الموقظة في علم مصطلح الحديث

الذهبي، شمس الدين

بسم الله الرحمن الرحيم والصَّلاةُ والسَّلامُ عَلَى محمَّدٍ وآلِه وصَحْبِه (¬1) رَبِّ زِدْنِي عِلْماً، وَوَفِّقْ يا كَريم أما بعد (¬2) قال الشيخُ الإمامُ العالِمُ العَلاَّمة، الرُّحْلةُ المُحَقِّق (¬3) ، بحرُ الفوائد، ومَعْدِنُ الفرائد، عُمْدةُ الحُفَّاظِ والمُحَدِّثين، وعُدَّةُ الأئمةِ المُحَقِّقين (¬4) ، وآخِرُ المجتهدين: شمسُ الدين محمدُ بن أحمد (¬5) بنُ عُثمان الذهبيُّ الدمشقيُّ، رحمه الله ونفعنا بعلومه وجميعَ المسلمين: ¬

_ (¬1) - ليست في (ظ) . (¬2) - ليست في (ظ) . (¬3) - في (ش) : "المحقَّق" بفتح القاف، وصوابها بالكسر. (¬4) - في (ش) : "المحقَّقين" بفتح القاف، وصوابها بالكسر. (¬5) - ليست في (ظ) .

(1) الحديث الصحيح:

(1) الحديث الصحيح: هو ما دَارَ على: عَدْلٍ (¬1) ، مُتْقِنٍ، واتَّصَل سَنَدُه. فإن كان مُرسَلاً، ففي الاحتجاج به اختلاف. وزاد أهلُ الحديث: سلامتَهُ مِن الشذوذِ، والعِلَّة. وفيه نَظَرٌ على مُقتَضَى نظر الفقهاء، فإنَّ كثيراً من العِلَل يأبَوْنها. فالمُجْمَعُ عَلَى صِحَّتِه إذاً: المُتَّصِلُ، السَّالِمُ من الشُّذوذِ، والعِلَّة. وأنْ يكون رُواتُه: ذَوِي ضَبْطٍ، وعدالةٍ، وعدمِ تدليس. فأعلى مراتبِ المجمَع عليه: - مالك، عن نافع، عن ابن عُمَر. أو: - منصور، عن (¬2) إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله. ¬

_ (¬1) - في (ش) : "عَدْلً" مع التنوين بالفتح، وصوابها بالكسر. (¬2) - سقطت من (ش) .

أو: - الزهريٌّ، عن سالم، عن (¬1) أبيه. أو: - أبو الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة. ثم بعدَهُ: - مَعْمَر، عن هَمَّام، عن أبي هريرة. أو: - ابنُ أبي عَرُوبة، عن قتادة، عن أنس. أو: - ابنُ جُرَيج، عن عطاء، عن جابر، وأمثالُه. ثم بعدَهُ في المرتبةِ: - الليثُ وزهير، عن أبي الزُّبير، عن جابر. أو: - سِماَكٌ، عن عِكْرمة، عن ابن عباس. ¬

_ (¬1) - سقطت من (ش) .

(2) الحسن:

أو: - أبو بكر بن عَيّاش، عن أبي إسحاق، عن البَرَاء. أو: - العلاءُ بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة. ونحوُ ذلك مِن أفراد البخاريّ أو مسلم. (2) الحَسَن: وفي تحرير معناه اضطراب. فقال الخَطَّابيُّ رحمه الله: "هو ما عُرِفَ مَخْرجُه واشتَهَر رجالُه، وعليه مَدارُ أكثرِ الحديث. وهو الذي يَقبَلُه أكثرُ العلماء، ويَستعملُه عامَّة الفقهاء". وهذه عبارةٌ ليسَتْ على صِناعة الحدودِ والتعريفات، إذْ الصحيحُ يَنطَبقُ ذلك عليه أيضاً! لكنْ مُرادُه: مما لم يَبْلُغ درجةَ الصحيح. فأقولُ: الحَسَنُ ما ارتَقَى عن درجة الضعيف، ولم يَبلُغ درجةَ الصحَّة.

وإن شِئتَ قلتَ: "الحَسَنُ ما سَلِمَ من ضعفِ الرُّواة"، فهو حينئذٍ داخلٌ في قِسْم الصحيح. وحينئذٍ يكونُ الصحيحُ مراتب كما قدَّمناه، والحسَنُ ذا رتُبةٍ دُونَ تلك المراتب، فجاء الحسَنُ مثلاً في آخِرِ مراتب الصحيح. وأما الترمذيُّ، فهو أوَّلُ مَن خَصَّ هذا النوع باسم (الحَسَن) . وذَكَر أنه يريدُ به: أن يَسْلَم راوِيه مِن أن يكون مُتَّهَماً، وأن يَسْلَم مِن الشذوذ، وأن يُروَى نحوُهُ مِن غير وجه. وهذا مشكلٌ أيضاً على ما يقولُ فيه: (حسَنٌ، غريب، لا نعرفه إلا مِن هذا الوجه) . وقيل: الحسَنُ ما ضَعْفُه مُحتَمَل، ويَسوغُ العملُ به. وهذا أيضاً ليس مضبوطاً بضابطٍ يَتميَّزُ به الضَّعْفُ المحتمَل.

وقال ابن الصلاح رحمه الله: "إنَّ الحسَنَ قِسْمان (¬1) : أحدُهما: ما لا يخلو سَنَدُه مِن مستورٍ لم تَتحقَّق أهليتهُ، لكنه غير مُغَفَّل، ولا خطَّاءٍ، ولا مُتَّهَم. ويكون المتنُ مع ذلك عُرِف مِثلُه أو نحوُه مِن وجهٍ آخر اعتَضد به. وثانيهما: أن يكون راوِيه مشهوراً بالصدق والأمانة، لكنه لم يبلغ درجةَ رجالِ الصحيح، لقصوره عنهم في الحفظ والإتقان. وهو مع ذلك يرتفع عن حالِ مَن يُعَدُّ تفرُّدُه منكَراً، مع عَدَمِ الشذوذِ والعِلَّة". فهذا عليه مؤاخذات. وقد قلتُ لك: إنَّ الحسَنَ ما قَصُرَ سَنَدُه قليلاً عن رُتبة الصحيح، وسيَظهر لك بأمثلة. ثم لا تَطمَعْ بأنَّ للحسَنِ (¬2) قاعدةً تندرجُ كلُّ الأحاديثِ الحِسانِ فيها، فأَنَا على إِياسٍ من ذلك! فَكَمْ مِن حديثٍ تردَّدَ فيه الحُفَّاظُ: هل هو حسَن؟ أو ضعيف؟ أو صحيحٌ؟ بل الحافظُ الواحدُ يتغيَّرُ اجتهادُه ¬

_ (¬1) - في (ش) : "قَسمان" بفتح القاف، والصحيح بكسرها. (¬2) - في (ش) : "للحسَنَ" بفتح النون، والصواب بكسرها.

في الحديث الواحد: فيوماً يَصِفُه بالصحة، ويوماً يَصِفُه بالحُسْن، وَلَرُبَّما استَضْعَفَه! وهذا حقٌّ، فإنَّ الحديثَ الحَسَنَ يَستضعفه الحافظُ عن أن يُرَقِّيَه إلى رُتبةِ (¬1) الصحيح. فبهذا الاعتبارِ فيه ضَعْفٌ مَّا، إذْ الحَسَنُ لا ينفكُّ عن ضَعْفٍ مَّا. ولو انفَكَّ عن ذلك، لصَحَّ باتفاق. وقولُ الترمذيّ: (هذا حديثٌ حسَنٌ، صحيح) عليهِ إشكال: بأن الحَسَن قاصِرٌ عن الصحيح، ففي الجمع بين السَّمْتَيْنِ لحديثٍ واحدٍ مُجاذَبَة! وأُجيبَ عن هذا بشيء لا ينَهض أبداً، وهو أنَّ ذلك راجعٌ إلى الإسناد: فيكون قد رُوي بإسنادٍ حسن، وبإسنادٍ صحيح. وحينئذٍ لو قيل: (حسن، صحيح، لا نعرفه إلاَّ مِن هذا الوجه) ، لبَطَلَ هذا الجواب! وحقيقةُ ذلك - أن لو كان كذلك - أن يقال: (حديث حَسنٌ وَصحيح) . فكيف العَملُ في حديثٍ يقول فيه: (حسَنٌ، صحيحُ، ¬

_ (¬1) - في (ش) : "مرتبةُ" بزيادة ميم، وهو مخالف للأصل.

لا نعرفه إلاَّ مِن هذا الوجه) ؟ فهذا يُبطِلُ قولَ من قال: أن يكون ذلك بإسنادين. ويَسُوغُ أن يكون مُرادُه بالحَسَن: المعنىَ اللغويَّ لا الاصطلاحيَّ، وهو إقبالُ النفوسِ وإصغاءُ الأسماعِ إلى حُسنِ مَتْنِه، وجِزَالةِ لفظِه، وما فيه من الثوابِ والخير. فكثيرٌ مِن المتون النبوية بهذه المثابة. قال شيخنا ابنُ وهب: فَعَلَى هذا، يَلزمُ إطلاقُ الحَسَنِ على

بعضِ الموضوعات! ولا قائلٌ بهذا. ثم قال: "فأقولُ: لا يُشتَرَطُ في الحَسَن قيدُ القُصور عن الصحيح، وإنما جاء القصورُ إذا اقتُصر على: (حديث حَسَن) . فالقصورُ يأتيه من قيدِ الاقتصار، لا من حيث حقيقتهُ وذاتهُ". ثم قال: "فللرُّواةِ صفاتٌ تقتضي قبولَ الرواية، ولتلك الصفاتِ دَرَجَاتٌ بعضُها فوقَ بعض، كالتيقُّظِ والحفظِ والإتقان. فوجودُ الدَّرَجةِ الدنيا، كالصدقِ مثلاً وعَدَمِ التُّهمة، لا ينافيه

وجودُ ما هو أعلى منهُ من الإتقانِ والحفظ. فإذا وُجدتْ الدرجةُ العُلْيا، لم يُنافِ ذلك وجودُ الدنيا كالحفظ مع الصدق. فَصحَّ أن يقال: (حسَنٌ) باعتبار الدنيا، (صحيحٌ) باعتبار العُلْيا. ويَلزَمُ على ذلك أن يكون كلُّ صحيحٍ حسناً، فيُلتَزَمُ ذلك. وعليه عبارات المتقدمين، فإنهم يقولون فيما صَحَّ: (هذا حديثٌ حسن) ". قلتُ: فأعلى مراتب الحَسَن: - بَهْزُ بن حَكيم، عن أبيه، عن جَدِّه. و: - عَمْرو (¬1) بن شُعَيب، عن أبيه، عن جَدِّه. و: - محمد بن عَمْرو، عن أبي سَلَمة، عن أبي هريرة. و: ¬

_ (¬1) - ابتداءً من هنا، هناك سقط في (ظ) لفقدان ورقة من المخطوطة بوجهَيها.

(3) الضعيف:

- ابنُ إسحاق، عن محمد بن إبراهيم التَّيْمِي. وأمثالُ ذلك. وهو قِسمُ مُتجاذَبٌ بين الصحةِ والحُسن. فإنَّ عِدَّةً من الحُفَّاظ يُصَحِّحون هذه الطُرُقَ، وينعتونها بأنها من أدنى مراتب الصحيح. ثم بعد ذلك، أمثلةٌ كثيرة يُتَنازَعُ فيها: بعضُهم يُحَسِّنونها، وآخَرُون يُضعِّفونها. كحديث الحارثِ بن عبد الله، وعاصم بن ضَمْرة، وحَجَّاج بن أَرْطَاة، وخُصَيْف، ودَرَّاجٍ أبي السَّمْح، وخلقٍ سِواهم. (3) الضعيف: ما نَقَص عن درجة الحَسَن قليلاً. ومِن ثَمَّ، تُرُدِّدَ في حديثِ أُنَاسٍ: هل بَلَغ حديثُهم إلى درجةِ الحَسَنِ أم لا؟ وبلا ريبٍ، فخَلْقٌ كثيرٌ من المتوسطين في الرِّوايةِ بهذه المثابة. فآخِرُ مراتب الحَسَنِ هي أولُ مراتب الضَّعيف، أعني الضعيف الذي في "السُّنَن" وفي كتب الفقهاء، ورُواتُه

(4) المطروح:

ليسوا بالمتروكين: كابن لَهِيعَة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وأبي بكر بن أبي مريم الحمصيّ، وفَرَج بن فَضَالة، ورِشْدِين، وخلقٍ كثير. (4) المطروح: ما انحطَّ عن رُتبة الضعيف.

ويُروَى في: بعض المسانيد الطِّوال، وفي الأجزاء، بل (¬1) وفي "سُنن ابن ماجَهْ" و "جامع أبي عيسى". مثل: - عَمْرِو بن شَمِر، عن جابر الجُعفي، عن الحَارِث، عن عليّ. وكـ: - صَدَقَة الدَّقِيقي، عن فَرْقَدٍ السَّبَخي، عن مُرَّةَ الطَّيَب، عن أبي بكْر. و: - جُوَيْبِر، عن الضحَّاك، عن ابن عباس. و: - حفص بن عُمَر العَدَني، عن الحكَم بن أبان، عن عكرمة. وأشباهُ ذلك من المتروكين والهَلْكَى، وبعضهم أفضل من بعض. ¬

_ (¬1) - سقطت من (ش) .

(5) الموضوع:

(5) الموضوع: ما كان مَتْنُه مخالفاً للقواعد، وراويه كذَّاباً، كـ: "الأربعين الوَدْعانيَّة"، وكـ: "نسخة عليّ الرِّضَا" المكذوبةِ عليه. وهو مراتب، منه: - ما اتفقوا على أنه كَذِب. ويُعرَفُ ذلك بإقرار واضعِه، وبتجربةِ الكذبِ منه، ونحوِ ذلك. ومنه: - ما الأكثرون على أنه موضوع. والآخَرُون يقولون: هو حديثٌ ساقطٌ مطروح، ولا نَجسُرُ أن نُسمِّيَه موضوعاً. ومنه: - ما الجمهورُ على وَهْنِه وسُقوطِه، والبعضُ على أنه كذِب. ولهم في نقد ذلك طُرقٌ متعدِّدة، وإدراكٌ قويٌّ تَضِيقُ عنه

عباراتُهم. مِن جِنسِ ما يُؤتاه الصَّيرفيُّ الِجهْبِذُ في نقدِ الذهب والفضة، أو الجوهريُّ لنقدِ الجواهرِ والفُصوصِ لتقويمها. فلكثرةِ ممارستِهم للألفاظ النبويَّة، إذا جاءهم لفظٌ ركيكٌ - أعني مُخالفِاً للقواعد - أو فيه المجازفةُ في الترغيب والترهيب، أو الفضائل، وكان بإسنادٍ مُظلِم، أو إسنادٍ مُضِيء كالشمس في أثنائه رجلٌ كذَّابٌ أو وَضَّاع: فيَحْكُمون بأنَّ هذا مختلَق، ما قاله رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وتَتواطأُ أقوالُهم فيه عَلَى شيء واحد. وقال شيخنا ابنُ دقيق العيد: "إقرارُ الراوي بالوضع في رَدِّه، ليس بقاطعٍ في كونه موضوعاً، لجوازِ أن يَكذب في الإِقرار". قلتُ: هذا فيه بعضُ ما فيه، ونحن لو فتحنا بابَ التجويز والاحتمالِ البعيد، لوقعنا في الوسوسة والسفسطة!

(6) المرسل:

نعم، كثيرٌ من الأحاديث التي وُسِمَتْ بالوضع لا دليلَ على وضعها، كما أنَّ كثيراً من الموضوعاتِ لا نرتابُ في كونها موضوعة. (6) المُرسَل: عَلَمٌ عَلَى ما سَقَط ذِكْرُ الصحابيّ من إسناده، فيقول التابعيُّ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ويَقَعُ في المراسيل الأنواعُ الخمسةُ الماضية. فَمِن صِحاح المراسيل:

- مُرسَل سعيد بن المسيَّب. و: - مُرسَل مسروق. و: - مُرسَل الصُّنَابِحِي. و: - مُرسَل قيس بن (¬1) أبي حازم. ونحوُ ذلك. فإنَّ المرسَل إذا صَحَّ إلى تابعيّ كبير، فهو حُجَّة عند خلق من الفقهاء. فإن كان في الرُّوَاةِ ضَعيْفٌ إلى مثلِ ابن المسيَّب، ضَعُفَ الحديثُ من قِبَلِ ذلك الرجل. وإن كان متروكاً أو ساقطاً، وَهَنَ الحديثُ وطُرح. ويوُجَدُ في المراسيلِ موضوعاتٌ. نعم، وإن صَحَّ الإسنادُ إلى تابعيٍّ متوسّط الطبقة، كمراسيل: ¬

_ (¬1) - هنا انتهى السقط من (ظ) ، واستؤنِف الكلام.

(7) المعضل:

مجاهد، وإبراهيم، والشعبي. فهو مُرسَل جيّد لا بأسَ به، يقَبلُه قومٌ ويَرُدُّه آخَرون. ومِن أوهى المراسيل عندهم: مراسيلُ الحَسَن. وأوهى من ذلك: مراسيلُ الزهري، وقتادة، وحُمَيد الطويل، من صغار التابعين. وغالبُ المحقِّقين يَعُدُّون مراسيلَ هؤلاء مُعْضَلاتٍ ومنقطِعات، فإنَّ غالبَ رواياتِ هؤلاء عن تابعيٍّ كبير، عن صحابيّ. فالظنُّ بِمُرْسِلِه (¬1) أنه أَسقَطَ من إسنادِه اثنين. (7) المُعْضَل: هو ما سَقَط من إسنادِه اثنانِ فصاعداً. وكذلك: (8) المنقطِع: فهذا النوعُ قلَّ مَن احتَجَّ به. ¬

_ (¬1) - في (ش) : "بممُرْسِلِه" بزيادة ميم، وهو خطأ.

(9) الموقوف:

وأجوَدُ ذلك ما قال فيه مالكُ: "بلَغَنِي أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كذا وكذا". فإنَّ مالكاً مُتَثَبِّتٌ، فلعلَّ بلاغاتهِ أقوى من مراسَيل مِثل: حُمَيد، وقتادة. (9) الموقوف: هو ما أُسنِدَ إلى صحابيّ من قولهِ أو فعِله. ومُقابِلُه: (10) المرفوع: وهو ما نُسِبَ إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - من قولِه أو فعلِه.

(11) المتصل:

(11) المُتَّصِل (¬1) : ما اتَّصَل سَنَدُه، وسَلِمَ من الانقطاع. ويَصدُق ذلك على المرفوع، والموقوف. (12) المُسْنَد: هو ما اتَّصَل سَنَدُه بذكرِ النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: يَدخُلُ في المسند كلُّ ما ذُكِرَ فيه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وإن كان في أثناءِ سَنَدِه انقطاع. (13) الشاذّ: هو ما خالفَ راوِيهِ الثقاتِ، أو ما انْفَرَد به مَن لا يَحتمِلُ حالُه قبولَ تفرُّدِه. (14) المُنْكَر: وهو ما انفرد الراوي الضعيفُ به. وقد يُعَدُّ مُفْرَدُ الصَّدُوقِ منكَراً. ¬

_ (¬1) - في (ظ) : "الموصول".

(15) الغريب:

(15) الغريب: ضِدُّ المشهور. فتارةً ترجعُ غرابتُه إلى المتن، وتارةً إلى السَّنَد. ... والغريبُ صادقٌ على ما صَحَّ، وعَلَى ما لم يصحّ. والتفرُّدُ يكونُ لِمَا انْفَرَدَ به الراوي إسناداً أو متناً، ويكونُ لِمَا تَفَرَّدَ به عن شيخٍ معيَّن. كما يقال: "لم يَروِه عن سفيان إلا ابنُ مَهْدِيّ"، و: "لم يَروِه عن ابن جريج إلا ابنُ المبارك". (16) المُسَلْسَل: ما كان سَنَدُه على صِفةٍ واحدةٍ في طبقاته، كما سُلْسِلَ بـ "سَمِعتُ"، أو كما سُلْسِلَ بالأوليَّة إلى سُفْيَان.

(17) المعنعن:

وعامَّةُ المسلسلاتِ واهِيةٌ، وأكثرُها باطِلةٌ، لكذبِ رُواتها. وأقواها: - المُسَلْسَلُ بقراءة سُورة الصَّفّ، و: - المسلسَلُ بالدمشقيين، و: - المسلسَلُ بالمصريين، و: - المسلسَلُ بالمحمَّدِين إلى ابن شِهاب. (17) المُعَنْعَن: ما إسنادُه فلانٌ عن فلان. فمِن الناس مَن قال: لا يَثْبُتُ حتى يَصِحَّ لقاءُ الراوي بشيخه يوماً ماً. ومِنهم مَن اكتَفَى بِمُجرَّد إمكان اللُّقِيّ، وهو مذهَبُ مُسْلم، وقد بالَغَ في الردِّ (¬1) على مخالِفِه. ¬

_ (¬1) - في (ش) : "الردَ" بفتح الدال، وصوابها بالكسر.

ثم بتقدير تَيَقُّن اللقاء، يُشْتَرَطُ أن لا يكون الراوي عن شيخِهِ مُدَلِّساً. فإن لم يكن، حَمَلناه على الاتصال. فإن كان مُدَلِّساً، فالأظهَرُ (¬1) أنه لا يُحْمَلُ على السماع. ثم إن كان المدلِّسُ عن شيخِه ذا تدليسٍ عن الثقات، فلا بأس. وإن كان ذا تدليسٍ عن الضعفاءِ، فمردود. ¬

_ (¬1) - في (ش) : "فالأظهِرُ" بكسر الهاء، وصوابها بالفتح.

فإذا قال الوليدُ أو بَقِيَّةُ: "عن الأوزاعيّ"، فواهٍ، فإنَّهما يُدلِّسانِ كثيراً عن الهَلْكَى. ولهذا يَتَّقي أصحابُ "الصحاح" حديثَ الوليد. فما جاء إسنادُه بِصِيغةِ: "عن ابن جُرَيج"، أو: "عن الأوزاعيّ"، تجنَّبوه. وهذا في زماننا يَعْسُرُ نقدُه على المحدِّث، فإنِّ أولئك الأئمة - كالبخاريّ وأبي حاتم وأبي داود - عايَنُوا الأصول، وعَرَفوا عِلَلَها. وأمَّا نحن، فطالَتْ علينا الأسانيدُ، وفُقِدَتْ العباراتُ المتيقَّنَة. وبمثلِ هذا ونحوِه، دَخَل الدَّخَلُ على الحاكم في تَصَرُّفِهِ في "المستدرك".

(18) المدلس:

(18) المُدَلَّس (¬1) : ما رواه الرجلُ عن آخَر، ولم يَسمعه منه، أو لم يُدركه. فإن صَرَّح بالاتصال (¬2) وقال: "حدَّثنا"، فهذا كذَّاب. وإن قال: "عن"، احتُمِلَ ذلك، ونُظِرَ في طبقَتِه: هل يُدرِكُ مَن هو فوقَهُ؟ فإن كان لَقِيَه، فقد قرَّرناه. وإن لم يكن لَقِيَه، فأمْكَنَ أن يكون مُعاصِرَه، فهو محلُّ تردُّد. وإن لم يُمكِن، فمنقطِع. كـ: قتادة عن أبي هريرة. وحُكْمُ: "قال"، حُكْمُ: "عن". وَلَهُم في ذلك أغراض: - فإن كان لو صَرّحَ بمن حَدَّثه عن المُسَمَّى، لعُرِفَ ضَعْفُه: فهذا غَرَضٌ مذموم، وجِنايةٌ على السُّنَّة. ومَن يُعاني ذلك، جُرِحَ به، فإنَّ الدينَ النصيحة. ¬

_ (¬1) - في (ظ) : "التدليس". (¬2) - ليست في (ظ) .

- وإن فَعَلهُ طَلَباً للعلو فقط، أو إيهاماً بتكثير الشيوخ، بأن يُسمِّي الشيخَ مرَّةً ويُكَنِّيه أخرى، وَيَنْسُبَه إلى صَنْعةٍ أو بلدٍ لا يكادُ يُعرَف به، وأمثالَ ذلك - كما تقولُ: "حدَّثَنا البُخَاريُّ"، وتَقصِدُ به من يُبَخِّرُ الناس، أو: "حدَّثنا عَلِيٌّ بما وراءَ النهر"، وتعني به نهراً، أو: "حَدَّثنا بزَبِيد (¬1) "، وتُرِيد موضعاً ¬

_ (¬1) - اسم مدينة مشهورة باليمن. (ق)

بقُوص (¬1) ، أو: "حدَّثنا بِحَرَّان"، وتُريدُ قريةَ المَرْج - فهذا مُحْتَمَلٌ، والوَرَعُ تَرْكُه. ومِن أمثلة التدليس: الحَسَنُ عن أبي هريرة. وجمهورُهم على أنه منقطع، لم يَلْقَه (¬2) . وقد رُوِيَ عن الحَسَنِ قال: "حدَّثنا أبو هريرة". فقيل: عَنَى بـ "حَدَّثَنا": أهلَ بلدِه. ¬

_ (¬1) - مدينة كبيرة، وهي أعظم مدن صعيد مصر. (ق) (¬2) - ليست في (ظ) .

وقد يؤدِّي تدليسُ الأسماء إلى جهالةِ الراوي الثقة، فيُرَدُّ خبَرُه الصحيح! فهذه مَفْسَدَة، ولكنها في غير "جامع البخاريّ" ونحوِه، الذي تَقرَّرَ أنَّ موضوعَه للصحاح. فإنَّ الرجلَ قد قال في جامعه: "حدَّثنا عبدُ الله"، وأراد به: ابنَ صالح المصري. وقال: "حدَّثنا

(19) المضطرب والمعلل:

يعقوب"، وأراد به: ابنَ كاسِب. وفيهما لِين. وبكل حالٍ: التدليسُ منافٍ للإخلاص، لِمَا فيه من التَّزَيُّن. (19) المضطرب والمُعَلَّل (¬1) : ما رُوي على أوجهٍ مختلِفة، فَيعتلّ الحديث. ¬

_ (¬1) - ليست في (ظ) .

فإن كانت العِلّةُ غيرَ مؤثِّرة، بأن يَرويَه الثَّبْتُ على وجهٍ، ويُخالِفَه واهٍ: فليس بمَعْلُول. وقد ساق الدارقطنيُّ كثيراً مِن هذا النمط في كتاب "العِلَل" فلم يُصِب، لأنَّ الحُكم للثَّبْت. فإن كان الثَّبْتُ أرسَلَه مثلاً والواهي وصَلَه، فلا عبرة بوصلِه لأمرين: لضعفِ راويه، ولأنه معلولٌ بإرسال الثَّبْت له. ثم اعلمْ أنَّ أكثَرَ المتكلَّمِ فيهم ما ضعَّفهم الحُفَّاظُ إلا لمخالفتهم للأثبات. وإن كان الحديثُ قد رَوَاه الثَّبْتُ بإسنادٍ، أو وَقَفَه، أو أَرسَلَه، ورفقاؤه الأثباتُ يُخالفونه: فالعِبرةُ بما اجتَمَع عليه الثقاتُ، فإنَّ الواحد قد يَغلَط. وهنا قد ترجَّح (¬1) ظهورُ غَلَطِه، فلا تعليل، والعِبرةُ بالجماعة. وإن تساوَى العَدَدُ، واختَلَف الحافظانِ، ولم يترجَّح الحكمُ لأحِدهما على الآخر: فهذا الضَّرْبُ يَسوقُ البخاريُّ ومسلمٌ الوجهَين [مِنْهُ] (¬2) في كتابيهما. وبالأَولَى سَوْقُهما لما اختَلَفا في لفظِهِ إذا أمكن جَمْعُ معناه. ¬

_ (¬1) - في (ش) : "ترجَّع" بالعين، وصوابه بالحاء. (¬2) - لفظ: [منه] زيادة مِنِّي على الأصلَين. (ق)

(20) المدرج:

ومِن أمثلة اختلاف الحافِظَينِ: أن يُسمِّي أحدُهما في الإسناد ثقةً، ويُبدِله الآخرُ بثقةٍ آخر. أو يقول أحدُهما: "عن رجل"، ويقول الآخرُ: "عن فلان" فيُسَمِّي ذلك المبهَمَ. فهذا لا يَضُرُّ في الصحة. فأمَّا إذا اختَلَف جماعةٌ فيه، وأَتَوْا به على أقوالٍ عدًة: فهذا يُوهِنُ الحديثَ، ويَدُلُّ على أنَّ راوِيَه لم يُتقِنه. نعم، لو حَدَّثَ به على ثلاثةِ أوجهٍ تَرجعُ إلى وجهٍ واحد، فهذا ليس بمُعْتَلّ. كأن يقولَ مالكٌ: "عن الزُّهري، عن ابن المسَّيب، عن أبي هريرة". ويقول عُقَيلٌ: "عن الزُّهري، عن أبي سَلَمة". ويَرويَه ابنُ عيينة: "عن الزهري، عن سَعِيدٍ و+ أبي سَلَمة" معاً. (20) المُدْرَج: هي ألفاظٌ تقعُ من بعض الرواة متصلةً بالمَتْن، لا يبِينُ للسامع إلا أنها من صُلْبِ الحديث. ويَدلُّ دليلٌ عَلَى أنها مِن لفظِ

راوٍ، بأن يأتي الحديثُ مِن بعضِ الطرق بعبارةٍ تَفْصِلُ هذا من هذا. وهذا طريقٌ ظنيٌّ. فإنْ ضَعُفَ، توقَّفْنا، أو رجَّحْنا أنها من المتن. ويَبْعُدُ الإدراجُ في وسط المتن، كما لو قال: "مَن مَسَّ أُنْثَيْيِه وذكَرَهُ فلْيتوضأ". وقد صَنَّف فيه الخطيبُ تصنيفاً، وكثيرٌ منه غيرُ مُسلَّم له إدراجُه.

(21) ألفاظ الأداء:

(21) ألفاظُ الأداء: فـ "حدَّثَنا" و "سَمِعتُ" لِمَا سُمِع من لفظ الشيخ. واصطُلِح

عَلَى أنَّ "حدَّثَني" لِمَا سَمِعتَ منه وحدَك، و "حدَّثَنا" لِمَا سَمِعتَه معَ غيرك. وبعضُهم سَوَّغ "حدَّثَنا" فيما قرأه (¬1) هو على الشيخ. وأما "أخبَرَنا"، فصادِقةٌ على ما سَمِع من لفظ الشيخ، أو قرأه هو، أو قرأه آخَرُ على الشيخِ وهو يَسمع. فلفظُ الإخبار أعمُّ من التحديث. و "أخبرني" للمنفرِد. وسَوَّى المحقِّقون – كمالك والبخاريّ – بين "حدَّثنا" و "أخبرنا" و "سَمِعتُ" (¬2) ، والأمرُ في ذلك واسع. فأمَّا "أنبأنا" و "أنا"، فكذلك، لكنها غلَبتْ في عُرف المتأخرين عَلَى الإجازة. وقولُه تعالى: {قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} دَالُّ على التَّساوِي. فالحديثُ والخبرُ والنَّبأُ مُترادِفات. وأما المغاربة فيُطلقون: "أخبرَنا"، عَلَى ما هو إجازة، حتى إنَّ بعضهم يُطلقُ في الإجازة: "حدَّثَنا"! وهذا تدليس. ومِن الناس مَن عَدَّ "قال لنا" إِجازَةً ومُناوَلةً. ومِن التدليس أن يقولَ المحدِّثُ عن الشيخ الذي سَمِعَه، في أماكنَ لم يَسمَعْها: "قُرِئ عَلَى فلان: أخبَرك فلان". فربما فَعَل ذلك ¬

_ (¬1) - في (ظ) : "يقرؤه". (¬2) - ليست في (ظ) .

الدارقطنيُّ، يقولُ: "قُرئ عَلَى أبي القاسم البغوي: أخبرك فلان". وقال أبو نُعَيم: "قُرِئ عَلَى عبد الله بن جعفر بن فارس: حدثنا هارون بن سليمان". ومِن ذلك: "أخبرنا فلانٌ مِن كتابِه"، ورأيتُ ابنَ مُسَيَّب يفعله! وهذا لا ينبغي، فإنه تدليس، والصوابُ قولُك: "في كتابه". (¬1) ¬

_ (¬1) - في (ش) : " (يراجع هل هنا قطع) " وهي مِن كاتبها، وليست في الأصل، فانتبه.

ومِن التدليس أن يكون قد حَضَر طِفْلاً (¬1) على شيخٍ وهو ابنُ سنتينِ أو ثلاث، فيقول: "أنبأنا فلان"، ولم يقل: "وأنا حاضر". فهذا الحضورُ العَرِيُّ عن إذنِ المُسْمِع لا يُفيد اتصالاً، بل هو دون الإجازة، فإن الإجازة نوعُ اتصالٍ عند (¬2) أئمة (¬3) . وحضورُ ابنِ (¬4) عامٍ أو عامَيْنَ إذا لم يَقترن بإجازةٍ كلا شيءَ، إلا أن يكون حضورُه على شيخٍ حافظٍ أو محدِّثٍ وهو يَفْهَمُ ما يُحَدِّثُه (¬5) . فيكون إقرارُه بكتابةِ اسمِ الطفل بمنزلةِ الإِذن منه له في الرواية. ومن صُوَر الأداء: "حدَّثَنا حَجَّاجُ (¬6) بن محمد قال: قال ابن جُرَيج". فصيغةُ "قال" لا تدلُّ على اتصال. ¬

_ (¬1) - في (ظ) : "جُزءاً". وهو الصواب، إذ بَدَهِيٌّ أن ابن سنتين أو ثلاث طفل. (¬2) - في (ش) : "عن" بسقوط الدال. (¬3) - عبارة: "عند أئمة" ليست في (ظ) . والمحقق رحمه الله نبّه إلى أنها ساقطة من مخطوطة باريس، فمِن أين أتى بها! فالأشبه أنه قصد مخطوطة دمشق، فذكر المخطوطة الأخرى سهواً، والله أعلم. (¬4) - سقطت من (ظ) . (¬5) - في (ظ) : "يُفهِم". والعبارةُ التي أثبتها المحققُ في معناها نظر. ويشبه أن يكون في الجُملة هنا سقطٌ، كما نبّه المحققُ إلى ذلك نقلاً عن حاشية مخطوطة باريس. (¬6) - في (ش) : "حَجَّاجَ" بفتح الجيم، والصواب بضمّها.

وقد اغتُفِرَتْ في الصحابة، كقول الصحابيّ: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". فحُكْمُها الاتصالُ، إذا كان مِمَّن تُيُقِّنَ سَمَاعُه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فإن كان لم يكن له إلا مُجرَّدُ رُؤْية، فقولُه: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " محمولٌ على الإرسال. كـ: محمود بن الرَّبِيع، وأبي أُمَامة بن سَهْل، وأبي الطُّفَيل، ومروان. وكذلك "قال" مِن التابعيّ المعروفِ بلقاء ذلك الصحابي، كقول عُروة: "قالت عائشة"، وكقولِ ابن سيرين: "قال أبو هريرة". فحُكمُه الاتصال. وأرفَعُ من لفظةِ "قال": لفظةُ "عن". وأرفَعُ مِن "عن": "أخبرنا"، و "ذَكَر لنا"، و "أنبأنا". وأرفعُ من ذلك: "حدَّثَنا"، و "سَمِعتُ". وأما في اصطلاح المتأخرين، فـ "أنبأنا"، و "عن"، و "كَتبَ إلينا": واحِدٌ.

(22) المقلوب:

(22) المقلوب: هو ما رواه الشيخُ بإسنادٍ لم يكن كذلك، فيَنقلِبُ عليه ويَنُطُّ من إسنادِ حديثٍ إلى مَتْنٍ آخَرَ بعدَه. أو: أن يَنقلِبَ عليه اسمُ راوٍ، مِثْل مُرَّة بن كعب بـ كعب بن مُرَّة، وسَعْد بن سِنان بـ سِنَان بن سَعْد. فَمَن فعَلَ (¬1) ذلك خطأً، فقريب. ومَن تعمَّد ذلك وركَّبَ متناً على إسنادٍ ليس له، فهو سارقُ الحديث، وهو الذي يقال في حَقَّه: "فلانٌ يَسرِقُ الحديث". ومِن ذلك: أن يَسْرِقَ حديثاً ما سَمِعَه، فيدَّعِي سماعَهُ مِن رجل. وإن سَرَق، فأَتى بإسنادٍ ضعيفٍ لمتنٍ لم يَثْبُت سنَدُه، فهو أخفُّ جُرماً مِمَّن سَرَق حديثاً لم يصحَّ متنُه، وركَّب له إسناداً صحيحاً، فإن هذا نوعٌ من الوضع والافتراء. فإن كان ذلك في متون الحلال والحرام، فهو أعظمُ إثماً، وقد تبوَّأَ بيتاً في جهنم! وأمَّا سَرِقَةُ (¬2) السَّماع وادَّعاءُ ما لم يَسمع من الكتب والأجزاء، فهذا كذبٌ مجرَّد، ليس مِن الكذب على الرسول - صلى الله عليه وسلم -، بل مِن الكذب عَلَى الشيوخ. ولن يُفِلحَ مَن تعاناه، وقلَّ مَن سَتَر الله عليه منهم! فمِنهم مَنْ يَفتضِحُ في حياتِه، ومنهم من يَفتَضِحُ بعدَ وفاتِه. فنسألُ الله السَّتر والعفو. ¬

_ (¬1) - في (ظ) : "يعد". والتصحيح من المحقق كما نبّه بنفسه. (¬2) - في (ش) : "سَرِقَهُ" بالهاء، وصوابها بالتاء المربوطة.

فصل

فصل لا تُشتَرَطُ العدالةُ حالةَ التحمُّل، بل حالةَ الأداء. فيَصِحُّ سماعُهُ كافراً، وفاجراً، وصَبيّاً. فقد رَوَى جُبَير بن مُطْعِم - رضي الله عنه - أنه سَمِعَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - (¬1) يقرأ في المغرب بـ "الطُّوْر"، فسَمِعَ ذلك حالَ شِرْكِه، ورَوَاه مُؤْمِناً. واصطلح المحدِّثون (¬2) على جَعْلِهم سَمَاعَ ابن خمس سنين: سَمَاعاً، وما دونها: حُضُوراً. واستأنَسُوا بأنَّ محموداً (¬3) عَقَل مَجَّةً (¬4) ، ولا دليلَ فيه. والمعتبَرُ فيه إنما هو أهليةُ الفهم والتمييز. ¬

_ (¬1) - سقطت من (ش) . (¬2) - في (ش) : "المحدَّثون" بفتح الدال، وصوابها بالكسر. (¬3) - محمود بن الربيع الأنصاريّ، الصحابيّ الجليل الذي كان عمره عند وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - خمس سنين. (ق) (¬4) - هي زَرْق الماء من الفم بقوة. (ق)

(1) مسألة:

(1) مسألة: يَسُوغُ التصرُّفُ في الإسناد بالمعنى إلى صاحب الكتابِ أو الجزء. وكرِهَ بعضُهم أن يزيدَ في ألقابِ الرواة في ذلك، وأن يزيدَ تاريخَ سماعِهم، وبقراءةِ مَن سَمِعُوا، لأنه قَدْرٌ زائدٌ عَلَى المعنَى. ولا يَسُوغُ، إذا وَصَلْتَ إلى الكتاب أو الجزء، أن تَتصرَّفَ في تغيير أسانيدِه ومُتُونِه. ولهذا قال شيخنا ابنُ وهب: "ينبغي أن يُنظَرَ فيه: هل يَجبُ؟ أو هو مُستَحْسَن؟ وقُوَّى بعضُهم الوجوبَ، مع تجويزهم (¬1) الروايةَ بالمعنى، وقالوا: ما لَهُ أن يُغيِّر التصنيفَ. وهذا كلامٌ فيه ضَعف. ¬

_ (¬1) - في (ش) : "تحويزهم" بالحاء، وصوابها بالجيم.

(2) مسألة:

أمَّا إذا نقلنا من "الجزء" شيئاً إلى تصانيِفنا وتخارِيجِنا، فإنه ليس في ذلك تَغْيِيرٌ (¬1) للتصنيف الأول". قلتُ: ولا يَسُوغُ تغييرُ ذلك إلا في تقطيع حديثٍ، أو في جَمْعِ أحاديثَ مفرَّقةٍ إسنادُها واحد. فيقال فيه: "وبِهِ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ". (2) مسألة: تَسمَّحَ بعضُهم أن يقول: "سَمِعتُ فلاناً" فيما قَرَأه عليه، أو يَقرؤُه عليه الغيرُ. وهذا خلافُ الاصطلاح، أو من بابِ الرواية بالمعنى. ومنه قولُ المؤرِّخين (¬2) : "سَمِع فلاناً وفلاناً". (3) مسألة: إذا أَفرَد حديثاً مِن مِثْل "نسخة هَمَّام"، أو "نسخة أبي مُسْهِر": فإنْ حافَظَ على العبارة، جاز وِفاقاً، كما يقول مسلم: ¬

_ (¬1) - في (ش) : "تغيرٌ" بياء واحدة، وصوابها بياءَين. (¬2) - في (ش) : "المؤرَّخين" بفتح الراء، وصوابها بالكسر.

(4) مسألة:

"فذكَرَ أحاديثَ، منها: وقال رسولُ - صلى الله عليه وسلم - ". وإلا فالمحقِّقون على الترخيصِ في التصريفِ السائِغ. (4) مسألة: اختصارُ الحديث وتقطيعُه جائزٌ إذا لم يُخِلَّ معنىً. ومِن الترخيصِ تقديمُ مَتْنٍ سَمِعهَ على الإسناد، وبالعكس. كأن يقول: "قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: (النَّدَمُ تَوْبَة) . أخبَرَنا به: فلان، عن فلان". (5) مسألة: إذا ساقَ حديثاً بإسنادٍ، ثم أَتبعَه بإسنادٍ آخَرَ وقال: "مِثْله"، فهذا يجوزُ للحافظ المميِّز للألفاظ. فإن اختَلَف اللفظُ، قال: "نحوه"، أو قال: "بمعناه"، أو "بنحوٍ منه". (6) مسألة: إذا قال: "حدَّثَنا فلانٌ مذاكَرةً"، دَلَّ على وَهْنٍ مَّا، إذْ المذاكرةُ يُتَسمَّحُ فيها. ومِن التساهلِ السَّماعُ من غير مقابلة: فإن كان كثيرَ الغَلَط، لم يَجُز. وإن جَوَّزْنا ذلك، فيَصِحُّ فيما صَحَّ مِن الغلط دون المغلوط. وإن نَدَر الغَلَطُ، فمُحَتمَلٌ. لكن لا يجوزُ له فيما بعدُ أن يُحدِّث مِن أصلِ شيخِه.

(23) آداب المحدث:

(23) آدابُ المحدِّث: تصحيحُ النيَّةِ من طالب العلم متعيَّنٌ. فَمَن طَلَب الحديثَ للمكاثرة، أو المفاخرة، أو ليَروِيَ، أو لِيتناوَلَ الوظائفَ، أو ليُثْنَى عليه وعلى معرفتِه: فقد خَسِر. وإنْ طلَبَه لله، وللعمل به، وللقُربةِ بكثرة الصلاة على نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، ولنفعِ الناس: فقد فاز. وإن كانت النيَّةُ ممزوجةً (¬1) بالأمرينِ: فالحكمُ للغالب. وإن كان طَلَبَه لفَرْطِ المحبةِ فيه، مع قطع النظر عن الأجْرِ، وعن بني آدم: فهذا كثيراً ما يَعتري (¬2) طلبةَ العُلُوم، فلعلَّ النيَّةَ أن يَرزُقَها اللهُ بعدُ. وأيضاً فَمَن طَلَب العلم للآخِرة: كَسَاهُ العِلمُ خَشْيَةً لله (¬3) ، واستَكانَ وتواضَعَ. ومَن طَلَبَه للدنيا: تكبَّرَ به وتَكَثَّر (¬4) وتجبَّر، وازدَرَى بالمسلمين العامَّة، وكان عاقبةُ أمرِه إلى سِفَالٍ وحَقَارة. فليحتسِب المحدِّثُ بحديثهِ، رجاءَ الدخولِ في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (نَضَّرَ اللهُ امرءاً سَمِعَ مقالتي فوعاها، ثم أدَّاها إلى مَن لم يَسمعها) . ¬

_ (¬1) - في (ش) : "ممزوجةُ" بضم التاء المربوطة، وصوابها بالتنوين بالفتح. (¬2) - في (ش) : "يعتبري" بزيادة باء، وهو خطأ. (¬3) - في (ظ) : "كَسَرَهُ العلمُ وخَشَعَ لله". وقد نبّه المحقِّقُ إليها، لكنه تصرَّفَ في العبارة بحسب ما استساغه رحمه الله! ولو أُجيز مثلُ هذا الصنيع، لفَسَدَت المتون تباعاً. فالأَوْلَى بالصوابِ إثباتُ الأصلِ في المتنِ، وتعديلُه في الهامش - على افتراض خطئه - والله أعلم. (¬4) - سقطت من (ش) .

وَلْيَبْذُلْ نفسَه للطلبةِ الأخيار، لا سيما إذا تَفرَّد. وَلْيَمْتَنِعْ مع الهَرَمِ وتغيُّرِ الذهن. وَلْيَعْهَد إلى أهله وإخوانه حالَ صحته: أنكم متى رأيتموني تغيَّرتُ، فامنَعُوني مِن الرواية. فمن تَغيَّرَ بسُوءِ حفظٍ، وله أحاديثُ معدودة قد أَتقَنَ روايتَها (¬1) : فلا بأس بتحديثِه بها زمنَ تغيُّره. ولا بأس بأن يُجيزَ مرويَّاتِه حالَ تغيُّره، فإنَّ أصولَه مضبوطةٌ ما تغيَّرَتْ، وهو فَقَدْ وَعَىَ (¬2) ما أجاز. فإن اختَلَط وخَرِفَ، امتُنِعَ مِن أخْذِ الإجازةِ منه. ومِن الأدب أن لا يُحدِّثَ مع وجودِ مَن هو أَولَى منه، لِسِنِّه (¬3) وإتقانِه. وأن لا يُحَدِّث بشيءٍ يرويه غيرُه أعلى مِنه. وأن لا يَغُشّ المبتدئين (¬4) ، بل يَدُلّهم على المُهِمّ، فالدِّينُ النصيحة. فإنْ دَلَّهم على مُعَمَّرٍ عامِّيٍّ، وعَلِمَ قُصورَهم في إقامِة مرويَّاتِ العامِّيِّ، نَصَحهم ودَلَّهم على عارفٍ يَسمعون بقراءتهِ، أو حَضَر مع العامِّيِّ ورَوَى بنُزولٍ، جَمْعاً بين الفوائد. ورُوي أنَّ مالكاً رحمه الله كان يَغتسِلُ للتحديث، ويَتبخَّرُ، ¬

_ (¬1) - في (ظ) : "أدمَن في درْبَتها". وقد نبّه المحققُ إليها، لكنه تصرَّف فيها. (¬2) - في المطبوعة: "فَقَدَ وَعْيَ" بفتح الدال وسكون العين، وهو غَلَطٌ فاحشٌ من المحقِّق ومعناه لا يستقيم! والصوابُ بسكون الدال وفتح العين، لا سيّما وفي (ظ) فتحة ظاهرة على العين. (¬3) - في (ظ) : "لدينه". وقد تركها المحقِّقِ، وأثبتَ ما أثبته من (الاقتراح) كما نبّه. قال رحمه الله: "وأرجِّح أنها محرَّفة عن (لسِنّه) ، فلذا أثبتُّها" (ق) . اهـ (¬4) - سقط من (ش) . وهو سقطٌ فاحشٌ، أخلّ بضبط المعنى.

ويتطيَّبُ، ويَلبَسُ ثيابَه الحسنة، ويَلزمُ الوَقارَ والسَّكينة، ويَزْبُرُ (¬1) مَن يَرفعُ صوتَه، ويُرَتِّلُ الحديث. وقد تَسمَّح الناسُ في هذه الأعصار بالإسراع المذموم، الذي يَخفَى معه بعضُ الألفاظ. والسماعُ هكذا لا ميزة له على الإجازة، بل الإجازةُ صِدْقٌ. وقولُك: "سَمِعتُ – أو قرأتُ – هذا الجزءَ كلَّه" مع التَّمْتَمَةِ ودَمْجِ بعض الكلمات: كَذِبٌ. وقد قال النَّسائيُّ في عِدَّةِ أماكنَ مِن صحيحه: "وذَكَرَ كلمةً معناها: كذا وكذا". وكان الحُفَّاظُ يَعقِدون مجالسَ للإملاء، وهذا قد عُدِمَ اليومَ. والسَّماعُ بالإملاء يكون مُحقَّقاً ببيانِ الألفاظِ للمُسمِع والسامع. ولْيجتنِبْ روايةَ المشكلات، مِمَّا لا تحملُه قلوبُ العامَّة. فإن رَوَى ذلك، فليكن في مجالس خاصة. وَيَحرُمُ عليه روايةُ الموضوع، وروايةُ المطروح، إلا أن يُبَيِّنه للناسِ ليَحْذَرُوه. الثقة: تُشتَرَطُ العدالةُ في الراوي، كالشاهد. ويمتازُ الثقةُ بالضبطِ ¬

_ (¬1) - أي: ينهاه ويزجره. (ق)

والإتقان. فإن انضافَ إلى ذلك المعرفةُ والإكثارُ، فهو حافظٌ. والحُفَّاظُ طبقات:

1- في ذِرْوَتِها: أبو هريرة - رضي الله عنه -. 2- وفي التابعين كـ: ابنِ المسيَّب. 3- وفي صِغارِهم كـ: الزُّهريّ. 4- وفي أتباعِهم كـ: سفيان، وشعبة، ومالك. ثم:

5- ابن المبارك، ويحيى بن سعيد، ووكيع، وابن مهدي. ثم: 6- كأصحابِ هؤلاء، كـ: ابن المَدِيني، وابن مَعِين، وأحمد، وإسحاق، وخَلْق. ثم: 7- البخاريّ، وأبي زُرْعَة، وأبي

حاتم، وأبي داود، ومُسْلِم. ثم: 8- النَّسائيّ، وموسى بن هارون، وصالح جَزَرَة، وابن خُزَيمة. ثم: 9- ابن الشَّرْقي. ومِمَّن يُوصَفُ بالحفظ والإتقانِ، جماعةٌ من الصحابة والتابعين.

ثم: 10- عُبَيد الله بن عمر، وابن عَوْن، ومِسْعَر. ثم: 11- زائدة، واللَّيث، وحمَّاد بن زيد. ثم: 12- يزيد بن هارون، وأبو أسامة، وابن وهب. ثم:

13- أبو خيثمة، وأبو بكر بن أبي شيبة، وابن نُمَير، وأحمد بن صالح. ثم: 14- عَبَّاس الدُّوْرِي، وابن وارَهْ، والترمذيّ، وأحمد بن أبي خَيْثَمة، وعبد الله بن أحمد. ثم:

15- ابنُ صاعِد، وابن زياد النيسابوريّ، وابن جَوْصَا، وابن الأَخْرَم. ثم: 16- أبو بكر الإسماعيليّ، وابن عَدِيّ، وأبو أحمد الحاكم. ثم:

17- ابن مَنْدَه، ونحوه. ثم: 18- الَبرْقَانيّ، وأبو حازم العَبْدَوِيّ. ثم: 19- البيهقيّ، وابن عبد البَرّ. ثم: 20- الحُمَيديّ، وابن طَاهِر. ثم: 21- السِّلَفِيّ، وابن السَّمْعاني. ثم:

22- عبد القادر، والحازميّ. ثم: 23- الحافظ الضياء، وابن سيّد الناس خطيب تونس. ثم: 24- حفيده حافظ وقتِه أبو الفتح. ومِمَّن تقدَّم (¬1) من الحفاظِ في الطبقةِ الثالثة: عَدَدٌ من الصحابةِ وخلقٌ من التابعين وتابعيهم، وهلُمَّ جراً إلى اليوم. فمِثلُ يحيى القطان يقال فيه: 1- إمامٌ، وحُجَّةٌ، وثَبْتٌ، وجِهْبِذٌ، وثِقَةٌ ثِقَةٌ. ثم: 2- ثقةٌ، حافظٌ. ثم: ¬

_ (¬1) - في (ظ) : "ومِمَّن تعدَّى". واشتبهت على المحقق، فقرأها بميم واحدة، ولذلك تصرّف فيها! قال رحمه الله: "وقع في الأصل: (ومن تعدي من الحفاظ) ". (ق) اهـ فانظر.

3- ثقةٌ، مُتقِنٌ. ثم: 4- ثقةٌ عارفٌ، وحافظٌ صَدوقٌ، ونحوُ ذلك. فهؤلاء الحُفَّاظُ الثقات: إذا انفردَ الرجلُ مِنهم مِن التابعين، فحديثهُ: (صحيحٌ) . وإن كان مِن الأتباعِ، قيل: (صحيحٌ، غريبٌ) . وإن كان مِن أصحاب الأتباع، قيل: (غريبٌ، فَرْدٌ) . ويَنْدُرُ تفرُّدهم، فتجدُ الإمامَ مِنهم عندهَ مِئتا ألف حديث، لا يكادُ ينفرد بحديثينِ ثلاثة! ومَن كان بعدَهم: فأين ما يَنفرِدُ به؟ ما عَلِمْتُهُ، وقد يوُجَد. ثم نَنْتَقِلُ إلى: 5- اليَقِظ، الثقة، المتوسِّطِ المعرفةِ والطَّلَبِ (¬1) . فهو الذي يُطلَقُ عليه أنه: "ثقة"، وهُمْ جُمهورُ رجالِ "الصحيحين". فتابِعِيُّهم إذا انفَرَد بالمَتْن، خُرِّجَ حديثُه ذلك في الصحاح. وقد يَتوقَّفُ كثيرٌ من النقَّاد في إطلاق "الغرابة" مع "الصحة" في حديثِ أتباعِ الثقات. وقد يُوجَدُ بعضُ ذلك في الصحاح دون بعض (¬2) . وقد يُسمِّي جماعةٌ من الحفاظ الحديثَ الذي ينفرد به مثلُ هُشَيْم وحفص بن غِياثٍ: (منكراً) . فإن كان المنفردُ مِن طبقة مشيخة الأئمة، أطلقوا النكارةَ عَلَى ¬

_ (¬1) - ترقيم هذه المرتبة مِنِّي على مقتضى المراتب، وليست من ترقيم المحقق. (¬2) - في (ظ) : "بعضه". وقد تصرّف فيها المحقق، فحذف الهاء، ونبّه إليها!

فصل

ما انفردَ به (¬1) مثلُ عثمان بن أبي شيبة، وأبي سَلَمة التَّبُوذَكِيّ، وقالوا: (هذا منكر) . فإن رَوَى أحاديثَ من الأفراد المنكرة، غَمَزُوه وليَّنوا حديثَه، وتوقفوا في توثيقه. فإن رَجَع عنها، وامَتَنع مِن روايتها، وجَوَّز على نفسِه الوَهَمَ: فهُو خيرٌ له، وأرجَحُ لعدالته. وليس مِن حَدِّ الثقةِ أنَّهُ لا يَغلَطُ ولا يُخطِئ، فَمَن الذي يَسْلَمُ مِن ذلك غيرُ المعصومِ الذي لا يُقَرُّ على خطأ! فصل الثقة: مَن وثَّقَه كثيرٌ، ولم يُضعَّف. ودُونَه: مَن لم يُوَثَّق ولا ضُعِّف. فإن خُرِّج (¬2) حديثُ هذا في "الصحيحين"، فهو مُوَثَّق بذلك. وإن صَحَّح له مثلُ الترمذيِّ وابنِ خزيمة، فجيِّدٌ أيضاً. وإن صَحَّحَ له كالدارقطنيِّ والحاكم، فأقلُّ أحوالهِ: حُسْنُ حديثه. وقد اشتَهَر عند طوائف من المتأخرين إطلاقُ اسم "الثقة" عَلَى: مَن لم يُجْرَح، مع ارتفاع الجهالةِ عنه. وهذا يُسمَّى: "مستوراً"، ويُسمىَّ: "محلهُّ الصدق"، ويقال فيه: "شيخ". ¬

_ (¬1) - سقطت من (ش) . (¬2) - في (ش) : "حرِّج" بالحاء، وصوابها بالخاء.

فصل

وقولُهم: "مجهول"، لا يلزمُ منه جهالةُ عينِه. فإن جُهِلَ عينُه وحالُه، فأَولَى أن لا يَحتجُّوا به. وإن كان المنفردُ عنه مِن كبارِ الأثبات، فأقوى لحاله، ويَحتَجُّ بمثلِه جماعةٌ كالنَّسائيّ وابنِ حِباَّن. ويَنْبُوعُ معرفةِ الثقات: تاريخُ البخاريِّ، وابن أبي حاتم، وابن حِبَّان، وكتابُ "تهذيب الكمال". فصل مَن أَخرَج له الشيخان عَلَى قسمين: - أحدهما: ما احتَجَّا به في الأصول. - وثانيهما: مَن خرَّجا له متابعةً وشَهادَةً واعتباراً. فَمَن احتَجَّا به - أو أحدُهما - ولم يُوثَّق، ولا غُمِزَ: فهو ثقة، حديثُه قويٌّ. ومَن احتَجَّا به - أو أحدُهما - (¬1) وتُكُلِّم فيه: ¬

_ (¬1) - ليست في (ظ) ، وأثبتها المحقق من (الحاوي للفتاوى) للسيوطي.

فتارةً يكون الكلامُ فيه تعنُّتاً، والجمهورُ على توثيقِه، فهذا حديثُهُ قويٌّ أيضاً (¬1) . وتارةً يكون الكلامُ في تليينِهِ وحِفظِهِ، له اعتبار، فهذا حديثُه لا يَنحطُّ عن مرتبة (الحسَن) التي قد نُسمِّيها: (من أدنى درجات الصحيح) . فما في "الكتابين" بحمد الله رجلٌ احتَجَّ به البخاريُّ أو مسلمٌ في الأصولِ ورواياتُه ضعيفة، بل حَسَنةٌ أو صحيحة. ومن خَرَّجَ له البخاريُّ أو مسلمٌ في الشواهد والمتابَعات، ففيهم مَن في حِفظِه شيء، وفي توثيِقه تردُّد. فكلُّ مَن خُرِّجَ له في "الصحيحين"، فقد قَفَزَ القَنْطَرة. فلا مَعْدِلَ عنه، إلا ببرهانٍ بَيِّن. ¬

_ (¬1) - ليست في (ظ) .

فصل

نعم، الصحيحُ مراتب، والثقاتُ طَبَقات: فليس مَنْ وُثِّق مطلقاً كَمَنْ تُكُلِّمَ فيه، وليس مَن تُكُلِّم في سُوءِ حفظِه واجتهادِه في الطَّلَب كَمَنْ ضعَّفوه، ولا مَن ضعَّفوه ورَوَوْا له كَمَنْ تركوه، ولا مَن تركوه كَمَنْ اتَّهموه وكذَّبوه. فالترجيحُ يَدخُلُ عند تعارُضِ الروايات. وحَصْرُ الثقاتِ في مصنَّفٍ كالمتعذَّر، وضَبْطُ عَدَدِ المجهولين مستحيل! فأمَّا مَن ضُعِّفَ، أو قيل فيه أدنى شيء: فهذا قد ألَّفتُ فيه مختصراً سمَّيتُه بـ "المُغنِي"، وبَسَطتُ فيه مؤلَّفاً سَمَّيتُه بـ "الميزان". فصل ومِن الثقات الذين لم يُخْرَجْ لهم في "الصحيحين" خَلْقٌ، مِنهم: - مَن صَحَّح لهم الترمذيُّ، وابنُ خزيمة. ثم: - مَن رَوَى لهم النسائي، وابنُ حِبَّان، وغيرُهما. ثم: - مَن لم يُضَعِّفْهم أحدٌ، واحتَجَّ هؤلاء المصنِّفون بروايتهم. وقد قيل في بعضهم: "فلانٌ ثقة"، "فلان صدوق"، "فلان لا بأس به"، "فلان ليس به بأس"، "فلان محلُّه الصدق"، "فلان شيخ"، "فلان مستور"، "فلان رَوَى عنه شعبة، أو مالك، أو يحيى". وأمثالُ

ذلك، كـ: "فُلان حسَنُ الحديث"، "فلانٌ صالحُ الحديث"، "فلانٌ صدوقٌ إن شاء الله". فهذه العبارات كلُّها جيَّدة، ليسَتْ مُضعِّفةً لحالِ الشيخ. نعم، ولا مُرَقِّيةً لحديِثه إلى درجة الصِّحَّةِ الكاملةِ المتفَقِ عليها، لكنْ كثيرٌ مِمَّن ذَكَرْنا مُتَجَاذَبٌ بين الاحتجاجِ به وعَدَمِه. وقد قيل في جَمَاعاتٍ: "ليس بالقويّ، واحتُجَّ به". وهذا النَّسائيُّ قد قال في عِدَّةٍ: "ليس بالقويّ"، ويُخرِجُ لهم في كتابه. قال: "قولُنا: (ليس بالقوي) ليس بجَرْحٍ مُفْسِد". والكلامُ في الرُّواة يَحتاجُ إلى وَرَعٍ تامّ، وبَراءةٍ مِن الهوى والمَيْل، وخِبرةٍ كاملةٍ بالحديثِ، وعِلَلِه، ورجالِه. ثم نحن نفتَقِرُ إلى تحرير عباراتِ التعديلِ والجرح، وما بين ذلك مِن العباراتِ المُتَجَاذَبَة. ثم أهَمُّ مِن ذلك، أن نَعلمَ بالاستقراءِ التامِّ عُرْفَ ذلك الإمامِ الجِهْبِذ، واصطلاحَه، ومقاصِدَه، بعباراتِه الكثيرة.

أما قولُ البخاري: "سكتوا عنه"، فظاهِرُها أنهم ما تعرَّضوا له بجَرْحٍ ولا تعديلٍ. وعَلِمْنا مقصدَه بها بالاستقراء، أنها بمعنى: "تركوه". وكذا عادَتُه إذا قال: "فيه نظر"، بمعنى أنه: "مُتَّهَم"، أو: "ليس بثقة". فهو عنده أسْوَأُ حالاً من: "الضعيف". وبالاستقراء، إذا قال أبو حاتم: "ليس بالقويّ"، يُريد بها: أنَّ هذا الشيخ لم يَبلُغ درَجَة القويِّ الثَّبْت. والبخاريُّ قد يُطلقُ عَلَى الشيخ: "ليس بالقوي"، ويريد أنه: "ضعيف". ومِن ثَمَّ، قيل تجبُ (¬1) حكاية الجرح والتعديل: "فَمِنهم مَن نَفَسُهُ حادٌّ في الجَرْح، ومِنهم مَن هو معتدل، ومِنهم مَن هو متساهل". فالحادُّ فيهم: يحيى بن سعيد، وابن معين، وأبو حاتم، وابن خِراش، وغيرُهم. والمعتدلُ فيهم: أحمد بن حنبل، والبخاريّ، وأبو زُرْعَة. والمتساهلُ كـ: الترمذيّ، والحاكم، والدارقطنيّ في بعض الأوقات. ¬

_ (¬1) - في (ظ) : "في". والمحقِّقُ لم يستسغها، فاستعاض عنها في المتن بـ "تجبُ"! وليس لها معنى! ومَن يتأمَّل كلام الذهبي، يجده يحكي أقوالَ أهلِ هذا الفنّ. فالصواب إثبات "في" كما وردت.

وقد يكون نَفَسُ الإمام – فيما وافَقَ مذهبَه، أو في حالِ شيخِه – ألطفَ منه فيما كان بخلاف ذلك. والعِصمةُ للأنبياءِ والصديقين وحُكَّام القِسْط. ولكنَّ هذا الدينَ مؤيَّدٌ محفوظٌ مِن الله تعالى، لم يَجتمع علماؤه عَلَى ضلالة، لا عَمْداً ولا خطأ. فلا يَجتمِعُ اثنانِ عَلَى توثيقِ ضعيف، ولا عَلَى تضعيفِ ثقة. وإنما يقعُ اختلافُهم في مراتبِ القُوَّةِ أو مراتبِ الضعف. والحَاكمُ مِنهم يَتكلَّمُ بحسبِ اجتهادِهِ، وقُوَّةِ مَعارِفِه. فإن قُدِّرَ (¬1) خطؤه في نقده، فله أجرٌ واحدٌ، والله الموفق. ¬

_ (¬1) - في (ظ) : "بَدَرَ". واستُشكِلَت على المحقِّق، فاستعاض عنها بـ "قُدِّرَ" ولا معنى لها! قال: "وقعَت العبارةُ في الأصل: (فإن بدر خطؤه) وهي تحريف عمّا أثبتُّه". (ق) اهـ قلتُ: رحمك الله وألحقنا بك، هذا استخدام عربيّ معروف!

وهذا فيما إذا تكلَّموا في نقدِ شيخ، وَرَدَ شيءٌ (¬1) في حِفظِه وغَلَطِه. فإن كان كلامُهم فيه مِن جهةِ مُعتَقَدِه، فهو على مراتب: فمنهم: - مَن بِدْعَتُه غليظة. ومنهم: - مَن بِدْعَتُه دون ذلك. ... ومنهم: - الداعي إلى بدعتِه. ومنهم: - الكافُّ، وما بينَ ذلك. فمتى جَمَع الغِلَظَ والدعوةَ، تُجُنِّبَ الأخذُ عنه. ومتى جَمَع الخِفَّةَ والكفَّ، أَخذوا عنه وقَبِلُوه. فالغِلَظُ كـ: غُلاةِ الخوارج، والجهمية، والرافضة. والخِفَّةُ كـ: التشيُّع، والإِرجاء. وأمَّا مَن استَحلَّ الكذبَ نَصْراً لِرَأْيِه كالخطَّابيَّة، فبالأولى رَدُّ حديثهِ. قال شيخنا ابنُ وَهْب: العقائدُ أَوجبَتْ تكفيرَ البعضِ للبعض، أو التبديعَ، وأَوجبَتْ العَصَبِيَّةَ. ونشأ من ذلك الطعنُ بالتكفيرِ والتبديع، وهو كثيرٌ في الطبقة المتوسِّطةِ من المتقدمين. والذي تَقرَّرَ عندنا: أنه لا تُعتَبرُ المذاهبُ في الرواية، ولا نُكفِّرُ (¬2) ¬

_ (¬1) - في (ظ) : "بِهِ". وقرأها المحقق بالياء، فاستعاض عنها بـ "شيء". قال: "وقع في الأصل: (في نقد شيخ ورديه في حفظه وغلطه) ، فصحَّحتُه كما ترى". (ق) اهـ (¬2) - في (ظ) : "تكفير".

أهلَ القِبلة، إلا بإنكارِ مُتواترٍ من الشريعة. فإذا اعتَبَرْنَا (¬1) ¬

_ (¬1) - في (ظ) : "اعتقدنا".

ذلك، وانضمَّ إليه الورَعُ والضبطُ والتقوى: فقد حَصَل مُعْتمَدُ الرواية. وهذا مذهبُ الشافعيّ - رضي الله عنه -، حيث يقول: "أَقبَلُ شهادةَ أهلِ الأهواءِ، إلا الخَطَّابيَّة من الرَّوَافِض". قال شيخنا: وهل تُقبَلُ روايةُ المبتدِع فيما يؤيِّدُ به مذهبَه؟ فمَن رأى رَدَّ الشهادةِ بالتُّهْمَة، لم يَقبَل. ومَن كان داعيةً مُتَجاهِراً ببدعتِه، فَلْيُترَك إهانةً له، وإخماداً لمذهبِه. اللهم إلا أن يكون عنده أثَرٌ تفرَّدَ به، فنُقدِّمُ سَمَاعَهُ منه.

ينبغي أن تُتَفَقَّدَ حالُ الجارح مع مَن تَكلَّم فيه باعتبار الأهواء: فإن لاحَ لك انحرافُ الجارح، ووجدتَ توثيقَ المجروح من جهةٍ أخرى، فلا تَحفِلْ بالمنحرِف وبغَمْزِه المبهَم. وإن لم تجد توثيقَ المغموز، فتأَنَّ وترفَّقْ. قال شيخُنا ابنُ وَهْب رحمه الله: ومِن ذلك: الاختلافُ الواقعُ بين المتصوِّفة وأهلِ العلمِ الظاهرِ، فقد وَقَع بينهم تنافُرٌ أوجَبَ كلامَ بعضِهم في بعض. وهذه غَمْرَةٌ (¬1) لا يَخلُصُ منها إلا العالمُ الوَافي بشواهد الشريعة. ولا أَحْصُرُ ذلك في العلم بالفروع، فإنَّ كثيراً من أحوال المُحِقِّين (¬2) من الصوفية لا يَفِي بتمييزِ حَقِّه من باطِلِه عِلمُ الفروع. بل لا بُدَّ مِن ¬

_ (¬1) - في (ظ) : "غمزة" بالزاي. (¬2) - في (ظ) : "المحققين" بقافَين. وما أثبته المحقِّقُ هو الصواب، وستأتي "محق" بصيغة المفرد.

معرفةِ القواعدِ الأصولية، والتمييزِ بين الواجبِ والجائز، والمستحيلِ عقلاً، والمستحيلِ عادَةً. وهو مقامٌ خَطِر، إذ القادِحُ في مُحِقِّ الصُّوفية داخلٌ في حديث: (مَن عادَى لي وَلِيّاً، فقد بارَزَني بالمُحارَبة) . والتارِكُ لإنكارِ الباطلِ

مِمَّا سَمِعَه مِن بعضِهم تاركٌ للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ومِن ذلك: الكلامُ بسبب الجهل بمراتب العلوم، فيُحتاجُ إليه في المتأخرين أكثَرُ. فقد انتَشَرَتْ علومٌ للأوائل وفيها حَقٌّ: كالحسابِ والهندسةِ والطِّبٌ، وباطلّ: كالقولِ في الطبيعيَّاتِ وكثيرٍ من الإلهيَّاتِ وأحكامِ النجوم. فيَحتاجُ القادحُ أن يكون مُميِّزاً بين الحقِّ والباطل، فلا يُكفِّرَ مَن ليس بكافر، أو يَقبلَ رواية الكافر. ومنه: الخَلَلُ الواقعُ بسببِ عَدَمِ الوَرَعِ، والأَْخْذِ بالتوهُّم، والقرائنِ التي قد تَتخلَّفُ (¬1) . قال - صلى الله عليه وسلم -: (الظَّنُّ أكذَبُ الحديث) . فلا بُدّ من العلم والتقوى في الجَرْح. فلصُعُوبةِ ¬

_ (¬1) - في (ظ) : "تختلف".

(24) المؤتلف والمختلف:

اجتماع هذه الشرائط في (¬1) المزكِّين، عَظُمَ خَطَرُ الجَرْح والتعديل. (24) المُؤْتلف والمختلف (¬2) : فَنٌّ واسعٌ مُهِمٌّ، وأهمُّه ما تكرَّر وكَثُر. وقد يَنْدُرُ كـ: أَجْمَد بن عُجْيَان، وآبِي اللَّحْم، وابنِ أَتَشٍ الصَّنْعَانيّ، ومحمد بن عَبَادَة الواسِطيّ العِجْليّ، ومحمد بن حُبَّان الباهِليّ، وشُعَيث بن مُحَرَّر. والله أعلم. ¬

_ (¬1) - سقطت من (ش) . (¬2) - في (ظ) : "المختلف والمؤتلف" بالتقديم والتأخير. وصوَّبها المحقِّقُ جرياً على المعهود لدى أهل الاصطلاح.

تَمَّتْ المقدِّمةُ المُوقظة طابَقها ودقَّقها ونسَّقها الفقيرُ إلى مولاه: أبو حَمِيد أحمدُ بنُ الشَّيخِ إسماعيل الأَقْطَش المصريّ عفا الله عنه وعن أبيه في ليلة الجمعة ثالث أيَّامِ التشريقِ سنة تسعٍ وعشرين وأربعمائةٍ وألف وصَلِّ اللهُمَّ وسَلِّمْ وبارِكْ عَلَى سَيِّدنا محمَّد وعَلَى آله الطيّبين الطاهرين وصحبه أجمعين

§1/1