رضي الله عنه- في حديثه: (سمعت خليلي أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم -). قلت: قد سبق منه هذا القول في عدة أحاديث، وكأنه قول لم يصدر عن روية، بل كان الباعث عليه ما عرف من قلبه من صدق المحبة، ولو تدبر القول لم يلتبس عليه كون ذلك زائغا عن منهج الأدب، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (لو كنت متخذا من الناس خليلا لاتخذت أبا بكرا خليلا) وقال - صلى الله عليه وسلم -: (أني أبرأ إلى كل خليل من خلته). فليس لأحد أن يدعي خلته مع براءته عن خلة كل خليل، والله الهادي.

باب أشراط الساعة

ومن باب أشراط الساعة (من الصحاح) ] 4070 [قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: (إذا وسد الأمر الى غير أهله). معناه أن يلي الأمر من ليس له بأهل، فتلقى له وسادة الملك. وأراد بالأمر الخلافة وما ينضم اليها من قضاء وإمارة ونحوهما. والوسد أخذ من الوساد، يقال وسدته الشيء بالتخفيف، وتوسده إذا جعله تحت رأسه، ولفظة (إلى) فيها إشكال إذ كان من حقه أن يقال: وسد الأمر لغير أهله، فلعله أتى به ليدل على إسناد الأمر إليه. وأكثر ظني أني وجدت في بعض الروايات: (إذا أسند الأمر الى غير أهله). ] 4072 [ومنه حديثه الآخر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (حتى يبلغ المساكن إهاب أو نهاب) يريد أن المدينة يكثر سوادها حتى تتصل مساكن أهلها بإهاب أو نهاب شك الراوي في اسم الموضع, فلم يدري أسمع إهاب أو نهاب بالنون بدل الهمزة. أو كان يدعى بكلا الاسمين فذكر (أو) للتخيير بينهما، وهو من المدينة على أميال. وفي كتاب مسلم في حديث سهيل ابن أبي صالح وهو الراوي ن أبيه عن أبي هريرة أن زهيرا قال: قلت لسهيل: وكم ذلك من المدينة قال: كذا وكذا ميلا. قلت: والذي يعتمد عليه في نهاب أنه بالنون المكسورة، ومن رواة كتاب مسلم من يرويه بالياء، ولا أحققه.

[4076] ومنه حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (تقئ الأرض أفلاذ كبدها) قيل: معناه أنها تخرج الكنوز المدفونة فيها. قلت: ويحتمل أنه أراد به أيضا ما رسخ فيها من العروق المعدنية، ويدل عليه] 177/ب [قوله: (أمثال الأسطوانة من الذهب والفضة) وسمي ما في الأرض كبدا تشبيها بالكبد التي في بطن البعير، وإنما قلنا في بطن البعير؛ لأن ابن الإعرابي قال الفلذ لا يكون إلا للبعير، وخص الكبد؛ لأنه عند العرب من أطايب الجزور، فإنها تقول أطايب الجزور: السنام والملحاء والكبد. والأفلاذ: جمع فلذة، وهي القطعة المقطوعة طولا. ] 4078 [ومنه حديثه الآخر: (لا تقوم الساعة حتى تخرج نار م أرض الحجاز ..) الحديث. يريد أنها تعلو وتستطع حتى تتضح لها أعناق الإبل في سواد الليل ببصرى. وبصرى مدينة حوران وقيل: هي مدينة قيسارية. فإن قيل: كيف التوفيق بين هذا الحديث وبين الحديث الذي يتلوه، وهو أيضا من حديث أبي هريرة، وهو مشكل جدا لأنه قال: (أول أشراط الساعة نار) فيلزم أن لا تتقدمها التي تخرج من أرض الحجاز، وقد سبقتها ورآها أهل المدينة ومن حولهم رؤية لا مرية فيها ولا خفاء، فإنها لبثت نحوا من خمسين يوما تتقد وترمي بالأحجار المحمرة بالنار من بطن الأرض إلى ما حولها مشاكلة للوصف الذي ذكره الله في كتابه عن نار جهنم: {ترمى بشرر كالقصر (32) كأنه جمالت صفر}، وقد سال من ينبوع النار في تلك الصحاري مد عظيم شبيه بالصفر المذاب فيجمد الشيء بعد الشيء فيوجد شبيها بخبث الحديد؟ فالجواب -وبالله التوفيق ومنه المعونة- أن نقول: أن في أشراط الساعة كثرة، وأولها بعثة نبينا - صلى الله عليه وسلم -

-فعلمنا بذلك أن قوله: أول أشراط الساعة لم يصدر مصدر الإطلاق، بل في أشراط مخصوصة تقرب من زمان الوقوع. ويحتمل أنه أراد بالنار التي تحشر الناس من المشرق الى المغرب فتنة الترك، فإن الفتنة إذا عظمت وعمت وأسرعت في الناس، كانت أشبه شيء بالحريق، لا سيما وقد كان التحريق معظم ما استعانوا به على التخريب، ولا اختلاف بين الحديثين على هذا التأويل. فإن قيل: أنى يستقيم لك هذا التأويل وفي حديث أبي سريحة حذيفة بن أسيد في ذكر الآيات العشر، (وآخر ذلك نار تخرج من اليمن) وفي رواية: (من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر؟). قلنا لم يذكر في حديث أبي هريرة أن تلك النار تخرج من اليمن أو من قعر عدن، حتى يلزم من الأول] 178/أ [والآخر تضاد، فنذهب في حديث أبي هريرة إذا إلى ما ذهبنا ونذهب في حديث أبي سريحة إلى ما يقتضيه ظاهر اللفظ حتى لا يختلف الحديثان اختلاف تباين وتناقض، والأحاديث إذا صحت ووجد في ظواهرها اختلاف فلابد أن يؤول كل منها على وجه لا يلزم منه تباين وتناقض، فقد قدس كلام النبوة عن مقاربة أو وهم ومقاربة شك، اللهم إما أن يكون في حديث أخطأ فيه سمع يعض الرواة، فنقل فيه أول مكان آخر. (ومن الحسان) ] 4080 [حديث أنس -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان ..) الحديث. يحمل ذلك على قلة بركة الزمان وذهاب فائدته، أو على أن الناس لكثرة اهتمامهم بما دهمهم من النوازل والمشيبات شغل قلبهم بالفتن العظام، لا يدرون كيف تنقضي أيامهم ولياليهم فإن قيل: العرب تستعمل قصر الأيام والليالي في المسرات وطولها في المكاره. قلنا: المعنى الذي يذهبون اليه في القصر والطول مفارق للمعنى الذي نذهب اليه، فإن ذلك يرجع الى تمني الإطالة للرخاء وإلى تمني القصر للشدة. والذي نذهب إليه راجع الى زوال الإحساس بما يمر عليهم من الزمان؛ لشدة ما هم فيه، وذلك أيضاً صحيح.

[4081] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبد الله بن حواله -رضي الله عنه-: (قد دنت الزلازل والبلابل) البلبال: الهم ووسواس الصدر. ] 4082 [ومنه حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا أتخذ الفئ دولا). الدول: جمع دولة، وهي اسم لكل ما يتداول من المال، يعني أن الأغنياء وأهل الشرف يستأثرون بحقوق الفقراء، أو يكون المراد منه أن أموال أن أموال الفيء تأخذ غلبة وأثرة، صنيع أهل الجاهلية وذوي العدوان وفيه (والأمانة مغنما) أي: يذهبون بها فيغتنمونها. يقال فلان يتغنم الأمر أي: يحرص عليه كما يحرص على المغانم. وفيه (والزكاة مغرما) أي: يشق أداؤها حتى يعدونها غرامة.

[4087] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أم سلمة -رضي الله عنهما-: (فيخف بهم بالبيداء) البيداء: أرض ملساء بين الحرمين. وفي الحديث (يخف بالبيداء بين المسجدين)، وليست بالبيداء التي أمام ذي الحليفة وهي شرف من الرض. وفيه (أتاه أبدال الشام وعصائب أهل العراق) الأبدال: قوم من الصالحين لا تخلوا الدنيا منهم إذا مات واحد منهم أبدل الله مكانه بآخر. وقيل للواحد منهم بديل. (وعصائب أهل العراق، يحتما أنه أراد] 178/ب [بها خيارهم، من قولهم: ذاك رجل من عصب القوم وعصبهم: أي من خيارهم. وفيه (ثم ينشأ رجل من قريش أخواله كلب) يريد أن أم القرشي تكون كلبية فتنازع المهدي في أمره ونستعين عليه بأخواله من بني كلب فيبعث اليهم، أي: المبايعين بعثا، فيظهر المبايعون على البعث الذي بعثه القرشي. ] 4088 [ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: (حتى يتمنى الأحياء الأموات). الأحياء رفع بالفاعلية، وفي الكلام حذف، أي يتمنون حياة الأموات، أو كونهم أحياء، وإنما يتمنون ذلك ليروا ما هم فيه من الخير والأمن، ويشاركوهم فيه. ومن زعم أن الصواب فيه الأحياء بالنصب من باب الأفعال والعامل في التمني الأموات فقد أحال.

باب العلامات بين يدي الساعة

ومن باب العلامات بين يدي الساعة (من الصحاح) ] 4092 [قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث] أبي هريرة [-رضي الله عنه-: (وأمر العامة: أو خويصة أحدكم). أمر العامة محتمل لوجهين: أحدهما أ، يراد به الفتنة التي تعم الناس. والآخر: أن يراد به الأمر الذي يكون تلقيه من قبل العامة دون خاصتهم في تأمير الأمير. وقد بينا وجه ذلك في معنى قوله: (ألا ولا غدر اعظم من غدر أمير عامة) من باب الإمارة.

(وخويصة أحدكم): الصاد منها مشددة، وهي تصغير الخاصة، والخاصة: التي أختصصته لنفسك، وفسرت الخويصة بالموت، ولو قيل هي ما يختص به الإنسان من الشواغل المقلقة في نفسه وماله وما يهتم به فله وجه، بل هو أوجه. ] 4099 [ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر -رضي الله عنه-: (وإن المسيح الدجال أعور عين اليمنى كان عينه عنية طافية). وقد ذكر وجه تسميته بالمسيح فيما مر من الكتاب وأحب الوجوه الينا أن الخير مسح عنه، فهو مسيح الضلالة كما أن الشر مسح عن مسيح الهداية صلوات الله عليه.

وأما تسميته بالدجال، فلأنه خداع ملبس، والدجال الخلط، ويقال الطلى والتغطية. ومنه البعير المدجل، أي المهنوء بالقطران. ودجلة نهر بغداد، وسميت بذلك لأنها تغطي الأرض بمائها. وهذا المعنى قيل أيضا في الدجال، أي يغطي الرض بكثرة اتباعه، وقيل لأنه مطموس العين، من قولهم دجل الأثر: إذا عفى ودرس فلم يوجد منه شيء. وقيل دجل أي: كذب، والدجال] 179/أ [الكذاب. قلت ولم أجد دجل أي: كذب إلا في كتب اصحاب الحديث، ولم أطلع على أصل له من اللغة العربية، فإن صح فالظاهر أنهم عبروا به عن الكذب؛ لأن الدجال أكذب الناس، فلا يستقيم إذا أن نفسر الأصل بالكلمة المستعارة منه، ويدل على ما نبهنا عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: (دجالون كذابون) فإن ذلك وارد مورد الوصف لا مورد التفسير. وأقوم الوجوه وأعرقها ما قدمناه أنه الخداع الملبس. وقوله: (عنبة طافية) قيل: الطافية من العنب التي خرجت عن حد بنية أخواتها، وتناءت وظهرت، ومنه الطافي من السمك. ورواه بعضهم بالهمز بعد الفاء. وقد أنكر عليه. وقد ذكر صاحب كتاب مطالع الأنوار أن لا وجه للإنكار عليه، إذ قد روي أنه ممسموح العين ومطموس العين، وروي أنها ليست بحجراء، ولا ناتئة، وهذه صفة العين إذا سال ماؤها فتشنجت وطفيت. قلت: وهذا الذي ذكره كلام موجه، غير أن من أنكر أنما أنكر ورود الرواية به، وقد أصاب. قلت: وفي الأحاديث التي وردت في وصف الدجال وما يكون منه كلمات نافرة يشكل التوفيق بينها، ونحن نسأل الله التوفيق في التوفيق بينها، وسنبين كلا منها على حدته في الحديث الذي ذكر فيه أو تعلق به، ففي هذا الحديث أنها طافية على ما ذكرنا، وفي آخر: أنه جاحظ العين كأنه كوكب، وفي آخر أنها ليست بناتئة ولا حجراء, والسبيل في التوفيق بينها أ، نقول: أنما أختلف الوصفان بحسب اختلاف العينين، ويؤيد ذلك ما في حديث ابن عمر هذا أنه أعور عين اليسرى، ووجه الجمع بين هذه الأوصاف المتنافرة أن يقدر فيها

أن إحدى عينيه ذاهبة، والأخرى معيبة فيصح أن يقال لكل واحدة عوراء، لأن الأصل في العور أنه العيب، هذا وليس بمستبعد أن يكون سمع بعض الرواة قد أخطا في اليمنى واليسرى، فإنهم ليسوا بمعصومين عن الخطأ. وهذا قول لا يمكنه المحدث من فرضة سمعه، ونحن نرى نفي الإحالة عن كلام من تكفل الله له بالعصمة أحق وأولى من الذب عمن لا يلزمنا القول بعصمته، بل لا نرى له العصمة. وقلما يسلم الإنسان من سهو أو نسيان والقلم عن عثرة وطغيان. ] 4102 [ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث حذيفة -رضي الله عنه-: (ظفرة غليظة) قال الأصمعي: الظفرة: لحمة تنبت عند المآقي من كثرة البكاء أو الماء وانشد: بعينها من البكاء ظفرة ... حل ابنها في السجن وسط الكفرة وقال آخرون: الظفرة بالتحريك: جليدة تغشي العين ناتئة من الجانب الذي علي الأنف على بياض العين إلى سوادها. ] 4103] [179/ب [ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث حذيفة أيضا: (جفال الشعر)، الجفال بالضم: الصوف الكثير، تقول العرب قالت الضائنة: أولد رخالا واجز جفالا وأحلب كثبا ثقالا، ولم ترى مثلي مالا. ومعنى جفال الشعر أي: كثيرة. ] 4104 [ومنه حديث النواس بن سمعان -رضي الله عنه-: (ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدجال فقال: إن يخرج وأنا فيكم فانا حجيجه دونكم) أي: أحاجه وأخاصمه بالحجة. والتحاج: التخاصم. يقال حججته حجا فهو حجيج: إذا سبرت شجته بالميل لتعالجه (إلا فامرؤ حجيج نفسه) أي يحاجه ويحاوره. فإن قيل: أوليس قد ثبت في أحاديث الدجال أنه يخرج بعد خروج المهدي، وأن عيسى يقتله إلى غير

ذلك من الوقائع الدالة أنه لا يخرج ونبي الله بين أظهرهم، بل لا تراه القرون الأولى من هذه الأمة، فما وجه قوله: (إن يخرج وأنا فيكم؟). قلنا انما سلك هذا المسلك من التورية لإبقاء الخوف على المكلفين من فتنته، واللجأ إلى الله من شره، لينالوا بذلك الفضل من الله ويتحققوا بالشح على دينهم. وفيه: (أنه شاب قطط) قطط أي: شديد الجعودة. وفيه (أنه خارج من خلة بين الشام والعراق) يريد من سبيل بينهما، وإنما قيل له خلة؟ لأن السبيل خل ما بين البلدين، أي آخذ مخيط ما بينهما. يقال: خطت اليوم خيطة، أي: سرت سيرة ويقال: للطريق في الرمل: الخل، ويذكر ويؤنث. وفيه (فعاث يمينا وعاث شمالا) عثا في الأرض فهو عاث، أي أفسد و، أي أفسد ونما قال: (يمينا وشمالا) إشارة إلى أنه لا يكتفي بالإفساد فيما يطؤه من البلاد، ويتوجه إليه من الأغوار والأنجاد، بل يبعث سراياه يمينا وشمالا، فلا يأمن من شره مؤمن، ولا يخلو من فتنته موطن. وفيه (قلنا: يا رسول الله: وما لبثه في الأرض) إلى تمام السؤال والجواب، يشكل من هذا الفصل قوله - صلى الله عليه وسلم - (يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة) مع قوله: (وسائر ايامه كأيامكم). ولا سبيل إلى تأويل امتداد تلك الأيام على أنها وصفت بالطول والامتداد لما فيها من شدة البلاء وتفاقم البأساء والضراء؛ لأنهم قالوا: (يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة، أيكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا ...) الحديث. فنقول: وبالله التوفيق ومنه المعونة-: قد تبين لنا بإخبار الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - أن الدجال يبعث معه من الشبهات، ويقيد على يديه من التمويهات ما يسلب عن ذوي العقول عقولهم، ويخطف من اولي الأبصار ابصارهم، فمن ذلك تسخير الشياطين له، ومجيئه بجنة ونار وحشره ناس من الناس، وإحياء الميت على حسب ما يدعيه، وتقسويته على من يريد إضلاله تارة بالمطر والعشب، وتارة بالأزمة والجدب، ثم لا خفاء بأنه أسحر الناس، فلم يستقم لنا تأويل هذا القول إلا بأن نقول: إنه يأخذ بأسماع الناس وأبصارهم، حتى

يخيل إليهم أن الزمان قد أستمر على حاله] 180/أ [واحدة، إسفار بلا إظلام، وصباح بلا مساء، يحسبن أن الليل لا يمد عليهم رواقه، وأن الشمس لا تطوي عنهم ضياءها، فيقعون في حيرة والتباس من امتداد الزمان، ويدخل عليهم الدواخل باختفاء الآيات الظاهرة في الليل والنهار، فأمرهم أن يجتهدوا عند مصادفة تلك الأحوال، ويقدروا لوقت كل صلاة قدره، غلى أن يكشف الله عنهم تلك الغمة. هذا الذي اهتدينا غليه من التأويل، والله الموفق لإصابة الحق. وفيه: (فيروح عليهم سارحتهم). السارحة: المال السائم، تقول: سرحتها سرحا، وسرحت هي بنفسها سروحا، يتعدى ولا يتعدى. وفيه: (فيصبحون ممحلين) أمحل القوم: أصابهم المحل، وهو انقطاع المطر ويبس الأرض من الكلأ. وفيه: (فيتبعه كنوزها كيعاسيب النحل) اليعسوب: ملك النحل، ومنه قيل للسيد: يعسوب قومه. وفي الحديث (هذا يعسوب قريش) أي سيدها. وفي حديث آخر: (ضرب يعسوب الدين بذنبه) قال الأصمعي: أي: رئيس لدين وسيده، إذا فارق أهل الفتنة، وضرب في الأرض ذاهبا. قلت: وإنما ضرب المثل باليعاسيب، لأنها إذا خرجت من كورها تبعها النحل بأجمعها. وفيه: (فيقطعه جزلتين رمية الغرض) جزلتين أي: قطعتين، يقال: ضرب الصيد فقطعه جزلتين، ويقال: جاء زمن الجزال، أي: زمن صرام النخل، والجزلة والجزال بكسر الجيم فيهما، وأراد برمية الغرض إما سرعة نفوذ السيف فيه، وإما إصابته المحز، وقيل: هو أن تجعل بين الجزلتين رمية الغرض. وفيه: (بين مهرودتين) هذا الحرف يروى بالدال والذال، ومعنى بين شقتين أو حلتين من قولهم: هردت الثوب أي: شققته، وهو مثل ما غير هذا الحديث (بين ممصرتين)، والممصرة من الثياب: التي فيها صفرة خفيفة. وقد ذهب القتيبي إلى أن الصواب فيه (مهروتين) أي: صفراوين، يقال: هريت العمامة: إذا لبستها صفرا كأنه اختار ذلك لمكان الممصرتين. وقد ذكر الهروى اختلاف أصحاب الغريب في مأخذ هذه الكلمة واشتقاقها فتركنا ذكر استيعاب ذلك اكتفاء بما أشرنا إليه.

وفيه: (فيقتله بباب لد) لد جبل الشام، وقيل: إن في كتب أهل الكتاب أن عيسى -عليه السلام- يقتل الدجال بجبل الزيتون، فلعل لدا هو جبل الزيتون، اختلفا في التسمية والمسمى واحد، وإن كان أحدهما غير الآخر، فالعبرة بما في الحديث فإنه حديث صحيح، وليس هذا بأول قول حرفوه. وفيه: (لا يدان بقتالهم) أي: لا طاقة، عبروا بالقوة عن اليد ثم ثنوا ليكون أبلغ في المعنى. وفيه: (فحرز عبادي إلى الطور) أي: ضمهم إليه، وزعم بعضهم أنه جوز، وصححه بعض أهل العلم. وزعم بعضهم (فحذر). وفيه: (حتى ينتهوا إلى جبل الخمر). الخمر -بفتح الخاء والميم- هو الشجر الملتف (حتى يكون] 180/ب [رأس الثور)، اي: تبلغ الفاقة بهم إلى هذا الحد، وإنما ذكر رأس الثور ليقاس البقية عليه في القيمة. وذهب بعضهم إلى أنه أراد براس الثور نفسه، أي: تبلغ قيمة الثور إلى ما فوق المائة؛ لاحتياجهم إليه في الزراعة، ولم يصب؛ لن رأس الثور قلما يراد به عند الإطلاق نفسه، بل يقال رأس] الثور [أو رأس من الثور، ثم إن في الحديث (أن نبي الله ومن معه يحصرون) وما للمحصور والزراعة لا سيما على الطور. وفيه: (فيرسل الله النغف في رقابهم، فيصبحون فرسى). النغف: دود يكون في انوف الإبل والغنم. وفرسى: جمع فريس كقتيل وقتلى، من فلرس الذئب، الشاة إذا كسرها وقتلها، ومنه فريسة السد، يريد أن القهر الإلهي الغالب على كل شيء يفرسهم دفعة واحدة، فيصبحون قتلى. وقد نبه بالكلمتين، أعني النغف وفرسى على أنه -سبحانه- يهلكهم في أدنى ساعة بأهون شيء، وهو النغف فيفرسهم فرس السبع فريسة بعد أن طارت نعرة البغي في رؤوسهم، فزعموا أنهم قاتلوا من في السماء.

وفيه: (إلا ملأه زهمهم) الزهم -بالتحريك- مصدر قولك زهمت يدي -بالكسر- من الزهومة فهي، زهمة أي دسمة، وعليه أكثر الروايات فيما أعلم. وفيه من طريق المعنى وهن، وضم الزاي مع فتح الهاء أصح معنى، وهو جمع زهمة وهي الريح المنتنة. وفيه: (فيتركها كالزلفة) الزلفة -بالتحريك- المصنعة الممتلئة، والجمع زلف. وفيه: (فيستظلون بقحفها). القحف في الأصل: العظم المستدير فوق الدماغ، وهو أيضا إناء من خشب على مثاله، كأنه نصف قدح، واستعير ها هنا لما يلي رأسها من القشر. وفيه: (ليكفي الفثام) الفثام: الجماعة من الناس، لا واحد له من لفظه، وهو مهموز. والعامة تقول الفيام، بغير همز. وفيه: (ليكفي الفخذ). الفخذ في العشائر: أقل من البطن وأولها الشعب، ثم القبيلة ثم الفصيلة، ثم العمارة، ثم البطن ثم الفخذ. وفيه: (يتهارجون فيها). الأصل في الهرج القتل، وسرعة عدو الفرس، وهرج في حديثه اي: خلط. ومعنى يتهارجون اي: يختلطون ويتفاسدون ويتسافدون. يقال: بات فلان يهرجها أي: ينكحها، فإن قيل أوليس في هذه الأشياء الخارقة للعادة التي فوردت في هذا الحديث وغيره من أحاديث الدجال، وظهورها على يديه، مضلة للعقول ومدعاة إلى اتباع الباطل، واخلال بما أعطى الله أنبيائه من المعجزات؟ فالجواب] 181/أ [أن الملعون إنما ترك وذلك، لأن في نفس القضية ما يردع المتبصر عن الالتفات إليها، فضلا عن قبولها، ثم انه لا يدعي النبوة، بل يدعي الربوبية، وهذا مما لا مساغ له في العقول، ولا موقع له من القلوب؛ لقيام دلائل الحدث في نفس المدعي، مع أنه لم يترك ودعواه حتى الزم النقض الذي لا ينفك عنه، ولا يخفى على الناظر مكانه، وهو العور الذي به

وإلى هذا المعنى أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (ولكن أقول لكم فيه قولا لم يقله نبي لقومه؛ تعلمون أنه أعور ...) الحديث. ويحتما أن أحدا من الأنبياء لم يكاشف، أو لم يخبر بأنه أعور. ويحتمل أنه أخبر، ولم يقدر له أن يخبر عنه كرامة لنبينا - صلى الله عليه وسلم - حتى يكون هو الذي يبين بهذا الوصف دحوض حجته الداحضة، ويبصر بأهله جهال العوام، فضلا عن ذوي اللباب والأفهام. ] 4105 [ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: (فتلقاه المسالح مسالح الدجال). المسالح: جمع مسلحة، وهم قوم ذوو سلاح، وقد مر تفسيرها. وفيه: (فيوشر بالميشار). يقال: وشرت الخشبة بالميشار، وهو غير مهموز، وفي معناه: نشرت الخشبة بالمنشار بالنون، وفي هذا الحديث بالياء لا غير، يدل عليه قوله: فيوشر.

[4111] ومنه حديث فاطمة بنت قيس القرشية الفهرية- رضي الله عنها- (سمعت منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينادي: الصلاة جامعة ...) الحديث. الصلاة جامعة: أي احضروا الصلاة، وجامعة حال عنها. ووجه الرواية بالرفع أن نقدر: هذه، أي: هذه الصلاة جامعة، ويجوز أن تنتصب جامعة على حال, ولما كان هذا القول للدعاء إليها والحث عليها كان النصب أجود، واشبه بالمعنى المراد منه. وفيه: (فأرفثوا الى جزيرة) قال الأصمعي: أرفأت السفينة أرفثها ارفاء أي: قربتها من الشط, وبعضهم يقول: أرفينا بالياء على الإبدال، وهذا مرفأ السفن أي الموضع الذي يشد اليه ويوقف عنده. وفيه: (فجلسوا في أقرب السفينة) أقرب بضم الراء، جمع قارب، وهو سفينة صغيرة يكون مع أصحاب السفن البحرية يستخف لحوائجهم. والقارب منه بفتح الراء ويكسر، والفتح أكثر واشهر. وفيه: (دابة اهلب). قلت: قوله: (كثير الشعر) يقع موقع التفسير لأهلب، والهلبة: ما غلظ من شعر الذنب، والأهلب الفرس الكبير الهلب.

وفيه: (وهو إلى خبركم بالأشواق). أي: شديد نزاع النفس إلى ما عندكم من الخبر، حتى كأن الأشواق ملصقة به، أو كانه مهتم بها. وفيه: (قد قدرتم على خبرى). يريد أني أخبركم بخبري فلا أحه عنكم. وفيه: (فأخبروني عن نخل بيسان). بيسان بالباء المفتوحة: قرية من قرى الشام. وفيه: (عين زغر) زغر: على زنة] 181/ب [زفر بالزاي والغين المنقوطتين وهي أيضا بالشام. زفيه: (إن ذلك خير لهم أن يطيعوه). فإن قيل: يشبه هذا القول قول من عرف الحق؟ والمخذول من البعد من الله بمكان لم ير له فيه مساهم. فما وجه قوله هذا؟ قلنا: يحتمل أنه أراد به الخير في الدنيا، أي: طاعتهم له خير لهم، فإنهم إن خالفوه اجتاحهم واستأصلهم. ويحتمل أنه من باب الصرفة، صرفة الله عن الطعن فيه والنكير عليه وتفوه بما ذكر عنه كالمغلوب عليه والمأخوذ عنه لم يستطع أن يتكلم بغيره تأييدا لنبيه - صلى الله عليه وسلم - والفضل ما شهدت به الأعداء. وفيه: (بيده السيف صلتا). أي: مصلتا مجردا من غمده، يقال: أصلت سيفه أي: جرده م غمده وضربه بالسيف صلتا وصلتا، أي: ضربه وهو مصلت.

وفيه: (فطعن بمخصرته في المنبر). المخصرة كالسوط، وكل ما أختصر الإنسان بيده فأكمه من عصا ونحوها فهو مخصرة. قال الشاعر: إذا وصلوا أيمانهم بالمخاصر وفيه: (هذه طيبة). طيبة وطابة من أسماء المدينة، سماها النبي - صلى الله عليه وسلم - طيبة وطابة وكره أن يسمى يثرب لما فيه من التثريب، فلما وافق هذا القول ما كان حدثهم بع أعجبه ذلك وسر به. وفيه: (ألا إنه في بحر الشام أو بحر اليمن، لا بل من قبل المشرق ما هو). قلت: لما حدثهم بقول تميم الداري لم ير أن يبين موطنه ومحبسه كل التبيين؛ لما رأى في الالتباس من المصلحة، فرد الأمر فيه إلى التردد بين كونه في بحر الشام أو بحر اليمن، ولم تكن العرب يومئذ تسافر إلا في هذين البحرين. ويحتمل أنه أراد ببحر الشام: ما يلي الجانب الشامي، وببحر اليمن ما يلي الجانب اليماني، والبحر بحر واحد وهو الممتد على أحد جوانب جزيرة العرب، ثم أضرب عن القولين مع حصول اليقين في أحدهما فقال: (لا بل من قبل المشرق ما هو). وذكر جمع من أصحاب المعاني أن (ما) ها هنا زائدة وهو حسن. ويحتمل أن تكون خبرا، أي: ما هو عليه، أو ما هو فيه، أو ما هو يخرج منه. وفي كتب أهل اللغة في ذكر ابن قترة: حية خبيثة الى الصغر ما هي. ومن مصطلح الأطباء في ذكر طباع العقاقير، ووصف طعم الأدوية: إلى الحرارة ما هو، إلى اليبوسة ما هو، إلى العفوصة ما هو. أي الذي عليه طبعه وطعمه كذا، أي أمر ظهوره من قبل المشرق. ] 4112 [ومنه حديث ابن عمر -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (رأيتني الليلة عند الكعبة) الحديث.

فإن قيل: على ماذا يؤول طواف الدجال بالبيت مع بعده من مواقف الطاعة وكونه مستمرا على الطغيان؟ قلنا: هذه رؤيا أريها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكوشف فيها بأن عيسى -عليه السلام- ينزل ملتبسا بما وصفه به من الحسن والبهاء والنظافة مشاكلا صورته معناه، وهو متكئ على ما أيد به من العصمة] 182/أ [والتأييد، فيطوف حول الدين لإقامة الأود ولم الشعث وإصلاح الفساد، والدجال يبعث ناقص الخلقة، معوج البنية، على صورة كريهة، تزدريها الأعين، وتنكرها القلوب، مشاكلة للمعنى الذي هو عليه وهو متكئ على ما أملي له فيه من اللبس والتمويه، فيدور حول الدين ليحدث فيه الثلمة ويبغي له العوج، على هذا، ونحو ذلك نؤوله. (ومن الحسان) ] 4114 [قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبادة بن صامت -رضي الله عنه- (رجل قصير أفحج). -الأفحج بتقديم الحاء: هو الذي يتدانى صدور قدميه، ويتباعد عقباه وينفحج ساقاه، وبخلافه الأروح.

[4119] ومنه حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يتبع الدجال من أمتي سبعون الفا عليهم السيجان). الساج: الطليان الأخضر، والجمع سيجان، وفي حديث أنس: (عليهم الطيالسة) ولولا حديث أبي سعيد هذا لكان لقائل أن يقول في حديث أنس المراد منه، الأطمار والأسحاق، ولكنه يمنع عن هذا التأويل، اللهم إلا أن يكون بعض الرواة روى حديث أبي سعيد بالمعنى؛ فجعل السيجان مكان الطيالسة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - نبه بهذا القول على كثرة سوادهم. قلت: ويحتمل أنه عبر بأصفهان عنها وعما كان منضما إليها من البلاد في ذلك الوقت. وقد كانت تنزل من بلاد الفرس منزلة الرأس من الجسد. ومنه: قول أسماء بنت يزيد الأنصارية -رضي الله عنها- في حديثها: ] 4120 [(فأخذ بلجفتي الباب) أريد بهما العضادتان، وقد فسر بجانبيه، ومنه ألجاف البئر، أي:

جوانبها، وفي كتاب المصابيح، بلجمتي الباب، وليس بشيء، ولم يعرف ذلك من كتب أصحاب الحديث إلا على ما ذكرناه. ومن باب قصة ابن صياد هو الدجال (من الصحاح) ] 4121 [قول ابن الصياد في حديث عمر -رضي الله عنه-: (أشهد انك رسول الأميين قد كثرت الوجوه في الأمي، وأشبهها أن الأمي منسوب الى أمة العرب؛ لأنهم كانوا لا يكتبون ولا يقرءون من بين الأمم. قال الله-تعالى-: {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم} أي: بعث رجلا أميا في قوم أميين، وهذا الذي قاله وإن كان يشبه الصحيح من القول فإن فيه دغلا، وذلك أن قوما من اليهود كانوا إذا أعجزهم الطعن في نبوة نبينا - صلى الله عليه وسلم - زعموا أنه إن يكون نبيا فإنه لم يبعث إلى الكافة، وإنما بعث إلى بني إسماعيل، وهذه كلمة ألقاها إليه شيطانه الذي كان يأتيه بالأنباء إلقاء ذوي الخطفة إلى الكهان ليثير منه شرا وينشئ عنه شكا، والقصد فيه التعريض بأنك أرسلت] 182/ب [إليهم فحسب. وفيه: (فرصة). رصه أي: ضم بعضه إلى بعض، والمراد منه العصر والتضييق. وقد رواه بعضهم بالضاد المعجمة، وهو تصحيف. وفيه: (أني خبأت لك خبيئا). يريد إني أضمرت لك مضمرا لتخبرني به، فقال: هو الدخ.

الدخ بالضم لغة في الدخان، وقد ذكر بعض الشارحين فيه الفتح، ولم أعرفه من كلامهم، وهو من باب المضاعف. قال الشاعر: عند رواق البيت يغشى الدخا وقد ذكر بعضهم أن إضماره الدخان كان لما في الحديث أن الدجال يقتله عيسى بجبل الدخان، وفي هذا الحديث أنه خبأ له يوم تأتي السماء بدخان مبين، فإن كان ذلك من قول عمر -رضي الله عنه- وهو الراوي للحديث فلا معدل عنه، وإن كان من قول بعض الرواة أدرج في الحديث] فالحديث [محتمل للقولين. وفيه: (أخسأ فلن تعدو قدرك). أخسأ: كلمة زجر وإستهانة، أي: أسكت صاغرا مزجورا، فإنك وإن أخبرت عن الخبيء فلست تستطيع أن تتجاوز عن الحد الذي حد لك، يريد أن الكهانة لا ترفع بصاحبها، عن القدر الذي هو عليه وإن أصاب في كهانته. منه: (فإن لم يكن هو فلا خير لك في قتله). إنما قال ذلك لأنه كان من الولدان وقد منع عن قتلهم، ثم إن اليهود كانوا يومئذ مصالحين متمسكين بالذمة، فلم يكن ذمته لينقض بقوله الذي قاله؛ لنه كان صبيا. وفيه: (وهو يختل) أي: يرتاد مغاقصته. يروم غرته من غير لا يشعر. وفيه: (له فيها زمزمة). زمزمة اي: صوت، وهيفي الأصل صوت الرعد، ويقال لكلام المجوس عند الأكل: زمزمة. ورواه بعضهم بالراء المهملة، وهو تصحيف. ] 4122 [ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي سعيد -رضي الله عنه-: (لبس عليه؛ فدعوه). أي: خلط عليه الأمر في كهانته فدعوه فإنه لا يحدث بشيء يصلح أن يعول عليه.

[4123] ومنه] قول ابن الصياد [في حديث أبي سعيد أيضا (درمكة بيضاء) الأصل في الدرمك: دقيق الحواري. ] 4126 [ومنه قول ابن عمر -رضي الله عنهما- في حديثه (لقيته وقد نفرت عينه). نفرت أي: ورمت. وفي حديث غزوان أنه لطم عينه فنفرت. وفي حديث عمر -رضي الله عنه- أن رجلا تخلل بالقصب فنفر فوه. وذكر بعضهم أنه روي بالقاف على ما لم يسم فاعله، بمعنى استخرجت. وذكر أيضا أنه روى بالباء والقاف، والبقر: الشق والاستخراج، والمعتد به من طريق الرواية ما قدمناه. وقوله: (إن شاء الله خلقها في عصاك) يريد أن كون العين في رأسي لا يقتضي أن أكون منها على

خبر؛ فإن الله قادر أن يخلق مثلها في عصاك، والعصا لا يكون منها على خبر] 183/أ [وكأنه أدعي بذلك الاستغراق وعدم الإحساس. (ومن الحسان) ] 4130 [قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي بكر -رضي الله عنه-: (تنام عيناه ولا ينام قلبه). يريد بذلك تيقظ قلبه في المنام لما يلقيه إليه شيطانه. وهذا من أوصاف الكهنة، بخلاف حال الأنبياء، فإن تيقظ قلوبهم لما يرد عليهم من الوحي والإلهام. وفيه: (ابوه طوال) الطوال بالضم الطويل، يقال طويل وطوال، فإذا أفرط في الطول قيل: طوال بالتشديد، ووجدنا الرواية فيه بالتخفيف. وفيه: (وأمه امرأة فرضاخية) الفاء منها مكسورة, والياء مشددة، والمعنى ضخمة عظيمة, كذا فسرها أصحاب الغريب, ولم نجد له مأخذا. قلت: والوجه فيما ورد في أحاديث ابن صياد من الاختلاف والتضاد أن نقول, أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حسب ذلك في اول الأمر قبل التحقق بخبر المسيح الكذاب، فلما أخبر بما أخبر به من شأنه وقصته في حديث تميم الداري، ووافق ذلك ما عنده استبان له أن ابن الصياد ليس بالذي توهمه.

باب نزول عيسى ابن مريم عليه السلام

ومما يدل على صحة ذلك الأمارات التي تكلم فيها ابن الصياد مع أبي سعيد الخدري في حديثه، حيث صحبه الى مكة. وأما حديث جابر، واستدلاله بحديث عمر -رضي الله عنه- بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وترك النبي - صلى الله عليه وسلم - النكير على عمر -رضي الله عنه- فالوجه فيه أن نقول قد عرف نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أنه من جملة من حذر الناس عنه من الدجالين بقوله: (يخرج في أمتي دجالون كذابون قريبا من ثلاثين)، وابن الصياد لم يكن خارجا من جملتهم؛ لأنه ادعى النبوة بمحضر من النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أتشهد أني رسول الله؟ فلم يكن حلف عمر -رضي الله عنه- مخالفا للحقيقة. وأما توافق النعوت في أبوي الدجال وأبوي ابن صياد، فليس مما يقع القول به، فإن اتفاق الوصفين لا يحكم باتحاد الموصوف، بل كثيرا يوجد ذلك في الموصوفات بحكم الاتفاق. ومن باب نزول عيسى ابن مريم عليه السلام (من الصحاح) ] 4123 [قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: (حتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها).

باب قرب الساعة وأن من مات فقد قامت قيامته

قلت: لم تزل السجدة الواحدة في الحقيقة كذلك، وإنما أراد بذلك أن الناس يرغبون في أمر الله، ويزهدون عن الدنيا، حتى تكون الجدة الواحدة أحب إليهم من الدنيا وما فيها. ومن باب قرب الساعة وأن من مات فقد قامت قيامته (ومن الصحاح) ] 4136 [حديث أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (بعثت أنا والساعة ...) الحديث. الإعراب الذي يعتمد عليه من طريق الرواية] 183/ب [هو الرفع، والنصب فيه ماغ، وتكون الواو بمعنى مع، ولم تبلغنا فيه رواية، وتأويله قد نقل عن قتادة بن دعامة وهو الراوي عن أنس، وهو قريب مما في حديث المستورد ابن شداد (فسبقتها). ويحتمل وجها آخر وهو: أن يكون المراد منه ارتباط دعوته بالساعة، لا تفترق أحدهما عن الأخرى، كما أن السبابة لا تفترق عن الوسطى، ولا يوجد بينهما ما ليس منهما.

[4139] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عائشة -رضي الله عنها-: (حتى تقوم عليكم ساعتكم). الساعة جزء من أجزاء الزمان، ويعبر بها عن القيمة. وقد ورد في كتاب الله -تعالى- وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - على أقسام ثلاثة: الساعة الكبرى. وهي بعث الناس للجزاء. والساعة الوسطى: وهي انقراض القرن الواحد بالموت. والساعة الصغرى وهي موت الإنسان. والمراد منها ها هنا. الساعة الوسطى. (ومن الحسان) ] 4140 [حديث المستورد ابن شداد -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (بعثت في نفس الساعة). نفس بالتحريك لا غير. اراد به قربها، أي حين تنفست، وتنفسها ظهور أشراطها. وبعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - أول أشراطها. وقد ذكرنا فيما مضى في قوله: (أول أشراط الساعة نار) أنه أراد بذلك الأشراط المتتابعة الخارقة للعادات، المنبئة عن اقتراب قيامها.

وقد ذكر عن بعضهم أنه قال: (بعثت في نفس الساعة) أي: في وقت أحس تنفسها وقربها كما تحس بنفس الإنسان إذا قربت منه. وهذا الوجه أيضا راجع إلى المعنى الذي ذكرناه في رواية (بعثت في نسيم الساعة) قيل في تفسيره أي: في ضعف هبوبها وأول أشراطها ونسيم أول هبوب الرياح. وقيل: بعثت في ذوي الأرواح الذين خلقهم الله قبل اقتراب الساعة، فكأنه قال: في آخر النشء من بني آدم. قلت: ذهب هذا القائل في النسيم إلى أنها جمع نسمة وهي النفس، وكل دابة فيها روح فهي نسمة. ولو ذهب في النسمة إلى التي هي بمعنى النفس بالتحريك لكان أشبه بمشاكلتها الرواية الأخرى: (بعثت في نفس الساعة)، والنسمة كما أنها وردت في كلامهم بمعنى النفس فقد وردت أيضا بمعنى النفس، والله أعلم.

باب لا تقوم الساعة إلى على الشرار

ومن باب لا تقوم الساعة إلى على الشرار (من الصحاح) ] 4147 [حديث عبد الله بن عمرو، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يخرج الدجال فيمكث] أربعين [، لا أدري ...) الحديث. قلت: (لا أدري) الى قوله: (فيبعث الله عيسى) من قول الصحابي، أي: لم يزدني على أربعين شيئا يبين المراد منها؛ فلا أدري أيا أراد به من هذه الثلاثة. وفيه (دخل في كبد جبل). كبد الشيء وسطه. ومنه كبد السماء. وفيه:] 184/أ [(لا يسمعه أحد إلى أصغى ليتا ورفع ليتا). أصغى ليتا أي: أمال صفحة عنقه، وكثيرا يتوهم الناس أنه عبارة عن تطلب المستمع حقيقة ما ورد على سمعه من الصوت، وليس الأمر على ما توهمه، فإن هذا النوع إنما يوجد في استماع الأصوات التي تصحب الإنسان دون استماعها ذهن وحس وميزة، والمر في استماع النفخة أعظم وأهول من ذلك، فالمراد منه ان السامع يصعق فيصغي ليتا ويرفع ليتا، كذلك شأن من يصيبه صيحة فيشق قلبه، فأول ما يظهر منه سقوط راسه إلى أحد الشقين، فأسند الإصغاء إليه إسناد الفعل الاختياري.

باب النفخ في الصور

ومن باب النفخ في الصور (من الصحاح) ] 4152 [حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يطوي الله السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى ...) الحديث. قلت: ورد التنزيل بمثل ما ورد به الحديث، قال الله -تعالى-: {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة}. غير أن في الحديث لفظ الشمال، والوجه فيه أن نقول: قد ذكرنا -فيما مضى من الكتاب- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان معنيا بالبيان والبلاغ، فكان له أن يبين المعاني لهم على صيغة النظائر التي عرفوها؛ ليكون أمكن موقعا من قلوبهم، وأيسر استقرارا في نفوسهم، ولم يكن ذلك لغيره. ولما كانت السماوات أصفى جوهرا وأمد بسطة واعلى رتبة وأرزن قدرا من الأرض، ذكر لفظ الشمال في مقابلة اليمنى، بعد أن نزه قدره -سبحانه- عن تصور معنى في ذلك يشاركه فيه العباد بقوله: (وكلتا يديه يمين)، ليتبين لهم التفاوت بين العلويات والسفليات، بما أتى به من ذكر اليمين والشمال.

هذا ويحتمل أن أصل الحديث على ما هو في الرواية الأخرى، فعدل عنه بعض الرواة الى لفظ الشمال غلطا منه أو ظنا أنه يسد مسد اليد الأخرى. ] 4153 [ومنه حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-: (جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ...) الحديث. السبيل في هذا الحديث أن يحمل على نوع من المجاز أو ضرب من التمثيل. والمراد منه تصوير عظمته، والتوقيف على جلالة شانه، وأنه -سبحانه- يتصرف في المخلوقات تصرف أقوى قادر على أدنى مقدور. تقول العرب في سهولة الطلب وقرب المتناول ووفور القدرة وسعة الاستطاعة: هو مني على حبل الذراع، وأني أعالج ذلك ببعض كفي، وأستقله بفرد اصبع، ونحو ذلك من الألفاظ استهانة بالشيء واستظهارا في القدرة عليه. والمتورع في الخوض في تأويل أمثال هذا الحديث في فسحة من دينه إذا لم ينزلها في ساحة الصدر منزلة مسميات الجنس. وقد تكلم الخطابي على هذا الحديث في كتاب الإعلام] 184/ب [وزبدة كلامه أن الإصبع لم يوجد في كتاب الله ولا في السنة المقطوع بصحتها فيلزمنا القول بها، وليست كاليد فإنها ثبتت بتوقيف شرعي اطلقنا الاسم فيه على ما جاء به الكتاب من غير تكييف ولا تشبيه. وقد روي هذا الحديث غير واحد من أصحاب ابن مسعود، من طريق عبيدة فلم يذكر فيه قوله: (تصديقا لقول الحبر) والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينطق فيه بحرف تصديقا له أو تكذيبا، وإنما ظهر منه في ذلك الضحك المخيل للرضا مرة وللتعجب والإنكار أخرى ثم تلا الآية. والآية محتملة للوجهين معا، وليس فيها للإصبع ذكر. وقول من قال من الرواة (تصديقا للحبر) ظن وحسبان، والأمر فيه ضعيف اذ كان لا يلخص شهادته

لأحد الوجهين، فيحتمل أن يكون ذلك من تخليط اليهود وتحريفهم، وأن ضحكه كان على معنى التعجب منه والنكير له. قلت: ومما ينصر قوله هذا: ما رواه أبو عيسى الترمذي بإسناده في كتابه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: مر يهودي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يا يهودي حدثنا!) فقال: كيف تقول يا أبا القاسم إذا وضع الله السماوات على ذه والأرضين على ذه والماء على ذه والجبال على ذه وسائر الخلق على ذه وأشار إلى أبو جعفر محمد ابن الصلت بخنصره ثم تابع حتى بلغ الإبهام -فأنزل الله -تعالى-: {وما قدروا الله حق قدره}). قلت: وأبو جعفر بن الصلت أحد رواة هذا الحديث. ] 4155 [ومنه حديث ابي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الشمس والقمر مكوران يوم القيامة). قلت: يحتمل أنه من التكوير الذي هو بمعنى اللف والجمع أي: يلف ضوئها لفا فيذهب انبساطها في الافاق، ويحتمل أن يراد به رفعهما لأن الثوب إذا طوي رفع. ويحتمل أن يكون من قولهم: طعنه فكوره، أي: ألقاه، يلقيان من فلكهما، وهذا التفسير أشبه بنسق الحديث لما في بعض طرقه: (يكوران في النار) ويكون تكويرهما فيها ليعذب بهما أهل النار، لا سيما عباد الأنوار، لا يعذبان في النار؛ فغنهما بمعزل عن التكليف، بل سبيلهما في النار سبيل النار نفسها وسبيل الملائكة الموكلين بها. ورواه أنس في روايته: (الشمس والقمر ثوران عقيران في النار) أي زمنين لا يبرحان منها، فلا يكون لهما سير كما كان قبل انتقاض الأفلاك.

باب الحشر

ومن باب الحشر (من الصحاح) ] 4158 [حديث سهل بن سعد -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء. الأعفر: الأبيض، وليس بالشديد البياض. والعفرة لون الرضي. وقوله: (كقرصة النقى) يريد بذلك بياضها واستدارتها] 185/أ [واستواء أجزائها، وأراد بالنقى: الدقيق الذي ينخل وينظف فتؤخذ نقاوته، وهو الحواري. وقوله: (ليس فيها علم لأحد) أي: علامة، يريد أن ما أحدثه الخلق على وجه الأرض من الأبنية وغيرها يزال عنها بالتسوية وتبديل صفات الأرض. ] 4159 [ومنه حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها ...) الحديث. (يتكفأها) من رواية كتاب البخاري. وروي في كتاب مسلم: (يكفؤها)، وهو الصواب على ما نعرفه من رواية الحفاظ، وهو المستقيم على اللغة العربية. والمعنى: يقلبها، ونر الحديث مشكلا جدا غير مستنكرين شيئا من صنع الله وعجائب فطرته، بل لعدم التوقيف الذي يكون موجبا للعلم في قلب جرم الأرض من الطبع الذي عليه إلى طبع المطعوم والمأكول مع ما ورد في الآثار المنقولة أن هذه الأرض برها وبحرها يمتلئ نارا في النشأة الثانية، ويضم إلى جهنم؛ فنرى الوجه فيه أن نقول: معنى قوله: خبزة واحدة، أي: كخبزة واحدة من نعتها كذا وكذا، وهو مثل ما في حديث سهل ابن سعد كقرصة النقى، وإنما ضرب المثل بقرصة النقى لإستدارتها وبياضها على ما ذكرنا في هذا الحديث ضرب المثل بخبزة تشبه الأرض نعتا وشكلا ومساحة، فاشتمل الحديث على معنيين: أحدهما بيان الهيئة التي تكون الرض عليها يومئذ.

والآخر: بيان الخبزة التي يهيئها الله سبحانه نزلا لأهل الجنة، وبيان عظم مقدارها إبداعا واختراعا من القادر الحكيم الذي لا يعجزه أمر ولا يعوزه شيء. ] 4160 [ومنه حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- (يحشر الناس على ثلاث طرائق ...) الحديث. قال الخطابي: الحشر المذكور في هذا الحديث إنما يكون قبل قيام الساعة؛ يحشر الناس أحياء إلى الشام. فأما الحشر الذي يكون بعد البعث من القبور، فإنه على خلاف هذه الصورة من ركوب الإبل والمعاقبة عليها إنما هو على ما ورد في الحديث: (إنهم يبعثون حفاة عراة)، ففسر ثلاثة على بعير، وأربعة على بعير، على أنهم يعقبون البعير الواحد يركب بعضهم، ويمشي بعضهم عقبة بينهم، ثم قال: وقد قيل: إن هذا الحشر دون البعث، فليس إذا بين الحديثين تدافع ولا تضاد. قلت: قول من يحمل الحشر على الحشر الذي هو بعد البعث من القبور أسد وأقوى وأشبه بسياق الحديث من وجوه: أحدها أن الحشر على الإطلاق في متعارف الشرع لا يراد منه إلا الحشر الذي بعد قيام الساعة، إلا أن يخص بنوع من الدليل، ولم نجده ها هنا. والآخر أن التقسيم الذي ذكر في هذا الحديث] 185/ب [لا يستقيم في الحشر إلى أرض الشام؛ لأن المهاجر إليها لابد أن يكون راغبا راهبا، أو راغبا راهبا، فأما أن يكون راغبا راهبا، ويكون هذه طريقة واحدة، لا ثاني لها من جنسها فلا. والثالث: أن حشر بقية الطائفتين على ما ذكره في هذا الحديث إلى أرض الشام والتزازها بهم، حتى لا يفارقهم في مقيل ولا مبيت، ولا صباح ولا مساء، قول لم يرد به التوقيف ولم يكن لنا أن نقول: بتسليط النار على أولى الشقوة في هذه الدار من غير توقيف. والرابع: وهو أقوى الدلائل وأوثقها ما روى عن أبي هريرة أيضا، وهو في الحسان في هذا الباب: (يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف ...) الحديث. وأما ما ذكر من بعث الناس حفاة عراة، فلا تضاد بين القضيتين، ووجه التوفيق بينهما، وإن ذكر عن غيره بالتوفيق بين الحالتين، أعني حالة البعث من المنشر، وحالة السوق إلى المحشر، فهو مستغنى عنه بما هو أظهر منه، وهو أن بعث الناس حفاة عراة لا ينافي كونهم ركبانا.

ونرى التقسيم الذي جاء به الحديث التقسيم الذي جاء به التنزيل، قال الله -تعالى-: {إذا رجت الأرض رجا (4) وبست الجبال بسا (5) فكانت هباء منبثا (6) وكنتم أزواجا ثلاثة} الآيات. فقوله (راغبين راهبين) يريد بها عوام المؤمنين، وهو ذوو الهنات الذين يترددون بين الخوف والرجاء بعد زوال التكليف، فتارة يرجون رحمة الله لإيمانهم، وتارة يخافون عذابه لما اجترحوا من السيئات، وهو أصحاب الميمنة في كتاب الله على ما في الحديث الذي رواه أيضا أبو هريرة، وهو في الحسان في هذا الباب. وقوله: (اثنان على بعير)، فالمراد منه أولوا السابقة من أفاضل المؤمنين وهم السابقون. وقوله: (ويحشر بقيتهم النار) يريد به أصحاب المشأمة، فهذه ثلاث طرائق. وقد ذكر في الحديث أن المذكورين من نجباء أهل الإيمان يؤتون بنجائب من نوق الجنة فيحملون عليها من المنشر إلى المحشر. قلت: وحشرهم على الصورة المذكورة في الحديث يحتمل وجهين. إما الحمل درجة واحدة تنبيها على أن البعير المذكور يكون من بدائع فطرة الله كناقة صالح فيقوى على ما يقوى عليه غيره من البعران. وإما الحمل على سبيل الاعتقاب، فإن قيل لا يجوز أن يحمل قوله: (واثنان على بعير) محل المجاز. ويسلك به مسلك الاتساع، فيحمل ما يؤيد به أحدهم ويعان في المسير] 186/أ [إلى المحشر على حسب مكانته في العبودية ومثابته في الإخلاص. قلنا: الأصل فيه الحقيقة ولا ضرورة بنا الى هذا التأويل مع استقامة الحديث على ظاهره. فإن قيل: لم يذكر من السابقين من ينفرد بفرد مركب، لا يشاركه فيه أحد؟ قلنا: لأنه عرف أن ذلك مجعول لمن فوقهم في المرتبة من أنبياء الله؛ ليقع الإمتياز بين الأنبياء والصديقين في المراكب، كما وقع في المراتب. فإن قيل: لم يذكر الخمسة والستة إلى إلى آخر ما ختم به من الكلام؟ قلنا: ايثارا للإيجاز، أو اكتفاء بما مر من ذكر الأعداد. فإن قيل: فعلى هذا كان له في ذكر الثلاثة غنية عن ذكر الأربعة. قلنا: لو أقتصر ذكر الثلاثة لم يتهيأ لنا الوقوف منها على ما تضمنه الكلام من العجب العجاب، وهو ركوب الأربعة فما فوقها على البعير الواحد، ولا على ما تضمنه من الدلالة على المعاقبة. فإن قيل لم يسلك في العشرة مسلكه في بقية الاعداد المتروكة؟ قلنا: لأن في العشرة بيان الغاية منها، فإن لم يذكرها لاقتضى ذلك أحد الأمرين اما التوقيف على الأربعة، أو التبليغ لما فوق العشرة.

[4161] ومنه حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (إنكم محشورون حفاة عراة غرلا ...) الحديث. غرلا: جمع أغرل وهو الأقلف, ومنه الأرغل بتقديم الراء. وفيه: أول من يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام) وفي غير هذه الروية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يكسى على أثره. ونرى أن التقديم بهذه الفضيلة إنما وقع لإبراهيم -عليه السلام- لأنه أول من عرى في ذات الله, حين أرادوا إلقاءه. فإن قيل: أوليس نبينا - صلى الله عليه وسلم - هو المحكوم عليه بالفضل على سائر الأنبياء، وتأخره في ذلك موهم أن الفضل للسابق؟ قلنا إذا استأثر الله سبحانه عبدا بفضيلة على آخر، واستأثر المستأثر عليه على المستأثر بتلك الواحدة بعشر أمثالها، أو أفضل كانت السابقة له، ولا يقدح استئثار صاحبه عليه بفضيلة واحدة في فضله، ولا خفاء بأن الشفاعة -حيث لا يأذن لأحد في الكلام- لم تسبق سابقة الأولى السابقة، ولا فضيلة لذوي الفضائل إلا أتت عليها، وكم له من فضائل مختصة به لم يسبق إليها، ولم يشارك فيها. وفيه: (وإن ناسا من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال) قلت: أن الله -تعالى- رفع أقدرا الصحابة لهجرتهم إلى رسوله ونصرتهم إياه وأكرمهم بنصر سنته وتمهيد شرعه، والجمهور منهم درجوا إلى منهاج الحق، وممن أدرك نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فلقيه لقية، أو

صحبه صحبة [وشيكة] نفر يسير لم تترسخ أقدامهم في قدم الاستقامة، فلما طوى عنهم بساط الصحبة، وبسط عليهم ظل النعمة ركنوا إلى الخفض، وأخلدوا إلى الدعة، ومال بهم مخيلة الأمل وبارقة الطمع عن سواء السبيل إلى كل طريق معمور، وإلى مالا يجمل في الأحدوثة، كما كان من بسر ابن أرطاة ومن نحا نحوه من كل كسير وعويل، وأكرم بأمة لا يعد نفرهم ولا يضبط جيلهم وقبيلهم، ثم لا يصادف منهم مسيء إلا بالندرة. وقد دل على هذا المعنى قوله - صلى الله عليه وسلم - (أصيحابي) أشار التصغير إلى قلة أولئك النفر. وأما قوله: (إنهم لن يزالوا مرتدين على أعقابهم)، فإنه أراد به إساءة السيرة، والرجوع عما كانوا عليه من صدق العزيمة، ولم يرد به الردة عن الإسلام؛ إذ لو كان المراد منه الردة لأقتصر على قوله: مرتدين. ولم يوجد -بحمد الله- ممن أدرك صحبة نبي الله واشتهر بها من ارتد بعده. نعم قد كان من جفاة الأعراب ورؤسائهم ممن وفد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم دخل بعده في غمار أهل الردة كعيينه بن حصن الفزاري، وعمرو بن معد يكرب الزبيدي والأشعث بن قيس الكندي. وقد كان من طليحة الأسيدي من إدعاء النبوة ما كان، ثم الله -تعالى- تداركهم برحمته فتابوا وحسنت توبتهم وأصلحوا ما أفسدوه، والله هو التواب الرحيم. ] 4164 [ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- (فإذا هو بذيخ متلطخ). الذيخ: الذكر من الضياع.

[4168] ومنه حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (يكشف ربنا عن ساقه ..) الحديث. قلت مذهب أهل السلامة من السلف التورع من التعرض للقول في مثل هذا الحديث، والتجنب عن تفسير ما لا يحيط العلم بكنهه من هذا الباب، وهو الأحوط والأمثل. وقد أشرنا الى ذلك في غير موضع. وقد تأوله جمع من العلماء فاتبع الآخر الأول حتى تشابه تأويلهم، وإن اختلفت أقاويلهم، وحاصل تلك الأقاويل أن الكشف عن الساق مثل في شدة الأمر وصعوبة الخطب.

قلت: وأصله في الفزع والهزيمة وتشمير المخدرات عن سوقهن في الهرب. وزعم بعض أهل المعرفة بالمآخذ اللغوية أن الأصل فيه أن يموت الولد في بطن الناقة فيدخل المذمر يده في رحمها فيأخذ بساقه ليخرجه منها، فهذا هو الكشف عن الساق، فجعل لكل أمر فظيع] 178/أ [. ومنه قوله عز وجل: {يوم يكشف عن ساق} أي: عن شدة. قلت: وتنكير الساق في الآية من دلائل هذا التأويل، ومثله قولهم: قامت الحرب بنا على ساق، ومنه قولهم: ساوقه، أي: فاخرة أينا أشد، وما أكثر شواهد ذلك في أشعارهم. ومنه قول حاتم: أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها ... وإن شمرت عن ساقه الحرب شمرا ومنه قول بعض الأعراب: عجبت من نفسي ومن إشفاقها ومن طرادى الطير عن أرزاقها في سنة قد كشفت عن ساقها أراد سنة الجدب، وكان يطير عن الزرع، فأولوا الحديث تأويل الآية. قلت: وقد خالف. الحديث الآية في تعريف الساق، ووجه التعريف فيها أن يقال: أضفها إلى الله تعالى تنبيها على أنها الشدة التي لا يجليها لوقتها إلا هو، أو على أنها هي التي ذكرها في كتابه. وفيه: (فسجد فيعود ظهره طبقا واحدا (أي: يرد عظاما بلا مفاصل ولا تنثني عند الرفع والخفض، وفي رواية ابن مسعود -رضي الله عنه- (وتصير ظهورهم طبقا واحا كأن فيه السفافيد)، والمعنى أنه سبحانه يكشف يوم القيامة عن شدة يرتفع دونها سواتر الإمتحان، فيتميز عند ذلك أهل اليقين والإخلاص بالسجود الموصوف، عن أهل الريب والنفاق. (ومن الحسان) [4172] حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف ...) الحديث.

باب الحساب

فإن قيل: لم بدأ بالمنشأة بالذكر قبل أولى السابقة؟ قلنا: لأنهم هم الأكثرون من أهل الإيمان. وفيه: (إما أنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك). عبر بهذا القول عما يضطرون إليه من المكروه، ويوسمون به من المذلة والهوان، فإن من شأن الناس في هذه الدار أن يجعلوا ما سوى الوجه وقاية للوجه، فتبلغ بهم الحاجة الى الإتقاء، بحر الوجه مكان الإتقاء باليد والرجل؛ حيث لم يبذلوا الوجوه للذي خلقها في السجود له سبحانه. ومن باب الحساب (من الصحاح) ] 4177 [وقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- (فيضع عليه كنفه) الكنف: الجانب، وكنفا الطائر جناحاه؛ لأنه يحوط به نفسه، ويصون به بيضته. وإنما قلنا ذلك لأن الأصل فيه الحياطة والصيانة. يقال: كنف الرجل أي: حطته وصنته, واكتنفته أي: أعنته، فمعنى قوله، يضع عليه كنفه: أي يصونه عن الخزي بما يستره عن أعين أهل الموقف، هذا هو الوجه فيه.

وقد ذكر الحافظ أبو موسى عن أستاذه اسماعيل ابن الفضل الحافظ أنه قال لم أر أحدا فسره، وكأن معناه يستره عن الخلق.] 187/ب [. ] 4178 [ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث] أبي موسى [-رضي الله عنه-: (هذا فكاكك من النار). فكاك الرهن ما يفتك به، أي يخلص، والكسر لغة فيه، حكاه الكسائي. ووجه الحديث -والله أعلم- تسارعت إلى تكذيب كثير من الأنبياء -عليهم السلام- قديما وحديثا وكذبوا عيسى -عليه السلام- وقتلت زكريا ويحيى -عليهما السلام- ثم كذبت نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، والنصارى تقولت على عيسى، وأنكرت نبوة نبينا - صلى الله عليه وسلم - مع ما كان عند كل واحد من الفئتين من العلم بذلك فهلكا بذلك وخلص الله المؤمنين بتصديقهم إياه فكان الذي أوبق الكتابي كفرة بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وبما أنزل عليه، وال ذي خلص المؤمن به تصديقه إياه فأورث الله كل واحد من المصدق والمكذب مقعد صاحبه من الجنة والنار، أورث الكتابي مقعد المؤمن من النار، وأورث المؤمن مقعد الكتابي من الجنة، وعبر عنه تارة بالفكاك وتارة بالفداء على وجه المجاز والاتساع ولم يرد به تعذيب الكتابي بما اجترحه المسلم من ذنوب؛ فإن ذلك خارج عن مقتضى الحكمة، قال الله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى}. ] 4180 [ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس -رضي الله عنه- (فعنكن كنت أناضل) أناضل أي أدافع يقال فلان يناضل عن فلان، إذا تكلم عنه بعذره ودفع والأصل فيه المراماة.

[4181] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- (فو الذي نفسي بيده، لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤية أحدهما). تضارون يروى بالتشديد وبالتخفيف من الضير والضور والمعنيان متقاربان، أي: لا يخالف بعضكم بعضا فيكذبه، ولا ينازع. وقد ورد المضارة بمعنى المضايقة والضرر والضيق. والأصل في المخفف منهما تضيرون، وقد ذكر أبو عبيد الهروي اختلاف أقاويل أصحاب الغريب في كتابه، فمن أحب الوقوف عليه فليراجع كتابه. وقد روي من غير هذا الطريق: تضامون، وقد وردت الرواية فيه أيضا بالتشديد والتخفيف أي: لا ينضم بعضكم إلى بعض في وقت النظر لما ينويه من المشقة بسبب الإشكال والإختفاء، أو لا ينالكم ضيم، والأصل فيه تضيمون، فألقيت فتحة الياء على الضاد. وهذا القول منه - صلى الله عليه وسلم - ورد مورد البيان لتحقيق الرؤية وإنزالها منزلة ما لا خفاء فيه، فشبه الرؤية بالرؤية، لا المرئى بالمرئي. وفيه: (أي فل). أراد أي فلان فرخم. وفيه: (ألم نذرك ترأس وتربع) يقال: رأس فلان القوم يرأس بالفتح رئاسة، وهو رئيسهم. وتربع] 188/أ [أي تأخذ المرباع وهو ربع الغنيمة والمعنى: ملكتك على قومك وكان الملك في الجاهلية يأخذ المرباع. وفيه: (ذلك ليعذر من نفسه) يعذر على بناء الفاعل من الإعذار، والمعنى يزيل عذره من قبل نفسه بكثرة ذنوبه وشهادة أعضائه عليه وقد مر تفسير ذلك فيما مضى.

(ومن الحسان) [4182] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي أمامة -رضي الله عنه-: (وثلاث حثيات من حثيات ربنا) الحثوة والحثية: ما يحثيه الإنسان بيديه من ماء أو تراب أو غير ذلك، وقد مر تفسيره في باب الطهارة، وانها لتستعمل فيما يعطيه المعطي بكفيه دفعة واحدة، وقد جيء بها ها هنا على وجه التمثيل، وأريد بها الدفعات، أي: يعطيني بعد هذا العدد المنصوص عليه ما يخفي على العادين حصره وتعداده فإن عطاءه الذي لا يضبطه الحساب أوفى وأربى من النوع الذي يتداخله الحساب. وقد ثبت من حديث أبي بكر -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فاستزدت ربي فأعطاني مع كل واحد من سبعين الفا سبعين ألفا). ] 4184 [ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي مسعود -رضي الله عنه-: (فيخرج بطاقة): البطاقة صحيفة صغيرة، وهي في الأصل رقعة يرقم فيها ثمن الثوب، ويقال سميت بذلك، لأنها تشد بطاقة من هدب الثوب، وهي لغة مصرية.

باب الحوض

ومن باب الحوض (من الصحاح) ] 4186 [قوله - صلى الله عليه وسلم -: في حديث أنس -رضي الله عنه (مسك أذفر) أذفر: أي ذكي الرائحة، والذفر بالتحريك: كل رائحة ذكية من طيب أو نتن. ] 4188 [ومنه حديث] أبي هريرة [-رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (إن حوضي أبعد من أيلة من عدن). يريد بعد ما بين القطرين، والأيلة -بالياء المجزومة- بلدة على الساحل من آخر بلاد الشام مما يلي بحر اليمن، وعدن آخر بلاد اليمن مما يلي بحر الهند.

[4190] ومنه حديث أنس -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يحبس المؤمنون يوم القيامة حتى يهموا بذلك) يهموا على بناء المجهول أي: يحزنون لما أمتحنوا به من الحبس، من قولهم أهمني الأمر:: ذا أقلقك وأحزنك. وفيه: (لست هناكم) يريد لست بالمكان الذي ترونني فيه، يعني من الشفاعة. وقد أشار بقوله (هناكم) إلى التبعيد من ذلك المكان فإن هنا اذن ألحق به كاف الخطاب فإنه للتبعيد عن المكان المشار أليه. وكذلك هنالك والام زائدة والكاف للخطاب.

وفيه: (ويذكر خطيئته التي أصاب: أكله من الشجرة) أصاب، أي أصابها. وأكله، بدل من خطيئته. وفيه: (ويذكر ثلاث كذبات) إحدى الكذبات قوله (اني سقيم)، والأخرى (بل فعله كبيركم)، والثالثة قوله لسارة: (هي أختي). قلت: والخليل -عليه السلام- أتى في سائرها بالمعاريض، وقد كانت في ذات الله، وإنما خاف منها لتستره بالمعاريض مع استغنائه عنها بتأييد الله اياه. وكل من كان وقته مع الله أصفىى وحاله أعلى ومنزلته أقرب كان حكمه في المعاملة أدق، وأمره في المؤاخذة أعوص. وفيه: (فاستأذن عليه في داره). قلت: إنما أضاف الدار إلى الله إضافة تشريف وتكريم، وهو أحد الوجهين في قوله سبحانه: {والله يدعو إلى دار السلام}، وقوله سبحانه: {لهم دار السلام عند ربهم}، وهو قول جمع من أهل العلم أن السلام ها هنا اسم من أسماء الله. وأما قوله: (فاستأذن عليه) فإنه أراد به الاستئذان لدخول تلك الدار المكرمة بالإضافة إلى الله، والوقوف فيها موقف المسائلة والاستعطاف، وخاصية ذلك المكان بالنسبة إليه لا بالنسبة إلى الله، وذلك مثل مراجعة جبريل في تبليغ الرسالة وطلب الحاجة إلى مقامه الذي أقامه الله فيه، والحكمة في نقله النبي - صلى الله عليه وسلم - عن موقفه ذلك] 189/أ [إلى دار السلام لعرض الحاجة هي أن موقف العرض والحساب موقف سياسة، ولما كان من حق الشفيع أن يقوم مقام كرامة فتقع الشفاعة موقعها؛ أرشد - صلى الله عليه وسلم - إلى النقلة عن موقف الخوف في القيامة إلى موقف الشفاعة والكرامة، وذلك أيضا مثل الذي يتحرى الدعاء في مواقف الخدمة؛ ليكون أحق بالإجابة. وفيه: (فيحد لي حدا) يريد أنه يبين لي في كل طور من أطوار الشفاعة حدا أقف عنده فلا اتعداه، مثل أن يقول شفعتك فيمن أخل بالجمعات، ثم يقول شفعتك فيمن أخل بالجمعات ثم يقول شفعتك فيمن أخل بالصلوات. ومنه فيمن شرب الخمر، ثم فيمن زنى، وعلى هذا ليريه علو الشفاعة في عظم الذنب. ] 4191 [ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس -رضي الله عنه-: (فأخرج من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان).

المثقال ما يوزن به، وهو من الثقل، وذلك اسم لكل سنج، ومعنى قوله: (مثقال ذرة)، أي: وزنها والمثقال إذا أطلق فإنما يراد منه السنج المعبر به عن الدينار. وقد اختلف أقاويل العلماء في تأويله على حسب اختلافهم في أصل الإيمان. وأرى التأويل المستقيم فيه أن نقول: أراد هاهنا بالجزر الذي ذكره: حصة المؤمن من الرغبة أو الرهبة الباعث له على العمل لوجه الله. ألا ترى أنه ذكر في آخر تارات المناقصة: (ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله)، ولا يجوز أن يكون هذا القائل غير موحد، فعلمنا أن ما قدر قبل ذلك بمثقال شعيرة، ثم بمثقال حبة أو خردل غير الإيمان الذي يعبر به عن التصديق والإقرار، بل هو ما يوجد في القلوب من ثمرة الإيمان. ومن الدليل أيضاً على ذلك أن هذا الحديث رواه البخاري عن أنس على ما في كتاب المصابيح ورواه أيضاً عن أنس- رضي الله عنه- وفي روايته: (يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه ما يزن من الخير ذرة). وقد رواه أبو سعيد الخدري، وفي روايته: (مثقال ذرة إيمان). أخرجه البخاري في كتابه. وفي كتاب مسلم من رواية أبي سعيد: (فيقول ارجعوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه) ثم ذكر (نصف دينار من خير) ثم ذكر (مثقال ذرة من خير) فلما وجدنا الحديثين قد روى عن كل واحد من الصحابيين على اختلاف اللفظين: الخير والإيمان حملنا الأمر فيهما على أن الصحابيين رويا ذلك بالمعنى [189/ب] أو روى عنهما بالمعنى، فوضع الإيمان موضع الخير؛ لأنه من فوائد الإيمان ولوازمه. فإن قيل: فلم لم تقدروه على العكس؟ قلنا: لما ذكرنا من متن الحديث أنه ذكر في آخر تلك التارات أنه يقول: (ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله) فعلمنا أن الأمر المقدر بالشعيرة والبرة والذرة والحبة والخردلة غير الشيء الذي هو حقيقة الإيمان، حتى لا يكون الرجل مؤمناً إلى بوجدان ذلك منه، وهو التصديق والإقرار. ثم إن حقيقة الإيمان التي لا يكون المكلف في حكم المؤمنين إلا بوجدان ذلك منه لا يصح أن تدخله التجزئة والتبعيض، والله أعلم.

وفيه: (فأقول يا رب ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله، قال: ليس ذلك لك). هذا اللفظ محتمل لمعنيين: أحدهما: أن ذلك ليس إليك، كقوله تعالى: {ليس لك من الأمر شيء}. والآخر: لسنا نفعل ذلك لأجلك، بل لأنا أحقاء بأن نفعله كرماً وتفضلاً. ثم إنه بين بهذا الحديث أن الأمر في إخراج من لم يعمل خيراً قط من النار خارج عن حد الشفاعة، بل هو منسوب إلى محض الكرم موكل إليه، وذلك ليكون القسم الذي تجرد عن الشفاعة فيجاوز الله عنه بفضله ورحمته مبدوءاً به أعلى وأكثر وأوفى وأجدر من القسم الذي يناله شفاعة الشافعين. وفي معناه الحديث الصحيح الذي رواه أبو سعيد الخدري- رضي الله عنه-. [4194] ومنه حديث حذيفة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فيرسل الأمانة والرحم فيقومان بجنبتي الصراط). يريد بجنبتي الصراط ناحيتيه اليمنى واليسرى يقال: جنبيه بالتحريك وجنابيه وجنبتيه، والمعنى

أن الأمانة والرحم لعظم شأنهما وفخامة ما يلزم العباد من رعاية حقهما يمثلان هنالك الأمين والخائن، والواصل والقاطع، فيحاجان عن المحق، ويشهدان على المبطل. [4196] عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (فيقول الله شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين). فإن قيل: فكيف التوفيق بين قوله: (ليس لك ذلك)، وبين حديث أبي هريرة الذي يتلو هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله)؟. قلنا: لو حمل الحديث على أنا لسنا نفعل ذلك لأجلك فإن الشفاعة باقية على حالها، ولو حمل على أن ذلك ليس إليك فالوجه فيه أن نقول: الشفاعة توجد على طرق شتى ومقامات مختلفة، فمنها الشفاعة في المحشر، حيث يطول بهم القيام، وهو مخصوصة به شاملة لعموم أهل الإيمان من سائر أهل الملل. ومنها: الشفاعة عند ورود الحوض. ومنها: الشفاعة عند اختلاف السبيلين، والشفاعة عند الجواز على الصراط، والشفاعة بعد دخول المشفوع له النار، والشفاعة عند الإخراج منها، والشفاعة بعده لطلب المزيد من رحمة الله وفضله. والنوع الذي يمنع منه في هذا الحديث الشفاعة في إخراج من لم يعمل خيراً قط. وبقية الأنواع مبقاة على حالها، فلا تنافي إذا بين الحديثين، ويشكل [190/أ] من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أسعد الناس بشفاعتي) إذ لم نجد للشفاعة مساغاً في غير أهل الكلمة، فلم يجز لنا أن نقول: سعد بها غيرهم، وكانوا هم أسعد الناس بها، والوجه فيه أن نقول: نزل السعيد منهم منزلة الأسعد، كما تقول لغني بين أقوام محاويج هو أغنى القوم، وإن لم يكن فيهم غني غيره. وإن أراد شفاعتي لا يسعد بها إلا الذي قال: لا إله غلا الله صدقاً من قلبه: أو نقول: أراد بمن قال: لا إله إلا الله من لم توجد له سابقة، ولم تخلص له فضيلة، فيستحق بذلك الرحمة والشفاعة غير هذه الكلمة التي أتي بها مخلصاً من قلبه فصار هو أسعد بشفاعته من الذين سعدوا بها من ذوي الفضيلة والوسيلة؛ وذلك لأن الذي يستحق دخول الجنة بحسن الطاعة لا ضرورة به أن يشفع له في إنالة الفضل إياه، ورفع

الدرجة له ضرورة من يستحق دخول النار فيشفع له في العتق منها فيؤمر بخلاصه ويؤذن [له] في دخول الجنة بسعة فضل الله ورحمته. [4196] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي سعيد- رضي الله عنه-: (أتاهم رب العالمين) إتيان الله في الكتاب مفسر بإتيان أمره وإتيان بأسه، ولفظ التنزيل محتمل لكلا القولين. فأما هذا الحديث فإنه يأول على إتيان أمره، وهو قوله، فماذا ينتظرون. ومن السلف من يتنزه عن تأويله خشية الخطأ مع تمسكه بالعروة الوثقى، وهو تنزيه الله عن الاتصاف بما يتحدث به النفوس من أوصاف الخلق. وعلى هذا القول في لفظ حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-: (هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه).

ويجوز أن يعبر الإتيان والمجيء عن التجليات الإلهية والتعريفات الربانية، ولا سبيل إلى القول في هذا الحديث وأمثاله إلا من أحد الطريقين: إما التأويل على النسق الذي بينا، وإما السكون على الوجه الذي ذكرناه. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي سعيد (هل بينكم وبينه آية تعرفونه، فيكشف عن ساق). [190/ب] وسياق هذا الحديث في بعض طرقه الصحاح: (هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها) وهو الأحوط وقد بينا فيما مر من الكتاب معنى قوله: (فيكشف عن ساق) وتنكيرها في هذا الحديث على ما هو في التنزيل من أكد أسباب التأويل. وفي رواية أبي هريرة وأبي سعيد في الجامعين الصحيحين زيادات على ما في المصابيح لم نر التعرض لها؛ لأنها لم تدخل في جملة أحاديث هذا الكتاب، ثم لأنها من المشكلات المبهمة والمعضلات العويصة، والأولى بأولي الخشية الذين باشر الحق أسرارهم أن لا يتكلفوا التأويل في الألفاظ النابية عما يتوخي من المعاني فيذروه في سنبلة. وفيه: (فناج مسلم ومخدوش مرسل ومكوس في نار جهنم). جعل المارة على الصراط على طبقات ثلاث، على ما رتبهم عليه في الحشر، وهم الذين نجاهم من النار فلن تمسهم على تباين مقاماتهم في العبودية وتفاوت درجاتهم في الجنة، ثم الذين استوجبوا العقوبة من عصاة أهل الإيمان على اختلاف نياتهم، ومقادير ذنوبهم، ثم الذين لا ملجأ لهم المقضيون عليهم بالخلود. وقوله: (ومخدوش مرسل)، يريد به الذي يخدش بالكلوب، فيرسل إلى النار من عصاة أهل الإيمان. وأما قوله: (فمكدوش)، الأكثرون يروونه بالسين المهملة، وفسر بأنه مدفوع فيها. يقال: تكدس السن: إذا دفع من روائه فقط، والتكدس في سير الدواب: أن يركب بعضهم بعضاً وكدس به صرفه، وكدسهم جمعهم في موضع. قلت: ومنهم من يرويه بالشين المعجمة وهو السوق الشديد، وكدشه: خدشه وجرحه وطرده. وفي بعض طرقه: (مكردش في نار جهنم)، أراد به الموثق الملقى فيها. وفيه: (فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل). الحبة بكسر الحاء وتشديد الباء اسم للجامع للبزور التي تنتشر إذا هاجت ثم تنبت في الربيع. وقد قيل غير ذلك.

وحميل السيل: ما حمله من طين أو غثاء، فإذا اتفق فيه الحبة واستقرت على شط مجرى السيل فإنها تنبت في يوم وليلة، وهي أسرع نابتة نباتاً. وإنما أخبر بسرعة نباتهم قاله أبو سعيد الضرير. [4198] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-: (فمنهم من يوبق بعلمه، ومنهم من يخردل). وبق: إذا تثبط فهلك يبق وبقاً وموبقاً، وأوبقه، كذا قال الله تعالى: {أو يوبقهن بما كسبوا}. وقال ابن عرفة: أوبقه إذا حبسه، ومنه قوله تعالى: {وجعلنا بينهم موبقاً} قال: أي محبساً. قال: ومنه الحديث: (ومنهم الموبق بذنوبه). قلت: والأشبه بنمط هذا الحديث تفسير ابن عرفه أنه يحبس؛ لأنه عبر بعده عن الهالك بالمخردل [191/أ] والمخردل: قيل: هو المرمي المصروع. وقيل: المقطع: يقال: لحم خراديل إذا كان قطعاً، والمعنى أنه يقطعه كلاليب الصراط حتى يهوى إلى النار. والخردولة: قطعة من اللحم. وذكر أبو عبيد الهروي عن أبي عبيدة معمر بن المثنى خردلت اللحم وخرذلته بالدال والذال. قطعته ومزقته. وفيه: (قشبني ريحها وأحرقني ذكاؤها). المعنى: آذاني ريحها كأنه قال سمني ريحها. وكل مسموم قشيب ومقشب. ومنه: نسر قشيب: إذا خلط له في لحم يأكله سم، فإذا أكله قتله فيؤخذ ريشه.

قال الهذلي: به ندع الكمى على يديه .... يخر تخاله نسرا قشيبا والذكاء- بفتح الذال: شدة وهج النار، من: ذكت النار وأذكيتها أنا وذكيتها: إذا أتممت اشتعالها. والذكاء: بلوغ كل شيء منتهاه. [4199] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- حكاية عن الله- عز وجل: (يا بن آدم ما يصريك مني). يقال: صرى الله عنه شره، أي: دفع، وصريته منعته. قال ذو الرمة: وودعن مشتاقا أصبن فؤاده .... هواهن إن لم يصره الله قاتله وصريت ما بينهم صرياً، أي: فصلت. يقال: اختصمنا إلى الحاكم قصرى ما بيننا، أي: قطع ما بيننا وفصل.

وقد فسر قوله: (ما يصريك) بقطع المسألة، أي ما يقطع مسألتك مني، وحسن أن يقال: ما يفصل بينى وبينك، أي: ما الذي يرضيك حتى تترك مناشدتك والمعنى، إن أجبتك إلى مسألتك كرة بعد أخرى، وأخذت ميثاقك أن لا تعود أن لا تسأل غيره، وأنت لا تفي بذلك، فما الذي يفصل بيني وبينك في هذه القضية، ويكون على وجه المجاز والاتساع، والمبتغى منه التوقيف على فضل الله ورحمته وكرمه وبره بعباده، حتى إنه يخاطبهم مخاطبة المستعطف الباعث سائله على [الاستزادة]. وفي كتاب المصابيح: (ما يصريني عنك)، وهو غلط، والصواب: (ما يصريك مني) كذا رواه المتقنون من أهل الرواية. وفيه: (أتستهزئ مني وأنت رب العالمين). يريد: أتحلني محل المستهزأ به. فإن قيل: كيف يصح هذا القول من العبد بعد كشف الغطاء، واستواء العالم والجاهل في معرفة ما يجوز على الله وما لا يجوز؟ قلنا: مثابة هذا العبد مثابة العالم العارف الذي يستولى عليه الفرح بما آتاه الله وكاشفه به، فيزل لسانه من شدة الفرح. وأما قوله: (مم تضحك يا رسول الله، قال: من ضحك رب العالمين)، فإن السبيل فيه أن نقول: الضحكان وإن كانا متفقين في اللفظ فإنهما متباينان في المعنى، وذلك أن الضحك من الله سبحانه يأول على كمال الرضا عن العبد، وقد نبهنا عليه في [191/ب] غير هذا الموضع، وإنما قابل أحدهما بالآخر مع معرفة التباين بينهما؛ لأنه كان السبب لمسرته - صلى الله عليه وسلم -.

=====

[4207] ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا صار أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار جيء بالموت ..) الحديث. المراد منه أنه تمثل لهم ذلك على المثال الذي ذكره في غير هذه الرواية: (يؤتي بالموت بكبش أعين ...) الحديث. وذلك ليشاهدوه بأعينهم فضلاً أن يدركوه بأبصارهم. والمعاني إذا ارتفعت عن مدارك الأفهام واستعلت عن معارج النفوس لكبر شأنها صيغت لها قوالب من عالم الحس حتى يتصور في القلوب ويستقر في النفوس. ثم إن المعاني في الدار الآخرة تتكشف للناظرين انكشاف الصور في هذه الدار الفانية. هذا، وما أحببنا أن نؤثر الإقدام على سبيل لا معلم بها لأحد، فاكتفينا بالمرور عن الإلمام. (ومن الحسان) [4208] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ثوبان رضي الله عنه: (ما بين عدن إلى عمان البلقاء). وفي حديث أنس: (كما بين أيلة وصنعاء من اليمن). وفي حديث ابن عمر: (كما بين جرباء وأذرح). وفي حديث حارثة بن وهب: (كما بين صنعاء والمدينة). وفي حديث عبد الله بن عمرو: (مسيرة شهر). فإن قيل: إن بين هذه المقادير من التفاوت ما لا يخفى على ذوي المعرفة بها. قلنا: إنما أخبر نبي الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك على طريق التقريب لا على طريق التحديد، والذي [اقتضى ذلك تلك الأماكن] مع التفاوت الذي فيها هو اختلاف أحوال السامعين في الإحاطة بها علماً، فبين مقدار مسافة كل قطر من أقطار الحوض تارة بما يقطعها المسافر في الشهر، وتارة بالأماكن المختلفة المشهورة عند الناس لتقع المعرفة به عند كل أحد على حسب ما عنده من المعرفة ببعد ما بين الموضعين. ولو أورده مورد

التحديد لافتقر أن يأتي في بيانه بذكر موضع لا معلم به لأحد، فلم يكد يتحقق [188/ب] عند السامع مقداره. فإن قيل: أو لم يكف في بيانه على وجه التحديد بما أتى به من ذكر مسيرة شهر؟ قلنا: وذلك أيضاً من باب التقريب؛ لاختلاف أحوال الناس في السير؛ فإن منهم من يقطع في الشهر من المسافة ما لا يقطع غيره في الشهرين، وأقصى ما يقدر فيه الغالب، وذلك أيضاً من باب التقريب. وفيه: (نعم لكم سيماء). سيماء: أي علامة. وفي معناه سيميا. وفيه: (يغث فيه). أي: يدفق دفقاً متتابعاً دائماً. والأصل فيه أن تتبع القول القول والشرب الشرب. (ومن الحسان) [4208] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ثوبان- رضي الله عنه-: (ولا يفتح لهم السدد) السدد: الأبواب. ومنه حديث أم سلمة- رضي الله عنها- أنها قالت لعائشة:- رضي الله عنها-: (إنك سدة بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته). أي: باب، فمتى أصيب ذلك الباب بشيء انتهل الخلل منه إلى حريمه.

[4213] ومنه حديث ابن مسعود- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -[قيل له]: ما المقام المحمود؟ قال: ذلك يوم ينزل الله ...) الحديث. فإن قيل: كيف وجه المطابقة بين السؤال والجواب، فإنه سئل عن المقام المحمود وأخبر هو عن اليوم الذي يبلغ فيه ذلك المقام؟. قلنا: قدم بيان الوقت الذي يوجد فيه والأجل الذي ضرب لكينونته مقترناً بذكر ما يشير إلى شدة ذلك اليوم؛ ليكون أعظم في النفوس موقعاً، ثم أتى بالجواب، في قوله: (ثم أقوم على يمين الله ...) الحديث. وقوله: (ذلك يوم) فإن كانت الرواية وردت فيه بالنصب على الظرف فالمعنى بين، ولا أحققها وبالرفع والتنوين هي التي نعرفها. وفي الكلام حذف: والتقدير: ذلك اليوم الذي ابلغ فيه المقام المحمود يوم، أو نحو ذلك. وقوله: (ينزل الله على كرسيه)، من المعضلات التي وجد الأولون في الهرب من تأويلها لشذوذ ألفاظها

عن مسلك التقرير، وعسر التئامها في منهج التأويل ومن انتهى به الأمر إلى ذلك فالسلامة في التسليم مع نفي التشبيه. ومن ذهب فيه إلى معنى التجلي له بنعت العظمة والإقبال عليه بوصف الكبرياء في اليوم الموعود حتى يتضايق عن احتمال ما قد غشيه من ذلك، فلم يبعد عن الحق؛ لما في كشف الحجاب من معنى النزل عن معارج الجلال إلى معالم الجمال. وفي قوله: (وهو يسعه [192/أ] ما بين السماء والأرض]، تنبيه على أن الكرسي ليس بمنهبط من مستقره الذي هو عليه؛ لأنه إذا وسعه السموات والأرض لم تكن السموات والأرض لتسعه. هذا وقد أخبرنا الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - أن الكرسي فوق السموات، ولا جائز أن نقول: إن الكرسي ينزل إلى السموات للمانع الذي ذكرناه، بل نقول: إن الكرسي إذا طويت السموات انكشفت للناظرين، وذلك بروزه لفصل القضاء. وإذا كان الكرسي ممتنعاً بوصفه الذي هو عليه عن النزول إلى العالم الذي هو تحته ودونه، وصار الكرسي محتوياً عليه ومحيطاً به، مع أنه من جملة الأجسام التي يجوز عليها التحول والانتقال، فما ظنك بمن لا يستولى عليه صفات الأجسام، ولا تجرى عليه أحكام الحدثان، تعالى وتقدس عما يقول الظالمون علواً كبيراً. والمراد عن القيام على اليمين قيامه مقام الكرامة وقد ذكرناه فيما مر. وفيه: (بريطتين). الريطة: الملاءة إذا كانت قطعة واحدة، ولم تكن لفقتين. [4218] ومنه قول عمر- رضي الله عنه- في حديث أنس- رضي الله عنه: (إن شاء أن يدخل خلقه بكف واحدة فعل).

قلت: إنما ضرب المثل بالحثيات؛ لأن من شأن المعطي إذا استزيد أن يحثى بكفيه من غير حساب، وربما ناوله ملء كف، وإنما لم يجب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر بمثل كلام عمر- رضي الله عنهما- لأنه وجد للتارات في ذلك مدخلاً فإن الله ينجي خلقه من عذابه بشفاعة الشافعين الفوج بعد الفوج، والقبيل بعد القبيل، ثم يخلص من قصر عنه شفاعة الشافعين بفضله ورحمته، وهو الذين سلم لهم الإيمان، ولم يعملوا خيراً قط، على ما مر في الحديث. [4221] ومنه حديث ابن مسعود- رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يرد الناس النار ثم يصدرون منها بأعمالهم ...) الحديث. الورود: أصله قصد الماء، ثم يستعمل في غيره، والمراد منه هاهنا الجواز على جسر جهنم، وقد بينه بما بعده، (وأولهم كلمح البرق) إلى تمام الحديث. وإنما سماه وروداً؛ لأن المارة على الصراط يشاهدون النار ويحضرونها. تقول: وردت ماء كذا، إذا حضرته وإن لم تشرع فيه، وعلى هذا الوجه يأول قوله- سبحانه-: {وإن منكم إلا واردها} لا معدل عنه لما شهد له الحديث بالصحة.

باب صفة الجنة

ومعنى قوله: (يصدرون منها)، أي: ينصرفون عنها، فإن الصدر إذا عدى بعن اقتضى الانصراف، وهذا على الاتساع، ومعناه النجاة منها بأعمالهم؛ إذ ليس هناك انصراف، وإنما هو المرور عليها، فوضع الصدر موضع النجاة للمناسبة التي بين الصدر والورود. ومن باب صفة الجنة (من الصحاح) [4223] حديث أنس- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (موضوع سوط في الجنة ...) الحديث. قلت: إنما خص السوط بالذكر؛ لأن من شأن الراكب إذا أراد النزول في منزل أن يلقى سوطه قبل أن ينزل معلماً بذلك المكان الذي يريده لئلا يسبقه إليه أحد. [4224] وفي معناه قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي يتوله من رواية أبي سعيد [192/ب] الخدري- رضي الله عنه- (ولقاب قوس أحكم) والقاب ما بين المقبض والسية، ولكل قوس قابان، والراجل يبادر إلى تعيين المكان بوضع قوسه، كما أن الراكب يبادر إليه برمي سوطه. [4225] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي موسى الأشعري- رضي الله عنه: (وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء). يريد بذلك أن العبد المؤمن إذا تبوأ مقعده من الجنة تبوأ والحجب مرتفعة والموانع التي تحجزهم عن النظر إلى ربهم مضمحلة إلى ما يصدهم عن هيبة الجلال وسبحات الجمال وأبهة الكبرياء، فلا يرتفع ذلك منهم إلا برأفة ورحمة منه تفضلاً على عباده. وقد بينا في أول الكتاب تصور المعنى في رداء الكبرياء.

وفيه: (في جنة عدن)، أي: استقرار وثبات. يقال: عدن بمكان كذا، أي: استقر، ومن المعدن لمستقر الجواهر. [4226] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبادة بن الصامت- رضي الله عنه: (ومنها تفجر أنهار الجنة الأربعة) يريد بها أصول الأنهار المذكورة في كتاب الله {فيها أنهار من ماء غير آسن ..} الآية. [4230] ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من يدخل الجنة ينعم، لا يبأس)، يريد: أن نعيم الجنة لا يشوبها بؤس ولا يتعقبها شدة فتكدرها يقال: بئس يبأس بؤساً وبئيساً: إذا اشتدت حاجته فهو بائس، وقد سبق بيانه فيما مر.

[4232] ومنه حديث أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه-[عن النبي - صلى الله عليه وسلم -]: (إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق ...) الحديث. الدري بضم الدال من غير همز منسوب إلى الدر لصفاء لونه وخلوصة نوره وقد قرئ في كتاب الله بالهمز مع ضم الدال، وهو لين ينكره أهل اللغة. والمعتد به كوكب دري بضم الدال من غير همز، وبكسر الدال مع الهمز. قيل: ودرؤه: طلوعه، وذلك أنه يطلع عليك من مطلعه فجأة، فيقال: درأ علينا فلان وطرأ: إذا طلع فجأة. وزعم الفراء أنه من درأ بمعنى دفع، كأنه رجم به الشيطان فدفعه، والأول أسد وأصح. (والغابر): قد اختلف فيه الرواة، فمنهم من رواه بالهمز بعد الألف من الغور يريدون انحطاطه في الجانب الغربي ومنهم من رواه بالياء من الغبور، والمراد منه الباقي في الأفق بعد انتشار ضوء الفجر، فإنما يستنير في ذلك الوقت الكوكب المضيء. ولا أشك أن الرواية الأولى نشأت من تصحيف صحفي لم يعنه النظر؛ لبلادته على ما يشهد عليه سياق الحديث، وذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من المشرق أو المغرب)، وفي رواية أخرى (في الأفق الشرقي أو الغربي) وغور الكواكب في الجانب الشرقي مما لا يتصور. وفي كتاب المصابيح: (من المشرق والمغرب) والصواب: (من المشرق أو المغرب). وكذلك [193/أ] رواه مسلم في كتابه. [4233] ومنه حديثه الآخر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير). يريد بذلك ما جبلوا عليه من لين الأفئدة ورقتها.

[4236] ومنه حديثه الآخر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة). سيحان: نهر بالشام، وكذلك جيحان، والأول من السيح، والثاني من جحن والنون فيه أصلية، وساحين نهر بالبصرة، وسيحون نهر بالهند، وجيحون نهر بلخ. وأرى في الحديث وجهين: أحدهما: أن نقول: إنما جعل الأنهار الأربعة من أنهار الجنة لما فيها من السلاسة والعذوبة والهضم وتضمنها البركة الإلهية وتشرفها بورود الأنبياء إليها وشربهم عنها، وذلك مثل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في عجوة المدينة: (إنها من ثمار الجنة) وقد ذكرنا الوجه فيه. والآخر: أن نقول: يحتمل أنه سمى الأنهار التي هي أصول أنهار الجنة بتلك الأسامي ليعلم أنها في الجنة بمثابة الأنهار الأربعة في الدنيا، أو لأنها مسميات بتلك التسميات فوقع الاشتراك فيها. (ومن الحسان) [4238] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه: (ينعم، لا يبأس). قد ذكرنا تفسيره، وقد وجدناه في المصابيح، وفي بعض كتب الحديث: (يبؤس) بالهمزة المضمومة لدلالة الواو على الضم، وبأس الأمر يبؤس إذا اشتد، وبأس يبأس إذا افتقر، والغلط إنما وقع في رسم الخط، والصواب: لا يبأس.

[4242] ومنه حديث أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: {وفرش مرفوعة} قال: (ارتفاعها لكما بين السماء والأرض). ذكر بعض أهل العلم من أصحاب المعاني في تأويله أن المراد منه ارتفاع الفرش المرفوعة في الدرجات، وما بين كل درجتين من الدرجات لكما بين السماء والأرض. وهذا القول أوثق وأعرق من قول من قال: إنها نضدت حتى ارتفعت، ومن قول من قال: مرفوعة على الأسرة، ومن قول من قال: إنها كناية عن النساء، وذلك لما في الحديث: (إن الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض).

[4250] ومنه حديث بريدة الأسلمي- رضي الله عنه- أن رجلاً قال: يا رسول الله هل في الجنة من خيل؟ قال: (إن الله أدخلك الجنة ...) الحديث. تقدير الكلام إن أدخلك الله الجنة، وفي الكلام حذف واختصار، والتقدير: فلا تشاء أن تحمل على فرس من نعته كذا وكذا إلا حملت عليه. وقد دل على صحة ما ذهبنا إليه ما في الرواية الأخرى: (إن أدخلت الجنة أتيت بفرس ...) الحديث.

[4252] ومنه حديث عبد الله بن عمر- رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (باب أمتي الذي يدخلون من الجنة عرضه مسيرة الراكب المجود ...) الحديث. ألحق بالكتاب: ضعيف منكر، وإنما قلنا: ألحق؛ لأن المؤلف تبرأ في أول الكتاب عن إيراد المناكير. وقد روى الترمذي هذا الحديث في كتابه ثم قال: هذا حديث غريب، وسألت محمداً عن هذا الحديث- يعني البخاري- فلم يعرفهن وقال: لخالد بن أبي بكر مناكير [193/ب] عن سالم بن عبد الله عن أبيه. قلت: ومدار هذا الحديث على خالد هذا. ومما يدل على وهنه مخالفته للأحاديث التي وردت في بعد ما بين المصراعين، ومنها الحديث المتفق على صحته عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (والذي نفسي بيده، إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر). قلت: وهجر مدينة باليمن، وهي قاعدة البحرين، وبينها وبين البحرين عشر مراحل، وأين مسيرة الراكب ثلاثاً عن هذه المسافة. [4253] ومنه حديث علي- رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن في الجنة لسوقاً ما فيها شراء ولا بيع إلا الصور ..) الحديث. يحتمل أنه أراد بالصورة الهيئة التي يكون عليها المؤمن من تاج ولباس وزينة، ويكون المراد منه عرض الصور المستحسنة عليهن فإذا اشتهى وتمنى أن تكون صورته على تلك الصيغة هيأ الله له ذلك بالقدرة الأزلية، فيصير منطبعاً عليها. وليس المعنى أنه يفارق جثته فيدخل في جثة أخرى، فإن تبديل الأجزاء من الشخص بأجزاء أخر لم يحشر عليها غير سائغ في حكمة الله ثم إنه مخالف للتوقيف، والوجه الأول أشبه لما في حديث أبي هريرة في صفة السوق: (فيروعه ما يرى عليه من اللباس، فما ينقضي آخر حديثه حتى يتخيل عليه ما هو أحسن منه)، وهذا يؤيد ما ذهبنا إليه من تأويل الصورة بالهيئة التي يكون عليها.

[4254] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-: (ولا يبقى في ذلك المجلس رجل إلا حاضره الله محاضرة). الكلمتان بالحاء المهملة، والضاد المعجمة، والمراد من ذلك كشف الحجاب والمقاولة مع العبد من غير حجاب ولا ترجمان ويبينه الحديث: (ما منكم من أحد إلا ويكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان ...) الحديث وقد صحف فيهما بعض الرواة فرواهما بالخاء المعجمة والصاد المهملة، وقد أحال، ولو ساعده التوفيق لم يدحض حيث لا مدحض فيه. [4255] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي سعيد: (كما بين الجابية: إلى صنعاء) الجابية مدينة بالشام.

باب رؤية الله سبحانه

[4256] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث علي- رضي الله عنه: (ونحن الناعمان فلا نبأس) كتب في الكتاب بالواو، وليس بسديد على ما ذكرنا. ومن باب رؤية الله سبحانه (من الصحاح) [4259] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث جرير- رضي الله عنه-: (فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا) فيه تنبيه على أن أهل تلك الفضيلة هم الذين لا يغلبون على صلاتي الصبح والعصر. وإنما خص هاتين الصلاتين بالحث دون سائرها لما في الصبح من ركون النفس إلى

باب صفة النار وأهلها

الاستراحة وتثبطها عن القيام عما هي فيه من لذة الكرى، ولما في العصر من الشغل بالمعاملات فإنه وقت قيام الأسواق في البلدان، فإذا لم تلحقه فترة في هذين الوقتين- مع شدة الداعية وقيام المانع، فبالأحرى أن لا تلحقه في غيرهما من الأوقات. [194/أ]. ومن باب صفة النار وأهلها (من الصحاح) [4264] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه: (فأذن لها بنفسين ...) الحديث. قد مر بيانه في كتاب الصلاة.

=====

(ومن الحسان) [4274] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة أيضاً: (وفخذه مثل البيضاء) في بلاد العرب مواضع تسمى البيضاء، وقد ذكر الترمذي في كتابه بعد رواية هذا الحديث أن البيضاء جبل. قلت: مما يحقق قوله أنه وجد في غير هذا الحديث مقروناً في الذكر بورقان وأحد، وهما من جبال المدينة. وفي حديث أبي ذر- رضي الله عنه- (أنه خرج في لقاح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت ترعى البيضاء فأجدب ما هنالك، فقربوها إلى الغابة) وذكر بعضهم أنها موضع لحمى الربذة. وفيها يقول القائل: لقد مات بالبيضاء من جانب الحمى وفيه: (مثل الربذة). الربذة على ثلاث مراحل من المدينة قريب من ذات عرق.

[4282] ومنه حديث أبي سعيد- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لو أن دلوا من غساق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا). وجدت في كتاب جمع من حفاظ الحديث (أهل الدنيا) مقيداً لامه بالنصب، وليس ذلك بصواب، فإن أنتن لازم، يقال: نتن الشيء إذا تغير، وإنما الصواب (أهل) بالرفع، ولو كان الفعل متعدياً كان المعنى أتم وأوجه، فيحتمل أن الأصل فيه كانت لنتن بالتشديد، فلم يعرف بعض الرواة الفرق بين الكلمتين، فرواه أنتن.

[4288] ومنه حديث أبي موسى الأشعري- رضي الله عنه_ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن في جهنم وادياً يقال له: هبهب ...) الحديث. يحتمل أنه سمي بذلك لسرعة وقوعه في المجرمين، فإن الهبهب السريع، أو لشدة أجيج النار فيه فغن الهبهاب الصياح أو للمعانه عند الاضطرام والالتهاب من قولهم: هبهب السراب: إذا ترقرق. [4289] ومنه حديث عبد الله بن عمرو- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لو أن رصاص مثل هذه ..) الحديث. قلت: في سائر نسخ المصابيح: (رضراضة) مكان رصاصة، وهو غلط لم يوجد في غير كتاب المصابيح، وهذا الحديث من جملة أحاديث كتاب الترمذي، ومن كتابه نقله المؤلف، ولعل الغلط وقع من

باب خلق الجنة والنار

غيره، وأراد بالرصاصة القطعة من الرصاص، وأشار إلى مثل الجمجمة تبيناً لحجمها وتنبيهاً على تدور شكلها بين مدى قعر جهنم بأبلغ ما يمكن من البيان، وذلك أنه ضرب المثل بالرصاص الذي هو من الجواهر الرزينة، والجوهر كلما كان أتم رزانة كان أسرع هبوطاً إلى مستقره، لاسيما إذا انضم إلى رزانته كبر جرمه ثم قدره على الشكل الكروي فإنه أقوى انحداراً، وأبلغ مروراً في الجو. ومن باب خلق الجنة والنار (من الصحاح) [4291] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-: (حتى يضع الله رجله يقول: قط قط). قد أشرنا غير مرة إلى [194/ب] سبيل الفئة المتنزهة عن الإقدام على تأويل أمثال هذه الأحاديث مع براءتهم عن الشبه التي لا تسلم معها العقائد، ومع بيان صحة مقاصدهم في ذلك، فأما أهل العلم بوجوه كلام العرب السالكون منهم مسلك التأويل فإنهم يقولوا كل شيء قدمته فهو قدم كما يقال لكل شيء قبضته قبض. ومنه قوله تعالى: {وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم} أي: ما قدموه من الأعمال الصالحات، فيحتمل أن يكون المراد من القدم من قدمهم الله تعالى للنار من أهلها، فتمتلئ منهم جهنم مستوفاة بهم عدة أهلها، ويؤول الرجل على نحو من ذلك، وقالوا: أراد به استيفاء عدد استوجبوا دخول النار. قالوا: والرجل وإن كان اسما خاصاً لجماعة الجراد، فإن استعمالها في جماعة الناس على طريق الاستعارة غير خارج عن مذاهب العرب في القول المستعار.

باب بدء الخلق

قلت: وأرى في الرجل احتمالاً أقوى مما ذكروا، وهو أن يكون الراوي روى الحديث بالمعنى، وظن أن الرجل يسد مسد القدم. ومما يؤيد ذلك أن البخاري روى هذا الحديث في كتابه بإسناده عن أبي هريرة من طريقين، وفي أحدهما: (فيضع الرب قدمه عليها) وفي الآخر: (حتى يضع رجله) ورواه أيضاً بإسناده عن أنس، وفي رواية: (حتى يضع رجله) أو قال: (قدمه). قلت: ويحتمل أن يكون وضع القدم والرجل من باب المجاز والاتساع، ولم يرد بهما أعيانهما، بل أراد بذلك ما يدفع شرتها ويسكن سورتها ويقطع مسألتها، ويدل عليه قوله: (فيضع الرب قدمه عليها) ولم يقل: (فيها) وفي حديث أنس لم يذكر ظرفاً، ثم إنه أتى بهما من غير إضافة إلى الله سبحانه. وقوله: (قط قط)، أي: كفى كفى، وقط، إذا كانت بمعنى حسب، فهي مفتوحة القاف ساكنة الطاء، وإذا أضيفت قلت: قطك هذا الشيء وقطني، وقطي، وقط، والذي يعتمد عليه من الرواية في هذا الحديث بسكون الطاء، ويحتمل الكسر، أي: حسبي حسبي، وفي سائر نسخ المصابيح انتهي بها إلى ثلاث، وهي إحدى الروايات في كتاب مسلم، وفيما سوى ذلك منه، وفي سائر طرقها من كتاب البخاري لم يتعد بها عن الثنتين، والله أعلم. ومن باب بدء الخلق (من الصحاح) [4294] قوله في حديث عمران بن حصين- رضي الله عنه: (كان الله ولم يكن قبله شيء وكان

عرشه على الماء، ثم خلق السموات والأرض) كان الله ولم يكن قبله شيء: فصل مستقل بنفسه لا بالفصل الثاني، وهو قوله: (وكان عرشه على الماء) لما بين الفصلين من المنافاة فإنك إذا جعلت: (وكان عرشه على الماء) من تمام القول الأول، فقد ناقضت الأول بالثاني: لأن القديم من لم يسبقه شيء، ولم يعارضه في الأولية، وقد أشار بقوله: (وكان عرشه على الماء)، إلى أنهما كانا مبدأ التكوين، وأنهما كانا مخلوقين قبل السموات والأرض، ولم يكن تحت العرش قبل السموات والأرض إلا الماء، وكيفما كان، فالله سبحانه خالق ذلك كله وممسكه بقوته وقدرته. وقوله: (وكتب في الذكر) أي: أثبت جميع ما هو كائن في اللوح المحفوظ. [4296] ومنه حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله كتب كتاباً ..) الحديث. يحتمل أن يكون المراد بالكتاب اللوح المحفوظ، ويكون معنى قوله: (فهو عنده) أي فعلم ذلك عنده. ويحتمل أن يكون المراد منه القضاء الذي قضاه. وعلى الوجهين، فإن قوله: (فهو عنده فوق العرش) تنبيه على كينونته مكنوناً عن سائر الخلائق، مرفوعاً عن حيز الإدراك، ولا تعلق لهذا القول بما يقع في النفوس من التصورات- تعالى الله عن صفات الحدثان، فإنه هو البائن عن جميع خلقه، المتسلط على كل شيء بقهره وقدرته. قلت: وفي سبق الرحمة بيان أن قسط الخلق منها أكثر من قسطهم من الغضب، وأنها تنالهم من غير استحقاق، وأن الغضب لا ينالهم إلا باستحقاق، ألا يرى أنها تشمل الإنسان جنيناً ورضيعاً وفطيماً وناشئاً، من غير أن صدر منه طاعة استوجب بها ذلك، ولا يلحقه الغضب إلا بما يصدر عنه من المخالفات {ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم} فله الحمد على ما ساق إلينا من النعم قبل استحقاقها.

[4298] ومنه حديث أنس رضي الله عنه: (لما صور الله آدم في الجنة .. الحديث) أرى هذا الحديث مشكلاً جداً، فقد ثبت بالكتاب والسنة أن آدم خلق من أجزاء الأرض، فإن قيل: يحتمل أن طينته خمرت في الأرض، ثم حملت إلى الجنة، فصور فيها. قلنا: قد اشتهر في أخبار الأولين والآخرين أنه خلق من طين، ثم تركه حتى صار صلصالاً كالفخار، وأنه كان ملقى ببطن نعمان، وهو من أودية عرفات. وفي حديث فضل يوم الجمعة: (فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها) وهو حديث صحيح، وقد دل على أنه أدخل الجنة وهو بشر حي، ويؤيده المفهوم من نص الكتاب: {وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة} ولو أخذنا بظاهر هذا الحديث لزم منه أنه خلق في الجنة، ثم أخرج منها، ثم أعيد إليها، ثم أخرج منها، وهذا قول يخالف نصوصاً كثيرة، فلا أرى الوجه فيه إلا احتمال أن يكون الكلمتان، أعني في الجنة، سهواً من بعض الرواه، أخطأ سمعه فيه، ولأن نقدر هذا التقدير أبر وأتقى من إحالة القول المتضاد على من عصمه الله من الخطأ فيما يخبر عنه - صلى الله عليه وسلم - أبد الآبدين ودهر الداهرين. [4299] ومنه حديثه الآخر- رضي الله عنه- (جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (يا خير البرية .. الحديث) قلت: لا يلزم من هذا أن يكون أحد من ولد آدم خيراً منه، لاحتمال أن يكون قوله هذا على سبيل التواضع وهضم النفس، ولاحتمال أن إبراهيم- عليه السلام- كان يدعى بهذا النعت، أو خوطب به عن الله، اعتباراً بزمانه، فغن البرية على الحقيقة تطلق على من برأه الله قبل إبراهيم، أو في زمانه، أو على من لم يخلق بعد، ولابد لنا من القول بأحد الوجهين؛ لئلا يخالف النصوص الصحيحة [195/ب) التي وردت في فضل سيد المرسلين على سائر الأولين والآخرين - صلى الله عليه وسلم - أولاً وآخراً. [4300] ومنه حديثه الآخر: (اختتن إبراهيم النبي عليه السلام .. الحديث) القدوم- بتخفيف الدال- موضع بالشام، ومن المحدثين من يشدد، وهو خطأ، ومن الناس من يظن أنه اختتن بالقدوم الذي ينحت به، وهو غلط. وبالمدينة جبل يقال له: قدوم، ومنه الحديث: (بطرف القدوم) وأكبر ظني أن هذا بالتشديد. [4301] ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه: (لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات .. الحديث).

قلت: إنما سماها كذبات وإن كانت من جملة المعاريض-لعلو شأنهم عن الكناية بالحق، فيقع ذلك موقع الكذب عن غيرهم، وكذلك حكاه عن إبراهيم عليه السلام فيما يقوله يوم يسأل الشفاعة: فيقول: إني قد كذبت ثلاث كذبات (نفسي نفسي) وقوله: (في ذات الله) أي: فيما يختص به ولم يكن لإبراهيم نفسه فيه أرب، وقد ذكرنا معنى الذات فيما تقدم من الكتاب. وفيه: (إن علم أنك امرأتي يغلبني عليك) وجه هذا القول- والله أعلم- أن ذلك الجبار كان من أمره الذي يتدين به في أحكام السياسة، أن لا يتعرض إلا لذوات الأزواج، يرى أنها إذا اختارت الزوج، فليس لها أن تمتنع من السلطان، بل يكون هو أحق بها من زوجها، فأما اللاتي لا أزواج لهن، فلا سبيل عليهم إلا إذا رضين. هذا هو الوجه الذي يقتضيه لفظ الحديث. وفيه: (فغط حتى ركض برجله) الغط: الضغط الشديد وهو هاهنا بمعنى الخنق، أي: أخذ بمجاري نفسه، حتى سمع له غطيط. وفيه: (إنما أتيتني بشيطان) أراد به المتمرد من الجن، وكانوا يهابون الجن ويعظمون أمرهم. وفيه: (فأما بيده: مهيم) جعل لفظة مهيم مفسرة للإيماء، وليست بترجمة لقوله، فإن قيل: أولم يكن الكلام في الصلاة مباحاً في أول الإسلام، فما ينكر أن يكون في ملة إبراهيم على ما كان عليه من أول الإسلام؟ قلنا: لم نذهب إلى ما ذهبنا إليه اتكالاً على تحريم الكلام، فإنه شيء لم نطلع على حقيقة الأمر فيه، وإنما ذهبنا بمكن الإيماء باليد، ثم إنها لو كانت مفسرة لقوله، لكان من حقه أن يقال: فأومأ بيده، وقال: مهيم. فإن قيل: فلم لا يجوز أن يكون في الكلام حذف؟ قلنا: لا ضرورة [196/أ] بنا إلى هذا التقدير، وليس بنا حاجة بأن ندع ظاهر الكلام ونقدر ما ليس لنا به علم، و (مهيم) كلمة يمانية يستعملونها في الاستفهام، ومعناها: مالك، وما شأنك. وفيه: (فتلك أمكم يا بني ماء السماء)، قال الخطابي: أراد بها العرب، لأنهم يبتغون مواقع القطر، ويتعيشون منها.

قلت: ولا اختصاص للعرب بهذا، فإن جميع أصحاب الأموال يبتغون مواقع القطر، وغير العرب أحق بهذا النبز من العرب، إذ لا يوجد في سائرهم أقل ماء من العرب، ولا أصبر على فقدانه منهم. وأرى أنه خاطب بهذا القول الأنصار، فإن ماء السماء لقب عامر بن حارثة الأزدي، وهو أبو عمرو مزيقياء، وهو الذي خرج من اليمن لما أخبر بسيل العرم، وسمي ماء السماء، لأنه كان إذا أجدب قومه مائهم حتى يأتيهم الخصب، فقالوا: هو ماء السماء. وقيل لولده: بنو ماء السماء، ومن ولده الأنصار وملوك الشام. ومن قيل بعض الأنصار: أنا ابن مزيقيا عمرو، وجدي .... أبوه عامر ماء السماء ويقال لملوك العراق أيضاً: بنو ماء السماء، نسبوا إلى أمهم أم المنذر بن امرئ القيس اللحمي، وهي: بنت عوف بن جشم، سميت بذلك لجمالها، وهذا مما لا مدخل له فيما نحن فيه، وإنما ذكرناه دفعاً للالتباس. [4304] ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-: (نحن أحق من إبراهيم إذ قال: رب أرني كيف تحيي الموتى) أي: نحن أحق بهذا السؤال منه، أراد بذلك تفخيم أمره، وأن ذلك منه لم يكن لنقصان في يقينه، ونحن أحق بطلب تلك المنزلة لحصول الاطمئنان. ورواه بعضهم: (نحن أحق بالشك من إبراهيم) يريد أن هذا السؤال منه لم يكن لشك، ونحن أحق بالشك منه، ولسنا نشك فيه، فكيف يجوز أن يشك هو فيه؟ والقصد في نفي الشك عن إبراهيم، لا إثبات الشك لنفسه أو لمن اتبعه. وأصح الطرق ما لم يذكر فيه الشك، وإنما حذفه واقتصر الكلام كراهة أن يجعل لنفسه مثل السوء، وكان من دأبه الكريم أن يعدل عن مثل هذه الألفاظ ويحتشم عنها. وفيه: (يرحم الله لوطاً، فإنه كان يأوى إلى ركن شديد) كأنه استغرب منه هذا القول، وعده بادرة منه، إذ لا ركن أشد من الركن الذي كان يأوي إليه.

وأما قوله في يوسف- عليه السلام- فإنه منبئ عن إحماده صبر [196/ب] يوسف، وتركه الاستعجال بالخروج من السجن مع امتداد مدة الحبس عليه، وأراه محتملاً لوجه آخر، هو: أنه رأى الكمال في الاسترسال مع الله على ما يأتي به عبده، ويوسف- عليه السلام- إنما لبث في السجن بضع سنين، لأنه ابتغى الفرج عما هو فيه باللجؤ إلى العبيد، وكان الأولى بحاله أن لا يشكون ضره إلا إلى مولاه، ولا يتلقى الفرج قبل مجيئه، بل ينتظره بالصبر، ولا يعارض ما تيسر من الغيب بأمر من عنده، فأشار إلى أنه لو كان هو مكانه لتلقى الدعوة من الغيب الإجابة، وهذا تأويل سلكت فيه مسلك علمائنا من الصوفية قدس الله أرواحهم- ثم إن في ضمن هذا الحديث تنبيه على أن الأنبياء- عليهم السلام- وأن كانوا من الله بمكان لا ينازلهم فيه أحد، فإنهم بشر، يطرأ عليهم من الأحوال ما يطرأ على البشر، فلا تعدوا ذلك منقصة، ولا تحسبوه مسبة. [4306] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-: (إن بالحجر لندباً) أي: أثراً، وهو بالتحريك، والأصل فيه أثر الجرح، إذ لم يرتفع عن الجلد. والندب أيضاً: الخطر. [4307] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديثه أيضاً: (لا تخيروني على موسى) أي: لا تفضلوني عليه. قول قاله على سبيل التواضع أولاً، ثم ليردع الأمة عن التخيير بين أنبياء الله من تلقاء أنفسهم ثانياً، فإن ذلك يفضي بهم إلى العصبية، فينتهز الشيطان منهم عند ذلك فرصة، فيدعوهم إلى الإفراط والتفريط، فيطرون الفاضل فوق حقه، ويبخسون المفضول حقه، فيقعون في مهواة الغي، ولهذا قال: (لا تخيروا بين الأنبياء)

أي: لا تقدموا على ذلك بأهوائكم وآرائكم بل بما أتاكم من الله من البيان، وعلى هذا النحو قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ولا أقول: إن أحداً خير من يونس بن متى) أي: لا أقوله من تلقاء نفسي ولا أفضل أحداً عليه، من حيث النبوة والرسالة، فإن شأنهما لا يختلف باختلاف الأشخاص، بل نقول: كل من أكرم بالنبوة، فإنهم سواء فيما جاءوا به عن الله، وإن اختلفت مراتبهم، وكذلك من أكرم بالرسالة، وإليه وقعت الإشارة بقوله سبحانه {لا نفرق بين أحد من رسله} وإنما خص يونس بالذكر من بين الرسل؛ لما قص الله عليه في كتابه من أمر يونس وتوليه عن قومه، وضجرته عند تثبطهم في الإجابة، وقلة الاحتمال عنهم والاحتفال بهم، حين راموا التنصل، فقال -عز من قائل: {ولا تكن كصاحب الحوت} وقال: {وهو مليم} فلم يأمن - صلى الله عليه وسلم - أن يخامر بواطن الضعفاء من أمته ما يعود إلى نقيصة [196/أ] في حقه، فنبأهم أن ذلك ليس بقادح فيما آتاه الله من فضله، وأنه مع ما كان من شأنه كسائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين. هذا قول جامع في بيان ما ورد في هذا الباب، فافهم ترشد إلى الأقوم. وأما ما ذكره في هذا الحديث من الصعقة، فهي بعد البعث، عند نفخة الفزع، فأما في البعث، فلا تقدم لأحد فيه على نبينا - صلى الله عليه وسلم - واختصاص موسى عليه السلام- بهذه الفضيلة لا يوجب له تفضيلاً على من تقدمه بسوابق جمة، وفضائل كثيرة، والله المسئول أن يعرفنا حقوقهم، ويحيينا على محبتهم، ويميتنا على سنتهم، ويحشرنا على ما كانوا عليه. [4310] ومنه حديثه الآخر عنه - صلى الله عليه وسلم -: (إنما سمي الخضر؛ لأنه جلس على فروة بيضاء .. الحديث) أراد به الهشيم اليابس، شبهة بالفروة، وقوله: (خضراء) على زنة: حمراء ومنهم من رواه (خضراً) بالتنوين، أي: نباتاً أخضر ناعماً.

وحديثه الآخر الذي يتلو هذا الحديث قد مر بيانه. وفيه: (فما توارت يدك) وصوابه (فما وارت يدك) وهذا غلط وقع عن بعض الرواة في كتاب مسلم. وفي كتاب البخاري: (فله بما غطت يده بكل شعرة سنة). [4313] ومنه حديث جابر- رضي الله عنه-: (عرض على الأنبياء، فإذا موسى ضر من الرجال) يريد: أنه كوشف بما كانوا عليه من الصور والأشخاص، فوجد المذكورين منهم في هذا الحديث على ما نعتهم. و (الضرب): الرجل الخفيف اللحم. قال طرفة: أنا الرجل الضرب الذي تعرفونه .... خشاش كرأس الحية المتوقد و (الشنوءة): التباعد من الأدناس. ومنه (أزد شنوءة) وهم حي من اليمن. قال ابن السكيت: وربما قالوا: شنوة- بالتشديد من غير همز. قال الشاعر: نحن قريش، وهو شنوة .... بنا قريشا ختم النبوة

[4314] ومنه حديث ابن عباس- رضي الله عنه-: (رأيت ليلة أسرى بي موسى رجلاً آدم طوالاً) الآدم من الناس: الأسمر والطوال بضم الطاء وتخفيف الواو: الطويل، وعليه الرواية. و (سبط الرأس) أي: شعر الرأس، وهو ضد الجعودة، يقال: شعر سبط وسبط، بكسر الباء وفتحها أي: مسترسل. وفيه: (في آيات أراهن الله) هذا من قول الراوي، وجاء على وجه البيان، فأدرج في الحديث. [4315] ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-: (ليلة أسرى بي لقيت موسى) فنعته، (فإذا رجل مضطرب ..) الحديث. قد جاء ضرب اللحم على ما بينا في حديث جابر، فأما [المضطرب] بمعنى الضرب، فلم نجده ولم نعلم له مساغاً [197/ب] في الباب القياسي؛ لأن الأصل في اضطراب: افتعل؛ أبدلت التاء طاء، ولم يذكر من الضرب الذي هو خفيف اللحم فعل، فيرد منه افتعل، فإن لم يكن ذلك من بعض الرواة- ظناً منه أن المضطرب يسد مسد الضرب؛ فالوجه فيه أن يكون عبارة عن الحدة التي كان قد جبل عليها، فإن من شأن الحاد أن يكون متحركاً قلقاً. وفيه: (ولقيت عيسى ربعة). يقال: رجل ربعة بالتسكين؛ أي: مربوع الخلق لا طويل ولا قصير، وكذلك: امرأة ربعة. وفيه (فأتيت بإناءين ..) الحديث. العالم القدسي يصاغ فيه الصور من العالم الحسي، ليدرك بها المعاني، ولما كان اللبن في العالم الحسي من أول ما يحصل به التربية ويرشح به المولود، صيغ عنه مثال الفطرة التي تتم بها القوة الروحانية، وتنشأ عنها الخاصية الإنسانية. [4316] ومنه حديث ابن عباس- رضي الله عنهما- (رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بوادي الأزرق ...)

الحديث. وادي الأزرق موضع بين الحرمين، ولعله منسوب إلى رجل بعينه كان يحل به، أو سمي بذلك لزرقة مائه أو لغير ذلك. وفيه: (وله جؤار أي تضرع). ومنه قوله سبحانه {فإليه تجارون} أي: تتضرعون. وفيه: (قالوا هرشى أو لفت). هرشى: ثنية في طريق مكة قريبة من الجحفة يرى منها البحر، ويقال لها أيضاً: لفت، وقيل: إنما سميت [198/أ] هرشى لمهارشة كانت بينهم هنالك. ولهرشى طريقان في أيهما أخذ السالك كان مصيباً، وبها يضرب المثل، وفيها يقول الشاعر: خذي أنف هرشى أو قفاها فإنه .... كلا جانبي هرشى لهن طريق وفيه: (حطام ناقته خلبة)، أي: زمامها ليف. [4317] ومنه حديثه الآخر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (خفف على داود القرآن) الحديث. يريد بالقرآن: الزبور، وإنما قال القرآن؛ لأنه قصد به إعجازه من طريق القراءة وقد دل الحديث على أن الله تعالى يطوي الزمان لمن شاء من عباده، كما يطوي المكان لهم، وهذا باب لا سبيل إلى إدراكه إلا بالفيض الرباني.

[4319] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديثه أيضاً: (وأيم الذي نفس محمد بيده لو قال: إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون). الأصل في (أيم الله): (أيمن الله، حذف منه النون، وهو اسم وضع للقسم هكذا بضم الميم والنون، وألفه ألف وصل عند أكثر النحويين، ولم يجيء في الأسماء ألف الوصل مفتوحة غيرها، وتقديره: أيمن الله قسمي وإذ حذف عنه النون قيل: أيم الله، وايم الله بكسر الهمزة أيضاً. و (أجمعون) تأكيد، ومنهم من يرويه: (أجمعين) على الحال، والرواية المعتد بها: (أجمعون) بالرفع. [4321] ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أنا أولى الناس بعيسى بن مريم) الحديث. بين وجه الأولوية بالأخوة التي بين الأنبياء، ثم بقرب زمانه من زمانه، واتصال دعوته بدعوته وجعل ذلك كالنسب الذي هو أقرب الأسباب. وبنو العلات: هم أولاد الرجل من نسوة شتى سميت بذلك؛ لأن الرجل الذي تزوجها على أولى قد كانت قبلها تأهل ثم عل من هذه؛ فلهذا يقال لها: علة. وقوله: (ودينهم واحد) يريد به ما يدعون إليه من التوحيد والطاعة، وليس اختلاف شرائعهم من ذلك في شيء. ثم إن الشرائع- وإن اختلفت بحسب مصالح العباد- فإن أصولها متفقة، ومرجع الكل إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله. (ومن الحسان)

[4324] حديث أبي رزين العقيلي- رضي الله عنه-: قال: (قلتك يا رسول الله، أين كان ربنا قبل أن يخلق السموات والأرض) الحديث. ذهب بعض أهل العلم فيه إلى أن التقدير: أين كان عرش ربنا؟ قال: ويدل عليه قوله: (وخلق عرشه على الماء). و (العماء) ممدوداً: هو السحاب. قال أبو عبيد: ولا ندري كيف كان ذلك العماء. قلت: وقد نقل عن أبي زيد أنه قال: العماء شبه الدخان يركب رءوس الجبال. وعن أبي الهيثم: أنه عمى مقصور، وفسره فقال: هو كل أمر لا يدركه عقول بني آدم، ولا يبلغ كنهه الوصف، ولا يدركه الفطن. فإن قيل: إن الرواية صحت بأنه العماء ممدوداً قلنا: أيا ما كان فلا افتراق بين الروايتين من حيث المعنى، لأن المراد عن الممدود أيضاً ما احتجب الله به عن العقول، وحال دون ما استأثر به من الأمر المكنون فعبر بالعماء عن الحجاب، والله أعلم. [4326] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه: (وإنه ليئط به أطيط الرجل بالراكب) إذا علمنا أن الكيفية عن الله- سبحانه- وعن صفاته منفية، لم يكن لنا أن نحمل أمثال هذا الحديث إلا على تقدير عظمة الله وجلاله.

=====

باب: فضائل سيد المرسلين

والمعنى أن العرش مهما وصف به من المجد والكرم والسعة والعظم ليتضايق عن سعة [198/ب] علمه، ويئط لما يرتكبه من أعباء هيبته وجلاله. ومن باب: فضائل سيد المرسلين (من الصحاح) [4340] حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما من الأنبياء نبي إلا وقد أعطى من الآيات) الحديث. أراد بالآيات: المعجزات الخوارق للعادات، وما أيد به أنبياء الله من أعلام النبوة، يريد أنه ليس منهم إلا من أيد بما مثله وجنسه إذا شوهد دعا الشاهد إلى التصديق بالله، وإنما قال: (آمن عليه البشر) ليضمنه معنى الاطلاع، فكأنه قال: آمن للاطلاع عليه البشر. وفيه: (وإنما كان الذي أوتيت): أي: معظم ما أوتيت من ذلك الباب: القرآن، الذي هو في نفسه دعوة، وفي نظمه معجز، وإنما قلنا: معظم ما أوتيت، لأنه أوتي أيضاً من جنس ما أوتيه غيره، وتلك الخوارق التي أوتيها هو وغيره وإنما كانت تبقى قدر ما يلزم به الحجة على المقترح، ثم إنه إن لم يؤمن بها رجعت عليه الخزي الدائم، فطبع على قلبه، وختم على سمعه وبصره، فلا يؤمن بها، حتى يكشف الغطاء، ولا كذلك القرآن، فإن فيه الدعوة والحجة، لا تنفك أحدهما عن الأخرى حتى يأتي أمر الله، لا يزال يدعو الناس إلى معالم هداه فيجيبه المستبصرون، ولنعم المجيبون؛ فلهذا قال: (أرجو أن أكون أكثرهم

تابعاً). [4341] ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فضلت على الأنبياء بست) الحديث. وفي حديث جابر: (فضلت على الأنبياء بخمس) وليس هذا باختلاف تضاد، وإنما هو اختلاف زمان يقع فيه حديث الخمس متقدماً، وذلك أنه أعطيها فحدث به، ثم زيد له السادسة، فأخبر عن ست.

وفيه: (أعطيت جوامع الكلم) أي: أعطيت قوة إيجاز في اللفظ مع بسط في المعاني فأبين بالكلمات اليسيرة المعاني الكثيرة. [4343] ومنه حديثه الآخر- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله زوي لي الأرض) الحديث. زويت الشيء: جمعته وقبضته، يريد به تقريب البعيد منها حتى اطلع عليه اطلاعه على القريب منها. وفيه: (وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض) يريد به خزائن كسرى وقيصر، وذلك لأن الغالب على نقود ممالك كسرى الدنانير والغالب على نقود ممالك قيصر الدراهم. وفيه: (فيستبيح بيضتهم) بيضة كل شيء حوزته، وبيضة القوم أصلهم وجماعتهم. وقيل: وأصله من بيضة الطائر، لأنها أصله، والبيضة أيضاً العز والملك، وبيضة القوم، ساحتهم. قال لقيط بن معمر الإيادي [199/أ]: يا قوم بيضتكم لا تفضحن بها .... إني أخاف عليها الأزلم الجذعا ومما رواه عبد الله ابن [عمرو]- رضي الله عنه- عن التوراة: (وحرزاً للأميين) الحرز: الموضع الحصين يقال: هذا حرز حريز، يريد، إنا جعلناه موئلاً لأمته الأمية يتحصنون به عن غوائل الشيطان وأفاعي النفوس. فيه: (حتى يقيم به الملة العوجاء). يريد بها ما كان العرب يتدين بها، وتزعم أنها ملة إبراهيم عليه السلام؛ وإنما وصفها بالعوج وسماها ملة على الاتساع، كما يقال للكفر ملة، وقد فسرنا الملة فيما تقدم. وفي آخر هذا الحديث: (رواه عطاء بن سلام). كذا هو سائر نسخ المصابيح وهو غلط والصواب:

ورواه عطاء عن ابن سلام، يعني: عبد الله بن سلام، وعطاء هو عطاء بن يسار الراوي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه. (ومن الحسان) [4347] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه: (وأن لا يظهر أهل الباطل على الحق) يريد أن الباطل وإن كثرت أنصاره فلا يغلب الحق بحيث يمحقه ويطفئ نوره، ولم يكن ذلك بحمد الله، مهما ابتلينا به من الأمر الفادح، والمحنة العظمى بتسليط الأعداء علينا، ومع استمرار الباطل فالحق أبلج، والشريعة قائمة لم تخمد نارها، ولم يندرس منارها، وإن كان الرواية: (أهل الباطل على أهل الحق) فإنه أراد به الظهور كل الظهور حتى لا يبقى لهم فئة ولا جماعة، ولم يكن ذلك بحمد الله، كيف وقد تكفل الله سبحانه لنبينا بالشام، وها هو قد استبان أعلامه للناظرين. [4348] ومنه حديث عوف بن مالك الأشجعي- رضي الله عنه-: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لن يجمع الله على هذه الأمة سيفين، سيفاً منها وسيفاً من عدوها). قلت: قد دلت الأحاديث على أن هذه الأمة لا يوضع فيهم سيف الأعداء ما لم يوضع سيوفهم في أنفسهم، فوضعوا فوضعت.

=====

الفخر: ادعاء العظم والمباهاة بالأشياء الخارجة عن الإنسان، كالمال والجاه، أي: لا أقوله تنفجا، لكن اعتداد بفضله، وتحدثاً بنعمه. (ولا فخر): بالنصب على التبرئة، وهو الاختيار، لأنه لم يتكرر. وفيه: (بيدي لواء الحمد) ينصب يوم القيامة لكل متبوع لواء يعرف به، قدوة حق كان، أو أسوة في باطل، ولا مقام من مقامات عباد الله الصالحين أرفع وأعلى من مقام الحمد [199/ب] ودونه تنتهي سائر المقامات، ولما كان نبينا سيد المرسلين صلوات الله عليه أحمد الخلائق في الدنيا والآخرة؛ أعطى لواء الحمد، ليأوي إلى لوائه الأولون والآخرون، وإليه الإشارة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (آدم ومن دونه تحت لوائي) ولهذا المعنى استفتح كتابه بالحمد، وشق اسمه من الحمد، فقيل محمد وأحمد، وأقيم يوم القيام المقام المحمود، ويفتح عليه في ذلك اليوم وفي ذلك المقام من المحامد ما لم يفتح على أحد قبله ولا يفتح على أحد بعده، وأمد أمته ببركته- من الفضل الذي آتاه، فنعت أمته في الكتب المنزلة قبله بهذا النعت فقال: (أمته الحمادون يحمدون الله في السراء والضراء). [4358] ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيين). (إمام) بكسر الهمزة، والذي يفتحها وينصبه على الظرف، فإنه لم يصب. [4359] ومنه حديث عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن لكل نبي ولاة من النبيين، وإن وليي أبي ...) الحديث. يعني: إبراهيم عليه السلام، وقد بينه بقوله (وخليل ربي). وفي كتاب المصابيح: (وإن ولي ربي) وهو غلط، ولعل الذي حرف هذا دخل عليه الداخل من قوله سبحانه: {وإن وليي الله الذي نزل الكتاب} والرواية على ما ذكرنا وهو الصواب. وقوله: (ولاة من النبيين) أي: أحباء وقرناء هم أولى بهم من غيرهم.

باب أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - وصفاته

ومن باب أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - وصفاته (من الصحاح) [4364] حديث أبي موسى الأشعري: رضي الله عنه: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمى لنفسه أسماء، فقال: أنا محمد وأحمد والمقفى) الحديث. المقفى على صيغة الفاعل وهو المولى الذاهب، يقال: قفى عليه أي ذهب به، فكأن المعنى هو آخر الأنبياء، فإذا قفى فلا نبي بعده، وفي معناه: العاقب. [4365] ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش) الحديث. يريد بذلك تعريضهم إياه بمذمم مكان محمد، وكانت العوراء بنت حرب زوجة أبي لهب تقول: مذمماً قلينا ودينه أبينا وأمره عصينا

[4366] ومنه حديث جابر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (سموا باسمي، ولا تكنوا بكنيتي). الحديث. العرب إنما تخاطب بالكنى ذوي الأقدار منهم تعظيماً لهم، ولما كان من حقه - صلى الله عليه وسلم - أن يكرم ويوقر فوق ما يكرم ويوقر غيره لم يكن في الخطاب إياه بد بما يقع به التمييز من خطابه وخطاب غيره، قال الله تعالى: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا} فنهى عن الاكتناء بكنيته نظراً إلى ما ذكرناه. وقد أشار إلى أن فارق [200/أ] الأمة في حقيقة ما يراد من هذه الكنية بقوله: (إنما جعلت قاسماً ...). [4367] ومنه قول جابر بن سمرة- رضي الله عنه- في حديثه: (ورأيت الخاتم عند كتفه مثل بيضة الحمامة يشبه جسده) أي لم يخالف لونه لون سائر جسده. [4368] ومنه قول عبد الله بن سرجس- رضي الله عنه- في حديثه: (عند ناغض كتفه اليسرى). (الناغض): الغضروف وهو ما لان من العظم. فإن قيل: إنما المشهور (بين كتفيه)؟. قلنا: لا اختلاف بين القولين، فإنه يحتمل أنه وجده كذلك، ولا يلزم من قول الآخر: بين كتفيه أن يكون بينهما على السواء بل على تفاوت من أحد الجانبين، أو كان على السواء وخيل إليه أنه إلى اليسرى أقرب. وكذلك القول فيمن روى عنه: (عند كتفه اليمنى). وفيه: (جميعاً عليه خيلان) كذا هو في المصابيح، وفي كتاب مسلم: (مثل الجمع). و (الجمع) بضم الجيم، الكف حين تقبضها، ويؤيد هذه الرواية: ما ورد في الحديث في صفة خاتم النبوة: (كالكف) وفي كتاب مسلم من طريق أخرى: (جمعا) أي: كجمع نصب بنزع الخافض، وأما (جميعاً) على ما في كتاب المصابيح، فإني لا أحققه رواية والأشبه أنه غلط من الكاتب.

[4371] ومنه حديث أنس- رضي الله عنه-: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس بالطويل البائن) يريد به الطويل الذي بان في طوله عن حد الاعتدال. وفيه: (وليس بالأبيض الأمهق) الأمهق: الذي ليس في بياضه بنير وهو أبيض كريه كلون الجص لا يخالطه حمرة. وفيه: (وليس بالجعد القطط ولا بالسبط) جعد قطط إذا كان شديد الجعودة، يقال: رجل قط الشعر وقطط الشعر بمعنى، وقد تقدم في الباب الذي تقدم معنى السبط. ومنه: حديثه الآخر (كان شعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أنصاف أذنيه). وفي حديث البراء: (بلغ شحمة أذنه) وفي رواية عنه أيضا: (ما رأيت من ذي لمة أحسن من حلة حمراء من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شعره يضرب منكبيه). وعلى مثل هذا الاختلاف وصفه الواصفون، وإذا عرف اختلاف تلك الأحوال باختلاف الأزمنة علم أن لا اختلاف فيها من طريق التضاد، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يحلق رأسه في سنى الهجرة إلا عام الحديبية، ثم عام عمرة القضاء، ثم عام حجة الوداع، فليعتبر في الطول والقصر منه بالمناسبات الواقعة في تلك الأزمنة، وأقصر تلك الأزمنة مدة ما كان بعد حجة الوداع، فإنه توفي بعد الحلق بثلاثة أشهر. وفيه: (وكان [200/ب] سبط الكفين) أي: تام الكفين. وفي حديث (الملاعنه): (إن جاءت به أصيفر سبطا فهو لزوجها) أي: تام الخلق. ومثله في الحديث

(سبط القصب) والسبط: الممتد الذي ليس فيه تعقد ولا نتو، وفي معناه (شثن الكفين)، أي: غليظهما، قال أبو عبيد: يعني أنهما إلى الغلظ والقصر، وقال غيره: هو الذي في أنامله غلظ بلا قصر. قلت: والشثن مستعمل أيضا في كلامهم في خشونة الجلد، قال الشاعر: وتعطو برخص غير شثن كأنه ... أساريع ظبى أو مساويك إسحل ذكل الشثن في البيت في مقابلة الناعم، ولا محمل له في الحديث إلا على غلظ العضو في الخلقة، لما صح عن أنس أنه قال: (ولا مست ديباجة ولا حريرة ألين من كف رسول الله). قلت: وقد سلكنا في تفسير قوله: (وكان سبط الكفين) مسلك من تقدمنا، متبعا لهم، ولو ذهب ذاهب إلى أنه كناية عن الجود فلا مطعن فيه؛ لأن العرب تقول للبخيل: هو جعد الكف، وفي ضده: سبط الكف. [4374] ومنه حديث أبي الطفيل عامر بن واثلة الليثي- رضي الله عنه-: (رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأن أبيض مقصدا). المقصد: الذي ليس بجيم ولا قصير، وقال شمر: هو القصد من الرجال نحو الربعة. [4376] ومنه قول أنس- رضي الله عنه- في حديثه: (إذا مشى تكفأ) قيل: تمايل إلى قدام كما تتكفأ السفينة في جريها، من قولهم: أكفأته وكفأته إذا أماله يقال: كفأته فانكفأ وتكفأ.

وفي حديث الصراط (آخر من يمر رجل يتكفأ به الصراط) وقيل: تكفأ ترهيأ في مشيته كما تترهيأ العيدانه. وفي وصف مشيته ما يدل على صحة ذلك، ويحتمل أنه أراد به الترفع عن الأرض مرة واحدة، كما يكون في مشي الأقوياء وذوي الجلادة، بخلاف المتماوت الذي يجر رجله في الأرض، ويدل عليه قول الواصف: (إذا مشى تقلع) وسنذكره في موضعه. والرواية المعتد بها في (تكفى) بغير همز، وذلك يرويه في كتاب أبي عيسى عن علي- رضي الله عنه-: (إذا مشى تكفى تكفيا). وذكر الهروي أن الأصل فيه الهمز، ثم تركت. [4377] ومنه حديث الآخر عن أم سليم رضي الله عنها- (أنه النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأتيها فيقيل عندها). قلت: قد وجدت في بعض كتب الحديث أنها كانت من ذوات محارم النبي - صلى الله عليه وسلم - من جهة الرضاع، ولم يزد هذا الناقل على ذلك شيئا، وقد رأيت ذلك قولا صحيحا، واستبان وجه صحته من هذا الحديث وأمثاله؛ فإن نبي الله [102/أ]- صلى الله عليه وسلم - لم ليقيل في بيت أجنبية، ثم إنه لم يكن يدخل بعد نزول حجاب على امرأة من الأنصار، إلا على أم سليم وأختها أم حرام، فضلا عن أن يقيم عندها. وقد صح أنه دخل على أم حرام بنت ملحان فقال عندها، فاستيقظ وهو يضحك. قالت: فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؛ فقال: (ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة، أو مثل الملوك على الأسرة) الحديث. وفي هذا الحديث أنها جلست تفلي رأسه، وإذا لم يكن بينه وبينها سبب محرم من رحم ووصلة فلابد أن يكون ذلك من جهة الرضاع على ما ذكر، وإذا قد علمنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحمل إلى المدينة رضيعا تعين أن يكون ذلك من قبل أبيه عبد الله فإنه ولد بالمدينة، وكلن عبد المطلب قد فارق أباه هاشما وتزج بالمدينة في بني النجار، وأم حرام وأم سليم بنت ملحان كانتا من بني النجار، فعرفنا من جميع ذلك أن الحرمة بينهم كانت حرمة الرضاع. ولقد وجدنا الجم الغفير من علماء النقل أوردوا أحاديث أم حرام وأم سليم ولم يبين أحد منهم العلة،

إما من الغفلة عنها، وإما لعدم العلم، فأحببت أن أبين وجه ذلك كيلا يظن جاهل أنه كان في سعة من ذلك لمكان العصمة ولا يتذرع به مستبيح إلى الترخص بما لا رخصة فيه، وأراني- والله أعلم- أول من وفقت لذلك، فواها لها من درة كنت مستخرجها، والله أحمد على هذه الموهبة السنية، وكشف هذه الأغلوطة السنية. (ومن الحسان) [4379] قول علي رضي الله عنه في حديثه: (مشربا حمرة). الإشراب: خلط لون بلون، يقال: أشرب حمرة وصفرة، وفيه شربة حمرة، بالضم، أي: إشراب. وفيه: (ضخم الكراديس). (الكردوس): كل عظمين التقيا في مفصل نحو المنكبين والركبتين والوركين). وفيه: (طويل المسربة). (المسربة: بضم الراء: الشعر المستدق الذي يأخذ من الصدر إلى السرة. وقوله: (إذا مشى تكفى) قد فسرناه وفي حديثه الآخر (لم يكن بالطويل الممغط) أي الذي مد مدا من طوله، والمغط المد. وفيه: (ولا بالقصير المتردد) أي الذي انضم بعضه إلى بعض، كأنه قد تردد بعض خلقه على بعض. وفيه: (ولم يكن بالمطهم ولا بالمكلثم). اختلف أهل اللسان في المطهم فمنهم من قال: هو التام الخلق من كل شيء على حدته، فهو بارع [102/أ] الجمال. وهذا قول لا يلائم ما وصف به - صلى الله عليه وسلم - من الحسن والجمال.

وقال الجوهري: وجه مهطم، أي: مجتمع مدور. وهذا أيضا لا يشاكل لفظ الحديث ولا يواطئه؛ لأنه قال بعد ذلك: (وكان في الوجه تدوير). وقال أبو عبيد الهروي في كتابه: وقالت طائفة: المطهم الفاحش السمن، وقيل: هو المنتفخ الوجه، ومنه قول الشاعر: ووجه فيه تطهيم أي انتفاخ وجهامة. قلت: وهذا هو القول الذي يستقيم عليه سياق الحديث، والناعت أتى بالكلمتين في نعت وجهه ويبين ذلك قوله بعد الكلمتين: (وكان في الوجه تدوير) ولما كان المطهم من الألفاظ المشتركة على ما ذكرنا، وكان المكلثم من الوجوه: القصير الحنك، الداني الجبهة، المستدير مع كثرة اللحم، بين بقوله (ولا بالمكلثم) أنه لم يرد بالمطهم المنتفخ الوجه الفاحش السمن، ولما كان المكلثم المستدير بين بقوله: (وكان في الوجه تدوير) أنه لم يكن مستديرا كل الاستدارة، بل كان فيه بعض ذلك، ويكون معنى قوله: (وكان في الوجه تدوير) أي: تدوير ما، وكان من الإمالة والاستدارة مسنون الوجه غير موجن هذا قول متسق، يؤيد بعضه بعضا، والأقاويل التي نقلناها عن أصحاب الغريب- وإن استقامت الألفاظ على انفرادها- فإنها إذا اعتبرت جملة واحدة في نظم الحديث شذ بعضها عن بعض، ونحن قد جهدنا في التوفيق، وما لم يلتثم منها فإن العلة فيه حسبان الناعتين فقد وصفه كل منهم بما تصور في ذهنه، بما يذكر من هيئته. والله أعلم. وفيه: (جليل المشاش والكتد). المشاش: رءوس العظام اللينة التي يمكن مضغها، واحدها مشاشة والكتد: ما بين الكاهل والظهر، تكسر تاؤه وتفتح. وفيه: (أجرد ذو مسربة). الأجرد من الناس: الذي لا شعر عليه، ومنه الحديث: (أهل الجنة جرد مرد) ومن الدواب: القصير الشعر، وقد بين بقوله: (ذو مسربة) لم يكن أجرد على الإطلاق، بل كان له مسربة، ومن أصحاب التجارب من الهند وغيرهم من لا يحمد الرجل إذا كان في سائر أعضاء أجرد، ولاسيما الصدر. وفيه: (إذا مشى يتقلع) المعنى: أنه كان يرفع رجليه من الأرض رفعا بائنا بقوة، لا كالذي يقارب بين الخطى احتشاما واختيالا. وفي حديث هند بن أبي هالة: (وإذا زال زال قلعا) أكثر أهل الرواية يضمون القاف ويسكنون [202/أ] اللام، والمحققون من ذوي المعرفة بكلام العرب يروونه بفتح القاف وكسر اللام. وقوله: (كأنما يمشي في صبب) كالمبين له فإن الانحدار والتكفؤ إلى قدام والتقلع من الأرض يقارب بعضه بعضا. وفيه: (وإذا التفت التفت جميعا) يريد أنه كان إذا توجه إلى الشيء توجه بكليته، ولا يخالف ببعض

جسده بعضاً، لكيلا يخالف بدنه قلبه وقصده مقصده ثم لما في ذلك من التلون، وأمارة الخفة، وقد أشرنا إلى مثل هذا المعنى في النهي عن الجلوس بين الظل والشمس. وفيه: (أصدق الناس لهجة) اللهجة: اللسان، يقال: هو فصيح اللهجة من لهج بالشيء إذا أولع به. وفيه: (وألينهم عريكة) العريكة: الطبيعة، يقال: فلان لين العريكة إذا كان سلسا، ولانت عريكته: إذا انكسرت نخوته. [4382] ومنه حديث جابر بن سمرة- رضي الله عنه-: (رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في ليلة إضحيان) بالكسر، أي: مضيئة لا غيم فيها، وكذلك ضحياء وإضحيانة. [4383] ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- في حديثه: (إنا لنجهد أنفسنا) نجهد يجوز فيه فتح النون وضمها، يقال: جهد دابته وأجهدها: إذا حمل عليها فوق طاقتها (وإنه لغير مكترث) أي مكثر، أراها من الألفاظ المقلوبة، مثل جبذ وجبذ، وقد بين بقوله هذا أن المراد من الإسراع البلاغ الذي لا يدرك إلا بالإسراع، لقوله: (وإنه لغير مكترث) ثم لما وصف به أنه كان يمشي على هيئته.

باب: ما ذكر من أخلاقه وشمائله

ومن باب: ما ذكر من أخلاقه وشمائله (من الصحاح) [4388] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس- رضي الله عنه-: (لم تراعوا لم تراعوا) هو في أوثق الروايات (لن تراعوا) معناه: لا فزع ولا روع فاسكنوا، يقال: ريع فلان إذا فزع. (وفرس عرى) ليس عليه سرج، وكأن قوله: (ما عليه سرج) أورده مورد البيان. وفيه: (لقد وجدته بحرا) يقال للفرس: إنه لبحر، وإنه لحت أي واسع الجري، وذلك الفرس كان يسمى المندوب، أي المطلوب.

[4395] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديثه الآخر: (ترب جبينه) جعل هذا اللفظ مجعل تربت يمينه لما في تلك الكلمة من احتمال الدعاء عليه، ولما في هذه من احتمال الدعاء له، وهو أن يكون المراد منه السجود لله سبحانه.

[4398] ومنه حديث عائشة- رضي الله عنها-: (ما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - مستجمعا قط ضاحكا) تريد ضاحكا كل الضحك، يقال: استجمع كل مجمع، واستجمع الفرس جريا. [4404] ومنه حديثها الآخر: (لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاحشا ولا متفحشا). قيل: الفاحش ذو الفحش، والمتفحش: الذي يتكلف ذلك ويتعمده.

=====

باب: المبعث وبدء الوحي

ومن باب: المبعث وبدء الوحي (من الصحاح) [4419] قول عائشة- رضي الله عنها- في حديث مبدأ الوحي: (إلا جاءت مثل فلق الصبح). الفلق بالتحريك هو الصبح بعينه، قال ذو الرمة: حتى إذا ما انجلى .... عن وجهه الفلق وإنما أضافه إلى الصبح لاختلاف اللفظين، وحسنت هذه الإضافة لكون الفلق من الألفاظ المشتركة، يقال: للخلق الفلق، وللمطمئن من الأرض: الفلق، وإنما شبهتها بالفلق لإنارتها وإضاءتها وصحتها. وفيه: (وكان يخلو بغار حراء). حراء ممدود، ومنهم من يذهب فيه إلى التذكير فيصرفه، ومنهم من يذهب فيه إلى التأنيث فيمنعه الصرف. وفيه: (فيتحنث فيه) فسرت التحنث بقولها: وهو التعبد الليالي ذوات العدد) ويحتمل أن يكون التفسير من قول الزهري أدرجه في الحديث وذلك من دأبه.

والتحنث من حيث اللغة العربية: إلقاء الحنث عن نفسه، وزعم بعضهم أنه لم يرد من باب التفعل في معنى إلقاء الشيء عن النفس إلا التحنث والتأثم والتحوب. وفيه (قبل أن ينزع إلى أهله) نزع إلى أهله ينزع نزاعا، أي: اشتاق، وبعير نازع، وناقة نازع: إذا حنت إلى أوطانها. وفيه: (حتى جاءه الحق) أي: الأمر الحق، وهو الوحي أو جاءه رسول الحق وهو جبريل. وفيه: (فأخذني فغطني) الأصل في الغط المقل في الماء والتغويص فيه، ولما كان الغط مما يأخذ تنفس المغطوط استعمل مكان الخنق، وفي بعض الروايات (فخنقني)، وفي بعضها: (فأبني) وفي معناه، (فأتني)، بالتاء أخت الطاء، وكلا اللفظين بمعنى الخنق. وفيه: (حتى بلغ مني الجهد) روي بفتح الجيم وضمها، وبرفع الدال [300] ونصبها والأجود ضم الجيم ورفع الدال، أي: بلغ مني الطاقة، [ولا أرى الذي يرويه بنصب الدال إلا قد وهم فيه]، أو جوزه من طريق الاحتمال، فإنه إذا نصب الدال عاد المعنى إلى أنه غطه حتى استفرغ قوته في ضغطته وجهد جهده بحيث لم يبق فيه مزيد، وهذا قول غير سديد، فإن البنية البشرية لا يستدعي استنفاد القوة الملكية، لاسيما في مبدأ الأمر، وقد دلت القضية على أنه اشمأز من ذلك وتداخله الرعب. وفيه: (ولقد خشيت على نفسي) أدهشته هيبة البديهة، وأخذته سورة تلك الحالة، فأوجس في نفسه خيفة من الخيال. وفيه: (وتحمل الكل): أي تحمل الثقل عن ذوي الأثقال، والكل: الثقل من كل ما يتكلف قال الله تعالى: {وهو كل على مولاه} ومنه قيل للعيال: الكل، وقيل لليتيم: الكل؛ قال الشاعر: ويأكل مال الكل قبل شبابه ... إذا كان عظم الكل غير شديد وفيه: (وتكسب المعدوم): زعم جمع من أهل العلم أن صواب هذا اللفظ: وتكسب المعدم؛ أي تعطي العائل وتمنحه؛ لأن المعدوم لا يدخل تحت الأفعال.

وتكسب: يجوز أن يكون من قولهم: كسبت زيدا مالا؛ ويجوز أن يكون من أكسبته مالا؛ قال الخطابي: وأفصحهما: كسبته، وذكر الهروي عن ابن الأعرابي: يكسب بضم الياء، وأنشد: فأكسبني مالا وأكسبته حمدا قلت: والمعدوم هي اللفظة الصحيحة بين أهل الرواية؛ وأجراها بعضهم على الاتساع، فرأى أنه أنزل العائل منزلة المعدوم مبالغة في العجز كقولك للبخيل أو الجبان: ليس بشيء، وعليه قول المتنبي: إذا رأى غير شيء ظنه رجلا وعلى مثل هذا يحمل قول ابن أبي أوفى- رضي الله عنه-: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقل اللغو) أي لا يغلو رأسا؛ قال الله تعالى: {فقليلا ما يؤمنون} أي: لا يؤمنون لا قليلا ولا كثيرا، وإنما ذكرت لفظ الكتب إرادة أنك لا تزال تسعى في طلب عاجز تنعشه كما يسعى غيرك في طلب مال ينعشه. (وتعين على نوائب الحق) أي تعين الملهوف على ما أصابه من النوائب التي يحق على حماة الحقيقة المعاونة فيها. وفيه: (فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى): قال بعضهم: الناموس: صاحب سر الخير، والجاسوس: صاحب سر الشر؛ قيل: وأصله من نامست الرجل: إذا ساررته. وفيه: (يا ليتني فيها جذعا): قال بعضهم: ليتني فيها جذعا نصب على إضمار كنت؛ لأن ليت قد شغل بالمكنى فلم يبق له عمل فيما بعد، هذا كلام صحيح، وفي إضمار كنت كلام، والصواب أن ينصب على الحال، والتقدير: يا ليتني باق فيها جذعا، أي جلدا قويا شابا، بمثابة الجذع من الخيل؛ قال الراجز: يا ليتني فيها جذع .... أخب فيها وأضع ويقال: فلان في هذا الأمر جذع إذا كان أخذ فيه [301] حدثا. وأنث الضمير في قوله: (يا ليتني فيها) إرادة للنبوة أو للدعوة أو للأيام التي تظهر فيها. وفيه: (أنصرك نصرا مؤزرا)، أي: بالغا في القوة، مأخوذ من الأزر وهو القوة. وفيه: (لم ينشب ورقة) أي لم يمكث ولم يبرح، وحقيقته أنه لم يتعلق بشيء، ولم يشتغل بغير ما هو فيه.

[4420] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث جابر- رضي الله عنه-: (فجئت منه رعبا) جئث الرجل: إذا أفزع، وكذلك جث وجئف. وقوله: (رعبا) أي ممتلئا رعبا، ويجوز أن يكون معناه: مرعوبا كل الرعب، ويحتمل أنه ميز الجأث: هو الإفزاع بالرعب لافتراق معنييهما؛ وهو أن الفزع انقباض ونفار يعتري الإنسان من الشيء المجيف وهو قريب من الجزع. والرعب: الانقطاع من امتلاء الخوف، والرعب يتعدى ولا يتعدى؛ يقال: رعبته فرعب. [4421] ومنه حديث عائشة- رضي الله عنها- (أن الحارث بن هشام سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! كيف يأتيك الوحي؟ فقال: أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس ...) الحديث. وفي غير هذه الرواية: (كأنه صلصلة على صفوان) وفي رواية أخرى: (كجر السلسلة على الصفوان). الصلصلة: صوت الحديد إذا حرك، وصل الحديد وصلصل: إذا تداخل صوته، والصلصلة أشد من الصليل. وفي بعض الروايات: (مثل صرصرة الجرس) يقال: صر الجندب إذا صوت، وكذلك الباب، فإن كرر الصرير ورجع قيل: صرصر صرصرة، ومنه الحديث (أنه كان يخطب إلى جذع فاتخذ المنبر، فاصطرت السارية) وهو افتعلت من الصرير أي حنت وصوتت. قلت: وهذا حديث يغالط فيه أبناء الضلالة، ويتخذونه ذريعة إلى تضليل العامة وتشكيكهم، وهو حق أبلج، ونور يتوقد {من شجرة مباركة}، {يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسه نار} لا يغلط فيه إلا من أعمى الله عيني قلبه. وجملة القول في هذا الباب أن نقول: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - معنيا بالبلاغ، مهيمنا على الكتاب، مكاشفا بالعلوم الغيبية، مخصوصا بالمسامرات القلبية، وكان يتوفر على الأمة حصتهم بقدر الاستعداد؛ فإذا أراد أن ينبئهم بما لا عهد لهم به من تلك العلوم صاغ لها أمثلة من عالم الشهادة، ليعرفوا مما شاهدوه ما لم يشاهدوه، فلما سأله الصحابي عن كيفية الوحي وكان ذلك من المسائل العويصة والعلوم الغريبة التي لا تميط نقاب التعزز عن وجهها لكل طالب ومتطلب، ضرب لها في الشاهد مثلا بالصوت

المتدارك الذي يسمع ولا يفهم منه شيء، تنبيها على أنباءها ترد على القلب في لبسة الجلال، وأبهة الكبرياء، فيأخذ هيبة الخطاب عند ورودها بمجامع القلب ويلاقي من ثقل القول ما لا علم له بالقول، مع وجود ذلك، فإذا سري عنه وجد القول المنزل بينا ملقى في الروع، واقعا وقع المسموع، وهذا معنى قوله: (فيفصم عني وقد وعيت) ومعنى [302] يفصم: أي يقلع عني كرب الوحي؛ شبهه بالحمى إذا فصمت عن المحموم؛ يقال: أفصم المطر أي أقلع، وهذا الضرب من الوحي شبيه بما يوحى إلى الملائكة؛ على ما رواه أبو هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا قضى الله في السماء أمرا ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنها سلسلة على صفوان، {إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير}. هذا وقد تبين لنا من حديث عائشة رضي الله عنها أن الوحي كان يأتيه على صيغتين: أولاهما أشد من الأخرى؛ وذلك بأنه كان يرد فيها من الطباع البشرية إلى الأوضاع الملكية، فيوحى إليه كما يوحى إلى الملائكة، على ما ذكر في حديث أبي هريرة، وهو حديث حسن صحيح. والأخرى يرد فيها الملك إلى شكل البشر وشاكلته، وكانت هذه أيسر، والله أعلم. وفيه: (وإن جبيته ليتفصد عرقا) أي: يسيل؛ يقال: انفصد الشيء وتفصد: إذا سال؛ كأنه شبه بالعرق المفصود، إذا سال عنه الدم. [4422] ومنه قول عبادة بن الصامت- رضي الله عنه- في حديثه: (إذا أنزل عليه الوحي كرب لذلك): يحتمل أنه كان يهتم بأمر الوحي أشد الاهتمام ويهاب مما يطالب به من حقوق العبودة والقيام بشكر المنعم، ويخشى على عصاة الأمة أن ينالهم من الله خزي ونكال؛ فيأخذه الغم الذي يأخذ بالنفس حتى يعلم ما يقضى إليه. ويحتمل أن المراد منه كرب الوحي وشدته؛ فإن الأصل في الكرب الشدة، وإنما قال الصحابي: (كرب) لما وجد من شبه حاله بحال المكروب. وقوله: (تربد وجهه) أي تغير، وأكثر ما يقال ذلك في التغير من الغضب، وتربد الرجل أي: تعبس. وفيه: (فلما أتلى عليه رفع رأسه) كذا هو في المصابيح، وأرى صوابه: (فلما تلي عليه)؛ من التلاوة؛ وإن كان (أتلي عليه) محققا فمعناه: أحيل، يقال: أتليته أي أحلته؛ أي: أحيل عليه البلاغ، وذلك أن الملك إذا قضى إليه ما أنزل به فقد أحال عليه البلاغ.

[4425] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عائشة- رضي الله عنها-: (فلم أستفق إلا بقرن الثعالب). أفاق واستفاق من مرضه وسكره بمعنى؛ أي: لم أستفق مما أنا فيه من الغم حتى بلغت قرن الثعالب، والقرن: جبيل صغير، وقرن الثعالب جبل بعينه، بين مكة والطائف.

باب علامات النبوة

وفيه: (إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين): الأخشبان: جبلان يضافان مرة إلى مكة ومرة إلى منى، وهما واحد، ويسميان الأخشبان، ومن قائل إن الأخشبين هما اللذان تحت العقبة بمنى فوق المسجد. ومن باب علامات النبوة (من الصحاح) [4429] قول أنس- رضي الله عنه- في حديثه: (ثم لأمه وأعاده). تقول: لأمت الجرح والصدع: إذا شددته فالتأم يريد: أنه سواه وأصلحه. وفيه: (وهو منتقع اللون) يقال: انتقع لونه: إذا تغير من حزن أو فزع، وكذلك امتقع [303] وبالميم أجود، وهذا الحديث وأمثاله مما يجب فيه التسليم ولا يتعرض له تأويل من طريق المجاز والاتساع إذ لا ضرورة في ذلك؛ إذ هو خبر صادق مصدوق عن قدرة القادر.

[4436] ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ليفتتن عصابة من المسلمين كنز آل

كسرى الذي في الأبيض) يريد به القصر الأبيض الذي كان بالمدائن وكانوا يسمونه: سفيد كوشك. وسمعت بعض أصحاب الحديث بهمدان يقول: القصر الأبيض الذي في الحديث هو حصن دارا الذي بهمدان، ويقال له: شهر شاك، ولم أجد لقوله سنادا من الرواية المعتد بها. [4438] ومنه حديث أنس- رضي الله عنه-: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخل على أم حرام بنت ملحان ... الحديث. قد ذكرنا وجه الدخول عليها في حديث أختها أم سليم. وفيه: (يركبون ثبج هذا البحر) ثبج كل شيء: وسطه، وثبج الرمل: معظمه. [4439] ومنه حديث ابن عباس- رضي الله عنهما- (أن ضمادا قدم مكة) ... الحديث. هو ضماد الأزدي، وكان صديقا للنبي - صلى الله عليه وسلم - في الجاهلية، ومن أصحاب الحديث من يقول: ضماد أو ضمام بن ثعلبة؛ وليس بشيء، فإن الذي اختلف في اسمه فقيل: ضماد أو ضمام بن ثعلبة هو السعدي الوافد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأما الأزدي فإنه ضماد بلا مثنوية.

الفصل الذي في المعراج

وفيه: (وكان يرقى من هذه الريح) الإشارة بهذه إلى جنس العلة التي كانوا يرونها الريح، وكأنهم كانوا يرون أن الخبل الذي يصيب الإنسان، والأدواء التي كانوا يرونها من مسة الجن، نفخة من نفخات الجن فيسمونها الريح: (ولقد سمعت قول الكهنة): يريد بذلك أنهم ينسبونك تارة إلى الكهانة وتارة إلى السحر، وتارة إلى الشعر، وقد سمعت مقالة أصحابها فما سمعت في سائر ما سمعت مثل كلامك، ولو كنت منهم لأشبه كلامك كلامهم، ثم إنهم كانوا يرون الكهان والسحرة والشعراء أهل البلاغة والمتصرفين في القول على أي أسلوب شاءوا. فأشار بقوله هذا إلى الإعجاز، أي: جاوز كلامك عن حد البلاغة، وأشار (بهؤلاء) إلى الكلمات. والعرب ربما استعملوها في غير العقلاء؛ وقد شهد به التنزيل، قال الله تعالى: {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} وقال الشاعر: ذم المنازل بعد منزلة اللوى ... والعيش بعد أولئك الأيام ومنه: (ولقد بلغن ناعوس البحر) وفي كتاب المصابيح (بلغنا) وهو خطأ لا سبيل إلى تقويمه من طريق المعنى، والرواية لم ترد به، وناعوس البحر أيضا خطأ، وكذلك رواه مسلم في كتابه وغيره من أهل الحديث، وقد وهموا فيه؛ والظاهر أن سمع بعض الرواة أخطأ فيه فروى ملحونا، وهذه من الألفاظ التي لم تسمع في لغة العرب؛ والصواب فيه: قاموس البحر، وهو وسطه ومعظمه، من القمس وهو الغوص، والقماس: الغواص، وفي حديث المد والزجر: (قال ملك موكل بقاموس البحر) والمعنى أن كلماتك [304] التي أسمعتنيها قد بلغن في البلاغة وغزارة المعنى قاموس لجة البحر ومعظمه. وفي الفصل الذي في المعراج (من الصحاح) [4440] حديث مالك بن صعصعة- رضي الله عنه- (أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - حدثهم عن ليلة أسري به:

(بينما أنا في الحطيم) وربما قال (في الحجر ... الحديث). هذا التردد من الراوي اشتبه عليه: أسمع في الحطيم أو في الحجر، وكثير من علماء العربية يرون الحجر والحطيم شيئا واحدا، ويقولون: سمي حجرا لما حجر عليه بحيطانه، وسمي حطيما؛ لأنه حطم جداره عن مساواة جدار الكعبة. وقد نقل عن رهط من أهل العلم ما يخالف ذلك، وأقاويلهم مع ما فيها من الاختلاف تدل على أن الحطيم غير الحجر؛ فقال مالك: الحطيم ما بين المقام إلى الباب؛ وقال ابن جريج: هو ما بين الركن والمقام وزمزم والحجر؛ وقال ابن حبيب: هو ما بين الركن الأسود إلى الباب إلى المقام، حيث يتحطم الناس للدعاء، وقيل: كان أهل الجاهلية يتحالفون هناك، يتحطمون بالأيمان. ومنه قول أنس- رضي الله عنه- في هذا الحديث: (من هذه إلى هذه) أو قول بعض الرواة: يعني من ثغرة نحره إلى شعرته؛ أراد بالعشرة العانة. يقول أهل العلم بالعربية: الشعرة بكسر الشين شعر الركب للنساء خاصة، وعلى هذا فإن هذا القائل ذهب فيه مذهب الاتساع. وما ذكر في الحديث من شق النحر واستخراج القلب وما يجري مجراه فإن السبيل في ذلك التسليم دون التعرض لصرفه إلى وجه يتقوله متكلف ادعاء التوفيق بين المنقول والمعقول؛ هربا مما يتوهم أنه محال. ونحن- بحمد الله- لا نرى العدول عن الحقيقة إلى المجاز في خبر الصادق عن الأمر المحال به على القدرة. وفيه: (فاستفتح؛ قيل: من هذا): أراد بذلك تقرير شدة حراسة السماء، وكثرة حراسها، وأن أحدا لا يستطيع التخلص إليها والمرور عليها إلا بإذن من قبل من أرصد لذلك الأمر.

وفيه: (قيل: وقد أرسل إليه): ذهب بعض أهل العلم إلى أن معناه: وقد أرسل إليه للعروج، وقال: بعثة نبينا - صلى الله عليه وسلم - من معظمات الأمور، وجلائل الوقائع المعروفة في ملكوت السموات، فلا يجوز أن يخفى عليهم ظهورها؛ أو كلام هذا معناه. قلت: وماذا ينكر هذا القائل أن تكون الفئة المستخبرة عن إرساله ممن شغلتهم الشواهد الغيبية وسلبتهم السوالب الربانية؛ فلم يتفرغوا لاستغرقاهم فيما بدا لهم من سبحات الجمال، ودهمهم من سطوات الجلال لما سوى ذلك. ثم إن قوله: إنهم سألوا عن الإرسال للعروج قول لم يتقدمه روية؛ إذ لا يصدر مثله عن الأدنى فالأدنى، فضلا عن الملأ الأعلى؛ إذ ليس لبشر أن يتطرق إلى العالم العلوي، ويرتقي في أسباب السموات إلا أن يؤذن له ويرسل إليه؛ ويعان في العروج بالتيسير عليه، اللهم إلا أن يحمل سؤالهم (305) عن الإرسال إليه على معنى التعجب مما أنعم الله به على عبده، أو على معنى الاستبشار بعروجه. وأما رؤيته المذكورين من الأنبياء دون رقيه إلى كل سماء، وأمر الملك إياه بالتسليم عليهم، وأن في ذلك توقيف على تفاوت منازلهم واختلاف مراتبهم ومنازعهم، وعلى أنه أعلى رتبة، وأقوى حالا، وأتم عروجا. وأمره بالتسليم عليهم؛ لأنه كان عابرا عليهم فكان في حكم القيام، وكانوا في حكم القعود، والقائم يسلم على القاعد؛ وإن كان أفضل منهم. ورؤيته الأنبياء في السموات وفي بيت المقدس حيث أمهم يحمل على رؤية روحانيتهم الممثلة بصورهم التي كانوا عليها؛ غير عيسى- عليه السلام-؛ فإن رؤيته محتملة للأمرين أو أحدهما، وأما ما ذكر من بكاء موسى- عليه السلام- فإنه يحمل على الرقة لقومه والشفقة عليهم؛ حيث لم ينتفعوا بمتابعته انتفاع هذه الأمة بمتابعة نبيهم. ولم يبلغ سوادهم مبلغ سوداهم. ولا يصح أن يحمل إلا على هذا الوجه، أو ما يضاهي ذلك، فإن الحد في ذلك العالم منزوع عن عوام المؤمنين فضلا عمن اختاره الله لرسالته واصطفاه لمكالمته وقوله: (لأن غلاما بعث بعدي): لم يرد بذلك استقصار شأنه، فإن الغلام قد يطلق ويراد به القوى الطري الشباب. والمراد منه استقصار مدته مع استكثار فضائله، واستتمام سواد أمته.

وفيه: (ثم رفعت لي سدرة المنتهى): الرفع تقريبك الشيء، وقد قيل في قوله تعالى: {وفرش مرفوعة} أي: مقربة لهم، فكأنه أراد أن سدرة المنتهى استبينت له بنعوتها كل الاستبانة، حتى اطلع عليها كل الاطلاع، بمثابة الشيء المقرب إليه. وفي معناه: (رفع لي بيت المعمور) (ورفع لي بيت المقدس). وأضيفت السدرة إلى المنتهى؛ لأنها بمكان ينتهي دونه علم الخلائق، ولا تجاوز للملائكة والرسل منها. وقد بينا معنى ذلك فيما تقدم. قلت: وفي بعض أحاديث المعراج: (ثم انتهى بي إلى سدرة المنتهى) وفي بعضها: (ثم انطلق بي حتى أتى سدرة المنتهى) وفيما رواه أبو سعيد الخدري من حديث المعراج: (فرفعت إلى سدرة المنتهى) والروايتان اللتان ذكرناهما قبل، وهما أكثر الروايات يؤيدان ذلك. وفي: (فإذا نبقها مثل قلال هجر): النبق بكسر الباء حمل السدر، ويخفف أيضا، الواحدة نبقة، ونبقة، مثل كلمة. والقلة إناء للعرب كالجرة الكبيرة، وقلال هجر شبيهة بالحباب، ولما كانت الثمرة في قشرتها كالمطعوم في ظرفها ضرب مثل ثمرتها بأكبر ما كانوا يتعارفونه بينهم من الظروف. وهجر: اسم بلد، منصرف. وفيه: (فإذا أربعة أنهار: نهران باطنان ونهران ظاهران): إذ للمفاجئة، يعني فإذا أنا بأربعة أنهار. وفي غير هذا الحديث: أنها تخرج من أصل السدرة، ويحتمل أنه قال: (باطنان) لخفاء أمرهما، وفقدان النظير في الشاهد لهما فلا تعبر العبارة عن نعتهما، ولا تهتدي العقول إلى وصفهما، ويحتمل أنه [306/] قال ذلك لأنهما مخفيان عن أنظار الناظرين فلا يريان حتى يصبا في الجنة. وقد ذكر في هذا الحديث أن أحدهما يقال له الكوثر، والآخر نهر الرحمة. وأما الظاهران فالأوجه في هذا الحديث أنهما النهران المسميان على ما عرفا بأعيانهما، ويكون مادتهما مما يتنزل إلى السدرة من رحمة الله، ويحتمل أن تكون تسميتها بالاسمين من باب الاتساع والاستعارة، أو من باب توافق الأسماء على ما ذكرنا في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (سيحان وجيحان، والنيل والفرات كل من أنهار الجنة). وفيه: (وعالجت بني إسرائيل) أي: مارستهم ولقيت الشدة فيما أردت منهم من الطاعة. والمعالجة مثل المزاولة والمحاولة.

[4442] ومنه حديث أنس- رضي الله عنه-: (كان أبو ذر-رضي الله عنه- يحدث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فرج سقف بيتي ...) الحديث. فإن قيل: روى أنس في حديث المعراج عن مالك بن صعصعة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (بينما أنا في الحطيم وربما قال: في الحجر). فكيف التوفيق بين هاتين الروايتين؟

قلنا: قد ذكر في كتب أصحاب الحديث وكتب من تصدى للتوفيق بين المتضادات أن الحديثين ينبئان عن العروج به مرتين، تارة بروحه في المنام، ويدل عليه قوله: (كنت بين النائم واليقظان) وتارة بشخصه في اليقظة؛ ويدل عليه أيضا في حديث أبي ذر: (ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء) ولم يذكر مسراه إلى بيت المقدس. والعروج الذي كان بشخصه في اليقظة إنما كان من المسجد الأقصى. وفي حديث أبي ذر: ذكر العروج من المسجد الحرام إلى السماء؛ فإن صح لنا ذلك فلا تضاد فيه. فإن قيل: فأي الحديثين يحمل على اليقظة؟ قلنا: حديث مالك بن صعصعة؛ لما فيه من ذكر البراق وسيره به، ولم نجد للبراق ذكرا في حديث أبي ذر، وإن لم يصح لنا ذلك فالسبيل أن يعد ذلك مما غلط فيه الرواة من قبل النسيان؛ فإنهم وإن كانوا عدولا بررة، فليسوا معصومين عن النسيان، وقد رفع الله قدر نبيه عن النسيان والغلط فيما يخبر عنه من أمر الله، والكوائن الغيبية والآيات الإلاهية. فإن قيل: والنسيان إن قدر ففي أي القضيتين يقدر؟ قلنا: يقدر في حديث أبي ذر؛ لأن الإسراء به من المسجد أكثر وأشهر، فإن قيل: وإن قدر الأمر فيهما على ما ذكرتم من العروج به مرتين تارة في المنام وتارة في اليقظة، فكيف التوفيق بين قول من روى الإسراء به من عند أم هانئ، وبين قوله: (فرج سقف بيتي). قلنا: تكون إضافة البيت إلى نفسه من باب الاتساع، لأنه كان ساكنه، وإلى أم هانئ من طريق الحقيقة؛ لأنها كانت تملكه. وفيه: [307] (وإذا رجل قاعد على يمينه أسودة) أي: أشخاص أو جماعات، يقال: مرت بنا أسودا من الناس وأساود وأساويد، وهم الجماعات المتفرقون، ومن السواد الأعظم، والسواد: الشخص، لأنه يرى من بعيد أسود. [4442] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس و [أبا حية] الأنصاري- رضي الله عنهما-: (ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام): ظهرت أي: علوت؛ قال الله تعالى: {ومعارج عليها

يظهرون} والمستوى على مثال الملتقى: المستقر وموضع الاستعلاء، ولو قال قائل: يحتمل أن يكون بكسر الواو، ويراد به المكان المستوي الذي اعتدل في نفسه فلم يكن فيه انخفاض أو انحراف- فله وجه، لولا عدم الرواية، ثم إنه لو كان على ما ادعى، لكان من حقه أن يكتب بغير ياء بعد الواو؛ لأنها ساقطة في هذه الصيغة، وإذا رأينا الياء مثبتة في سائر الروايات فليس لنا أن نذهب إلى خلافه، وفي بعض طرق هذا الحديث: (حتى ظهرن المستوز) والمستوزي: المنتصب العالي المرتفع، وإثبات الياء في هذه الصيغة ليس بديد؛ لأن المستوزي بفتح الزاي مما لا يعرف في كلام العرب، واللام في الروايتين للعلة؛ أي علوت لاستعلاء مستوى أو لرؤيته أو لمطالعته. ويحتمل أن يكون متعلقا بالمصدر أي: ظهر ظهورا لمستوى، ويحتمل أن يكون بمعنى إلى؛ قال الله تعالى: {بأن ربك أوحى لها} أي إليها. قال البحتري: ظهرت لمنخرق السماك وجاوزت ... ظلل الغمام الصائب المستغرق و (صريف الأقلام) عبارة عن الاطلاع على جريانها بالمقادير، والأصل فيه صوت البكرة عند الاستقاء، يقال: صرفت البكرة تصرف صريفا، وكذلك صريف النار وصريف ناب البعير، والمعنى: إني أقمت مقاما بلغت فيه من رفعة المحل إلى حيث اطلعت على الكوائن، وظهر لي ما يراد من أمر الله، وتدبيره في خلقه، وهذا والله هو المنتهى الذي لا تقدم لأحد عليه. [4443] ومنه حديث عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه-: (لما أسري برسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتهى به إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السادسة) لا خفاء بأن بعض الرواة وهم في السادسة، وإنما الصواب في السابعة، وقد بينت في غير موضع من أحاديث المعراج أنه أتى السدرة، ورفعت له بعد العروج إلى السماء السابعة، وشهدت بذلك الروايات الصحيحة، فلابد لنا من هذا القول للتضاد الذي بين الروايتين؛ فإن قيل: وهذه الرواية أيضا صحيحة فلم نحكم بتلك الروايات على هذه؟ قلنا: لأنها أكثر، وإضافة السهو إلى الواحد أولى من إضافته إلى الجماعة، ثم إن إضافة السدرة إلى المنتهى، والبيان الذي ورد في معناه من النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ينتهي إليها) يشهدان لتلك الروايات ويوضحانها لاسيما وقد أسند القول [308] في تلك الروايات إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -[وهاهنا أتى به] وعلى وجه الوقف على الصحابي، فإن قيل: إن الصحابي لا يقدم على الإخبار فيما سبيله التوقيف إلا وهو متحقق به متثبت في السماع منه من قبل الرسول - صلى الله عليه وسلم -!

الفصل الذي في المعجزات

قلنا: لم ننكر ذلك؛ ولكن للتفاوت الذي يقع بين المرفوع والموقوف في المرتبة لا نزمع] بذلك مع أن قول القائل: (وهي في السماء السادسة) يحتمل أنه أدرج في الحديث من قول بعض الرواة لا من قول ابن مسعود. ومن الدليل على ذلك أن هذا الحديث روي عن ابن مسعود من طريق أخرى، وليس فيها (وهي في السماء السادسة). وفيه: (إذ يغشى السدرة ما يغشى) قال: (فراش من ذهب)، فإن قيل: كيف التوفيق بين قوله هذا وبين قوله في غير هذا الحديث: (فغشيها أنوار لا أدري ما هي)! قلنا: قوله ذلك يشير إلى أنها لا تشبه الأعيان المشهودة المستحضرة في النفوس، فتنعت لهم بذكر نظائرها، ولا تضاد بين القولين؛ لأن فراش الذهب كان أيضا مما غشيها، مع احتمال أن يكون ذلك من قول الصحابي أورده مورد البيان؛ لأنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر تساقط الفراش على مواقع تلك الأنوار التي غشيها بعد قوله: (إذ يغشى السدرة). وفيه: (وأعطى خواتيم سورة البقرة): ليس معنى قوله: (أعطى) أنها أنزلت عليه، بل المعنى أنه استجيب له فيما لقن في الآيتين من قوله: {غفرانك ربنا} إلى قوله: {أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين} ولمن يقوم بحقها من السائلين. وفيه: (وغفر لمن لا يشرك بالله من أمته شيئا) يريد بالمقحمات: الذنوب التي يستحق بها صاحبها دخول النار: ومن الفصل الذي في المعجزات (من الصحاح) [4446] قول أبي بكر- رضي الله عنه- في حديثه: (فرفعت لنا صخرة) أي: ظهرت، وأذيعت، والأصل فيه تقريب الشيء، ومنه رفعت إلى السلطان. وفي حديث النجاشي: (فرفع لي سريره).

وفيه: (وأنا أنفض ما حولك) يريد: أتجسس الأخبار من كل وجه، تقول: نفضت المكان واستنفضته وتنفضته إذا نظرت جميع ما فيه، ومنه النفضة وهم الجماعة يبعثون في الأرض هل فيها عدو أو خوف، وكذلك النفيضة نحو الطليعة: قالت سلمى الجهنية ترثي أخاها أسعد: يرد المياه حضيرة ونفيضة ... ورد القطاة إذا اسمأل التبع وفيه: (فحلب في قعب كثبة من لبن) القعب: قدح من خشب مقعر، والكثبة من اللبن قدر حلبة، وقيل: ملء القدح من اللبن. وفيه: (يرتوي فيها) رويت من الماء بالكسر وارتويت وترويت كله بمعنى. وفيه: (فوافقته حتى استيقظ). قلت: اختلف رواة كتاب البخاري في هذبن اللفظين أعني (فوافقته حتى) فمنهم من يرويه: (فوافقته حين) بتقديم الفاء على القاف [309]. وحين التي هي للظرف. والمعنى: وافق إيتائي إياه حين استيقظ، وكذلك وجدناه فيما يعتد به من نسخ البخاري، ومما يشهد لهذه الرواية بالصحة ما روي في بعض طرق هذا الحديث من كتاب مسلم: (فوافقته وقد استيقظ). ومنهم من يرويه على ما ذكرنا في تقديم الفاء مع حرف حتى، أي: وافقته فيما هو اختاره من النوم. ومنهم من يرويه بتقديم القاف على الفاء من الوقوف، والمعنى: صبرت عليه وتوقفت في المجيء إليه حتى استيقظ. وأرى الداخل إنما دخل على من يرويه بحتى التي هي الغاية من قوله: (فكرهت أن أوقظه) فرأوا أنه كان نائما فوافقه على النوم، أو تأنى به حتى استيقظ. والوجه فيه أنه فارقه وهو نائم، فقدر الأمر في ذلك على ما فارقه عليه، فكره إيقاظه، وذلك قبل المجيء إليه، فلما أتاه كان الأمر على خلاف ما توهمه ووجده قد استيقظ. وفيه: (فارتطمت به فرسه) يقال: رطمته في الوحل رطما فارتطم أي: ارتبك فيه، وارتطم عدي هاهنا بالباء، وفيه: (في جلد من الأرض) الجلد: الأرض الصلبة.

[4448] ومنه قول عبادة بن الصامت في حديث أنس- رضي الله عنهما-: (ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا) الضمير في أكبادها للخيل أو الإبل، أي حثثناها في المسير إليها حتى أضر الظمأ وإدمان السير بأكبادها. وقدمنا حقيقة هذا اللفظ في أول الكتاب. وبرك الغماد بكسر الباء وبفتحها أيضا وبضم الغين: موضع باليمن، قيل هو أقصى بلاد حجرية. ومنهم من يكسر الغين. فأرى أصح الروايتين في برك كسر الباء، فقد ذكر الجوهري في كتابه، وبرك مثال قرد: موضع بناحية اليمن. وفيه: (فما ماط أحدهم). يريد: ما بعد يقال: ماط فيحكمه أي: جار، وماط أي: بعد وذهب. [4449] ومنه حديث ابن عباس- رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال وهو في قبة يوم بدر: (اللهم

أنشدك عهدك ووعدك ...) الحديث. يقال: نشدت فلانا أنشده نشدا إذا قلت له: نشدتك الله، أي: سألتك بالله، وقد يستعمل في موضع السؤال، قال الأعشى: وإذا تنوشد في المهارق أنشدا أي: إذا سئل بكتب الجوائز أعطى، وقوله: تنوشد في موضع نشد أي: شئل، والعهد- هاهنا- بمعنى الأمان، يريد: أسألك أمانك وإنجاز وعدك الذي وعدتنيه بالنصر. فإن قيل: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلم الناس بالله، وقد علم أن الله سبحانه لم يكن ليعده وعدا فيخلفه، فما وجه هذا السؤال؟! قلنا: الأصل الذي لا يفارق هذا الحكم هو أن الدعاء مندوب إليه، علم الداعي بحصول المطلوب أو لم يعلم؛ ثم إن العلم بالله يقتضي الخشية منه، ولا ترتفع الخشية من الأنبياء- عليهم السلام- بما أوتوا ووعدوا من حسن العاقبة، فيجوز أن يكون خوفه من مانع ينشأ ذلك من قبله أو من قبل [310] أمته فيحبس عنهم النصر الموعود ويحتمل أنه وعد بالنصر، ولم يعين له الوقت، وكان على وجل من تأخر الوقت فتضرع إلى الله لينجز له الوعد في يومه ذلك، وما أظهر من الضراعة، وبالغ فيه برفع اليدين حتى سقطت الخميصة التي كانت عليه عند رجليه، على ما هو في الحديث. ففيه سوى ما توخاه من التذلل بين يدي الله على ما هو حق العبودية كشفه للأصحاب عن أنه النصر، كي يشجعهم بذلك ويؤيدهم ويثبت أقدامهم. ومن هاهنا قال أبو بكر- رضي الله عنه-: (حسبك يا رسول الله، فقد ألححت على ربك). يريد: أنك قد بالغت في الدعاء كل المبالغة، وقد علم المؤمنون بأن الله- سبحانه- سيبجيب دعوتك، وتحققوا بذلك فلا حاجة بك إلى زيادة على ما صنعت. هذا وجه هذا الحديث؛ إذ كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلم بالله من أبي بكر وأقوى يقينا منه، وأولى بالثقة بوعده، ولا يجوز أن يتوهم متوهم أن أبا بكر- رضي الله عنه- قال هذا القول تطبيبا لقلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو تأييدا له أو تغييرا عليه، معاذ الإله؛ فإن هذا مما لا يحسن بعوام المؤمنين فضلا عن صديق هذه الأمة، وأعلمهم بالله وبرسوله، وأشدهم تمسكا بالأدب بين يديه، والله أعلم. وفي حديثه أيضا عن قول الملك:: (أقدم حيزوم). أقدم بفتح الهمزة زجر للفرس كأنه يؤمر بالإقدام، وقد رواه بعض أهل الحديث- بل أكثرهم- بكسر الهمزة، والصواب فتحها. وحيزوم: اسم فرس من خيل الملائكة، سمي بأقوى ما يكون من الأعضاء منه، وأشد ما يستظهر به الفارس في ركوبه منه وهو وسط الصدر، وما يضم عليه الحزام. ومنه قول علي- رضي الله عنه-: اشدد حيازيمك للموت فإن الموت لاقيك

وفيه: (فإذا هو قد خطم أنفه): خطم بالخاء المعجمة؛ وهو الأثر على الأنف، يقال: خطمت البعير إذا وسمته بالكي بخط من الأنف إلى أحد خديه. [4453] ومنه حديث البراء- رضي الله عنه-: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رهطا إلى أبي رافع ...) الحديث. الرهط: ما دون العشرة من الرجال ليس فيهم امرأة، وقد ذكر قبل. وأبو رافع هذا هو ابن أبي الحقيق اليهودي، كان يعادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشد المعاداة، ويسعى في أذيته، والتألب عليه، والتعرض لع بالقول فيما ينظم من الشعر، بعد أن كان من ذوي العهد؛ فنقض عهده، وكان له حصن يتحصن به؛ فبعث إليه رهطا من الخزرج، وأمر عليهم عبد الله بن عتيك- رضي الله عنه- فاحتال حتى دخل الحصن متنكرا وقتله وهرج؛ فرجعوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاتوه وهو يخطب فقال: (أفلحت الوجوه) وذلك في آخر السنة الرابعة من الهجرة، وكانت الأوس قد أصابوا قبل ذلك من كعب بن الأشرف، وكان الخبيث شديد الإحنة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فإن قيل: قد رويتم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (الإيمان قيد الفتك، لا يفتك مؤمن)، فكيف التوفيق بينه وبين ما [311] أمر به من قتل ابن الأشرف وابن أبي الحقيق اليهوديين؟ قلنا: أما ابن أبي الحقيق فإنه كان حربا لله ولرسوله، متحصنا بحصنه، ودخول الصحابي الحصن [...] حتى مكن فإن من قتل الخبيث، ليس من باب الفتك المنهى عنه، بل سبيل ذلك سبيل السرية تدخل دار الحرب على غرة من أهلها ثم تضع فيهم السيف. وأما قتل ابن الأشرف بعد نزوله إلى محمد بن مسلمة وأصحابه الأوسيين- رضي الله عنهم- من قصره في جوف الليل وإجابته إياهم ثقة بهم، فإنهم كانوا مباشرين لذلك من قبل الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالأمر السماوي، ففارقت هذه القصة غيرها من قضايا الأمة، مع احتمال أن يكون النهي عن الفتك كان بعد ذلك [وهو الأظهر]؛ لأن حديث النهي عن الفتك يرويه أبو هريرة، وإسلامه في السنة الرابعة من الهجرة، وقتل ابن الأشرف في السنة الثالثة، وابن أبي الحقيق في السنة الرابعة.

[4454] ومنه قول جابر- رضي الله عنه- في حديثه: (فعاد كثيبا أهيل). أهيل في معنى الهيال، وهو السيال قال الله تعالى: {كثيبا مهيلا} أي مصبوبا سائلا لا يتماسك، يقال: تهيل الرمل وانهال: إذا سال، وقد هلته أنا. وفيه: (فانكفأت إلى امرأتي) أي انصرفت إليها. وفيه: (رأيت [النبي]- صلى الله عليه وسلم - خمصا شديدا) الخمص بتسكين الميم: المجاعة، وكذلك المخمصة؛ لأن البطن يضمرها. وفيه: (ولنا بهيمة داجن) البهيمة تصغير البهمة، وهي اسم للمذكر والمؤنث من أولاد الضأن، كذا ذكره أهل اللغة، وقيل: البهمة السخلة، وفي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للراعي: (ما ولدت) قال: بهمة، قال: (اذبح مكانها شاة) قال بعضهم: لولا أن البهمة اسم نوع خاص لما كان في إجابة الداعي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببهمة كبير فائدة؛ لأن من المعلوم أن ما تلد الشاة إنما يكون ذكرا أو أنثى فلما أجاب عن بهمة وقال: (اذبح مكانها شاة) دل على أنها اسم للأنثى دون الذكر، أي: دع هذه في الغنم للنسل واذبح مكانها ذكرا. قلت: هذا الذي ادعاه هذا القائل ينتقض عليه بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (واذبح مكانها شاة)؛ فإن الشاة لم تختص بالذكر دون الأنثى، واستقامة المعنى في هذا الحديث أن تفسر البهمة بالسخلة على ما ذهب إليه بعض أهل اللغة. والشاة المسن ثنية كانت أو جذعة ضأنا كان أو معزى، أو يأول على أنه - صلى الله عليه وسلم - سأله عن عدد ما ولد، فأجابه بقوله ذلك، أراد أنه ولد بهمة واحدة. وهذا التأويل أوجه التأويلين وأقومه، على ما ذكرناه من أهل اللغة، وقد وجدت سناد هذا التأويل في بعض طرق هذا الحديث الذي أوردنا منه قوله للراعي: (ما ولدت) وهو قول الراوي: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت له مائة شاة، فلم يكن يرى أن يتجاوز عن المائة، فكلما جاءت بولد ذبح مكانها أخرى. والداجن: ما ألفت البيوت، واستأنسته، ومن العرب من يقولها بالباء. وفيه: (واقدحي من برمتكم). يقال: قدحت المرق أي: غرفته [312] ومنه القدح وهو المغرفة، سلك بالخطاب مسلك [التلوين] فخاطب به ربة البيت وفيه: (وإن برمتنا لتغط) يريد: تغلي فيسمع سوت الغليان والمغطغطة: القدر الشديد الغليان.

[4455] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي قتادة- رضي الله عنه-: (بؤس ابن سمية) أي: ما شدة ما يلقاه ابن سمية من الفئة الباغية، وابن سمية هو عمار بن ياسر، وسمية أمه. [4460] ومنه قول عمران بن حصين- رضي الله عنه- في حديثه: (فتلقتنا امرأة بين مزادتين أو سطيحتين). المزاد كالمزود، وهو وعاء يوضع فيه طعام السفر، ويحتمل أنهم جعلوا المزاد للماء تفريقا بين الوعائين في الاسم. والسطيحة: نوع من المزاد، وهي ما كان من جلدين قوبل أحدهما بالآخر فسطح عليه.

[4461] وفيه: (واديا أفيح) يريد واسعا، يقال: بحر أفيح: بين الفيح أي: واسع. وفيه: (يصانع قائده) أي: ينقاد له ويوافقه، والأصل في المصانعة: الرشوة، وهي: أن تصنع لصاحبك شيئا ليصنع لك شيئا. وفيه: (حتى إذا كان بالمنصف مما بينهما) المنصف بالفتح: نصف الطريق. [4465] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث العباس- رضي الله عنه-: (هذا حين حمى الوطيس) يريد: هذا حين اشتد الحرب، والوطيس: التنور.

[4466] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث البراء- رضي الله عنه-: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب) وقد ذكرنا فيما تقدم من الكتاب أن القول ربما صدر عن صاحبه مستقيما على وزان الشعر من غير تعمد، فلا يعد ذلك عليه شعرا، ثم إنه رجز، والرجز خارج من جملة ما يتعاطاه الشعراء على الفواصل الموضوعة في العروض. وأما وجه قوله: (أنا ابن عبد المطلب). فإنه على سبيل التعريف لنفسه لا على سبيل المباهاة، وقد رفع الله قدره وأجل أمره من أن يفتقر في إعلاء كلمته إلى من كان يعبد اللات والعزى، فضلا من أن يفتخر به، وقد كان أصحاب الأخبار من أهل الكتاب يتحدثون بأن النبي الموعود به في آخر الزمان من بني عبد المطلب وكذلك الكهان والحزءون، وأرى جماعة من أهل مكة مصداق ذلك في منامهم، فلعله أشار إلى أنه هو المخبر عنه من بني عبد المطلب. [4467] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديثه أيضا: (كنا إذا احمر البأس) يريد: اشتد الحرب، من قولهم: موت أحمر، إذا وصف بالشد، وكذلك سنة حمراء. [4468] ومنه ما رواه أبو هريرة- رضي الله عنه- في حديثه: (قد انتحر فلان). انتحر الرجل: إذا نحر نفسه. وفي المثل: سرق السارق فانتحر.

[4469] ومنه حديث عائشة- رضي الله عنها-: (سحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إنه ليخيل إليه أنه صنع الشيء وما صنعه) تريد: أنه كان يخيل إليه أنه أصابها ولم يكن هناك إصابة. وفيه: (مطبوب). المطبوب: المسحور، والطب: السحر، قيل: إنهم كنوا به عن السحر كما كنوا بالسليم عن اللديغ، وقيل: إنه من الأضداد يقال لعلاج الداء: طب، وسحر طب، وهو من أعظم الأدواء. قلت: ويحتمل أنهم استعاروا فيه الطبب [313]. وفيه: (وحفا أثره)، والطبيب هو: الفطن بالشيء الحاذق له. وفيه: (في مشط ومشاطة). المشاطة: ما يشبث من الشعر بالمشط، أو سقط عند الإمتشاط. وفيه: (وجف طلعة ذكر). الجف: وعاء الطلع، وهو الغشاء الذي على الوليع، ويروى: (في جب طلعة) أي: في جوفها، (وطلعة ذكر) على الإضافة، وأراد بالذكر فحل النخل. وفيه: (في بئر ذروان). ذروان: موضع، وفي كتاب مسلم: (بئر ذي أروان)، وأراها أصوب الروايتين؛ لأن أروان بالمدينة أشهر من (ذروان). وذو أروان على مسيرة ساعة من المدينة وفيه بني مسجد الضرار. وفيه: (وكأن نخلها رءوس الشياطين). أراد بالنخل: طلع النخل، وإنما أضافه إلى البئر؛ لأنه كان مدفونا فيها، وأما تشبيه ذلك برءوس الشياطين فلما صادفوه من الوحشة وقبح المنظر، وكانت العرب تعد صور الشياطين من أقبح المناظر؛ ذهابا في الصورة إلى ما يقتضيه المعنى. وقيل: أريد بالشياطين: الحيات الخبيثات العزمات، وأيا ما كان، فإن الإيمان بهذا النظير في الحديث منسوق على [...] الكتاب في التمثيل، قال الله تعالى: {طلعها كأنه رءوس الشياطين}.

[4470] ومنه حديث أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه-: (بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقسم قسما). القسم: مصدر قسمت الشيء فانقسم، سمي الشيء المقسوم وهو الغنيمة بالمصدر، والقسم بالكسر: الحظ والنصيب من الخير، مثل: طحنت طحنا، والطحن بالكسر: الدقيق، ولا وجه للمكسورة في هذا الحديث؛ لأنه يختص إذن [بفرد نصيب]، وهذا القسم كان في غنائم حنين، قسمها بالجعرانة. وفيه: (وقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل). خبت وخسرت على ضمير المخاطب. لا على ضمير المتكلم، وإنما رد الخيبة والخسران إلى المخاطب على تقدير عدم العدل منه؛ لأن الله- تعالى- بعثه رحمة للعالمين، وبعثه ليقوم بالعدل فيهم، فإذا قدر أنه لم يعدل فقد خاب المعترف بأنه مبعوث إليهم وخسر؛ لأن الله لا يحب الخائنين فضلا من أن يرسلهم إلى عباده، ويحتمل أن يكون التقدير: خبت وخسرت إذا اعتقدت أني لم أعدل، ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكره أن يضيف الأمر المكروه إلى نفسه، وإن كان على سبيل الحكاية، وإذا حكاه عن غيره أتى به معدولا عن صيغته تنزها في القول عما نزهه الله منه، فعدل به هاهنا عن نفسه إلى المخاطب؛ لأنه كان حقيقا بذلك، وإنما قال لعمر- رضي الله عنه-: (دعه فإن له أصحابا ...). الحديث. تنبيها على أنهم يصلون، وأنه نهى عن قتل المصلين. فإن قيل: أو لم يقل في إحدى الروايتين من هذا الحديث: (لئن أدركتهم لأقتلنهم) فكيف التوفيق بين القضيتين؟ قلنا: إنما يحل قتلهم بإظهار الخلاف والمفارقة عن الجماعة وترك الطاعة بالخروج على الإمام، والتألب لقتال من خالفهم في رأيهم، ولم يوجد ذلك يومئذ، وإنما وجد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بسبع وعشرين [314] سنة. وفيه: (يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم) يريد: أنه لا يخلص عن ألسنتهم وآذانهم إلى قلوبهم وأفهامهم. وفيه: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) أي: يمرون عليه مرا سريعا بحيث لا يتمكن الأمر والنهي عنهم. والدين: الطاعة، واستعير للشريعة؛ أي لا يدينون دين الحق. والرمية: الصيد يرمي، شبههم في ذلك بالرمية لاستيحاشهم عما يرمون به من القول النافع، ثم وصف الشيء الممثل به في سرعة تخلصه وتنزهه عن التلوث بما يمر عليه من فرث ودم، ليبين المعنى المضروب له، والرصاف العقب الذي يلوي فوق الرعظ، وهو مدخل النصل واحدها رصفة والمصدر منه الرصف بالتسكين أيضا، ونضى السهم: ما يأتي الريش في النصل، وقال أبو عمرو: النضى: نصل السهم، والأول أشهر وأشبه، والتفسير الذي في الحديث، فالأشبه أنه من قول بعض الرواة أدرجه في الحديث وفيه نظر؛ لأن

النضى إذا أريد به القدح فإنه يراد منه القدح أول ما يكون قبل أن يعمل، ولا وجه هاهنا، والقذذ: ريش السهم، الواحدة قذة. وفيه: (مثل البضعة يدردر) أي تجئ وتذهب، ومثله تمرمر وترحرح. وفيه: (إن من ضئضئ هذا). الضئضئ: الأصل، ومثله الضفئن. قال الكميت: وجدتك في الضفئن من ضئضئ ... أحل الأكابر منه الصغار والمراد في الحديث منه أن قوما يكون نعتهم هذا، يخرجون في مستقبل الزمان من أصله، أي: من الأصل الذي هو منه في النسب أو من الأصل الذي هو عليه في المذهب، ومن ذهب إلى أنهم يتولدون منه فقد أبعد؛ إذ لم يذكر في الخوارج قوم من نسل ذي الخويصرة، ثم إن الزمان الذي قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا القول إلى أن نابذ المارقة عليا- رضي الله عنه 0 - وحاربوه لا يحتمل ذلك، ولقد كان فيهم من بني تميم الجم الغفير. وفيه: (لأقتلنهم قتل عاد) أراد بقتل عاد الاستئصال بالإهلاك فإن عادا لم تقتل، وإنما أهلكت بالصيحة فاستؤصلت بالإهلاك. [4771] منه قول أبي هريرة- رضي الله عنه- في حديثه: (فإذا الباب مجاف) مجاف أي: مردود، من قولك: أجفت الباب أي: رددته. [4472] وفي حديثه الآخر: (إنكم تقولون أكثر أبو هريرة) أي: أكثر الرواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، (والله

الموعد) أي: لقاء الله الموعد، يعني به يوم القيامة، فإن الأسرار تنكشف هنالك (وإن إخواني من المهاجرين ...) الحديث. كان أهل مكة يتعيشون من التجارة، فلما قدموا من المدينة أخذوا في مطلب معايشهم من وجوه التجارات، وأما الأنصار فإنهم كانوا يعملون في نخيلهم، وهي أموالهم، وأموال أهل المدينة المواضع التي فيها نخيلهم. [4473] ومنه حديث جرير- رضي الله عنه-: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ألا تريحني من ذي الخلصة). ذو الخلصة: بيت [315] لخثعم كان يدعى اليمامة، والخلصة اسم طاغيتهم التي كانت فيه.

[4478] ومنه حديث أنس- رضي الله عنه- في حديثه: (وصارت المدينة مثل الجوبة) الجوبة: الفرجة في السحاب، وهي أيضا موضع ينجاب عن الحجارة في الحرة. وقيل: الجوبة أيضا الحفرة الوسيعة المستديرة، والجوبة: الترس لاستدارتها. والمعنى أن المطر أو الغيم انكشف عما يحاذيها، ويكون فيه حذف، والتقدير: صار جو المدينة مثل الجوبة، ويؤيده ما ورد في رواية أخرى عن أنس: (وصارت المدينة كالإكليل) يريد أن الغمام تكللها. وفيه: (وسال الوادي قناة شهرا) أي: سال الوادي سائلا مثل القناة، ولما كان من شأن القناة الاستمرار على الجري حسن أن يجعل حالا عن الوادي، ويجوز فيه المصدر، أي: سيلان القناة، ويجوز فيه التمييز أي: قدر قناة، وأرى في هذا الوجه الذهاب إلى الرمح في القناة أتم وأبلغ من الذهاب إلى القناة التي تحفر؛ لأن من حق التمييز بيان الشيء المشتبه أو المقدار المشتبه، والتمييز في هذا الموضع بالقناة التي تحفر لا يقع موقع التمييز بالرمح؛ لأن القنى تختلف مقاديرها بحسب اختلاف منابعها وموادها، فتتفاوت تفاوتا بينا، ثم إن الأشبه في السيل أن تقدر بالرمح، وقلما بلغت القنى في كثرة مائها مبلغ السيول؛ وإذا اعتبرنا هذا المعنى فالتمييز فيه أوجه من الحال والمصدر. وفيه: (فأقلعت) الإقلاع: الكف عن الشيء، يقال: أقلع المطر، وأقلعت الحمى أي: أفصمت، والضمير فيه للسحاب، فإنها جمع سحابة. [4479] ومنه حديث جابر- رضي الله عنه-: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب استند ...). الحديث في بعض نسخ المصابيح: استسند، وليس بشيء؛ وإنما هو استند، يقال: سندت إلى الشيء، واستندت إليه بمعنى.

[4480] ومنه حديث سلمة بن الأكوع- رضي الله عنه- (أن رجلا أكل عند النبي - صلى الله عليه وسلم - بشماله). الرجل يقال له: بشر بن راعي العير: وقيل: بسر بالسين المهملة، وهو من أشجع. [4481] ومنه قول أنس- رضي الله عنه- في حديثه: (فركب النبي - صلى الله عليه وسلم - فرسا لأبي طلحة بطيئا، وكان يقطف) قطفت الدابة: إذا مشت مشيا خفيفا، وهي القطوف، وقيل: هي البطيء، وقد دل لفظ أنس: (وكانت تقطف) على أنها صفة زائدة على البطئ مغايرة له. وقوله: (بحرا) أي: واسع الجري وقد ذكرناه. [4482] ومنه قول جابر- رضي الله عنه- في حديثه (كأنهم أغروا بي) أغري به أي: أولع به، والاسم: الغراء بالفتح والمد، وأغرت الكلب بالصيد، وأغريت بينهم، والاسم: الغراه. وفيه: (أدى الله عن والدي أمانته): يريد دينه؛ لأنه ائتمن على أداته، قال الله تعالى {وتخونوا أماناتكم} أي: ما ائتمنتم عليه.

[4483] ومنه حديث الآخر: (إن أم مالك كانت تهدي للنبي - صلى الله عليه وسلم - في عكة.) الحديث. العكة بالضم: يقال لمثل الشكوة فيها السمن. وأم مالك: في الصحابيات اثنتان: أم مالك البهزية، وهي التي حدثت الفينة، وأم مالك الأنصارية هي التي علمها [316] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تقول في دبر كل صلاة: سبحان الله عشرا، والحمد لله عشرا، والله أكبر عشرا، وصاحبة العكة هي البهزية. وقد [...] البهزية ذكرت كل واحدة منهما في بابها من الكنى، فلا أدري أهي واحدة اختلف فيها لاختلاف الكنيتين، أم هما اثنتان؟ [4484] ومنه قول أنس- رضي الله عنه- في حديثه: (وترك سؤرا) سؤرا بالهمز أي: بقية، فإن قيل: كيف تستقيم هذه الروايات من صحابي واحد، ففي إحداها يقول: (وترك سؤرا)، وفي الأخرى يقول (فجعلت أنظر: هل نقص منها شيء) وفي الثالثة: (ثم أخذ ما بقى فجمعه ...). الحديث؟ قلنا: وجه التوفيق فيهن هين بين، وهو أن نقول: إنما قال: (فترك سؤرا) باعتبار أنهم كانوا يتبادلون

منه، فما فضل منهم سماه سؤرا، وإن كان بحيث يحسب أن لم ينقص منه شيء، أو أراد بذلك ما فضل عنهم بعد أن فرغوا منه. وقيل: إنه دعا فيه بالبركة، وفي الثانية يمكن على ما وجده عليه بعد الدعاء، وعوده إلى المقدار الذي كان عليه قبل التناول، والثالثة لا التباس فيها على ما ذكرناه. وفيه: (زهاء ثلثمائة) يقال: زهاء مائة أي: قدر مائة. [4486] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه: (حي على الطهور المبارك) يريد: هلم وأقبل عليه فتحت الياء لسكونها وسكون ما قبلها، والعرب تقول: حي على الثريد، وهو كفعل الأمر. [4487] ومنه قول أبي قتادة الأنصاري- رضي الله عنه- في حديثه: (لا يلوي أحد على أحد). أي: لا يعطف عليه ولا يصرف همه إليه، بل يمشي كل واحد على حدته، من غير أن يراعي الصحبة؛ لاهتمامه بطلب الماء. وفيه: (حتى ابهار الليل): ابهار الليل ابهيرارا أي: انتصف، ويقال: ذهب معظمه وأكثره، وابهار علينا الليل، أي: طال، والبهرة بالضم: وسط الليل، وكذلك بهرة الوادي. وفيه: (فتكابوا عليه) أي: ازدحموا على الميضأة مكبا بعضهم على بعض. وفيه (أحسنوا الملأ) الملأ: الخلق، يقال: ما أحسن ملأ بني فلان أي: عشرتهم وأخلاقهم، وفي

الحديث: (أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه حين ضربوا الأعرابي الذي بال في المسجد): (أحسنوا أملاءكم) أي: أخلاقكم. وفيه (فأتى الناس جامين). أي: مستريحين قد ذهب عنهم إعياؤهم، من الجمام بالفتح وهو الراحة، وأكثر ما يستعمل ذلك في الفرس. و (رواء) بالكسر، جمع (راو)، وهو الذي روي من الماء.

[4491] ومنه قول أبي حميد الساعدي- رضي الله عنه- في حديثه: حتى ألقته بجبلي طيئ). جبلا طيئ أحدهما: سلمى والآخر أجأ، على (فعل) بالتحريك، وهما بأرض نجد. ووادي القرى لا يعرب الياء من الوادي؛ فإن الكلمتين جعلتا اسما واحدا. [4492] ومنه حديث أبي ذر- رضي الله عنه-: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إنكم ستفتحون مصر، وهي أرض يسمى فيها القيراط). قلت: كنت أرى هذا الحديث مشكلا جدا؛ لأن تسمية القيراط لم تكن مختصة بأرض مصر؛ بل شاركهم فيها البدو والحضر من بلاد العرب، وقد تكلم فيها نبي الله - صلى الله عليه وسلم -[317] في عدة أحاديث، منها قوله: (من اتبع جنازة مسلم إيمانا واحتسابا وكان معه حتى يصلي عليها ويفرغ من دفنها فإنه يرجع من الأجر بقيراطين). ومنها حديثه الآخر: (من اقتنى كلبا ليس بكلب ضار ولا ماشية إلا نقص من عمله كل يوم قيراطان) ومنها حديثه الآخر: (كنت أرعى لأهل مكة على قراريط) ولم أجد أحدا ممن يتعنى بتناول أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - تعرض لذكره في المشكلات، فضلا عن كشف الغطاء، حتى وحدت أبا جعفر الطحاوي- شكر الله سعيه- قد ذكر في كتابه الموسوم بمشكل الآثار- أن الإشارة بذلك وقعت إلى كلمة عور استعملها المصريون في المسابة وإسماع المكروه، فيقولون: أعطيت فلانا قراريط أي: أسمعته المكروه، ويقولون: اذهب لا أعطيك قراريطك أي: سبابك. ومع اطمئنان قلبي إلى تأويل الطحاوي؛ لكونه من جلدة المصريين وهو أعلم بلهجة أهل بلدته، فلقد زادني وضوحا ما وقع لي من التناسب بين قوله هذا وبين التوصية بهم؛ وذلك أنه أشار إلى أن القوم في لسانهم بذاء، فأحسنوا إليهم بالصفح والعفو، ولا يحملنكم حدة لسانهم فيما يذكرون من المساوئ على الإساءة إليهم، فإن لهم ذمة ورحما. قلت: أما الذمة فإن المراد منها الزمام الذي حصل من قبل إبراهيم بن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله- من مارية

القبطية، فإنها كانت من أهل مصر. وأما الرحم فمن قبل أم [آجر] إسماعيل- عليهما السلام- وإن كانت الرواية على الوجه الذي ذكر من التردد فإن الصهر يختص بمارية، والذمة [بآجر]. وقد وجدت في بعض الروايات: (فإن لهم قرابة وصهرا). وفيه: (فإذا رأيت رجلين يختصمان في موضع لبنة، فاخرج منها). فإن ذلك راجع إلى أعلام النبوة التي كوشف بها من الغيب في وقوع الفتن بها، فأشفق على أبي ذر فأمره بالخروج منها كي لا يستضر بالمقام فيهم، وقد ظهر ذلك في آخر [ولاية عثمان] رضي الله عنه- حين [عيبوا] عليه ولاية عبد الله ابن سعد بن أبي سرح أخيه من الرضاعة فكان منهم ما كان، ثم أردفت بالفتنة التي قتل فيها محمد بن أبي بكر، وهو وال عليها من قبل علي- رضي الله عنه- فاختبأ حين أحس بالشر، في جوف جمار ميت فرموه بالنار. [4493] ومنه حديث حذيفة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (في أصحابي) أو قال: (في أمتي اثنا عشر منافقا ...) الحديث. قلت: صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - المعتد بها هي المقترنة بالإيمان، ولا يصح أن تطلق إلا على من صدق في إيمانه، وظهر منه أمارته، دون من أغمض عليهم بالنفاق وإضافتها إليهم لا تجوز إلا على المجاز لتشبههم بالصحابة، وتسترهم بالكلمة، وإدخالهم أنفسهم في غمارهم؛ ولهذا قال في أصحابي، ولم يقل من أصحابي، وذلك مثل قولنا: إبليس كان في الملائكة أي: في زمرتهم ولا يصح أن يقال: كان من الملائكة، فإن الله- سبحانه وتعالى- يقول: {كان من الجن} وقد أسر بهذا القول إلى خاصته وذوي المنزلة من أصحابه، أمر هذه الفئة المشئومة المتلبسة لئلا [318] [يقبلوا منهم الإيمان، ولا يأمنوا من قبلهم المكر والخداع، ولم يكن يخفى على المحفوظين شأنهم] لاشتهارهم بذلك في الصحابة؛ إلا أنهم كانوا لا يواجهونهم بصريح المقال أسوة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان أعلمهم بأسمائهم وذلك لأنه كان ليلة العقبة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - مرجعه من غزوة تبوك، حين هموا بقتله، ولم يكن على العقبة إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعمار يقود وحذيفة يسوق به، وكان منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نادى (أن خذوا بطن الوادي، فهو أوسع عليكم، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أخذ الثنية) فلما سمعه أولئك النتنى طمعوا في المكر به فاتبعوه متلثمين، وهم اثنا عشر رجلا فسمع رسول الله خشفة القوم من ورائه، فأمر حذيفة أن يردهم، فاستقبل حذيفة وجوه دوالهم بمحجن كان معه، فضربها ضربا فرعبهم الله حين أبصروا حذيفة، فانقلبوا مسرعين على أعقابهم حتى خالطوا الناس، وأدرك حذيفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لحذيفة: (هل عرفت أحدا منهم) قال: لا، فإنهم كانوا متلثمين، ولكن أعرف رواحلهم، قال: (إن الله أخبرني بأسمائهم وأسماء آباءهم، وسأخبرك بهم- إن شاء الله- عند الصباح)، فمن ثم كان الناس يراجعون حذيفة في أمر المنافقين، وقد ذكر عن حذيفة أنهم كانوا أربعة عشر، فتاب اثنان، ومات اثنا عشر على النفاق على ما أخبر به الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم -. وقد اطلعت

على أسمائهم في كتب حفاظ الحديث مروية عن حذيفة، غير أني وجدت في بعضها اختلافا فلم أر أن أخاطر بديني فيما لا ضرورة لي. والدبيلة في الأصل: الداهية، واستعمل في قرحة رديئة، ربما تصلب مادتها حتى تصير مثل الحصى والرمل، والجص [ودوق] العظام وفتات الخشب ونحوها. وفيه: (حتى تنجم) نجم الشيء، ينجم بالضم: إذا ظهر وطلع. [4494] ومنه حديث جابر- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من يصعد الثنية ثنية المرار) منهم من يرويه بالرفع فيجعل من الاستفهام، ومنهم من يجعله للشرط فيحرك الدال بالكسر عند الوصل، وكأن الشرط أشبه وأمثل. وفيه: (ثم تتام الناس) يقال: تتاموا أي: جاءوا كلهم وتموا، وفي الحديث: (فتامت إليه قريش).

[4497] ومنه حديث أنس- رضي الله عنه- في البراق (فاستصعب عليه) يريد: أنه لم يمكنه من الركوب، يقال: استصعب عليه الأمر أي: صعب. وفيه: (فما ركبك أحد أكرم على الله منه) وجدنا الرواية في أكرم بالنصب، ولعل التقدير: فما ركبك أحد كان أكرم على الله. وفيه: (فارفض عرقا) أي فاض، وارفضاض الدمع ترششها، وكل ذاهب متفرق: مرفض. [4499] ومنه قول [319] يعلى بن مرة الثقفي- رضي الله عنه- في حديثه: (فلما رآه البعير جرجر). الجرجرة: صوت تردد البعير في حنجرته. يقال: جرجر البعير فهو جرجار، كما يقال: ثرثر الرجل فهو ثرثار.

وفيه: (ما رأينا منه ريبا بعدك) أي: شيئا تكرهه، تقول: رابني فلان إذا رأين منه ما يريبك وتكرهه وريب المنون: حوادث الدهر. [4500] ومنه قول ابن عباس- رضي الله عنهما- في حديثه: (فثع ثعة): ثع الرجل ثعا أي: قاء. [4504] ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-: (جاء ذئب إلى راعي غنم ...) الحديث. الراعي قيل: إنه أهبان بن أوس الخزاعي، ويقال له: مكلم الذئب.

[4508] ومنه حديث جابر- رضي الله عنه- (أن يهودية من أهل خيبر سمت شاة مصلية)، وفي بعض طرقه (أو برقا مسموطا) المصلية: المشوية، من قولك: من قولك: صليت اللحم إذا شويته، والمسموط: هو الذي كشط عنه شعره. والمرأة قيل: إنها زينب بنت الحارث، وهي بنت أخي بن أبي مرحب [لصفية بنت حيي]، [جاءت] بشاة مصلية وسمتها وأكثرت في الكتف والذراع؛ لما بلغها أنها أحب أعضاء الشاة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

وفيه: (فعفا عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يعاقبها). قلت: وفي هذا اختلاف: إذا الرواية وردت بأنه أمر بقتلها فقتلت، والتوفيق بين الروايتين أنه عفا عنها في أول الأمر، فلما مات بن البراء بن معرور من الأكلة التي ابتلعها أمر بها فقتلت مكانه، وفي الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتهس منها فلما أخبر بكونها ذلك في أكلتي التي أكلت، فما منعني أن ألفظها إلا أني أعظمت أن أنغصك طعامك، فلما أسغت ما في فيك لم أكن لأرغب بنفسي عن نفسك، وروى أن بشرا لم يقم من مكانه حتى عاد لونه مثل الطيلسان، وما طله وجعه حتى كان لا يتحول إلا ما حول. [4509] ومنه قول القائل في حديث سهل بن الحنظلية- رضي الله عنه-: (فإذا أنا بهوازن على بكرة أبيهم) يقال: جاءوا على بكرة أبيهم للجماعة إذا جاءوا بقضهم وقضيضهم، فلم يتخلف منهم أحد. وليس هناك بكرة في الحقيقة.

باب الكرامات

ومن باب الكرامات (من الصحاح) [4513] قول أبي بكر- رضي الله عنه- في حديث ابنه عبد الرحمن- رضي الله عنه- (يا أخت بني فراس): كانت أم رومان أم عبد الرحمن وعائشة- رضي الله عنهم- من بني فراس بن غنم بن مالك بن النضر بن كنانة، والمنتمون إلى النضر بن كنانة كلهم قريش.

=====

ومن باب الذي يليه (من الصحاح) [4522] قول عائشة- رضي الله عنها-: (وبين سحرى ونحرى). السحر الرتة. تريد ما حاذى الرئة من جسدها، قال أبو عبيد: هو ما لصق الحلقوم من أعلى البطن، وقد تحرك الحاء من الكلمتين كما تحرك في النحر لمكان حروف الحلق.

[4524] ومنه قول أنس- رضي الله عنه- في حديثه: (وما نفضنا أيدينا عن التراب حتى أنكرنا قلوبنا). يريد: أنهم لم يجدوا قلوبهم على ما كانت عليه من الصفاء والألفة والرقة، لانقطاع مادة الوحى وفقدان ما كان بيدهم من قبل الرسول - صلى الله عليه وسلم - من التأييد والتعليم. ولم يرد أنهم لم يجدوها [320] على ما كانت عليه من التصديق.

مناقب قريش وذكر القبائل

وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-: (ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي) يريد: ما ترك من أموال الفئ التي كانت يتصرف فيها تصرف الملاك، ولم يكن ذلك لغيره ونفقة كانت بعده تتعلق بحياة كل واحدة منهم؛ لكونهن محبوسات عن النكاح في الله وفي رسوله، وبقى حكم نكاح النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهن باقيا مدة بقائهن، فوجب لهن النفقة في مال الفئ وجوب نفقة النساء على أزواجهن. وأما نفقة عامله فإنها تتعلق بعامة ذلك، وهو العامل الذي استعمله على مال الفئ فاستحق العمالة بقدر عمله، ولم يكن أخذها، فاستثناها من مال الفئ، وإنما لم يجعل نفقة أمها المؤمنين في جملة ما تصدق به؛ لأنها كانت واجبة لهن على ما ذكرنا، ثم لكرامتهن، فإنهن من أهل بيت النبوة، وكان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يتنزه عن تناول الصدقة، وإن كان المتصدق متبرعا. ومن مناقب قريش وذكر القبائل (من الصحاح) [4534] قوله - صلى الله عليه وسلم -: في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-: (الناس تبع لقريش في هذا الشأن) يريد الخلاقة. وقوله: (وكافرهم تبع لكافرهم) وإذ قد علمنا أن أحدا من قريش لم يبق بعده على الكفر، علمنا أن المراد منه أن الإسلام لم ينقصهم مما كانوا عليه في الجاهلية من الشرف، فهم سادة في الإسلام كما كانوا قادة في الجاهلية.

[4537] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث معاوية- رضي الله عنه- (إلا كبه الله على وجهه، ما أقاموا الدين) يحتمل أنه أراد بالدين الصلاة لما في الحديث: (ما أقاموا الصلاة) وإن أريد به الدين بأصوله وتوابعها فإن الكب ينبغي أن يكون متعلقا بإقامة الدين لا يكون الأمر في قريش؛ فإن منهم من غير وبدل، ولم يصرف عنه الأمر. [4538] ومنه حديث جابر بن سمرة- رضي الله عنه-: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[يقول] (لا يزال الإسلام عزيزا إلى اثنى عشر خليفة كلهم من قريش) السبيل في هذا الحديث وما يعتقبه في هذا المعنى أن يحمل على المقسطين منهم فإنهم هم المستحقون لاسم الخلافة على الحقيقة، ولا يلزم أن يكونوا على الولاء، وإن قدر أنهم على الولاء فإن المراد منه المسمون بها على المجاز. [4540] ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (قريش والأنصار وجهينة ومزينة وأسلم وغفار وأشجع موالي) الحديث: (موالي) يروى على الإضافة أي: أحبابي وأنصاري ويروى موال بالتنوين أي: بعضهم لبعض أحباء وأنصار، ولا ولاء لأحد عليهم إلا لله ولرسوله. [4541] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- أيضا (والحليفين أسد وغطفان)، إنما يقال لهم الحليفان؛ لأنهم تحالفوا على التناصر، ويقال أيضا لبني أسد وطيئ: الحليفان، وكذلك لبني أسد

وفزارة، لأن بني أسد لما أجلتهم خزاعة من الحرم خرجت فحالفت طيئا، ثم حالفت بني فزارة. وقد ذكر زهير بن أبي سلمى الأحلاف في شعره، وعنى بها أسدا [321] وغطفان. وأسد أبو قبيلة من مضر وهو أشد بن ربيعة بن نزار، وهم الذين [....] غطفان وفي بطون قريش أيضا أسد، وهو أسد بن عبد العزي ابن قصي وهم [....] خديجة- رضي الله عنها- ومنهم الزبير- رضي الله عنه- وفي بني خزيمة أيضا أسد بن خزيمة. (ومن الحسان) [4545] حديث ألي عامر الأشعري- رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (نعم الحي الأسد، والأشعريون) الأسد بسكون السين أبو حي من اليمن من سبأ بن حمير، ويقال لهم: الأزد، وهو السين أفصح، وهما أزدان: أزد شنوءة وأزد عمان، قال الشاعر: وكنت ذكي رجلين رجل: صحيحة .... ورجل بها ريب من الحدثان فأما الذي صحت فأزد شنوءة .... وأما الذي شلت فأزد عمان و (أزد) الذي في حديث أنس الذي تلو هذا الحديث هم أزد شنوءة قوله: (أزد الله) يريد أنهم جنده وأنصار دينه، فقد أكرمهم الله بذلك فهم يضافون إليه. [4548] ومنه حديث ابن عمر- رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (في تثقيف كذاب ومبير) قد أشارت

إليهما أسماء بنت أبي بكر أم عبد الله بن الزبير- رضي الله عنهم- في حديثها، وأرادت بالكذاب المختار أبن أبي عبيد بن مسعود الثقفي، أبوه من جلة الصحابة، أمره عمر أمير المؤمنين- رضي الله عنه- على جيش العراق، وإليه ينسب يوم جسر أبي عبيد، وقد استشهد يومئذ وأما ابنه المسمى بالمختار، فلم يكن مختارا؛ بل كان متدلسا مشعوذا يطلب الدنيا بالدين، يظهر الخير ويضمر الشر، حتى استبان منه ما كان يسر؛ لضعف عقله وسوء سيرته، شهد بذلك عليه الأعلام من التابعين، كالشعبي، وسويد بن غفلة، وغيرهما. ومن العجب أنه كان يبغض عليا- رضي الله عنه-، قد عرف ذلك منه في تارات أحواله، وان يدعى موالاته، وقد نقل عن علي- رضي الله عنه- أنه قال فيه: ما له قاتله الله، ولو شق عن قلبه الآن لوجد ملآن من حب اللات والعزى، فلما قتل الحسين- رضي الله عنه- دعا إلى نفسه متسترا بطلب ثأره، فلما تمكن من الأمر استخف بمن طاوعه من الأغماد، وادعى أن الملائكة تأتيه بخبر السماء، وأفسد على قوم من المتشيعة عقائدهم، فهم ينسبون إليه في آرائهم الفاسدة وأقاويلهم الزائعة يقال لهم: المختارية. [4550] ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-: (كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاء رجل أحسبه من قيس ..) الحديث. هذا الحديث يرويه عن أبي هريرة مينا مولى لعبد الرحمن بن عوف، وله أحاديث

باب مناقب الصحابة

مناكير عن أبي هريرة، وإلحاق لفظ المنكر به من تزيدات بعض أهل المعرفة بالحديث؛ لأن المؤلف لو كان يعلم أنه منكر لم يكن ليتعرض له، وقد التزم الإعراض عن ذكر ما كان منكرا في عنوان الكتاب. ومن باب مناقب الصحابة (من الصحاح) [4556] حديث أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) نصف الشيء والنصيف أيضا مكيال وهو دون المد. والضمير في (نصيفه) راجع إلى أحدهم [322] لا إلى المد، والمعنى أن أحدكم لا يدرك بإنفاق مثل أحد ذهبا من الفضيلة ما أدركه أحدهم بإنفاق مد من الطعام أو نصيف منه.

[4559] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عمران بن حصين- رضي الله عنه- (ثم إن بعدهم قوما يشهدون ولا يستشهدون). في أكثر نسخ المصابيح: (ثم إن بعدكم)؛ وليس بسديدا؛ وإنما الصواب: بعدهم. وفيه: (ويظهر فيهم السمن): كنى به عن الغفلة وقلة الاهتمام بأمر الدين؛ فإن الغالب على ذوي السمانة أن لا يهتموا بارتياض النقوس؛ بل معظمه همهم تناول الحظوظ، والتفرغ للدعة والنوم.

باب مناقب أبي بكر- رضي الله عنه-

ومن باب مناقب أبي بكر- رضي الله عنه- (من الصحاح) [4566] حديث أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن من أمن الناس على ..) الحديث. يريد: أن من أبذلهم وأسمحهم [من من عليه منا، لا من من عليه منة] إذ ليس لأحد أن يمتن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم إنه ورد مورد الإحماد، وإذا حمل على معنى الامتنان عاد ذما على صاحبه؛ لأن المنة تهدم الصنيعة. وفيه: (لا يبقين في المسجد خوخة). الخوخة: كوة في الجدار تؤدى الضوء، وقال الليث: ناس من أهل اللسان يسمون هذا الباب الذي تسميه العرب المخترق: خوخة، فالخوخة على هذا ممر بين بيتين، أو دارين ينصب عليه باب.

وكان هذا القول منه - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي توفى فيه في آخر خطبة خطبها، ولا خفاء بأن ذلك تعريض بأن أبا بكر هو المستخلف بعده، وهذه الكلمة إن أريد بها الحقيقة فلذلك؛ لأن أصحاب المنازل اللاصقة بالمسجد قد جعلوا من بيوتهم مخترقا يمرون فيه إلى المسجد، أو كوة ينظرون منها إليه، فأمر بسد جملتها سوى خوخته تكريما له بذلك أولا، ثم تنبيها للناس في ضمن ذلك على أمر الخلاقة، حيث جعله مستحقا لذلك دون الناس، وإن أريد به المجاز فهو كناية عن الخلافة، وسد أبواب المقالة دون التطرق إليها والتطلع عليها، وأرد المجاز فيه أقوى، إذ لم يصح عندنا أن أبا بكسر كان له منزل بجنب المسجد، وإنما كان منزله بالسنح من عوالي المدينة، ثم إنه مهد المعنى المشار إليه وقرره بقوله: (ولو كنت متخذا خليلا ..) الحديث؛ ليعلم أنه أحق الناس بالنيابة عنه، وكفانا من الحجة على هذا التأويل تقديمه إياه في الصلاة، وإباؤه كل الإباء أن يقف غيره ذلك الموفق، والله أعلم. [4570] ومنه حديث عمرو بن العاص- رضي الله عنه- (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه على جيش ذات السلاسل). السلاسل: رمل ينعقد بعضه على بعض وينقاد، وتلك الجيش لما كانت موجهة إلى أرض بها رمل على ذلك النعت أضيفت إليها، أو كانت ملاقاة الفريقين هناك، فسميت الغزوة بها، ولقد وجدت في بعض الكتب أنها سميت ذات السلاسل؛ لأن الفئة المغزوة وقفت لهم في الصف، وقد شد بعضهم بعضا بالسلاسل، والظاهر أنه قول تقوله مسندا إلى ما تخيله، ويدل عليه أن الراوي جعل ذات السلاسل الجيش الغازية لا المغزوة؛ ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبعث [323] في زمانه جيشا إلى فارس، ولم يبعث إلى الروم أيضا إلا في غزوة مؤته، وهو الذي ادعاه من ربط البعض إلى البعض عند المصاف من صنيع إحدى الفئتين، فأما العرب فإنها لم تكن تعمل ذلك. [4572] ومنه حديث ابن عمر- رضي الله عنه-: (كنا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نعدل بأبي بكر أحدا ..) الحديث. قيل: إنه عنى بذلك مشيخة الصحابة والمستحضرين للرأي والمشورة.

قلت: وليس في هذا القول ما ينكر عليه، وإنما الإشكال فيما بعده، وهو قوله: (ثم نترك أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نفاضل بينهم)، فمن هاهنا أحوج المؤول إلى هذا التأويل؛ لأن ابن عمر مع علمه وفضله وزهده وملازمته صحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ليقول هذا القول إلا من هذا الوجه، وقد عرف أن أل بدر وأهل بيعة الرضوان وأصحاب العقبتين الأولى والثانية يفضلون غيرهم، وكذلك علماء الصحابة وذوو الفهم منهم. والمتبتلون عن الدنيا.

مناقب عمر- رضي الله عنه-

ومن مناقب عمر- رضي الله عنه- (من الصحاح) [4581] حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدثون ..) الحديث. المحدث في كلامهم هو: الرجل الصادق الظن، وهو في الحقيقة من ألقى في روعه شيء من قبل الملأ الأعلى، فيكون كالذي حدث به. وفي قوله: (وإن يك في أمتي أحد فهو عمر) لم يرد هذا القول مورد التردد، فإن أمته أفضل الأمم، وإذا كانوا موجودين في غيرهم من الأمم فبالحرى أن يكونوا في هذه الأمة أكثر عددا وأعلى رتبة، وإنما ورد مورد التأكيد والقطع، ولا يخفى على ذي الفهم محمله بقول الرجل: إن يك لي صديق فإنه فلان، يريد بذلك اختصاصه بالكمال في صداقته، لا نفي الأصدقاء. [4582] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث سعد بن أبي وقاص- رضي الله عنه-: (إيه يا ابن الخطاب): إيه: اسم سمي به لفعل؛ لأنه معناه الأمر، تقول للرجل إذا استزدته من حديث أو عمل: إيه بكسر الهاء، فإن وصلت نونت. قلت: إيه حديثنا، وقد ذكرناه في حديث عمرو بن الشريد لما استزداه من شعر

أمية بن أبي الصلت وإذا أسكته وكففته قلت: إيها عنها، ومن حقه في هذا الحديث أن يكون إيها أي: كف يا بن الخطاب عن هذا الحديث. ورواه البخاري في كتابه مجرورا منونا، الصواب فيه إيها. وروى مسلم هذا الحديث في جامعه وليس لهذه الكلمة في روايته ذكر. قلت: وفي قوله (ما لقيك الشيطان سالكا فجا ..) الحديث تنبيه على صلابته في الدين واستمرار حاله على الجد الصرف والحق المحض، حتى كان بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كالسيف الصارم والحسام القاطع، إن أمضاه مضى، وإن كفه كف، فلم يكن له على الشيطان سلطان إلا من قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان هو كالوازع بين يدي الملك، فهذا كان الشيطان ينحرف عن الفج الذي سلكه، ولما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - رحمة مهداة إلى العالمين، مأمور بالعفو عن المذنبين، معنيا بالصفح عن الجاهلين- لم يكن ليواجههم فيها لا يحمده من فعل [324] مكروه أو سوء أدب بالفظاظة والغلظة والزجر [البليغ، إذا لا يتصور الصفح والعفو مع تلك الخلال] فلهذا تسامح هو فيها، واستحسن استشعارهن الهيبة من عمر- رضي الله عنه-. [4586] ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (بينا أنا نائم رأيتني على قليب عليها دلو فنزعت منها ما شاء الله ..) الحديث. القليب البئر التي لم تطو، وضدها الطوى، وهي المطوية بالحجارة والآجر، وأنا أرى القليب دون الطوى، والله أعلم.

ليعلم أن همم أهل الدين موقوفة على المعاني المطلوبة دون القوالب المعمولة، وتأويل هذه الرؤيا راجع إلى السياسات الدينية التي تحتمل الاستخلاف، وتتم به دون الأنباء النبوية، لا تقبل الاشتراك، ولهذا لم تختلف صيغة الرؤيا في حال النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي حال الشيخين. وفيما ذكره عن حال كل واحد من الشيخين إشارة إلى قصر مدة الأول منهما، والاضطراب الذي يوجد في زمانه من قبل أهل الردة، وإلى امتداد زمان خلافة الثاني، واتساع رقعة الإسلام وكثرة الفتوح، وعلى هذا النحو أوله جمع من أهل العلم، وقد بقيت عليهم بقية وهي إهمالهم بيان قوله (والله يغفر له ضعفه). والعباد وإن لم يخل منهم أحد في حقوق الله عن تقصير ما، فإن دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في معرض ما ذكر عنه مشعر بشيء من التقصير، ولم يكن منه- بحمد الله- تقصير فيما تولاه، كيف وقد قام بالأمر- على فترة من لناس، وارتداد أقوام من العرب واتباعهم ذا الخمار ومسيلمة وطليحة، وامتناع آخرين عن أداء الصدقة إلى الإمام- أحسن قيام، ودبره أتم تدبير، وبه كفى الله المؤمنين شرهم، وكف به بأسهم واستأصل شأفتهم، حتى ضرب الدين بجرانه، واستقر الحق في نصابه. والوجه في ذلك أن نقول: إنه لما ذكر ضعف نزعه الذي يؤول إلى ما حدث في زمانه على ما ذكرنا دعا له بالمغفرة في كل ضعف بتداركه في أمره ذلك، أو أخبر بأن الله قد غفر له ضعفه؛ ليتحقق عند السامعين أن الضعف الذي وجد في نزعه لما يقتضيه تغير الزمان وقلة الأعوان غير راجع إليه بنقيصة، فهو فيما يتوهم منه الضعف؛ [لأن لا ضعف له]، فكيف فيما يقوى عليه؟ ويحتمل أنه أحوج في بعض السياسات إلى ملاينة ما لم يكن يأمن غائلة الإمضاء فيه، فأخبر بأنه معان موفق مسدد في ذلك؛ لما ينتابه من التأييد الإلهي، ومما ينبئك عن نظام هذا التأويل أن أبا بكر- رضي الله عنه- لما أتى بالأشعث بن قيس مكبلا وكان قد ارتد، فقال لأبي بكر- رضي الله عنه- (استبقني لحربك زوجني أختك)، فأطلقه زوجه أم فروة بنت أبي قحافة- رضي الله عنها- وروى الطبراني بإسناده في أول كتاب المعجم أن أبا بكر- رضي الله عنه- قال: ثلاث قد فعلتها ووددت أني لم أفعل: وددت أني كنت أمرت بقتل الأشعث يوم أتيت به ..) الحديث. عد ذلك على نفسه [325] مما غيره خير منه، ولم يفعل ذلك إلا توقيا من غائلة قومه، واستمالة لقلوبهم. وفيه: (ثم استحالت غربا) أي: انقلبت عن حلها التي كانت عليها، والغرب: الدلو العظيمة، و (غربا) مميزا اسحالت الدلو. وفيه: (فلم أر عبقريا) العبقر: موضع تزعم العرب أن الجنة تسكنه، فنسبوا إليه كل ما يعجبوا منه قوى وحذق وجودة صنيعة، وقد مر تفسيره بأكثر من هذا. وفيه: (حتى ضرب الناس بعطن) يريد: حتى رووا وأرووا إبلهم، فأبركوها وضربوا لها عطنا، والعطن: مبرك الإبل حول الماء. وفي الرواية الأخرى: (يفرى فريه) يقال: فلان يفرى الفري: إذا كان يأتي بالعجب في عمله. وقد مر بيانه.

(ومن الحسان) [4588] قول علي- رضي الله عنه-: (ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر) أي: لم نكن نبعد أنه ينطق بها بما يستحق أن تسكت إليه النفوس، وتطمئن به القلوب، وأنه أمر غيبي ألقى على لسانه. ويحتمل أنه أراد بالسكينة الملك الذي يلهمه ذلك القول. [4592] ومنه حديث بريدة- رضي الله عنه-: (خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض مغازيه، فلما انصرف جاءت جارية سوداء .. الحديث) قد ذكرنا في هذا الباب في حديث سعد ما يبين وجه هذا الحديث وأمثاله. ثم إنا نقول: إنما النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما مكنها من ضرب الدف بين يديه؛ لأنها نذرت، فدل نذرها على أنها عدت انصرافه على حال السلامة نعمة من نعم الله عليه، فانقلب الأمر فيه من صيغة اللهو إلى صيغة

باب مناقب الشيخين- رضي الله عنهما-

الحق، ومن المكروه إلى المستحب، ثم إن لم يكره من ذلك ما يقع به الوفاء بالنذر، وقد حصل ذلك بأدنى ضرب، ثم عاد الأمر في الزيادة إلى حد المكروه، ولم يرد أن يمنعها؛ لأنه بمنعه - صلى الله عليه وسلم - كان يرجع إلى حد التحريم، فلهذا سكت عنها وحمد انتهاءها عما كانت فيه لمجيء عمر- رضي الله عنه-. [4593] ومنه قول عائشة- رضي الله عنه- في حديثها: (فإذا حبشية تزفن ..) يريد: ترقص. والزفن. الرقص. والأصل فيه اللعب والدفع. وفي حديث آخر: (والحبشة يزفنون) وفيه رواية أخرى: (يلعبون بحرابهم) ولم يرد الرقص في شيء من الحديث، وإن كان معنى الزفن الرقص، وقد ورد في الحديث عن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنه- أن الله تعالى- أنزل الحق ليذهب به الباطل ويبطل به اللعب والزفن والزمارات والزاهر والكنازات. ومن باب مناقب الشيخين- رضي الله عنهما- (من الصحاح) [4594] حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (بينما رجل يسوق بقرة ..) الحديث. إنما أراد بذلك تخصيصهما بالتصديق الذي بلغ عين اليقين وكوشف صاحبه بالحقيقة التي ليس وراءها للتعجب مجال. [4595] وفيه: (فمن لها يوم السبع) السبع- بسكون الباء- وقد مر القول فيه.

(ومن الحسان) [4597] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه-: (وإن أبا بكر وعمر منهم، وأنعما) أنعما أي: زادا على تلك الرتبة والمنزلة وفي أكثر نسخ المصابيح: (لمنهم) واللام زائدة على الرواية، فإنه نقل هذا الحديث عن كتاب الترمذي وفيه (منهم وأنعما) من غير لام. [4602] حديث عبد الله بن حنطب: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى أبا بكر وعمر، فقال: هذا السمع والبصر)

يريد- والله أعلم- أن منزلتهما في الدين منزلة السمع والبصر، وقد ذهب بعض أهل الحديث في تأويل قوله - صلى الله عليه وسلم - (اللهم، متعنا بأسماعنا وأبصارنا). إلى أن المراد من الأسماع والأبصار أبو بكر وعمر- رضي الله عنهما-. وهذا الحديث مرسل؛ لأن عبد الله بن حنطب لم ير النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل الحديث يفتحون الحاء والطاء من (حنطب) فلعله اسم مرتجل، والذي نعرفه من اللغة حنطب، بالطاء وبالظاء أيضا، والحاء مضمومة فيهما، والطاء والظاء مضمومتان، وهو الذكر من الجراد.

باب مناقب عثمان- رضي الله عنه-

ومن باب مناقب عثمان- رضي الله عنه- (من الحسان) [4606] حديث: طلحة بن عبيد الله- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (لكل نبي رفيق .. الحديث) هذا حديث ضعيف السند، ومع الضعف ليس بمتصل، رواه شريح عن شيخ من زهرة، ولم يسمه. [4607] ومنه قول عثمان في حديث عبد الرحمن بن خباب- رضي الله عنه- (بأحلاسها وأقتابها) الحلس: كساء رقيق يجعل تحت البرد. والقتب- بالتحريك- رحل صغير على قدر سنام البعير، والقتب- بالكسر- جميع أداة السانية من علاقها وحبالها، يريد: بجميع أسبابها وأدواتها. وقول الراوي: (جيش العسرة، يريد: جيش غزوة تبوك، وسميت جيش العسرة؛ لأنها كانت في زمان شدة الحر وجذب البلاد، وكان المناهضة إلى عدو جم العدد شديد البأس.

[4610] ومنه: قول عثمان- رضي الله عنه- في حديث ثمامة بن حزن القشيري- رضي الله عنه- (غير بئر رومة) بئر رومة في العقيق الأصغر، وهما عقيقان: العقيق الأصغر: عق عن حرة المدينة أي قطع. والعقيق الآخر: أكبر من هذا وفيه بئر عروة.

باب مناقب علي- رضي الله عنه-

ومن باب مناقب علي- رضي الله عنه- (من الصحاح) [4617] حديث سعد بن أبي وقاص- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ..).

قلت: كان هذا القول من النبي - صلى الله عليه وسلم - مخرجه إلى غزوة تبوك، وقد خلف عليا- رضي الله عنه- على أهله، وأمره بالإقامة فيهم، فأرجف به المنافقون وقالوا: ما خلفه إلا استثقالا له وتخففا منه، فلما سمع به على- رضي الله عنه- أخذ سلاحه ثم خرج حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو نازل بالجرف، فقال: يا رسول الله، زعم المنافقون أنك إنما خلفتني تستثقلني وتخفف مني، فقال: كذبوا، إنما خلفتك لما تركت وراءي، فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك، أما ترضى يا علي، أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى) تأول قول الله- سبحانه-: {وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي} والمستدل بهذا الحديث على أن الخلافة كانت بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى على قول زائغ عن منهج الصواب، فإن الخلافة في الأهل في حياته لا تقتضي الخلافة في الأمة بعد الممات، والمقايسة التي تمسكوا بها تنقض عليهم بموت هارون قبل موسى- عليهما السلام- وإنما يستدل بهذا الحديث على قرب منزلته واختصاصه بالمؤاخاة من قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (ومن الحسان) [4622] حديث زيد بن أرقم- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من كنت مولاه فعلى مولاه) المولى ينصرف من وجوه: يستعمل في ابن العم، قال الله تعالى- {وإني خفت الموالي من ورائي}، وفي المعتق، ومصدره الولاية. وفي المعتق، ومصدره الولاء. وفي المحب وفي الجار وفي الناصر وفي الصديق وفي المأوى وفي الذي يسلم على يدي رجل، وفي المولاة. والأصل في الجميع القرب. وقد اختلف أقاويل أهل التأويل في هذا الحديث [فمنهم: من] كنت أتولاه فعلى يتولاه. وقيل: من كان يتولاني فعلى يتولاه وقيل: كان سبب ذلك أن أسامة بن زيد قال لعلي- رضي الله عنه-: لست مولاي، إنما مولاي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من كنت مولاه فعلي مولاه) ونقل عن

الشافعي- رحمة الله عليه- أنه قال: أراد بذلك ولاء الإسلام. قال الله تعالى: {ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا}. [4623] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث حبشي بن جنادة- رضي الله عنه- (ولا يؤدى عني إلا أنا أو علي). قلت: كان من دأب العرب إذا كان بينهم مقاولة في نقض وإبرام وصلح ونبذ عهد ألا يؤدى ذلك إلا سيد القوم، أو من يليه من ذوي قرابته القريبة، ولا يقبلون ممن سواهم، ولما كان العام الذي أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر- رضي الله عنه- أن يحج بالناس، رأى بعد خروجه أن يبعث عليا- رضي الله عنه- خلفه لينبذ إلى المشركين عهدهم ويقرأ عليهم سورة (براءة) وفيها: {إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} إلى غير ذلك من الأحكام، فقال قوله هذا تكريما له بذلك، فلما حصر الموسم بعث معه أبو بكر- رضي الله عنه- أبا هريرة في آخرين، ليبلغ علي- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وينادى به المبعوثون معه في الناس. [4625] ومنه حديث أنس- رضي الله عنه-: (كان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - طير ... الحديث). قلت: نحن وإن كنا لا نجهل- بحمد الله- فضل علي- رضي الله عنه- وقدمه وبلاءه وسوابقه في الإسلام واختصاصه برسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقرابته القريبة، ومؤاخاته إياه في الدين، ونتمسك من حبه بأقوى وأولى ما يدعيه الغالون فيه، فلسنا نرى أن نضرب عن تقدير أمثال هذه الأحاديث في نصابها صفحا، لما نخشى فيها من تحريف الغالين، وتأوييل الجاهلين، وانتحال المبطلين، وهذا باب أمرنا بمحافظته، وحمى أمرنا بالذب عنه، فحقيق علينا أن ننصر فيه الحق، ونقدم فيه الصدق، وهذا حديث يريش به المبتدع سهامه، ويوصل [338] به المنتحل جناحه، فيتخذه ذريعة إلى الطعن في خلافة أبي بكر- رضي الله عنه- التي هي أول حكم أجمع عليه المسلمون في هذه الأمة، وأقوم عماد أقيم به الدين، بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. -فنقول- وبالله التوفيق: هذا الحديث لا يقاوم ما أوجب تقديم أبي بكر والقول بخيريته من الأخبار الصحاح، منضما إليها إجماع الصحابة، لمكان سنده، فإن فيه لأهل النقل مقالا، ولا يجوز حمل أمثاله على ما يخالف الإجماع، ولاسيما الصحابي الذي يرويه ممن دخل في هذا الإجماع، واستقام عليه مدة

عمره، ولم ينقل عنه خلافه، فلو كتب عنه هذا الحديث، فالسبيل أن يأول على وجه لا ينتقض عليه ما اعتقده، ولا يخالف ما هو أصح منه متنا وإسنادا، وهو أن يقال: يحمل قوله: (بأحب خلقك) على أن المراد منه، أئتنى بمن هو من أحب خلقتك إليك، فيشاركه فيه غيره، وهم المفضلون بإجماع الأمة، وعلى هذا مثل قولهم: فلان أعقل الناس وأفضلهم. أي: من أعقلهم وأفضلهم، ومما يبين لك أن حمله على العموم غير جائز، هو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - من جملة خلق الله، ولا جائز أن يكون على أحب إلى الله منه. فإن قيل: ذلك شيء عرف بأصل الشرع؛ قلنا: والذي نحن فيه عرف أيضا بالنصوص الصحيحة وإجماع الأمة، فيأول هذا الحديث على الوجه الذي ذكرناه، أو على أنه أراد به: أحب خلقه إليه من بنى عمه وذويه، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يطلق القول وهو يريد تقييده، ويعم به وهو يريد تخصيصه، فيعرفه ذو الفهم، بالنظر إلى الحال أو الوقت، أو الأمر الذي هو فيه. [3629] ومنه حديث أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يا علي، ليس لأحد يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك) هذا الحديث رواه الترمذي في جامعه عن علي بن المنذر، عن ابن فضيل ثم ذر بعد سياق الحديث عن علي بن المنذر، أنه قال: قلت لضرار بن صرد: ما معنى هذا الحديث؟ قال: لا يحل لأحد يستطرقه جنبا غيري وغيرك. قلت: لم يستصعب علينا حديث مما تعنينا بشرحه من أحاديث هذا الكتاب استصعاب هذا الحديث؛ لأن المعنى إنما يستخرج من اللفظ، والحديث المشكل إنما يعرف بنظائره، وهذا حديث لا ينبئ لفظه عما روى من معناه، ولم يعرف له نظير في الأحاديث فيراجع فل حل مشكله إليه. وهذا الذي نقله الترمذي عن ابن المنذر، عن ضار بن صرد قول لا يستقيم على اللهجة العربية، فإن المفهوم من قوله: (لا يجنب في هذا المسجد) لا تصيب الجنابة، ولم يسمع في معناه: لا يستطرقه جنبا، وإن كان عول في هذا الاستنباط على قوله سبحانه: {ولا جنبا إلا عابري سبيل} مع ما فيه من الخلاف، فما

وجه التخصيص في الحديث بقوله: (غيري وغيرك) فإن قيل: لأنه لم يكن لهما مما عبر المسجد. قلنا: لم يذكر ذلك في الشيء من النقل المعتد به. وذكر أصحاب التفاسير في سبب نزول الآية أن رجالا من [339] الأنصار كانت أبوابهم في المسجد، فتصيبهم الجنابة، ولا يجدون ممرا إلا في المسجد فرخص، إن صح هذا، ولا أراه يصح، ولا دلالة فيه على هذا التأويل، فإن الرخصة في الشرع لا تختص بأحد من الأمة دون آخرين. وقد صح عن علي- رضي الله عنه- أنه قال: (والله، ما خصنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء دون الناس) ثم إن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان أحق الناس بتعظيم بيوت الله ومحال عبادته، فكيف يحل لنفسه ولعلى استطراق المسجد جنبا، ويحرمه على من دونهما.

فإن قيل: يحتمل أنهما كانا لا يجدان سوى المسجد ممرا، وغيرهما- وإن كان له باب إلى المسجد- فإنه كان يجد ممرا سواه. قلنا: سبيل ذلك النقل، وقد ذكرنا أنه لم يرد به نقل يعتد به، ثم إنا تدبرنا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في بناء المسجد وبناء حجرات أمهات المؤمنين، ومنازل بناته بجنب المسجد، بعد أن بني المسجد، فرأينا أن ممر تلك الدور التي بنيت بجنب المسجد له أو لغيره، مما كان قبل بناء المسجد أو بعده لا يخلو من أمور ثلاثة: إما أن كان لتلك الدور التي ألزقت بالمسجد قبل بناء المسجد ممر، فبقى على حاله؛ لأنه مع تعلق حق أحد به لا يصير مسجدا. ولم يكن هناك قبل البناء ممر، فاستثنى النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل جعل الحائط مسجدا، ممرا لنفسه ولغيره، فالمنهج فيه لا يكون متعرضا لشيء من حرمة، فإنه يعبر في سبيل اكتنف المسجد بكنفيه. أو لم يكن لها حق ممر، ولم يفرز لها ممل قبل جعل الأرض مسجدا، فهذا مما لا يجوز أن يستطرق، سواء كان المستطرق جنبا أو غير جنب؛ لأنه مسجد، وليس لأحد أن يتخذ من بيوت الله ما ليس له بحق. فتبين لنا من هذه التقسيمات الثلاث أن الذي يذهب في هذا الحديث إلى أنه كان يستطرق المسجد جنبا ذهب إلى قول ظاهر الفساد، اللهم إلا أن يقدر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل لنفسه ممرا في الأرض التي كان يريد أن يتخذها مسجدا ولبيت فاطمة- رضي الله عنها- مستثنى من جملة المسجد، ولم يكن لغيرهما ذلك، فلهذا قال: غيري وغيرك، والحديث حينئذ يكون حجة على من يجوز عبور الجنب في المسجد، لا له، ويكون قوله: (في هذا المسجد) على الاتساع لكون الممر متصلا بالمسجد من طرفيه.

باب مناقب العشرة

وهذا التأويل تأويل حسن، لولا أن لفظ الحديث وهو قوله: (لا يجنب) غير منبئ عن الاستطراق على ما ذكرنا، وقوله على وجه الاحتمال: لعل لفظ الحديث يجنب من الثلاثي: أي: يقود فرسه، فظن بعض الرواة أنه من الجنابة، فرواه على صيغة الرباعي، وهم سيان في المعنى، يقال: أجنب الرجل وجنب- بالضم- يجنب، وعلى هذا يكون (غيري وغيرك) محمولا على أن حق الممر كان لهما- والله أعلم. ومن باب مناقب العشرة (من الصحاح) [4641] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الزبير- رضي الله عنه- (أوجب طلحة)، يريد: أوجب لنفسه الجنة، يدل عليه قوله- فيمن شهدوا بالخير-: (وجبت) قالوا: وما وجبت؟ قال: (هذا أثنيتم عليه خيرا، فوجب له الجنة ..) الحديث. [4642] ومنه (331) قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث جابر- رضي الله عنه-: (نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى طلحة ابن عبيد الله، فقال: من أحب أن ينظر إلى رجل يمشي على وجه الأرض وقد قضي نحبه .. الحديث) النحب: النذر، والنحب: المدة والوقت. ومنه يقال: قضي فلان نحبه: إذا مات. وعلى المعنيين يحمل قوله- سبحانه- {فمنهم من قضى نحبه} فعلى النذر، أي: نذره فيما عاهد الله عليه من الصدق في مواطن القتال، والنصرة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى الموت، أي: مات في سبيل الله. وذلك أنهم عاهدوا الله أن يبذلوا نفوسهم في سبيله، فأخبر أن طلحة ممن وفى بنذره، أو ممن ذاق الموت في سبيله، وإن كان حيا، يدل عليه حديثه الآخر: (من سره أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض، فلينظر إلى طلحة) وكان طلحة قد

باب مناقب أهل البيت

جعل نفسه يوم أحد وقاية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر أنه أصيب يومئذ في جسده ببضع وثمانين من بين طعنة وضربة ورمية، وكان يقول: عقرت يومئذ في سائر جسدي، حتى عقرت في ذكرى. وكان الصحابة- رضوان الله عليهم- إذا ذكروا يوم أحد قالوا: ذاك يوم كان كل لطلحة. ومن باب مناقب أهل البيت (من الصحاح) [4649] قول عائشة- رضي الله عنها- في حديثها) وعلى مرط مرحل) المرط: واحد المروط، وهي أكسية من خز وصوف به علم. وقيل: عليه صورة الرحال، وقد ذكرناه.

[4650] ومنه: حديث البراء- رضي الله عنه-: (لما توفي إبراهيم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن له مرضعا في الجنة) المرضع- بفتح الميم- الرضاع ومحل الرضاع أيضا، كالمدخل. وذكر الخطابي أنه يروي أيضا بضم الميم. قلت: وأصوب الروايتين الفتح؛ لأن العرب إذا أرادوا الفعل ألحقوا به هاء التأنيث، وإذا أرادوا أنها ذات رضيع اسقطوا الهاء، وقالوا: امرأة مرضع، بلا هاء، ولما كان المراد من هذا اللفظ أن الله يقيم له من لذات الجنة وروحها ما تقع منه موقع الرضاع، فإنه كان رضيعا لم يستكمل مدة الرضاع، كان المصدر فيه أقوم وأصوب، ولو كان على ما ذكره من الرواية لكان من حقه أن يلحق به هاء التأنيث. (ومن الحسان) [4653] ومنه: حديث زيد بن أرقم- رضي الله عنه-: (قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطيبا بماء يدعى:

خما ..) الحديث، خم- بتشديد الميم- موضع بذي الحليفة به دجلة وماء آجن، أكثر بلاد الله وباء، وقد ذكرناه. [4656] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-: (ثم لكع) لكع: الصبي الصغير، ومن حقه أن ينون، وإن كان معرفة، فإن الذي لا يصرف في المعرفة هو المعدول عن الكع، والذي في هذا الحديث ليس بمعدول، وإنما [331] هـ مثل صرد نغر. [4657] ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي بكرة- رضي الله عنه-: (إن ابنى هذا سيد ..) الحديث هذا الحديث رواه جمع من الصحابة، وكفى به شرفا وفضلا، فلا أسود ممن سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيدا. وقوله: (ولعل الله أن يصلح به فئتين) وفي بعض طرقه: (وعسى الله أن يبقيه حتى يصلح به بين فئتين عظيمتين) إنما وصفهم بالعظيمتين؛ لأن المسلمين كانوا يومئذ فرقتين، فرقة معه، وفرقة مع معاوية، وكان الحسن- رضي الله عنه- يومئذ أحق الناس بهذا الأمر، فدعاه ورعه وشفقته على أمة جده إلى أن ترك الملك والدنيا، رغبة فيما عند الله، ولم يكن ذلك لقلة ولا ذلة، فقد بايعه على الموت أربعون ألفا، وقال: والله، ما أحببت منذ علمت ما ينفعني ويضرني أن لي أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - على أن يهراق في ذلك محجمة دم،

وشق ذلك على بعض شيعته، حتى حملته العصبية على أن قال- عند الدخول عليه-: (السلام عليك يا عار المؤمنين، فقال: العار خير من النار). [4664] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر- رضي الله عنهما-: (إن كنتم تطعنون في إمارته، فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه). قلت: إنما طعن من طعن في إمارتهما؛ لأنهما كانا من الموالي، وكانت العرب لا ترى تأمير الموالي، وتستنكف عن اتباعهم كل الاستنكاف، فلما جاء الله بالإسلام، ورفع قدر من لم يكن له عندهم قدر بالباقة والجرة والعلم والتقى؛ عرف حقهم المحفوظون من أهل الدين، فأما المرتهنون بالعادة والممتحنون بحب الرئاسة من الأعراب ورؤساء القبائل، فلم يزل يختلج في صدورهم شيء من ذلك، لاسيما أهل

النفاق، فإنهم كانوا يسارعون إلى الطعن وشدة النكير عليه، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بعث زيد بن حارثة- رضي الله عنه- أميرا على عدة سرايا، وأعظمها جيش مؤتة، وسار تحت رايته في تلك الغزوة نجباء الصحابة، منهم: جعفر بن أبي طالب- رضي الله عنه- وكان خليقا بذلك لسوابقه وفضله، وقربه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم كان يبعث أسامة، وقد أمره في مرض على جيش فيهم جماعة من مشيخة الصحابة وفضلائهم- رضي الله عنهم- وكأنه رأى في ذلك- سوى ما توسم فيه من النجابة- أن يمهد الأمر ويوطئه لمن يلي الأمر بعده؛ لئلا ينزع أحد يدا من طاعة، وليعلم كل منهم أن العادات الجاهلية قد عميت مسالكها، وخفيت معالمها. (ومن الحسان) [4666] قول جابر- رضي الله عنه- في حديثه، (وهو على ناقته: القصواء) قد ذكرنا في باب الحج معنى القصواء، وأنه لم يكن بها جدع، وأنها تارة تلقب بالجدعاء، وتارة بالعضباء، وأخرى بالقصواء، اعتورتها هذه الألقاب على حسب ما خيل للناظرين إليها، فمن ثم فليتفقد بيان ذلك. وفيه: (وعترتي أهل بيتي). وقد أكثر أصحاب الغريب في العترة، فمنهم من قال: عترة الرجل: أولياءه. ومنم من قال: عترة النبي - صلى الله عليه وسلم - بنو عبد المطلب. وقال القتبي: عترة الرجل أهل بيته الأدنون والأبعدون. واستدل بحديث أبي بكر- رضي الله عنه- نحن عترة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبيضته التي تفقأت عنه. قلت: وفي حديثه أيضا حين سارره - صلى الله عليه وسلم - في أسارى بدر: يا رسول الله، عترتك وقومك). كأنه أراد بالعترة العباس ومن أسره معه من بني عبد المطلب وبقومه قريشا، على نحو من هذا فره الأزهري، والقول الأمثل في العترة من طريق اللغة، هو أن عترة الرجل: أهل بيته ورهطه الأدنون، ولاستعمالهم العترة على أنحاء كثيرة بينها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (أهل بيتي) ليلعم أنه أراد بذلك نسله وعصابته الأدنين وأزواجه.

[4670] ومنه قول العباس في حديث المطلب بن ربيعة- رضي الله عنهما- (بوجوه مبشرة) مبشرة بضم الميم وسكون الباء وفتح الشين يريد: بوجوه عليها البشر، من قولهم: فلان مؤدم مبشر: إذا كانت له أدمة وبشرة محمودتان. [4671] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث علي- رضي الله عنه-: (إن عم الرجل صنو أبيه) وقد فسرناه في باب الزكاة. [4673] ومنه قول ابن عباس- رضي الله عنه- في حديثه: (وألبسنا كساءه) أشار بذلك إلى أنهم خاصته وأنهم بمثابة النفس الواحدة منه التي يشملها كساء واحد، وأنه يسأل الله- تعالى- أن يبسط عليهم رحمته بسط الكساء عليهم، وأن يجمعهم في الآخرة تحت لوائه، وفي هذه الدار تحت رايته، لإعلاء كلمة الله ونصر دعوة رسوله. [4673] ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (رأيت جعفر يطير في الجنة مع الملائكة).

=====

كان جعفر قد أصيب بمؤتة من أرض الشام، وهو أمير بيده راية الإسلام، بعد زيد بن حارثة- رضي الله عنه- فقاتل في الله حتى قطعت يداه ورجلاه، فأرى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فيما كوشف به أن له جناحين مضرجين بالدم يطير بهما في الجنة مع الملائكة. [4684] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث يعلي بن مرة الثقفي- رضي الله عنه-: (حسين سبط من الأسباط)

السبط مأخذه من السيط وهي شجرة لها أغصان كبيرة، وأصلها واحد، كأن الوالد بمنزلة الشجرة، والأولاد بمنزلة أغصانها. وقيل في تفسيره: إنه أمة من الأمم في الخير. وقيل: هم خاصة الأولاد. وفي الحديث: (الحسن والحسين سيطا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قيل: أي هما طائفتان منه. قلت: ويحتمل أنه أراد بالسيط القبيلة، أي: يتشعب منهما نسله، فما هما بذلك؛ لأنهما هما الأصلان اللذان ينشأ منهما السبط [333]. [4690] ومنه: قول أسامة- رضي الله عنه- في حديثه: (هبطت وهبط الناس ...) إنما قال: هبطت؛ لأنه كان يسكن العوالي، والمدينة من أي جهة أتيت صح فيها الهبوط، لأنها واقعة في غلظ من الأرض ينحدر إليها السيل. وفيه: (وقد أصمت) أصمت العليل فهو مصمت: إذا اعتقل لسانه، ومن الحديث (أصمتت أمامة بنت أبي العاص) أي: اعتقل لسانها. [4692] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أسامة- رضي الله عنه: (من قد أنعم الله عليه وأنعمت عليه أسامة بن زيد). قلت: لم يكن أحد من الصحابة إلا وقد أنعم الله عليه وأنعم عليه رسوله، إلا أن المعنى الخاص في ذلك عرف في حق زيد بن حارثة. قال الله تعالى: {وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه} وهو زيد لا خلاف في ذلك ولا شك.

باب مناقب أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته

فيحتمل أنه جعله في هاتين النعمتين تبعا لأبيه، ويحتمل أن بعض الرواة قد عده فيه. وهذا الحديث يرويه عمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وعمر بن أبي سلمة ضعيف عند بعض أهل الجرح والتعديل. ومن باب مناقب أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته (من الصحاح) [4693] حديث علي- رضي الله عنه- سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (خير نسائها مريم بنت عمران ... الحديث). الضمير في الأولى عائد إلى الأمة التي كانت فيهم مريم، وفيه الثانية إلى هذه الأمة، ولهذا كرر القول من أولها؛ تنبيها على أن حكم كل واحد منهما غير حكم الآخر، وكلا الفضلين كلام مستأنف. وإشارة وكيع- الذي هو من جملة رواة هذا الحديث- إلى السماء والأرض منبئة عن كونهما خيرا ممن هو فوق الأرض، وتحت أديم السماء. وهو نوع من الزيادة في البيان، ولا يستقيم أن يكون تفسيرا لقوله: (خير نسائها)؛ لأن إعادة الضمير إلى السماء غير مستقيم فيه، ثم إنهما شيئان مختلفان، والضمير راجع إلى شيء واحد. [4694] ومنه: قول جبريل- عليه السلام- في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-: (وبشرها ببيت في الجنة من قصب ... الحديث). القصب: كل عظم مستدير أجوع. والقصب أيضا أنابيب الجوهر، وقد فسر القصب في هذا الحديث بلؤلؤ مجوف واسع كالقصر المنيف. وقوله: (لا صخب فيه) الصخب: الجلبة والصياح، يريد أن ليس فيه شاغل يشغلها عما تحت وتهوى، ولا تعب يصيبها. ويحتمل أن قوله: (فيه) يتعلق بتحصيله وترتيبه، أي: لا يكون في تحصيله وترتيبه شيء من ذلك، كما يكون في بناء أبنية الدنيا وإصلاح منازلها.

[4694] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس- رضي الله عنه-: (كفضل الثريد على سائر الطعام). قيل: إنما ضرب المثل بالثريد؛ لأنه أفضل طعام العرب، ولا يرون في الشبع أغنى غناء منه. وقيل: إنهم كانوا يحمدون الثريد فيما طبخ بلحم جعل فوقه القدر اللحم. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (سيد الطعام اللحم) فكأن فضلها على النساء تفضيل اللحم على سائر الأطعمة، واستدلوا في ذلك بحديث عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما-: (فضل عائشة على النساء كفضل اللحم على سائر الأدم) [334] قلت: وقد يحتمل غير ذلك وكل هذه الأقاويل مستقيمة، غير أن [أصحاب ... ينسبون] القول عن سر ما أودع فيه، وهو أن الثريد مركب من الخبز واللحم، ولا نظير لهما في الأغذية، ثم إنه جامع بين الغذاء واللذة والقوة، وسهولة تناوله، وقلة المؤنة في المضغ، وسرعة المرور في المرئ من غير ما غصة، فضرب لها المثل به ليعلم أنها أعطيت مع حسن الخلق حسن الخلق، وحسن الحديث، وحلاوة المنطق، وفصاحة اللهجة، وجودة القريحة، ورزانة الرأي، ورصانة العقل، والتحبب إلى البعل، فهي تصلح للتبعل والتحدث والاستئناس بها، والإصغاء إليها، وإلى غير ذلك من المعاني التي اجتمعت فيها، وحسبك من تلك المعاني أنها عقلت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مل لم تعقل غيرها من النساء، ورون عنه ما لم يرو مثله من الرجال. [4698] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عائشة- رضي الله عنها-: (في سرقة حرير) سرقة، على مثال مرقة: الشقة الجيدة من الحرير. قال أبو عبيد: وأحسبها فارسة قد عربت. وأصلها: سره، قال: والسرق، الشقق من الحرير، إلا أنها البيض خاصة.

باب جامع المناقب

ومن باب جامع المناقب (من الصحاح) [4705] حديث ابن عمر- رضي الله عنه-: (رأيت في المنام كأن في يدى سرقة حرير) يأول هذا على أن السرقة كانت ذات يده من العمل الصالح، وبياض السرقة منبئ عن خلوصه من الهوى، وصفائه عن كدر النفس.

[4706] ومنه: حديث حذيفة- رضي الله عنه-: (إن أشبه الناس دلا وسمتا وهديا ... الحديث). قال أبو عبيد: الدل قريب المعنى من الهدى، وهما من السكينة والوقار في المنظر والهيئة والشمائل وغير ذلك وفي الحديث: (كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرحلون إلى عمر- رضي الله عنه- وينظرون إلى سمته وهديه ودله فيتشبهون به). قلت: ويشبه أن يكون الدل ما يدل على صلاح صاحبه من حسن الحديث وحسن الهيئة. والسمت: السيرة. والهدى: الطريقة المرضية. يقال: فلان حسن الهدى: إذا كان محمود الطريقة في الأمور كلها، وقد فسرنا هذه الكلمات فيما مر من الكتاب. وقوله: (لا يدري ما يصنع في بيته إذ خلا) يريد: إنا نشهد له بما يستبين لنا من ظاهر أمره، ولا يدرى ما بطن منه. [4709] ومنه قول أبي الدرداء- رضي الله عنه- في حديثه: (صاحب النعلين والوساد والمطهرة) يريد: أنه خص من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخدمات ثلاث: بأخذ النعلين إذا جلس في المجلس، وبوضعهما إذا نهض منه، وبتسوية المضجع ووضع الوساد إذا أحب النوم، ويحمل المطهرة إذا أراد الوضوء، وذكر ابن عبد البر في كتابه أنه أسلم وهو غلام، فضمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه، فكان يلج عليه، ويمشي أمامه ومعه، ويستره إذا اغتسل، ويوقظه إذا نام، وكان يعرف في الصحابة بصاحب السواد والسواك.

وفيه: (وصاحب السر الذي [335] لا يعلمه غيره) قد أشرنا إلى اختصاصه بعلم أسماء المنافقين لذلك. [4710] ومنه حديث جابر- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أريت لجنة، فرأيت امرأة أبي طلحة .. الحديث) امرأة أبي طلحة هي أم سليم أم أنس، وتلقب بالرميصاء. [4712] ومنه حديث أبي موسى- رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: (يا أبا موسى، لقد أعطيت مزمارا من مزامير آل داود). المزمار: واحد المزامير التي تضرب، وقد يستعار في الصوت الحسن، وهو المراد به في الحديث، وأراد بآل داود نفس داود. ويريد: إنك أوتيت لحنا طيبا من ألحان داود عليه السلام. [4713] ومنه حديث أنس- رضي الله عنه-: (قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بن كعب: إن الله أمرني أن أقرأ عليك .. الحديث). قلت: الوجه في قراءة على أبي أن يصرف إلى قراءة التعليم لا إلى قراءة التعلم، وقراءة المعلم على الذي يتعلم أبلغ في التعليم من قراءة المتعلم عليه؛ لان المتعلم إذا تفرغ للاستماع كان ذلك أضبط للحرف الذي يقرأ به، وأمكن له من القراءة على وجهها عند الأداء، وأما تخصيص أبي بذلك؛ فلأنه كان إماما في القراءة، أخذ منه قراء التابعين، ثم إنه كان من الأنصار، وهم وإن كانوا من أهل اللغة الفصيحة، فإن لهجتهم في التنزيل لم تكن تقع موقع لهجة المهاجرين في حسن التلاوة وصحة التأدية، فإن القرآن بلغة قريش، فافتقر هو إلى أخذ حسن الأداء من النبي - صلى الله عليه وسلم - افتقاره إلى تعلم القرآن، وكان بالمهاجرين غنية عن ذلك، ثم إن الله- تعالى- أحب أن يجعله أسوة لمن بعده في ذلك؛ لئلا يمتنع أحد عن القراءة على من دونه في العلم والمنزلة.

[4714] ومنه حديثه الآخر (جمع القرآن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعة ..) الحديث. قلت: قد جمع القرآن جمع من المهاجرين على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالمراد من الأربعة: أربعة: من رهط أنس، وهم الخزرجيون. ويحتمل أنه أراد أربعة من الأنصار أوسهم وخزرجهم، وهو أشبه، وقد كان بين الحيين مناوأة قبل الإسلام بقيت منها بقية من العصبية بعد الإسلام، فلعله ذكر ذلك على سبيل المفاخرة، وهو الصحيح، لما روى عن أنس أنه قال: (افتخرت الأوس والخزرج، فقالت الأوس: منا غسيل الملائكة حنظلة بن الراهب، ومنا من حمته الدبر عاصم بن ثابت الأقلح، ومنا من أجيزت شهادته بشهادة رجلين خزيمة بن ثابت، ومنا من اهتز العرش لموته سعد بن معاذ. وقالت الخزرج: منا أربعة فرأوا القرآن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقرأه غيرهم: زيد بن ثابت، وأبو زيد، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب. فقوله: (لم يقرأه عنهم) أي: لم يقرأه كله أحد منكم يا معشر الأوس. [4715] قول خباب- رضي الله عنه- في حديثه: (فهو يهدبها) يقال: هدب الناقة يهدبها [336] بالكسر، أي [احتلبها] وهدب الثمرة: إذا اجتناها. [4716] ومنه حديث جابر- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (اهتز العرش لموت سعد بن معاذ) (اهتز) [اهتشاشا وسرورا بنقلته من الدار الفانية، إلى الدار الباقية] وذلك لأن أرواح السعداء الشهداء [مستقرها] تحت العرش، تأوى إلى قناديل معلقة هنالك، ولو ذهب ذاهب إلى أنه اهتز استعظاما لتلك الوقعة، فله وجه. قال ابن ميادة: الريح تبكي شجوها .... والبرق يلمع في غمامه ومنهم من ذهب في العرش إلى السرير الذي حمل عليه، وليس بشيء، لودود الرواية بعرض الرحمن. [4717] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث البراء بن عازب- رضي الله عنه-: (المناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها وألين). يريد: أن المناديل التي يمسح سعد بها يده خير من هذه.

وفيه تنبيه على بعد المناسبة بين حلل الدارين، حتى إن أرفع شيء من هذه لا يقاوم أوضع شيء من تلك، فلا جائز أن يقابل أعلاها وأنفسها بما هو الأدنى في الدار الآخرة. ولولا النظر إلى تقريب المعنى من الأفهام؛ لم تقع هذه المناسبة موقعها في الكلام، وأين الماء من السماء. [4720] ومنه قول عبد الله بن سلام- رضي الله عنه- في حديثه: (فأتاني منصف) المنصف- بكسر الميم: الخادم.

[4727] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس: (لولا الهجرة، لكن امرءا من الأنصار) المراد منه إكرام الأنصار، والتعريض بأن لا رتبة بعد الهجرة أعلى من النصرة، ولولا الهجرة، ما كنت أعدل بالأنصار أحدا، ولا أبتغى بهم بدلا. وفيه: (ولو سلك الناس واديا ...) الحديث. لم يرد بذلك المتابعة؛ فإن المتابعة حق له على كل مؤمن،

وإنما أراد به الموافقة أي: كنت أختار موافقتهم على موافقة غيرهم، لما لهم من حق الجوار، ووفاء الذمة، وحسن العهد فيما بايعوني عليه. وفيه: (الأنصار شعار، والناس دثار) الشعار: ما يلي الجسد منا لثوب لمماسته الشعر، و (الدثار) ما فوق الشعار. يريد: أنهم بطانتي وأقرب الناس إلى. وفيه: (إنكم سترون بعدي أثرة) أي: يستأثر غيركم بحقكم فاصبروا. وقد مر القول فيه. [4728] ومنه: قول - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه: (كلا، إني عبد الله ورسوله) كلا: ردع. أي: ليس الأمر على ما توهمتم. وقوله: (إني عبد الله ورسوله) أي: كوني على هذه الصفة يقتضى أن لا أعود إلى دار تركتها لله، وأن لا أرغب في بلدة هاجرت منها إلى الله. قوله: (هاجرت إلى الله وإليكم) يعني: أن القصد في الهجرة كان إلى الله، وأن التهاجر من دار قومي كان إلى داركم. وقوله: (المحيا محياكم والممات مماتكم) يريد: ما حييت أحيا في بلدكم، كما تحيون فيه، وإذا توفيت في بلدكم كما تتوفون، لا أفارقكم حيا ولا ميتا. وفيه: (إلا ضنا بالله ورسوله) يريدون: ما قلنا قولنا ذلك إلا ضنة بما آتانا الله من [337] كرامته، خشية أن يفوتنا فيناله غيرنا، وشحا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينتقل من بلدتنا إلى بلدته. [4730] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس- رضي الله عنه-: (فإنهم كرشي وعيبتي) الكرش لكل

مجتر: بمنزلة المعدة للإنسان، وكرش الرجل أيضا: عياله من صغار ولده، والكرش أيضا: الجماعة من الناس، و (العيبة): ما يجعل فيه الثياب. وذكر الهروي عن ابن الأعرابي في تفسير الكلمتين: أنهم خاصتي وموضع سري، وهو مستفيض في اللغة العربية. قال: والعرب تكنى بالعيبة عن الصدر. وفسر بعضهم الكرش في هذا الحديث بالجماعة؛ كأنه يريد أنهم أسرته التي يتقوى بهم، وهو تأويل مستقيم على الوضع اللغوي. قلت: والعرب تستعمل الكرش في كلامهم موضع البطن، تقول: تزوج فلان فلانة فنثرت له كرشها وبطنها: إذا كثر ولدها له. والبطن مستودع مكتوم السر، والعيبة مستودع مكنون المتاع، والأول أمر باطن، والثاني أمر ظاهر، فيحتمل أنه ضرب المثل بهما إرادة اختصاصهم به في أموره الظاهرة والباطنة. [4731] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس- رضي الله عنه-: (إن الناس يكثرون ويقل الأنصار) يريد: أن أهل الإسلام يكثرون، ويقل الأنصار؛ لأن الأنصار هم الذين آووا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونصروه، وهذا أمر قد انقضى زمانه، لا يلحقهم اللاحق، ولا يدرك شأوهم السابق، وكلما مضى منهم واحد مضى من غير بدل، فيكثر غيرهم ويقلون. [4733] ومنه حديث أبي أسيد الساعدي- رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (خير دور الأنصار ...) الحديث. يريد: خير بطونها وعمائرها، وإنما كنى عنها بالدور؛ لأن كل واحد من تلك البطون كانت لها محلة تسكنها، والمحلة تسمى دارا ودارة.

(ومن الحسان) [4739] قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث حذيفة بن اليمان- رضي الله عنه-: (وتمسكوا بعهد ابن أم عبد) يريد: عهد عبد الله بن مسعود، وهو: ما يعهد إليهم ويوصيهم به، وأرى أشبه الأشياء بما يراد من عهده أمر الخلافة، فإنه من أول من شهد بصحتها، وأثار إلى استقامتها من أفاضل الصحابة، وأقام عليها الدليل، فقال: لا نؤخر من قدمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألا نرتضى لدنيانا من ارتضاه لديننا. ومما يؤيد هذا المعنى: المناسبة الواقعة بين أول الحديث وآخره، ففي أوله: (اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر، وفي آخره: (وتمسكوا بعهد ابن أم عبد) ومما يدل على صحة ما ذهبنا إليه قوله- في حديث حذيفة أيضا: (لو استخلفت عليكم فعصيتموه عذبتم: ولكن ما حدثكم حذيفة فصدقوه) وهذه إشارة إلى ما أسر إليه من أمر الخلافة في الحدث الذي نحن فيه. ويشهد لذلك الاستدراك [338] الذي أوصله بحديث الخلافة فقال: (لو استخلفت عليكم فعصيتموه عذبتم، ولكن ما حدثكم حذيفة فصدقوه) وحذيفة هو الذي يروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اقتدوا بالذين من بعدي) ولم أرد في التعريض بالخلافة في [سنن] الرسول - صلى الله عليه وسلم - أوضح من هذين الحديثين، ولا أصح من حديث أبي سعيد: (سدوا عني كل خوخة).

[4740] ومنه حديث علي- رضي الله عنه- قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لو كنت مؤمرا من غير مشورة، أمرت عليهم ابن أم عبد) وفي بعض طرقه: (لو كنت مستخلفا) قلت: ومن أي وجه روى هذا الحديث، فلابد أن يأول على أنه - صلى الله عليه وسلم - أراد تأميره على جيش بعينها، أو استخلافه في أمر من أموره حال حياته، ولا يجوز أن يحمل على غير ذلك، فإنه- وإن كان من العلم والعمل بمكان، وله الفضائل الجمة والسوابق الجليلة- فإنه لم يكن من قريش، وقد نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن هذا الأمر في قريش، فلا يصح حمله إلا على الوجه الذي ذكرنا.

[4746] ومنه قول المنافقين في حديث أنس- رضي الله عنه- وذلك لحكمه في بني قريظة. يريدون: قول سعد بن معاذ لما نزلت بنو قريظة على حكمه معتمدين على حسن رأيه فيهم: (حكمت فيهم بأن تقتل المقاتلة وتسبى الذرية) فنسبوه- أعنى المنافقين- إلى الجور والعدوان، وقد شهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له بالإصابة في حكمه، وقد ذكرنا القصة من قبل ذلك. [4647] ومنه حديث عبد الله بن عمرو- رضي الله عنه-: (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء أصدق من أبي ذر) يريد بالخضراء: السماء، وبالغبراء: الأرض. قلت: وهذا من العام الذي يراد به الخاص، ويحمل قوله - صلى الله عليه وسلم - هذا على التأكيد والمبالغة في صدقه، على

ما هو مذهب العرب في هذا النوع، لا على أنه أصدق من غيره على الإطلاق، لا يصح أن يقال: أبو ذر أصدق من أبي بكر- رضي الله عنه- وهو صديق هذه الأمة، وخيرها بعد نبيها، ولو ذهبت إلى العموم لم يستقيم؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ممن أظلته الخضراء، وأقلته الغبراء، وكان أصدق من أبي ذر وغيره. وفي رواية: [أبي ذر] شبه عيسي بن مريم) يريد: شبهه في الزهد والتقشف والانتباذ من الناس وحدانا. [4754] ومنه حديث عقبة بن عامر- رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أسلم الناس، وآمن عمرو ابن العاص). قلت: هذا أيضا من العام الذي يراد به الخاص، والمراد من الناس مسلمة الفتح من أهل مكة. أسلم عمرو قبل الفتح طائعا راغبا مهاجرا إلى المدينة. وقد اختلف في السنة التي خرج فيها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمنهم من قال: خرج بين الحديبية وخيبر. ومنهم من قال: خرج سنة ثمان قبل الفتح. والصحيح أنه رجع من [339] الحبشة حين أرسلته قريش إلى النجاشي [ليستل] من هاجر من المسلمين إلى الحبشة، وقد وقع في قلبه الإسلام، فخرج من مكة هو وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة العبدرى الحجبي فلما دخلوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسجد ونظر إليهم قال: (رمتكم مكة بأفلاذ كبدها) فقوله: (أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص) تنبيه على أنهم رهبة، وآمن عمرو رغبة، فإن الإسلام يحتمل أن يشوبه كراهة، والإيمان لا يكون إلا عن رغبة وطواعية. [4755] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث جابر- رضي الله عنه-: (إن الله كلم أباك كفاحا) كفحته كفحا: إذا استقبلته كفة كفة، وكافحوهم: إذا استقبلوهم في الحرب بوجوههم ليس دونها ترس. ومنه المكافحة، يقال: لقيته كفاحا.

ومعنى الحديث- والله أعلم- أنه كلم أباك من غير واسطة بينه وبين الله. وفي الحديث: (إني لأكفحها وأنا صائم) أي: أواجهها بالقبلة. [4757] ومنه حديث أنس- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كم من أشعث أغبر ذي طمرين، لا يؤبه له ... الحديثّ) الطمر: الثوب الخلق، وفلا لا يؤبه له. أي: لا يبالي به. وأنت تئبه- بكسر الباء- مثل [تبخل] أي: تبالي. وبقية الحديث قد مر تفسيره. [4760] ومنه حديث أبي طلحة الأنصاري- رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أقرئ قومك السلام، فإنهم ما علمت أعفة صبر) يريد: فإنهم صبر، على ما علمت، أو الذي علمت منهم أنهم

باب ذكر اليمن والشام

كذلك، يتعففون عن السؤال، ويتحملون الصبر عند القتال، وهو مثل ما في الحديث: (يقلون عند الطمع، ويكثرون عند الفزع). ومن باب ذكر اليمن والشام (من الصحاح) [4766] حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أتاكم أهل اليمن، هم أرق أفئدة، وألين قلوبا). الرقة إذا كانت في جسم تضادها الصفاقة، يقال: ثوب صفيق، وثوب رقيق. ومتى كانت في نفس تضادها الغلظة والجفوة، وكذلك اللين في الأجسام تضاد الخشونة، وفي القلوب تضاد القسوة. وأهل اللغة يعدون الفؤاد والقلب شيئا واحدا، وكلام النبوة يحكم بالتمييز بينهما، وكل واحد من الاسمين ينبئ عن صفة أخرى، وذلك أن الفؤاد إنما سمى فؤادا لتفأده، وهو التوقد. يقال: فئدت اللحم، أي: شويته. والقلب إنما سمى قلبا لكثره تقلبه، فلعله أراد بالأفئدة: ما يظهر منها للأبصار، وبالقلوب ما يظهر منها للبصائر. ولبعض مشايخ الصوفية في شرح ذلك كلام يشير فيه إلى أن الفؤاد هو القلب بشغافه وغلافه، وعلى هذا فنقول: يحتمل أنه أشار إلى رقة حجاب القلب، فيخلص القول إليه سريعا، وإلى لين جوهره، فيؤثر

الوعظ فيه تأثير بليغا. ومنه: (الإيمان يمان والحكمة يمانية) اليمن [340] ما كان عن يمين الكعبة من بلاد الغور قال أبو عبيد: مكة أرض تهامة من أرض اليمن، وبهذا سميت مكة وما وليها من أرض اليمن [تهامة] على هذا التقدير يمانية، ومنها ظهر الإيمان. قال: وفيه وجه آخر، وهو: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال هذا القول وهو بتبوك، ومكة والمدينة حينئذ بينه وبين اليمن، فأشار إلى ناحية اليمن، وهو يريد مكة والمدينة، وقيل: عنى بهذا القول الأنصار؛ لأنهم يمانون. قلت: هذه وجوه متقاربة، مع ما فيها من التعمق، وبعد التناسب بين الفصل الأول والثاني، فإنه قال: (أتاكم أهل اليمن) يخاطب بذلك أصحابه، والجمهور منهم أهل الحرمين وما حولهما، فعلمنا أن المبشر بهم غير المخاطبين، ثم وصفهم بقوله: (هم أرق أفئدة) ثم أشار إلى ثمرة رقة الفؤاد ولين القلب، وهي الإيمان والحكمة. وقوله: (الإيمان يمان) لا ينفى كونه حجازيا، وإنما ينبئ عن استعداد أهل اليمن لقبول ذلك، وفشوه فيهم واستقرار أمرهم عليه، فإنهم هم الذين فتحت بأمدادهم الشام والعراق، زمن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- والحكمة: كل كلمة صالحة تمنع صاحبها عن الوقوع في الهلكات، فلما كانت قلوبهم معادن الإيمان وينابع الحكمة، وكانت الخلتان منتهى همهم، نسب الإيمان والحكمة إلى معادن نفوسهم ومساقط رءوسهم، نسبة الشيء إلى مقره و (يمان) نسبة إلى اليمن، والألف عوض من ياء النسب، فلا يجتمعان، وكذلك يمنى، ومنهم من يجمع بين الألف وياء النسبة فيقول: يماني- بالتشديد، وقال أمية بن خلف: يمانيا يظل يشد كيرا .... وينفخ دائما لهب الشواظ والصحيح ما قدمناه. وفيه: (والفخر والخيلاء في أهل الخيل والإبل والفدادين) الفخر: المباهاة والمنافسة في الأشياء الخارجة عن الإنسان، كالمال والجاه. والفدادين يروى من وجهين- بالتشديد وهو الذين تعلو أصواتهم في أموالهم ومواشيهم، من قولهم: رجل فداد: إذا كان شديد الصوت. وبالتخفيف، وهي: البقر التي تحرث، واحدها فدان- بالتشديد- تقديره: وفي أهل الفدادين. وأرى أصوب الراويتين بالتشديد؛ لما في حديث ابن مسعود، الذي يتلو هذا الحديث: (والجفاء والغلظ في الفدادين) والتخفيف في هذه الراوية غير مستقيم، وتقدير الحذف فيه مستبعد رواية ومعنى، فرددنا

المختلف فيه إلى المتفق عليه، هذا وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رأى سكة شيئا من آلة الحرث، فقال: (ما دخل هذا دار قوم إلا أدخل عليهم الذل) وأين إيقاع الفخر والخيلاء من موقع الذل. (ومن الحسان) [4771] حديث زيد بن ثابت- رضي الله عنه-: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نظر قبل اليمن فقال: اللهم أقبل بقلوبهم، وبارك لنا في [341] صاعنا ومدنا). قلت: لم يكن في هذا الحديث إشكال، سوى أنه جمع بين فصلين في كلم إذا تصفحهما الجاهل، عدهما من الفصول المتنافرة، ومعاذ الإله أن يظن به غير الكمال في سائر الأحوال. ووجه التناسب بين الفصلين أن أهل المد مازالوا في شدة من العيش، وعوز من الزاد، لا تقوم أقواتهم بحاجتهم، فلما دعا الله بأن يقبل إليهم بقلوب أهل اليمن إلى دار الهجرة، وهم الجم الغفير، دعا الله بالبركة في طعام أهل المدينة، ليتسع على القاطن بها والقادم عليها، فلا يسأم المقيم من القادم عليه، ولا تشق الإقامة على المهاجر إليها. [4773] ومنه حديث عبد الله بن عمرو- رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ستخرج نار من نحو حضر موت .. الحديث). يحتمل أنها تكون رأى عين، وهو الأصل، ويحتمل أنها فتنة عبر عنها بالنار، وعلى التقديرين فالوجه فيه أنه قبل قيام الساعة؛ لأنهم قالوا: (فما تأمرنا) يعنون: في التوقى عنها، فقال: (عليكم بالشام).

[4774] ومنه حديثه الآخر: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (ستكون هجرة بعد هجرة .. الحديث). كان من حق الثانية أن يؤتي بها مع لام العهد؛ لأن المراد منها الهجرة الواجبة قبل الفتح، وغنما أتى بها منكرة ليساوق الأولى في الصيغة، إضمار في الكلام، أي: بعد هجرة حقت ووجبت. وإنما حسن الحذف اعتمادا على معرفة السامعين. والمعني: ستكون هجرة إلى الشام بعد هجرة كانت إلى المدينة، وذلك حين تكثر الفتن، ويقل القائمون بأمر الله في البلاد، ويستولى الكفرة الطغام على بلاد الإسلام، ويبقى الشام تسوسها العساكر الإسلامية منصورة على من نأواهم، ظاهرين على الحق، حتى يقاتلوا الدجال: فالمهاجر إليها حينئذ فار بدينه، ملتجئ إليها لصلاح آخرته، فكثر سواد عباد الله الصالحين القائمين بأمر الله. وفيه: (تقذرهم نفس الله) ضرب المثل للمتخلفين عن حزب الله الذابين عن حريمه؛ رغبة في الدنيا، ورهبة عن القتل والقتال، ورضي بما هم فيه من الذل والهوان في قلة التوفيق وعدم القبول بالشيء المستقذر الذي تنفر عنه الطباع، وتأباه الأنفس، وهو قول مناسب لما في التنزيل: {ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم} ونفس الله: ذاته، وهو وإن كان من حيث جعل له مضاف إليه يقتضى المغايرة وإثبات شيئين من حيث الغيار، فإنه على سبيل الاتساع، وتعالى الله الملك عن الأنثوية ومشابهة المحدثات علوا كبيرا. [4775] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبد الله بن حوالة- رضي الله عنه-: (فأما إن أبيتم، فعليكم بيمنكم) هذا كلام معترض أدخله بين قوله: (عليكم بالشام) وبين قوله: (واسقوا من غدركم)؛ فإن الله قد تكفل لي بالشام وأهلها) رخص به العرب، واليمن من أرض العرب. ومعنى قوله: (واسقوا من غدركم) أي: ليسق كل واحد من غديره الذي يختص به. وغدر جمع غدير،

باب ثواب هذه الأمة

مثل: سرير وسرر، والأجناد المجندة بالشام لاسيما أهل الثغور والنازلين في المروج من شأنهم أن تتخذ كل رفقة لنفسها غديرا تستنقع فيه الماء للشرب والتطهر وسقى الدواب، فوصاهم بالسقي مما يختص بهم، وترك المزاحمة فيما سواه، والتغلب؛ لئلا يكون سببا للاختلاف وتهييج للاختلاف وتهييج الفتنة. وفي سائر نسخ المصابيح: (فإن الله قد توكل لي بالشام) والصواب: قد تكفل لي، وهو سهو، إما في أصل الكتاب، أو من بعض رواة الحديث، فنقل على ما وجد. والمعنى: أن الله ضمن لي حفظها وحفظ أهلها القائمين بأمر الله، على ما في الحديث. ومن باب ثواب هذه الأمة (من الصحاح) [4778] حديث أنس- رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره) أي: من لو حلف على الشيء متأليا على الله لصدق يمينه، ولقد مر بيانه بالشواهد المسفرة.

[4779] ومنه: حديث أبي أمامة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله .. الحديث) الأمة القائمة بأمر الله، وإن اختلف فيها، فإن المعتد به من الأقاويل أنها الفئة المرابطة بثغور الشام، نضر الله بهم وجه الإسلام، لما في بعض طرق هذا الحديث: (وهم بالشام) وفي بعضها: (حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال) وفي بعضها: (قيل: يا رسول الله، وأين هم؟ قال: ببيت المقدس). فإن قيل: فما وجه هذا الحديث وما في معناه الأحاديث التي وردت في الشام، وقد عاثت الذئاب في القطيع، وعبرت الجنود العاتية عن الفرات، وأناخت على ما وراءه من البلاد كمنبج وسروج وحلب وما حولها؟ قلنا: إنه اراد بقوله: (لا يضرهم) كل الضرر، وقد أضر الكفار يوم أحد بأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره، ولما كانت العاقبة للتقوى، لم يعد ذلك ضررا عليهم، مع أن الفئة الموعودة لهم بالنصر هم الجيوش الغازية بها، ولم يصبهم- بحمد الله إلى اليوم- غضاضة ولا هوان، بل كانت لهم النصرة، وعلى عدوهم الدبرة، وأما ما أصيب ومن أصيب من أفتاء الشام وسكانها، فإنها اليسير بالنسبة إلى ما سلم منها. والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أراد بذلك معظمها ومعظم جنودها. ومما يؤيد ذلك ما روينا من مسند أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على أبوا دمشق وما حولها، وعلى أبواب بيت المقدس وما حولها، لا يضرهم خذلان من خذلهم، ظاهرين على الحق، حتى تقوم الساعة) وهذا الحديث يفصل ما أجمل في غيره من أحاديث الشام، مع احتمال أن تكون تلك البلاد [343] لم تعد يومئذ من جملة الشام، وكانت منضمة إلى ما في أيدي الروم. أو كانت من أرض الشام بها عبرة، ومما يدل على صحة ما ذكره أهل النقل وعلماء العربية أن الشام كانت خمسة أجناد: جند بحمص، وجند بقنسرين، وجند بدمشق، وجند بفلسطين، وجند بالأردن، وهي أعلى الشام من الأرض المقدسة، والله أعلم.

[خاتمة الشرح]

(ومن الحسان) [4781] حديث أنس- رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (مثل أمتي مثل المطر ... الحديث) لا محمل لهذا الحديث على التردد في فضل الأول على الآخر، فإن القرن الأول هم المفضلون على سائر القرون، من غير مثنوية، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وفي الرابع اشتباه من قيل الراوي. وإنما المراد منه: نفعهم في بث الشريعة والذب عن الحقيقة، والمطر ينبت الزرع في الأول، ثم يربيه عند استوائه على سوقه في الآخر، فلا يدرى أنفعه في الأول أجدى أم في الآخر، فكذلك هذه الأمة، أقام الدين منهم الأولون، ومهد قواعدها الآخرون. وفيه إشارة إلى أن آخر هذه الأمة يعود في الخير والصلاح في آخر الأمر إلى ما كان النمط الأول، على ما ورد في الأحاديث عند خروج المهدي ونزول عيسي بن مريم- عليه الصلاة والسلام- بخلاف الأمم السالفة، فإنهم انقرضوا على تبديل من الدين، وتحريف من الكتاب {فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون} أعاذنا الله من سوء السيرة، وقبح الأحدوثة. هذا آخر ما تكفلت بشرحه من الكتاب، وتصديت لكشفه من فصل الخطاب، وتوخيت بيانه ببسط المقال في حل عقدة الإشكال مما تلفقته من أفواه الرجال، والتقطته من مصنفات أئمة الإسلام، وأعنت عليه من طريق الفهم وسبيل الإلهام، وهذا هو القدح المعلى، والقسط الأجزل في فتح الغلق عن جوامع الكلم التي هي درر الغيب ودور الوحي، تبرزت عن حجال الجلالة، وتماطرت في حريم الرسالة، جل موردها عن وصمة الجهالة، كما عز مصدرها عن سمة الإحالة، فهو الكلام الذي لم تكلمه فرطه، والحديث الذي لم يحدث به سقطة، طلع عن المطلع الذي عصم عن هبوة الهوى، ونبع عن المنبع الذي قدس عن القذر والقذى {وما ينطق عن الهوى* إن هو إلا وحي يوحي}. فهذا هو الكلام الذي يحق أن يشرح فيعقل، والحديث الذي يجيب أن ينقل فيقبل: تلك المكارم، لا قعبان من لبن .... شيبا بماء، فعادا بعد أبوالا

ولقد وفيت لإخواني بما وعدتهم، بعد أن عالجته وعد المتلمس، ومارسته كؤود المطلب، فتصدعت الشوامخ، وتصعدت الشواهق، حتى تركت ما كان صعب المرتقى وعلا المنحدر كالكثيب الأهيل، والطريق الملحوب بالعراء، فأوضحت ما أشكل، وفتحت منه ما استغلق. وإني وإن لم أكن لأشق غبار قوم أحرزوا فلج النصال، وجروا إلى [344] أبعد الغايات ولم يكن بي غنى عن [أخذ أسمائهم ونبيل آثارهم فتقدمت فيه بمصاص] القول ولبابه وأودعته من المعاني الغريبة التي ألقيت في حدثي، والوجوه العويصة التي وقعت في نفسي، ما لا يهى عراه ولا ينقض قواه، ولا يتزلزل بنيانه، ولا يخلخل أركانه، ثم إني لم أتخذ فيه درسا خفيا، ولا طريقا معورا، بل سلكت سبيلا بين الأعلام، واضح المنهج، كل ذلك بفضل الله ورحمته على عبد لم ير غير الكتاب مطلبا ومعتمدا، ولم يعرف سوى السنة مذهبا ومعتقدا، فهداه إلى ما هداه إليه، وأعانه على ما أعانه عليه. [وأزل] نعمه في ذلك من وراء الآمال، ومع هذا فلقد أسأرت في الأحاديث المشروحة للآخرين، كما أسأر لي فيها الأولون؛ لأن كلام النبوة سبيل لا يدفع، وبحر لا ينزف، ولا آمن فيما أوردته عن عثرة قلم، وكبوة الذهن، وهفوة الحفظ، وغفلة القلب، فأحرج على من عثر ينزف، ولا آمن فيما أوردته عن عثرة قلم، وكبوة الذهن، وهفوة الحفظ، وغفلة القلب، فأحرج على من عثر على شيء من ذلك أن يفتق رونقه، ويرقع خرقه، ويضم نشره. وإن وجد فيه مما عزوته إلى نفسي في كتاب غيري، فلا يسلكن به مسلك التقول والانتحال، ونعوذ بالله من الخيانة، فإنها بئست البطانة، وليعده من باب توارد الخواطر، ولقد استبهم على وجه قوله - صلى الله عليه وسلم -: (بنت لبون أنثي) ففتشت منه بطون الدفاتر، وفاوضت فيه من صادفته بصدد الفهم من أهل العلم، فلم أصدر عن تلك الموارد ببلة، ثم إن الله- تعالى- ألهمني فيه وجه الصواب، على ما قررته في باب الزكاة من الكتاب، وبعد برهة من الدهر، كنت أتصفح كتابا لبعض علماء المغرب، فوجدته قد سبقني بالقول فيه عن نفسه أو عن غيره على شاكلة ما جئت به، ولو اطلع مطلع على القولين، لقضى على بالانتحال، وأنا أستجير بالله أن أكون خفيف العنان، قلق الوضين، يكذب شاهدي غائبي، ويخالف سريرتي علانيتي، وإذ قد علمت وتحققت بالعون والتيسير من قبل الله في إنشاء هذا الكتاب، وسميته بالميسر، ولئن صدق الأمل، واستأخر الأجل، فأنا متطلع وراء ذلك إلى الإتيان بمثله في بيان كتاب الله العزيز، ويا بعد ما يمنيني طول الأمل ويرجينى فيه نفسي، من حب الحياة، وأني لي بهذا، وقد آن تكون القريحة مكدودة، وحان أن تصير الوديعة مردودة، ويا للمنايا على الحوايا، والشيخ قد خيم بمعترك المنايا، فإن أدركت أمنيتي قبل أن تدركني منيتي؛ فهي الغاية التي ليس دونها منزع لمنية، ولا متجاوز لأمل، وإن كانت الأخرى، فلست بأول من طمع في غير مطمع: متى إن يكن حقا، تكن أصدق المنى .... وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا هذا، ونحن نعود في المختتم إلى ما بدأنا به في [345] المفتتح، فنقول:

الحمد لله الذي لم يفتتح بأفضل من حمده الخطاب، ولم يختتم بأحمد من ذكره كتاب، حمدا تطير إليه النفوس العلوية وتطرب منه العقول القدسية، ويستمع له الكرام البررة، وتصعد به الملاك السفرة، فينتهي مسموعه إلى الملأ الأعلى، ويستوى مرفوعه إلى سدرة المنتهى، ثم الصلاة على من بدا منه البدايات، وانتهى إليه النهايات، ومهد له الصواب، وسخر له الخطاب، وفتح به المعاني المكنونة، وختم به الألفاظ المصون، فله جمال هذا الأمر، وذكره، وسناؤه وبهجته وذخره، محمد المكرم وجهه بجوامع الكلمات، المنوه باسمه في ملكوت السموات، رحمة الله المهداة للأمم سلفها وخلفها، النازل من آل إبراهيم في ذراها وذروتها وبنت شرفها، وعلى آله وعترته، وأزواجه وذريته، وعلى سائر المكرمين بصحبته، ثم إني أقول واقفا موقف الأسير، متدرعا لبسة البائس الفقير، بعد أن اعتاص على الأمر، وأحاطت بى الآفات، وضاق على السبيل، وبليت بنفس يملكني هواها، بعد أن ضعفت قواها، وانتكثت مرائرها، وتضعضت دعائمها، وهأنا أناجيك بلسان الضراعة، بعد أن أضاق الذنب ذرعى، وأقض الفترة في مضجعي، وهد الشيب ركني، وآلم قلبي ما ألم بى، مستمدا من بحر جودك، ومستطما أشايب رحمتك، يا من يعلم دفائن الصدور، ومخبآت النفوس، يا من يسمع حنين الأرواح وأنين القلوب، يا من له الخلق والأمر، يا من بيده الحل والعقد، يا من ينعش المذنب من سقطته، يا من يشيل العبد عن صرعته، يا من يميط الشر والأذى، يا من يمسح الجفون عن القذى، يا من معروفه غير وعر على طلابه، يا من أعطى فأحسن، يا من أسدى فأجزل، يا من أجدى فأفضل، بلغ السيل الزبي، واتسع الخرق على الراقع، فتقبل توبتي، واغسل حوبتي، وارحم شيبتي، ولا تسألني عما جنيت، ولا تفضحني فيما ادعيت، وإذا انقضت الأنفاس المعدودة، وأحاط بى اليوم الموعود، فلا تضيع من حقق الرجاء في كونه مفنيا عمره ببابك، وأدرك بتنفيس الكربة وإرخاء الخناق من أنفق أنفاسه في تلاوة كتابك، وإذا ضمني البيت المظلم، والمنزل الوحش، وفارقني الخل والخدين، ونسيني المصاحب والقرين، فأفض شآبيب رحمتك، وأرسل عزالى مغفرتك على الأشلاء المتمزقة، والأجزاء المتفرقة، ولا تضحني عن ظلم يوم يبعثون، ولا تخلني من صنعك يوم يعرضون، وارحم أبوي اللذين آوياني، ولطفا بي، وعطفا على، وسهرا في، وآثراني على أنفسهما، وأشفقا على في حياتهما، ونظرا [346] إلى بعد وفاتهما، وقوما أودى وأصلحا [عوجي]، وأدباني فيك ودعواني إليك، وأعاذني بك أن أربع غير مربع، أو أفزع إلى غير مفزع، ولم تزل ترجف بي بوادرهما خشية أن

أشب خليع العذار، مرفوض الرباط، ملفوظ اللجام، اللهم فاجزهما عني خير ما جزيت والدا عن ولده، وآنس وحشتهما، وارحم غربتهما، وكما رفعتني ببركة دعائهما عن حضيض الهوان، فأعد عليهما دعائي بالرحمة والرضوان. واجز عنا أئمة الإسلام وأعلام الطريقة خيرا، لاسيما من علمنا وأدبنا ونصحنا فيك، وهدانا إليك، وأخلفنا في أولادنا وذرياتنا، فاسلك بهم الصراط المستقيم، وأرهم سبيل المتقين، واجعلهم من عبادك الصالحين وعن نشأ منهم-عياذا بك- من يرغب عن الكتاب والسنة، ويتبع غير سبيل المؤمنين، فأنا أبرأ إليك من خلالته، وأتقرب إليك بعداونه، وأشهدك اللهم، أني سلم لمن سالمته، حرب لمن حاربته. اللهم إنك تعلم أن ما أضمره قلبي أكثر مما أظهره لساني. اللهم، واهد أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى البيضاء النقية، التي بها، وثبتهم عليها، ووفقهم لانتهاج سبل الرشاد، وانصر الذابين عن حقيقة الإسلام القائمين بأمرك دون حوزته وحماه، ولا تجعلهم نهزة للطالب، وفرصة للمحارب، وارفع ألوية الهدى، ونكس بنود الضلال، وأيقظنا وسائر إخواننا عن سنتنا، ونبهنا عن رقدتنا، ولا تدعنا غائب الشخص نائم القلب، ذاهب العقل، إنك أنت المنعم المنان. قال المصنف- رحمه الله- وقع الفراغ من إنشاء هذا الكتاب في آخر جزء من آخر النهار من يوم الجمعة السادس من صفر ستين وستمائة، والحمد لله رب العالمين، وصلوات الله على سيد المرسلين محمد وعلى آله. هذا آخر كلامه، وأنا أقول: وقع الفراغ من كتابته بعد العصر من يوم الإثنين السادس والعشرين لشعبان المكرم بمكة المشرفة [المبركة] برباط ربيع، على يد مالكه يوسف بن محمد المالكي [البارساى] سنة 811 هـ وهذه النسخة سادس نسخة كتبتها من هذا التأليف، رحم الله مصنفه، وغفر لمالكه ولوالديه وللمسلمين أجمعين، ولله الحمد والمنة وأسأله التوفيق. الحمد لله رب العالمين بعث شارح هذا الكتاب- تغمده الله برحمته- بأجزاء من هذا الشرح إلى الإمام مجد الدين إسماعيل، بعد أن كتب على ظاهرها: بعثت إلى بحر العلوم بضاعة .... من العلم مزجاة، أوان كسادها ولا شك أن ينفى العوار بفضله ... فلا يطعمن ذو نيرب في فسادها فأجابه الإمام مجد الدين إسماعيل- سقى الله ثراه: جمعت إمام الحق فيها فرائدا .... يفوز بها الطلاب عند ارتيادها فليس يرى من كان العلم راسخا .... سوى الذهب الإبريز حين انتقادها جزاك إله خير جزائه .... ووفقت في إتمامها لسدادها

وقال الإمام عز الدين المراغي، لما وقف على هذا الشرح، وما كتب عليه مجد الدين. قرأت قريض الحبر في مدح شرحكم .... فرائد أصل العلم بعد شرادها وما قد كشفتم من حقائق حكمة ... عسير على الأفهام بعض انتقادها لعمري، لقد أثني وبالغ في الثنا .... فوقفت في إتمامها لسدادها ولكنه لا يستطيع حقيقة ... وكل بليغ حسن بعض استدادها أنرت مصابيح الهدى لجماعة ... فضاء سبيل الشرع حان انسدادها فأحييت علما كان يذهب ضائعا ... فأعطيت جمع الخلق سول مرادها وقال المولى الأعظم سلطان العلماء تاج الدين تغمده الله برحمته: كتاب يسمى (بالميسر) شعلة .... أضاء طريق الحق نور اتقادها مشاعل في شرح المصابيح أوقدت ... يشق ظلام الريب نارها زنادها أبان أحاديث المصابيح كلها .... وجوه معانيها، وصدق سنادها وألفاظه السحر الحلال وإنها .... موارد إلهام لفرط سدادها يشابه من آثار حسن بيانها ... تباشير إصباح بياض سوادها تكاد معانيها خلال حروفها ... بأنوارها تمحو سواد مدادها كلام يضاهى السلسبيل ممهد .... قواعد في الإسلام بعد انهدادها ولغيره: شرح المصابيح مشكاة المصابيح ... منه تشعشع أضواء المصابيح فيه على الفكر أبواب مغلقة .... لكنما شرحه خير المفاتيح يا روح الله في الفردوس شارحه ... وجاد تربته صوب المجاديح فقد تشمر عن ساق المجد له .... وخلص الفكر عن كد التباريح

§1/1