الموشى = الظرف والظرفاء

الوشاء

مقدمة المؤلف

مقدمة المؤلف بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر وأعن، باسم الله يكون الابتداء. وبعونه تتم الأشياء. وبمشيئته تتصرف الدهور. وعلى إرادته تتقلب الأمور. ومنه التوفيق والتأييد. وبيده الإعانة والتسديد. ولا حول ولا قوة إلا بالله. وبتوفيقه إرشاده. قال أبو الطيب محمد بن إسحاق بن يحيى الوشاء المؤلف لهذا الكتاب، وهو الكتاب الموشى نقول ونستعين بالله على السداد ونستهديه، ونستفتح له استفتاح اللاجئ إليه ونستكفيه: يجب على المتأدب اللبيب. والمتظرف الأريب. المتخلق بأخلاق الأدباء. والمتحلي بحلية الظرفاء. أن يعرف قبل هجومه على ما لا يعلمه. وقبل تعاطيه ما لا يفهمه. تبين الظرف وشرائع المروءة وحدود الأدب، فإنه لا أدب لمن لا مروءة له، ولا مروءة لمن لا ظرف له، ولا ظرف لمن لا أدب له. وقد وصفنا في كتابنا هذا على قدر ما بلغه علمنا. واحتوى عليه فكرنا وجعلناه حدوداً محدودة. ومعالم مقصورة. وشرائع بينّة. وأبواباً نيّرة. وشريطتنا على قارئ كتابنا الإقصار عن طلب عيوب أخطائنا. والصفح عن ما يقف عليه من إغفالنا. والتجاوز عن ما ينتهي إليه من إهمالنا. وإن أداه التصفح إلى صواب نشره. أو إلى خطأ ستره. لأنه قد تقدمنا بالإقرار. ولا بد للإنسان من زلل وعثار. وليس كل الأدب عرفناه. ولا كل

العلم دريناه. وعلينا في ذلك الاجتهاد. وإلى الله الإرشاد. وقلَّ ما نجا مؤلف لكتاب من راصد بمكيدة. أو باحث عن خطيئة. وقد كان يقال من ألف كتاباً فقد استشرف. وإذا أصاب فقد استهدف. وإذا أخطأ فقد استقذف. وكان يقال لا يزال الرجل في فسحة من عقله ما لم يقل شعراً أو يضع كتاباً. وقال الشاعر في ذلك: لا تعرضن للشعر ما لم يكن ... علمك في أبحره جسرا فلن يزال المرء في فسحة ... من عقله ما لم يقل شعرا وأنشد في ذلك: الشعر عقل المرء يعرضه ... والقول مثل مواقع النَّبل منها المُقصِّر عن رميته ... ونوافذ يذهبن بالخصل وكان يقال: اختيار الرجل وافد عقله، فقال: لا بل مبلغ عقله، وقيل: دلّ على عاقل اختياره؛ وقيل لبعض العلماء: اختيار الرجل قطعة من عقله؛ وقال الخليل بن أحمد: لا يحسن الاختيار إلا من يعلم ما لا يحتاج إليه من الكلام؛ وقال الشعبي: العلم كثير، والعمر قصير، فخذوا من العلم أرواحه ودعوا ظروفه؛ وقال ابن عباس: العلم أكثر من أن يُحصى، فخذوا من كل شيء أحسنه.

ونحن نستعين الله ونودع كتابنا هذا جملة من حدود الأدب والمروءة والظرف، ونجعل ذلك أبواباً مختصرة وفصولاً محبرة، على غير نقص منا لما في كل باب، لا يطول به تأليف الكتاب، ولأن غرضنا في الاختصار، لما عليه النفوس من ملل الإكثار، ولننجو من مقالة حاسد، أو اعتراض معاند، على أنه لا بد للحاسد وإن لم يجد سبيلاً إلى وهن. ولا سبباً إلى طعن. أن يحتال لذلك بحسب ما ركب عليه طبعه. وتضمنّه صدره. حتى يخلص إلى غفلة. أو يصل إلى زلة. فيتشبث بالمعنى الحقير. ويتسبب بالحرف الصغير. إلى ذكر المثالب. وتغطية المناقب. إذ من طبع أهل الحسد. وأرباب المعاندة والنكد. تغطية محاسن من حسدوه. وإظهار مساوئ من عاندوه. وقد أخبرني أبو جعفر أحمد بن عبيد بن ناصح، وبشر بن موسى بن صالح الأسدي قالا: حدثنا الأصمعي قال: حدثني العلاء بن أسلم قال: حدثنا رؤبة بن العجاج قال: قال لي فلان قصرت وعرفت، ثم قال لي: يا رؤبة عساك مثل أقوام إن سكت لم يسألوني. وإن تكلمت لم يعوا عني. قلت: أرجو أن لا أكون كذلك. قال: فما أعداء المروءة؟ قلت: تخبرني. قال: بنو عمّ السوء، إن رأوا خيراً ستروه، وإن رأوا شراً أذاعوه. أنشدني أبو العباس محمد بن يزيد المبرد:

عين الحسود عليك، الدهر، حارسة ... تبدي المساوئ، والإحسان تخفيه يلقاك بالبشر يبديه مكاشرة ... والقلب مضطغن فيه الذي فيه إن الحسود بلا جرم عداوته ... فليس يقبل عذراً في تجنيه وأنشدني أبو جعفر في مثل ذلك: إن يعلموا الخير يخفوه، وإن علموا ... شراً أُذيع، وإن لم يعلموا كذبوا وأنشدني محمد بن إبراهيم القارئ: وترى اللبيب مُحسداً لم يجترم ... شتم الرجال وعرضه مشتوم حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ... فالقوم أعداء له وخصوم كضرائر الحسناء قلن لوجهها ... حسداً وبغياً إنه لدميم وقال عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير: ما ضرني حسد اللئام، ولم يزل ... ذو الفضل يحسده ذوو النقصان يا بؤس قوم ليس جرم عدوهم ... إلا تظاهر نعمة الرحمان وخبرت أن المنصور قال لبعض ولد المهلب بن أبي صفرة: ما أسرع الناس إلى قومك! فقال: يا أمير المؤمنين إن العرانين تلقاها محسدَّة، ... ولا ترى للئام الناس حسادا كم حاسد لهم قد رام سعيهم، ... ما نال مثل مساعيهم، ولا كادا ويروى أن عمر بن الخطاب، رحمة الله عليه، كان يتمثل بهذين البيتين: قوم سنان أبوهم حين تنسبهم ... طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا محسودون على ما كان من نعم ... لا ينزع الله منهم ما له حسدوا وأنشدنا أحمد بن عبيد قال: أنشدنا العتبي عن أبيه:

إني نشأت، وحسادي ذوو عدد ... يا ذا المعارج لا تنقص لهم عددا ما زلت أقدم أفراسي مكلَّمةً ... حتى اتخذت على حسادهن يدا وأنشدت: كلُّ العداوة قد ترجى إماتتها، ... إلا عداوة من عاداك من حسد وبلغ محمد بن عبد الله بن طاهر أن قوماً من الموالي يحسدونه، فقال: إن يحسدوني فإني غير لائمهم ... قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا فدام لي ولهم ما بي وما بهم، ... ومات أكثرهم غيظاً بما يجد أنا الذي يجدوني في صدورهم ... لا أرتقي صُعداً منها ولا أرد وقال أردشير بن بابك: كل خصلة رديئة، فهي دون الحسد، لأن الحسود يسعى على من أحسن إليه، ويبغي الغوائل لمن أنعم عليه. وقال الأصمعي: سمعت أعرابياً ذكر بعض الحساد فقال: ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من الحاسد، حزن لازم ونفس دائم وعقل هائم؛ وقال حاتم طيء: يا كعب ما إن ترى من بيت مكرمة ... إلا له، من بيوت الشر؛ حسادا والتحرز من الحساد ما لا سبيل لنا إليه، والتحفظ من ألسنتهم ما لا نقدر عليه، لكن أقول كما قال الشاعر: ما يضرُّ البحر، أمسى زاخراً، ... أن رمى فيه غلام بحجر وأُصدّر كتابي هذا مستعيناً بالله راغباً إليه، بذكر الأدب وصفته. وما يحتاج الأدباء إلى معرفته. وأشفعه بأشياء يستحسنها الأديب. ويرغب في دراستها الأريب، وبالله التوفيق.

البيان عن حدود الأدب

البيان عن حدود الأدب ما يجب على الأدباء من الفحص والطلب اعلم أن أول ما يجب على العاقل المنفصل بصفته عن الجاهل أن يتبعه ويميل إليه، ويستعمله ويحرص عليه، مجالسة الرجال ذوي الألباب، والنظر في أفانين الآداب، وقراءة الكتب والآثار، ورواية الأخبار والأشعار، وأن يحسن في السؤال، ويتثبت في المقال، ولا يكثر الكلام والخطاب، إن سئل عمّا يعلمه أجاب، وإن لم يسأل صمت للاستماع، ولم يتعرض لمكروه الانقطاع. فقد روي في الخبر المأثور أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: أغد عالماً، أو متعلماً، أو مستمعاً، ولا تكن الرابع فتهلك. والصمت أحسن بالرجل من الهذر في منطقه، والكلام فيما لا يعنيه، والتسرع إلى ما يكون على وجل منه. وقد قال بعض الشعراء: يموت الفتى من عثرة بلسانه ... وليس يموت المرء من عثرة الرجل فعثرته من فيه ترمي برأسه ... وعثرته بالرجل تبرا على مهل وقال أبو العتاهية: إذا كنت عن أن تحسن الصمت عاجزاً ... فأنت عن الإبلاغ في القول أعجز يخوض أناس في المقال ليوجزوا ... وللصمت عن بعض المقالات أوجز وقال أيضاً:

قد أفلح الساكت الصموت ... كلام راعي الكلام قوت ما كل نطق له جواب ... جواب ما تكره السكوت وقال النبي، صلى الله عليه وسلم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيراً أو ليسكت، وقال: من صمت نجا. وكان أعرابي يجالس الشعبي يطيل الصمت، فقال له يوماً: لم لا تتكلم؟ فقال: أسمع لأعلم وأسكت فأسلم. وقال أبو هريرة: ثمرة القلب اللسان. وقيل لعيسى بن مريم، عليه السلام: ما مبدى علم القلب وجهله؟ قال: اللسان. قال: فأين يلزم الصمت؟ قال: عند من هو أعلم منكم، وعند الجاهل إذا جالسكم. وقال بعض الشعراء: تعاهد لسانك إن اللسا ... ن سريع إلى المرء في قتله وهذا اللسان بريد الفؤا ... د يدل الرجال على عقله وقال آخر: أستر النفس ما استطعت بصمت، ... إن في الصمت راحة للصموت واجعل الصمت إن عييت جواباً ... رب قول جوابه في السكوت وقال أبو العتاهية: لا خير في حشو الكلا ... م إذا اهتديت إلى عيونه والصمت أجمل بالفتى ... من منطق في غير حينه وقال لقمان لابنه: يا بني إن غلبت على الكلام، فلا تغلب على الصمت،

فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول. إني ندمت على الكلام مراراً ولم أندم على الصمت مرة واحدة. وقال إبراهيم بن المهدي في هذا المعنى فأحسن: إن كان يعجبك السكوت فإنه ... قد كان يعجب قبلك الأخيارا ولئن ندمت على سكوتك مرة ... فلقد ندمت على الكلام مرارا إن السكوت سلامة ولربما ... زرع الكلام عداوة وضرارا فحقيق على الأديب أن يخزن لسانه عن نطقه، ولا يرسله في غير حقه، وأن ينطق بعلم، وينصت بحلم، ولا يعجل في الجواب، ولا يهجم على الخطاب. وإن رأى أحداً هو أعلم منه، نصت لاستماع الفائدة عنه، وتحذر من الزلل والسقط، وتحفظ من العيوب والغلط، ولم يتكلم فيما لا يعلم، ولم يناظر فيما لا يفهم، فإنه ربما أخرجه ذلك إلى الانقطاع والاضطراب، وكان فيه نقصه عند ذوي الألباب. وقد قال الأعور الشني فأجاد: ألم ترَ مفتاح الفؤاد لسانه ... إذا هو أبدى ما يقول من الفم وكائن ترى من صامت لك معجب ... زيادته أو نقصه في التكلم لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... فلم يبق إلا صورة اللحم والدم ومثله قول الأخطل أيضاً: إن الكلام من الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا وأخبرني أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب قال: كان بكر بن عبد الله المزني يقل الكلام، فقيل له في ذلك، فقال: لساني سبعٌ، إن تركته أكلني، وأنشد: لسان الفتى سبع عليه شذاته ... فإلا يزع من غربه فهو آكله وما العيّ إلا منطق متبرع ... سواء عليه حق أمر وباطله

قال أبو الطيب قوله: شذاته، أي حده، وقال بعض الحكماء: الزم الصمت تعد حكيماً كنت أم عليماً؛ وقال الهيثم بن الأسود النخعي: من يستعن بالصمت يوماً فإنه ... يقال له لبُّ نهاه أصيل وإن لسان المرء ما لم تكن له ... حصاة، على عوراته، لدليل وكان يقال: الصمت صون اللسان وستر العي. أنشدني أحمد بن يحيى ثعلب للخطفى بن بدر: عجبت لإزراء العييّ بنفسه، ... وصمت الذي قد كان بالقول أعلما وفي الصمت ستر للعيي، وإنما ... صحيفة لبّ المرء أن يتكلما والعرب تقول: عَيٌّ صامت خير من عَيٌّ ناطق. وكان ربيعة الرأي كثير الكلام، فتكلم يوماً، وأكثر ثم قال لأعرابي عنده: أتعرف ما العي؟ قال: نعم، ما أنت فيه منذ اليوم. وقال أكثم بن صيفي: حتف الرجل بين لحييه؛ وأنشدني أحمد بن عبيد لأبي محمد اليزيدي: حتف امرئ لسانه ... في جده، أو لعبه بين اللَّها مقتله، ... ركب في مركبه ورب ذي مزح أُمي ... تت نفسه في سببه ليس الفتى كل الفتى ... إلا الفتى في أدبه وبعض أخلاق الفتى ... أولى به من نسبه

وكان يقال: لسانك عبدك، فإذا تكلمت صرت عبده. وقال بعض الحكماء: أنا بالخيار ما لم أتكلم، فإذا تكلمت صار الكلام علي بالخيار. وقال آخر: لساني في حبس بدني ما لم أطلقه على نفسي، فإذا أطلقته صار بدني في حبس لساني. وقال آخر: الكلمة أسيرة في وثاق الرجل، فإذا تكلم بها صار في وثاقها. وقال الشعبي: أنا على اتباع ما لم أوقع أقدر مني على ردّ ما أوقعت. وتكلم أربعة من الملوك بأربع كلمات، خرجن كلهن بمعنى. فقال كسرى: أنا على قول ما لم أقل أقدر مني على رد ما قلت. وقال قيصر: لا أندم على ما لم أقل، فإنما أندم على ما قلت. وقال ملك الصين: إذا تكلمت بالكلمة ملكتني، ولم أملكها. وقال ملك الهند: عجبت لمن يتكلم بالكلمة إن حكيت عنه ضرته، وإن لم تذكر لم تنفعه. وقال امرؤ القيس: إذا المرء لم يخزن عليه لسانه، ... فليس على شيء سواه بخزان وقالت الفلاسفة: اللسان خادم القلب. وقالت العلماء: اللسان كاتب القلب، إذا أملى عليه شيئاً أتى به. وأنشدني عبيد الله بن عبد الله بن طاهر: رأيت لسان المرء راعي نفسه، ... وعاذره إن ليم، أو زل سائره فمن لزمته حجة من لسانه، ... فقد مات راعيه وأفحم عاذره ولئن كان السكوت جميلاً، لقد جعل الكلام جليلاً، ما لم يتعد المتكلم في

كلامه، ويتجاوز في الكلام حدّ نظامه. وقد أنشدني أحمد بن يحيى ثعلب: ما في الكلام على الأنام أثام، ... بل فيه عندي النقض والإبرام لولا الكلام لما تبينا الهدى، ... وتعطلت في ديننا الأحكام فزن الكلام، إذا أردت تكلما، ... ودع الفضول، ففي الفضول ملام إن أنت لم ترشد أخاك، إذا أتى، ... فعليك منه هجنة وأثام والنطق أفضل من صمات متهم، ... جاء الكتاب بذاك، والإسلام هذا البيان، فلا تكن متمارياً، ... فالصمت عيٌّ، والكلام نظام وليس بعيب على الأديب، وإن كان مستقلاً بما لديه، استخذاؤه للمتقدم في العلم عليه، ولا في سؤاله فيما غُيبت معرفته عنه، من هو أعلى درجة في العلم منه. وأنشدني أحمد بن يحيى ثعلب: تمام العمى طول السكوت، وإنما ... شفاء العمى يوماً سؤالك من يدري وروى أن أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن عبد المطلب! ماذا يزيد في العلم؟ قال: التعلم. قال: فماذا يدل على العلم؟ قال: السؤال. أنشدني أحمد بن عبيد قال: أنشدني ابن الأعرابي لبشامة بن عمرو المرّي: إذا ما يهتدي لبي هداني، ... وأسأل ذا البيان، إذا عميت وأجتنب المقاذع حيث كانت، ... وأترك ما هويت لما خشيت

وكان يقال: من رق وجهه عن السؤال دق علمه، ومن أحسن السؤال علم. وقال الشاعر: إذا كنت في بلدة جاهلاً، ... وللعلم ملتمساً، فاسأل فإن السؤال شفاء العمى، ... كما قيل في الزمن الأول وروينا عن يونس عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير قال: لا يتعلم من استحيا وتكبر. وقال رجل من بني العباس للمأمون: أيحسن بمثلي العلم اليوم؟ فقال: نعم والله لأن تموت طالباً للعلم أزين بك من أن تموت قانعاً بالجهل. فقال: إلى متى يحسن بي، وقد جاوزت الستين! قال: ما حسنت بك الحياة. وقال الخليل: ذاكر بعلمك فتذكر ما عندك وتستفيد ما ليس عندك. وقال الخليل أيضاً: كنت إذا لقيت عالماً أخذت منه وأعطيته. وأخبرني أحمد بن عبيد قال: أخبرني ابن الأعرابي قال: أخبرنا أزهر السمان قال: قال الزهري: الأخبار ذكران لا يحبها إلا ذكران الرجال، ولا يكرهها إلا مؤنثوهم. وقال الطرماح: ولا أدع السؤال، إذا تعيت ... عليّ، من الأمور، المشكلات وينفعني، إذا استفتيت علمي، وأقوى الشك عندي البينات فهذه جملة تحث الأدباء على الطلب، وصدر يقنع به العقلاء من حدود الأدب. ومنه أيضاً ترك ممازحة الإخوان، إذ كان مما يوغر صدور الخلان، وقد اختصرت لك من ذلك جملة مقنعة، وألفاظها ممتعة، فيها لك كفاية، ولذوي الألباب نهاية، إن شاء الله تعالى.

النهي عن ممازحة الأخلاء

النهي عن ممازحة الأخلاء والنهي عن مفاكهة الأوداء اعلم أن من زي الأدباء، وأهل المعرفة والعقلاء، وذوي المروءة والظرفاء، قلة الكلام في غير أرب، والتجاهل عن المداعبة واللعب، وترك التبذل بالسخافة والصياح بالفكاهة والمزاح، لأن كثرة المزاح يذل المرء، ويضع القدر، ويزيل المروءة، ويفسد الأخوة، ويجرئ على الشريف الحر، أهل الدناءة والشر. وقد أخبرني أحمد بن عبيد قال: أخبرني الأصمعي عن رجل من العرب قال: خرجت في بعض ليالي الظلم، فإذا أنا بجارية كأنها صنم، فراودتها عن نفسها، فقالت: يا هذا أما لك زاجر من عقل، إذا لم يكن لك واعظ من دين؟ قلت: والله ما يرانا إلا الكواكب. قالت: يا هذا فأين مكوكبها؟ فقلت: إنما كنت أمزح. فقالت: فإياك، إياك المزاح، فإنه ... يجري عليك الطفل والدنس النذلا ويذهب ماء الوجه بعد وضاته، ... ويورث بعد العز صاحبه ذلا وقال سليمان بن داود، عليهما السلام: المزاح يستخف فؤاد الحليم، ويذهب ببهاء ذي القدرة. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من أكثر من شيء عرف به، ومن مازح استخف به، ومن كثر ضحكه ذهبت هيبته. وكان يقال: لكل شيء بذر وبذر العداوة المزاح. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله: امنعوا الناس من المزاح، فإنه

يذهب المروءة، ويوغر الصدر. وقال بعض الشعراء: مازح أخاك إذا أردت مزاحاً، ... وتوق منه المزاح جماحا فلربما مزح الصديق بمزحة ... كانت لباب عداوة مفتاحا وقال عمر بن عبد العزيز: امتنعوا من المزاح تسلم لكم الأعراض. قال خلف بن صفوان: المزاح سباب النوكى. وقال محمود الوراق: تلقى الفتى أخاه وخدنه ... في لحن منطقه بما لا يغفر ويقول: كنت ممازحاً وملاعباً ... هيهات نارك في الحشا تستسعر ألهبتها وطفقت تضحك لاهياً، ... عما به، وفؤاده يتفطر أو ما علمت، ومثل جهلك غالب، ... أن المزاح هو السباب الأصغر؟ وقال بعض الحكماء: الخصومة تمرض القلوب وتثّبت فيها النفاق. والمزاح يذهب ببهاء العز. وحدثني الباغندي قال: حدثنا الحميدي عن سفيان عن ابن المنكدر قال: قالت لي أمي: يا بني لا تمازح الصبيان فتهون عليهم. وقد كانت أدركت النبي، صلى الله عليه وسلم. وأوصى يعلى بن منبه بنيه فقال: يا بني، إياكم والمزاح فإنه يذهب بالبهاء، ويعقب الندامة، ويزري بالمروءة.

الأمر باختيار الإخوان

وقال مسعر بن كدام الهلالي لابنه: ولقد منحتك، يا كدام، نصيحتي، ... فاسمع لقول أب عليك شفيق أما المزاحة والمراء فدعهما، ... خلقان لا أرضاهما لصديق إني بلوتهما، فلم أحمدهما ... لمجاور جاورته، ورفيق وكان سعيد بن العاص يقول: لا تمازحن الشريف فيحقد عليك، ولا الدنيء فيجترئ عليك. وقد تواترت بالنهي عن ذلك الأخبار، وتكاثفت فيه الأشعار، ولعمري إن ترك ما نهى عنه ذوو الأدب، من المداعبة واللعب، أولى بذي النهية والأرب. وقد يجب على العاقل الأديب أن ينتقي إخوانه، ويتخير أخدانه، ويفتش عن الأصحاب، ويجالس ذوي الألباب، ويستخلص أهل الفضل، وأهل المروءات والعقل، فإنها محنة الأدباء، وفراسة العلماء، وإنما يعرف الرجل بأشكاله، ويقاس بأمثاله، ويوسم بأخدانه، وينسب إلى أقرانه. وقد شرحت في ذلك جملة من الآثار، وما روي فيه من النتف والأخبار، فقف عليه يبن لك ما فيه، إن شاء الله تعالى. الأمر باختيار الإخوان وانتخاب الأقران والأخدان روي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: اختبروا الناس بإخوانهم، فإن الرجل يخادن من يعجبه نحوه. وقال مجاهد: إني لأنتقي الإخوان كما أنتقي أطايب الثمر. وقال بعض الشعراء:

امحض مودتك الكريم، فإنما ... يرعى ذوي الأحساب كل كريم وإخاء أشراف الرجال مروءة، ... والموت خير من إخاء لئيم وقال يحيى بن أكثم: وقارن، إذا قارنت، حرّاً، فإنما ... يزين ويزري بالفتى قرناؤه إذا المرء لم يختر صديقاً لنفسه، ... فناد به في الناس: هذا جزاؤه وروي أن سليمان بن داود، عليهما السلام، قال: لا تحكموا للرجل بشيء حتى تنظروا من يخادن. وقال عدي بن زيد العبادي: عن المرء لا تسال، وأبصر قرينه، ... فإن القرين بالمقارن مقتد إذا ما رأيت الشر يبعث أهله، ... وقام جناة الشر للشر، فاقعد وقال عتبة بن هبيرة الأسدي: إن كنت تبغي العلم، أو أهله، ... أو شاهداً يخبر عن غائب فاختبر الأرض بأسمائها، ... واختبر الصاحب بالصاحب وقال أبو العتاهية: من ذا الذي يخفى علي ... ك، إذا نظرت إلى قرينه وعلى الفتى بطباعه ... سمة تلوح على جبينه وأنشدني أحمد بن عبيد لأبي محمد اليزيدي: ومن يصاحب صاحباً، ... ينسب إلى مستصحبه بزائنات رشده، ... أو شائنات ريبه

ورأس أمر لامرئ ... خير له من ذنبه وذو النهى ليست تبا ... عات الهوى من أربه وقال آخر: ولا تصحب أخا الجهل، ... وإياك وإياه فكم من جاهل أردى ... حليماً، حين آخاه وللشيء من الشيء ... مقاييس وأشباه يقاس المرء بالمرء، ... إذا ما المرء ماشاه والقلب على القلب ... دليلٌ، حين يلقاه وأنشدني أبو العباس الشيباني لأبي آمنة جد النبي، صلى الله عليه وسلم: وإذا أتيت جماعة في مجلس، ... فاحذر مجالسهم، ولما تقعد وذر الغواة الجاهلين وجهلهم، ... وإلى الذين يذكرونك فاقعد فليؤاخ الأديب أكفاءه، وليصحب نظراءه، ومن يأمن من غدره، وغب أمره، وبوائق شره. وأنى يكون ذلك ولن يجتمع إلا في أهل الحياء. فمنهم كرم الوفاء، وإذا اجتمع الحياء والوفاء، صح الإخاء. وقد أخبرني مخبر عن عبد الله بن طاهر أنه قال: لا دواء لمن لا حياء له، ولا حياء لمن لا وفاء له، ولا وفاء لمن لا إخاء له، ولا إخاء لمن أراد أن يجمع بين أهواء أخلائه حتى يحبوا ما أحب ويكرهوا ما كره، وحتى لا يرى من أحد ختلاً، ولا زللاً، ولا تفريطاً، ثم أنشد: طلبت امرأً حراً صحيحاً مسلماً، ... نقياً من الآفات في كل موسم

لأمنحه ودي، فلم أدرك الذي ... طلبت، ومن لي بالصحيح المسلم صبرت ومن يصبر يجد غب صبره ... ألذ وأشهى من جنى النحل في الفم ومن لا يطب نفساً ويستبق صاحباً ... ويغفر لأهل الود يصرم ويصرم وقال محمود الوراق: البس أخاك على تصنُّعه، ... فلرب مفتضح على النص ما كدت أفحص عن أخي ثقة، ... إلا ذممت عواقب الفحص وليصحب نظراءه ومن يأمن غدره وغب أمره وبوائق شره. وأنشدني محمد بن يزيد المبرد للمطيع بن إياس: ولئن كنت لا تصاحب إلا ... صاحباً لا تزل، ما عاش، نعله لا تجده، ولو حرصت، وأنى ... لك بالخل ليس يوجد مثله وقال يونس بن عبيد: أعياني شيئان، أخ في الله ودرهم حلال. وقيل لبعض الحكماء: من أبعد الناس سفراً؟ فقال: من كان في طلب صديق يرضاه. وقال رجل للفضل بن عياض: أبغني رجلاً أحدثه سري، وآمنه على أمري! فقال: تلك ضالة لا توجد. وأنشدني المهلبي لنفسه: البس أخاك على ما كان من خلق، ... واحفظ مودته بالغيب ما وصلا فأطول الناس غماً من يريد أخاً ... ذا خلة لا يرى في وده خللا وأنشدني أيضاً: أقسمت بالله لا ينفك مغتفراً ... ذنب الصديق، وإن عق، وإن صرما

والعمر يقصر عن هجر، وعن صلة، ... وعن تَجَنٍّ، وعتبٍ يورث السَّقما فترك مصارمة الخلان، والتجاوز عن هفوات الإخوان، والاستكثار من الأخلاء، ورفض معاندة الأعداء، أولى بأهل الأدب، وذوي المروءة والأرب، وأهل الفضل والحسب. وقد حكى الأصمعي قال: سمعت أعرابياً يقول لأخ له: أي أخي إن الصديق يحول بالجفاء، وإني أراك رطب اللسان من عيوب أصدقائك، فلا تزدهم في أعدائك. وقال عبد الله بن الحسن بن علي لابنه، رضي الله عنه: إياك وعداوة الرجال، فإنها لن تعدمك مكر حليم، أو مفاجأة لئيم. وروي أن سليمان بن داود قال لابنه: يا بني لا تستكثر أن يكون لك ألف صديق، ولا تستقل أن يكون لك عدو واحد. وروي أن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: وأكثر من الإخوان ما اسطعت إنهم ... عماد، إذا استنجدتهم، وظهور وليس كثيراً ألف خلٍّ وصاحب، ... وإن عدواً واحداً لكثير وليس شيء أسر إلى ذي اللب، ولا أحسن موقعاً في القلب، من محادثة العقلاء، ومجالسة الأدباء. فإن ذلك مما تفتق به الأذهان، وينفسح به الجنان، ويزيد في اللب، ويحيا به القلب، كما قال بعض الشعراء: وما بقيت من اللذات إلا ... محادثة الرجال ذوي العقول وقد كنا نعدهم قليلاً، ... فقد صاروا أقل من القليل وقيل للحرقة ابنة النعمان: ما كانت لذة أبيك؟ فقالت: إدمان الشراب، ومجالسة الرجال.

الحث على صحبة الإخوان

وقال عمرو بن مرة الجهني، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم: وصحوت إلا من لقاء محدث، ... حسن الحديث، يزيدني تعليما وقال معاوية بن أبي سفيان لعمرو بن العاص: ما بقي مما تستلذه؟ فقال: مجالسة الرجال. وقد روي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، وعن عدة من الصحابة، رضي الله عنهم، من الأحاديث في الحث على صحبة الإخوان، والرغبة في الخلان، ما إن ذكرناه طال به الكتاب، وكثر به الخطاب. وسنذكر بعض ذلك ونختصره، ونأخذ من أحسنه ما يكون فيه بلاغ، إن شاء الله تعالى. الحث على صحبة الإخوان والإغراء على مودة الخلان والرغبة في أهل الصلاح والإيمان روي عن أبي هريرة: أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل. وروي عن أبي عمرو العوفي قال: كان يقال اصحب من إن صحبته زانك، وإن خدمته صانك، وإن أصابتك خصاصة مانك، وإن رأى منك حسنة عدها، وإن رأى منك سقطة سترها، ومن إن قلت صدق قولك، وإن أصبت سدد صوابك، ومن لا يأتيك بالبوائق، ولا تختلف عليك منه الطرائق. وقال الفضل بن غسان البصري: كان يقال اصحب من ينسى معروفه عندك. وروي عن معاوية بن قرة قال: نظرت في المودة والإخاء فلم أجد أثبت مودة من ذي أصل.

وأنشدونا لعمر بن عبد العزيز، ولا يعرف له غير هذه الأبيات: إني لأمنح من يواصلني ... مني صفاء ليس بالمذق وإذا أخ لي حال عن خلق ... داويت منه ذاك بالرفق والمرء يصنع نفسه، ومتى ... ما تبله ينزع إلى العرق ومثله قول زهير بن أبي سلمى: وما يك من خير أتوه، فإنما ... توارثه آباء آبائهم قبل وهل ينبت الخطِّيَّ إلا وشيجه، ... وتغرس إلا في منابتها النخل ومنه قول الآخر: والابن ينشو على ما كان والده، ... إن العروق عليها تنبت الشجر وقال المتوكل الكناني: عندي لصالح قومي، ما بقيت لهم، ... حمد وذمّ، لأهل الذم، معدود أجري على سنة من والدي سبقت، ... وفي أرومته ما ينبت العود وأوصى بعض الحكماء أخاً له فقال: أي أخي! آخ الكريم الأخوة، الكامل المروءة، الذي إن غبت خلفك، وإن حضرت كنفك، وإن لقي صديقك استزاده، وإن لقي عدوك كفه، وإن رأيته ابتهجت، وإن أتيته استرحت. وقال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: إذا رزقك الله مودة امرئ مسلم فتشبث بها. وكان سفيان الثوري كثيراً ما يتمثل بهذين البيتين: أبل الرجال، إذا أردت إخاءهم، ... وتوسمن إخاءهم وتفقد

فإذا وجدت أخا الأمانة والتقى ... فيه اليدين قرير عين فاشدد كم من صديق في الرخاء مساعد ... وإذا أردت حقيقة لم توجد ومثل ذلك قول الآخر: آخ من آخيت عن خبرته، ... لا يغرنك من الناس الطُّرر لا ولا الأجسام ما لم تبلهم، ... إنما الناس كأمثال الشجر منه ما ليست له منظرة، ... وهو صلب عوده حلو الثمر وترى منه أنيقاً نبته، ... طعمه مرٌّ، وفي العود خَوَر وقال آخر: من حمد الناس، ولم يبلهم، ... ثم بلاهم ذم من يحمد وصار بالوحدة مستأنساً، ... يوحشه الأقرب والأبعد وروي أن رجلاً من عبد القيس قال لابنه: أي بني، لا تواخ أحداً حتى تعرف موارد أموره ومصادرها، فإذا استبطنت الخبر، ورضيت منه العشرة، فآخه على إقالة العثرة، والمؤاساة عند العُسرة. وأنشدني محمد بن يزيد المبرّد: وكنت، إذا الصديق أراد غيظي ... على حنق، وأشرقني بريقي غفرت ذنوبه، وكظمت غيظي، ... مخافة أن أكون بلا صديق وأنشدني لبشار بن برد العقيلي: أخوك الذي لا ينقض، الدهر، عهده، ... ولا عند صرف الدهر يزور جانبه فخذ من أخيك العفو، واغفر ذنوبه ... ولا تك في كل الأمور تجانبه إذا كنت في كل الأمور معاتباً ... صديقك، لم تلق الذي لا تعاتبه

إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى ... ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه وقال آخر: ومن لا يغمض عينه عن صديقه، ... وعن بعض ما فيه، يمت وهو عاتب ومن يتتبع جاهداً كل عثرة، ... يجدها، ولا يسلم له، الدهر، صاحب وأنشدني أحمد بن يحيى لسعيد المساحقي: فخذ عفو من أحببت لا تبر منه، ... فعند بلوغ العذر رنق المشارب وقال أبو الأسود الدؤلي: ولست مستبقياً أخاً لك لا ... تصفح عما يكون من زلله من ذا الذي هُذبت خلائقه ... في ريثه إن أتى وفي عجله لا أصحب الخائن اللئيم، ولا ... أقطع وصل الخليل من ملله أجزيه بالعرف، ما حييت، ولا ... يعدم صفحي للشر من عمله ومثله قول النابغة الذبياني: ولست بمستبق أخاً لا تلمه ... على شعث، أي الرجال المهذب وأجاد، والله، الذي يقول: إذا ما أذاني مفصل فقطعته، ... بقيت وما لي للنهوض مفاصل ولكن أداويه، فإن صح كان لي، ... وإن هو أدوى كان فيه تحامل وأنشدت لرجل من طيء: أرخ على الناس ثوب سترهم، ... أو أجن حلو الثمار من شجره

واستبق ما لم ترد قطيعته، ... بستره ما استقر في ستره فرب بادي الجميل منه، إذا ... فُتش أبدى التفتيش عن عَوَره واستصلح الناس، ما استطعت، ولا ... تسرع إلى ضرِّ مبتغي ضرره وروي عن ابن عباس، رضي الله عنه، قال: أحب إخواني إليَّ أخ إن غبت عنه عذرني، وإن جئته قبلني. وقيل لخالد بن صفوان: أي إخوانك أوجب عليك حقاً؟ فقال: الذي يسدّ خلتي، ويغفر زلتي، ويقيل عثرتي. وقال مطيع بن إياس: إنما صاحبي الذي يغفر الذن ... ب، ويكفيه من أخيه أقله ليس من يظهر الخلالة إفكاً، ... وإذا قال خالف القول فعله وصله للصديق يوم، ويوم ... يضمر الهجر ثم ينبت حبله وأحق الرجال أن يغفر الذن ... ب لإخوانه الموفَّر عقله وفي حديث سهل بن سعيد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المرء كثير بأخيه. وكتب الأحنف بن قيس إلى صديق له: أما بعد فإذا قدم عليك أخ موافق لك، فليكن منك مكان سمعك وبصرك، فإن الأخ الموافق أفضل من الولد المخالف. وقال خالد بن صفوان: أعجز الناس من قصر في طلب الإخوان، وأعجز منه من ضيع من ظفر به منهم. وقال عمر بن الخطاب: عليكم بإخوان الصدق، فاكتسبوهم، فإنهم زين في الرخاء وعدّة عند البلاء.

صفة المتحابين في الله عز وجل

وسئل بعض الحكماء: أيّ الكنوز خير؟ فقال: أما بعد تقوى الله فالأخ الصالح. واعلم أن خير الإخوان من كانت أخوته ومحبته في الله، ولم تكن خلته ولا مؤاخاته لطمع قليل، ولا لغرض عاجل، وليس شيء بذوي العقول، وأهل الديانات والفضل، أفضل من إخلاص المودة في الله، ولعمري إن ذلك يحسن بجميع أهل الملل والأديان، وهو من أوثق عُرى الإيمان، وقد روي فيه أحاديث كثيرة اقتصرنا على بعضها، واختصرنا من أحسنها، وفي البعض كفاية، إن شاء الله. صفة المتحابين في الله عز وجل روي عن البراء بن عازب أنه قال: كنت جالساً عند النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: أتدرون أي عُرى الإيمان أوثق؟ قلنا: الصلاة. قال: إن الصلاة لحسنة، وما هي بها. قلنا: الزكاة. قال: وحسنة، وما هي بها. فذكروا شرائع الإسلام، فلما رآهم لا يصيبون قال: إن أوثق عُرى الإيمان أن تحب في الله، وتبغض في الله. وأخبرني أبي رحمه الله، بإسناد ذكره عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: إن في الجنة لعموداً من ذهب عليه منائر من زبرجد تضيء لأهل الجنة، كما يضيء الكوكب الدُّرّي في أفق السماء، قلنا: لمن هذا، يا رسول الله؟ قال: للمتحابين في الله.

وروى أبو الأحوص عن عبد الله بن مسعود أنه قال: الإيمان أن تحب في الله، وتبغض في الله. وقال عليه الصلاة والسلام: الإيمان أن يحبّ الرجل الرجل ليس بينهما نسب قريب، ولا مال أعطاه إياه، لا يحبه إلا لله عز وجل. ورويناه عن ثابت البناني عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يؤاخي بين الرجلين من أصحابه، فتطول الليلة على أحدهما حتى يرى أخاه. وروينا عن جرير بن عبد الله البجلي قال: ما حجبني رسول الله، صلى الله عليه وسلم، منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم في وجهي. وقال عمر بن الخطاب: لقاء الإخوان جلاء الأحزان. وقال أكثم بن صيفي: لقاء الأحبة مسلاة الهم. وكان عبد الله بن مسعود يقول لأصحابه: أنتم جلاء حزني. وروي عن أبي أمامة قال: من أعطى لله، ومنع لله، وأحب لله، وأبغض لله فقد استكمل الإيمان. وقد كانت الحكماء تقول: إن ما يجب للأخ على أخيه مودته بقلبه، وتزيينه بلسانه، ورفده بماله، وتقويمه بأدبه، وحسن الذّبّ والمدافعة عنه في غيبته. وأنشدني أبو بكر بن أبي الدنيا: إذا المرء لم ينصف أخاه، ولم يكن ... له غائباً يوماً، كما هو شاهده فلا خير فيه، فالتمس غيره أخاً ... كريماً، على وصل الكريم تعاهده فإن غبت يوماً، أو شهدت فوجهه، ... على كل حال أينما كنت، واجده

أنشدني أحمد بن يحيى لكثير عزة: وليس خليلي بالملول ولا الذي، ... إذا غبت عنه باعني بخليل ولكن خليلي من يدوم وفاؤه، ... ويحفظ سرّي كل دخيل ولست براض من خليلي بنائل ... قليلٍ، ولا أرضى له بقليل وأنشدني بعض الأدباء قال: أنشدني أعرابي ببلاد نجد: وليس خليلي بالمرجى، ولا الذي ... إذا غبت عنه كان عوناً مع الدهر ولكن خليلي من يصون مودتي، ... ويحفظني، إن كان من دوني البحر وأنشدني أبو العباس محمد بن يزيد النحوي: تود عدوي، ثم تزعم أنني ... أودك، إن الرأي عنك لعازب وليس أخي من ودني رأي عينه ... ولكن أخي من ودني وهو غائب وأنشدني يوسف الأعور قال: أنشدني يعقوب بن السكيت لأوس بن حجر: وليس أخوك الدائم العهد بالذي ... يذمك إن ولى، ويرضيك مقبلا ولكن أخوك النائي ما كنت آمناً، ... وصاحبك الأدنى، إذا الأمر أعضلا وأنشدني أبو العيناء قال: أنشدني الجاحظ: أخوك الذي إن سرّك الأمر سره، ... وإن غبت يوماً ظلّ وهو حزين يقرب من قربت من ذي مودة، ... ويقصي الذي أقصيته، ويهين وأنشدني أحمد بن يحيى: إذا أنت رافقت الرجال، فكن فتىً، ... كأنك مملوك لكل رفيق

البشاشة بالإخوان

وكن مثل طعم الماء عذباً وبارداً، ... على الكبد الحرى لكل صديق واعلم أن أحسن ما تألف به الناس قلوب أخلائهم، ونفوا به الضغن عن قلوب أعدائهم، البشر بهم عند حضورهم، والتفقد لأمورهم، وحسن البشاشة، فذلك يثبت المحبة والإخاء، ومنه أحاديث قد ذكرنا بعضها، وقصدنا فيما فيه قناعة. البشاشة بالإخوان والصبر على تألف قلوب ذوي الأضغان قال الله عز وجل لنبيه، صلى الله عليه وسلم: " ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم، وما يلقاها إلا الذين صبروا، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ". وقال تعالى: " ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك، فاعف عنهم، واستغفر لهم، وشاورهم في الأمر ". وقال عز وجل: " واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ". وروي عن أبي هريرة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: رأس العقل بعد الإيمان التودد إلى الناس. وسئل الحسن عن حسن الخلق، فقال: الكرم، والبذلة، والتودد إلى الناس. وروينا عن جرير بن عبد الله البجلي، فقال: ما حجبني رسول الله منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم في وجهي.

وقال المنصور: إذا أحببت المحمدة من الناس بلا مؤونة، فالقهم ببشر حسن. وروي عن كعب الأحبار قال: مكتوب في التوراة: ليكن وجهك سبطاً تكن أحب إلى الناس ممن يعطيهم الذهب والفضة. وأنشدني أبو علي العنزي: إلق بالبشر من لقيت من النا ... س جميعاً، ولاقهم بالطَّلاقه تجن منهم به جنيَّ ثمار ... طيب طعمه، لذيذ المذاقه ودع التيه والعبوس عن النا ... س، فإن العبوس رأس الحماقه كلما شئت أن تعادي عادي ... ت صديقاً، وقد تعز الصداقة أنشدني لبعض بني طيء: خالق الناس بخلق واسع، ... لا تكن كلباً على الناس يهرّ والقهم منك ببشر ثم كن ... للذي تسمع منهم مغتفر وقال أبو العتاهية: وألن جناحك تعتقد ... في الناس محمدة بلينه فلربما احتقر الفتى ... من ليس في شرف بدونه وكان يقال: أول المروة طلاقة الوجه؛ والثانية التودد إلى الناس؛ والثالثة قضاء حوائج الناس. وروي أن أعرابياً قال: يا رسول الله، إنا من أهل البادية، فنحب أن تعلمنا عملاً لعل الله أن ينفعنا به، قال: لا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تُفرغ من دلوك في إناء المستقي، وأن تكلم أخاك ووجهك إليه منطلق. وروي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم ببسط الوجه، والخلق الحسن.

اتفاق القلوب على مودة الصديق

وقال النبي، صلى الله عليه وسلم: تمام تحياتكم المصافحة. وقال الحسن البصري: المصافحة تزيد في المودة. وروى مجاهد عن معاذ قال: إن المسلمين، إذا التقيا فضحك كل واحد منهما في وجه صاحبه ثم أخذ بيده تحاتت ذنوبهما كما يتحات ورق الشجر. واعلم أنه إذا صلحت النيات، وخلصت السريرات، صلحت أصفية المودة، وثبتت المحبة، واتفقت القلوب، واغتفرت الذنوب؛ وإذا فسدت النيات، وخبثت السريرات، بطل خالص الإخاء، وانحلت عُرى المودة والصفاء. وقد شرحت في ذلك باباً تقف عليه، إن شاء الله تعالى. اتفاق القلوب على مودة الصديق وقلة الخلاف على الرفيق روينا عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود، وعن الوليد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف. وقال بعض الشعراء: إن القلوب لأجناد مجندة، ... لله في الأرض بالأهواء تعترف فما تعارف منها فهو مؤتلف، ... وما تناكر منها فهو مختلف وقال طرفة: وإن امرأً لم يعف يوماً فكاهة ... لمن لم يرد سوءاً بها لجهول

تعارف أرواح الرجال إذا التقوا، ... فمنهم عدو يتقى، وخليل وكان يقال: المودة قرابة مستفادة. وقيل لخالد بن صفوان: أخوك أحب إليك أم صديقك؟ فقال: إن أخي إذا كان غير صديق لم أحبه. وروينا عن واصل مولى ابن عيينة قال: كنت مع محمد بن واسع بمرو، فأتى عطاء بن مسلم ومعه ابنه عثمان، فقال عطاء لمحمد: أي عمل في الدنيا أفضل؟ قال: صحبة الأصحاب ومحادثة الإخوان، إذا اصطحبوا على الأمن والتقوى، فحينئذ يذهب الله بالحلف من بينهم، فواصلوا وتواصلوا. وروي عن بشر بن السري قال: ليس من البر أن تبغض ما أحبه حبيبك. وقال عبد الله بن صالح: اجتمعت أنا ومحمد بن نصر الحارثي وعبد الله بن المبارك وفضيل بن عياض، فصنعت لهم طعاماً، فلم يخالف محمد ابن نصر علينا في شيء أصلاً، فقال له عبد الله: ما أقل خلافك! فقال محمد: وإذا صاحبت، فاصحب ماجداً ... ذا حياء وعفاف وكرم قوله للشيء: لا، إن قلت: لا، ... وإذا قلت: نعم، قال: نعم وقال آخر: هموم رجال في أمور كثيرة، ... وهمي من الدنيا خليل مساعد إذا غبت عنه لم أغب عن ضميره، ... كأني مقيم بين عينيه شاهد نكون كروح بين جسمين فُرقاً، ... فجسماهما جسمان والروح واحد وأنشدني آخر: وإلفين كالغصنين ضمهما الهوى، ... فروحاهما روح، وقلباهما قلب إذا غاب هذا ساعة عن خليله، ... تجلاه يوماً، عند فرقته، كرب فيا من رأى إلفين صانا هواهما، ... فهذا بذا صبٌّ، وهذا بذا صبُّ

النهي عن استعمال الإفراط في حب الصديق

وأنشدني للحكمي: روحها روحي، وروحي روحها، ... ولها قلب، وقلبي قلبها فلنا روح وقلب واحد، ... حسبها حسبي، وحسبي حسبها ولعمري إن ذلك لحسن جميل: والذي قيل في ذلك كثير طويل، وقد نهى قوم عن استعمال الميل في المودة، واعلم أن ذلك مع دوام المحبة وصفاء المودة لحسن غير مدفوع، غير أنه قد نهي عن استعمال الميل في المودة وكثرة الإفراط في المحبة وإدمان الزيارة في كل يوم وساعة لموضع الملل والسلوان الذي هو طبع الإنسان، وأمرنا بالقصد في كل الأمور، بدوام المحبة والسرور. وقد ذكرت بعض ذلك وفيه مقنع. النهي عن استعمال الإفراط في حب الصديق روي عن بعض الحكماء أنه قال: لا يفرط الأديب في محبة الصديق، ولا يتجاوز في عداوة العدو، فإنه لا يدري متى تنتقل صداقة الصديق عداوة، ولا متى تنتقل عداوة العدو صداقة. وحكي عن علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، أنه قال: أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما. وروي عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أنه قال: لا يكن حبك كلفاً ولا بغضك تلفاً. ومن أمثال أكثم بن صيفي: الانقباض من الناس مكسبة للعداوة، وإفراط الأنس مكسبة للملال. قال أبو عبيدة: يريد أن الاقتصاد أدنى إلى السلامة.

قال أبو زيد: من أمثالهم: لا تكن حلواً فتُسترط ولا مراً فتعفى أي تلفظ من المرارة. زمثله قول مطرف بن الشخير: الحسنة. بين السيئتين، وخير الأمور أوسطها. وكان يقال: لا تهذر في منطقك، ولا تخبر بذات نفسك، ولا تغتر بعدوك، ولا تفرط في حب صديقك، ولا تفزع إلى من لا يرحمك، ولا تألف من لا يرشدك، ولا تبغض من ينصح لك، فإن شر الأخلاق ملالة الصاحب، وتقريب المتباعد. وأنشدني أحمد بن يحيى للمقنع الكندي: وكن معدناً للحلم، واصفح عن الأذى ... فإنك راءٍ ما علمت وسامع وأحبب، إذا أحببت، حباً مقارباً، ... فإنك لا تدري متى أنت نازع وأبغض إذا أبغضت غير مباعد، ... فإنك لا تدري متى أنت راجع وأنشدني أحمد بن يحيى لسعيد المساحقي: فهونك في حب وبغض فربما ... يُرى جانب من صاحب بعد جانب وسمعت عبد الله بن عبد الله بن طاهر ينشد هذين البيتين، وأحسبهما له: إذا أنا أكرمت اللئيم، فعدني ... مهيناً له، حققت باطل ما عدَّا فإن صلاح الأمر يرجع كله ... فساداً إذا الإنسان جزت به الحدَّا وهذا طويل يقنعك منه القليل. وأما طول الزيارة، فقد يجب على أهل الصداقة ترك المداومة عليها، وكثرة الجنوح إليها، فإن ذلك يخلق الحب، ويذهل الصبّ، ويُضجر

الأمر بإغباب زيارة الأحباب

المَزورَ، ويُعدم السرور، ويُوقع البدل، ويبدي الملل. وقد شرحنا في ذلك باباً، فاعرفه وقف عليه، إن شاء الله تعالى. الأمر بإغباب زيارة الأحباب والنهي عن مداومة غشيان الأصحاب روي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: زُر غباً تزدد حباً. وقال بعض الحكماء: من كثرت زيارته قلت بشاشته. وقال آخر: من أدمن زيارة الأصدقاء عدم الاحتشاد عند اللقاء. وقال آخر: أقلل زيارتك الصدي ... ق تكون كالثوب استجده إن الصديق يُملُّه ... أن لا يزال يراك عنده وقال آخر: عليك بإقلال الزيارة إنها ... تكون إذا دامت إلى الهجر مسلكا فإني رأيت القطر يسأم دائباً، ... ويُسأل بالأيدي إذا هو أمسكا وأنشدت لأبي تمام حبيب بن أوس: وطول مقام المرء في الحي مخلق ... لديباجتيه، فاغترب تتجدد فإني رأيت الشمس زيدت محبة ... إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد وأنشدني لإبراهيم بن المهدي: إني كثرت عليه في زيارته، ... والشيء مستثقل جداً إذا كثرا ورابني منه أني لا أزال أرى ... في طرفه قصراً عني إذا نظرا وقال عمر بن أبي ربيعة:

لا تجعلن أحداً عليك، إذا ... أحببته، وهويته، ربَّا وصل الصديق، إذا كلفت به ... واطوِ الزيارة دونه غبا فلذاك خير من مواصلة، ... ليست تزيدك عنده قُربا لا بل يملك عند دعوته، ... فيقول: آه، وطالما لبَّى وقال آخر: أغبَّ الزيارة لما بدا ... له الهجر، أو بعض أسبابه وما صدّ هجراً، ولكنه ... طريد ملالة أحبابه وكتب بعض الظرفاء رقعة، وطرحها في مجلس محمد بن عبد الله بن طاهر حيث حرم القيان: عزمات الأمير، أصلحه الل ... هـ بحسن الإرشاد، والتوفيق باعدت بيننا وبين عُجابٍ، ... ومديل، ومنصف، وصديق فوقع محمد في ظهر الرقعة: حسن رأي الأمير في العشاق، ... وفّرَ الحظ في بعاد التلاقي خاف أن يحدث الوصال ملالاً، ... فتلافى الهوى ببعض الفراق وأنشدني بعض الأدباء: إني رأيتك لي محباً، ... وإليّ حين أغيب صبّا

فهجرت لا لملالة ... حدثت، ولا استحدثت ذنبا إلا لقول نبينا: ... زوروا على الأيام غبّا ولقوله: من زار غ ... باً منكم يزداد حباً وهجرت، حين هجرت، كي ... أزداد بالهجران قربا الله يعلم أنني ... لك أخلص الثَّقلين قلبا أرعى لك الود القدي ... م، وإن جنيت عليَّ حربا ومن ذلك ما روي أن العتابي دخل على يحيى بن خالد البرمكي، وكانت له جارية، يقال لها خلوب، تجالس الأدباء، وتناقض الشعراء، فقال لها: سليه لإبطائه عنا جائزة، فقالت له: قل له هذه القافية: إذا شئت أن تقلى، فزر متواتراً، ... وإن شئت أن تزداد حباً، فزر غبا فأنشأ يقول: بقيت بلا قلب لأني هائم، ... فهل من معير، يا خلوب، بكم قلبا حلفت لها بالله أنك منيتي، ... فكوني لعيني حيث ما نظرت نصبا عسى الله يوماً أن يرينيك خالياً، ... فأجني بلحظي من محاسنكم عجبا يقولون لا تكثر زيارة صاحب، ... فإنك إن أكثرته كره القربا وكيف يطيق الصبّ سلوان حبه، ... إذا كان مشغوفاً قد استشعر الكربا وقد قال بيتاً، ما سمعت بمثله، ... خليٌّ من الأحزان لم يذق الحبا إذا شئت أن تقلى، فزر متواتراً؛ ... وإن شئت أن تزداد حباً فزر غبا

شرائع المروة وصفتها

فقال له: لله أبوك أحسنت، خذ بيدها فهي لك! وأمر له بألف درهم. واعلم أن كل ما رسمناه في هذه الأبواب، وذكرناه، وشرطناه على الأدباء، ووجدناه داخلاً في باب حدود الأدب، على ما أصبناه، غير خارج منه، ولا منفصل عنه، وأن يكون الأديب عاقلاً واللبيب كاملاً، حتى تكون له مودة قد قرنها بأدبه، وثابر عليها في طلبه، فإذا جمع ذلك رهب منه الأعداء، ورغب فيه الأولياء. وسنذكر من أنشأته المروة، فيكون فيه بلاغ وهداية، إن شاء الله تعالى. شرائع المروة وصفتها اعلم أن المروة هي عماد الأدباء، وعتاد العقلاء، يرئس بها صاحبها، ويشرف بها كاسبها، ولا شيء أزين بالمرء من المروة، فهي رأس الظرف والفتوة. وقد قال بعض الحكماء: الأدب يحتاج معه إلى المروة والمروة لا يحتاج معها إلى الأدب. وربما رأيت ذا المروة الخامل، وذا السخاء الجاهل، قد غطت مروته على عيوبه، وستره سخاؤه من معيبه. وأهل المروءات محسودة أفعالهم، متبعة أحوالهم. وقل ما رأيت حاسداً على أدب، وراغباً في أرب. من ذلك ما حكي عن محمد بن حرب أنه قال: كنت على شرطة جعفر بالمدينة، فأتيت بأعرابي من بني أسد يستعدى عليه، فرأيت رجلاً له بيان يحتمل الصنيعة، فرغبت في اتخاذها عنده فتخلصته ثم لم يلبث أن ردّ

إليَّ، فقلت: حماس؟ فقال لي: حماس، والله؛ قلت: ما أرجعك؟ قال: الشر، وما قاله رجل منا يقال له خالد، فأنشدني: عادوا مروتنا، فضلل سعيهم، ... ولكل بيت مروة أعداء لسنا، إذا عد الفخار كمعشر ... أزرى بفعل أبيهم الأبناء قال: فتخلّصته ثانية. وقيل لبعض حكماء الفرس: أي شيء للمروة أشد تهجيناً؟ فقال: للملوك صغر في الهمة، وللعامة الصَّلف، وللفقهاء الهوى، وللنساء قلة الحياء، وللعامة الكذب، والصبر على المروة صعب، وتحملها عبء. وقد قال خالد بن صفوان: لولا أن المروة اشتدت مؤونتها، وثقل حملها ما ترك اللئام للكرام منها شيئاً، ولكنه لما ثقل محملها، واشتدت مؤونتها حاد عنها اللئام، فاحتملها الكرام. وقال بعضهم: المكارم لا تكون إلا بالمكاره، ولو كانت خفيفة لتناولها السفلة بالغلبة. وقال ابن عمر: ما حمل رجل حملاً أثقل من المروة، فقال له أصحابه: صف لنا ذلك! فقال: ما له عندي حد أعرفه، إلا أني ما استحييت من شيء قط علانية، إلا استحييت منه سراً. وقام رجل من بني مجاشع إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله ألست أفضل قومي؟ فقال: إن كان لك عقل، فلك فضل، وإن كان لك خلق، فلك مروة، وإن كان لك مال، فلك حسب، وإن كان لك دين، فلك تقى، وإن كان لك تقى، فلك دين. وروى الهلالي قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لرجل من ثقيف:

ما المروة فيكم؟ قال: الصلاح في الدين، وإصلاح المعيشة، وسخاء النفس، وصلة الرحم. فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: كذلك هي فينا. وقال عمر بن الخطاب: المروة الظاهرة الثياب الطاهرة، يعني النقية من الذنوب. وقيل للأحنف: ما المروة؟ قال: إصلاح المعيشة، واحتمال الجريرة. وقال معاوية لصعصعة بن صفوان: ما المروة؟ قال: الصبر على ما ينوبك، والصمت حتى تحتاج إلى الكلام. وقال محمد بن علي بن الحسين: كمال المروة الفقه في الدين، والصبر على النوائب، وحسن تقدير المعيشة. وقال معاوية لرجل من عبد القيس: ما تعدون المروة فيكم؟ قال: العفة والحرفة. وقيل لأبي زهرة: ما المروة؟ قال: إصلاح الحال والرزانة في المجالس، والغداء والعشاء بالأفنية. وقال عمر بن الخطاب: حسب المرء ماله، وكرمه دينه، وأصله عقله، ومروته خلقه. وقال علي بن أبي طالب: مروة الرجل حيث يضع نفسه. وقال عبد الله بن سميط بن عجلان: سمعت أيوب السجستاني يقول: لا ينبل الرجل، حتى تكون فيه خصلتان: العفة عن الناس، والتجاوز عنهم. وقال مسلمة بن عبد الملك: مروتان ظاهرتان: الرياسة والفصاحة. وكان يقال: ثلاث يفسدن المروة: الالتفات في الطريق، والشح، والحرص. وقال عمر بن هبيرة: عليكم بمباكرة الغداء فإن في مباكرة الغداء ثلاث خلال: يطيب النكهة، ويطفئ المرة، ويعين على المروة،

قيل: وما إعانته على المروة؟ قال: لا تتوق النفس إلى طعام غيره. وقال سلم بن قتيبة: لا تتم مروة الرجل، حتى يصبر على مناجاة الشيوخ الدرد. وسأل ابن زياد رجلاً من الدهاقين: ما المروة فيكم؟ قال: أربع خصال: أن يعتزل الرجل الريبة فلا يكون في شيء منها، فإنه إذا كان مريباً كان ذليلاً، وأن يصلح ماله، فإن من أفسد ماله لم تكن له مروة، وأن يقوم لأهله بما يحتاجون إليه، حتى يستغنوا به عن غيره، فإن من احتاج أهله إلى الناس لم تكن له مروة، وأن ينظر فيما يوافقه من الطعام والشراب فيلزمه، فإن المروة ألا يخلط على نفسه في مطعمه ولا مشربه. وكان يقال: ثلاث من المروة: تعاهد الرجل إخوانه، وإصلاح معيشته، وإقالته في منزله. وسئل العتابي عن المروة، فقال: إخفاء ما لا يستحيا من إظهاره، ومواطأة القلب اللسان. ويروى عن عبد الله بن بكر السهمي أن عبد الملك بن مروان دخل على معاوية، وعنده عمرو بن العاص، فجلس ملياً، ثم انصرف، فقال معاوية: ما أكمل مروة هذا الفتى وأخلقه أن يبلغ. فقال عمرو: يا أمير المؤمنين إن هذا أخذ بخلائق أربع، وترك ثلاثاً: أخذ بأحسن الحديث إذا حدث، وبأحسن الاستماع إذا حدث، وبأيسر المؤونة إذا خولف، وبأحسن البشر إذا لقي، وترك مزاح من لا يوثق بعقله ولا دينه، وترك مخالفة لئام الناس، وترك من الكلام ما يعتذر منه.

ما جاء من فضل الصدق لذوي الآداب

فهذه جملة شرائع المروة، لا يقدر على القيام بأدنى المفترض فيها إلا ذوو العقول الفاضلة، والآداب الكاملة. واعلم أن من المروة أيضاً عشر خصال: لا مروة لمن لم يكن فيه الحلم، والحياء، وصدق اللهجة، وترك الغيبة، وحسن الخلق، والعفو عند المقدرة، وبذل المعروف، وإنجاز الوعد. وفي تبيينهن أخبار تحث على استعمالهن، وآثار تدعو إلى المثابرة عليهن، وأنا ذاكر بعض ذلك، إن شاء الله، وبه القوة. ما جاء من فضل الصدق لذوي الآداب وما كُرِه من الكذب لذوي الألباب روي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: لا يصلح الكذب في جد، ولا هزل. وقال أبو بكر الصديق، رضي الله عنه: إذا كذب العبد تباعد الملك منه ميلاً لنتن ما جاء منه. وقال: لسان الصدق خير للمرء من المال يأكله ويورثه. وقال المهلب بن أبي صفرة: ما السيف الصارم في يد الرجل الشجاع بأعز له من الصدق. وكان يقال: الصدق قوة، والكذب عجز. أنشدني بعض الأدباء: لا يكذب المرء إلا من مهانته، ... أو عادة السوء أو من قلة الأدب لجيفة الكلب عندي خير رائحة ... من كذبة المرء في جد وفي لعب وكان يقال: لا رأي لكذوب ولا مروة لكذاب. ويقال: لا تستعن بكذاب، فإنه يقرب لك البعيد ويباعد لك القريب. وأنشدني آخر: وكن صادقاً في كل شيء تقوله، ... ولا تك كذاباً، فتدعى منافقا

وقال آخر: الكذب عار، وخير القول أصدقه، ... والحق ما مسه من باطل زهقاً وأنشدني غيره: الصدق منجاة لمن هو صادق، ... وترى الكذوب بما يقول يوبخ وقال أبو العتاهية: كن في أمورك ساكناً، ... فالمرء يدرك في سكونه واعمد إلى صدق الحدي ... ث، فإنه أزكى فنونه رب امرئ متيقن ... غلب الشقاء على يقينه وحدثني بعض شيوخ الكتاب قال: حدثني علي بن هشام قال: قال لي محمد بن الجهم ذات يوم: يا أبا الحسن، الكذاب والموات بمنزلة واحدة. قلت: وكيف ذاك؟ قال: لأن علامة الحي النطق، ومن لم يوثق بنطقه، فقد بطلت حياته. والذي جاء في ذلك يطول شرحه، ويكثر وصفه، والكلام فيه يتسع، وأنا أفرد لهذا الباب كتاباً، وأرصفه أبواباً أبين فيه فضل الصدق على الكذب، ليرغب فيه ذوو المروة والأدب، إن شاء الله تعالى. وأما ما جاء في إنجاز العدات عن ذوي الأخطار والمروات، فكثير يكثر عدده ويطول أمده. وقد شرحت لك بعض ذلك لتقف عليه، إن شاء الله تعالى.

ما جاء في قبح خلف المواعيد

ما جاء في قبح خلف المواعيد وما يلحق صاحبّه من اللّوم والتفنيد اعلم أن أقبح ما استعمله أهل الأدب مطل العدات. وقال المثنى ابن خارجة: لأن أموت عطشاً أحب إلي من أن أخلف موعداً. وروينا عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ثلاث علامات في المنافق، وإن صام وصلى، وزعم أنه مسلم: إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا وعد أخلف. وروي عنه أنه قال: عدة المؤمن أخذ بالكف. وقال بعض الأعراب: وعد الكريم تعجيل، ووعد اللئيم مطلٌ وتسويف. وكان يقال: اليأس إحدى الراحتين. وأنشدني يعقوب بن يزيد التمار: متى ما أقل يوماً لطالب حاجة: ... نعم، يا فتى، أفعل، وذلك من شكلي وإن قلت: لا، بينتها من مكانها، ... ولم أوذه فيها بجر، ولا مطل وأنشدني آخر: إذا قلت في شيء نعم فأتمه ... فإن نعم دين على الحر واجب وإلا فقل: لا استراح وأرح بها ... لكي لا يقول الناس إنك كاذب وأنشدني آخر: لا تقولن، إذا ما لم ترد ... أن يتم الوعد في شيء نعم وإذا قلت: نعم، فامض بها ... بنجاح الوعد إن الخلف ذم وأنشدني إبراهيم بن محمد النحوي: أنت الفتى كل الفتى، ... لو كنت تفعل ما تقول لا خير في كذب الجوا ... د وحبذا صدق البخيل

وكان يقال: اعتذار من منع أجمل من وعد ممطول. وقال علي بن هشام: أمرني المأمون بحاجة، فأخرتها، فكتب إلي: تعجيل جود المرء أكرومة، ... تنشر عنه أحسن الذكر والحر لا يمطل معروفه، ... ولا يليق المطل بالحر وكان يقال: المعروف يحتاج إلى ثلاث: تعجيله وكتمانه وإتمامه. وأنشدنا ليزيد بن جبل: يا صانع المعروف كن تاركاً ... ترداد ذي الحاجة في حاجته فشرُّ معروفك ممطوله، ... وخيره ما كان من ساعته لكل شيء يُرتجى آفة، ... وحسبك المعروف من آفته وقال آخر: صل من أردت وصاله، وإخاءه، ... إن الأخوة خيرها موصولها وإذا ضمنت لصاحب لك حاجة، ... فاعلم بأن تمامها تعجيلها وقال آخر: لا تنشرن مواعيداً، وتسندها ... إلى المطال، فما يرضى به الأدب لا تطلبن بمنع المال محمدة ... إن المحامد بالأموال تكتسب وكان يقال: لكل شيء آفة، وآفة المعروف المطل. وقال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: لكل شيء رأس ورأس المعروف تعجيله. وفي وصية عبد الملك بن مروان لبنيه: يا بني، لا تعدوا الناس بما لا تناله أيديكم.

ويقال: إذا وعدت الرجل نائلاً ثم مطلته به، فقد أوفاك ثمن معروفك عنده. وأنشدونا لدعبل بن علي الخزاعي: إياك والمطل أن تفارقه، ... فإنه آفة لكل يد إذا مطلت امرأً بحاجته، ... فامض على مطله ولا تجد فلست تلقاه شاكراً ليدٍ، ... قد كدها المطل، آخر الأبد وللفقيمي أيضاً في مثله: ما كلف الله نفساً فوق طاقتها، ... ولا تجود يد إلا بما تجد فلا تعد عدة إلا وفيت بها، ... ولا تكونن مخلافاً لما تعد ولدعبل أيضاً في مثله: وأرى النوال يزينه تعجيله، ... والمطل آفة نائل الوهاب وكان يقال: بذل جاه السائل ثمن معروف المساءل. وقال أكثم بن صيفي: السؤال وإن قل ثمن لكل معروف وإن جل. أنشدني محمد بن إبراهيم الهمداني لعلي بن ثابت الكاتب: ما اعتاض باذل وجهه بسؤاله ... بذلاً، ولو نال الغنى بسؤال وإذا السؤال مع النوال وزنته، ... رجح السؤال، وخف كل نوال وقال بعض الحكماء: أحي معروفك بإماتة ذكره، وعظمه بتصغيرك له. أنشدني أبو العباس ثعلب لأبي يعقوب الخريمي: زاد معروفك عندي عظماً، ... أنه عندك مستور حقير وتناساه كأن لم تأته، ... وهو عند الناس مشهور كبير

الحث على كتمان السر

وقال عدي بن حاتم: لا يصلح المعروف إلا بثلاث: تعجيله، وكتمانه، وتصغيره، لأنك إذا عجلته هنَّيته، وإذا كتمته استهنته، وإذا صغرته عظمته. وشرح كل ما جاء في ذلك يطول والاختصار أحسن من الإكثار، وقد ذكرت معنى هذا الباب مع ما يلائمه من الأخبار في كتاب لطيف التأليف والاختصار، هو كتاب البث والحث، غنينا بما فيه عن الزيادة، وعن التطويل والإعادة، ونحن نتتبع هذا الباب بما ضمنّاه من الحث على كتمان السر ليرغب فيه ذوو الأدب والقدرة، إن شاء الله تعالى. الحث على كتمان السر والترغيب في حفظ ما حنّت عليه ضلوع الصدّر روي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: استعينوا على حوائجكم بكتمان السرّ. وكان يقال: سرّك من دمك، فانظر أين تجعله. وكان يقال: ما كتمته من عدوك، فلا تطلع عليه صديقك. وقال المهلب بن أبي صفرة: من ضاق قلبه اتسع لسانه. وأنشدني أحمد ابن يحيى لقيس بن الحُدادية الخزاعي: بكت من حديث نمّه، وأشاعه، ... ولفقه واش من القوم واضع بكت عين من أبكاك لا يشجك البكا ... ولا تتخالجك الأمور النوازع ولا تسمعي سرّي وسرّك ثالثاً، ... ألا كل سر جاوز اثنين ضائع وأنشدني لبعض الطالبيين:

أكافي خليلي ما استقام بوده، ... وأمنحه ودي، إذا يتعتب ولست ببادي صاحبي بقطيعة، ... ولا أنا مفش سره، حين أغضب عليك بإخوان الثقات، فإنهم ... قليل، فصلهم دون من كنت تصحب وما الخدن إلا من صفا لك وده، ... ومن هو ذو نصح، وأنت مغيب إذا ما وضعت السر عند مُضيِّع، ... فذو السر ممن ضيّع السّرّ أذنب وقال معاوية بن أبي سفيان: الحازم من كتم سره من صديقه مخافة أن تبدَّل صداقته عداوة، فيذيع سره. وقال بعض الشعراء: تواقف معشوقين من غير موعد ... وغيب عن نجواهما كل كاشح وكلّت جفون الماء عن حمل مائها، ... فما ملكت فيض الدموع السوافح وإني لأطوي السرّ عن كل صاحب، ... وإن كان للأسرار عدل الجوانح وكتب عبد الملك بن مروان ببعض سره إلى الحجاج بن يوسف، ففشا، حتى بلغه ذلك، فكتب إليه عبد الملك يعاتبه، فكتب إليه: والله، يا أمير المؤمنين، ما أخبرت به إلا إنساناً واحداً. فكتب إليه عبد الملك: إن لكل إنسان نصيحاً يفشي إليه سره. وقال بعض الشعراء في ذلك: ألم ترَ أن وشاة الرجا ... ل لا يتركون أديماً صحيحاً فلا تفش سرك إلا إليك، ... فإن لكل نصيح نصيحا وقال آخر:

إذ أنت لم تحفظ لنفسك سرها، ... فسرك عند الناس أفشى وأضيع وقال آخر: أمت السر بكتمان، ولا ... يبدون منك إذا استودعت سرّ فإذا ضقت به ذرعاً فلا ... تجعلن سرك إلا عند حرّ وقيل لأعرابي استودع سراً فكتمه: أفهمت؟ قال: لا، بل نسيت. وأخبرني أحمد بن عبيد قال: أخبرني ابن الأعرابي قال: قيل لأعرابي: كيف كتمانك السر؟ فقال: أجحد المخبر، وأحلف للمستخبر. وقيل لأعرابي: كيف حفظك للسر؟ فقال: أنا لحده. ومما استحسنته في كتمان السر قول كثُير: أتى دون ما تخشون من بث سركم ... أخو ثقة، سهل الخلائق، أروع ضنين ببذل السر، سمح بغيره، ... أخو ثقة، عفُّ الوصال، سميدع أبى أن يبث، الدهر، ما عاش، سركم ... سليماً، وما دامت له الشمس تطلع وله أيضاً: كريم يميت السر، حتى كأنه، ... إذا استنطقوه عن حديثك، جاهله رعى سركم في مضمر القلب والحشا، ... شفيق عليكم، لا تخاف غوائله وأكتم نفسي بعض سري تكرماً، ... إذا ما أضاع السر في الناس حامله وقول صاحبه أيضاً: لعمري ما استودعت سري وسرها ... سوانا، حذاراً أن تشيع السرائر ولا خاطبتها مقلتاي بنظرة، ... فتعلم نجوانا العيون النواظر

ولكن جعلت اللحظ بيني وبينها ... رسولاً، فأدى ما تجن الضمائر ومنه قول الآخر: ليهنك مني أنني غير مظهر ... هواك، ولو أشرفت منه على نحبي ولو أن خلقاً كاتم الحب قلبه ... لمتُّ، ولم يعلم بحبكم قلبي وقال آخر: لو أن امرأً أخفى الهوى عن ضميره، ... لمتُّ، ولم يعلم بذاك ضمير ولكن سألقى الله، والقلب لم يبح ... بسرّك، والواشون عنك كثير وقال العباس بن الأحنف: أيا من سروري به شقوة، ... ومن صفو عيشي به أكدر تجنيت تطلب ما أستحق ... به الهجر، هيهات لا يقدر وماذا يضرك من شهرتي، ... إذا كان سرّك لا يشهر أمني يُخاف انتشار الحديث، ... وحظي في صونه أكثر ولو لم يكن فيه بقيا عليك، ... نظرت لنفسي، كما تنظر وأنشدني لعبيد الله بن عبد الله بن طاهر: ومؤتمن بالحزم في كل أمره، ... وأسراره منه بحيث المقاتل فلا سره عن ساحة الصدر نازح، ... ولا هو عن سرٍّ تعداه سائل ولغيره في مثله: فلنقل الجبال أهون من بث ... حديث حنت عليه الضلوع فلك الله أنني لك راعٍ، ... ما بدا كوكب، وبرق لموع

وأنشدني أحمد بن عبد الله قال: أنشدني ابن الكلبي لابن أمينة: وإني على السر الذي هو داخل، ... إذا باح أصحاب الهوى، لضموم وإني ما استودعت، يا أم مالك، ... على قدم من عهدنا، لكتوم وقال أبو الطيب: الضموم: الممسك، وكذلك الزميت أيضاً. وقال آخر: وحاجة دون أخرى قد شجيت بها، ... خلفتها للذي أخفيت عنوانا إني كأني أرى من لا حياء له، ... ولا أمانة، وسط الناس، عريانا وأنشدني أحمد بن يحيى بن الخطيم: وإن ضيع الأحرار سراً، فإنني ... كتوم لأسرار العشير، أمين يكون له عندي إذا ما ضمنته ... مكان بسوداء الفؤاد مكين وقال بشار بن برد المرعث: أبكي الذين أذاقوني مودتهم، ... حتى إذا أيقظوني في الهوى رقدوا لأخرجن من الدنيا وسرهم ... بين الجوانح، لم يعلم به أحد وأحسن، والله، الذي يقول: يأبى لي الذم أخلاق ومكرمة ... مني، وأذن عن الفحشاء صماء والنجم أقرب من سري إذا اشتملت ... مني على السر أضلاع وأحشاء والذي قيل في ذلك كثير جداً يطول به الخطب ويتسع فيه القول. وليس قصدنا في كتابنا هذا المعنى، وإنما تقدمنا بذكر ما شرحناه ونعت ما وصفناه، لأنه لا بد للظريف من استعمال كل ما ذكرناه من حدود الأدب وشرائع المروة، واعلم أن مذهبنا في هذا المتاب إلى معنى صفة الظرف، وما يجب على

سنن الظرف

الظريف استعماله، وذكر ما يجب عليه تركه، وما اخترعنا في كتابنا هذا علماً من عند أنفسنا، يجب لنا به الامتحان، ولا يلحقنا فيه عيب من عاب، إن عاب، ولا على أنه لا يطلب لفظه، ولا يمتنع عند معايبهم إلا معيب. وأنشدنا أحمد بن يحيى قال: أنشدني ابن السكيت: رب غريب ناصح الجيب، ... وابن أب متهم الغيب ورب عيّاب له منظر ... مشتمل منه على العيب ولكنا ألفناه وجمعناه من أقاويل جماعة من الظرفاء والمتظرفات، وأهل الأدب والمروات، سمعناهم، ورأيناهم يتكلمون به، ويستعملونه، فأحببنا أن نجمع ذلك، ونجعله لهواً لمن أراد سماعه، وعلماً لمن أراد اتباعه، وهدياً لمن أراد رشده، ومناراً لمن أراد قصده، وطيباً لمن أراد شمّه، وأدباً لمن أراد فهمه. وكتابنا هذا روضة تتنزه فيها العقول، وعقود جوهر زينتها الفصول، إذ لم نخله من أخبار طريفة، وأشعار ظريفة، وأشياء نمت إلينا من زي ظرفاء الناس في الطعام، والشراب، والعطر، واللباس، ومذهبهم فيما اجتنبوه من ذميم الأفعال، واستحسنوه من جميل الشيم والأخلاق، وسأشرح ذلك وأبينه باباً باباً لتقف عليه، إن شاء الله. سنن الظرف اعلم أن عماد الظرف، عند الظرفاء وأهل المعرفة والأدباء، حفظ الجوار، والوفاء بالذمار، والأنفة من العار، وطلب السلامة من الأوزار، ولن يكون الظريف ظريفاً، حتى تجتمع فيه خصال أربع: الفصاحة، والبلاغة، والعفة، والنزاهة.

وسألت بعض الظرفاء عن الظرف فقال: التودد إلى الإخوان، وكف الأذى عن الجيران. وقال آخر: الظرف ظلف النفس، وسخاء الكف، وعفة الفرج. وأخبرني أحمد بن عبيد قال: قال الأصمعي وابن الأعرابي: لا يكون الظرف إلا في اللسان. يقال: فلان ظريف، أي هو بليغ، جيد المنطق، ومنه حديث عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: إذا كان اللص ظريفاً لم يقطع أي لأنه يكون له لسان فيحتج به، فيدفع عن نفسه. قال: وروي عن محمد بن سيرين أنه قال: الظرف مشتق من الفطنة. وقال غيره: الظرف حسن الوجه والهيئة. وقال بعض المشيخة: الظريف الذي قد تأدب، وأخذ من كل العلوم، فصار وعاءً لها، فهو ظرف. وقال أحمد بن عبيد: معناه أنه يعي أدباً وعلماً، كما يعي ظرف الشيء ما يكون فيه، ولذلك معنى: إذا كان اللص ظريفاً لم يقطع، إذا كان واعياً للعلم لم يسرق إلا بتأول، كما فعل الشعبي، وقد دخل بيت المال، فأخذ منه دراهم، وإنما أراد به التأول لما له فيه من الحق. وسألت بعض متظرفات القصور عن الظرف، فقالت: من كان فصيحاً عفيفاً كان عندنا متكاملاً ظريفاً، ومن كان غنياً عاهراً كان ناقصاً فاجراً. وقال بعض الأدباء: الظرف ظلف النفس، ورقة الطبع، وصدق اللهجة، وكتمان السر. وسألت بعض الظرفاء فقال: الظرف في أربع خصال: الحياء، والكرم، والعفة، والورع؛

ابنة عبد الملك والمحبوس

وأنشدني أبو عبد الله الواسطي لنفسه في هذا المعنى: ليس الظريف بكامل في ظرفه، ... حتى يكون عن الحرام عفيفا فإذا تورع عن محارم ربه، ... فهناك يدعوه الأنام ظريفا ومثله لبعض المتأدبين: إن أكن طامح اللِّحاظ، فإني، ... والذي يملك العباد، عفيف ليس ظرف الظريف بالنفس لكن ... كل ذي عفة، فذاك ظريف ابنة عبد الملك والمحبوس وخبرت أن عبد الملك بن مروان وجد على بعض عماله فقيده وحبسه في داره، فأشرفت عليه ابنة لعبد الملك، فنظر إليها، فأنشأت تقول: أيها الرامي بالطر ... ف، وفي الطرف الحتوف إن ترد وصلاً فقد أم ... كنك الظبي الألوف فأجابها الفتى، فقال: إن تريني زاني العي ... نين، فالفرج عفيف ليس إلا النظر الفا ... تن، والشعر الظريف فأجابته الجارية: قد أردناك على أن ... تعتنق ظبياً ألوفا فتأبيت، فلا زل ... ت لقيديك حليفا فذاع الشعر، وبلغ عبد الملك، فدعا به فزوجه إياها، ودفعها إليه. عبد الله القس وسلامة واجتاز عبد الله بن عبد الرحمن، الذي كان يعرف بالقس لعبادته،

علي بن أبي طالب والمؤذن

بسلامة المغنية، التي صارت إلى يزيد بن عبد الملك، فسمعها وهي تغني، فوقف يستمع غناءها، فأدخله مولاها عليها، فوقعت في قلبه، ووقع بقلبها، فقالت له يوماً، وقد خلا مجلسهما: أنا، والله، أحبك. فقال: وأنا، والله، أحبك. قالت: فأنا، والله، أشتهي أن أضع فمي على فمك وألصق صدري بصدرك وأضمك إليَّ وتضمني إليك. قال: وأنا، والله، أشتهي ذلك. قالت: فما يمنعك من ذلك؟ فوالله إن الموضع لخالٍ، وما بقربنا أحد. فقال: ويحك إني سمعت الله يقول: الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين فأنا أكره أن تكون خلتي لك في الدنيا منقطعة في الآخرة. ثم وثب، فانصرف. علي بن أبي طالب والمؤذن وكان لعلي بن أبي طالب، عليه السلام، جارية تدخل وتخرج، وكان له مؤذن شاب، فكان إذا نظر إليها قال لها: أنا، والله، أحبك، فلما طال ذلك عليها أتت علياً، عليه السلام، فأخبرته، فقال لها: إذا قال لك ذلك، فقولي: أنا، والله، أحبك، فمه. فأعاد عليها الفتى قوله، فقالت له: وأنا، والله، أحبك، فمه. فقال: تصبرين ونصبر، حتى يوفينا من يوفي الصابرين أجرهم بغير حساب. فأعلمت علياً، عليه السلام، فدعا به فزوجه منها، ودفعها إليه. وأنشدني أبو عبد الله الواسطي لنفسه في هذا المعنى: كم قد ظفرت بمن أهوى، فيمنعني ... منه الحياء، وخوف الله، والحذر وكم خلوت بمن أهوى، فيقنعني ... منه الفكاهة، والتحديث، والنظر أهوى الملاح، وأهوى أن أجالسهم، ... وليس لي في حرام منهم وطر كذلك الحب لا إتيان معصية، ... لا خير في لذة من بعدها سقر

ومثل ذلك قول الآخر: تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها ... من الحرام، ويبقى الإثم والعار تبقى عواقب سوء من مغبتها، ... لا خير في لذة من بعدها النار ومما أستحسنه في العفة، أيضاً، ما أنشدنيه أحمد بن يحيى ثعلب لبعض نساء العرب: وبتنا خلاف الحي لا نحن منهم، ... ولا نحن بالأعداء مختلطان وبتنا يقينا ساقط الطل والندى، ... من الليل، بردا يمنة عطران نذود بذكر الله عنا من الصبى، ... إذا كاد قلبانا بنا يردان ونصدر عن ري العفاف، وربما ... نفينا غليل النفس بالرشفان وأنشدني أحمد بن يحيى ثعلب: أحبك لا من ريبة كان بيننا، ... ولا نسب بيني وبينك شابك أحبك إن خبرت أنك فارك، ... لعمري إني مولع بالفوارك أحب فتاة أن تشاغب زوجها، ... وإن لم أنل من وصلها غير ذلك قال أبو الطيب: الفارك المبغضة لزوجها، يقال: قد فركت المرأة زوجها، تفركه، إذا أبغضته، وهي فارك، والرجل مفروك. ومثله قول الحسين بن مطير: أحبك يا سلمى، على غير ريبة، ... وما خير حب لا تعف سرائره ومثله أيضاً قول الآخر: أتأذنون لصبٍَ في زيارتكم، ... فعندكم شهوات السمع والبصر لا يفعل السوء إن طال الجلوس به، ... عفُّ الضمير، ولكن فاسق النظر

عبد الملك بن مروان وبثينة

وقال محمود الوراق: إني أحبك حباً لا لفاحشة، ... والحب ليس به في الله من باس وأنشدني بعض الأدباء قال: أنشدني أعرابي ببلاد نجد: ويوم كإبهام الحبارى قطعته ... بمقمعة، والقوم فيهم تحرف إذا ما هممنا صد زي نفوسنا، ... كما صد من بعد التهمم يوسف قال أبو الطيب: قوله كإبهام الحبارى، يريد نهاية ما يكون من القصر وأنشدني آخر: ما الحب إلا قبلٌ، ... وغمزُ كف، وعضد أو كتب فيها رقى، ... أنفذ من نفث العقد ما الحب إلا هكذا، ... إن نكح الحب فسد من لم يكن ذا عفة، ... فإنما يبغي الولد ومن ذلك قول بثينة لجميل، وقد قال لها: هل لك يا بثينة أن نحقق قول الناس فينا؟ فقالت له: مه، دع حبنا مكانه، إن الحب إذا نكح فسد. عبد الملك بن مروان وبثينة ودخلت بثينة على عبد الملك بن مروان فقال لها: والله يا بثينة ما أرى فيك شيئاً مما كان يقول جميل. قالت: يا أمير المؤمنين، إنه كان يرنو إليَّ بعينين ليستا في رأسك. قال: وكيف صادفته في عفته؟ قالت: كما وصف نفسه حيث يقول: لا والذي تسجد الجباه له ... ما لي بما دون ثوبها خبر ولا بفيها، ولا هممت بها ... ما كان إلا الحديث، والنظر

جميل في يومه الأخير

وقيل لأعرابي: هل زينت قط؟ قال: معاذ الله إنما هما اثنتان إما حرة آنف لها من فسادها، وإما أمة آنف لنفسي من فسادي إياها. جميل في يومه الأخير وروى عن ابن سهل بن سعد الساعدي قال: دخلت على جميل بن معمر العذري، وهو عليل، وإني لأرى آثار الموت على وجهه، فقال: يا ابن سهل! أتقول إن رجلاً يلقى الله لم يسفك دماً حراماً، ولم يشرب خمراً، ولم يأت بفاحشة، أترجو له الجنة؟ قلت: إي والله، فمن هو؟ قال: إني لأرجو أن أكون أنا ذلك الرجل. قلت: بعد زيارتك بثينة وما تحدث به عنكما؟ فقال: والله إني لفي يوم من أيام الدنيا، وأول يوم من أيام الآخرة، ولا أنالتني شفاعة محمد، صلى الله عليه وسلم، إن كنت حدثت نفسي فيها بريبة قط. قال: فما انقضى يومه حتى مات. عمر بن أبي ربيع وامرأة من ربيعة وقال الأصمعي: كان عمر بن أبي ربيعة وابن أبي عتيق جالسين بفناء الكعبة، فمرت بهما امرأة من ربيعة، وقيل من آل أبي سفيان، فدعا عمر بكتف، فكتب فيها: ألما بذات الخال، فاستطلعا لنا ... على العهد باق ودها أم تصرما وقولا لها: إن النوى أجنبية ... بنا وبكم، قد خفت أن تتيمما فقال له ابن أبي عتيق: ما تريد إلى امرأة مسلمة محرمة تكتب إليها بمثل هذا؟ فقال: أترى ما سيرت في الناس من الشعر، ورب هذه البنية ما قبل منها وما دبر، ما قولت امرأة قط ما لم تقله، ولا طالعت فرج حرام قط. وقيل لكثير عزة: هل نلت من عزة شيئاً طول مدتك؟ فقال: لا والله،

الأعرابي المتعفف

إلا أنه ربما كان يشتد بي الأمر، فآخذ يدها، فأضعها على جبيني فأجد لذلك راحة. الأعرابي المتعفف وقال أعرابي، وخلا بامرأة كان يتعشقها: ما زال القمر يرينها، فلما غاب أرتينه، قيل: فما كان بينكما؟ قال: أقصى ما أحل الله وأدنى ما حرم الله عز وجل، إشارة في غير باس، ودنو في غير مساس، وأنشأ يقول: ولرب لذة ليلة قد نلتها، ... وحرامها بحلالها مدفوع الأعرابي العاشق قال أعرابي من فزاراة: عشقت جارية من الحي، فحادثتها سنين كثيرة، والله ما حدثت نفسي بريبة قط، سوى أن خلوت بها، فرأيت بياض كفها في سواد الليل، فوضعت كفي على كفها، فقالت: مه! لا تفسد ما صلح. فارفض جبيني عرقاً، ولم أعد. تعريف الظرف واعلم أن الظرف ليس بمستغنى عنه، ولا هو مما يخل منه، ولا يعنف فيه صاحبه، ولا يفند عليه طالبه، بل هو أنبل ما استعمله العلماء وصبا إليه الأدباء وتزينوا به عند أودائهم، وتحلوا به عند أخلائهم، وربما تكلفه قوم ليس من أهله فظرف، وعاناه فلطف، وأنه من المطبوعين أحسن منه من المتكلفين، وللمتكلف علامات تظهر في حركاته وتبين في لحظاته، لا يسترها بتصنعه، ولا تتغيب بتستره، وإن المطبوع على الظرف ليشهد له القلب، عند معاينته، بحلاوته، وتسكن النفس عند لقائه إلى مجالسته، وتصبو إلى محادثته، وترتاح إلى مشاهدته، وهو بين في شمائله، ظاهر في خلائقه،

بين في منطقه، غير مستتر عند صمته، دلائله واضحة في مشيته وزيه ولفظه، يستدل عليه بظاهر حركة الملاحة دون اختبار باطن الحلاوة، ألا ترى أن من زيهم التقزز، والنظافة، والملاحة واللطافة، وإظهار البزة، وطيب الرائحة، فالنفوس إليهم تائقة، والقلوب وامقة، والعيون رامقة، والأرواح عاشقة. وإن من زيهم الوقار، والخشوع، والسكون، والخضوع، والتصنع بالأخلاق الوضية، والشيم السنية، والمذاهب الجميلة، والهمم الجليلة. ومما يستدل به على كمال أدبهم، ويعرف به رجحان هممهم، كثرة استعمالهم الهوى، وطول معاناتهم الجوى، وهو من أحسن مذاهبهم، وأجل مناقبهم. ولسنا نقول إن الهوى ليس بفرض على ذوي العقل، كما قال ذو التقصير والجهل، بل هو من أوكد الفرض عليهم، وأثبت الحجة للمتفرس الناظر إليهم على حسن تركيب الطباع والغرائز، وصفاء جواهر الهمم والنحائز، إذ هو عند ذوي العلوم والأحكام من أجمل مذاهب الأدباء والكرام، وقال محمود الوراق في ذلك، إذ كان الحب عنده كذلك: ألم تعلم، فداك أبي وأمي، ... بأن الحب من شيم الكرام وليس يخلو أديب من هوى، ولا يعرى من ضنىً، لأن الهوى كما وصفته العلماء، وكما قال فيه الحكماء، إنه هو أول باب تفتق به الأذهان، وينفسح به الجنان، وله سورة في القلب يحيا بها اللب، وقد يشجع الجبان، ويسخي البخيل، ويطلق لسان العي، ويقوي حزم العاجز، ليأنس به

مجنون ليلى

الجليس، ويمتنع به الأنيس، ويذل له العزيز، ويخضع له المتجبر، ويبرز له كل محتجب، وينقاد له كل ممتنع، وهو أمير مطاع، وقائد متبع، وليس بأديب عندهم من خرج من حدّ الهوى. وقد قال الأحوص بن محمد الأنصاري: إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى، ... فكن حجراً من يابس الصخر جلمدا هل العيش إلا ما تلذ وتشتهي ... وإن لام فيه ذو الشنان، وفندا مجنون ليلى واجتاز رجل بمجنون بني عامر، وهو يخوض سور الحوض، فقال له: ما بك يا فتى؟ ولم يعرفه، فأنشأ يقول: بي اليأس، أو داء الهيام أصابني، ... فإياك عني لا يكن بك ما بيا قال أبو الطيب: الهيام داء يأخذ الإبل، وتشرب الماء ولا تروى. ويقال للإبل التي يُصيبها ذلك الهيم. قال الله جل ثناؤه: فشاربون شرب الهيم، فعرفه، فقال: أعاشق أنت؟ قال: نعم، وأنشأ يقول: إذا أنت لم تعشق فتصبح هائماً، ... ولم تك معشوقاً، فأنت حمار وقال: الحب أول ما يكون لجاجة، ... تأتي به، وتسوقه الأقدار لا بأس بالعشق وروينا عن الهزنادي عن هشام عن ابن سيرين قال: كانوا لا يرون بالعشق بأساً في غير ريبة. وقيل لبعض البصريين: إن ابنك قد عشق، فقال: وما بأس به، إنه إذا عشق نظف وظرف ولطف. وقيل لبعض العرب: متى يكون الفتى بليغاً؟ قال: إذا وصف هوىً حياً.

علامات الهوى

وأنشدني بعض الأدباء: وما الناس إلا العاشقون ذوو الهوى، ... وما خير فيمن لا يحب ويعشق وقال آخر: وما تلفت إلا من العشق مهجتي، ... وهل طاب عيش لامرئ غير عاشق وقال آخر: وما خير في الدنيا، إذا أنت لم تزر ... حبيباً، ولم يطرب إليك حبيب وقال آخر: وما سرني أني خلي من الهوى، ... ولا أن لي ما بين شرق إلى غرب علامات الهوى واعلم أن أول علامات الهوى على ذي الأدب نحول الجسم، وطول السقم، واصفرار اللون، وقلة النوم، وخشوع النظر، وإدمان الفكر، وسرعة الدموع، وإظهار الخشوع، وكثرة الأنين، وإعلان الحنين، وانسكاب العبرات، وتتابع الزفرات، ولن يخفى المحب، وإن تستر، ولا ينكتم هواه، وإن تصبر، ولن يغبى ادعاء أنه قد قارن العشق والهوى، لأن علامات الهوى نائرة، وآيات الادعاء ظاهرة. وقد قال الأحوص الأنصاري: ما عالج الناس مثل الحب من سقم ... ولا برى مثله عظماً، ولا جسدا ما يلبث الحب أن تبدو شواهده ... من المحب وإن لم يبده أبداً وقال آخر: ما يعرف الحزن إلا كل من عشقا ... وليس من قال إني عاشق صدقا للعاشقين نحول يعرفون به، ... من طول ما حالفوا الأحزان والأرقا

سكينة وابن أذينة

وحدثت عن الزبير بن بكار قال: رأيت رجلاً بناحية الثغر عليه أثر ذلة وخضوع، واستكانة وخشوع، كان يكثر التنفس، ويخفي السكوت، ويبدي الأنين، وحركات المحب لا تخفى في شمائله، ولا يسترها بتصاونه، فسألته في بعض أيامه، وقد خلوت به، عن حاله، فكان جوابه، وقد تحدرت الدموع من عينيه: أنا في أمري رشاد، ... بين غزو وجهاد بدني يغزو عدوي، ... والهوى يغزو فؤادي سكينة وابن أذينة وركبت سكينة ابنة الحسين بن علي ذات ليلة في جواريها، فمرت بعروة بن أذينة الليثي، وهو في فناء قصر ابن عيينة، فقالت لجواريها: من الشيخ؟ فقالوا: عروة. فعدلت إليه فقالت: يا أبا عامر! أنت تزعم أنك لم تعشق قط، وأنت تقول: قالت وأبثثتها وجدي، فبحت به: ... قد كنت عندي تحب الستر، فاستتر ألست تبصر من حولي؟ فقلت لها: ... غطى هواك وما ألقى على بصري كل من ترى حولي من جواري أحرار إن كان خرج هذا الكلام من قلب سليم قط. فهذان قد كتما هواهما فنمت شواهد نجواهما، لأن من اغتمس في بحر الهوى نمت عليه شواهد الضنى؛ فأما أهل الدعاوى الباطلة الذين ليست أجسامهم بناحلة، ولا ألوانهم بحائلة، ولا عقولهم بذاهلة، فهم عند ذوي الفراسة يكذبون، وعند ذوي الظرف لصحتهم يوبخون. العباس بن الأحنف والجارية العاشقة وقد روي أن العباس بن الأحنف قال: بينا أنا بالطواف إذا بثلاث

المأمون وعمه إبراهيم

جوار أتراب، فلما أبصرنني قلن: هذا العباس؛ ودنت إليَّ إحداهن، فقالت: يا عباس! أنت القائل: ماذا لقيت من الهوى وعذابه، ... طلعت عليَّ بلية من بابه قلت: نعم! قالت: كذبت، يا ابن الفاعلة، لو كنت كذاك كنت كأنا، ثم كشفت عن أشاجع معراة من اللحم، وأنشأت تقول: ولما شكوت الحب قالت: كذبتني، ... فما لي أرى الأعضاء منك كواسيا فلا حب حتى يلصق الجلد بالحشا، ... وتخرس، حتى لا تجيب المنادي المأمون وعمه إبراهيم ودخل إبراهيم بن المهدي على أمير المؤمنين، وكان إبراهيم أثجل البطن، كثير اللحم والشحم، فقال له المأمون: بالله يا عمّ! عشقت قطّ؟ قال: نعم، يا أمير المؤمنين، وأنا الساعة عاشق. قال: وأنت على هذه الجثة والشحم الكثير! ثم أنشأ المأمون يقول: وجه الذي يعشق معروف، ... لأنه أصفر منحوف ليس كمن أمسى له جثة، ... كأنه للذبح معلوف فأجابه إبراهيم بن المهدي: وقائل لست بالمحب، ولو ... كنت محباً لذبت من زمن فقلت قلبي مكاتم بدني ... حبي، فالحب فيه مختزن أحب قلبي، وما درى بدني، ... ولو درى ما أقام في السمن

مدح الضمر وذم السمن

هذان أيضاً قد ادعيا المحبة، ففضحهما شاهد النظر، ولم يجز ادعاؤهما على ذي المعرفة والبصر، وقول إبراهيم: أحب قلبي وما درى بدني محال، لا يعلق القلب، فيسلم الجسم، ولكنه لاستحيائه قد احتج بحجة ضعيفة؛ وأنشدني بعض المشيخة في مثل ذلك: وقائلة ما بال جسمك سالماً، ... وعهدي بأجسام المحبين تسقم فقلت لها: قلبي لجسمي لم يبح ... بحبي، فجسمي بالهوى ليس يعلم مدح الضمر وذم السمن فالعرب تمدح بالضمر وتذم بالسمن وتنسب أهل النحول إلى الأدب والمعرفة، وأهل السمن إلى الفدامة وقلة الفهم. وللفلاسفة والأطباء في ذلك قول يثبت ما ادعت العرب. وزعموا أن من غلب عليه البلغم عظم جسمه، وكثر شحمه ولحمه، وقلَّ فهمه، وطال سباته، وانعقد لسانه لغلبة البلغم على قلبه، واحتواء الرطوبة على لبه. ومن كان أغلب مزاجاته المرة خف جسمه، وقلّ لحمه وذاب شحمه وحسن ذهنه وصح فهمه، لأن النحول علامة المتفرسين، ودلالة المتوسمين، لا يكاد أن تخطئ فيه الفراسة، ولا تكذب فيه العيافة، لما أخبرتك من غلبة أحد المزاجين على صاحبه، وابتناء قراره في مركبه، وربما أنجب السمن وخاب الهزال، ولا يكون ذلك إلا في الفرد الشاذ من الرجال. ومن أمثال العرب في ذلك: البِطنة تذهب الفطنة. جميل بن معمر والبطين وروي أن جميل بن معمر العذري صحبه رجل من عذرة وكان بطيناً أكولاً، فجعل يشكو إليه هوى ابنة عم له، فأنشأ جميل يقول: وقد رابني من جعفر أن جعفراً ... ملح على قرص، ويشكو هوى جمل فلو كنت عذري الهوى لم تكن كذا ... بطيناً، وأنساك الهوى كثرة الأكل

كيف يكون العاشق

كيف يكون العاشق ومن عشق عندهم، فلم ينحل جسمه، ولم يطل سقمه، ويتبين الخشوع في حركته، والذل في نغمته، نسبوه إلى فساد الطبع، ونقصان اللب، وبعد الفهم، وموت القلب. ومن ادعى المحبة، فلم ينحل، ولم يسهر، ولم يخشع، ولم يذل، ولم يخضع، ولم يحمل نفسه على الأمور المتعبة والشدائد الفظيعة، ويركب فيها المراكب الوعرة، ويتقدم على الأشياء المهولة والأهوال المخوفة التي يلاقي فيها الموت، ويعاين فيها الفوت، ويباشر فيها الهلكة، ويغرر فيها بالمهجة، ويصبر منها على حتفه، ويخاطر بنفسه، ويرد الموارد التي يلاقي فيها الموت ويشرف منها على مهول الأمر الذي فيه تلفه وحينه، وحتى يعصي في هواه الأقارب، ويعالج فيه العجائب، فيكون كما قال العرجي: كم قد عصيت إليك من متنصح، ... داني القرابة، أو وعيد أعادي وتنوفة أرمي بنفسي عرضها ... شوقاً إليك، بلا هداية هادي وكما قال سويد بن أبي كاهل: كم جشمنا دون سلمى مهمهاً، ... نازح الغور، إذا الآل لمع وكذاك الشوق ما أشجعه، ... يركب الهول، ويعصي من وزع فليس بعاشق عندهم، ولا يثبت له اسم الهوى، ولا يلحق بالظرفاء، ولا يعد في الأدباء، لأن الهوى عندهم في النحول، والذهول، والضنى، والعناء، والأرق، والقلق، والسهر، والفكر، والذل والخضوع والانكسار والخشوع وإدمان البكاء وقلة العزاء، وكثرة الأنين وطول الحنين، وليس بعاشق من خرج عن

المأمون ومخارق

هذه الصفات، وانتقل من هذه الحالات، أو وسيم بغير هذه العلامات، وعرف بغير هذه الدلالات. أنشدني بعض الأدباء: علامة من كان الهوى في فؤاده، ... إذا ما لقي أحبابه يتحيروا ويصفر لون الوجه بعد احمراره، ... فإن حركوه للكلام تشورا أنشدني أبو الحسن بن الرومي: أرى ماء، وبي عطش شديد، ... ولكن لا سبيل إلى الورود أما يكفيك أنك تملكيني، ... وأن الخلق كلهم عبيدي وأنك لو قطعت يدي ورجلي، ... لقلت، من الهوى: أحسنت، وزيدي المأمون ومخارق وحدثنا عن ابن مخارق عن أبيه قال: كنا عند المأمون يوماً فقام فدخل إلى حرمه، وخرج وعيناه تذرفان، فقال لي: يا مخارق تغنّ لي بهذين البيتين: سلام على من لم يطق عند بينه ... سلاماً، فأومى بالبنان المخضب فما اسطعت إلا بالبكاء جوابه، ... وذلك جهد المستهام المعذب فحفظتهما، وتغنيت بهما، فجعل يبكي، وينتحب في بكائه، ويزفر، ثم قال لنا: أتدرون ما قصتي؟ قلت: أمير المؤمنين أعلم، وإن شاء أعلمنا. قال: إني دخلت إلى بعض المقاصير، فرأيت جارية لي كنت أجد بها وجداً شديداً، وهي للموت، فسلمت عليها، فلم تطق رد السلام، فأشارت بإصبعها، فغلبتني العبرة وأرهقتني الزفرة، فخرجت من عندها، فحضرني هذان

المتوكل وجاريته قبيحة

البيتان من باب قصرها إلى باب مجلسي، ثم أمر برفع الشراب، فما رأيت يوماً أكدر منه. وأنشدت للمعتصم في بعض جواريه: أيا منقذ الغرقى أجرني من التي ... بها نهلت روحي سقاماً، وعلّت لقد بخلت، حتى لو أني سألتها ... قذى العين من سافي التراب لضنت وأنشدت للمتوكل في جارية له: أمازحها فتغضب ثم ترضى، ... وكل فعالها حسن جميل فإن تغضب فأحسن ذات دلٍ؛ ... وإن ترض، فليس لها عديل المتوكل وجاريته قبيحة حدثني أبو العباس بن الفضل الربيع قال: حدثني علي بن الجهم قال: حُمَّ المتوكل يوماً وكان ذلك بعقب شرٍ وقع بينه وبين قبيحة فرماها بمخدة، فغضبت، واحتجبت، فحمّ بعقب ذلك، ودخلنا عليه وإذا الفتح قائم، في يده قارورة فيها الماء، ويحيى بن ماسويه ينظر إليها، فقال: ليس أرى إلا ما أحب، فقلت: يا أمير المؤمنين أنشدك أبياتاً؟ فقال لي: أنشد. فأنشدته: تَنكر حال علتي الطبيب، ... فقال: أرى بجسمك ما يريب جسست العرق منك، فدلّ عندي ... على داء له شأن عجيب فما هذا الذي بك؟ هات قل لي، ... فكان جوابه مني النحيب فجسمي بالحبيب بلي سقاماً، ... وقلبي، يا طبيب، هو الكئيب فحرّك رأسه، ودنا إلي، ... وقال: الحب ليس له طبيب

من اشتهروا بالعشق

فأعجبني تظرفه عليّ، ... فقلت: بلى، إذا رضي الحبيب فقال: هو الشفاء، فلا توان، ... فقلت: أجل، ولكن لا تجيب ألا هل مسعد يبكي لشجوي، ... فإني هاهنا أبداً غريب فضحك ودعا بالشراب، وشرب وشربنا معه، ووجه إلى قبيحة، فوقع الصلح بينهما وخرجت عندها رقعة بخطّ فضل الشاعرة: لأصبرنّ على ما بي من المضض، ... حتى أموت، ولا يشعر بي الناس ولا يقال شكا من كان يعشقه، ... إن الشكاة لمن يهوى هو الياس ولا أبوح بسر كنت أكتمه، ... عند الجليس، إذا ما دارت الكاس من اشتهروا بالعشق وأما من عشق من الشعراء فما يحصرهم عدد، ولا يحصيهم أحد. وقد عشق أكثر العرب، بل كلهم قد عشق، فمن المذكورين منهم المشتهرين بالصبوة والغزل: فقيس مجنون بني عامر عشق ليلى، وقيس بن ذريح عشق لبنى، وتوبة بن الحمير عشق ليلى الأخيلية، وكثير عشق عزة، وجميل بن معمر عشق بثينة، والمؤمل عشق الذَّلفاء، ومرقش عشق أسماء، ومرقش الأصغر عشق فاطمة بنت المنذر، وعروة بن حزام عشق عفراء، وعمرو بن عجلان عشق هند، وعلي بن أديم عشق منهلة، والمهذب عشق لذة، وذو الرمة عشق مية، وقابوس عشق منية، والمخبل السعدي عشق الميلاء، وحاتم طيء عشق ماوية، ووضاح اليمن عشق أم البنين، والغمر بن ضرار عشق جُمل، والنمر بن تولب عشق حمزة، وبدر عشق نعم، وشبيل عشق فالون، وبشر عشق هند، وعمرو عشق دعد، وعمر بن أبي ربيعة عشق الثريا، والأحوص عشق سلامة، وأسعد بن عمرو عشق ليلى بنت صيفي، ونصيب عشق زينب، وسحيم عبد بني الحسحاس عشق عميرة،

وعبيد الله بن قيس عشق كثيرة، وأبو العتاهية عشق عتبة، والعباس بن الأحنف عشق فوز، وأبو الشيص عشق أمامة. فهؤلاء قليل من كثير ممن عشق، وإنما اقتصرنا على ذكر بعضهم دون بعض ليقل به الخطاب ويحسن به الكتاب، ولكل واحد منهم سبب في حبه، وحديث في عشقه يطول شرحه، ويكثر وصفه، ونحن مفردون لأهل العشق كتاباً نذكر فيه أخبار المتيمين، وملح المتعشقين، وأشعار المتغزلين مع جملة من صفات الهوى في كتاب المقتفى، إن شاء الله تعالى. وقد شهر أيضاً بالصبوة والغزل جماعة من شعراء العرب، منهم: أبو كثير الهذلي، وأبو صخر الهذلي، وأبو دهبل الجمحي، وريسان العذري، والصمة بن عبد الله القشيري، وابن أذينة، وابن الدمينة، وابن الطثرية، وابن ميادة، والحسين بن مطير إلى آخرين، لا يحصيهم العدد، ولا يبلغهم الأمد، وقد ضرب في عروة بعشقه المثل، لأنه كان أطولهم صبوة، وأكثرهم في العشق كثرة. أنشدني أحمد بن يحيى لأبي وجزة السعدي: وفي عروة العذري، إن مت، أسوة، ... وعمرو بن عجلان الذي فتنت هند وبي مثل ما ماتا به غير أنني ... إلى أجل لم يأتني وقته بعد هل الحب إلا عبرة بعد زفرة، ... وحرٌّ على الأحشاء ليس له برد وفيض دموع العين بالليل كلما ... بدا علمٌ من أرضكم لم يكن يبدو

وقال كثير: وأصبحت مما أحدث الدهر خاشعاً، ... وكنت لريب الدهر لا أتخشع وعروة لم يلق الذي قد لقيته ... بعفراء، والنهدي ما أتفجع وقال جرير: هل أنت شافية قلباً يهيم بكم، ... لم يلق عروة من عفراء ما وجدا وقال أيضاً: بالعنبرية والنحيت أوانس ... قدن الهوى بتخلب وعذام هل لا نهينك أن قتلن مرقشاً ... أم ما صنعن بعروة بن حزام وقال الأحوص الأنصاري: لا شك أن الذي بي سوف يقتلني، ... إن كان أهلك حب قبله أحدا أحببتها، فوتغت الناس كلهم، ... يا رب لا تشفني من حبها أبدا لو قاس عروة والنهدي وجدهما، ... لكان وجدي بسعدى فوق ما وجدا وقال أيضاً: إذا جئت قالوا قد أتى، وتهامسوا، ... كأن لم يجد فيما مضى أحد وجدي فعروة سنَّ الحبَّ قبلي، إذ شقي ... بعفراء، والنهدي مات على هند وقال جميل بن معمر: وما وجدت وجدي بها أم واحد، ... ولا وجد النهدي وجدي على هند ولا وجد العذري عروة، إذ قضى ... كوجدي ولا من كان قبلي، ولا بعدي على أن من قد مات صادف راحة، ... وما لفؤادي من رواح ولا رشد

وقال مروان بن أبي حفصة: أردين عروة والمرقش قبله، ... وأخا بني نهد تركن قتيلا ولقد تركن أبا ذؤيب هائماً، ... ولقد قتلن كثيراً وجميلا وتركن لابن أبي ربيعة منطقاً، ... فيهن أصبح سائراً محمولا وأنشدني عمرو بن قنان لنفسه: إن الأولى ماتوا على دين الهوى ... وجدوا المنية منهلاً معسولا قيسٌ، وعمرو، والمرقش قبلهم، ... كانوا لتنزيل الهوى تأويلا ندبوا الطلول لأهلها، لا لأنهم ... عشقوا مغاني أربع وطلولا ولبعض المتأدبين: يا عذولي قد هويت فكفا، ... إنني بالهوى المميت رضيت مات قيس، وعروة، وجميل ... وأُراني بموتهم سأموت وقال جميل بن معمر: قد مات قبلي أخو نهدٍ وصاحبه ... مرقش واشتفى من عروة الكمد وكلهم كان في عشق منيته، ... وقد وجدت بها فوق الذي وجدوا إن لم تنلني بمعروف تجود به، ... أو يدفع الله عني الواحد الصمد وقد أحسنت، والله، امرأة من خثعم، إذ تقول: فأقسم أني قد وجدت بجحوش ... كما وجدت عفراء بابن حزام فما أنا إلا مثلها، غير أنني ... معلقة نفسي ليوم حمام وأحسن الذي يقول: عجبت لعروة العذري أضحى ... أحاديثاً لقوم بعد قوم وعروة مات موتاً مستريحاً، ... وكيف بميت في كل يوم

موت عروة بن حزام

وبلغنا أن منهم من عشق صورة في حمَّام، وخيالاً في منام، وكفاً في حائط، ومثالاً في ثوب. والعشق ألوان وأنواع وضروب وفنون، وأمره عجيب. وقال بعض الشعراء: أبيت كأني للكواكب عاشق، ... فأكثر همي أن تزول الكواكب عجبت لما يلقى من العشق أهله، ... وفيما يلاقي العاشقون عجائب وبلغ العشق من عروة بن حزام أن أفرده ببلائه، وعذّبه بدائه، وآنسه بانفراده، وشرّده عن بلاده. موت عروة بن حزام وحكي عن ابن أبي عتيق قال: بينا أنا أسير في أرض بني عذرة، إذا أنا ببيت حرير، فدنوت منه، فإذا عجوز تمرض شاباً، وقد نهكته العلة، وبانت عليه الذلة، فسألتها عن خبره، فقالت: هذا عروة بن حزام، فدنوت منه فسمعته يقول: من كان من أمهاتي باكياً لغدٍ، ... فاليوم إني أراني اليوم مقبوضا تسمعيه، فإني غير سامعه، ... إذا علوت رقاب القوم معروضا فقلت: أنت عروة بن حزام؟ قال: نعم، أنا الذي أقول: جعلت لعراف اليمامة حكمة، ... وعراف نجد إن هما شفياني فقالا: نعم تشفى من الداء كله، ... وقاما مع العواد يبتدران فما تركا من سلوة يعلمانها، ... ولا شربة، إلا بها سقياني فقالا: شفاك الله، والله ما لنا، ... بما حملت منك الضلوع، يدان فلهفي على عفراء لهفاً كأنه ... على النحر والأحشاء حدُّسنان فعفراء أحظى الناس عندي مودة، ... وعفراء عني المعرض المتواني

مجنون بني عامر وليلاه

ثم خفق خفقة، فتوهمت أنها غشية، فتنحيت عنه ودنت العجوز منه، فما برحت حتى سمعت الصيحة، فإذا هو قد فارق الدنيا. مجنون بني عامر وليلاه وبلغ العشق أيضاً من مجنون بني عامر أن أخرجه إلى الوسواس والهيمان وذهاب العقل، وكثرة الهذيان، وهبوط الأودية، وصعود الجبال، والوطء على العوسج وحرارة الرمال، وتمزيق الثياب واللعب بالتراب، والرمي بالأحجار، والتفرد بالصحاري والاستيحاش من الناس، والاستئناس بالوحش حتى كان لا يعقل عقلاً، فإذا ذكرت ليلة ثاب إليه عقله، وأفاق من غشيته وتجلت عنه غمرته، وحدثهم عنها أصحَّ الرجال عقلاً، وأخلصهم ذهناً، لا ينكرون من حديثه شيئاً، فإذا قطع ذكرها رجع إلى وسواسه وهذيانه وتماديه في ذهاب عقله. وقد حكي عنه في أول ابتداء وسواسه أنه قيل لأبيه: لو أخرجت قيساً، أيام الموسم، وأمرته بأن يتعلق بأستار الكعبة، ويقول: اللهم أرحني من حب ليلى، لعل الله كان يريحه من ذلك، ففعل. فلما طاف بالبيت أمره، فتعلق بأستار الكعبة، وقال: قل اللهم أرحني من حب ليلى. فقال: اللهم زدني لليلى حباً إلى حبها، وأرني وجهها في خير وعافية! فضربه أبوه، فأنشأ يقول: ذكرتك، والحجيج له ضجيج ... بمكة والقلوب لها وجيب فقلت، ونحن في بلد حرام، ... به لله أخلصت القلوب: أتوب إليك، يا رحمن، مما ... عملت، فقد تظاهرت الذنوب

وأما من هوى ليلى وتركي ... زيارتها، فإني لا أتوب وكيف، وعندها قلبي رهين، ... أتوب إليك منها، أو أنيب وقال أيضاً: دعا المحرمون الله يستغفرونه، ... بمكة شعثاً، كي تمحى ذنوبها وقلت لرب الناس: أول سؤلتي ... لنفسي ليلى، ثم أنت حسيبها فإن أُعط ليلى في حياتي لا يتب ... إلى الله عبد توبة لا أتوبها وقال أيضاً: فلو أن ما بي بالحصى فلق الحصى، ... وبالريح لم يسمع لهن هبوب ولو أنني أستغفر الله كلما ... ذكرتك لم يكتب عليّ ذنوب وبات في بعض ليالي حجه تحت شجرة، فانتبه بنوح حمامة فأنشأ يقول: لقد هتفت في جنح ليل حمامة ... على فنن تدعو، وإني لنائم فقلت اعتذاراً عند ذاك، وإنني ... لقلبي، فيما قد رأيت، للائم أأزعم أني عاشق ذو صبابة ... بليلى، ولا أبكي، ويبكي الحمائم كذبت، وبيت الله، لو كنت عاشقاً ... لما سبقتني بالبكاء الحمائم وسمع هاتفاً من الليل، وهو ينادي: يا ليلى، فخرّ مغشياً عليه، ثم أفاق، وهو يقول: وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى ... فهيج أحزان الفؤاد، وما يدري دعا باسم ليلى، أسخن الله عينه، ... وليلى بأرض عنه نازحة قفر عرضت على قلبي الغراء، فقال لي: ... من الآن فاجزع لا أعزك من صبر

إذا بان من تهوى وأسلمك النوى، ... ففرقة من تهوى أحر من الجمر وقال أيضاً: فلبيك من داع دعا، ولو أنه ... صدى بين أحجار لظل يجيبها وقد أحسن، إذ حكم على صدى في مسه بالإجابة لدعوتها والمبادرة إلى تلبيتها، وهكذا فلتكن غلبة العشق، وصدق الهوى. ومثل ذلك قوله أيضاً: لمست ثيابي، إن قدرت، ثيابها، ... ولم ينهني عن مسهنّ حرامها ولو شهدتني، حين تحضر ميتتي، ... جلا سكرات الموت عني كلامها ومثل ذلك قول الآخر: ولو كلمتنا بين زمزم والصفا، ... وبين حطيم البيت أصبى كلامها ولو مكثت بعد التطوع ساعة ... بمكة ولاها الصلاة إمامها ولو نطقت، والموت يجري ظلامه، ... لجلى ظلام الموت عني ابتسامها ومنه قول جميل بن معمر: حلفت يميناً، يا بثينة، صادقاً، ... فإن كنت فيها كاذباً لعميت حلفت لها بالبدن تدمى نحورها، ... لقد شقيت نفسي بكم وعنيت فلو أن جلداً غير جلدك مسّني، ... وباشرني دون الشعار شريت

ولو أن داع منك يدعو جنازتي، ... وكنت على أيدي الرجال حييت ومثله قول الأعشى: عهدي بها في الحي قد سُربلت ... صفراء مثل المهرة الضامر لو أسندت ميتاً إلى نحرها ... عاش، ولم ينقل إلى قابر حتى يقول الناس مما رأوا: ... يا عجباً للميت الناشر قد حجم الثدي على نحرها، ... في مشرق ذي بهجة زاهر ومثله قول المجنون أيضاً: ولو كنت أعمى أخبط الأرض بالعصا ... أصمَّ، فنادتني أجبت المناديا وأشهد، عند الله، أني أحبها ... فهذا لها عندي، فما عندها ليا قال: وسرق هذا المعنى جميل بن عبد الله بن معمر فقال: ألا ليتني أعمى، أصم، تقودني ... بثينة، لا يخفى علَّ كلامها فهؤلاء قد زعموا أن كلام النساء ينجلو العمى، ويسمع الصم ويحيي الميت، ويدفع الموات وينشر القبور من قبل أوان النشور، وقد قال بعض الأعراب: إن من كلام النساء ما يقوم مقام الماء فيروي من الظماء. وقال آخر: حلاوة نغم النساء في الآذان ألذ من موقع الماء العذب من العطشان. وقال القطامي في مثل ذلك: وفي الخدور غمامات برقن لنا، ... حتى تصيدنا من كل مصطاد قتلنا بحديث ليس يعلمه ... من يتيقن ولا مكنونه بادي

وهن يندبن من قول يُصبن به ... مواقع الماء من ذي الغلة الصادي وعمر بن أبي ربيعة يقول في سكينة ابنة الحسين بن علي رضي الله عنهما: أسكين ما ماء الفرات وبرده ... مني على ظمأٍ وحب شراب بأحب منك، وإن نأيت، وقل ما ... ترعى النساء أمانة الغياب ولبعض المتأدبين في مثله: والله ما شربة من ماء غادية، ... إذا ظمئت، وكرب الموت يغشاني ألذ من شربة من فيك أجرعها، ... تلك الشفاء لقلب الهائم العاني وروي أن عمر بن أبي ربيعة قال: أتتني امرأتان في أيام غزلي، فجعلت إحداهما تسرّ إلي سراً، والأخرى تعضني، فما شعرت بعضة هذه من لذة سراره هذه. ودخل كثير على عبد الملك بن مروان فقال: يا كثير حدثني ببعض أخبار جميل! فقال: نعم، يا أمير المؤمنين، لقيت جميلاً ذات يوم، فقال: هل لك في المسير معي نحو بثينة؟ قلت: نعم، فسايرته، حتى دنا من موضعها، فقال: تصير إليها، فتعلمها بمكاني، فمضيت، فأعلمتها، فأقبلت في نسوة من الحي، فلما رأينه انصرفن عنها، وتنحيت عنهما، فلم يزالا من أول الليل إلى أن رهقهما الصبح قائمين في أقدامهما، فلما عزما على الافتراق قالت: ادن مني يا جميل! فدنا منها، فأسرت إليه سراً، فخر مغشياً عليه فما أيقظه إلا حر الشمس، فأفاق، وأنشأ يقول: فما ماء مزن من جبال منيفة، ... ولا ما أكنت في معادنها النحل

ثلاثة أماتهم الحب

بأشهى من القول الذي قلت بعدما ... تمكن في حيزوم ناقتي الرحل وقال جرير أيضاً: ولقد رمينك يوم رحن، بأعين، ... يقتلن من خلل الستور، سواجي وبمنطق شغف الفؤاد كأنه ... عسل يجدن به بغير مزاج وقال الفرزدق: إذا هن ساقطن الحديث، كأنه ... جنى النحل، أو أبكار كرم تقطف تراهن من فرط الحياء كأنها ... مراض سلال، أو هوى لك نزف وليس يمكن أن يكون ذلك عندهم كذلك. وقد روي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، من وجوه شتى بأحاديث صحت عن الثقات، ونقلت عن الرواة: إن حبك للشيء يعمي ويصم. وليس بعجب ما قال المجنون وأشباهه من غلبة العشق عليهم، وقد قال غيره أعظم مما قاله، وأقطع، وأجل. ولقد رأينا وسمعنا وخُبرنا أن منهم من قتل نفسه غرقاً، وذبحاً، وخنقاً، كل ذلك أسفاً وحسرة وتلهفاً. ثلاثة أماتهم الحب فمن ذلك ما حكي عن شيخ حضر مجلس العتبي، فأخبرهم أنه حضر مجلساً فيه قينة وفتى، وكان الفتى يهوى القينة وكانت القينة تهوى ابنة الشيخ، وابنه الشيخ تهوى الفتى، فغنت القينة:

حديث الجاحظ عن قتلى الحب

علامة ذل الهوى ... على العاشقين البكا ولا سيما عاشق ... إذا لم يجد مشتكى فقال لها الفتى: أحسنت، والله، يا ستي، أتأذنين لي أن أموت؟ قالت: مت راشداً؛ فوضع رأسه على الوسادة، وغمض عينيه، فحركناه فوجدناه ميتاً. قال الشيخ: فخرجنا متعجبين من ذلك، وصرت إلى منزلي، فأعلمتهم ما كان من قصة الفتى، ونظرت إلى ابنتي، وقد حاضرت، فدخلت مجلساً لي، فدخلت وراءها، فإذا هي متوسدة على مثال ما كان عليه الفتى، فحركتها فإذا هي ميتة، فغدونا بجنازتها، وغدوا بجنازة الفتى، فإذا بجنازة ثالثة، فسألنا عنها، فإذا هي جنازة القينة، وبلغها موت ابنتي، فصنعت مثل ذلك، فماتت. فدفنا ثلاثة بموت واحد في موضع واحد. وهذا من عجيب ما سمع به في هذا الأمر. حديث الجاحظ عن قتلى الحب ومن ذلك ما أخبرني أبو العيناء قال: حدثني عمرو بن بحر الجاحظ قال: ذكرت لأمير المؤمنين المتوكل لتأديب ولده، فلما نظر إليّ استبشع منظري، وأمر لي بعشرة آلاف درهم، وصرفني فخرجت، فلقيت محمد ابن إبراهيم، وهو يريد الانحدار إلى مدينة السلام، فعرض علي الانحدار معه، وقربت حراقته، ودعا بطعامه وشرابه، ونصب ستارته، وأمر بالغناء فاندفعت عوادة له تتغنى: كل يوم قطيعة وعتاب، ينقضي دهرنا، ونحن غضاب ليت شعري أنا خصصت بهذا ... دون ذا الخلق أم كذا الأحباب

ثم سكتت، وأمر طنبورية، فغنت: وارحمتي للعاشقينا ... ما إن أرى لهم معينا كم يهجرون، ويظلمو ... ن، ويقطعون فيصبرونا وتراهم مما بهم ... بين البرية خاشعينا يتجلدون، ويظهرو ... ن تجلداً للشامتينا قالت لها العوادة: فيصنعون ماذا؟ قالت: يصنعون هكذا، وضربت بيدها على الستارة فهتكتها، وبرزت كأنها فلقة قمر، فزجت بنفسها إلى الماء. قال: وعلى رأس محمد غلام يضاهيها في الجمال وبيده مدية، فلما رآها وما صنعت ألقاها من يده، وأتى إلى حيث رمت بنفسها، فنظر إليها وهي تمور بين الماء فأنشأ يقول: أنت التي غرقتني، ... بعد القضا، لو تعلمينا وزج بنفسه في أثرها، فأدار الملاح الحراقة، فإذا بهما معتنقين، ثم غاصا، ولم يريا. فهال ذلك محمداً، واستفظعه، وقال للجاحظ: يا عمرو لتحدثني بحديث يسكن عني فعل هذين، وإلا ألحقتك بهما. قال الجاحظ: فحضرني خبر سليمان بن عبد الملك، وقد قعد للمظالم، وعرضت عليه القصص، فمرّت به قصة فيها: إن رأى أمير المؤمنين، أطال الله بقاءه، أن يخرج إلي فلانة، يعني جارية من جواريه، حتى تغنيني ثلاث أصوات، فعل. فاغتاظ من ذلك سليمان، وأمر من يخرج إليه فيأتيه برأسه، ثم أتبع الرسول برسول آخر، فأمر أن يدخل الرجل إليه، فأدخل؛ فلما مثل الرجل بين يديه قال له: ما الذي حملك على ما صنعت؟ قال: الثقة بحلمك والاتكال على عفوك، فأمره بالقعود، حتى لم يبق أحد من بني أمية، ثم أمر فأخرجت الجارية ومعها عودها، ثم قال له: اختر! قال له: قل لها تغني بقول قيس بن الملوح:

تعلق روحي روحها قبل خلقها ... ومن بعد ما كنا نطاقاً، وفي المهد فعاش كما عشنا، فأصبح نامياً، ... وليس، وإن متنا، بمنقضب العهد ولكنه باق على كل حالة، ... وسائرنا في ظلمة القبر واللحد يكاد فضيض الماء يخدش جلدها ... إذا اغتسلت بالماء من رقة الجلد وإني لمشتاق إلى ريح جيبها، ... كما اشتاق إدريس إلى جنة الخلد فغنته، فقال سليمان: قل! قال: تأمر لي برطل، فشربه، ثم قال: تغني بقول جميل: علقت الهوى منها وليداً، فلم تزل ... إلى اليوم ينمي حبها ويزيد وأفنيت عمري بانتظاري نوالها، ... وأبلت بذاك الدهر، وهو جديد فلا أنا مردود بما جئت طالباً؛ ... ولا جبها فيما يبيد يبيد إذا قلت: ما بي، يا بثينة، قاتلي ... من الحب، قالت: ثابت ويزيد فتغضب فقال سليمان: قل! قال: تأمر لي برطل، فأتي برطل، فشربه، ثم قال: تغني بقول قيس بن ذريح: لقد كنت حسب النفس لو دام ودها ... ولكنما الدنيا متاع غرور وكنا جميعاً قبل أن يظهر النوى، ... بأحسن حالي غبطة وسرور فما برح الواشون حتى بدت لنا ... بطون الهوى مقلوبة لظهور فتغنت، فقال له: قل! قال: تأمر لي برطل، فما استتمه حتى وثب إلى أعلى قبة سليمان، ثم زج بنفسه على دماغه، فمات، فقال سليمان: إنا لله وإنا إليه راجعون، أتراه الجاهل ظن أنني أخرج إليه جاريتي، فأردها إلى ملكي!

من مات من شدة الفقد

خذوا بيدها فانطلقوا بها إلى أهله، إن كان له أهل، وإلا فبيعوها، وتصدقوا بها عنه، فلما انطلقوا بها نظرت إلى حُفرة في دار قد أُعيدت للمَطر، فجذَبت نفسها، وأنشأت تقول: من مات عِشقاً فَلْتَمُتْ هكذا، ... لا خيرَ في العِشقِ بلا مَوتِ وزجّت بنفسها في الحُفرة على دماغها، فماتت. فسُرّيُ عن محمد، وأحسنَ صِلةً الجاحظ. من مات من شدة الفقد وتضعضعت أعضاؤه من شدّة الوجد حكايات عمن قتلهم الحبّ حُكي لنا عن إسحاق بن إبراهيم عن الهيثم بن عَديّ، عن هشام بن حسّان، قال: حدثنا رجلٌ من بني تميم قال: خرجتُ في طلب ناقةٍ لي فورّدت على ماء من مياه طيء، فإذا بعسكرين، أحدهما قريبٌ شابٌّ مدنَفٌ قد نهكته العلة فهو كالشنّ البالي، فدنوت لأعرف خبره، فسمعته وهو يقول: ألا ما للمليحة لا تعود، ... أسُخطٌ بالمليحة ألأم صُدودُ مرضتُ، فعادني أهلي جميعاً، ... فما لك لا تُرى فيمن يعود فقدتُكِ بينهم فتلفتُ شوقاً، ... وفقْد الإلف، يا سكني، شديدُ فلو كنتِ المريض لجئتُ أسعى ... إليكِ، ولم ينهنهي القعود قال: فسمعتْ كلامه، فبادرت نحوه، وبدرتها النساء، فتعكّفن بها، فأحسّ بها، فوثب مبادراً نحوها، فحبسه الرجال، فجعلَت تجذب نفسها من النساء، ويجذب نفسه من الرجال، حتى التقيا، فاعتنقا، وبكّينا، ثم شهقا فخرّا ميّتين.

الفتاة التي أكلها السبع

فخرج شيخٌ من بعض الأخْبية فوقف عليهما، فاسترجع، ثم قال: رحمكما الله، أما والله لقد كنت لم أجمع بينكما في حياتكما، لأجمعنّ بينكما بعد موتكما! فأمر بهما، فكُفّنا في كفَنٍٍ واحد، ودُفنا في قبر واحد، فسألت عنهما فقال: هذه بنتي، وهذا ابن أخي، بلغ بهما الحب ما ترى. ومن ذلك أيضاً ما حُكي عن إسحاق الرافقي قال: كنت في مجلس بالرقّة في عدةِ من الظرفاء وجماعة من القيان، ومعنا فتىً كأهيأِ من رأيت من الفتيان، وعليه ذلّة الهوى، يُديم الأنين والبكاء، فتغنّت إحداهنّ: إني لأبغض كل مصطبرٍ ... عن إلفه في الوصل والهجْرِ الصبر يحسُن في مواطنه، ... ما للفتى المحزون والصبر فنظر إليها الفتى، وتبادرت عبراته، ثم وثب على قدميه ووضع يده على رأسه وقال: غداً يكثر الباكون مِنّا ومِنكم، ... وتزداد داري من دياركم بُعدا ثم رمى بنفسه، فسقط مجدَّلاً من قامته، فوثبنا إليه فحملناه ميتاً. الفتاة التي أكلها السبع ومن ذلك ما حُكي عن جميل بن معمر الذعري أنه دخل على عبد الملك بن مروان، فقال له: يا جميل! حدّثني ببعض أحاديث عُذرة، فإنه يبلغني أنهم أصحاب أدب وعزَل. قال: نعم، يا أمير المؤمنين، إن آل بُثينةَ انتجعوا الحيّ وقطعوا بلداً آخر، فخرجت أريدهم، فغلطت الطريق، وجَنّني الليل، ولاحت لي نارٌ، فقصدتها، حتى دنت، ووردتُ على راعٍ في أصل جبل، قد ألجأ غنمه إلى كهف في الجبل، فسلّمت، فرد علي السلام، وقال: أحسبك قد ضللت الطريق؟ قلتُ: قد كان ذاك، فأرشدنيه. قال: بل انزل حتى تُريح ظهرك، وتبيت ليلتك، فإذا أصبحتَ وقفتُك على الطريق. فنولتُ، فترحّب بي، وأكرمني، وعمد إلى شاة فذبحها، وأجّج ناراً، وجعل يشوي ويُلقي بين يديَّ، ويُحدّثني

في خلال ذلك، ثم قام بإزار كان معه، فقطع به جانب الخباء ومهّد لي جانباً، وترك جانباً خالياً، فلما كان في الليل سمعته يبكي ويشكو إلى شص كان معه، فأرِقتُ له ليلتي. فلما أصبحتُ طلبت الإذن، فأبى، وقال: الضيافة ثلاثٌ، فأقمتُ عنده، وسألته عن اسمه ونسبته، وحاله، فانتسب لي، فإذا هو من بني عُذرة وأشرافهم، فقلت: يا هذا! وما الذي احلّك هذا الموضع؟ فأخبرني أنه يهوى ابنة عمه له، وتهواه، وأنه خطبها إلى أبيها، فأبى أن يزوّجها منه لقلة ذات يده، وأنه زوّجها رجلاً من بني كِلاب فخرج بها عن الحيّ، فأسكنها في موضعه ذلك، وأنه تنكّر، ورضي أن يكون راعياً له، لتأتيه ابنة عنه، فتراه ويراها، وجعل يشكو إليّ صبابته بها، وشدّة عشقه لها، حتى إذا جَنّنا الليل وحان وقت مجيئها جعل يتقلقل ويقوم ويقعد كالمتوقّع لها. فأبطأت عن الوقت، وغلبه الشوق، فوثب قائماً وأنشأ يقول: ما بال ميّة لا تأتي لعادتها، ... أهاجها طربٌ أم صدّها شُغُلُ لكنّ قلبي لا يلهيه غيرهُمُ، ... حتى الممات ولا لي غيرهم أمل لو تعلمين الذي بي من فراقكُمُ، ... لما اعتذرت، ولا طالت لك العللُ روحي فداؤكِ قد هيّجتِ لي سَقَماً ... تكاد من حره الأعضاء تنفصل لو أن غاديةً منه على جبلٍ ... لزال، وانهدَّ عن أركانه الجبل ثم قال: يا أخا بني عُذرة، مكانك حتى أعود إليك، فإني أتوهم أن أمراً عرض لابنة عمي. ثم مضى فغاب عن بصري، فلم يلبث أن أقبل وعلى يديه شيء محمولٌ، وقد علا شهيقه ونحيبه، فقال: يا أخا بني عُذرة، هذه بنت عمي أرادت أن تأتيني، فاعترضها السبع فأكلها؛ ثم وضعها عن يده وقال: على رِسْلك حتى أعود إليك، ومضى فأبطأ، حتى أيستُ من رجوعه،

ثم أقبل ورأس الأسد على يده، فوضعه، وجعل بنكُتُ على أسنانه، وهو يقول: ألا أيها الليث المدلّ بنفسه، ... هُبِلتَ لقد جرّت يداك لنا حُزنا وغادرتَني فرداً، وقد كنت آنساً ... وصيّرت بطن الأرض ثمّ لنا سِجنا ثم قال: يا أخا بني عُذرة، إنك ستراني بين يديك ميتاً، فإذا أنا متّ، فاعمد إليّ وإلى بنت عمي، فأدرجنا في كفنٍ واحد، واحفر لنا جدثاً واحداً، وادفنّا فيه، واكتب على قبري هذين البيتين: كنا على ظهرها، والعيش في مَهَلٍ، ... والعيش يجمعنا، والدار والوطن ففرّق الدهر بالتشتيت أُلفتنا، ... فاليومَ يجمعنا في بطنها الكفنُ ورُدّ الغنم على صاحبها، وأعلمه بقصتنا، ثم عمد إلى خِناقٍ فطرَحه في عنقه. فناشدته الله أن لا يفعل، فأبي، وجعل يخنق نفسه، حتى سقط بين يديّ ميتاً. فلما أصبحتُ كفّنته وابنه عمه كما أمرني، ودفنتهما في فبر واحد، وكتبتُ البيتين على قبرهما ورددتُ الغنم على زوجها، وأعلمتُه بقصته، فجعل يأكل كفّيه أسفاً أن لا يكون جمع بينهما في حياتهما. فهذا وما أشبهه كثير جداً. ورُوي عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: كنا عند عُروة بن الزبير وعنده رجل من بني عُذرة فقال له عروة: يا عُذري بلغني أن فيكم رقةً وغزلاً، فأخبرني ببعض ذلك! قال: لقد خلّفتُ في الحي ثمانين مريضاً دنفاً عِشقاً ما بهم غير الحب قد خامر قلوبهم.

من وصف الحب

من وصف الحب وما فيه من شدة المرارة والكرب واعلم أن الحبّ، مع ما فيه من المرارة والنكد، وطول الحسرات والكمد، ومرٌّ لا تعدله مرارة، قال الكميت بن زيد: الحب فيه حلاوةٌ ومَرارةٌ، ... سائلْ بذلك من تطاعم، أو ذُقِ ما ذاق بؤس معيشةٍ ونعيمها، ... فيما مضى، أحدٌ إذا لم يعشقِ وقال آخر: يا أيها الدنِف المُعذَّب بالهوى! ... إني بأحوال الهوى لعليمُ الحب صاحبه يبيت مُسهَّداً، ... ويطير عنه فؤاده، ويهيم الحب داءٌ قد تضمّن في الحشا ... بين الجوانح والضلوع مقيمُ الحب لا يخفى، وإن أخفيته، ... إن البكاء على المُحبّ نَموم الحب فيه حلاوةٌ ومَرارةٌ، ... والحب فيه شقاوةٌ ونعيم الحب أهون ما يكون مُبرِّحٌ، ... والحب أصغر ما يكون عظيم أنشدني أحمد بن يحيى ثعلب: سَلني عن الحب يا من ليس يعرفه، ... ما أطيب الحب لولا أنه نَكدُ طعمان: حلوٌ ومرٌّ ليس يعدله ... في حَلْق ذائقه مُرٌّ، ولا شهد وأنشدني إبراهيم بن محمد الواسطي لنفسه: سلْني عن الحب، فإني به ... أعلم ذي وَطْءٍ على نعل

طعمان ضدّان، فمستعذَبٌ ... وآخر أشرى من القتل ولبعض المتأدبين أيضاً في مثله: سَلني عن الحب يا من ليس يعلمه، ... عندي من الحب، إن ساءلتُمُ، الخَبَر أنا الذي بالهوى ما زلتُ مشتهراً، ... لاقيتُ فيه الذي لم يلقه بشر الحب أوَّله عذبٌ مَذاقتُهُ، ... لكنّ آخره التنغيص والكَدَر كم تيّم الحب أقواماً، ودللهم، ... وكم يدٍ للهوى قد وارت الحُفَر أنشدني ابن أبي الرعد: من كان لم يدرِ ما حبٌّ وصفْتُ له، ... إن كان في غفلةٍ، أو كان لم يجد الحب أوّله عذبٌ، وآخره ... مثل الحَزازة بين القلب والكبِد أنشدني الوليد بن عُبيد البحتري لأبي العتاهية: أخلاّني بي شَجْوٌ، وليس بكم شجْو ... وكل امرئٍ مما بصاحبه خِلْو أذاب الهوى جسمي ولحمي وقُوّتي، ... فلم يبق إلا الروح والجسد النِّضْو رأيت الهوى جمر الغضا، غير أنه ... على كل حالٍ، عند صاحبه حُلْوُ وما من محبٍّ نال ممن يحبه ... هوىً صادقاً إلا سيدخله زَهو قال: وأنشدني ابن أبي الدنيا: الحب يترك منْ أحبَّ مُدَلَّهاً، ... حَيران، أو يقضي عليه فيسرع الحب أهونه ثقيلٌ فادحٌ، ... يُهوي الجليد من الرجال، فيَصرع

ما في معرفة الهوى

ما في معرفة الهوى وما كان اسمه في البداية أوّلاً واعلم أن الهوى عندهم هو الهوان الصُّراح، والبلاء المتاح، لأنه يُهين الكريم، ويُذلُّ العزيز، ويدلّه العاقل، ويحطّ منزلة الشريف. وسُئلت أعرابية عن الهوى، فقالت: الهوى هو الهوان وإنما غُلِظ باسمه، واشتُقّ من طبعه، ولن يعرف ما أقول إلا من أبكته المنازل والطلول؛ وأنشأت تقول: ليت الهوى لذوي الهوى لم يُخلقِ، ... بلْ ليت قلبي بالهوى لم يَعلق إن الذي عَلِق الهوى بفؤاده، ... كمنوَّطٍ دون السماء مُعلَّقِ لا يستطيع نزوله لشقائه، ... لكن إليه كل همٍّ يرتقي إن الهوى لهو الهوان بعينه، ... ما ذاق طعم الذل من لم يعشق وأُنشِدتُ لغيرها أيضاً: إن الهوان هو الهوى نُقص اسمه، ... فإذا هويت لقد لقيتَ هَوانا وإذا هَويتَ لقد تعبّدك الهوى، ... فاخضع لحبك كائناً من كانا أنشدنا أبو عبد الله الواسطي لنفسه: لم يدر ما بؤس الحياة ولينُها، ... إلا الذين مِنَ الهوى بمكان كم من عزيزٍ قد ألمّ به الهوى، ... فأقرّ بعد كرامةٍ بهَوان ليس الهوى إلا الهوان، ونونه ... نُقِصت كفعل الزور والبُهتان ليس الحياة إذا نظرتَ، وبؤسها ... بين الوصال وغُصّة الهِجران ما العشق عندي باختيارٍ إنما ... ذاك البلاء يُتاح للإنسان

ما سئل عنه أهل الصدق

قال: وأنشدني أبو العَيناء: وما كَسَيٌ في الناس يُحمد رأيه، ... فيوجد إلا وهو في الحب أحمق وما من فتىً ما ذاق بؤس معيشةٍ، ... من الدهر، إلا ذاقها حين يَعشقُ ما سئل عنه أهل الصدق من تمام خَلاّت العشق قال الأصمعي لأبي وائل الإضاخي: ما تقول في العشق؟ فقال: إن لم يكن عُصارة من الشجر، فهو ضَرب من الجنون؛ وأنشأ يقول: بقلبي شيءٌ لستُ أعرف وصفَه، ... على أنه، ما كان، فهو شديد تمرّ به الأيام تسحب ذيلها، ... فتَبلى به الأيام، وهو جديد لعَمَري إن بذلك ما وجب لهم الدعاء، فصار مفترضاً على الأدباء كالفرض اللازب، والحقّ الواجب، لجليل الخطب وفادح الأمر. أخبرني أحمد بن عُبيد قال: أخبرني الأصمعي قال: رأيت أبا السائب المخزومي متعلقاً بأستار الكعبة، وهو يقول: اللهمّ ارحمِ العاشقين، واعطفْ عليهم قلوب المعشوقين بالرأفة والرحمة، يا أرحم الراحمين. فقلت: يا أبا السائب، أفي هذا المقام تقول هذا المقال؟ قال: إليك عني! الدعاء لهم أفضل من حجّةٍ بعمرةٍ. ثم أنشأ يقول: يا هجر كُفّ عن الهوى، ودع الهوى ... للعاشقين يطيب، يا هجر ماذا تريد من الذين جفونهم ... قَرحى، وحشو صدورهم جمر

وسوابق العَبرات فوق خدودهم، ... هُطلاً تلوح كأنها القطْر صرعى على جسر الهوى لشقائهم، ... بنفوسهم يتلاعب الدهر قال: وخُبّرت عن الأصمعي أيضاً أنه قال: رأيت جاريةً وهي تقول: اللهمّ، مالك يوم القضاء وخالق الأرض والسماء، ارحم أهل الهوى، واستنقذهم من عظيم البلاء، واعطف عليهم قلوب أودّائهم بالصفاء، فإنك سميع النجوى، قريبٌ لمن دعا؛ ثم أنشأت تقول: يا ربّ! إنك ذو منٍّ ومغفرةٍ، ... بيِّتْ بعافيةٍ منك المحبينا الذاكرين الهوى من بعد ما سهروا، ... حتى يظلوا على الأيدي مكبّينا فقلت: يا هذه، أتُغنّين وأنت في الطواف؟ فقالت: إليك عني، لا يُهقك الحب! فقلت لها: وما الحب؟ وأنا به أعرف منها. فقالت: جلّ أن يخفى ودقّ عن أن يُرى له كمونٌ ككمون النار في الحجر، إن قدحته أوراك، وإن تركته توارى. قال: فتبعتها حتى عرفت منزلها، فلما كان من الغد جاء مطر شديد، فمررت ببابها، وهي قاعدةٌ مع أتراب لها زُهرٍ، يقلن لها: لقد أضرّ بنا المطر، ولولا ذلك لخرجنا إلى التطواف؛ فأنشأت تقول: قالوا أضرّ بنا السحاب بقطره، ... لما رأوه لعبرتي يحكي لا تعجبوا مما ترون، وإنما ... هذا السحاب لرحمتي يبكي وزعم قومٌ أنه لا ذنب على أهل الهوى ولا وزر، وأن خطاياهم تُمحّص عنهم بطول بلائهم، وكثرة زفراتهم وما لقوا من الشقاء بأودائهم. وأخبرني أحمد بن يحيى عن عبد الله بن شَبيب عن رجل ذكره قال:

كنت عند مالك بن أنس، فأتاه شابٌّ، فقال: إني قد قلت أبياتاً ذكرتُك فيها، فاسمعها. قال: لا حاجة لي فيها. فقال لي: أحبّ أن تفعل، قال: هات. فقال: سلوا مالك المفتي عن اللهو والصِّبي، ... وحب الحِسان المغنجات الفَواركِ يخبركُمُ أني مصيبٌ، وإنما ... أُسلّي هموم النفس عني بذلك فهل في محبٍّ يكتم الحب والهوى ... أثامٌ، وهل في ضَمّة المتهالك فسرّي عن مالك، وقال: إن شاء الله. وكان ظنّ أنه هجاه. أخبرني أحمد بن يحيى ثعلب عن عبد الله بن شَبيب عن شيخ من عاملة قال: مرّ ابن مَرجانة الشاعر بسعيد بن المسيَّب فقال: هذا ابن مَرجانة؟ قالوا: نعم. قال: هذا الذي يقول: سألتُ سعيد بن المسيَّب مفتي ال ... مدينة: هل في حب دهماء من وِزر فقال سعيد بن المسيَّب: إنما ... تُلام على ما تستطيع من الأمر والله ما سأني إنسان عن شيء من هذا، ولو سألني لأجبت. قال: وسئل شريك بن عبد الله القاضي عن العشّاق، فقال: أشدّهم حباً أعظمهم أجراً. وأنشدني محمد بن يحيى لمسلم: فوالله ما أدري، وإني لسائلٌ ... بمكة أهل العلم: هل في الهوى وِزر وهل في اكتحال العين بالعين ريبةٌ ... إذا ما التقى الإلفان، لا بل به أجر وأنشدني إبراهيم الأزدي لنفسه:

ما العشق في الأحرار مستنكرٌ، ... وما على العاشق من وِزر قال وأنشدني الجمّاش: إذا قبّل الإنسان إنسان يشتهي ... ثناياه لم يأثم، وكان له أجرا فإن زاد زادَ الله في حسناته ... مثاقيل يمحو الله عنه بها وزرا وقال سائب راوية كُثيّر: حضرتُ مع كثيّر عند ابن أبي عتيق، فأنشدنا أبيات ابن قيس الرُّقيَّات التي يقول فيها: خبّروني هل على رجلٍ ... عاشقٍ في قبلةٍ حرج فقال كُثيّر: لا! إن شاء الله، ونهض. وأنشدني علي بن العباس بن رومي: أيها العاشق المعذَّب إصبر، ... فخَطيّات ذي الهوى مغفوره زفرةٌ في الهوى أحطّ لذنبٍ، ... من غزاةٍ وحجّةٍ مبروره وقال المؤمَّل، وأحسن، والله، في قوله: صِفْ للأحبة ما لقِّيتَ من سهرٍ، ... إن الأحبة لا يدرون ما السهر حسْبُ المحبين في الدنيا عذابهمُ، ... والله لا عذّبتْهم بعدها سَقَرُ وقال الأصمعي: رأيتُ جاريةً بالطواف وهي تقول: لن يقبل الله من معشوقةٍ عملاً ... يوماً، وعاشقها حَيرانُ مهجور وليس يأجرها في قتل عاشقها، ... لكنّ عاشقها لا شكّ مأجور فقلت: يا جارية! أفي هذا المقام، أما حياء فيردعك؟ فأنشأت تقول: بيضٌ أوانس ما هممن بريبةٍ، ... كظباء مكة صيدهنّ حرام يُحسَبْن من لين الكلام زوانياً، ... ويصدّهنّ عن الخَنى الإسلام

قتيل الهوى

وقد قيل أيضاً: إن قتيل الهوى لا قَوَدَ له، وإن دماء أهل الهوى تبطل وتُهدَر. قتيل الهوى ومن ذلك ما حُكي عن ابن عباس أنه أُتي بشابّ محمول قد صار كالشنّ البالي، فقيل له: استشفِ الله لهذا المريض، يا ابن عمّ رسول الله، فقال له ابن عباس: ما علّتك يا فتى؟ فلم يُحِرْ إليه جواباً، ثم رفع رأسه، وقال بلسان فصيح طليق: به لوعةٌ تشتكي الصُّمُّ مثلها، ... تفطّرت الصُّمُّ الصِّلابُ وخرّتِ ولو قسم الله الذي بي من الهوى، ... على كل نفس حظّها ما أبلّتِ ثم خفت خفنةً ثم فتح عينيه، وهو يقول: بنا من جوَى المبرِّح لوعةٌ، ... نكاد لها نفسُ الشفيق تذوب ولكنما أبقى حُشاشةَ ما ترى ... على ما به عودٌ هناك صليبُ فقال ابن عباس: ممن الرجل؟ فقال: من بتي عُذرة، ثم شهق شهقة فمات. فقال ابن عباس لجلسائه: هل رأيتم وجهاً أليق ولساناً أذلق من هذا؟ هذا والله قتيل الهوى لا قَودَ ولا دِيَة، وإلى الله أرغب في العافية مما نرى. دماء العشاق مهدورة وأنشد أحمد بن يحيى ثعلب: إذا هنّ ساقَطن الحديث لذي الهوى ... سقوط حصى المَرجان من كفّ ناظمِ رمَين، فأصمينَ القلوب، فنا ترى ... دماً سائلاً، إلا جوىً في الحَيازِم فأي دمٍ، لو تعلمين، جَنَتيه ... على الحُرّ، جاني مثله غيرُ سالم

أما إنه لو كان غيرُك أرقلت ... إليه القَنا بالمُرهَفات الصوارمِ ولكن، وبيت الله، ما طلّ مُسلِماً ... كغُرّ الثنايا، واضحات المعاصمِ وأنشدني أبو عبد الله الواسطي لنفسه: قضى الله في القتلى قِصاصَ دمائهم ... ولكنْ دماء العاشقين جُبارُ تُطلّ دماء العاشقين، وثأرها ... لدى الحدقِ المرضى، وذلك ثار قال الأحوص بن محمد الأنصاري: ما تُذكر الدهر لي سُعدى وإن بعُدن ... إلاّ ترقرق ماء العين، فاطَّردا يا للرجال لمقتولٍ بلا تِرَةٍ، ... لا يأخذون له عقلاً، ولا قَوَدا وحدّثني العَنَزي أبو علي عن الزبير بن بكّار عن محمد بن عبد الله بن مسلم بن جُندَب عن أبيه قال: خرجتُ مع أبي سفيان، فلقينا نُسوةً ينظرن العقيق، فيهن امرأةٌ حسناء العين، فقال أبي: ألا يا عباد الله هذا أخوكمُ ... قتيلاً، فهلْ فيكم به اليوم ثائر خذوا بدمي، إن متُّ، كل خَريدةٍ، ... مريضة طَرف العين، والجَفنُ ساحر قال: فالتفتت إليّ امرأةٌ، فقالت: يا بنيّ احتسب أباك، واغتنم نُهبيك،

فإن قتيلنا لا يودى وأسيرنا لا يُفدى. وأنشدني أحمد بن يحيى لجَرير بن الخَطَفى: هل في الغوادي لمت قتّلن من قَودٍ، ... أو من دياتٍ لقتلى الأعين الحور تبيت ليلك في وجدٍ تُخامره، ... كأن في القلب أطرافَ المسامير ما كنت أوّل مَحزونٍ أضرّ به ... بَرْحُ الهوى، وعذابٌ غير تَفتيرِ وقال أيضاً: إذا كَحَلْن عيوناً غير مقرفةٍ ... ريّشن نَبلاً لأصحاب الصِّبى صُيُدا ما بال قَتلاكِ لا تخشين طائلهم، ... لم تضمني ديةً منهم ولا قَوَدا وقال عمر بن لجأٍ: تراءت، كي تكيدك أمّ عمرو، ... وكيدك بالتبرُّج ما تكيد وكيف قَتَلني، يا أمّ عمروٍ، ... ولا قَوَدٌ عليكِ، ولا حدودُ وقال أعرابي، وما أساء: أقاتلتي، يا للرجال، حبيبةٌ ... إليّ، بلا جُرم لديها ولا دَحْلِ فقيمُ دماء العاشقين مضاعةٌ ... بلا قَوَدٍ، عن الحِسان، ولا عقلِ وأحسن والله المؤمَّل حيث يقول: إني قُتلتُ بلا جُرمٍ، وقاتلتي، ... يا قومِ، جاريةٌ في طَرفها حَوَرُ

شهداء الحب

لما رمَت مُهجتي قالت لجارتها: ... إني قتلتُ قتيلاً ما له خَطَرُ قتلتُ شاعر هذا الحيّ من مُضرٍ، ... فالله يعلم ما ترضى بذا مُضَرُ شكوتُ ما بي إلى هندٍ، فما اكترثَت، ... يا قلبها! أحديدٌ أنت أم حجر إن كُنتِ جاهلةً بالحبّ، فانطلقي ... إلى القبور، ففيمن حلّها عِبَرُ وقد قيل أيضاً: إن قتيل الهوى شهيدٌ، على ذلك أجمع، والله يعلم، الأدباء وأهل العلم والظرف لموجود ومسند الآثار. حدثنا قاسم الزُّبيدي بإسناد ذكَرَه عن ابن عباس قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: من تعشّق فعفّ فهو شهيد. شهداء الحب وقال بشار بت برد العُقيلي: قُربُ دار الحبيب قُرّةُ عينٍ، ... وكأنّ البُعاد في القلب ثُكلُ إنّ موت الذي يموت من الح ... ب عفيفاً له على الناس فضلُ ولبعض المتأدبين: ليتني مُتُّ، والهوى داء قلبي، ... إنّ مَيتَ الهوى لَمَيتٌ شهيدُ ولقد أحسن جميل حيث يقول: ألا ليتَ شعري هل أبِيتنّ ليلةً ... بوادي القُرى، إني إذاً لسعيدُ يقولون جاهدْ، يا جميلُ، بغَزوةٍ، ... وأيَّ جهادٍ غيرهن أريد لكل حديثٍ بينهنّ بشاشةٌ، ... وكلّ قتيلٍ بينهنّ شهيد ومَلُح الحَمَمي حيث يقول: ولقد كُنّا رُوينا ... عن سعيدٍ عن قَتاده عن سعيد بن المسيَّبْ ... أنّ سَعدَ بنَ عُباده

ممن يحسن الحب

قال: من مات محباً، ... فله أجرُ الشهاده ممن يحسن الحب واعلم بأن العشق يَحسُنُ بأهل العفّة والوفاء، ويقبحُ بأهل العهر والخَنى مع أن الهوى قد فسد وقلّ الوفاء وكثُرت الخيانة والغدر، واستعمل الناس في العشق شيئاً ليس من سُنّة الظرف، ولا من أخلاق الظرفاء، وذلك أن أحدهم متى ظفر بحبيبه، وأصاب الغفلة من رقيبه، لم يَعفّ دون طلب الصفاء. أنشدني عبد الحميد المَلطي: قد فسد الحب وهان الهوى، ... وصار من يعشق مُستعجلا يريد أن ينكِحَ أحبابه، ... من قبلِ أن يسهر، أو يَنحُلا ولأحمد بن أبي فنَن في مثل ذلك: أنا لا أَبْدا بغدرٍ أبداً، ... فإذا ما غدرَت لم أتَّركْ واجداً منها بديلاً مثل ما ... وَجَدَت مني بديلاً، لا تَشُكّ أتُراني أقعد الليل لها ... ساهراً أطلب وَصلاً قد هلكْ وهْيَ فيما تشتهي لاهيةٌ، ... مِتُّ إن دار بهذين فَلَكْ كان للناس وفاءٌ مرّةً، ... فانقضى، وانحلّت اليوم التّكَكْ مسامير الحبّ وحدثني أبو العَيناء قال: حدثني الجاحظ قال: كتب بعض الظرفاء إلى مُلْك جارية أبي جعفر: يا مُلْكُ قد صِرتُ إلى خُطةٍ، ... وكنتُ فيها منْكِ ذا ضَيمِ يلومني الناسُ على حبّكم، ... والناس أولى فيكِ باللوم

فكتبت إليه: إنْ تكُنِ الغُلمةُ هاجت بكم، ... فسكّنِ الغُلمةَ بالصومِ ليس بك الشوقُ، ولكنّما ... تدور من هذا على الكَوْمِ واعلم أن العشق لا يكون مع الفسق، ومتى مازج العشق الفسق ضَعُفت قُواه، وانفصمت عُراه، وهم لا يريدون غير الرَّفثِ، ويسمونه مسامير الحبّ، وزعموا أن أسباب الحب لا تتصل إلا به، ولا يزال منحلاً، حتى يشدّها ذلك، وينشدون: العشق داءٌ دويٌّ لا دواء له، ... إلا العناق وإفشاءُ السريراتِ وليس يُلتذّ طيبُ العيش من أحد ... إلا بعضّكَ، أو رشفِ الثنيّاتِ ووضعك الصدر فوق الصدر تجمعه ... ضمّاً إليك على ظهر الحشيّاتِ وينشدون أيضاً في مثل ذلك: رأيتُ الحبّ ليس له دواءٌ، ... سوى وضع البُطون على البطونِ وإلصاق الثنايا بالثنايا، ... وأخذٍ بالمَناكب والقُرونِ وقد ناظرتُ بعضهم مرة من الِمرار، فاحتج بخبر ابن عباس عن النبي، صلى الله عليه وسلم، فاحتجّوا بظاهر الخبر، ولم يفحصوا عن التأويل، وهذا خلاف ما يفعل أهل الظرف والأدب، وغير هذا جاء عن العَرب. وقد بلغني عن الأصمعي أنه قال: قلت لأعرابي مرة: ما العشق فيكم؟

ما جاء فيمن تعفف في محبته

قال: النظرة بعد النظرة، وإن كانت القبلة بعد القُبلة، فهو الوصول إلى الجنّة. فقلت: ليس العشق عندنا كذلك، قال: فما هو عندكم؟ قلت: تفرقُ بين رجليها وتحمل نفسك عليها. فقال: بأبي أنت لستَ بعاشقٍ، إنما أنت طالب ولد. ما جاء فيمن تعفف في محبته ورعى عقود عهود مودّته وما وجدنا أحداً من العرب يفعل ذلك، ولا صمد نحوه، وقد كان الواحد منهم يعشق من أول دهره إلى آخره لا يُحاول فِسقاً، ولا يقرب رفثاً، ولم يكن لهم مراد إلا في النظر، ولا حظّ في غير الاجتماع والمؤانسة، والحديث والشعر، كما قال الفرزدق: وجدتُ الحب لا يشفيه إلاّ ... لقاءٌ يقتل الغُللَ النِّهالا أُحبّ من النساء، وهنّ شتّى، ... حديث النزْر، والحدقَ الكِلالا موانعُ للحرام بغير فُحشٍ، ... وتبذل ما يكون لها حلالا وكان الواحد منهم إذا تعلّق خلّةً لم يفارقها حتى الممات، ولم يشغل قلبه بغيرها، ولم يهمّ بالسلوّ عنها، وقَصَر طرفه عمّن سِواها، وكذلك هي أيضاً كانت له بتلك المنزلة، فأيّهما هلك قبل صاحبه قتلّ الآخرُ نفسه في أثره، أو عاش حافظاً لودّه قائماً بعهده، لا ينسى ذكره، ولا يصل غيره، فاستحسن الناس الملّل والاستبدال، والغدر والانتقال، وصار أشدّهم ظَرْفاً، وأحسنهم يتعشّق السنين الكثيرة، والدهور الطويلة، ويتوهّم بفعله أنه عاشقٌ، فإذا فقد حبيبه يوماً واحداً، استبدل به سواه، ويُنشدن في ذلك:

افخر بآخر من بُليتَ بحبّه، ... لا خر في حب الحبيب الأول أتشُكّ في أن النبي محمداَ ... ساد البريّة، وهو آخر مُرسَلِ وأنا أبرأ إلى الله أن يكون هذا من شعرِ ظريفٍ أو من فعل حَصيفٍ، ولكن قد أحسن أبو تمام الطائي حيث يقول: البين جرّعني نقيعَ الحَنظَل، ... والبينُ أثكلني، وإن لم أثكل ما حسرتي أن كِدتُ أقضي، إنما ... حسرات نفسي أنني لم أفعلِ نقّلْ فؤادك حيث شئت من الهوى، ... ما الحب إلا للحبيب الأوّلِ كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى، ... وحنينه أبداً لأوّل منزل على أنه ليس التنقّل من حبيب أول إلى حبيب ثانٍ بحسن، وإنما الحب ما أقام عليه القلب، فلم يجد التخلّص منه إلى غيره كما قال جرير: أخالدَ! قد هويتُكِ بعد هندٍ، ... فشيّبني الخوالدُ والهنودُ هوىً بتهامةٍ، وهوىً بنجدٍ، ... فتُبْليني التهائم والنُّجودُ ولا كقوله أيضاً: أحبّ ثرى نجدٍ، وبالغَور حاجةٌ، ... فغار الهوى، يا عبد قيسٍ، وأنجدا ولا كقول الآخر: إني سأُبدي الحب فيما أُبدي ... لي شَجَنانِ: شَجَنٌ بنجدِ وشجنٌ لي ببلاد الهِندِ ...

ولا كقول الآخر: هوىً بالغَور لي، وهوىً بنجدٍ، ... فما أدري أأنجِدُ أم أغورُ بكُلّ حاجةٌ، وهوىً مقيمٌ ... بقلبك قد تَضَمّنه الضمير بشرقيّ العراق، بباب عمروٍ، ... وبالغَورين زينبَ والقدور هذا والله من ألفاظ الشعر أسمجُ جداّ، وقد كذب هؤلاء، وادّعوا وجداً، وهل يجتمع وَجدان في موضع؟ ولكن قد أحسن جميلٌ حيث يقول: وقلتُ لنسوانٍ تعرّضْن دونها: ... إليكنّ إني غيركُنّ أُريد وحيث قال أيضاً: وكم من بديلٍ قد وجدنا وطُرفةٍ، ... فتأبى عليّ النفسُ تلك الطرائفا فهذا هو الصادق الهوى الخالص الوفاء، لا جرير وصاحبه، ولا الذي يقول: أرى ذا، فأهواه، وأُبصرُ غيره، ... فأترك ذا ثم استبدُّ بذا عِشقا ثمانون لي في كل يومٍ أحبّهم، ... وما في فؤادي واحدٌ منهم يبقى فقبّح الله هذا اللفظ لفضاً، ولا أعطيَ قائله حظّاً، فليس من شعر وامقٍ، بل هو من فعل مُماذق، ولا والله ما التنقّل من شأن الأدباء، ولا الاستبدال من فِعلِ الظرفاء، وإنما الهوى ما حسُن سريرته، وهيهات ذوو الوداد الخالص، والصفاء الدائم، والحب اللازم، ودود الحفاظ، ورعاة العهود، والمتمسكون بالوفاء، والراغبون في صحيح الإخاء إليك. فقد تنقّضت وثائق

الغدر طبع في النساء

الحب، وانفصمت عُرى الهوى، وتقطّعت أسباب العشق، وتكدّر صافي المودّة، والناس كما قال الشاعر: قلّ الثقاتُ، فما أدري ثمن أثق، ... لم يبقَ في الناس إلا الزور والملَقُ الغدر طبع في النساء وإن الغدر في النساء طبع، والمطل منهن غريزة، وهو في النساء أكثر منه في الرجال، فقد أنشدني بعض الأدباء: وكنا جعلنا الله شاهدَ بيننا، ... وفي الله بينَ المسلمين شهيدُ فخِستِ بعهد الله لو تعلمينه، ... وفيكُنّ من ليست لهنّ عهودُ واعلم أنهنّ لا عهود لهنّ، ولا وفاء لحبّهن، ولا دوام لودّهن، وأن أقبح ما رُوي من غدرهنّ ما حدثنيه ابن أبي خيثمة عن شيوخه: أن عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نُفيل كانت عند ابن أبي بكر الصدّيق، رضي الله عنه، فأحبها حباً شديداً شغلته عن تجارته، فأمره أبو بكر، فطلّقها، ثم اطّلع عليه وهو يقول: فلم أر مثلي طلّق، اليوم، مثلها، ... ولا مثلها في غير جُرمٍ تُطلَّقُ لها خُلُقٌ سهلٌ، وحُسنٌ، ومنصِبٌ، ... وخلاْقٌ، سَويٌّ ما يُعاب، ومنطق أعاتكَ قلبي، كل يومٍ وليلةٍ، ... إليكِ ما تُخفي النفوس مُعلَّقُ أعاتكَ لا أنساكِ ما حجّ راكبٌ، ... وما لاح نجمٌ في السماء محلِّقُ فرقّ عليه أبو بكر وأمره فراجعها، فقال لما رجعت إليه: أعاتكَ! قد طُلّقتِ من غير بغضةٍ، ... ورُوجِعتِ للأمر الذي هو كائنُ كذلك أمرُ الله غادٍ ورائحٌ، ... على الناس، فيه أُلفةٌ وتبايُنُ

وما زال قلبي للتفرّق بائناً، ... فقلبي لما قد قرّب الله ساكنُ ليهنِكِ أني لم أجد منك سَخطةً، ... وأنك قد جَلّت عليك المحاسنُ وأنك ممن زيّن الله أمرها، ... وليس لما قد زيّن الله شائنُ فلن تزل عنده، حتى قُتل يوم الطائف، رُمي بسهم فمات، فجزعت عليه جزعاً شديداً وقالت ترثيه: أآليتُ لا تنفكّ عيني حزينةً ... عليك، ولا ينفكّ جِلدي أغبرا فلله عينا من رأى مثله فتىً ... أشدّ، وأحمى في الهياج، وأصبرا إذا أُشرِعت فيه الأسنّة خاضها ... إلى الموت، حتى يترُكَ الرمح أشقرا ثم خطبها عمر بن الخطاب، فتزوّجها، فأولم عليها، ودعا أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: فقال له علي بن أبي طالب: ائذن لي لأُدخِل رأسي إلى عاتكة أكلّمها؛ قال: افعل، فأدخل رأسه إليها فقال: يا عُديّة نفسها! أهكذا كان قولك: أآليتُ لا تنفكّ عيني سَخينةً ... عليك، ولا ينفكّ جلدي أغبرا! فبكَت، فقال له عمر: ما دعاك إلى هذا يا أبا الحسن؟ فغفر الله لك، أنهنّ يفعلن هذا، قال: أردتُ أن أُعلمها أنه لا عهد لهنّ، فمكثت عنده، حتى قُتل أبو لؤلؤة، فقالت ترثيه: عينِ جودي بعبرةٍ ونحيبِ ... لا تَملّي على الأمير النجيب فجعتني المَنونُ بالفارس المع ... لم يوم الهياج والتأتيبِ عصمة الله، والمُعين على الده ... ر، غياث الملهوف والمكروبِ قل لأهل البأساء والضُّرّ: موتوا، ... قد سقته المنون أمُّ الرقوب

ثم تزوّجها الزبير بن العوام، فمكثت عنده حتى قُتل عنها، منصرفاً من الجمل، بوادي السباع، قتله ابن جرموز فرثتْه، وفيه تقول: غَدَرَ ابنُ جُرْموز بفارس بُهمةٍ، ... يوم اللقاء، وكان غير مُعرِّدِ يا عمرو لو نبّهتَه لوجدْتَهُ ... لا طائشاً، رُغْبَ الجنان، ولا اليد ثكلتك أمُّك أن قتلتَ لمسلماً ... حلّت عليك عقوبة المتعمِّدِ فخطبها عليّ بن أبي طالب، فبعثت إليه: إني لأضَنّ بك عن القتل، وإنما استحْيَت فامتنعت، وقد تزوجت باثنين من بعد قولها: أآليتُ لا تنفكّ عيني سَخينةً ... عليك، ولا ينفكّ جلدي أغبرا قال: وحدثني أبو الفضل الربيع قال: حدثني أبو ربيعة العامري الكوفي قال: حدثني علي بن عمرو الأنصاري قال: دخلت المُدلّة البَكرية، زوجة المُغيرة بن أبي ضِمام البكري، وكان يحبّها حباً شديداً، على المغيرة بن أبي عقيل، تُخاصم في بعض أمورها، فلما خرجت المُدلّة قال: أنت التي يقول فيك المُعَذَّل: قلْ للمدلّة طال ذا التعديدُ، ... فدعي التعلُّلَ والمِطالَ قليلا ويّزيدها حَلْي النساء مَلاحةً، ... ويَزيد ذلك بعضهن خُبولا قالت: نعم. قال: فلِم تزوّجت بعده؟ أفٍّ لكنّ! قالت: أتنصف ما كنتُ بديّاً، وما بَنيّاً! فضحك منها وأمرها بالانصراف. ورُوي أن امرأة من نساء العرب تزوّجت رجلاً من خَشْعَم، فوجد كل واحد منهما بصاحبه وجداً شدياً، وأنهما تحالفا أن لا يتزوج أحدهما بعد صاحبه، فمات قبلها، فتزوجت، فلامها بعض أهلها، وقالوا: أين ما كنت

تجدين به؟ فأنشأت تقول: وقد كان حُبي ذاك حباً مُبرِّحاً، ... وحُبّي لذا إذ مات ذاك شديد وكان هواي عند ذاك صَبابةً، ... وحبّي لذا، طول الحياة، يزيد فلما مضى عادت لهذا مَوَدّتي، ... كذاك الهوى، بعد الذهاب يعودُ وقال صالح بن حسان: لما احتُضر حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، كانت فاطمة بنت حسن بن علي جالسةً عند رأسه تبكي، فقال: ما يُبكيك؟ قالت: على فراقك، ابن عمّ، قال: مَهْ! ما صنعتِ؟ فإياك أن تنكحي عبد الله بن عمرو بن عثمان، وقد علم أن أحداً لا يجترئ على خُطبتها غيره. قالت: ما كنتُ لأفعل. وهلك، وله منها عبد الله بن حسن، وإبراهيم بن حسن. فلما انقَضَت عدّنها دعت مولاةً لها يقال لها: زير، فقالت: إيتي عبد الله بن عمرو، فقولي له: أعرنا بغلتك الشهباء برحالتها، فإني قد أردت أن أسير إلى بعض أموال ولدي بالعالية. فأتته، فقال: يا زير لو كان لي إلى مولاتك سبيلٌ! ارحلوا لها البغلة. فلما جاءت قالت: هل لقيته؟ قالت: نعم! قالت: فما قال لك؟ قالت قال: لو كان لي إلى مولاتك سبيلٌ! قالت: يلكِ، وأين المذهب عنه؟ فرجَعت زير، فدخلت عليه وأعلمته، فأرسل إليها، فخطبها، فتزوجته، وولدت له الهيثم ومحمداً ورقيّة، وكان لها من الحسنِ ثلاثة، ومن عبد الله ثلاثة. ورُوي عن سماك بن حرب أنه قال: كانت العرب تقول: لم تُنْهَ امرأةٌ قطّ عن رجل إلا تزوجته. وقال ابن عباس: حدثني شيخٌ من بني ضبّة قال: كان رجل منا ظريفاً شريفاً احتُضر، فبينا هو يجود بنفسه، وبُني له يُسمّى مَعْمَراً يدبّ بين يديه، فنظر إليه وبكى، ثم التفت إلى امرأته، فقال: يا هذه،

غدر الرجال

إني لأخشى أن أموت، فتُنكَحي، ... ويُقدف في أيدي المراضع مَعمرُ فحالت ستورٌ بعده ووليدةٌ، ... وأشغلهم عنه نحورٌ ومُجْمَرُ قالت: ما كنتُ فاعلةً. قال الشيخ: فوالله ما انقضت عنها عِدّتها حتى تزوجت بشابّ من الحي، ورأيت كما مصف. قال: وأنشدني بعض الشعراء: إنّ من غَرّه النساء بشيءٍ، ... بعد هند لجاهلٌ مغرورُ كل أنثى، وإن بدا لك منها ... غاية الحب، حبُّها خَيتَعورُ وإن الوفاء فيهن عَزيز، وغير موجود، ووالله لئن كان كذاك وعُرفن بذاك، ففي الرجال من هو أكثر منهن غدراً، وأسرع منهن خَتراً، وأسمح منهن تنقّلاً، وأقبح منهن تبدُّلاً. غدر الرجال خُبِّرت عن الأصمعي قال: كان رجل من الأعراب يُظهر الوجدَ لامرأته، والحب لها. وكانت تُظهر له مثل ذلك، فتعاهدا ألاّ يتزوّج منهما الباقي بعد صاحبه، فاختُرمَت المرأة قبله، فخطب الرجل امرأةً من يومه ذلك، فقيل له: أتخطب بعد يمينك وعهدك؟ فقال: خَطَبْتُ، كما لو كنتُ قد مُتُّ قبلها، ... لكانت، بلا شكٍّ، لأول خاطبِ إذا غاب بعلٌ كان بعلٌ مكانه، ... ولا بدّ من آتٍ وأخرَ ذاهبِ

وفاء النساء

وخُبّرت أن بعض وُلاة العهود كانت له جاريةٌ، فكان يُظهر الميل إليها، والاستهتار بحبها. وكان يقول لها: إذا أفضتِ الخلافة إليه أن يفضّلها على نسائه، ويقدّمها في البِرّ والكرامة عليهنّ، فلما بلغ من ذلك أمله جفاها واطّرحها وقَلاها، فكتبت إليه: أين ذاك الوُدُّ والقَبول، ... وأين ما كنتَ لنا تقول؟ فكتب إليها: قد قال في أشعاره لَبيدُ: ... يا حبّذا الطارف والتليد فعلمت أنه لا حاجة له فيها. فهذا في القُبح يتجاوز غدر النساء، ويعلو على كثير من جنايات الإماء، وإنهنّ، والله، على ما فيهن من الغدر والخيانة والشرّ، لربما عَشِقن فاشتهرن، ووفين فأحسنّ. وفاء النساء وإن من حُسن ما بلغ من وفائهن ما صنعتْه ابنة الفَرافِصة مع عثمان بن عفان، رضي الله عنه، وكان من قصّتها أن سعيد بن العاص تزوج هند ابنة الفَرافِصة بن الأحوص بن عمرو بن ثعلبة بن الحرث بن حصن بن ضمضم بن عدي بن جناب الكليبة، فبلغ ذلك عثمان بن عفان، فكتب إلى سعيد: أما بعد، فقد بلغني أنك تزوّجتَ امرأةً من كلب، فاكتب إليّ بنسبها وجمالها. فكتب إليه سعيد: أما بعد، أما نسبُها، فه ابنة الفَرافِصة بن الأحوص، وأما جمالها، فبيضاء، مَديدة، والسلام. فكتب إليه عثمان: إن كانت لها أختٌ فزوِّجْنيها. فبعث سعيد إلى أبيها، فخطب إليه إحدى بناته على عثمان، فقال الفَرافصة لابن له يُدعى ضبّاً، وكان قد أسلم، وأبوه نصراني: يا بُنيّ! زوّج

عثمان بن عفان أختك، فزوّجه. فلما أراد حملها قال لها أبوها: أي بُنيّة! إنك ستقدمين على نساء قريش، وهن أقدر على الطيب منك فاحفظي عني اثنتين: تكحّلي وتطيّبي بالماء، حتى تكون ريحك كريح الشباب التطهَّرين. فلما حُملت شقّ عليها الغُربة واشتاقت إلى أهلها، فقالت: ألستَ ترى، يا ضَبّ بالله، أنني ... مصاحبةٌ نحو المدينة أركبا إذا قطعوا خَرْقاً تخبّ رِكابها، ... كما زعزعت ريحٌ يراعاً مُقصَّبا لقد كان في أبناء حِصن بن ضمضمٍ، ... لك الويل، ما يُغني الخِباء المُطنَّبا قلما قدمت على عثمان بن عفان قعد على سرير، وألقى لها سريراً حياله، فجلست عليه، ورفع العِمامة عن رأسه، فبدا الصلع فقال: يا ابنة الفَرافصة، لا يهولنّك ما ترين من الصلع، فإن من ورائه ما تحبين. قالت: إني لمن نُسوةٍ أحب بعولتهنّ إليهنّ الكهول البيض، السادة. فقال: إما أن تقومي إليّ وإما أن أقوم إليك. فقالت: ما تجشّمتُ من كراهة جَنباتِ السماوة أبعد مما بيني وبينك. ثم قامت إليه، فجلست إلى جانبه، فمسح رأسها، ودعا بالبركة، وقال: اطرحي عنك خِمارك، فطرحته، ثم قال: اخلعي دِرعك، فخلعته، ثم قال: حُلّي إزارك، فقالت: ذاك إليك، فحلّه، فكانت من أحظى نسائه عنده. فلما كان يوم الدار أهوى رجلٌ إلى عثمان بالسيف، فألقت نفسها عليه، فضرب عَجيزتها، وكانت من أعظم النساء عَجيزةٌ، فقالت: أشهد أنك فاسقٌ لم تأت غضباً لله ولرسوله! فأهوى إليها بالسيف ليضربها، فاتّقته بيدها فقطع إصبعين من أصابعها، فلما قُتل عثمان قالت فيه ترثيه: ألا إنّ خير الناس بعد نبيّه ... قتيل التَّجوبيّ الذي جاء من مِصرِ

عبد الله بن علقمة وحبيشة

وما لي لا أبكي، وتبكي قَرابتي، ... وقد ذهبَت عنا فُضول أبي عمرِو فبعث معاوية بعد ذلك يخطبها، فنزعت ثنيّتها العليا وقالت: أذاتُ عروسٍ هذه. فهذا، والله، حسنٌ من وفاء النساء. وقد تقدم ذكر جماعة من أهل الوفاء اللاتي قتلن أنفسهن في أثر متعشّقهيهنّ أغنى عن كثير من أخبارهنّ. عبد الله بن علقمة وحُبيشة وقد رُوي أيضاً عن أبي حَدْرَد الأسلمي قال: نشأ فينا غُلامٌ يقال له: عبد الله علقمة، فعلق جاريةً منا يقال لها حُبيشة لم تكن من فخذه، وكان يتحدّث إليها كثيراً. فخرج ذات يوم من عندها، فنظر إلى ظبيةٍ على رابية فالتفت إلى أمّه وهو يقول: يا أُمّتي خبّريني غير كاذبةٍ، ... وما يُريد مَسولُ الخُبرِ بالكذبِ حُبيشٌ أحسنُ أم ظبيُ برابيةٍ، ... لا بل حُبيشةُ من ظبيٍ ومن ذهبِ ثم انصرف من عندها مرة أخرى فأصابته السماء، فأنشأ يقول: وما أدري إذا أبصرتُ يوماً، ... أصوب القطر أحسن أم حُبيشُ حُبيشة والذي خلق الهدايا، ... على أن ليس عند حُبيشَ عيشُ فلما سمع بذلك قومه قالوا لأمه: هذا غلامٌ يتيمٌ لا مال عنده، وآل تلك يرغبون عنكم، فانظري له بعض نساء قومه، لعله يسْلى عنها، فزوّجته جاريةٌ ذات جمال وكمال، وزيّنتها بأحسن زينةٍ، وأقامتها بين يديه، فلما نظر إليها قال: مرعىً ولا كالسعدان! فذهبَت كلمتُه مثلاً، والسعدان نَبْتٌ يرعاه إبل الملوك؛ فعلموا أنه لا ينصرف عن هواها. فتواعدوا حُبيشة وقالوا: إذا جاء فأعرضي عنه، وتجهّميه بالكلام، رجاء أن ينصرف بعض الانصراف. فلما

رآها لم تستطع أن تفعل ما أُمرت به غير أنها جعلت تنظر إليه وتبكي، فعلم بقصّتها، فانصرف وهو يقول: وما كان حبي عن نوالٍ بذلتُه، ... فليس بمُسليه التجهّن والهَجر سوى أن دائي منك داءٌ مودةٍ، ... قديماً ولم يُمزَج كما مُزج الخمر وما أنس ملأشياء لا أنسَ دمعها ... ونظرتها حتى يُغيّبني القبر ثم مكثا على حالهما، وطول وحدهما، إلى أن وافتهما خيلٌ خالد بن الوليد يوم الغُميضاء، فأُخذا فيمن أُخذ من الأسرى فأُوثقا رباطاً. وهذا حديثٌ مشتهر قد رواه محمد بن حميد الخُراساني عن سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق، وحكاه المدائني عن يعقوب بن عُتبة بن المُغيرة الثقفي عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري عن أبي حَدْرَد الأسلمي عن أبيه قال: كنتُ يوم الغُميضاء، وهو يوم بني جذيمة، في خيل خالد بن الوليد المخزومي، حين وجهه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقتل وأسر، فقال لي فتىً منهم، وقد جُمعت يداه إلى عُنُقه، ونُسوةٌ مجتمعاتٌ غير بعيدٍ منه: يا فتى! هل أنت آخذٌ بزمام ناقتي، فقائدي إلى هؤلاء النسوة، فأقضي إليهن حاجةً، ثم ترى بعد ذلك ما بدا لك؟ قلتُ: يسيرٌ ما سألتَ، فألحقته بهن، فوقف عليهن، فاقل: اسلمي حُبيش على نفاذ العيش! قالت: وأنت فاسلم سعيتَ سقاك ربي الغيث؛ ثم قالت: وأنت فحُيّيتُ عشراً وسبعاً وِتراً وثمانياً تترى، فقال الفتى: أريتكِ إذ طالبتكم، فوجدتكم ... بحَليةَ، أو ألفيتكُم بالخوانقِِ ألم يكُ حقّاً أن يُنوَّلَ عاشقٌ ... يُكلَّفُ إدلاج السُّرى والودائقِ

عفراء وعروة

فلا ذنب لي، قد قلت إذ نحن جِيزةٌ: ... أثيبي بوُدٍّ قبل إحدى الصفائق أثيبي بودٍّ قبل أن يشحط النوى، ... وينأى عدوٌّ بالمحب المفارق فإني ما ضيّعتُ سر أمانةٍ، ... ولا راق عيني، بعد وجهك، رائقُ على أن ما نال العشيرة شاغلٌ ... عن الودّ إلا أن يكون التَّوامقُ ثم بكى وبكت، ثم أنشأ يقول: فإن يقتلوني، يا حُبيشُ، فلم يدع ... هواكِ لهم مني سوى غُلّةِ الصدرِ وأنتِ التي انحلت جِلدي على دمي، ... وعظمي، وأسبلت الدموع على النحر ثم انصرفت به، فضربتُ عنقه، فنظرتْ إليه فأقبلت حتى أكبّت عليه. عفراء وعروة وقد فعلت أيضاً مثل ذلك عفراء بنت عِقال بعروة بن حزتم؛ لما بلغها موته استأذنت من زوجها في زيارة قبره، فخرجت في نُسوة لها، حتى وردت قبره، فلما رأته من بعيد صرخت ثم دنت فرمت بنفسها عن راحلتها، ثم جعلت تبكي ونشهق غلة أن خمد صوتها، فدنوا منها، فوجدوها ميتة، فدفنت إلى جانبه. هاتف من القبر وروى الأصمعي أيضاً قال: حرجتُ أريد بعض أحياء العرب، فجنّتي الليل، وبتّ في جَبّان، وتوسّدتُ قبراً، فسمعت في الليل من القبر قائلاً يقول: أنعم الله بالخيالَين عيناً، ... وبمسراكِ، يا سُعاد، إلينا وحشةً ما لقيتُ من خَلَل القب ... ر، عسى أن أراك، أو أن ترينا فأرقتُ له ليلتي، فلما أصبحتُ دخلت الحيَّ، فإذا بجنازة قد أقبل بها،

مالك الغساني وابنة عم النعمان بن بشير

فسألت عنها، فقيل: هذه سعاد كانت تحبّ ابن عمٍّ لها، وإنهما تعاقدا على الوفاء فهلك قبلها، فلم تزل تبكي عليه، فها هي قد لحقت به. فتبعتُهُم، حتى دُفنت إلى جانب القبر الذي بِتُّ عنده، وإذا هو قبر ابن همها، فخبّرتهم بما سمعتُ وانصرفت. مالك الغساني وابنة عم النعمان بن بشير ورُوي أن مالك بن عمرو الغساني تزوج ابنة عمّ للنعمان بن بشير الأنصاري، فأحب كل واحد منهما صاحبه، وكان شجاعاً بطلاً مقداماً، فعهدَتْ إليه أن لا يباشر حرباً، ثم إنه غدا، فلقي العدوّ، فطُعن، فقال وهو يجود بنفسه: ألا ليت شعري عن غزالٍ تركتُهُ، ... إذا ما أتتهُ ميتتي كيف يصنع أيلبس أثواب الحداد تفجّعاً، ... على مالكٍ أم فيه للبعل مَطمَعُ فلو أنني كنتُ الموخَّر بعده، ... لما برححَت نفسي عليه تقطَّعُ فلما أتاها خبره استمسك لسانها حولاً، فقال رهطها وعشيرتها: لو زوّجتموها غيره، لعلها تسلى، وتُفيق، فزوّجوها رجلاً من أبناء الملوكِ، فساق إليها هديةً عظيمة القدر، فلما كان ليلة بنائه بها أخذت بعضادتي الباب ثم أنشأت تقول: يقول رجالٌ: زوَّجوها لعلّها ... تُفيق وترضى بعده بحليلِ فأضمرتُ في النفس التي ليس بعده ... رجاءٌ لها، والصدق أفضل قيلِ أبعد ابن عمرٍو سيّد القوم مالكٍ ... أزفّ إلى زوجٍ بعَضبٍ كليلِ

العامرية ووفاؤها

وخبّرني أصحابه أنّ مالكاً ... خفيفٌ على العلاّت غير ثقيل وخبّرني أصحابه أن مالكاً ... ضَروبٌ بماضي الشَّفرتين صقيلِ وخبّرني أصحابه أنّ مالكاً ... جوادٌ بما في الرحل غير بخيلِ وخبّرني أصحابه أنّ مالكاً ... ثوى، وتنادى صحبُهُ برحيلِ فما كان يشيني خليلي بخُلّةٍ، ... وما كنتُ أشري مالكاً بخليلِ فقال لها بعلها: ارجعي إلى أهلك، ولك كل ما سُقتُ إليك، مثلك فليتزوّج الرجال. العامرية ووفاؤها ومن حُسن وفائهن أيضاً ما رواه الهيثم بن عَديّ، فإنه كان في بني عامر بن صعصعة امرأةٌ توفي عنها زوجها، ولها ابنا عمّ، فصارا إلى بعض شيوخهم، فقالا له: فلانة جاريةٌ شابةٌ، والقالة إلى مثلها سريعةٌ، فوجّه إليها فلتحضرْ، واعرِض عليها أيّنا أهوى إليها، حتى يتزوجها. فوجه الشيخ إليها، فأتته، فعرض عليها مقالتهما. فأطرقت مليّاً تنكُتُ الأرض، حتى حفرت فيها حفيرةً، وملأتها من دموعها. وكان زوجها دُفن بمقبرةٍ تدعى بحَوضى، فالتفتت إلى ابني عمها، وأنشأت تقول: فإن تسألاني عن هواي، فإنه ... رهينٌ بحوضى، أيها الفتيانِ وإني لأستحييه، والموت دوننا، ... كما كنتُ أستحييه حين يراني أهابك إجلالاً، وإن كنتُ في الثرى ... لوجهك يوماً إن يسؤْكَ مكاني

وقامت فانصرفت. فقال: قد رأيتما وسمعتما. فانصرفا، وقد يئسا، ثم لقياها يوماً في المقابر وعليها مُصبَّغاتٌ وحلىً وحُللٌ، فقال أحدهما لصاحبه: ما ترى في أي زيّ خرجت، والله ما أراها إلا متعرّضةً للرجال، هلمّ فلننظر ما تصنع. فقربا منها، فأتت القبر فالتزمته، ثم أنشأت تقول: يا صاحب القبر يا من كان يؤنسي ... وكان يُحسن في الدنيا مؤاتاتي أزور قبرك في حَلْيٍ وفي حُلَلٍ، ... كأنني لست من أهل المصيبات أتيتُ ما كنتَ من قُربي تحب، وما ... قد كان يلهيك في ألوان لذّاتي ومن يراني يرى عَبرى مفجَّعةً، ... طويلة الحُزن في زُوّار أموات ثم شهقت فماتت. ومثل هذا وأشباهه من الوفاء قليل في النساء وهو من وفاتهن عجبٌ، والغدر عليهن أغلب، إذ على ذلك طبع خلقهنُ، وعليه جُعلت بنيتهنّ. وسأصف لك جملة من مكرهنّ لتقف به على غدرهن، إن شاء الله، ولا قوة إلا بالله.

الجزء الثاني

الجزء الثاني

صفة ذم القيان ونفوذ حيلتهن في الفتيان

" بسم الله الرحمن الرحيم " لا إله إلا الله وحده لا شريك له. الحمد لله رب العالمين وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، أما بعد: فإنه قد ذكرنا في الجزء الأول من هذا الكتاب أشياء من عيون فنون الأدب يرغب فيها ذوو الحِجى وينتهي إليها ذوو النُّهى، وقد مضى من الجدّ عدة أبوابٍ فيها مقنَعٌ لذوي الألباب، ولا بد من خلطها بشيء من الهَزل، إذا في ذلك ترويحٌ لقلوب ذوي العقل. وآخر ما ذكرنا في الجزء الأول ذكر الوفيات من النساء، وأنا أُتبعه في هذا الجزء بباب ذكر ذوات الغدر من الإماء ثم أصله بما يتصل، وأفصله من حيث ينفصل، إن شاء الله وبه القوة. صفة ذم القيان ونفوذ حيلتهن في الفتيان اعلم أنه لم يُبتلَ أحدٌ من أهل المروءات والأدب، وأهل التظرُّف والأرَب، ولا امتُحن سَراة الفتيان ببليّة هي أعظم من هوى القيان، لأن حبهن جب كذوبٌ، وعشقهن عشق مشوب، وهواهنّ منسوبٌ إلى الملل، ليس بثابتٍ ولا متّصلٍ، وإنما هو لطمعٍ وعرَضٍ، وهنّ سريعات الغرض، يُستدلّ على ذلك بأفعالهن الردية، وأخلاقهن السيئة، وأنهن لن

يقصدن إلا أهل النشث، ويُصدُفن عن ذوي الحسب، وأن محبّتهن تظهر ما ظهرت علامات اليسار والمال، وتنتقل عند الإفلاس والإقلال. وليس إظهارهن للمحبة مما ينعقد عليه منهن ذوو الآداب، ولا بما ينخدع به لهن ذوو الألباب. وكل ذلك منهن غرورٌ، وخداع وزور، ولا مرجع له ولا محصول، وإنما أمرهنّ عند ذوي الجهالة مجهول. وما رأيت لكثيرٍ من الأدباء الذين سلكوا سبيل التشبيث بالنساء، رغبةً في تعشُّق الإماء، وقد أنشدني بعض الظرفاء: ليس عشقُ الإماء من شكل مثلي، ... إنما يعشق الإماء العبيدُ صِلْ، إذا ما وصلتَ، حُرّة قوم، ... قد حماها آباؤها والجدود ومن أدلّ الأشياء على خُبث سرائر الإماء أن الواحدة منهن، إذا رأت في مجلس فتىً له غنىً وكثرة مال، ويسار وحسن حال، مالت إليه لتخدعه، وأقبلت عليه لتصرعه، ومنحته نظرها، وأبدته بصرها، وغمزتْه بطَرْفها، وأشارت إليه بكفها، وغنّت على كاساته، ومالت إلى مَرضاته، وشربت من فَضلة كأسه، وأومأت إلى تقبيل رأسه، حتى تُوقِع المسكين في حبالها، وترهقه باحتيالها، وتُعلّق قلبه بحبها، وتُطعمه من قربها، وتحويه بلطف تملُّقها، وتستبيه ببديع تقنُّعها، وبالمكر والخداع، وتطلُّبها للاجتماع، وتباكيها لفرقته، وتحازنها عند روحته، ثم ترسل بالرسل، وتُعاديه بالخَتل، وتخبره عن سهرها، وتُنبئه عن فكرها، وتشكو إليه القلق وتُخبره بالأرق،

وتبعث إليه بخاتمها، وفضلةٍ من شعرها، وقُلامةٍ من ظفرها، وشظيّة من مِضرابها، وقطعةٍ من مِسواكها، ولُبانٍ قد جعلته عوضاً من قُبلتها، ومُضغةٍ لتخبره عن نكهتها، وكتابٍ قد نمّقته بظَرفها، وطيّبته بكفها، وسَحته بوترٍ من عودها، ونقّطت عليه قطراتٍ من دمعها، وختمته بغاليةٍ قد عُدّل بالعنبر متنها، واستمسك تحت الخاتم عجنها، وطبعت عليه بفَصّ قد نقشت عليه مداعبتها، وتمثّلت عليه ببعض مَجانتها، وضمّنت الكتاب شكوى شوق مريضٍ، وصفة شوق ممرِّض، تسأله المؤاتاة على حبها، والإعانة على كربها، وأن يبعث يطلب زيارتها، لتقرّ بالنظر إليه عينها، وينفرج عنها حزنها، فيُطمع الغمز في قربها، ولا يشَّ في الكلام في إخلاص حبها، فيميل إليها بودّه، وتُصفيه بمكنون حبه، حتى إذا حوت عقله، وصارت شغله، واستمالت لبّه، وسلبت قلبه، واستمكنت من قربه، ووثقت بصحيح حبه، وعلمت أنه غريقٌ في بحر البلية، أخذت في طلب الهدايا السرية، وتشهّت الثياب العَدَنية، والأزر النيسابورية، والأشقاق الأنجاجية، والأردية الرشيدية، والعمائم السوسية، والشكك الإبريسمية، والخفاف الرُّنانية، والنعال الكَنباتية، والحلق المحشوية، والعصائب المرصّعة، والدَّستينجات المفصّلة، وخواتيم الياقوت المُثمِنة، وتمارضت من غير سقم، وشكت من غير ألم، وفُصدت من غير علة وداء، وتعالجت من غير حاجة منها إلى الدواء، لتجيشها هدايا ذوي الوَجد، في المرض والفصد، من القُمُص

المعنبَرة، والغلائل الممسَّكة، والأردية المرشوشة، واللخالخ المعجونة، ومخانق الكافور المنظومة، ومراسل القرنفل المخمّر، والمسك الأذفر، والعنبر الأشهب، والعود الهندي، والنَّدّ الخَزائني، والماورد الجوري، والحُملان الحَوْلية، والجداء الرُّضَّع، والبطّ الصيني، والفراريج الكسكرية، والدجاج الفائق، والفراخ المسمَّنة، والنبانيج المنضَّدة بأنواع الرياحين والفاكهة، يتبعها صنوفٌ من الشراب المعسَّل، والدوشاب المطبوخ والمشمَّس، ونبيذ السكر والقِشمِش، ثم الدنانير الجُدد الشهرية، والدراهم المسيَّفة الداريّة، في خرائط الديباج الإبريسَمية، ومناديل الوشي الأنجمية. فلا تزال في هدايا متواترة وألطاف متتابعة، وفي خلال ذلك العيدان العَرْعر الموزونة، والمضار بالمدهونة، والأوتار الصينية، حتى إذا نفذ اليسار، وذهب الإكثار، وأُتلف المال، وجاء الإقلال، وأحست بالإفلاس، وتفريغ الأكياس، أظهرت الملل، وأعلنت البدل، وتبرّمت بكلامه، وضجرت بسلامه، وطلبت عليه العلل، وتفقدت من الزلل، وتتبّعت عليه سقطاته، وتيمّمت عثراته، وأخذت في الجَفاء والعِتاب، والقِلى، والإبعاد، وصرفت عنها هواه، ومالت إلى سواه، ونفرت بعد القرب، وأبغضته بعد الحب، فحينئذ يُدرك المغرور الندم، ويلحقه الأسف، حين لا تغني عنه الحيلة ولا يُجدي عليه اللهف، ويقع بيت ليت ولو وهيهات ولات حين مَناص، ولا يقدر على استئناف ما سلف من الأيام بعد الإشراف على ورود حياضِ الحِمام، وقد أنشدني بعض الأدباء لبعض المحدثين: صحوتُ فأبصرت الغَواية من رُشدي، ... وأيقنتُ أني كنت جُرْتُ عن القَصدِ

فلا يعشقَنْ من كان يعشق قينةً، ... فما هو منها في سعيدٍ ولا سعدِ تودُّك ما دامت هداياك جمّةً، ... وترفدك عِشقاً ما غَنيتَ أخا رفدِ إذا ما رأت في مجلسٍ من تخاله ... غنيّاً، حَبَتْه بالتحية والودّ وغَنّت على أقداحه كل ما اشتهى، ... وقالت له: ما تريد أنا أفدي وتومي إليه اشربِ الرطلَ واسقني، ... فقد حُزتَ قلبي واشتملتَ على وُدّي فيمتلئ المغرور، عند مَقالها، ... سروراً يرى أن المقال على جدّ فإن جاء وقت الانصراف تحازنت ... لفُرقته، حتى يقوم على وعْدِ ويغدو إليه في الفراش رسولها ... تُسائله: ما كان حالُك من بعدي ويا ليت شعري كيف بتَّ فإنني ... رعيتُ نجوم الليل كفّي على خدّي فلا يجد المغرور من دفعِ جُدْرها ... سروراً بتعجيل الزيارة من بُدّ وتُسرع في إتيانه ليظنّها ... حَبَته بتعجيل المجيء على عَمدِ فإن هي جاءت عانقته، وقبّلت ... يديه، وأبدت فرحةً قلّ ما تُجدي وتخدمه عمداً، فإن قال: إنه ... ليحزُنُني أن تصنعي هكذا عندي تقول له: ذا البيت بيتي، وإنما ... أُؤمِّل أنْ يبتاعني سيدي وحدي فتصبيحَ عيني بالوِصال قريرةً ... وآمنَ من سَومِ التفرّق والبُعدِ فذا دأبها، حتى يعود من الهوى ... سقيمَ فؤادٍ ما يُعيد ولا يُبدي فتُفصد لا مِنْ حاجةٍ لفِصادها، ... ولكن لتكليف الهديّة في الفَصد

فمن بين خَلخالٍ يُصاغ وخاتمٍ، ... ومن دُمْلُج يُهدى على أثر العِقدِ ومن ثوبٍ خزٍّ بعد وشيٍ ومُلْحَمٍ، ... ومن مُصْمتٍ يُشرى على أثر البُرد ويا لك من مِسكِ ذكيٍّ وعَنبرٍ، ... وعودٍ، وكافورٍ نقيٍّ، ومن نَدّ فذا فعلها، حتى إذا عاد مُفلساً ... تجنّت، وأبدت جانب الهجر والصَّدّ فقولا لمن يخوى القيان تفهّموا ... مقالي، فإني قد نصحتُ لكم جَهدي وأنشدني بعض المحدثين لنفسه: يا صاح إن القِيان للغَمَر ال ... غِرّ شباكٌ يَصدنَ بالمَلَقِ يهوين هذا، ويشتكين لذا ... وجداً ويرمقن ذاك بالحَدَقِ حتى إذا ما اقتنصْن ذا حُمقٍ، ... مستهتراً واستمال للوَمَق نفضْنه، واستلخْنَ جِلدته ... سلخاً بطيب الدلال والفَنَق وصار كالآس في غَضارته ... صِفراً، بلا طارفٍ من الوَرَق ناولنه المِسحَ ثم قُلن له: ... جئنا به في البياض كاليَقَقِ وأنشدني بعض الكتّاب لفضل الشاعرة: يا حَسَن الوجه، سيِّء الأدب، ... شِبتَ، وأنت الغلام باللعب يا ويك إن القيان كالشَّرك ال ... منصوب بين الغُرور والعَطَب

لا يتصدّين للفقير، ولا ... يَرمقن إلا معادن الذهب يلحظن هذا وذا وذاك وذا، ... لحظَ محبٍّ بطَرف مكتسِبِ بينا تشكّى إليك، إذا خرجت ... من زَفَرات الشكوى إلى الطَّلَب وأنشدني أحمد بن غزال لنفسه: إذا تعرّضتَ للقيان، ... فمثّل الفقْرَ بالعِيان واعزم على فلسةٍ أسافاً، ... امض من طعنة السنان كم من تُراثٍ ومن تليدٍ ... وطارفٍ وادّخار تانِ أتلفه مُتلِفٌ عليهم، ... بالجَذر والبذل والتواني ما زال يصبو إلى خَلوبٍ، ... تغنى به فوق كل غانِ اتخذَته عشيق مالٍ، ... أضحت تهاواه باللسان حتى إذا اختلّ ثمّ حسّت ... بفقد فِعلاته الحِسان غنّته صوتاً لها عتيداً، ... مُصرِّحاً ليس بالمعاني قد نَفِذ الكيسُ، فاسلُ عني، ... واشتقْ، إذا اشتقتَ، بالأماني وأنشدني أيضاً: ومُسمِعةٍ غنّت، فمِلتُ بمهجتي ... إليها لألهو، والمُزاج بسيطُ فقالت: على اسم الله ثِقْ بمودّتي ... وصافِ كما صافى الخليط خليط فأعرضتُ عنها وانقبضتُ كأنما ... عَلَتني لديها نَعسةٌ وغَطيط فقالت، وقد أخجلتها لتغرّني ... ورقة فهمي بالقيان محيط:

أراكَ نشيطاً للسماع تحبه، ... ولستَ إلى غير السماع نشيطُ فقلت: تُراني، ويكَ، أعشق قينةً ... لها كل يومٍ صاحبٌ ورَبيطُ إذا خرجَت من مجلسٍ، وتبدّلت ... سواه بديلاً أوّلون نَبيطُ وإن ذُكروا قالت ومن كان حائكٌ، ... وأخر منكود المعاشِ يَخيطُ لعمركِ ما تهوين إلا دراهماً، ... ومن دونها حَزْمٌ عليّ سَليطُ وإني، ورب البيت، والله راحم، ... أفكّر فيه هل هواه قميط بعيني لينجُ قبل يَنفُضَ ريشه، ... وقبل يراه الناس، وهو سقيطُ هو أنا هوىً يزوي عن المرء نِعمةً، ... ويَترك ربَّ القوم وهو حَطيط فيعشقنا من في يديه بضاعةٌ، ... سفيفٌ، إذا بان الرجا، وشَريطُ وقال أيضاً في قصيدة له: حتى إذا صارت ولّت الدراهم غنّت ... هـ وقد أزمعتْ على الانقطاع أُسلُ عني، فلستُ أصلح للضي ... ق، ولا يَحسُنُ الهوى بالجِياعِ عندنا يأكُلُ المفرِّط كفّي ... هـ ويأوي إلى أخسّ البِقاع وأنشد للحَكَمي في مثل ذلك: قولا لمن يعشقه قينةٌ ... يستفّ حُزناً قبل إفلاسه فقد ثوى في كفّها نيّةٌ ... مُسرعةٌ في قَلع أضراسه تواصلُ العاشقَ، حتى إذا ... ما أخذ العشق بأنفاسه ولّت بغدرٍ، وقُرونُ الفتى ... تهتزّ بالكَشْخِ على رأسه

ومن أحسن ما قيل في ذلك قول الشاعر: ما للأحبة في التخشُّع عارُ، ... فاخشع وإن حافوا عليك وجاروا سقياً ورعياً للذين تحمّلوا، ... ونأوا، وما شُدّت لهم أكوار لكنّهم غدروا بعهدك في الهوى، ... وأخو القَطيعة جائرٌ غدّارُ ما إن يُلبوا إن جَفوكَ وعرَجوا ... نحو المدينة أوطنوا، أو ساروا لا بل أشدهما عليك مصيبةً ... أنْ يفعلوا بك إذ هُمُ حُضّار لا تعتبنّ على القيان، ولا على ... زهو القيان، فإنهن تجار قدّمْ لهنّ مَلاهياً ومَضارباً، ... ومَلاوياً يحظى بها الزُّوّار إن كنتَ صاحب لُطفةٍ وهديةٍ، ... فلك الهوى منهنّ والإيثار أو كنت صاحب كيف أنت؟ ومرحباً! ... فارحل فعيشُك عندهنّ بَوار لا بدّ من شيءٍ، وإلا لم يكن ... لك ثم إقبالٌ، ولا إدبار لو كنتَ يوسُفَ في الجمال، فإنه ... ما مثله في حُسنه ديّارُ ثم امتنعتَ من الهديّة أنكروا ... منك الذي لا يُنكر الأحرارُ عندي من الفتيات خبُرٌ بَيّنٌ، ... ومن الهديّة مُسنَدٌ آثار زار ابنُ أحمر ذات يومٍ قَينةً، ... في فتيةٍ لهمْ ندىً ووقار حتى إذا غنّتهمُ وسقتْهُمُ، ... وتجاوبت في كفّها الأوتارُ قالت لأولهم: أما لك ضيعةٌ؟ ... فأجابها: إني فتىً سمسارُ قالت: فأهد لنا إزاراً معلَماً، ... فأبو فلانٍ ما عليه إزار

ثم انثنت لسؤال آخر منهمُ: ... أصدق! فقال مجيبها: عطّارُ قالت: فليس يهمُّنا ما زرتنا ... أدهاننا والقِسط والأظفار وإذا ابن أحمر قد أعدّ جوابها ... حذر السؤال كأنه قَسطار ثم انثنت لسؤاله، فأجابها: ... لا سوق لي، لكنّني حفّار فإذا هممْتَ بحفر قبرك، فابعثي ... بقُضيِّبٍ كي أعرف المقدار فتلجلجَتَ خجلاً، وطاطت رأسها، ... وأصابها عند الجواب حصار وكذا القيان، ولا أقول جماعةً، ... فالناس في أخلاقهم أطوار ولابن أحمر أيضاً: عذّبني ذو الجلال بالنار، ... إن هام قلبي بذات أُسوارِ ولا تعشّقت قينةً أبداً، ... حتى تراني رهين أحجار كم من غنيٍّ تركْنَ ذا عَدَمٍ ... أورثته الذلّ بعد إكثار سلبن منه الفؤاد بالنظر ال ... رطب، وغنجٍ وغمزِ أبصار وبالتشاجي أتْلَفن مهجته، ... وحُسنِ لحنٍ وقرع أوتارِ حتى إذا ما مضت دراهمه ... وصار ذا فكرةٍ وتسهار ناولنه المسح ثم قُلن له: ... بيِّضه بالنهر بشّارِ فلا تغُرنّك قينةٌ أبداً، ... ودعْ وِصال القيان في التار فليس في الغدر عندهنّ إذا ... هوين أو شئن ذاك من عارِ

وأحسن ابنُ الجهيم حيث يقول: فأطلق يداً في بيته بتفضُّلِ، ... وعَدِّ عن المولى، وما شئت فافعلِ أشِر بيدٍ واغمز بطرفٍ ولا تَخَفْ ... رقيباً، إذا ما كنت غير مبخَّلِ وولّ عن المصباح، والحَ، وذمّهُ، ... فإن خمد المصباح، فادنُ وقبِّلِ وسل غير ممنوعٍ وقلْ غير مسكَتٍ، ... ونم غير مذعورٍ وقُم غير معجَلِ لك البيت ما دامت هداياك جمَّةً، ... وكنتَ مليّاً بالشراب المعسَّل تُصان لك الأبصار عن كل نظرةٍ، ... ويُصغى إليكم بالحديث المقاقَلِ واعلم أنه لا وفاء لهن، ولا حفاظ عندهن، ولا يدُ من على ودّ، ولا يفينَ لعاشقٍ بعهد، وهواهن مشتركٌ، وحبهن مقتسَمُ. وقد أنشدني بعض الأدباء: استخبرا زينبَ عن قولها ... في رجلٍ يعبُدُ ربّيْنِ أذاك منه حسنٌ جائزٌ، ... أم ليس يرضى الله دينين حسبك يا زينبُ من هُجنةٍ، ... يُستزرق الدهر على اسمين فلا تُريدي جمع هذا وذا، ... فالغمد لا يجمع سيفين وأنشدي الأمر إلى واحدٍ، ... ولا تكوني ذات بعلين لا يحمل المنبر ردفاً، ولا ... يصلح مِلكاً بين اثنين وعادة السوء، إذا استحكمت ... على امرئٍ شرٌّ من الدين لستُ، وإن كان الهوى غالبي، ... أقنعُ بالشين على الشين

يحلُبُ غيري، وأكون الذي ... يرضى من العَنز بقرنين وأحسن أبو ذؤيب حيث يقول: تريدين كيما تجمعيني وخالداً، ... وهل يُجمع السيفان ويحك في غمد وكنتِ كرقراق السراب، إذا جرى ... بقومٍ، وقد بات المَطيُّ بهم تخذي وقال آخر: ألا يا عاشق القينات جهلاً، ... أردتَ بأنْ تكون أبا البُغولِ أترضى للهوى من ليس يرضى، ... على ضيق الهوى، ألْفيْ خليلِ؟ ولي سهوى القيان بمحمودٍ عندي، ولا عند ذوي الأدب، وأهل النُّهى والأرَب، ولا لأكثرهم ميلٌ إليه، ولا حرصٌ عليه، وإن كان قد أنشدني صديقٌ لي قوله فيهن: زعموا خلّة القِيان غُرورُ، ... كلُّ زعمٍ من المقالة زورُ قسماً لَلْقيانُ بالعهد أوفى ... من جوارٍ تضُمّهنّ الخُدور إنما زخرف المفاليس هذا ... حين قلّت صحاحُهمْ والكسور أهل هذا الزمان أطرى من الآ ... س، وكلُّ مموَّهٌ، مستورُ واحتجّ في ذلك بأنّ هوى القيان، على ما فيهن من العيوب، أسرع إلى النفوس، وأوقع في القلوب، وأعْلَقُ بالأرواح، وأخلقُ للنجاح، وهن أقرب أملاً، وأقلّ عللاً، والظفر بهنّ أسرع من الظفر بربّات الخدور، والمحتجبات وراء الستور، وأنهن مزوراتٌ، وأولئك معدومات،

وزعم من طلب القينة الجَدْوَ لمولاها من عشقها وكثرة مؤونتها عليه، وطلبها لِما لديه ومسألتها الهدايا، واللُّطَفَ، والبرّ، والتحف، إنما هو من رغبتها في هواه، وميلها إلى رضاه، ولأنها تؤثره على العالمين، وتشتهي قربه دون سائر المحبين، لأنه إذا وافى جدوها من عند عشيقها مع تتابع ألطافه، وكثرة برّه وإسلافه، رغب المولى في صفائه، وطمع في استصفائه، فأخْلاها معه الأيام الكثيرة، والليالي المتتابعة؛ فهذه جملةٌ من القيان لمن عشق، ورغبةٌ فيمن ومَقَ، وليس ذاك عندنا كذلك، وإنما هي حيلة ممن احتجّ لهنّ بالوفاء، وهم معروفاتٌ بالغدر والجفاء، ولو كان ذلك كما زعموا، لم تتغير له عند اختلاله ولا قلَتْه عند إقلاله، بل كان يكون منها عند ذلك الإسعاف على هواه، والمؤاساة في نفسها في الحياة، ولكن هو كما قال المؤمَّل بن أميل: والغانيات كذاك هن غوادرٌ ... أبداً، حبالُ وصالهنّ تُجذَّمُ يخلبن بالنظر الفتى، ويَعِدنه ... نيلاً، ودون عداتهنّ الأنجمُ وكما قال بشار بن بُرد: فوالله ما أدري، وكلٌّ مصيبةٌ، ... بأي مكيداتِ النساء أكاد غُرور مواعيدٍ كأنّ جَداءها ... جَدى بارقاتٍ مُزْنُهنّ جَمادُ ومع ذلك، فلا نفاق للشيوخ عندهن، ولا لذوي القبح والعُدْم مطمع لديهن، على أنهن يحتملن القبح والشيب مع اليَسار، ويكرهنهما مع الفقر والإقتار، فإذا اجتمع القبح والشيب مع الإفلاس في أي إنسان كان من الناس، فليس عندهن مطلب، ولا لديهن سببٌ، ولذلك قال العَطَوي:

تاهت عليّ بحُسنها وجمالها ... وتقول لي: يا شيخ أنت مخادِعُ شيخٌ، وإفلاسٌ، وقُبحٌ ظاهرٌ، ... أطمعتَ فينا؟ أخْلفَتْكَ مطامعُ فأجبتها: الإفلاس يُذهبه الغِنى ... والشيب يُذهبه الخِضاب الناصع قالت: فقبحُ الوجه فيه حيلةٌ؟ ... والقُبح ليس له دواءٌ نافعُ يا صِدقها ما كان أوضح حُجّتي، ... لو كان يَدفع قُبحَ وجهي دافعُ وقال بعض الأعراب: طويلاتُ أعناقٍ، سِباطٌ أكفُّها، ... رقيقاتُ أوساطٍ نِبال المآكمِ تأزّرْنَ رَملاً، وارتدين بحُلّةٍ ... من الروض، ريّا زهرها جِدُّ ناعمِ وتَصرِفُ وُدّي نحوهن صبابةٌ، ... ويصرِفن عنّي الوجه نحو الدراهم ومثل ذلك ما رُوي عن نُصَيب أنه قال: لَقيتني بالطواف امرأةٌ دَحْداحة، مزّاحة، فقالت: أأنت نُصَيب؟ فقلت: نعم! قالت: ألستَ القائل: إذا البيضُ لا يأتين في الحبّ رقةً، ... يُعابُ، ولا يأخُذنَ في الودّ درهما وإذاْ هنّ يُدنين الكريم بوُدّه ... لهنّ، ويرفُضْن الدقيق الملَوَّما قالت: لا أراك تكتب إلاّ درهمك فاغضض ببَظْر أمّك! من أين تمتشِط إحدانا إذن؟ وأنشدني بعض الأدباء:

وإذا قلتُ لها: جُودي لمن ... قد براه الحب، قالت لي: أجلْ أنت صرّافٌ، فآتيك له، ... أم بكفّيك نقودٌ تُحتملْ قلت: ما تهوين إلا موسِراً، ... ذا هِباتٍ وعطاءٍ وحُلَلْ فأجابتني بصوت مسمَعٍ: ... كُفّ عنا! أنت، والله، مُقِلّ أيها الناس! ألا أخبركم؟ ... ليس للحب مع الفقر عملْ ولقد أحسن أبو الشيص حيث يقول: حسَرَ المَشيبُ قِناعه عن رأسه ... فرمينه بالصدّ والإعراضِ ثِنتانِ لا تصبو النساء إليهما: ... حَلْيُ المشيب وحُلّةُ الإنفاضِ فوعودهنّ، إذا وعدنك، باطلٌ، ... وبُروقهنّ كَواذِبُ الإيماضِ وروى عمر بن شبة عن موسى بن إسماعيل المِنقري قال: كان المُخَبَّل السعدي يعشق امرأةٌ من قومه، فأتلف عليها كلّ ما يملكه، حتى صار يبيع البَعر، فأتاها يوماً، فزبرته وطردته، فانصرف وأنشأ يقول: إذا قلّ مالُ المرء قلّ صديقه، ... وأومَت إليه بالعيوب الأصابعُ وقال الأصمعي: عشق رجلٌ امرأة، وأظهرت له مثل ذلك، فبعثت إليه يوماً تستهديه مالاً، فتعذّر عليه، ووجّه بنصف ما طلبت، فغضبت وهجرته، فكتب إليه: يا أيها الغضبان أن سامني ... ما مثله ثِقلٌ على الموسِرِ فجّدتُ بالنصف له كاملاً، ... فقال ليس الحب للمقتِرِ

هبني غريماً لك يا مُنيتي، ... ما يُقبل النص من المُعسِرِ فكتبت إليه: إن كنتَ في حالك ذا عُسرةٍ، ... فدع طِلاب الشادن الأحور ما إن منحناك الذي نلته، ... دون ذوي البهجة من معْشَرِ إلا لتقضي حاجتي كلّها ... في حال ذي العُسرة واليُسُرِ وقال الأخطل يصف نفورهن عن المشيب، وغدرهن بالكهول والشيب: وإذا دعونك عمّهُنّ، فإنه ... نَسَبٌ يزيدك عندهنّ خَبالا وإذا وعدنك نائلاً أخلفْنَه، ... ووجدْتَ عند عِداتهمّ مِطالا وقال القَطامي أيضاً: وإذا دعونك عمّهنّ فلا تُجب، ... فهناك لا يجد الصفاء مكانا وإذا رأين من الشباب لُدونةً، ... فعسى حبالك أن تكون مِتانا وقال جرير: رأت مرّ السنين أخذن مني، ... كما أخذ السِّرارُ من الهلال فقالت: فيم أنت من التصابي، ... متى عهدُ التشوُّق والدلالِ فما ترجو، وليس هوى الغواني ... لأصحاب التنحنح والسُّعال وقال أيضاً:

وإذا الشيوخ تعرّضوا لمودّة، ... قلن: التراب لكلّ شيخٍ أدْرَدا تلقى الفتاة من الشيوخ بليّةً، ... إن البليّة كلّ شيخٍ أرْمدا وقال امرؤ القيس: أراهنّ لا يُحببن من قلّ ماله، ... ولا مَن رأين الشيب فيه وقوّسا وأنشدني بعض الكتّاب لأبي الشبل: عذيري من جَواري الح ... يّ، إذ يرغبن عن وصلي رأين الشيب قد ألب ... سني أبّهةَ الكهلِ فأعرضن، وقد كنّ، ... إذا قيل: أبو الشبل تساعين، فرقّعن ال ... كُوى بالأعين النُّجلِ وأنشدتُ لغيره: رأين الغواني الشيب لاح بعارضي، ... فأعرضْن عني بالخدود النواضِرِ وكنّ إذا أبصرتني أو سمعن بي ... سعين، فرقّعن الكُوى بالمَحاجِرِ وهن على ما فيهن من سُرعة الملل، وما طُبعن عليه من البدل، متمكّناتٌ من القلوب، مُبَرَّآتٌ عند محبّتهن من العيوب. وإن من محمود مذاهب الظرفاء الميل إلى مغازلة النساء ومداعبة القينات، وحبّ النساء عندهم من حسن الاختيار، وهو أشبه بمذاهب ذوي الأخطار، وليس هوى الغِلمان عندهم بمحمودٍ، ولا هو في سيرهم موجود، وإنما آثروا هوى النساء على الغلمان، ومدحوهن بكل لسان، لمليح براعتهنّ، وتكامُل مَلاحتهن،

وعجيب شكْلهن، وبديع دلّهنّ، وفيهنّ أيضاً خِصالٌ محمودةٌ، ومَلاحة موجودة، إن عُدمت من الجمال وُجدت في العقل، وإن عُدمت من العقل وُجدت في الدلال، وروائحهن أذكى، وهواهن للقلوب أنكى، والعشق بهن أليق، وهنّ للرجال أوفق، وقد قال بعض الشعراء في ذلك وملُح: أحب النساء وذكْر النساء، ... ويُعجِبُ قلبي لذيذ الغناء وهل لَذّة العيش إلا النساء، ... وحسن الغناء، وشُربُ الطلاء وقال الفرزدق: منع الحياة من الرجال وطيبها ... حَدَقٌ يُقلّبها النساء مِراضُ وكأن أفئدة الرجال إذا رأوا ... حَدَقَ النساء لنَبلها أغراضُ وقال دِعبِلُ بن علي الخُزاعي: أَحَبُّ ذخيرةٍ، وأحبُّ عِلقٍ ... إليّ الغانيات، وإن غنينا وكلّ بُكاء ربعٍ، أو مَشيبٍ ... نُبَكّيه، فهنّ به عُنينا وقال بعض الأدباء: فلو أني رأيتُ الناس يوماً، ... ووُليبتُ الحكومة والخِصاما لقرّت عين من يهوى الجَواري، ... وعاقبتُ الذي يهوى الغُلاما سألتمَ أيُّما أحلى حديثاً، ... وأطيب، حين تعشَقه التزاما أجاريةٌ منعَّمةٌ رَداحٌ، ... تزيدك للغرام بها غراما

أو امردُ منتن الإبطين منه، ... له رمحٌ كرمحك حين قاما يُريدك للدراهم لا لحبٍّ، ... وتلك تذوب من كلفٍ سَقاما وأنشدني علي بن العباس الرومي لنفسه: نيكك الغِلمان ما أم ... كنك النسوان أفْنُ إنما يُمشَقُ في الظه ... ر، إذا ما أعوز بطنُ وما رأينا أحداً من العرب المتقدّمين والشعراء المفضَّلين صمّدوا في أشعارهم إلى غير ذكر النساء ولا صدّروا قصائدهم إلا بالتشبيب بوصف النساء، هذا حسّان بن ثابت الأنصاري شاعر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: يال قومٍ! هل يَقتل المرءَ مثلي، ... واهنُ البطش والعِظامِ، سؤومُ همُّها العطر والفِراش، ويعلو ... ها لُجينٌ، ولؤلؤٌ منظوم لو يدبّ الحوليُّ من ولد الذَّ ... رّ عليها لأندبتها الكُلوم وقد كان النبي، صلى الله عليه وسلم، ينصب له مِنبراً في مسجده، ويدعو الناس إلى استماع شعره، وهو يشبّب في قصائده بهذا وما أشبهه من ذكر النساء، وهذا كعب بن زهير ينشد النبي، صلى الله عليه وسلم، في مسجده: بانت سعاد، وقلبي اليوم مَتبولُ، ... مُتيَّمٌ عندها لا يُفدَ مغلولُ

أكرمْ بها خُلّةً لو أنها صدقت ... موعودها ولو أن النُّصح مقبول ويمدح النبي، صلى الله عليه وسلم، في قصيدته هذه، فيقول فيها: إن الرسول لَنورٌ يُستضاء به، ... وصارمٌ من سيوف الله مسلول والنبي، صلى الله عليه وسلم، يومئ إلى الناس في مسجده أن اسمعوا شعره، ولو كان ذكر النساء في الشعر منكراً، لكان النبي، صلى الله عليه وسلم، أوّل من أنكره، ولو كان ذكر غير النساء أولى بالتقدمة في الشعر من ذكرهن لكان النبي، صلى الله عليه وسلم، أول من أمر بذلك واستقبحه، ولو كان أيضاً في الشعر ذكر النساء من الرفث والفُحش والخنى لكان ما قيل في رسول الله من المديح أحقّ بأن يُسقط منه ذكر القبيح كما أُسقط ذكر الذكورة ووصفُ نعشّقهم من هذه الأشعار ومن نظائرها، من مديح ذوي الأخطار، وما وجدت ذلك في شيء من أشعار المتقدّمين وإنما عُرف الآن في شعر المُحدَثين، وأين ظَرف النساء وحسنهن من غيرهنّ، وأين ملاحة سَلامهن، وحلاوة كلامهن، ومستحسن مداعبتهن، ومحبوب معاتبتهن، ومليح مراسلتهن، لا سيما إن شُبْن هواهن بالغَيرة على محبيهن، والتدلل على متعشقيهن، وصددن من غير زلل، وهجرن من غير ملل، وهنّ والله في كل أحوالهن القاتلات بأفعالهن، وصالهن خَتلٌ، وصدُّعن قتلٌ، وهن المالكات للقلوب، السالبات للعقول، إذا خلون موحْن، وإن ظهرْن نظرن، فقتلن بلحظ عيونهن، وصرعن بكسر جفونهن، وأحيين بقولهن الكاذب، ووعدهن الخائب، فلا شيء أحسن من مطْلهن، ولا ألذ من

خُلف وعدهن، وقد استحسنت الشعراء ذلك منهن، ومدحته في كثير من الأشعار فيهن. أخبرني أحمد بن يحيى عن الزبير بن بكار عن سليمان بن عيّاش السعدي عن أبيه عن جده قال: حدثني السائب راوية كُثيّر قال: كان كُثيّر رجلاً مذنوباً، لا يستقرُّ في مكان، فقال لي ذات يوم: اذهب بنا إلى ابن أبي عتيق نتحدث عنده، فأتيناه، فاستنشد ابن أبي عتيق كُثيّراً فأنشده: أبائنةٌ سُعدى؟ نعم ستبين، ... كما انبتَّ من حبل القرين قرينُ أأن زُمّ أجمالٌ، وفارقَ جيرةٌ، ... وصاح غُراب البين أنت حزينُ كأنك لم تسمعْ، ولن ترَ قبلها ... تفرُّق أُلاّفٍ لهن حنينُ حنينٌ إلى أُلاّفهنّ، وقد بدا ... لهن من الشكّ الغداة يقينُ حتى إذا بلغ إلى قوله: فأخلفن ميعادي، وخُنّ أمانتي ... وليس لمن خان الأمانة جينُ قال ابن أبي عتيق: أو على الدين صُحبتهن، يا ابن أبي جُمعة، ذلك أملح لهن، وأدعى للقلوب إليهن، عبيد الله بن قيس الرًّقيّات أشعر منك حي يقول: حبذا الإدلال والغنُجُ، ... والتي في طرفها دَعَجُ والتي إن حدّثت كذَبت، ... والتي في وصلها خَلَجُ وترى في البيت صورتها، ... مثل ما في البيعة السُّرج خبّروني: عل على رجلٍ ... عاشقٍ في قبلةٍ حرجُ

فقال: لا! إن شاء الله، وانصرف. وقال القطامي يستحسن ذلك من أفعالهن، ويصف مَلاحة اعتلالهنّ: وأرى الغواني إنما هي جنّةٌ، ... شبه الرياح نلوِّن الألوانا وإذا حلفن فهن أكذب حالفٍ ... حَلِفاً، وأملح كاذبٍ إيمانا وقد أحسن محمود الورّاق حيث يقول: اصطبح كأس شراب، ... واغتنبق كأس تَصابي واجعل الأيام قَسماً ... بين عتبٍ وعِتاب ووصالٍ، اهتجارٍ، ... وبُعادٍ، واقترابِ واجتنابٍ في دُنوٍّ، ... ودنوٍّ في اجتناب ورسولٍ بكتابٍ، ... وانتظار لجوابِ وقُنوعٍ من حبيبٍ ... بالمواعيد الكِذاب ليس في الحب ولا الصب ... وة حظّ للصوابِ وقال بعض المحدثين: ليس يُستحسن في حكم الهوى ... عاشقٌ يُحسِن تأليف الحججْ بُني الحبّ على الجَور، فلو ... أنصف المعشوق فيه لسَمُجْ وقال آخر وأحسن في قوله:

ألا إنني راضٍ بما حكمت جملُ، ... وإن كان لي فيه البليّة والقتلُ فكرّوا عليّ العذل فيها، فإنني ... رأيتُ الهوى فيها يُجدّده العذلُ وما جئتها يوماً لبذلٍ رجوته ... لديها، فأخشى أن يُعيّره البخلُ ومن ذلك قول جميل بن معمر العُذري: ولستُ على بذل الصفاء هويتها، ... ولكن سبتني بالدلال مع البخل وقال أيضاً: ويقلن: إنك يا بُشَين بخيلةٌ، ... نفسي فداؤك من ضنينٍ باخل ويقلن: إنك قد رضيتَ بباطلٍ ... منها، فهل لك في اعتزال الباطل ولَباطلٌ ممن ألذُّ وأشتهي، ... أدنى إليّ من البغيض الباذل ودخلتْ عزّةُ على هشام بن عبد الملك بن مروان، فقال: يا عَزّة! أتعرفين قول كُثيّر: وقد زعمت أني تغيّرتُ بعدها، ... ومن ذا الذي، يا عَزَّ، لا يتغيّرُ تغيَّر جسمي، والخليفة كالذي ... عهدتِ، ولم يُخبر بسرّك مخبِرُ فقالت: ما أعرف هذا ولكني أعرف قوله: كأني أُناجي صخرةً، حين أعرضَت، ... من الصمّ لو يمشي بها العُصم زلّتِ صَفوحٌ، فما تلقاك إلا بخيلةً، ... فمن ملّ منها ذلك الوصل ملّتِ وأنشدني أحمد بن عبيد لرِفاعة الفَقْعسي: ألم تعلما أمْ لا، وكل بليّةٍ ... من الدهر يفنى بؤسها ونعيمها ولم تجدا بلجاءَ إلا بخيلةً، ... وإن أيسرتْ واحتاج يوماً غريمها وأنشدني محمد بن يزيد لكثيّر عزّة:

وكم من خليلِ قال لي: هل سألتها؟ ... فقلت: نعم! ليلى أضنّ خليلِ وأبعده نيلاً، وأسرعه قلىً، ... وإن سُئلت نيلاً، فشرُّ منيلِ وأنشدني أحمد بن يحيى لجميل بن معمر العُذري: وهجرك من تيما بلاءٌ وشِقوةٌ ... عليك مع الشوق الذي لا يُفارق ألا إنها ليست تجود لذي الهوى، ... بل البخل منها شيمةٌ وخَلائقُ وأنشدني ابن أبي خَيشمة لعبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود: وزادك إغراءً بها طول بخلها ... عليك وأعرى لحم أعظُمك الهمُّ ومثله قول الأحوص بن محمد الأنصاري: وزادني كًلَفاً بالحب أن مَنَعت، ... أحبّ شيء إلى الإنسان ما مُنعا كم من دنيٍّ لها قد كنت أتبعه، ... ولو صحا القلب عنها كان لي تبِعا وقال جرير يذكر طول المَطل والخُلْف: وإذا وعدنك نائلاً أخلفنه، ... وإذا طُلبن لوين كلّ غريمِ يرمين من خَلَل الستور بأعينٍ ... فيها السقام وبرءُ كل سقيمِ وقال أيضاً: لعمْرُ الغواني ما جزين صبابتي ... بهنّ، ولا يُحببن نسج القصائدِ رأيت الغواني مولعاتٍ بذي الهوى، ... بطول المنى، والخُلف عند المواعدِ وقال أيضاً: ألم ترني بذلتُ لهنّ وُدّي، ... وكذّبتُ الوُشاةَ، فما جَزينا

إذا ما قلت جاز لنا التقاضي ... بخلن بعاجلٍ، ومَطلن دَينا وقال أيضاً: يقلن إذا ما حلّ دينك عندنا، ... وخير الذي يُقضى من الدين عاجله لك الخير لا نقضيك إلا نسيّةً ... من الدين، أو عَرْضاً، فهل أنت قابله وقال أيضاً: وإذا وعدنك نائلاً أخلفنه، ... وجعلن ذلك مثل برق الخُلَّبِ إن الغواني قد قطعن مودّتي، ... بعد الصفا، ومنعن طِيبَ المَشربِ وقال كعب بن زهير: كانت مواعيد عُرقوبٍ لها مثلاً، ... وما مواعيدها إلاّ الأباطيلُ فلا يغرّنْك ما منّتْ، وما وعدتْ، ... إن الأماني والأحلام تضليلُ وقال نُصَيب: أللبين، يل ليلى، جِمالك ترحل، ... ليقطع منا البينُ ما كان يوصلُ تُعلّلنا بالوعد ليلى، وتنثني ... بموعودها، حتى يموت المعلَّلُ وقال كثيرٌ: وإني لأرضى من نوالك بالذي ... لو أبصره الواشي لقّت بلابلهْ بلا وبأن لا أستطيع وبالمُنى، ... وبالوعد والتسويف قد ملّ آملهْ وقال آخر: يا ربّ خذ لي من الملاح فقد ... هجن لقلبي من الهوى خَبَلا

بمن يحسن العشق

من اللواتي يقلن: لنْ، ونعم، ... وها، وحتى، وقد، وسوف، ولا والذي جاء في ذلك كثيرٌ يطول شرحه ويُعيي وصفه، وقد مضى من الفصل ما فيه لذوي العقل، وقد أفردنا كتاب القيان لذمّ عُظم القيان، فأغنى ما في ذلك الكتاب عن تكثير هذا الباب، فاعرفه إن شاء الله. بمن يحسن العشق واعلم أن الهوى، والحب، والبخل، والعشق، والغزل يحسن بأهل النعمة واليَسار، ويُزري بأهل الإملاق والإقتار، ولسنا نقول إنه محرَّمٌ على هؤلاء لإعسارهم، ولا محلل لأولئك ليسارهم، وليس بالغنى ما يُدخل أهل الجهالة في الوصف، ولا بالفقر ما يُخرج أهل الأجب من الظرف، وقد قال بعض الشعراء: قد يُدرك الشرف الفتى، ورداؤه ... خَلَقٌ، وجَيبُ قميصه مرقوعُ وليس أسباب الهوى مبيَّنة عن اليسار، والسعة، والغَناء، والبذل، والعطاء، والنفقات الغزيرة، والصلات الكثيرة، والهبات الهنيّة، والهدايا السرية، والمختلُّ المعدِمُ، والمقلّ المعسِر لا حيلة له في ذلك، فمن تعرّض للهوى، ومال إلى الصّبى، لم يحسن ذلك به لإفلاسه، وقلّة ذات يده وإقلاله، وما هلك امروٌّ عرف قدره، وأجهل الناس من عدا طوره، وقد قال بعض السخفاء بعيب بجهله على الظرفاء: ألم يُعلم أنه لا يكون لفقيرٍ، ولا يُرفع إليه طَرفٌ، ولا يقع عليه وصفٌ، والفقير مذمومٌ بكلّ لسانٍ، والغنيّ محبَّب إلى كل إنسانٍ، وأنشد قول عُروة بن الورد: ذريني للغنى أسعى، فإني ... رأيتُ الناس شرُّهُمُ الفقيرُ وأحقرهم، وأهونهم عليهم، ... وإن أمسى له كرمٌ وخير

يباعده الدنيُّ، وتزدريه ... حليلته، وينهره الصغيرُ وقد أخطأ العائب لهم في مقاله، وتكسع في حيرته وضلالته، لأن عُروة لم يذهب إلى ثلب الأدباء، ولا إلى تعنيف الظرفاء، وإنما عنف على طول الإهمال، وحثّ على تكسُّب الأموال، وهذا مثل قول الآخر: لعمرك! إن المال قد يجعل الفتى ... نسيباً، وإن الفقر بالحُرّ قد يُزري وما رفع النفس الدنيّة كالغنى، ... ولا وضع النفس الكريمة كالفقر ومثل ذلك قول الآخر: الفقر يُزري بأقوامٍ ذوي حسبٍ ... وقد يُسَوِّد غير السيد المالُ وكقول الآخر: أجلَّك قومٌ حين صرتَ إلى الغنى، ... وكل غنيٍّ في العيون جليلُ إذا مالت الدنيا إلى المرء حَوَلت ... إليه، ومال الناس حيث تميلُ فهؤلاء لو يذهبوا إلى تفنيد المتظرفين، ولا الطعن على المتفننين، وكيف، والتظرّف بهم أليق، وسمةُ الظرف عليهم أصدق. وهذا الباب قد ذكرته على جملته في كتاب " نظام التاج في صفة الأنْوِك المرزوق والظريف المحتاج " وجعلنا جملة ما مرّ في كتابنا نَصَفة بيننا وبين من زعم أن الأمر ليس كذلك. والذي زعم أنه لا يكون للفقير ظرفٌ قد تجاوز في الجَهالة والسُّخف؛ بلى إن الظرف بذي التقلل مليح، ولكن الهوى والعشق بهم قبيحٌ، وذلك أن الفقير إن طلب لم ينل، وإن رام بلوغاً لم يصل، وإن استوصل لم يوصل، فهو كمد القلب، عازب اللب، حزين النفس، ميت الحس، ذاهل العقل،

بعيد الوصل، فتركه التعرّض لما لا يقدر على بلوغ إتمامه أولى من تلبّسه بما يزيده في اغتمامه، وقد يجوز أن يكون ظريفاً بغير عشق، كما كان عاشقاً بغير فسق، لأنه لا تُهيأ له إقامة حدود العشق والظرف بلباقته، ونظافته، وتخلّفه، وتملّقه، ومداراته، ومساعدته، ولا يتهيأ له القيام بحدود العشق إذ لا مال له فيُعينه على هواه، ولا مقدرة له فتبلغه رضاه، وإن بلي بمن يستهديه ويستكسبه ويطلب بره، ويريد فضله، وهو لا يقدر على ذلك فهي الطامة الكبرى، والمصيبة العظمى، والحسرة التي تبقى، والكمد الذي لا يفنى. فليتحرّز الأديب من الهوى قبل وقوعه في العَطَب، وليتحفّظ منه قبل طلبه التخلّص من شَركه، فلا يقدر على الهرب، وقلّ من رأيت وقع في هوىً فنجا من غُلّه، أو أمكنه التخلّص من حبله، ولن يقدر على التخلُّص من الهوى بعد الوقوع في درك البلا، إلا مالكٌ لقلبه، مانعٌ لغربه، حازمٌ في فعله، جامع لعقله، فإن الأديب إذا كان بهذه الصفة، ورأى آيات الملل، وعلامات الذُّلّ، وأمارات الغدر، ودلالات الهجر، بادر فريسته، وتخلّص مهجته، وزجر قلبه، وصرف حبّه، ولم يُقم على طول الجفاء، ولم يُعرّض نفسه لطول البلاء، ولم يستعبدها بالتذلل، والخشوع، والتضرّع، ولكنه يصرفها صرف مقتدرٍ عيوفٍ، ويمنعها منع مالكٍ عزوفٍ. وقد شرحت لك ما قيل في المُصارمة باباً لتقف عليه، يبين لك صحةً ما فيه، إن شاء الله، ولا قوة إلا بالله.

ما جاء في مصارمة ذوي الغدر

ما جاء في مصارمة ذوي الغدر والمبادرة عند الملل والهجر اعلم أن صبر المحب على هجر الحبيب، وتجرّعه للغُضض والتعذيب، ومعالجة الزفير والنحيب، وتقلقل لفرق الوجيب، من الهجر الظاهر والموت الحاضر. والمبادرة بالانصراف بعد تغيُّر الأُلاّف من الحزم المكين، والرأي الرصين، وإن من أحسن ما قيل في المصارمة قول زهير ابن أبي سُلمى حيث يقول: ألا يالَ قومٍ للصِّبى إذا يقودني، ... وللوصل من أسماء إذ أنا طالبهْ فليتك قاليني، فلا وصل بيننا، ... كذلك من يستغنِ يُستغنَ صاحبه ومما يتعلق بهذا قول المتلمّس: فإن تُقبلي بالوُدّ نُقبلْ بمثله، ... وإلا فإنا نحن أنأى وأشمسُ ومثله قول نافع بن خليفة: بآية ما قالت: غنيت بغيرنا، ... ونحن سنغنى عنك مثلاً، ونَصدفُ وقال آخر: فإنْ تُقبلي بالوُدّ نُقبل بمثله، ... وإن تُدبري أُدبر إلى حال باليا ألمْ تعلمي أني قليلٌ لُبانتي، ... إذا لم يكن شيءٌ لشيءٍ مؤاتيا وقال آخر: فإن تُقبلي بالودّ نُقبل بمثله، ... وإن تؤذيننا بالصريمة نَصرِمِ

ومثله قول عمر بن أبي ربيعة: سلامٌ عليها ما أحبت سلامنا، ... فإن كرهته، فالسلام على أخرى ومثله قول الآخر: وكنتُ، إذا خليلٌ رامَ صَرمي، ... وجدتُ لديّ منفسَخاً عريضا وأجاد أبو ذؤيبٍ الهُذلي حيث يقول: فإنْ وصلت حبل الصفاء فدُم لها، ... وإن صرمَته، فانصرفْ عن تحاملِ ومثله قول إبراهيم بن العباس: بقلبي من هوى البيض انصراف، ... وتعجبني من البيض القِصافُ فإن أنصفن في ودّي، وإلا ... فليس عليّ من قلبي خلافُ وقد أحسن الذي يقول: كم من أخي قد كنتُ آمله، ... هبّت عليه رياح الغدر، فانتقضا أهملتُه، حين لم أملك صيانته، ... ثم انقبضتُ بودّي مثل ما انقبضا وقلت للنفس عُدّيه فتىً نوحَت ... به النوى أو من القَرض الذي انقرضا فما بكَيتُ عليه، حين فارقني، ... ولا وجدتُ له بين الحشا مَضضا وقال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر: أميطي الهوى، إن شئتِ، عنّي فانقُضي ... عهود الهوى، واسترزقي الله في سيّرِ فلو كنتِ لي عيناً، إذاً لفقأتُها، ... ولو كنتِ لي أُذناً رميتُك بالوَقْرِ

ولو كنتِ لي كفّاً، إذاً لقطعتها، ... ولو كنتِ لي قلباً نزعتك من صدري سألتكِ هل للناقضِ العهد والذي ... يخونُ سوى الإعراض والصّدّ والهجر فإن شئتِ فاقْليني، وإن شئتِ فاعرضي، ... فوالله ما أمسيتِ مني على أمر ولقد أحسن الخليع حين يقول: هويتكمُ جَهدي وزدتُ على الجهد ... ولم أرَ فيكم من يُقيم على العهدِ فإن أُمسِ فيكم زاهداً بعد رغبةٍ، ... فبعد اختبار كان في وصلكم زُهدي لعمري، لقد أغضيتُ فيكم على التي ... تُجرّعني المكروه من غُصص الحقدِ تأنّيتُكم بُقيا الصديق لتقصدوا، ... وتأبَون إلا أن تَجوروا عن القصدِ تعزّوا بيأسٍ عن هواي، فإنني ... إذا انصرفَت نفسي، فهيهات من ردّي أبى القلب إلا نبوةً عن جميعكم، ... كنَبوتكم عني ففي السُّحق والبعد أرى الغدر ضدّاً للوفاء، وإنني ... لأعلم أن الضدّ ينبو عن الضّدّ إذا خُنتمُ بالغيب عهدي، فما لكم ... تدلّون إدلال المقيم على العهد صلوا، فافعلوا فعل المدلّ بوصله ... وإلا فصُدّوا، وافعلوا فعل ذي الصدّ فكم من نذيرٍ كان لي قبلُ فيكمُ، ... وها أنا ذا فيكم نذيرٌ لمن بعدي فوا أسفاً من صبوةٍ ضاع شكرها، ... مضت سلفاً في غير أجرٍ ولا حَمد وأنشدني بعض المحدّثين: هجرتُ حبيباً كنتُ أحسب أنني ... سأقضي حياتي، قبل هِجرانه، وَجدا

وذلك أني كنتُ صبّاً بحبه، ... أجاوز للإفراط في حبه الحدّا فقابلني من قلّة الحفظ للسوفا، ... بأن خانني ودّي، ولم يَرعَ لي عهدا فقلتُ لقلبي بالملامة فاصطبر، ... ورُمّ سلوةً تلقَى بسلوتك الرُّشدا فطاوعني قلبي، فبتُّ مسلَّماً، ... أفتّش عن ودّي فلا أجد الوُدّا وأنشد أبو الطيب لنفسه في مثل ذلك: عتبتُ عليكم مرةً بعد مرةٍ، ... وأفرطتُ في التعذال، واللوم، والزجرِ فلما رأيتُ القول ليس بنافعي، ... ولا النهيَ مقبولاً لديّ، ولا أمري زجرتُ فؤادي زجرة عن هواكمُ ... وقلتُ له سرّاً، فأصغَى إلى سرّي: أفقْ كم يكون الهجر ممن تحبُه، ... وهجرُ الذي تهوى أحرُّ من الجمر وصبرك لو تدري على الهجر ساعةً، ... وقد كنتَ ترجوه أحرّ من الجمرِ تَعزَّ، فإنّ الغدر منه سجينةٌ، ... ولا داء أدوى من معالجة الغدر تَعزَّ، فإن اليأس يذهب بالهوى ... ولا شيء أشفى للفؤاد من الهجرِ تَعزَّ وداوِ القلب منك بهجره، ... ففي الهجر، لو يأتي، شفا غُلّةِ الصدر فطاوعني قلبي، فبتُّ أرى الهوى، ... وما كنتُ فيه كالجنون، أوِ السحر وأصبح قلبي فارغاً من هواكمُ، ... كأنْ لم يكن عاناه في سالف الدهر وأضحى، وما فيه من الحب والهوى ... إذا قيس، مقدار العَشير من الذَّرِّ ولقد أحسن الذي يقول: وددتُك لمّا كان ودُّك خالصاً، ... وأعرضتُ لمّا صار نهباً مقسَّما

ولن يلبث الحوض الوثيق بناؤه، ... على كثرة الوُرّاد، أن يتهدّما وقال آخر: لا أشتهي رَنْقَ الحِياض، ولا التي ... تُخاض ويغشاها المطرَّحة الجُربُ ولا أشتهي إلا مشارب أُحرزَت ... عن الناس، حتى ليس في مائها عَبُّ وأنشدني أحمد بن يحيى: وإني لأستحيي من الله أن أرى ... رديف وصالٍ أو عليَّ رَديفُ وأشرب رَنْقاً منكِ بعد مودّةٍ، ... وأرضى بحبلٍ منك، وهو ضعيفُ وإني للماء المخالط للقَذى، ... إذا كثُرت وُرّاده، لعيوفُ ومثله قول الآخر: لقد زعمت ريّاكَ أنك غادرٌ، ... وأنك للشُّرب، الغَداة، عيوفُ لقد كذَبت، ما إن أعوجُ بمشربٍ ... أُجاجٍ، وما لي في الوِصال رديفُ وأخبرني أحمد بن يحيى عن الزُّبير بن بكّار قال: كان نُصيبٌ يأتي خُلّةً له بالأبواء، وكان إذا أتاها رحّبت به أمها، وأكرمته وفرشت له إلى جنب ابنتها، فجاء يوماً، وعندها فتىً أصفر كأنه مُحّةٌ، يتولّج عليهم بيتهم بغير إذنٍ، ويختلط بهم اختلاطاً يكرهه نُصَيب، فوثب إلى رحله، فشدّه على راحلته، فعلقت به الجارية وقالت: ألا تَبوء عندنا يا أبا مِحْجَن كعادتك؟ فقال: أراكِ طَموحَ العين، طارفةَ الهوى ... لهذا، وهذا منكِ وُدٌّ مؤالفُ

فإن تحملي رِدفين لا أكُ منهما، ... فجيئي بفردٍ إنني لا أُرادفُ وأنشدني إبراهيم بن محمد النحوي لنفسه: يا من توهّم أننا نَهواه، ... ونذوب شوقاً إن نأى مَثواهُ كذبتْكَ نفسك في بُعادكَ راحةٌ ... إن كنتَ ممن مُهجتي تَسلاهُ لا يجمع القلب القريح صَبابةً ... وتأذّياً منه بمن يهواه لكنْ، إذا حلّ الأذى صَرَفَ الهوى، ... فانزاح عن قلبِ المحبّ هواه ومثل ذلك قول أسماء بن خارجة الفَزاري: خذي العفوَ مني تستديمي مودّتي، ... ولا تَنطقي في سَورتي حين أغضبُ فإني رأيتُ الحبّ في القلب والأذى ... إذا اجتمعا، لم يلبثِ الحبُّ يذهبُ ومثله قول الآخر: وصلْتُك لما أن رأيتُك واصلاً، ... وباعدتُ حبل الوَصل لما بدا لكا توهّمتُ منكَ الحفظَ والرعي للهَوى ... يكون، فلمّا أن رأيتُ فِعالكا زَجَرتُ فؤادي، واجتنبتُكَ بعد ما ... رأيتُ، ونحّيتُ الهوى عن إنائِكا فإن قال قومٌ: إن في الناس عاشقاَ، ... سلا سرعةً يوماً، فإني ذالكا وأنشدني غيره أيضاً: منحتُكُمُ صفوَ المودّة والهوى ... وأفْرطتُ حتى جُزتُ في ذلك الحدّا وأعطيتكم مني القِياد، ولم أكُن ... لأعطيه من أهوى، ولو شَفَّني وجدا فقابلتموني ضدّ ما قد منحتُكُم، ... وما كان حقّي أن أقابله ضدّا

فقد نلتُ مما كان منّي من الهوى ... وآليتُ ألاّ أُخلِصَ الحبّ والودّا فإن شئتُمُ جُذّوا الوِصال من الهوى، ... وإن شئتُمُ خونوا القَطيعة والعهدا فإني بريٌّ لا ذكرتُ مودّةً، ... ولا عشتُ إلا سامريّاً كذا فَردا وأنشدني أيضاً لنفسه: من سلا عنكَ، فاسله، ... لك في الناس مثله لا تقولنَّ: لِمْ، وكم، ... وعسى، أو لعله فالعسى يعقِد الهوى، ... والتعزّي يحلّه كلُّ حبٍّ إذا انقضى ... بعضه، هان كُلُّهُ وأنشدني أبو عبد الله بن مُسرِف لنفسه: ادنُ من كلّ صاحبٍ يدنُ شِبراً ... منك بالوصل، والوِداد ذراعا وإذا ما نأى ذراعاً، فزِدْه ... أنت بالهجر والقطيعة باعا ثم لا تطعننّ يوماً عليه ... بعيوبٍ، وإن شَناك سماعا وهذا الباب على كثرته واتساع القول في صحّته يعزّ على الأديب فعله، ويمنعه من إتيانه شغله، لأنه لا يقدر أحد على التخلّص من الهوى بعد الوقوع في شَركه، وإشرافه على مَهول مَهْلكه، وإلا بعد همٍّ دَخيلٍ، وسُقم طويل، وفِكر قاتل، وشُغل شاغل، فتحرُّز ذوي النُّهى من الهوى بالنزوع، أولى من إعمال الحيلة في طلب التخلّص والرجوع. واعلم أنه لا يصلح العشق إلا لأربعةٍ: لذي مُرُوةٍ ظاهرةٍ، أو ذي طاهرةٍ، أو ذي مال وساع، أو ذي أدب بارع؛ ويقبُحُ ممن سواهم لأن

النهي عن الهوى والتعرض لأسباب الضنى

الفقير إذا تعدّى طوره، ورام أن يجاوز قدره، قبُح ذلك به، كما أنه يقبُح بذي الغنى ترم التعرّض لأسباب الهوى، وذلك لصغر نفسه الدنيّة، وسقوط همّته الردية، لا يمنعه من طلبه قلّة ذات يده، ولا تعذُّر الجدّ، بل فساد الطبع، وعدم الحاسّة، وموت الذات. وبعد فإن كنا في تقدّمنا في غرض خطابنا، وفصول كتابنا، بإباحة العشق والهوى، ودعونا إليه الأدباء، وحثثنا عليه الظرفاء، وملأنا بذلك كتابنا، فإنا نُفرد للنصيحة فيه باباً يميل إليه أهل التدبير، وأهل المعرفة والتبحّر، ويرغب فيه العاقل، ويزهد فيه الجاهل، لأني أم أُخْلِه من كلامٍ منثور، وشعرٍ مشهور، فقفْ على ما أصّلتُ، يَبِن لك ما فرّعتُ، إن شاء الله. النهي عن الهوى والتعرّض لأسباب الضنى اعلم أنه يقبُح بالرجل الأديب، والعاقل اللبيب، أن يستخذي في هواه، ويُملِّك قلبه سواه، ويكون خادم قلبه، وأسير حبّه، لا سيما مع تغيُّر الزمان، وغدر الأحباب والخلاّن، ما يجد فيهم خليلاً صادقاً، ولا يصاحب إلا ماذقاً. ثم إن أجهل الجَهالة، وأضلَّ الضلالة، صبْرُ الفتى الأديب، على غدر الحبيب، فإنّ الصبر على الخيانة والغدر، يضع من المُرُوّة والقدْر؛ وقد قال بعض الشعراء فأحسن: وإني، وإن حنّت إليكم ضمائري، ... فما قدرُ حيٍّ أن يذلّ له قَدري فلا ينبغي لأحد أن يذلّ لهواه، فيُشمتَ بنفسه أعداه، ولا يركُنَ إلى

واحدةٍ من النساء الحرائر والإماء، فكلّهن في الغدر سواء، وما لواحدة منهن عهد ولا وفاء؛ ولقد أحسن عُبيد الله بن عبد الله بن طاهر حيث يقول: ألا أيّها القومُ المحبّون ويحكُم، ... تعزّوا عن الأحباب، واحتسبوا الأجْرا فما واحدٌ منهم بوافٍ لواحدٍ، ... وصاحبتي تجزي وفائي لها غَدْرا فلو كنتُ من صخرٍ لما كنتُ صابراً، ... وما أنا من صخر، وما أترك الصبرا وقد بلغنا أن ببعض بلاد الهند قوماً لا يعشقون، ويَرونه من السحر والجنون، وذلك لمن فيهم الفلسفة، ولهم الحكمة والتجربة، وزعموا أن سبب العشق سبب النوى وفيه المذلّة والعَناء، ومنه يكون السقم والضنى، وأكثر من في النساء وفاء، أسرعهنّ خيانةً وجفاء، وأعطاهن حَلْفاً وإيماناً، أسرعهن خُبثاً وسُلواناً، فيا رحمتي للأدباء، وشفقتي على الظرفاء، فما أطول بلاءهم، وأكثر شقاءهم، وأسخن عيونهم، يُبتلى العزيز منهم بالذليلة، والكثير منهم بالقليلة، والشريف بالدَّنيّة، والنبيل بالزريّة، فيطول في عشقها سهره، ويكثُرُ في أمورها فكره، وتنهلّ عليها إذا نأت دموعه، ويطول لديها إذا قرُبت خضوعه، وهي تُظهر له المحبّة، وتُبدي له الرغبة، وتحلف بالأيمان المُحرِّجات، والعُهود الموكِّدات، أنه حظّها من الآدميين، وشغلها دون سائر العالمين، وتُريه الجزَع عند الفراق، والفرح عند التلاق، فتملأ قلبه همّاً، وتورثه ضنىً وسُقماً، وهي تكاتب سواه، ولا تعبأ بهواه، لها في كل زاوية رَبيط، وفي كل محلّةٍ خليط، لم يعدُها قول الشاعر:

فيا من ليس يُقنعها محبٌّ، ... ولا ألفا نحبٍّ كل عامِ أظنّكِ من بقيّة قومِ موسى، ... فهم لا يصبرون علة طعامِ أتيتُ فؤادها أشكو إليه، ... فلم أخلُص إليه من الزحامِ ولا قول الذي أنشدني قوله أيضاً: الخان يعجز عن قومٍ إذا كثُروا، ... لكنّ قلبك مثل الخان أضعافُ في كلّ يومٍ له خمسون يعشقهم، ... في كل شهرٍ له ألفٌ وآلافُ وحكى الهيثم بن عديّ أن رجلاً من العرب هوي جاريةً، فتمسك بودّها، وركَنَ إلى محبّتها، ثم اطّلع على أنها لا تردّ يد لامِس، فقطعها، وأنشأ يقول: ألا حَيِّ أطلالاً لواسعة الحبْلِ ... ألوفٍ تُسوّي صالح القوم بالرَّذْلِ فلو أن من أضحى بمنعرجِ اللِّوى ... إلى الرملة القُصوى بساقطة النَّعلِ جلوساً إلى أن يَقصرَ الظّلَّ عندها ... لراحوا، وكل القوم منها على وَصلِ ومن أكثر المحال، وأحمق المَقال، قناعة المرأة بصديقٍ، وصبرها على رفيق، أحسنُ من فيهن حالاً، وأقلهنّ أشغالاً، من لها صاحبٌ مشهورٌ، وخليل مستور، وربيطٌ تُراسله، وصديق تجامله، وإن كان ذلك لا لمالٍ، ولا لطمع وآمال، فقد كنا تقدّمنا في باب صفة القينات، وما طُبهن عليه من المكر والخيانات، أنهن يكتسبن بالهوى والعشق، ويُدارين بالتملّق والرفق، وليس بنات البيوت في الخُدور، وربّات الحِجال والقُصور، كذوات المَذْق من القينات، وكذوات التكسُّب من المتقيِّنات، فإن هؤلاء

معروفات بطلب الدراهم والأموال، منسوبات إلى التكسُّب بتعشّق الرجال، لا يُقدم عليهن إلا مغرورٌ، ولا يثق بهم إلا مسحورٌ، وإنما يذهب على أهل الألباب، وأهل التظرُّف والآداب، مكر البنات المخدَّرات، والغواني المحجَّبات، اللواتي لم ترهنَّ العيون، ولم تكثر فيهن القالة والظنون، اللواتي يبذلن نفيس الأموال لمن يتعشّقْنه، وينّين من راسلنه وكاتبنه، وتزعُم أنهن وراء الحجاب، ودون الأقفال والأبواب، وأنهن لا فرج لهن إلا في المكاتبة، ولا فرح إلا في المراسلة، ولا سرور إلا في النظر من بعيد، ولا يقدرن على اللقاء إلا في الخروج في كل عيد، وأولئك اللواتي تخفُّ أمورهن، وتُعنّى سرائرهنُ، ويطمع الجاهل فيهن، ويصبو النَّزِق إليهن، ويثق بحبّهن الأحداث والأطفال، ولا يتمسّك بمودّتهن إلا الجهّال، مع أن مكرهن أخفى من الخيال، وأعظم من راسيات الجبال، تنفذ حيلهن على الرجال، ويتمكّن كيدهنّ من الأبطال، وفيما خبر الله، جل ثناؤه، في بعض القرآن، من عظيم كيدهن، ولطف حيلهن، ما يُغني عن شرح كثير من سرهن، وإن في قصة زُليخا ويوسف ما يستغني به ذوو العقل والأفهام من مكرهن القوي، وكيدهن الخفي، ولن يحترز منهن إلا المجرّب، ويتّقي منهن إلا المدرّب، فإن ذا الحِنكة، إذا كان بهن عليماً، وكان في أمورهن حكيماً، أخذ من حبّهن عفوة، وشرب من هواهن صَفوه، ولن يعلَق بهن فؤاده، ولم يملكن قياده، وذلك الحسن الحال، الرَّخيّ البال، لم تؤرّقه الغُموم، ولم تُنضجه الهموم، لا كالذي غلب عليه الشقاء، وأُتيح له البلاء، فركن

إلى حبهن، ودعَته الرغبة إلى ودّهن، فتمكّن منه الهوى، وتفرّد به الضنى، وتلك لا تشعر بسهره، ولا تعبأ بفكره، وبالله أقسم صادقاً، لو حلفْتُ أنهن لا يعرفن شيئاً من الوفاء، ما حنثْتُ، ولو بحث المغرور بهن، المخدوع بحبهن، عن صحيح أخبارهن، وفحص عن مكنون أسرارهن، لوقَف على صورة غدرهن، ولَبان له جملةٌ من مكرهن، ولهنّ عليه بعد الكرامة، ولرجع على نفسه بالملامة، كما أنشدني بعض الأدباء لنفسه: أوَصْلَك أرجو، بعد أن رثّ حبله، ... لقد ضلّ سعيي، إذ رجونُ ملولا أتوب إليك اليوم من كل توبةٍ، ... فقد هُنتَ في عيني، وكنتَ جليلا إذا لم يجد إلفي عن الغدر مذهباً، ... وجدتُ إلى حسن العَزاء سبيلا فوالله لا أرضيتُ داعيةَ الهوى ... إليكَ، ولا أغضبتُ فيك عَذولا وأنشدني أيضاً: سأغدر، حتى تعجبوا من خيانتي، ... فما ليّ ذنبٌ غير حسن وفائي ولولا أمورٌ عارضتَ ما سبقتني ... إلى الغدر حقاّ، لو تُركتَ ورائي سأُنزف دمعي حَسرةً وتندُّماً، ... على ما مضى صَبوتي وعَنائي وأنشدني للحسين الخليع: تُراك على الأيام تنجو مسلَّماً، ... ولستَ ترى من غدرةٍ أبداً بُدّا ألستَ الذي آليتَ بالله جاهداً ... يميناً، وخُنتَ الله مَوثقَه عَمدا ألا في سبيل الله وُدٌّ بذلتُه ... لمن خانني وُدّي، ولم يَرْعَ لي عهدا عدمتُك من قلبٍ أقام لغادرٍ ... على العهد، حتى كاد يقتلني جِدّا

ومن ذلك قول الحَكَمي: ألا في سبيل الله ودٌّ بذلتٌه ... لمن لم يكن مني لمِعشاره أهلا سوى ما إذا فكَّرتُ فيه وحدتُني ... أفوز به أنى اكتسبتُ به عقلا وأنشدني بعض الأدباء لنفسه: توافيتَ لي، حتى حسبتُك مُغرماً، ... وأعرضتَ، حتى خلتُ نفسي مجرِما وما لك شيءٌ منهما غير أنني ... أراك ترى نقضَ المواثيق مغَنما وما كنتُ أدري كيف يصبر عاشقٌ، ... ولا كيف يَسلى بعد أن يتتيّما فأنقذتَني بالغدر من غمرة الهوى، ... وعلّمتَ قلبي الصبر، حتى تعلّما ولو لم تخلّصني بغدرك لم أجد ... إلى سلوةٍ، حتى القيامة، سُلَّما فلم تَرَ عيني، قبل شخصك، ظالماً، ... تعمد أن يجبي، فأصبح منعِما فجّوزيتَ عني بالذي أنت أهله، ... فكلّ امرئٍ يُجزى بما قد تيمّما سيندم إنسانٌ لعهد خليله، ... وقلّ لمن لم يًرْعَ أن يتندّما وأنشدني أيضاً: يا قلب قد بان كم كلفتَ به، ... فخلِّ عنك البُكاء من أثرهْ شغلُك بالفكر في تغيُّره ... أعظم مما لقيتَ من حَذَرهْ قد يسلم العاجز الضعيف، وقد ... تتْلَف روح القويّ من غيرهْ وقد يفوت القريبَ مطلبه، ... وقد يؤوب البعيد من سفرهْ فإن يُذقْكَ الوصال حسرته، ... فقد جنيتَ اللذيذ من ثمرهْ

فارحلْ، فمن لا يحلّ مورده ... يُفضِ به صفوَه إلى كَدَرِهْ ولقد أحسن الحكَمي حيث يقول: أيها المنتاب عن عُفُرِهْ، ... لستَ من ليلي، ولا سَمَرِهْ لا أذود الطير عن شجرٍ ... قد بَلَوتُ المُرَّ من ثمرِهْ وأنشدني محمد بن خلف أحد الفقهاء، وأحسن في قوله: إذا كنتُ لا أنفكُّ منك مروَّعاً ... بغدرٍ، فإنّ الهَجرَ ليس برائع إذا خانني من كنتُ أهوى وِصالَه، ... فلستُ بجنّات الخلود بقانعِ أبَتْ عَزَماتي أن يقود زِمامها ... إلى غادِرٍ بالعهد ذُلُّ المطامع فيا من به كانت حياتي حبيبةً ... إليّ، ومن لولاه قلّتْ روائعي تَعزَّ بيأسٍ عن تذكُّر ما مضى، ... فلستُ لمن لم يَرْعَ عهدي بتابعِ وإني، وإن يَرْقَ دمعي تأسُّفاً ... عليك، فما قلبي إليك براجعِ وأجود ما قيل في هذا الباب قول أبي ذؤيب الهُذَليّ: فإن تُعرضي عني، وإن تتبدّلي ... خليلاً، وإحداكنّ سوءٌ قُصارها

فإني، إذا ما خُلَّةٌ رثَّ حبلها، ... وجدْتُ لصُرمي، واستمرّ عِذارهُا وحالت كحول القوس طُلّتْ وعُطّلت ... ثلاثاً، فأعيا ردُّها وظُهارها فإني قَمينٌ أن أودّعَ عهدها ... بحمدٍ، ولم يُرفع إلينا شَنارها وأحسن محمد بن عبد الله بن طاهر حيث يقول: ألم ترَ أن المرء تَدوي يمينه ... فيقطعها عمداً، ليسلم سائرُهْ وكيف تُراه، بعد يُمناه، صانعاً ... بمن ليس منه حين تَدوى سرائرهْ فهكذا لعَمري ينبغي أن يفعل الأدباء، وبمثل هذا فليتّعِظ الظُّرفاء. وقد يجب على العاقل المتأدّب، وذي الحِنكة والتجارب، أن يجعل المرأة بمنزلة الريحانة، يتنعّم بنَضرتها، ويتمتّع بزهرتها، حتى إذا جاء أوان جَفافها، وحالت عن حالها في وقت قَطافها، نبذها من يده وألقاها، وباعدها من مجلسه وقَلاها، إذا لم يبق فيها بقيةٌ لمستمتع، ولا لذّةٌ لمتمتِّعٍ؛ ولله دَرُّ الذي يقول: تمتّع بها ما ساعفَتْكَ، ولا تكُن ... عليك شجاً في الحلق، حين تَبينُ وإن هي أعطتْكَ اللِّيانَ، فإنها ... لآخرَ من خُلاّنها ستلين وإن أقسمتْ لا ينقض النأيُ عهدها ... فليس لمخضوب البَنان يمينُ ومثل ذلك قول النَّمِر بن تَولَب: وكلّ خليلٍ علتْهُ الرِّعا ... ثُ والحُبُلاتُ كذوبٌ مَلِقْ

ومن جيّد ما قيل في هذا الباب، مما يجب قبوله على ذوي الألباب، قول الحكَم بن مَعْمَرٍ الخُضري أحدِ بني حِصن بن مُحارب: وبعض الهوى داءٌ وفي اليأس راحةٌ، ... إذا انبتّ وصلٌ أو نَبا بكَ منزلُ وذو العقل لا يأسى على وصل خُلّةٍ ... إذا لم يكن يوماً عليها مُعَوَّلُ فلا ترضَ بالأمر الذي ليس بالرضى، ... إذا كنتَ تعتام الأمورَ وتفصِلُ إذا المرءُ لم يحببك إلا تكرُّهاً، ... فدعه، ولا يعجز عليك التحوُّلُ وفي الأرض أكفاءٌ، وفيها مُراغَمٌ ... عريضٌ لمن خاف الهَوانَ ومَرحَلُ وأن يقطعَ الأمرَ االذي أنت قادرٌ ... على جَذِّه منه، أعفُّ وأجملُ والكلام في هذا الباب مطّرِد، والقول فيه منسَرِد، ولكن كرهتُ به إطالة الكتاب، واقتصرت على قليل من الخِطاب، وأبديتُ نصيحتي للأدباء، وأهل المعرفة والعقلاء، وأخبرت بما صحّ عندي، وبالغتَ في النصيحة جُهدي، فإن رغب فيها اغبٌ فغير مَلوم، وإن زهد فيها زاهد فغير مَذْموم. وأنا أعود إلى ذكر الظَّرف والهوى، فقد مضى من هذا الباب ما كفى. واعلم أن للعشق سُنّةً مَقصودةً، وللظرف شرائعَ محدودة، ورأينا أربابه

ذكر زي الظرفاء

وأهله وطُلاّبه مُتّبعين لسُبلها، متمسّكين بحبلها، متى حالوا عنها سُمّوا بغير اسم الظرفاء عند أهل الظرف، ودُعوا إلى غير سُنّة العشّاق والأدباء، ولهم فيما استحسنوه من الزّيّ والطيب والثياب والهدايا والطعام والشراب حدٌّ محدودٌ مستحسنٌ معلومٌ، وزيُّ بين الطائفتين مقسوم، لا الرجال يتجاوزون ما حُدّ لهم إلى متظرفات النساء، ولا النساء يتجاوزن حَدّهن إلى حدّ الرجال الظرفاء، وأنا أصف لك زيَّ الفريقين من الظرفاء والمتظرفات، وأشرح لك ما عليه هؤلاء وهؤلاء من الزيّ والهيئات، إن شاء الله. ذكر زي الظرفاء في اللباس المستحسن عند سروات الناس اعلم أن من زيّ الرجال الظرفاء، وذوي المُروّة الأدباء، الغلائلَ الرقاق، والقُمُص السِّفاق، من جيّد ضُروب مَطارف السوسية، والكسية الفارسية، الكتّان، الناعمة النقيّة الألوان، مثل: الدَّبيقي، والجُنّابي، والمبطَّنات التاختَجِ، والخامات، ودراريع الدَّرْجَرَد والإسكندرانيّ، والمُلْحَم الخَزّي والخُراساني، ومُبطَّناتِ القوهيّ الرَّطب، وأُزُر الشَّرْب، والأردية المحشّاة العَدَنيّة، وطَيالسة

زي الظراف في التكك والنعال والخفاف

المُلحَم النيسابورية، والمُصمتة الدَّبيقيّة، والجِباب النيسابورية، والمصمتة الطرازية، والوشْي السعيدية، والحزوز الكوفية، والمطارف السوسية، والأكسية الفارسية، والطيالسة التومسية االزُّرق السلولية، وكل ما أشبه ذلك وقاربه، ودنا منه وصاحبه. وليس يُستحسن لُبسُ الثياب الشنعة الألوان، المصبوغة بالطيب والزعفران، مثل المُلحَم الأصفر، والدَّبيقي المعَنبَر، لأن ذلك من لُبس النساء، ولبس القَينات والإماء، وقد يلبسون في الفَصد، والعِلاجات، ووقت الشراب، والخَلَوات، الغلائل الممسَّكة، والقُمُص المُعنبرة، والأردية الملونة، والأُزُر المعصْفَرة، وربما استعملوها لفرشهم، لبسوها في وقت قصفهم، وتظرّفوا بها في مجالسهم، وتخفّفوا بها في منازلهم، والظهور فيها قبيحٌ بالسُّوقة والظرفاء، مستحسنٌ من أهل النعم وأبناء الخلفاء، وليس يُجيز أهل الظرف والأدب لُبس شيء من الثياب الدَّتسة مع غسيل، ولا غسيلاً مع جديد، ولا الكتّان مع المَروي، ولا البابياف مع القوهي أيضاً. وأحسن الزيِّ ما تَشاكل وانطبق، وتقارب واتفق. زي الظراف في التكك والنعال والخِفاف ومن زيّهم لُبس النعال الزيجية، والثِّخان الكَنْباتية، والمُشعَّرة اليمانية، والحَذْو اللطاف، والمُحتَّمة الخِفاف، ويُشرك أسودها بأحمرَ، وأصفرها بأسودَ. ويلبسون الخِفاف الهاشمية، والمكسورة الكُتّابية، زمن الأدَم الثخين، والأسود الرزين، بالجَوارب الخَزّ، والمِرعِزّي والقزّ، ويعيبون

زيهم المخصوص في الخواتيم والفصوص

لُبس الأحمر من الخِفاف، ولُبس الدارشية الخِفاف، ويتخذون التِّكَكَ الإبريسَمية، والتِّكَك الخَزّيّة، والمطارِف القُطنية، والمنقوشة الأرمنية. زيهم المخصوص في الخواتيم والفصوص التختم بالعَقيق الأحمر، والفيروزَج الأخضر، والفضّة المحرَقة، والياقوت الأسمانْجوني والبَجاذي الخراساني، والمغرانيّة الحمر، والياقوتية الصُّفر، واليَمانية السود، الحسنة القُدود المِهرانية، والمضروبة المتوكلّية، ولا يتختّمون بالذهب، وليس من زيّ ذوي الأدب، وإنما هو من لُبس النساء، ولُبْس الصبيان والإماء. زيهم في التعطر والطيب الذي من خالفه كان غير مُصيب ومن زيّهم في التعطّر والطيب بالمِسك المَسحول بماء الورد المحلول، واستعمال العَود المُعَتبر بماء القَرَنفُل المخمَّر، والنَّدّ السلطاني، والعَنبَر البَحْراني، والعبير، والذّرائر المفتوقة بالعبائر، وسوى ذلك من الطيب لا يقرَبونه، والكافور لعلّة برده لا يستعملونه إلا من حرارة ظاهرة، أو من غالبة، أو موضوعاً على الجَمر، مخلوطاً بعبير المِسك وزَعْفران الشعر، وهو بهذه الصفة أطيب البخور، وليس البَرمكية وما أشبهها عليهم بمحظورٍ، وإنّ الجيِّد من البَرمكية ومن البَخور الذكية، وإنما يكره استعمالها المتظرّفون

في متظرفات النساء..

إذ هي مما يستعمله المتقلّلون. وكذلك اجتنبوا ماء الخَلوق لأنه من طيب النساء، والغالية إذ هي من طيب الصبيان والإماء. ولا يستعملون شيئاً من الطيب الذَّفِر مما يبدو له لونٌ ويبقى له أثرٌ؛ وفي ذلك حديث مأثورٌ عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: طيبُ الرجال ما ظهر رائحته. ومتى استعملوا شيئاً من الغالية، أو طيبِ النساء، كانت في أصول الشعر، بحيث يُشمّ ولا يُرى له أثر. في متظرّفات النساء.. في اللباس المخالف لزيّ الظرفاء لُبس الغَلائل الدُّخانية، والأردية الرشيدية، والشُّروب المُزَنَّرة، والأردية الطبَرية، والقصب الملوّن، والحرير المعيَّن، والمقانع النيسابورية، وأُزُر المُلْحَم الخُراسانية، والجُرُبّانات المخانِقية، والكِمام المفتوحة، والسَّراويلات البيض المذيَّلة، والمعاجِرِ السود المسَنْبَلة، ولا يَلبَسن شيئاً من التِّكَك، ولا شيئاً من المَرشوش والمطيب، ولا النقيّة الألوان، ولا من الثياب الكتّان، إلا ما كان ملوّناً في نفسه، أو مصبوغاً، من جنسه، أو مُغيَّراً بلونٍ من أجناس المُمَسَّكِ، والمُصَنْدَل وأجناس المعنبَر والمسنْبل، ليحول بالطيب عن تلك الحال، إذ لُبس البياض عندهم من زيّ الرجال،

زيهن المخالف لزي الرجال

ولا يلبسن أيضاً من الثياب الأصفر والأسود والأخضر والمورَّد والأحمر، إلا ما كان الصُّفرة، والتزْريقَ، والخُضرة، والتوريد، والحمرة مثل اللاذِ، والحرير، والقزّ، والديباج، والوَشْي، والخَزّ، لأن لُبس المورَّد والأحمر والسَّنيري الأخضر، إنما هو من لُبس النساء النَّبطيّات، ولُبس الإماء المتَقيِّنات. والبياض عندهم من لُبس المهجوات، والأزرق والحداد من لُبس الأرامل والمقرَّعات. وأحسنُ الذي عندهم ما ذكرناه، وليس يتجاوز حدّ ما رسمناه. زيهن المخالف لزي الرجال في لبس التِّكك والخِفاف والنعال لُبس النعال الكَنْباتية المُشعَّرة، والمدهونة المخضَّرة، والخِفاف الزَّنانية، والمكسورة، والرهاوية، والتِّكك الإبريسَمية، والرجال يَشركونهن في التّكك الإبريسَمية، ولا يَشركن الرجال في التِّكَك الديباج المنسوجة، وشَرّابات الإبريسَم المفتولة، والزنانير العِراض، ولا يَذهبن في ألوانها إلى البياض، ولا ما كان كمها كثيرَ الألوان والتخطيط، ويتطيّرن من الألوان، وقد يلبسن أيضاً التِّكك الخزّيّة والمُطْرفة القُطنية. ومن زيّهن أيضاً في الطيب الذي ليس للرجال فيه نصيب استعمال اللَّخالِخ والصّندل، والصَّيّاح والقَرَنفُل، والساهرية والأدقال، والمَعجونات، والزعفران، والخَلوق، وماء الخَلوق، والكافور، وماء الكافور، والمُثَلَّثة الخَزاشنيّة، والبرمكية السلطانية، وسائر صنوف الأدهان من البنفسج، والزنبق، والبان، إلا أنهن اجتنبن استعمال التُّرْشُتام. والرجال لا يستعملون

شيئاً من ذلك، والنساء يستعملن جميع طيب الظُّرفاء، والظرفاء لا يستعملون شيئاً من طيب النساء. ومن زيّهن المعلوم في لُبس الحَلْي المنظوم لُبس مخانق القَرَنفل المخمَّر، ومراسل الكافور والعنبر، والقلائد المفصَّلة، والمعاذات المُخرَّمة بشرّابات الذهب المشبَّكة، والإبريسَمية المسلسَلة، واتخاذ السَّبَح اللِّطاف من المخروطة الخِفاف، ومثل السَّبَج الحَلِك، والكَوهَر، والكَرك، والبُلُّور النقيُّ، وحَبُّ اللؤلؤ السَّريّ، والحبُّ الأحمر، والكارَبا الأصفرُ، وسائر صنوف الياقوت والجَوهر، وينظمن بالحبّ وصُنوف الجَوهر كرازنَهن، وينقُشن بالإبريسَم والذهب عَصائبهنّ، ويتخذن الخَواتيم المقرَّنة والمناقير المُطبَقة بفُصوص الياقوت الأحمر، والزُّمُرُّد الأخضر، والأسمانجونيّ، والأصفر، ولا يَحسُن بهن التختُّم بالمِينا والعَقيق والفضّة والحديد، والملوَّح والفِيروزَج، والبجاذيّ، والمَسانيح، وذلك من لُبس الرجال والإماء، وليس من لُبس متظرّفات النساء، ولا يتّخذن منها ما ضاق وعَسُر ما جَفا وكبُر، وقد تطيّر بعضُ الظرفاء من هديّة الخاتَم، وزعموا أنه يدعو إلى القَطيعة، وتهاداه آخرون، وأقاموه مَقام التذكِرة والوديعة؛ فأما الذين تطيّ؟ روا منه فيُنشدون: وما كان هذا الهجر من طول بغضةٍ، ... ولكن بعض المَزح للمَرء قاتلُ مَزَحتُ، لحَيني، مرّةً بخواتِمٍ، ... لآخذةٍ، حلّت عليّ النَوازلُ فصدّت، ولم تعلم عليّ خِيانةً، ... وطول صُدود الخلِّ للعقل ساملُ

وينشدون أيضاً: إني مَزَحْتُ، ولم أعلم بخاتَمه، ... فكان منه ابتداءُ الهَجر والغَضَبِ قد كنتُ ما قال أهلُ الظّرف أُنكره ... وكان قولُهُم عندي من اللعِبِ إن الخَواتيمَ فيها قطعُ مَصلكُمُ، ... فقلتُ: هذا لعَمْري غايةُ الكَذِبِ حتى ابتُليتُ، فكان الحقّ قولهُمُ، ... أخذُ الخَواتيمِ فيه أكثرُ العَطَبِ وأنشدني صديقٌ لي في ضدّ ذلك: يقول أناسٌ في الخواتيم إنها ... تُقطِّع أسبابَ الهوى؟ وأقولُ بأنّ خَواتيم المِلاح وَصولةٌ، ... وخاتَمُ من تَهوى المِلاحُ وَصولُ والعِلّة فيما كَرِهَه الظرفاء، وتطيّر منه الأدباء، من هديّة التِّكّة والخاتَمِ، حتى صار مستفيضاً في العالم أن هذين وحدهما من جميع اللباس إنْ يُستطرَفا فيُستلبا، ويُستحسنا فيُستَوهَبا، وأن الواحدَ إذا أهدى إلى خليله، وأرسل إلى حبيبه بخاتَمه، أو تِكّته، ففُقد ذلك من يده أو حَوزته، بعثه باعث من غَيرته على قَطيعته وهجرته، فأما من يَتَلقّى هدية إخائه بالقَبول، ويُنزلها منه بالمنزل الجليل، ويحفظّها كحفظه لبصره، ويُشفق عليها من الدهر وغيره، فهو آمنٌ من المُجانبة، مستريحٌ من المعاتبة، وقد رأيناهم ربما أهدّوا ذلك فيُهدونه على سبيل البيع، ويأخذون منهم الشيء الطفيف اليَسير، كالدرهم الصغير، والقِطعة من البَخور، فيُخرَجُ بهذا البيع عن حدّ الهديّة، ويأمنون ما فيه من مكْروه البليّة. وقد بلغني أن أبا نُواس دخل على خالد خَيْلَوَيه، فنظر في إصبعه إلى خاتَم، فقال: أرنيه، فدفعه إليه، وكان علامةً بينه وبين جاريةٍ يُحبّها، فانصرف،

ذكر زي الظرفاء في الطعام

فاستعمل واحداً على مِثاله، ثم بعث به إليها، فأنكرتِ الفَصَّ، فبعثت به إليه، ولن تأته، فدخل على حِياله، فلما رآه مَثلَ بين يديه، وأنشأ يقول: تفديك روحي، يا أبا جعفر، ... جاريةٌ كالقمر الأزهرِ تعلّقَتْني، وتعلّقتُها، ... طِفلين في المَهدِ إلى المَكْبَرِ كنتُ إليها نتهادى الهوى ... بخاتَمٍ لي غير مُستنكَرِ فأنكرَتْهُ إذ رأت فَصَّهُ، ... فأدركتها غَيْرةُ المُنكِرِ قالت: لقد كان له خاتَمٌ ... أحمرُ أهداه إلينا سَري فاليوم قد عُلّقَ غيري، فقد ... أهدى له الخاتَمَ، لا أمتري آمنتُ بالله وآياته ... إنْ أنا لم أهجُرْهُ، فليَصْبِرِ أو يأتِ بالحُجّة في تُهمتي ... إياه في خاتَمه الأحمر فاردُدْهُ تردُدْ وصلَها، إنها ... قُرّةُ عيني، يا أبا جعفرِ فأخرجه من إصبعه فدفعه إليه. فهذا دليل على إجازة تَهادي الخواتيم، وحفظها لأربابها، وشدة الغضَب والغَيرة عند ذهابها. فأما الطعام فعيوبه أشدّ الأشياء على الظُّرفاء ضَرراً، وهم من عيوبه أشدّ توقّياً وحذراً، لتكاثُف عيوبه، وكثرة مَعيبه، وأنا أبيّن لك زِيَّهم في ذلك، وما استحسنوه في ذلك واستعملوه، وما استقبحوه فاجتنبوه، إن شاء الله. ذكر زي الظرفاء في الطعام الذي بانوا به عن منزلة اللّئام اعلم أن أول ما استعملوه تصغير اللُّقَم، والتجالُل عن الشَّرَه والنهم،

وأكل أوساط الرِّقاق، والبَزْماورد الدِّقاق، وليس يأكلون العَصَبة والعضلة، ولا العِرق والكُلوة، ولا الكَرِش والقِبّة، ولا الطِّحال والرئة، ولا يأكلون القَديد؛ ولا يأكلون الثريد، ولا ما في القِدر من الورق، ولا يتحسّون المرَق، ولا يتّبعون مواضع الدسم، ولا يملأون أيديهم بالزَّهَم، ولا يُجلّلون الملح، وهو عندهم من أكبر القُبح، ولا يُكوكِبون في الخلّ، ولا يُمنعون في أكل البَقل، ولا يأكلون الطَّلع لشبه رائحته برائحة الماء الدافق، ولا يُمشِّشون من العظام كراديس قصَب الساق الغليظ، وإنما مُشاشهم ما لانَ وصَغُر، لا ما غلُظ وكبُر؛ ويأخذون ما ثقُل من المُشاش على ظهر الأصابع، ويطرحونه ناحيةً من الخِوان، ولا يُزَهِّمون ما بين أيديهم من الرُّغفان، ولا يتعدّون مواضعهم، ولا يَلطعون أصابعهم، ولا يملأون باللُّقَم أفواههم، ولا يُدسّمون بكُبرها شفاههم، ولا يُقطِّرون على أكفّهم، ولا يعجلون في مضغهم، ولا يأكلون بجانبي الشِّدقين، ولا يُزاوجون بين الاثنين، ولا يُجاوزون ما بين أيديهم شيئاً من الفُتات، ولا يأكلون قِدراً بائنةً، ولا قِدراً مسخّنةً، ولا يغمسون في مرقةٍ، ولا يضعون لُقمةً، ولا يأكلون شيئاً من الكُوريج والصِّحناة،

ولا الرُّبَيثاء والسُّميكات، ولا شيئاً من الكَواميخ والمالح، وأكل ذلك عندهم من الفضائح. إلا أن القَينات المُتظرِّفات، والنساء القَصريّات، ربما تظرّفن بأكل المالح والمملوح في منازل متعشّقيهن، وبيوت مرابطيهن، فيذهبن به مذهب طَرْح المؤونات، وخفّة النفقات. ولا يأكلون الجراد والإرْبيان، لعلة شبههما بالأشياء القبيحة من الحيوان، ولا يأكلون الحبوب التي تهيّج الأرياح وتُولِّد القَرْقَرة والانتفاخ؛ ولا يأكلون في النهار أكثر من أكلةٍ، ويُكثرون القيام في مجالسهم، ولا يُكثرون من الضحك والكلام عند حضور المائدة والطعام، ولا يتخلّلون على المائدة قبل أن تَفرُغ، ولا يتحفّزون لمجيئها قبل أن تُوضع، وإذا غسلوا أيديهم لم يطلبوا الغسل قبل طلب إيتائها من الوسخ والكَدر، ولم يقصدوا التقصير الذي يبقى منه رائحة الغَمَر، وكذلك أيضاً إذا تَمَندلوا فعلوا كفعلهم إذا غسلوا. فأما النُّفلُ فإنهم يُحضِرونه موائدهم، ويُطعِمونه ولائدهم، ولا يُكثرون من أكله، ولا يأتون على كُلّه، وإنما يعبثون منه بالشيء اليسير من النعنع، ويجتنبون من ذلك الهِندَبا والأُكشوث لبردهما، والفُجل والحُرف لنتهما، والكُرّاث والبصل لرائحتهما، والقَدّاح والحَنْدَقوقا لخشنهما،

ولأنهما أيضاً يُخضّران الأسنان والعُمور، ويُحدِثان الرائحة والتغيير، ولم يقع الثوم في قِدرٍ فيذوقونه، ولا البصل فيقرَبونه، ولا يلفظون باسم الطَّرخون لابتداء اسمه، وشناعة لفظه، فيَككنون عنه، فيُضيفونه إلى النعنع، وقد سماه آخرون كافور الفؤاد، وكلّ يقصد إلى معناه. والخسّ لا يقربونه لموضع تفقئته، والخيار لا يأكلونه لعلّة برده، والجُزر يتجلَلون عن مسّه، ولا يَرَون النظر إليه دون أكله؛ وكذلك القثّاء، والهِلْيَون؛ ولموضع النوى أيضاً رغبوا عن أكل الزيتون، ورغبوا عن أكل ما خالطه النوى من فاكهة الصيف والشتاء مثل القَسْبِ والبُسر والمُشقَّق أيضاً والتمر؛ وكذلك سائر الأرطاب والمِشمِش، والنَّبْق والعُنّاب؛ وكذلك في الخوخ، والشّاهلوج، والإجّاص، وهو عندهم من أكل العَوامّ، لا من أكل الخواصّ، ولا يَنفُقُ عندهم الرُّمّان والتين، وهذان عندهم والبطّيخ من التجين؛ خاصة إذا انشقّت الرّمّانة، وتصدّعت البطيخة، وإذا انكسرت جَوزةٌ ولوزةٌ، وتينة، وموزةٌ، ولا يدفع بعضهم إلى بعض وردةً واحدة، ولا نَبقةً واحدةً، ولا لوزة واحدة، للتسفيل، ولِما يقع فيه من التمثيل. ولا تقول متظرّفة لأخرى هذه وردتكِ، ولوزتكِ، ونبقتُكِ، وجوزتك، ورمانتك،

ذكر زيهم في الشراب

وتينتك، وذلك عندهم أجلّ العيوب، تشمئزّ منه القلوب، ويَجتنبونه أشدّ الاجتناب، ويكتئبون له أمرَّ اكتئابٍ. وكذلك لا تقول واحدةٌ لأخرى: ارفعي رجلكِ، ولا ذيلك، ولا اقعُدي عليه، ولا أدخليه وأخرجيه، ولا أصعديه، ولا صُبيّه، ولا انفُخيه، ولا سيّبي، ولا سرّحي، ولا شيلي، ولا انتحي، ولا اعملي، ولا قد عملتِ، ويَجتنبون ذلك وما أشبهه من الكلام، مما كثُر استعماله في خِطاب العوامّ، ولا يَكادون يلفظون به، ولا يُطيف بألسنتهم، ولا يُجيزونه في شيء من مُخاطبتهم، ويَحذرونه، ويتوقّون منه، ويَعيبون المتكلّم به، ويُعرضون عنه. ذكر زيهم في الشراب الذي يتخيّره ذوو الألباب أما ما عليه الظرفاء، وأهل المروّة والأدباء، فإنهم لا يشربون من الشراب أسوده، ولا يشربون إلا أجوده، مثل المشمّس، والزّبيبي، والمعسَّل، والمطبوخ، والطلاء، والمعدَّل، ولا يقربون ما لاءمه الخثَرُ، ولا ما خالطه الكَدَر؛ ولا يشربون إلا ما صفا من الشراب، ويتجاللون عن المسحوري الدوشاب، إذ هو من شراب العامّة والرَّعاع، وشُرب السوقة والأتباع؛ ولا يتنقّلون على شرابهم بالأشياء الزَّذْلة مثل الباقلي والبلّوط، والبُسر المقلوّ، والقَريثاء، والحنطة، والغُبيراء، والشاهْبَلوط، والخُرنوب الشامي، وما أشبه من الأنفال. وأكثر ما يتنقّل به المتظرّفون، ويعبث به المُتزيّكون، مملوح البُندق، ومقشَّر الفستق، والملح النِّفطي، والعود الهندي، والطين الخراساني، والملح

ذكر الأشياء التي يتطير الظرفاء من إهدائها

الصَّنعاني، والسَّفرجل البلخي، والتفّاح الشامي، ويتّخذون من كل شيء من الآنية أسراه، ومن الزجاج أجوده وأنقاه. وأما ما اجتنبوه من الهدايا، وتخوّفوا من هديته البَلايا، فأشياء يكثُرُ بها العَدد، ويطول بها الأمد؛ وأنا أذكر من يسيرها ما يُستدلّ به على كثيرها. ذكر الأشياء التي يتطير الظرفاء من إهدائها ويرغبون عنها لشناعة أسمائها فمن ذلك الأُترجّ، والسفرجل، والشقائق، والسوسن، والنَّمّام، وأطباق الخِلاف، والغَرَب، والبان. فأما الأُترجّ فإن باطنه خلاف ظاهره، وهو حسن الظاهر، حامض

البطن، طيّب الرائحة، مختلف الطعم، ولذلك يقول فيه الشاعر: أهدى له أحبابه أُترجّةً، ... فبكى، وأشفق من عِيافة زاجر خاف التلوّن، إذ أتته، لأنها ... لونان باطنها خلاف الظاهر فَرِقَ المتيَّم من حموضة لبّها ... واللون زيّنها لعين الناظر وأما السفرجل فلأنّ فيه اسم السفر، وقد قال فيه الشاعر: مُتحفي بالسفرجل، ... لا أريد السفرجلا! اسمه، لو عرفتَهُ، ... سفرٌ جَلَّ، فاعتلى! وقال آخر: أهدت إليه سفرجلاً، فتطيّرا ... منه وظلّ مُتيَّماً، مستعبرا خاف الفِراق، لأن أول اسمه ... سفرٌ فحقّ له بأن يتطيّرا وأما الشقائق، فلشطْر اسمه، ولقول الشاعر فيه: لا تراني طَوال ده ... ري أهوى الشقائقا إن يكن يشبه الخدو ... د، فنصف اسمه شَقا وقال آخر: لا يحب الشقائقا ... كل من كان عاشقا إن نصف اسمه شقا ... ءٌ، إذا فُهتَ ناطقا وأما السوسن، فلأن اسمه السوء، وقال فيه الشاعر: سُوسنةٌ أعطيتنيها، وما ... كنتِ بإعطائكها محسنهْ شطر اسمها سوءٌ، فإن جئت بال ... آخر منها، فهو سوءٌ سَنَهْ

وأنتِ إن هاجرتني ساعةً، ... قلتُ: أتتُ من قبل السوسنهْ وقال آخر: يا ذا الذي أهدى لنا سوسنا، ... وما كنتَ في أهدائه محسنا أوله سوءٌ، فقد ساءني، ... يا ليت أني لم أر السوسنا وأما الياسمين فلمبدأِ اسمه تُطُيِّر منه، ولقول الشاعر: إني لأذكر بالريحان رائحةً ... منها، فَلِلْقَلب بالريحان إيناسُ وأمنح الياسمين البُغض من حذري ... لليأس، إذ كان في بعض اسمه ياسُ وقال آخر: أبصرتُه في المنام ناولني ... من كفّه الياسَمين والغَرَبا فكان يأسٌ في الياسمين، وفي الغ ... رب اغترابٌ، يا شؤم ما وهبا وقال آخر: أهدى حبيبي ياسميناً، فبي ... من شِرّةِ الطيرةِ وسواسُ أراد أن يوئِسَ من وصله، ... إذ كان في شَطر اسمه الياسُ وأما النمّام فلشناعة اسمه، وقول الشاعر فيه: حيّتُها بتحيّةٍ في مجلسٍ، ... بقضيب نمّام من الريحانِ فتطيّرت منه، وقالت: أقصّه! ... لا تقربَنّ مضيِّع الكِتمان وأما الآس، فقد تطيّر منه قومٌ، وزعموا أنه إياس، وتفاءل به آخرون، وزعموا أنه مؤاساةٌ وأساسٌ، قال الشاعر:

ما أحسن الآس في عيني وأطيبه، ... لولا اتصال حروف الآس بالياسِ ما ضرّ من كان أهدى الآس من يده ... لو قال: ريحانةٌ، يُعنى به الآسي لولا الذي أتّقي من طيرتي بهما، ... ما فارقا أبداً تاجاً على رأسي كذلك تطيّروا من الخلاف لموضع الخُلف؛ والغَرَب للاغتراب، والبان للتبايُن. ورُوي عن كُثيّر عزّه أنه بلغه أنها عليلةٌ، وأنها تتشوّقه، فخرج يُريدها، وهي بمصر، فرأى غُراباً ساقطاً على بانةٍ ينتف ريشه، ويُطايره على رأسه، فتطيّر من ذلك، وأتى عرّافاً من نهدٍ أخبره بما رأى فآيسه من حياتها، وأخبره بوفاتها. فلما وصل إلى مصر خُبّر بموتها، فأنشأ يقول: فما أعيف النهديّ، لا درّ دَرُّه، ... وأعلمه بالزجر، لا عَزّ ناصره رأيتُ غراباً ساقطاً فوق بانةٍ، ... يُنتِّف أعلى ريشه، ويُطايره فأما غرابٌ، فاغترابٌ من الهوى، ... وبانٌ فبينٌ من حبيبٍ تعاشره وقال أبو الشيص: أشاقَك، والليل ملقي الجِران، ... غُرابٌ ينوح على غُضن بان؟ أحصُّ الجناح، شديد الصياح، ... يُبَكّي بعينين ما تدمعانِ وفي نَعَبات الغراب اغترابٌ، ... وفي البان بَيْنٌ بعيد التداني

وقال بعض الأعراب: وكنتُ قدِ اندملتُ فهاج شوقي ... بكاء حمامتين تَجاوبانِ تجاوبتا بلحنٍ أعجمي، ... على غُصنين من غَرَبٍ وبانِ فقلتُ لصاحبيّ، وكنتُ أحرى ... بزجر الطير: ماذا تُخبرانِ فقالا: الدار جامعةٌ بسُعدى، ... فقلت: بَلَ أنتما متيمِّنانِ وكان البان أن بانت سُليمى، ... وفي الغَرَب اغترابٌ غير وانِ وقال نُصيب: ألا راعَ قلبي من سَلامة أنْ غدا ... غُرابٌ على غصنٍ من البان يَنعبُ فأزجرُ ذاك البان بيناً مُواشكاً، ... وغثربة دارٍ ما تَدانى فيصقُبُ وقد استحسنوا هدايا كثيرة، وتفاءلوا فيها بقول الشاعر، وإن كان بعضها مما ذكرناه أنهم لا يتهادَونه من طريق الظرف، واجتنبوه لعلة التسفيل، وأحبوه من حُسن التفوّل، فمن ذلك الرمان، وهو مما ذكرناه أنهم لا يتهادونه لما فيه من التسفيل وما يقع فيه من التمثيل، وكذلك الشاهَلوج، والنَّبَق، والورد، والبنفسج؛ فأما الرمان فقد قال فيه الشاعر: أهدت إليه بظَرفها رمّاناً، ... تُنبيه أنّ وِصالها قد آنا قال الفتى لمّا رآه تَفوُّلاً، ... وَصْلٌ يكون متمَّماً أحيانا رمَّ يَرُمّ تشعَثي بوِصالها، ... لقد التفوّل صادقاً قد كانا وأما الشاهَلُّوج، فهو مما فيه النوى، وقد تهاداه قومٌ لموضع تَفَوُّل الشاعر به إذ يقول:

أهدت إليه شاهَلُّوجا، ... تُبيه أنْ لو جاء كان وَلوجا فمضى على فأل الهدية جاسراً، ... عَمْداً، فصار مُداخِلاً خِرّيجا وأما النَّبقُ، فهو يُستقبَل، وقد قال فيه الشاعر: أيا أحسننا خُلقاً، ... ومن فات الوَرى سَبقا تفاءلْتَ بأنْ تبقى، ... فأهديتَ لنا النّبْقا فأبقاك إلهُ النا ... س ما سرّك أن تبقى وأشقى الله شانيك، ... وحاشى لك أن تَشْقى وأما البنفسج أيضاً، فقد قال فيه الشاعر: أهدتَ إليه بنفسجاً يُسليه، ... تُنبيهِ أنّ بنفسها تفديه فارتاح بعد صَبابةٍ وكآبةٍ، ... ورَجا لحُسن الظنّ أن تُدنيه وأما الخوخ، فقد أطنبوا في وصفه، وأكثروا من مدحه، وزعموا أنه أشبه شيءٍ بالخدود من التفّاح، وأقرب شبهاً بالوَجنات المِلاح، لأنه يُشاركها في البَياض والسُّمرة، والأدمة والصُّفرة، والتوريد والحمرة، والزَّغَب الليّن البَشَرة، وهو أطيب ملثَمٍ وأعذب مقبَّل، وأذكى مشمٍّ، وهو عند طائفةٍ من أهل الهوى أجلُّ مرتبةً من التُّفّاح لولا ما خالطه من النوى الذي يشمئزّ منه الظرفاء، ويَشناه الأدباء، وأنه مفقودٌ، والتفاح موجود، وأما الورد، فقد تفاءل به كثيرٌ من الظرفاء، وذكره كثير من الشعراء؛ أنشدني بعض الأدباء:

ما قيل في صفة الورد

أهدى له وَرداً، فأخبر أنه ... في الواردين، ولم يكن وَرّادا فارتاح من فَرَح بطيب وفوده، ... وعدا له وَرْدُ الحياء، فزادا وليس عندهم في الروض شيءٌ يشبهه، ولا في عُروض الروض ما يُدرِكه، وقد ذكرتُ ذلك في بابٍ لطيفٍ لرغبتي في اقتصاد التأليف، فقِفْ عليه، واعرِفه. ما قيل في صفة الورد ومحلّه من قلوب ذوي الوجد اعلم أن أهل الظرف قد أكثروا من تفصيل الورد، ومدحَته الشعراء، وقد أطنبوا فيه، وأفرطوا في نعت حُسنه، واشتهوا رائحته، حتى شبّهوه بالوَجَنات الحمر، وقايَسوه إلى الخمر، ومثّلوه بالأشياء المِلاح، كفعلهم بالتفاح، وهما عندهم في مرتبة واحدة، قال العباس بن الأحنف: أُبغضُ الآسَ والخِلاف جميعاً، ... لمكان الخلاف واليأس منها وأحبّ التفّاح والوَرد حتى ... لو وَزَنتيه بالجبال وَزَنْها أشبها ريقها ونكهة فيها، ... فهما يُبئان بالطيب عنها وقال آخر: عشيّةَ حيّاني بوَردٍ، كأنه ... خدودٌ أضيفَت بعضهن إلى بعض وولّى، وفعل الخمر في حركاته، ... فِعال نسيم الريح بالغُصُنّ

وقال آخر: يضحك الوَردُ إلى ور ... دٍ بخَدَّيك مُقيمِ جَمعا شكلين وَفقي ... نِ لألحاظ النديمِ غير أنّ المِسك أولى ... بكِ في كلّ نسيمِ سيعلم الوردُ أني غير ذاكره، ... إذا الخُدود أعارت حُسنها بصري كم بينَ وردٍ مُقيمٍ في أماكنه، ... وبين وَرْدٍ قليل المَكْثِ في الشجرِ هذا جِنيٌّ مَصونٌ في مَنابته، ... وذاك مُمتهَنٌ في كل محتضَرِ وقال عبد الله بن عبد الله بن طاهر: مرّت، وفي كفّها وردٌ، فقلتُ لها ... حَيِّي محبَّك! قالت: عنه لي شُغُلُ فقلت: بُخلاً، فقالت: قد وهبتُ له ... وَرداً جَنيّاً، وذا بالكفّ يُبتذَلُ إنْ كان لم يَجنه منه أنامله، ... فقد جَنَته له الألحاظ والمُقَلُ وقال آخر: وَرْدُ خدّيك مقيمُ، ... أبداً، ليس يَريم أما منه في نعيمٍ، ... ما بدا منه نعيم وقال آخر: تمتّعْ من الورد القليل بقاؤه، ... فإنك لم يفجعكَ إلا فناؤه وودّعه بالتقبيل والشمّ والبُكا، ... وداعَ حبيبٍ بعد حولٍ لقاؤه

وقد تطيّر منه آخرون، وسمّوه الغدّار، وغضّوا دونه الأبصار، لقلّة لَبثه، ويسير مكثه، وسُرعة زواله، وتغيُّره، وانتقاله. وخُبِّرت أن قَينةً أهدت إلى ربيطٍ لها غصن أسٍ، فسُرَّ به، وأنشأ يقول: والآسُ يبقى، وإن طال الزمان به، ... والورد يفنى، ولا يبقى على الزمن وأهدت له ورداً تطيّر منه، وقال: أنتِ وردٌ وبقاءُ ال ... ورد شهرٌ لا شُهورُ يذهب الورد، ويَفنى، ... وإلى الآس نصيرُ فكتب إليه بعض إخوانه: سُرّ بالآس الذي أهدت له، ... ثم لما أهدَتِ الورد جَزِعْ ذاك أنّ الآسَ باقٍ دائمٌ، ... ولأن الورد حيناً يَنقطعْ وقال بعض الشعراء: وصلتْ، وكان الورد أول ما بدا، ... فلمّا تولّى الورد ولّت مع الوردِ فيا ليت أن الورد أسٌ فإنه ... يدوم على الحالين في الحرّ والبردِ وفضائل الورد أكثر من أن يُحصى عددها، أو يُبلَغ أمدها، وقد أفردتُ لذلك كتاباً بوّبته أبواباً، وترجمته بكتاب العِقد، وشحنتُه بفضل الورد، فأغنى ما في ذلك الكتاب عن إعادة ذكره في هذا الباب. والتفاح أعظم عندهم قدراً، واجلّ أمراً، وأعلى درجة، وأرفع رتبة لسلامته من البياض والتوريد، وقد ذكرتُ فضائل التفاح في كتاب التفاحة في غير باب، فأغنى عن إعادته في هذا الكتاب، غير أني أذكر في كتابنا هذا جملة مما وصفتُه به الأدباء ومدحته به الشعراء، ولست أذكر في عرض

ذكر التفاح وما كره الأدباء من أكله

هذا الكتاب شيئاً مما في ذلك الكتاب لئلا يبتلى بشي من المحن، فينسب إلى ضيق العَطَن، وبالله التوفيق. ذكر التفاح وما كره الأدباء من أكله اعلم أن التفاح عن ذوي الظرف والعشّاق، وذوي الاشتياق، لا يعدله شيء من الثمر، ولا النور والزَّهر. كيف وبه تهدأ أشجانهم، وبوروده تسكن أحزانهم، وعنده يضعون أسرارهم، وإليه يبدون أخبارهم، إذ كان عندهم بمنزلة الحبيب والأنيس، وبموضع الصاحب والجليس، وليس في هداياهم ما يُعادله، ولا في ألطافهم ما يُشاكله، لغلبة شَبَهه بالخدود المورَّدة، والوجنات المُضرَّجة، وهو عندهم رهينة أحبابهم، وتذكُّر أصحابهم، إلى وردته يتطرّبون، وبرؤيته يستبشرون، ولهم عند نظرهم إليه أنينٌ، وعند استنشاق رائحته حنين، حتى إن أحدهم، إذا غلب عليه القلق، وأزعجه الأرق، لم يكن له مُعوَّلٌ إلا عليه، ولا مُشتكىً إلا إليه. وأندشني بعض أهل الأدب: لمّا نأى عن مجلسي وجهه، ... ودارتِ الكأسُ بمجراها صيّرتُهُ تفاحةً بيننا، ... إذا ذكرناه شممناها واهاً لها تفاحةً أشبهَت ... خديه في بهجتها، واها وقال الحَكَمي: تفاحةٌ جاءت، وقد عُلّقتْ، ... ورُكّبَت بالورد والآس

أشرب من كأسي على ريحها، ... بالرغم من أهلي وجُلاّسي وقال آخر: تفاحةٌ أُهديت، ظَرفاً، معضَّضةً، ... وقد جرى ماءٌ ثغري في ضواحيها بيضاء في حمرةٍ عُلّت بغاليةٍ، ... كأنما جُنِيَت من خدّ مُهديها قد أتحفتني بها في النوم جاريةٌ، ... رُوحي من السوء والأسقام تفديها لو كنتُ ميتاً، ونادتني بنغمتها ... لخِلتُ للصوت من لَحْدي ألبّيها وقال آخر: حيّاه من يهوى بتفاحةٍ، ... قد عضّ أعلاها بأسنانه جاد، ولم يبخل بها، بعدما ... عذّبه دهراً بهِجرانه وقال آخر: تفاحةٌ تأكل تفاحةً، ... يا ليتني كنتُ الذي يوكَلُ فألثم الثغر لكي أشتفي ... بعلّة الأكل ولا أُوكَلُ وقال آخر: تفاحةٌ من عند تفاحةٍ ... قريبةُ العهد بكفّيها أحبِب بها تفاحةً أشبهَتْ ... حمرتها حُمرة خدّيها وقال آخر: تفاحةٌ حمراءُ منقوشةٌ ... ركّبتها في خُضرة الآسِ فلم تزل في كفّ ندماننا ... تدور من كأسٍ إلى كأسِ

وقال آخر: تفاحة من عند تفاحةٍ ... ضمّخها المهدي لها بالعبيرْ يا مُهديَ الحسرة يا قاتلي ... أهديتَ لي والله قَصمَ الظهورْ قد كنتُ في بحرين من حبّكم ... فصرتُ مذ أُهديتها في بُحورْ وقال آخر: فلو أني اشتكيتُ لأجل حُزني ... وما ألقاه في دار الخُلودِ وكان طعامنا فيها جَنيّاً ... من التفاح والورد النضيدِ لقلتُ دعوا لها حِصَصي فإني ... أشبّهها بألوان الخدودِ وقال آخر: حيّاه مَن يهوى بتفاحةٍ ... قد جُنيَت باللحظ من خدّهِ معضوضةٍ باللحظ محفوفةٍ ... بعسكر الآجال من صدّهِ لو شمّها الخلْق لماتوا معاً ... لعُسر ما يلقاه من جُهدهِ وقد مضى من هذا الباب مقنِعٌ، وهو كثير مُتّسعٌ، ولهم أشياء من زيّهم جليلةٌ، ونُتَفٌ من مناقبهم نبيلةٌ، أنا أصفها لك في موضعها، وأقطعها من مقاطعها، منها السِّواك الذي صيّروه كأحد الفُروض الواجبة والأمور الإرادية، وقد شرحتُ فيه باباً لتقف عليه، إن شاء الله.

ما جاء في السواك

ما جاء في السواك وما قيل في عود الأراك اعلم أن من زيّ الظرفاء، وأهل المروّة والأدباء، وأرباب الديانة والترفُّل، استعمال السِّواك والتسوُّك، فهو أنبل النظافة، وأحسن الطهارة، وأكمل المُروّة، ويرغب فيه أهل الظرف والفُتوّة، وله خِصالٌ مستحسنةٌ، وهو أيضاً من السُّنّة. وقد روي في الخبر المأثور عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " طهِّروا أفواهك فإنها مسالكُ التسبيح ". وعن أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، أنه قال: " السواك مَطْهرةٌ للفم مرضاةٌ للرب ". وحدّثنا أبي قال: حدّثنا ابن شَيبة عن عبد الله بن إدريس عن محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن عمر عن عائشة قالت: " قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، السواك مَطْهرةٌ للفم مرضاةٌ للربّ ". وعن علي بن أبي طالب، عليه السلام: أن النبي، صلى الله عليه وسلم، كان إذا قام من الليل تسوّك. وعن أبي المَليح عن واثِلة بن الأسقَع قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: " لقد أمرتُ بالسواك، حتى حسبتُ أن يكون يُكتب عليّ ". وعن ابن أبي مُليكة قال: عائشة تقول: " مات رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في بيتي، وليلتي، ويومي، وبين سَحْري ونحري، وخلطْتُ ريقه بريقي. فقلت: يا أمّ المؤمنين، وكيف خَلَطت ريقه بريقكِ؟ قالت: دخل عبد الرحمن

بن أبي بكر وبيده سواكٌ، فنظر إليه النبي، صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: قد اشتهى السواك، فأخذتُ سِواكه فمضغته ثم أعطيته، فاستاك، عليه السلام، فلم يشغل النبي، صلى الله عليه وسلم، نزول الموت عن طلب السواك، إذ هو أظرف ما استُعمل، وأنبل ما استُحسن، لأنه يُبيّض الأسنان، ويُصفّي الأذهان، ويُطيّب النكهة، ويطفئ المِرّة، ويُنشّف البلغم، ويَشُدّ اللثّة، ويُقوّي العُمور، ويجلو البصر، ويُحدّ النظر، ويفتح السُّدَدَ، ويُشهّي الطعام. وقد استعملوا أمر المَساويك الأراك وقصب السكّر، وأصول السوس، وعود المَحلَب، وعُروق الإذخِرِ، وعُقَد العاقِرْقَرحا، وكلما أغربوا في اتخاذ ذلك كان أكمل لظَرفهم، وأبلغ في معاني وصفهم. وللمَساويك أوقاتٌ معلوماتٌ، ومواضع محدوداتٌ، لا تُستعمل في غير أوقاتها، ولا يُتجاوز بها عن ساعاتها، فجائزٌ استعمالها بالغَدَوات والعَشيّات، وأوقات الظهيرات، وقبل الغَداة، وبعد الصلاة، وعلى الريق، وعند النوم، وفي نهار الصوم. ولا يجوز السواك عندهم في موطن شتّى، منها: الخَلاء، والحمّام، وقارعة الطريق، ومَحفِل الناس؛ ولا يَستاك أحدهم وهو قائمٌ، ولا متّكئٌ، ولا نائمٌ، ولا حيث يراه أحدٌ، ولا يَستاك ويتكلّم. والسواك في الخَلاء والحَمّام من فِعل السِّفلة والعوامّ، وهو أيضاً يُرخي اللثّة، ويُغيّر النكهة، وليس ذلك عندهم من فِعل الأدباء، ولا من فعل ذوي المُروّة والظرفاء. وقد اتخذ أهل الظرف للمساويك طُسوتاً لِطافاً، وأباريق الشَّبَه

الخِفاف، وكراسي الأبنوس المصدَّفة، والخيزران المُشبّكة، والأحقاق المخروطة، والمِسواكْدَانات المدهونة، والسَّنونات المعمولة، ووقّتوا له الأوقات المعلومة، التي جعلوها كالفرائض المكتوبة، والسُّنن المفروضة، يتأهّبون لوقته. ولا يَستعملون رأس المسواك مدةً طويلة، وذلك عندهم من الأفعال الذليلة، ويتّخذون لها لفائف الحَزّ، وعصائب القَزّ، ليصونوها بذلك عن الدَّنس، ويوقّوها من الغُبار والنجَس، وقد تهادى أيضاً أهلُ الظرف المَساويك، وأقاموها مقام الرهينة، والتذكرة، والوَديعة، والقُبلة، كما فعلوا باللُّبان الممضوغ، والتفاح المَعضوض. وقال العبّاس بن الأحنف: طال ليلي بجانب المَيدان ... مع جَواري المهديّ والخيزرانِ أرسلَت باللُّبان قد مضغَته ... بين تفّاحتين في ريحانِ وبمسواكها الذي اختاره الل ... هـ لفيها من طيّب الأغصانِ فكأني وجدتُ ريحاً من الفِرْ ... دوس فاحَت من ريح ذاك اللُّبانِ وقال أيضاً: ولّما وهبتُم خاتماً فرددتُه ... لمعرفتي أنّ الخَواتيم تقْطَعُ فأهدي سِواكاً مسّ فاكِ فإنه ... يُسكِّن ناراً في جَوى القلب تلذَعُ وقال بشار بن برد العُقيلي يذكر ذلك أيضاً: تسوّكتْ لي بمسواكٍ لتُعلِمني ... ما طعم فيها وما همّت بإصلاحِ لما أتاني على المِسواك ريقتُها ... مَثلوجةً، كزُلال الماء بالراحِ

قبّلتُ ما مسّ فاها ثم قُلتُ له: ... يا ليتني كنتُ ذا المسواك يا صاحِ وقال أيضاً: يا أطيب الناس ريقاً غير مختَبَرٍ ... لولا شهادةُ أطراف المَساويكِ إن الذي راحَ مَغبوطاً بنعمته ... كفٌّ تَمَسُّكِ أو كفٌّ تُعاطيكِ ولو وهبتِ لنا يوماً نعيش به ... أحييتِ نفساً وكانت من مَساعيكِ يا رحمة الله حُلّي في منازلنا ... حسبي برائحة الفِردوس من فِيكِ وقال أيضاً: يطيبُ مِسواكُها من طيبِ نكهتها ... وإن ألمَّ بجِلدٍ جِلدّها طابا وقال آخر: وبرّاقةٍ تفترُّ عن مُتبسَّمٍ ... كنور الأقاحي طيّب المُتذَوَّقِ إذا مضغَت بعد امتناعٍ من الضُّحى ... أنابيب عيدان الأراكِ المُخلَّقِ سَقَتْ شُعَبَ المِسواك ماء غَمامةٍ ... فضيضاً بممزوج العُقار المُصفَّقِ وقال جرير: ما استوصفَ الناسُ من شيء يَرُوقُهُمُ ... إلا أرى أُمَّ نوحٍ فوق ما وصفوا كأنها مُزنةٌ غَرّاءُ رائحةٌ ... أو دُرّةٌ لا يُواري لونَها الصَّدفُ مكسورة الثدْي في لُبٍّ يُزيِّنها ... وفي المَناصِبِ من أنيابها عَجَفُ

تسقي غَمام ندى المِسواكِ ريقتَها ... كما تضمّن ماءَ المُزنةِ الرَّصَفُ وقال الفرزدق: دَعَونَ بقُضبان الأراكِ، التي جَنى ... لها الركب من نَعمان أيام عَرَّفوا فمُجْنَ به عَذْبَ الرُّضاب غُروبُهُ ... رِقاقٌ وأعلى حيث رُكِّبنَ أعجفُ وقال ذو الرُّمّة: جرى الإسْحِلُ الأحوى بطفلٍ مُطرَّفٍ ... على الغُرّ من أنيابها، فهْيَ نُصَّعُ وقال آخر: نَظَرَت بعَينَيْ شادنٍ وتبسَّمَتْ ... بظمياء عن غُرٍّ لهنّ غُروبُ جرى الإسحِلُ الأحوى عليهنّ أو جرى ... عليهنَّ من ماء الأراك قَضيبُ وقال جرير: يجري السواك على أغرَّ كأنه ... بَرَدٌ تحدّر من مُتون غَمامِ اقرأ السلام على سُعادَ وقُل لها ... يوماً تَرُدّ رسولنا بسلامِ

وقال أيضاً: إنّ الشقاء وإن ضَنَت بنائلها ... فرعُ البَشام الذي تجلو به البَرَدا ما في فؤادِكَ من داءٍ يُخامِره ... إلا التي لو رآها راهبٌ سجَدَا وقال جميل بن مَعْمر: بثغرٍ قد سقين المِسك منه ... مَساويك البَشام ومن غُروبِ ومن مجرى غوارب أُقحُوانٍ ... شَتيتِ النبتِ في عامٍ خَصيبِ وقال آخر: وغادين بالقُضبان كلَّ مُفّلَّجٍ ... به الظَّلْمُ لم يُفللْ لهنّ غُروبُ رُضاباً كطعم الشَّهد يجلو مُتونَه ... من الأيك أو غضِّ البَشام قضيبُ أولئك لولاهنّ ما سُقتُ نِضوةً ... ولا قابلتني في البلاد جَنوبُ وقال أيضاً: إذا الريح من نحو الشمال تنسَّمَت ... وَجَدتُ لريّاها على كَبدي بَرْدا تخيّرتُ من نعمان عودَ أراكةٍ ... لهندٍ ولكن من يُبلِّغه هِندا وأنشدني أبو علي الحسن بن عُليل الغنزيّ قال: أنشدني الزبير بن بكّار قال: أنشدني أبو مُسلم الكلابي لمهدي بن الملوَّح الكِلابي: تَبيتُ ليلى وقد كنا نُبَخِّلها، ... قالت: سقى الله ذاك المَرْبَعَ الجَدْبا يا حبّذا راكباً كنّا نَهَشّ له، ... يُهدي لنا من أراكِ الموسى القُضْبا

وقال القَطامي: منعَّمةٌ تَجلو بخَوطِ أراكةٍ ... ذرى بَرَدٍ عَذبٍ شَتيتِ المناصبِ كأنّ فضيضاً من غَريضِ غَمامةٍ ... على ظمأِ جادت به أمُّ غالبِ لمُستهلِكٍ قد كاد من شِدّة الهوى ... يموت ومن طول العِدات الكَواذبِ وقال بعض الأعراب، ويُروى للأُمَيلس: منعَّمةٌ هيفاءُ عَجزاءُ خَدْلَةٌ ... تمسُّ مَثاني شعرها قَصَباً جَزْلا وتجلو بمِسواك الأراكِ مُفلَّجاً ... عِذابَ الثنايا، لا قِصاراً ولا ثُعْلا وقال العَطَوي: عندكنّ الفؤاد والقلب رَهْنٌ ... في يدي ذاتِ دُمْلُجٍ ووِشاحِ وثَنايا رقيقةٌ كغديرٍ ... من مُدامِ وروضةٌ من أقاحِ فمساويكها بها كلَّ يومٍ ... في رياضٍ من اصطباحِ الراحِ

وقال عليّ بن الجَهم: حَجّوا مواليكِ يا بُرهانُ واعتمروا ... وقد أتتكِ الهدايا من مَواليكِ فأتحفيني مما أتحفوكِ به ... ولا تكن تحفتي غير المَساويكِ ولست أرضاه حتى ترسلين به ... مما جلا الثغر أو ما جال في فيكِ ولأبي الطيّب في ذلك: شهيدي على طيب اللِّثات وريقها ... أنابيبُ عيدان الأراك المُفرَّعِ كأنّ حَباب الريق حين تمُجُّهُ ... على شُعَبِ المِسواك غير ممزَّعِ رَشاشُ ذكيِّ المسك شيبَ بعَنبرٍ ... أو الراح من صَفوِ العُقارِ المُشعشَعِ وقال مروان بن أبي حَفصة: شِفاءُ الصدى ماءُ المساويك والذي اج ... تنى الريقَ من خَمْلٍ ينازلها طِفلُ فيا حبّذا ذاك السواك وحبّذا ... به البَرَد العَذبُ الغَريضُ الذي يجلو وأحسن محمد بن عبد الله بن طاهر حيث يقول: وإذا سألتُك بعض ريقكِ قلت لي ... أخشى عُقوبةَ مالكِ الأملاكِ أيجوز عندكِ أن يكون مُتَيَّمٌ ... يَهواكِ عندكِ دون عودِ أراكِ ماذا عليكِ، جُعلتُ قبلكِ في الثرى، ... من أن أكون خليفةَ المِسواكِ

صفة ذوي التظرف ومباينتهم لذوي التكلف

وهذا باب تطَنَّبَ فيه الشعراء، ويتّسع لها القول في ذكره، وقد مضى من بعضه ما أغنى عن شرح كله، وأنا أصف لك جُملةً من جميل مناقبهم، وما يُؤثَر من حُسن مذاهبهم، إن شاء الله تعالى. صفة ذوي التظرف ومباينتهم لذوي التكلّف اعلم أن من كمال أدب الأدباء، وحُسن تظرُّف الظرفاء، صبرهم على ما تولّدت به المكارم، واجتنابهم لخسيس المآثم، وأخذهم بالشّيم السَّنيّة والأخلاق الرضيّة، وأنهم لا يُداخلون أحداً في حديثه، ولا يتطلّعون على قارٍ في كتابه، ولا يقطعون على متكلِّمٍ كلامه، ولا يستمعون على مُسِرّ سره، ولا يسألون عما وُرّي عنهم عِلمه، ولا يتكلمون فيما حُجب عنهم فهمه، يتسرّعون إلى الأمور الجليلة، ويتبطّؤون عند الأشياء الرذيلة، فهم أمراء مجالسهم، بهم يُفتح عَسِر الأغلاق، وبهم يتألّف مُتنافِر الأخلاق، تسمو إليهم الآماق، وتنثني عليهم الأعناق، ولا يطمع في عيبهم العائب، ولا يقدر على مَثالبهم الطالب، ألا ترى أنهم لا يتنخّعون، ولا يتبصّقون، ولا يتثاءبون، ولا يستنثرون، ولا يتجشّؤون، ولا ينمطّون، ولك عيبٌ عند الظرفاء، مكروه عند العلماء، وفيه حديثٌ مأثورٌ حدّثنيه عُبيد بن شريك قال: حدثنا ابن أبي مَرْيَم قال: أخبرني يحيى بن أيوب قال: أخبرني ابن عجلان عن سعيد المَقْبري عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: إن الله يحبّ العُطاس، ويكره التثاؤب، وإن أحدكم إذا قال هاها، فإن ذلك الشيطان يضحك في جَوفه.

والظرفاء لا يتثاءبون، ولا يتمطّون، ولا يوقّعون أكفّهم، ولا يُشبّكون أصابعهم، ولا يمدّون أرجلهم، ولا يحكّون أجسادهم، ولا يمسّون آنافهم، خاصةً إذا كان أحدهم بين يدي خليله، أو ربيطه، أو حبيبه، أو من يحتشمه، ومن يُكرمه. ولا يدخل أحدهم الخلاء من حيث يراه أحدٌ، ولا يَبول بين يدي أحدٍ. وليس من زيّهم الإقعاء في الجِلسة، ولا السرعة في المِشية، ولا الالتفاف في طريقٍ قصدوه، ولا الرجوع في طريق سَلَكوه. ولا ينفضون الغُبار عن أرجلهم في المواضع المكنوسة، ولا يستريحون في الأماكن المرشوشة، ولا يجلسون في مجلس فينتقلون منه، ولا يقعدون بحيث يُقامون عنه، ولا يشربون ماء الأحباب، ولا الماء في دكاكين الشراب، ولا ماء المساجد والسبيل، وذلك مُشنّى عند ذوي العقول، ولا يدخلون دكّان هرّاس، ولا دكّان روّاس. ولا يجتازون بدُكّان مرّاق، ولا يأكلون شيئاً مما يُتخذ في الأسواق، ولا يأكلون على قارعة الطريق، ولا في مسجد، ولا في سوق، وفي ذلك حديثٌ مأثورٌ، وخَبرٌ مشهورٌ، حدّثنيه أحمد بن الهيثم المُعدَّل قال: حدّثني سهل بن نصر وإسحاق بن المنذر قالا: حدّثنا محمد بن الفُرات قال: حدثني سعيد بن لُقمان بن عبد الرحمن الأنصاري عن أبي هريرة عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: " الأكل في السوق دَناءةٌ، والظريف لا يأخذ شَعْره في دُكّان حجّام، ولا يدخُل بغير مِئزرٍ إلى الحمّام ". وقد حدثني أحمد بن محمد بن غالب، صاحب الخليل قال: حدثني أحمد بن

عبد الله بن هَشيم عن مُغيرة عن إبراهيم قال: النظر في مرآة الحجّام دناءةٌ. وحدثنا أحمد بن محمد بن غالب قال: حدثنا إسماعيل بن محمد بن راشد بن سعيد عن عِكرمة عن ابن عباس قال: من قلّة مُرُوّة الرجل نظره في مرآة الحجّام، واطلاعه في بيت الحائك. وقد ينبغي للظريف أن يدخل الحمّام على خَلوةٍ، لئلا ينظر فيه إلى سَوءةٍ، ولا يمدّ عينه إلى أحد، ولا يُعلّق ثوبه على وتد، ولا يُدلّي رجله في البئر التي ينصبّ إليها الماء، فإن ذلك مما يفعله الأدنياء، ولا يَدلُك يديه بخرقةٍ، فإن ذلك مما يستعمله السخفاء، ولا يتمرّغ على حرارة أرض الحمّام، فإن ذلك مما يفعله سِفلة العوامّ، بل ينبغي له أن يَدخله مُتّزراً، ويقعد فيه معتزلاً، ولا يقعد مستوفزاً على رجله، فإن ذلك طَعْن على عقله، ولا يميل مضطجعاً، بل ينتصب متربعاً، حتى إذا نضب العرق من بدنه، وتحدّر على جسده، وكان عرقه بين الكثير والقليل، نشّفه عن بدنه بمنديلٍ، ثم دعا لرأسه بالغَسول، والأُشنان، فإن كان من أهل المُرُوّات والنعم، وأهل البُيُوتات والقدر ممن لا يُنسب في فعله إلى شيء ليس من شكله، فليبتدئ دخوله الحمّام بالإمساك عن الكلام، والتجرّع من الماء الحارّ ثلاث جُرعٍ، وليقعد للعرق فوق نِطْعِ، حتى إذا عرق بدنه، وجمع عرقه فوزنه، وهذا الفعل لا يُصلح إلا لذي نعمةٍ، أو شريفٍ، أم متأدّب فيلسوف، وأما سائر الناس من أهل الظرف، فإنهم يُنسَبون بهذا الفعل إلى السُّخف. ولا ينبغي لظريفٍ أن يمشي بلا سراويل، ولا يتّزر بمنديلٍ، ولا يمشي

محلول الإزار، ولا مسبل الإزار، ولا يماكس في الشِّرى، ولا يركب حمار الكِرى، ولا ينزل في خراب، ولا يقبض على كِتاب، ولا يُشارط صانعاً، ولا يُصاحب وضيعاً، ولا يُشاتم رفيقاً، ولا يغتاب أحداً، ولا يذكر بسوء أخاً، ولا ينُمّ بسريرةٍ، ولا يُظهر حَبيئة، ولا يخون عهداً، ولا يُخلف وعداً، ولا يُضرّب بين اثنين، ولا يُفسد بين خليلين، ولا يسعى إلى سلطانٍ، ولا يغمز بإنسان، ولا يَهتك حُرمةً، ولا يتعرّض لسرقة، ولا يتحلّى بالكذب، ولا يستهدف للريب، ولا يجاهر بالزنى، ولا ينطق بالخَنى، ولا يُفسد حُرمة الأخ الصديق، ولا حُرمة الجار اللزيق. وأجود ما في هذا المعنى قول الأحوص بن محمد الأنصاري: قالت وقلتُ: تحرَّجي وصلي ... حبل امرئٍ بوصالكم صَبِّ صاحبْ إذاً بُعلي! فقلتُ لها: ... الغدر مني ليس من شِعبي ثِنتان لا أدنو لوصلهما: ... عِرسُ الخليل وجارة الجَنبِ أما الخليل فلستُ مُخلفه ... والجارُ أوصاني به ربّي ومن تكامل ظَرف الظريف ظهور بزّته، وظهور طيب رائحته، ونقاء درنه، ونظافة بدنه، ولا يتّسخ له ثوبٌ، ولا يَدرَن له جيب، ولا ينفتق له ذيل، ولا يُرى في دخاريصه مَيل، ولا في سَراويله ثقب، ولا يطول

له ظَفْرٌ، ولا يَكثُر له شَعر، ولا يفوح لإبطه دَفَر، ولا لبدنه غَمَر، ولا يسيل له أنف، ولا يَسود له كفّ، ولا يظهر له شُقاق، ولا يَرشَّش له بصاق، ولا يقف في مأقِه رَمَد، ولا صِوارِه زَبَد. ومن زيّهم في مُصاحبة الأودّاء، ومعاشرة الأخلاّء، حفظ العهود، وإنجاز الوعود، والدوام على الوفاء، وقلّة الرغبة في الجفاء؛ وحسن المؤاتاة لأودّائهم، والمساعدة لأخلاّئهم، والبِشر بمن لَقوا، والتفقّد لمن فقدوا، والمساعفة بأبدانهم، والمعونة بأموالهم، وتخفيف المُؤن على إخوانهم، وكفّ الأذى عن جيرانهم، والصفح عن المسيء لهم عند إساءته، ومقابلة المحسن بإحسانه، والترحيب بالصغير، والتبجيل بالكبير. وقد حدّثني محمد بن يونس القيسي قال: حدثنا يزيد بن بيان قال: حدثنا أبو الرجال عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: " ما من شابّ أكرم شيخاً عند سنّه إلا قيّض الله له من يُكرمه عند سنّه ". وقد يجب أيضاً على أهل المُرُوّة مثل الذي يجب على أهل الظرف، والفُتُوّة والأدب، لأنهما ليسا باللذاذة والقصف، ولا بالمفاخرة والحسب، وإنما هما بكمال المُرُوّة والأدب، ولن يعرف الفتى جميل مواهب الفُتُوّة، إلا بسُلوك طرائق المُرُوّة، وقد ذُكرت الفتوّة عند بعض العلماء فقال: إن الفتوة ليست بالفسق والفجور، ولكنها طعامٌ موضوعٌ، وأذىً مرفوع، ونائلٌ مبذولٌ، وبِشرٌ مقبول، وغَفافٌ معروفٌ، واجتنابٌ للقبيح، وأدبٌ ظاهرٌ، وخُلق طاهر، وتركُ مجالسة أهل الشرور، والسموُّ إلى معالي الأمور، والإحسان إلى من أساء، ومكافأة من أحسن، وقضاء حوائج الناس،

فهذه جملة من زيّهم في حُسن مناقبهم، ومستحسَن جميل مذاهبهم، ولهم أيضاً رقة الطبع، والتلطّف في كل الأمور، والمداراة، والتملّق، والتأنّي، والترفّق، ومن ذلك قولهم: من حَبّ طَبّ، أي رَفِق ودارى، ومن ذلك سُمّي الطبيبُ طبيباً لترفّقه ومداراته؛ والعرب تقول: هو طَبٌّ بالأمور، أي عالمٌ رفيقٌ؛ قال عمر بن أبي ربيعة: فأتتْها طَبّةٌ عالمةٌ ... تخلِط الجِدّ مِراراً باللعبْ ترفع الصوت إذا لانت لها ... وتراخى عند سَوراتِ الغضبْ ولهم حسن التأني فيما يُريدونه، ولطيف الحيَل فيما يحاولونه، وخفيُّ التلّطف لما يطالبونه؛ حوائجُهُم سريّةٌ، وسرائرهم مخفية، وأمورهم باطنةٌ، وحيلهم لطيفة، يُورِدون الأمور مواردها، ويُصدرونها مصادرها. ولهم فيما استحسنوا من الهدايا بينهم، والبرّ والمُلاطفة والمُكاتبة، والتُّحفة من غيرهم، ما يُستصغر؛ ومن ذلك أنهم ربما أهْدوا الأُتْرُجة الواحدة، والتفاحة الواحدة، والدَّسْتَبويَة اللطيفة، والشَّمَّامة اللطيفة، والغُصن من الريحان، والطاقة من النرجِس، والرطلَ من الشراب، والقطعة من العُود، والمَخْزَنة من الطيب، والشيء اليسير، والوَهْط الصغير، ونظير ذلك من الأشياء القليلة، الحقيرة والذليلة، التي لا قدر لها عند ذوي العقول، فيُستكثر ذلك منهم، ويُتلقّى بالقَبول، وتُستحسن هداياهم وتُستظرف، ويُفرَحُ بها وتُستظرف. ورغبة غيرهم من الناس في الأشياء الجليلة، والهدايا النبيلة، والطُّرف السريّة، والتُحف السنيّة، غير أهل الظرف، فإنهم اقتصروا على اللطف اللطيف، والبرّ الخفيف. ومن ذلك كُتُبُهم المِلاح، وألفاظهم الصحاح، التي يستعطفون بها القلوب،

ويسترون بها العيوب، ويستقيلون بها العثرات، ويستدركون بها الهفَوات، التي قد استخلصوها من بديع الحرير الصيني، ومليح المُلحَم النيسابوري، وصفيق الدَّبيقي الحَفي، ونقي التاختَج والقوهي. وتغلغلوا إلى الكتابة في ذلك بالذهب والمِسك والزعفران، والسُّكّ، واتّخذوا لها طَرائف المناديل الرِّقاق، وجِياد الزنانير الدقاق، وطيّبوها بالمِسك والذرائر، وعَنْونوها بمُتظرّفات الأمثال والنوادر، وخَتموها بالغالية المستمسِكة، وطبعوها بنُتَف الألفاظ المهلِكة؛ وقد ضُمّنَت من مَليح المُكاتبة، وطرائف المُعاتبة، وجميل المطالبة، وشكيل المداعبة، ما يُقرّبون به البعيد، ويُهوّنون بن الشديد. وقد بيّنت ذلك أحسن البيان، وشحتُه بأخصّ المعاني، ووصفتُ ما يتوصّلون به من الوسائل، وما يُضمّنونه كتبهم من الرسائل، في كتابٍ مفرَدٍ، وكلام مجرَّدٌ، ترجمته: كتاب فرح المُهَج، وجعلتُ ما فيه ذَريعةً إلى الفَرج، فأغنى عن تطويل هذا الباب، ما مرّ في ذلك الكتاب. وأنا أصف لك أيضاً في كتابنا هذا جُملة ما استحسنوه بينهم من المُكاتبة، وما استعملوه بينهم من المعاتبة، وأقصد في ذلك إلى مُداعبة الكُتّاب، ومعاتبة الأحباب، وما تعاتبوا به من الأبيات، واختاروه من المُقطّعات، وما ذكروا على العُنوانات من الكلام، وما ضَمّنوه في كتبهم من السلام، على غير نقصٍ مني لكل ما في ذلك من الأشعار، إذ كان قصدي في كلّ أبواب الكتاب إلى الاختصار. وبالله أستعين وأستكفي، وإياه أسترشد وأستهدي.

ما اختير من ألفاظ الأدباء في المكاتبات

ما اختير من ألفاظ الأدباء في المكاتبات واستُحسن من الظرفاء من مَليح المعاتبات أخبرني الوضّاح بن ثابتٍ الكاتب قال: كنتُ عند بعض الكتّاب، إذ دخلَت عليه وصيفةٌ كأنها قمر، تتثنّى في مِشيتها كأنها جانٌّ، أو كأنها غُصن بانٍ ريّان، حتى وقفتْ بين يديه، فقالت: مولاتي تقرأ عليك السلام، وتقول لك: يا أخي! جَفَوتنا من غير استحقاق للجفاء، وملتَ إلى غير مذاهب الظرفاء، وإني لم أزل واثقةً بإخائك، راجيةً لحسن وفائك. وتحقيق ظنّ مؤمَّلِكَ، أولى بك من الوقوف على تجنّيك. فقال لها: اقرئي عليها السلام، وقولي لها: يا أختي! أنا من وُدّكِ على أحسن عهدك، ومن الأمل لكِ على أضعاف ما عندك ولقد استوحشنا من فقدِكِ، فاجعلي لنا حظّاً من أُنسك. فسألتُه عنها، فقال: جاريةُ عليّ بن الجَهم. وأخبرني محمد بن إبراهيم الهمداني قال: أخبرني مولىً لمحمد بن عبد الله بن طاهر قال: قرأتُ رُقعةً لمولاي إلى بعض إخوانه: يا أخي مدَدْتَ يداً إلى المودّة مبتدئاً فشكرناك، وشفعتَ ذلك بشيء من الجَفاء فعذرناك، والرجوع إلى محمود الوَداد أولى بكَ من المُقام على مَكروه الصدّ. وكتب بعض الظرفاء إلى صديق له: أيّدك الله بوفاء الأدب من النزع إلى الجَفاء، وجعل أخرَ سخطِك موصولاً بأوّل الرضاء. وكتب بعض الأدباء إلى صديق له يستعتبه على جَفاء كان منه: ليس من تدبير من شَمَلته أُبّهة الحِكَم، وسَمَت به معالي الهِمَم، أن يعطف على عهود صديقٍ بعُقوقٍ، ولا تَضمحلّ واجبات الحقوق، ولا تُغيّره

نوب أيامه عن رعاية ذِمامه، والسلام. وكتب آخر إلى صديق له: بدأتنا بمودّةٍ عن غير خبرةٍ، وهجَرتنا من غير سببٍ يُوجِب طول الهجرة، وقد أطمعنا أوّلُك في إخائكِ، وآيسنا أخرك من وفائك، فسبحان من لو شاء كشف باليقين من الرأي عن غير سِمة الشكوك في أمرنا، فأقَمنا على ائتلافٍ، أو افترقنا على اختلافٍ، والسلام. وكتب سعيد بن حُميد إلى بعض الكتّاب: بلغني حُسن محضرك، فغير بديعٍ من فضلك، ولا غريبٍ عندي من برّك، بل قليلٌ أتّصل بكثيرٍ، وصغيرٌ لحقَ بكبيرٍ، حتى اجتمع في قلبٍ قد وُطّن لمودّتك، وعُنُقٍ قد ذلّت لطاعتك، وليس أكبر سؤلها وأعظم أرَبِها، إلا طول عمر بقاء النعمة عليك، والسلام. وكتب بعض الكتّاب إلى صديقٍ له: ما زال ما أحمَدُ من عواقب رأيك، وأُشبّه من وفائك، حتى وثَّق في ضميري من مودّتك، ما استنجدني لطاعتك؛ واستوى عليّ من موافقتك ما سهل عليّ سبيل عَتْبك، فما أسلك بغَلبة الهوى طريقاً إلا إلى رضاك، ولا أستعين بهواك منك عليك إلا كان عوناً عليّ لكَ، ولنعم المستعبد لي أنت على المحامد، واكتساب سنا الفوائد، ولذلك أقول: عليّ رقيبٌ من هواكَ يقودني ... إليكَ على الحالات في السُّخط والرضى وليس هواي حيث لا يستحقّه ... ولكن هواي حيث كان لك الهوى لساني رهينٌ بالذي أنت فاعلٌ ... ورأيي موصولٌ بما كُنْهُه ترى

وما زِلتَ لي عوناً برأيٍ موفَّقٍ ... على صلة القُربى بهدْي أُولي النُّهى وكتب الحسن بن وهب إلى محمد بن عبد الملك: سُروري، أعارني الله حياتَك، إذا رأيتُك كوحشتي لك إذا لم أرك، وحفظي لك في مغيبك، كمودّتي لك في مشهدك، وإني لصافي الأديم غيرُ نَغلٍ ولا متغيِّرٍ، فامنحني من مودّتك، مُزنَ لذاذة مَشربك، وكن لي كأنا، فوالله ما عُجتُ عن ناحيتكَ، إلا وأنا محنيّ الضّلوع إليك، والسلام. فكتب إليه محمد: يا أخي ما زُلتُ عن مودّتك، ولا حُلّتُ عن أخوتِك، ولا استبطأتُ نفسي لك، ولا استزدتُها في محبّتك، وإنّ شخصَك لمائلٌ نُصب طَرفي، ولقلّ ما يخلو من ذِكرك قلبي، ولله ذرُّ الذي يقول: أما والذي لو شاء لم يَخلُق النوى ... لئن غِبتَ عن عيني لَما غِبتَ عن قلبي يُذكّرُنيكَ الشوق حتى كأنني ... أُناجيكَ من قُربٍ وإن لم تكن قُربي وكتب بعض الكتّاب إلى صديقٍ له تبيّن منه جَفوةٌ: سيدي! ألزمتني الخُضوع، وحرّمت علي الهُجوع، وأضرمتَ ناراً بين الضُّلوع، فتركتني فيك لائذاً بالعدوّ، وممنوعاً من السلوّ، منخفضاً من العُلوّ، بمنزلة من خان وُدّاً، أو نقض عهداً، أو أخلف وعداً، أو اظهر ضدّاً، أو جحَد يداً، أو كفَر عارفةً، أو غَمَط نِعمةً سالفةً. سيدي! لمّا اشتغلَت بن النفس القَلِقة، والعين الأرِقة، حُلتَ عن محمود الوفاء، وزُلتَ عن غير ذنبٍ عُقوبة المجترِم، وغير سببٍ يَقدح في

مودّة العبد المهتضَم، الذي توقعه جَريرته، وتوبقه خطيئته، وتحُلّ به إساءته، وتلزمه هفواته. سيدي! أوقعني يسير جَفائك، وإعراض لَحظاتك، في بحار هُمومٍ، غريقُها غريق صبابةٍ وغُمومٍ. أخاطبك بلسانٍ يعجز عن المخاطبة، وأكاتبك بيدٍ لا تجري إلى المكاتبة، وأُناجيك بضمير الهَيبة المشاهد لك في الغيبة، مناجاة مغرمٍ وصريع تجلُّدٍ، وحليف تلدُّدٍ. سيدي! كلّ عذابٍ ووجدٍ جديدٍ، وسَقام عتيدٍ، فهو في محبّتك، والدوام على مودّتك يسيرٌ، فأما السبيل إلى وجه السرور فمتعذّرةٌ، والخلاص في طُرق السلامة إلى الراحة فمستوعرةٌ، قد غلب الظمأ، وبَعُد المورِد، وقلّ العَزاء، وفُقد الصبر، وانحلّت العزيمة، وبطّل الرأي، وثَبَتَ الهوى، فتمكّن في الحشا، فلا مَحيص لعبدك عنك، ولا بدّ له في حالة السُّخط والرضى منك. سيدي! الرجوع إلى محمود الشيمة أشبه من العَود بالفضل، والتطوّل بالوَصل أولى بالمَولى من الوقوف على الصدّ الذي يَقدح في النيّة، ويُزيل عقد الطوِيّة، وشفيعي إليك، الذي أرجو نجاح الشفاعة، خُضوعي لك، واعتصامي بك، وانحطاطي في طاعتك، ووقوفي بين يديك مُستكيناً، متحيّراً، مُعترفاً، فإن ذلك أبلغ شفيعٍ، وأنت فيما تراه في أمري أكرمُ مولىً في كل حال، فإنه يتوقّع جَواب كِتابه بما يَسكن إليه، وتتجدّد به النعمة عليه، فحقِّقْ تأميله، وأكرِم صَفَده، وأقِم أوَدَه، وعُد في جَفائه، إلى دوام صَفائه، والسلام.

ما ضمنوه كتبهم من الأشعار

ما ضمنوه كتبهم من الأشعار وتكاتب به ذوو الظرف والأخطار أنشدني بعض الأدباء: هذا كتابُ متيَّمٍ ... خطّت إليك أناملهْ مزَج المِداد بدمعه ... فبكتْ عليه عَواذلُهْ أنت الطبيب فداوِهِ ... يا مُبتليهِ، وقاتلُهْ وقال آخر: هذا كتاب فتىً له هِممً ... عطفَت إليكَ رجاءه هِمَمُهْ غَلَّ الزمان يَدي عَزيمته ... ورمى به من حالقٍ قَدَمُهْ أفضى إليكَ بسرّه قلمٌ ... لو كان يَعقُلُهُ بكى قَلَمُهْ وقال آخر: هذا كتابي بدمعِ عيني ... أملاه قلبي على بَناني إلى غزالٍ كَنَيتُ عنه ... يَجِلّ عن اسمه لساني وقال آخر: هذا كتاب أخي هوىً وصبابةٍ ... لا يستطيع لِما به كِتمانا لاقَ الدّواة بعَبرةٍ مسفوحةٍ ... كانت لمُضمَر لاعجٍ عُنوانا قَرِحَ الفؤادُ تَعوده أشجانه ... لمّا به بَخِلَ الطبيب وخانا وقال آخر: هذا كتاب مُتَيَّمٍ ... يشكو الصَّبابة في كِتابهْ فاردد عليه جوابه ... كي يستريح إلى جَوابِهْ

لو كان ينطق ذا الكتا ... بُ شكا إليك عظيم ما بِهْ وقال آخر: هذا كتابُ فتىً شكا سَقَماً ... الِف السُّهاد فشفّه سَقَمُهْ يبكي عليه جلإون مُقلته ... عدد الحروف وقد بكى قَلَمُهْ لولا مُراقبةُ العدوّ ومن ... أضحى من الرُّقباء يتّهمُهْ لبكى علانيةً وقال لهم ... بَرِح الخَفاء وباح مُكتَتَمُهْ وقال آخر: هذا كتابي إليكَ أشكو ... إن لم تجُدْ لي فما احتيالي كتبتُ أشكو إليكَ ما بي ... ممّا أقاسي فما تُبالي يا حَسَن الوجه كُن شَفيعي ... إليكَ إنْ لم أبُح بحالي ما ذكر القلبُ منك شيئاً ... إلا تمثّلتَ لي حِيالي وقال آخر: هذا كتابي فتىً لغَيبِكَ حافظٍ ... صَبٍّ بذكرك مُستهامٍ مُدنَفِ إنْ غبتَ آنسَ طرفه بدموعه ... وإذا أصابك طرْفُهُ لم يَطرِفِ وقال آخر: هذا كتاب أهي هوىً مشتاقٍ ... قَرِحِ الجُفون بدمعه المُهراقِ أملى هواه على بَنان يمينه ... فأبان كيف مَصارع العُشّاق وكأنه يُنبي بما في نفسه ... من طول شَوقٍ واكتئابٍ باقِ

وقال آخر: هذا كتاب مُتيَّمٍ مشتاقٍ ... يشكو إلى مستظرَفٍ ذَوّاقِ أهدى له الهجران بعد تواصُلٍ ... وكذاك فعل الخائن المَذّاقِ ما هكذا فعلُ الكِرام فأجملي ... وتحرّجي أن تَنقضي ميثاقي وارْثي لصبٍّ هائم قد شفّه ... طول النحيب وشدّة الإقلاقِ وأنشدني إبراهيم بن محمد لنفسه: هذا كتاب متيَّمٍ في قلبه ... نارٌ تَضَرَّمُ بُكرةً وأصيلا فإذا قرأتَ كتابه فاجعل له ... بعد الصُّدود إلى الوِصال سبيلا فلقد تركتَ فؤاده في غَمرةٍ ... وتركتَ في الأحشاء منه غَليلا ولقد تبرّم بالحياة وطُولها ... وعسى مَداه أن يكون قليلا لا تُغرين به رَداهُ وحَينَهُ ... حاشاك أن تُردي يَداك قَتيلا حاشاك من قَلَقٍ أطارَ رُقاده ... فأبى الرُّقادَ فما يَلَذُّ مَقيلا وأنشدني أيضاً لنفسه: هذا كتابي إليكَ فاقرأ ... كتاب ذي صَبوةٍ عَميدِ أقلقه شوقه المُعنيّ ... وهدَّه لوعةُ الصُّدودِ لكنّه في الظلام يبكي ... بُكاءَ ذي الفَقدِ للفقيدِ إن كنتَ غضبان فارضَ عني ... رِضى الموالي عن العبيدِ ولأبي الطيّب في هذا المعنى: هذا كتابي إليكَ فاقرأ ... كتابَ من شفّه السَّقامُ

وارثِ لسُقمي وطول صبري ... فقد وَهَت منّي العِظامُ ولا تُرِد قتلتي وهجري ... فقتلُ حِلفِ الهوى حَرامُ وقال آخر: أثَرُ المَحو في سُطور كتابي ... شاهدٌ لي بعبرةٍ وانتحابِ وبكائي يدُلّ أني سقيمٌ ... خاضعٌ للهوى طويلُ العذابِ أنا بين الرجاء واليأس وقفٌ ... لستُ أدري بما يكون جوابي فإذا اشتقتُ أن أراك أنادي ... فرجَ الله لي من الحُجّابِ وقال آخر: غضِبَتْ لمَحوٍ في الكتاب كثير ... قالت أراد خِيانتي وغُروري كتب الكتاب على خلاف ضميره ... والمحوُ فيه لعلّة التغييرِ ما كان دمعي للغُرور وظنّكم ... كلاًّ ولا للسهو والتقصير كَتَبَتْ يميني والدموع هواطلٌ ... حَذَرَ الفِراق لما يُجَنّ ضميري فالمحوُ من قِبلِ الدموع وإنما ... تَجري دموع العاشقِ المهجورِ وقال آخر: ما زِلتُ أبكي وفي يدي قلمٌ ... حتى استهلّت مدامع القَلَمِ أكتُمُ وَجدي والدمع يُظهره ... بواكفٍ كالجُمان منسَجِمِ ما زلتُ خِلواً من الهوى فلقد ... عذّبني من هويتُ بالسَّقمِ يا سيّداً تاهَ ما يُكلّمني ... نِمتَ وعينُ الشجيّ لم تَنَمِ

أنا قتيلُ الهوى وميّتُهُ ... لا عَذّب الله قاتلي بدمي وقال آخر: إني رفعتُ إليكِ قصة عاشقٍ ... ورجوتُ عدلك فانظُري في قصتي ولقد كتبتُ ودمع عيني ساكبٌ ... فإذا قرأتِ فأحسني وتثبّتي إن الدموع تفجّرت فتحدّرتْ ... منها فنونٌ في صفات مودّاتي لا فَرَج الله الصبابة والهوى ... عني، ولا زالت عليكِ مضجَنّتي وقال آخر: أما الرسول فقد مضى بكتابي ... يا ليتَ شِعري ما يكون جَوابي؟ وتعجّلَت روحي الظنونَ وأُشربَتْ ... طمعَ الحريص ةخشيةَ المُرتابِ وقال آخر: أسأل الله خير هذا الكتاب ... قد أتاني برحمةٍ وعذابِ أشتهي فَكّهُ فأفرَقُ منهُ ... ففؤادي مفرَّقُ الأسبابِ وقال آخر: كتابُ صبٍّ بدمع عينٍ ... يُمِلُّهُ قلبه الكئيبُ يكتبه كفه بضعفٍ ... وما لها في الهوى نصيبُ وقال آخر: أما الكِتاب فقد مضى وأمامه ... خوفَ الرقيب وسَطوةُ الحُجّابِ طلبَ الجواب فأحسِنوا في وُدّكم ... لا تبخلوا عني بردّ جَوابِ هل تُنقذون متيَّماً ذا صبوةٍ ... أضحى أسير تذكُّرِ وتصابي؟ جودوا عليه برحمةٍ وتعطُّفٍ ... فلقد أطلتُم بالصُّدود عَذابي

أما الكِتاب فمن كئيبٍ عاشقٍ ... كَلِفِ الفؤاد مواصَلُ الأوصابِ لكنه غادٍ إلى ذي سَلوةٍ ... متعتِّبٍ في غير كُنهِ عِتابِ وقال آخر: لولا الكتابُ الذي جاء الرسول به ... من الحبيب لذاب القلب واحترقا جاء الرسول على يأسٍ بموعده ... وقد قضيتَ فأحيا لي به رَمَقا وقال آخر: صِليني بالكتاب وبالسلام ... وزوري زَورةً في كل عامِ وجودي بالكتاب وعنونيه: ... إلى الصبّ الكئيب المُستهامِ من الشمس المُنيرة يوم دجنٍ ... وبدرٍ لاح من بين الغَمامِ وناحلةٍ فديتُكِ يا مُنايَ ... أماناً للفؤاد من الغرامِ وقال آخر: كتبت إليّ يا روحي كتاباً ... فوافق مُنيتي وبُلوغَ سُولي ولولا العيب هِمتُ إليك لمّا ... تناولتُ الكتاب من الرسولِ مخافةَ نظرةٍ من عين واشٍ ... وتشنيعِ المَقالةِ بالخليلِ وقال آخر: لم يزِدني الكتابُ إلا اشتياقاً ... واشتعالاً من الهوى في ضميري بأبي أنتٍِ يا حبيبة قلبي ... ومُناي وغايتي وسُروري وأنشدني أبو عبد الله الواسطي لنفسه: كتبتَ إليّ تذكُرُ ما تُلافي ... من الشوق المبرِّح والفُراقِ

لعمرُك ما اتّهمتُك في ودادٍ ... ولكن لم تُلاقِ كما أُلاقي فؤادي هائمٌ والعينُ تذري ... دموعاً تستهلُّ في المآقي وقد ذقتُ الفِراق وكان مُرّاً ... كريهاً طعمه عند المَذاقِ على أني وإن أبديتُ صبراً ... على حدّ الصبابة غيرُ باقِ وقال آخر: قولا لمن كتب الكتاب بكفّه ... ارحَم فديتُك ذلّتي وخُضوعي ما زِلتُ أبكي مذ قرأتُ كِتابها ... حتى محوتُ سُطوره بدموعي وقال آخر: الدمع يمحو ويدي تكتُبُ ... عنِ الهوى وامتنعَ المَطلَبُ أمارَ خَدَّي قمرٍ زاهرٍ ... إليه من زهرته المذهَبُ لقد براني سَقَمٌ قاتلٌ ... وهدّ جِسمي دَنَفٌ مُنصِبُ وقال الحسن بن وهب: يا مُنايَ وسروري ... جُهدنا غيرُ يَسيرِ والذي نشكوه في الكت ... ب قليلٌ من كثيرِ لم تُطقْ ألسنُنا من ... وصفه عُشر عَشيرِ فثقي يا بأبي أن ... تِ بمكنون الضمير ثمّ قولي مطلعَ الجو ... زاء والشِّعرَى العَبور: حفظَ الله فتىً با ... ت لها خيرَ سَميرِ ولبعض المحدثين: من الوَهم من آثار قبرٍ مُسَنَّمِ ... وهامِ ثرى قبر القتيل المتيَّمِ

مما ضمنوه كتبهم من السلام

ومن طللٍ للشوق لم يعفه البِلى ... ونُؤْيِ وفاءٍ ليس بالمتهدِّمِ إلى زينة الدنيا ومُنية أهلها ... وأحسن من يزهو بطرفٍ وميسَمِ وأملحِ خلقِ الله قدّاً وصورةً ... ودَلاًّ وإدلالاً على حُبّ مُغرَمِ سلامٌ على من شَفّني وأذابني ... وأسكن قلبي كُلّ وجدٍ ومألمِ ووكّلني بالنجم أرعى أُفوله ... وأندبُهُ بالدمع طَوراً وبالدمِ وأحمدُ من أبلى شبابي بحبّكم ... على البؤس والسرّاء حين التننعُّمِ وبعد فقد والله يا سولَ عبدِها ... ومَولاتَه أنضجتِ أحشاي فاعلمي مما ضمنوه كتبهم من السلام وجعلوه تِلواً للشعر والنظام عليكِ سلامٌ لا سلامَ مودِّعٍ ... ولكن سلامٌ لم يكُن أخِرَ العهد سلام مُحبٍّ خانه حُسنُ صبره ... فأصبح في كَربٍ الحياة وفي جُهدِ آخر: عليكِ سلامُ الله ما هبّتِ الصَّبا ... وما قرقر القُمري في وَرَقِ السِّدرِ سلام سقيمٍ مُدنَفِ القلب مُقرَحٍ ... مَشومٍ عليلٍ مُشعّلِ القلب بالجمرِ آخر: عليكِ سلام الله ما لاحَ كوكبٌ ... بأُفقٍ لساري الليل واستوسَقَ البَدرُ سلام غريبٍ شَفّه الوجدُ والهوى ... وبلّ حَشاه الهمُّ والذِّكرُ والعُسرُ آخر: عليكِ سلام الله! هل أنا ميّتٌ ... بداء هوائيكِ الشقيّ المقَلقِلِ فعيشي بخيرٍ واسلمي ليس حبُّكُم ... ولا الوجدُ عني ما حَيِيتُ بمُنجَلي

ما كتبوه على العنوانات

آخر: عليكِ سلامُ الله أما قلوبُنا ... فمرضى وأما وُدّنا فصحيحُ نبيتُ بوُدٍّ خالصٍ وصَبابةٍ ... ونغدو بحُبٍّ صادقٍ ونروحُ آخر: عليكِ سلام الله قد شطّتِ النوى ... وقد كدتُ ألقى الله من كَمَدٍ جُهدا أموتُ بوَجدٍ مُضمَرٍ وصَبابةٍ ... وأزداد إن زدتم على نأيكم صدّا آخر: عليكِ سلام الله قد مُتُّ صَبوةً ... وما لي عَزاءٌ مذ نأيتِ ولا صبرُ أرى الصبرَ عنكم كاسمه مذ نأيتمُ ... فقد وجَلالِ الله ضاق به الصدرُ آخر: عليكِ سلام الله قلبي مُتَوَّقٌ ... وجسمي نحيلٌ والمدامع تذرف ومثلُ الهوى أضنى الحشا وبمثل ما ... بُليتُ به تُنكى القلوب وتُشعَفُ وقال آخر: عليكِ سلام الله قدْرَ صَبابتي ... إليكِ وشَوقي إنني مُدنَفُ القلبِ أبيتُ حليف الهمّ والوجدِ والأسى ... رهينَ يد الأحزان والشوق والكَرْبِ آخر: عليكِ سلام الله ما حنّ آلفٌ ... وما اشتاق ذو وجدِ وما طلع الفجرُ سلامُ مَشوقٍ نحوكم متطَلِّعٍ ... أخي حسَراتٍ خانه فيكمُ الصبرُ ما كتبوه على العنوانات وسلكوا به سبيل المداعبات إلى سِتّي ومالكتي وروحي ... من الجسد الطريح بغير روحِ آخر: إلى الشمس المنيرة حين تبدو ... غَداة الدَّجنِ من بين الغُيوم من الصبّ الكئيب أخي التصابي ... حليفِ الشوقِ محتَبَسِ الغُمومِ آخر: من الدَّنِفِ الذي يُضحي حزيناً ... وبين ضُلوعه قلبٌ مُصابُ

إلى الخود التي أبلَت شبابي ... فأضحى ما يَسيغُ ليّ الشرابُ آخر: منّي إلى قلبي ولم أرَ كاتباً ... يَخُطّ بأقلام إلى قلبه قَبلي أرى كل شيءٍ بالياً متغيِّراً ... وحبُّكِ لا يَبلى ولكنّه يُبلي آخر: مني إليكِ فإني هائمٌ دَنِفُ ... حِلفُ السَّقام براني الشوقُ والأسَفُ النفْس ذاهبةٌ والعقلُ مختَلَسٌ ... والقلب محتَبَسٌ والروح مُختَطَفُ آخر: مني إليكِ فما وَجدي بمُنصرِمٍ ... حتى الممات وما قلبي بمعذورِ ولو رأيتُكِ يوماً لا نقضَى حَزّني ... وعاد عيشي صَفواً بعد تكديرِ آخر: مني إليكِ فإني هائمٌ قلقٌ ... حليف همٍّ قرين العين بالسَّهَدِ الله يعلم ما بالقلب من قَلقٍ ... إذا نأيتِ وما ألقاه من كَمَدِ وقد مضى من هذا الباب ما فيه كفايةٌ، ولو ذهبتُ إلى تطويله لم يكن لآخره نهايةٌ، وقد أحييتُ أن أختم كتابنا بأشياء يستحسنها الظرفاء، ويميل إليها الأدباء، مما يُكتب على الأقلام من النُّتَفِ ومليح المُقطّعات والظُّرف. وأنا ذاكرٌ في ذلك بعض ما استحسنتُه، ومُلَحاً مما استرققتُه، إن شاء الله، قد جمعنا في هذا الفصل أشياء من مستظرَفات الأشعار، ومُستحسَن الأخبار، ومُتنَخَّلِ الأبيات، ومنتخَبُ المقطَّعات، ونوادر الأمثال، ومُلَح الكلام الذي يجوز كتابه على الفُصوص والتفّاح، والقناني والأقداح، وفي ذيول الأقمصة والأعلام، وطُرُز الأردية والكِمام، والقَلانس،

ما يكتب على الفصوص

والكَرازن، والعصائب، والوقايات، وعلى المناديل والوسائد والمخادّ والمقاعد، والمَناص والحُلَل، والأسرّة والتِّكك، والرفارف ووجوه المستنظَرات، وفي المجالس والإيوانات، وصدور البيوت والقِباب، وعلى السُّتور والأبواب، والنعال السنديّة، والخِفاف الزَّنانيّة، وعلى الجِباه والطُّرر، وعلى الخدود بالغالية والعَنبر، وعلى الوَطأة والوشاح، وفي تفليج الأُترُج والتفّاح، ومما يُعْدَل به من تنضيد الورد والياسمين، ويُكتب على أواني الذهب، والفضّة، والسكاكين، وقُضبان الخيزران المدهونة، والمخادّ الصينية، والمراوح، والمَذابّ، والعيدان، والمضارب، والطبول، والمَعازف، والنايات، والأقلام، والدنانير، والدراهم، وجعلنا ذلك أبواباً مبوَّبةً، وحدوداً مبيَّنةً، لتقف على أصولها، وتتبيّن حُسن فصولها. ما يُكتب على الفصوص نقش بعض الظرفاء الصوفية على خاتمه: أنا لله، وبالله أنا، ... أنا، والله، مُقرٌّ بالفَنا آخر: قد فاز بالطاعة من نالها ... نعّمتِ الطاعةُ عُمّالها آخر: أعددتُ لذنبي ... حُسن ظني بربي آخر: ختمَ الله بخيرٍ عملي ... وتوفّاني على حُبّ علي آخر: حبُّ عليّ بن أبي طالبِ ... فرضٌ على الشاهد والغائبِ آخر: بحُبّ أل محمدٍ ... ألقى إله محمدِ آخر: أنا بالله قانعُ ... إنّ ربي لَصانعُ آخر: أنا بالله واثقُ ... إن ربي لرازقُ آخر: اترُكاني والمعاصي ... وعلى الله خَلاصي

ومما ينقشه أهل الحزم على خواتيمهم

آخر: ما علينا من جُناح ... في هوى البيض المِلاحِ آخر: أحبّ من يَهواني ... برُغم من ينهاني آخر: آفة عقلي بصري ... وله عقلي نظَري آخر: تحت ثيابي بدنٌ ناحلُ ... وفي فؤادي شُغُلٌ شاغلُ آخر: أمسيتُ عبداً لك لا أجحدُ ... أنا مُقِرٌّ، والهوى يشهدُ آخر: أنا مولىً لأهلِ هلْ ... من توالاهم عَقَلْ يعني: هل أتى على الإنسان لأنها نزلتْ في عليّ. ومما ينقشه أهل الحزم على خواتيمهم القناعة خيرٌ من الضّراعة. التقلّل خيرٌ من التذلّل. السلامة خيرٌ من الندامة. الأسف أهون من التكلّف. بادِر الفرصة قبل أن تكون الغُصّة. الهرب قبل الطال. الفِرار قبلَ الحِصار. الرجوع قبل الوُقوع. وفي ضرب آخر لكل حقٍّ، حقيقة ولكلّ زمان خليفةٌ. القصد أقرب من التعسّف. الكفّ أحرى من التكلّف.

ومما ينقشه أهل الهوى على خواتيمهم

الموت معتبَرٌ، والسبيل محتضَر. الحق يُنجي، والباطل يُردي. النصح ملامةٌ، والتصريح سلامةٌ. الأمل يَلوي، والشيطان يُغوي. لكل امرئ طريقةٌ، ولكل عاملٍ وثقيهٌ. بطول التجارب تكشَّفُ المآرب. طول الاعتبار من حُسن الاختيار. فوْتُ الأمل أشدّ من حضور الأجل. ومما ينقشه أهل الهوى على خواتيمهم من كثُرت لحظاته دامت حسراته. من تداوى بدائه لم يصل إلى شفائه. من قدّم هواه دام أساه. العقل عند الهوى أسيرٌ والشوق عليهما أميرٌ. إذا كثُر الجفاء قلّ الوفاء. إذا صحّ الظفَر وقعت الغِيَر. إذا صحت القلوب اغتُفرتِ الذنوب. قلّ من سَلا إلا استفزّه الهوى. من مُنِع من النظر اقتصر على الأثر. من مُنع من الوِصال قَنع بالخيال.

وفي ضرب آخر الحين خيرٌ من البَين. القبر أفسح من الهَجر. الموت خيرٌ من الفوت. غُصَص الفراق شرٌّ من السياق. كأس الهجر أمرُّ من الصبر. طول الجفاء يُكدّر الصفاء. حُسن الوفاء رُكنُ الإخاء. آفة الحبيب نظر الرقيب. آفة الغَزَل سُرعة المَلَل. الهوى ثوب الضّنى. ذهب الفِراق بحيلة العشّاق. وفي صرب منه آخر حَفِيَ فَلفي. ألِف فتلِف. جنّ فأنّ. حظي فَرَضي. عشقَ فزهقَ. هوي فضنيَ. صُرِم فظُلم. صدّ فجدّ. صبر فقَدَر. مُنعَ فجزِع. نال فاستطال. باح فاستراح. سَلا فقال. مَلَكَ ففتَكَ. عدَلَ فقتَلَ. عفّ فكفّ. وكان الحسن بن وهب تعشّق جاريةً يقال لها ناعمُ، فنكس اسمها ونقش على خاتمه: مُعان، وذكر ذلك في أبياتٍ يقول فيها: نَقَشتُ مُعاناً على خاتمي ... لكيما أُعان على ظالمي

ما وجد على التفاح من الألفاظ الملاح

كذا اسم من هام قلبي به ... وأصبحَ في حالة الهائمِ نكستُ الهجاء فأعلنتُهُ ... بطَرفي ليخفى على الحازِمِ وكان محمد بن عبد الملك الزيّات يحبّ بعض جواري القِيان، ثم تنكّر لها فكتبت على خاتم لفظاً تُعرّض له فيه بالعِتاب، فبلغه ذلك فكتب على خاتمه ضدّ ما كتبت، فبلغها، فمحت ما كان على خاتمها وكتبت ضدّ ما كتب، فبلغه ذلك فمحا ما كان على خاتمه، وكتب ضدّ ذلك في أبياتٍ يقول فيها: كتبَت على فَصٍّ لخاتمها: ... من ملّ أحبابه رَقدا فكتبتُ في فصّي ليبلُغها: ... من نام لم يَشعرْ بمن سَهِدا فمحته واكتتبت ليبلُغني: ... ما نام من يهوى ولا هَجَدا فمحوته ثم اكتتبتُ: أنا ... والله أوّل ميّت كَمَدا قالت: يُعارضُني بخاتَمه ... والله لا كلّمتُه أبدا ما وجد على التفاح من الألفاظ المِلاح قرأتُ على تفاحة مكتوباً بماء الذهب: قبل تُهدوني فخُطّوا ... فيّ سطراً من ذهبْ إنني أعطف من ص ... دَّ ليُصفي ذا كُرَبْ وعلى أخرى بالفضة: ليس شيءٌ يُتهادى ... مثلَ تفاحٍ مكتَّبْ خُطّ بالفضة......... نحرير مهذَّبْ

يا مُنى قلبي ما ترْ ... ثي لذي عشقٍ معذَّبْ؟ وعلى أخرى: أنا للأحباب بالس ... رّ وبالوصل رسولُ أُتهادى فأُرقّ ال ... قلبَ والقلبُ مَلولُ وعلى أخرى: وإذا ما مرسلٌ ن ... مّ فما أنتِ نَمومه أنتِ رَيحانةُ قلبي ... ثم للسرّ كَتومَه وعلى أخرى: أنا شمّكة الكري........ لمجلسه ورسولٌ مباركٌ ... مذهِبٌ صدّ مؤنسه وعلى أخرى: اشرب على حُمرة تفاحِ ... يا مؤنسي من بارد الراحِ حيّاكَ معشوقٌ له زهرةٌ ... وقَينةٌ بالعود مِفصاح وعلى أخرى: ما تُحيا ببلاء ال ... ناس مُذ كانوا بمثلي لي طيبٌ وبقاءٌ ... ومَلاحاتٌ تُسلّي وعلى أخرى: لي طَراواتٌ وريحٌ ... ثم ماءٌ ونَضارهْ ليس للياقوت فضلٌ ... كل ياقوتٍ حِجارهْ وعلى أخرى: جرحَ اللهُ الذي يج ... رح بالسكّين لحمي فلّجوا حامضةً إن ... ي كمثل الشهد طَعمي وعلى الأخرى: أنا حمراءُ دعوني ... لمحبٍّ وحَبيبِ وكُلوا ذات بياضٍ ... أكلُها غير معيبِ وعلى الأخرى: حيّاكِ إنسانٌ له رونقٌ ... نُوّارةً دانيةً تزهَرُ تفاحةً حمراء منقوشةٌ ... يخجل من حُمرتها الجَوهرُ

ما وجد على ذيول الأقمصة

ما وجد على ذيول الأقمصة والأعلام وطرُز الأردية والأكمام قال الماوردي: رأيتُ جاريةً، ونحن عند محمد بن عمرو بن مسعدة، لم أشكّ أنه عاشقٌ لها، وإليها مائلٌ، لِما رأيتُ من حركاته إذا نظرت، وسُروره إذا نطقت، وتهلُّله إذا غنّت. وكانت فوق وصف الواصف من الحُسن والجَمال، وعليها قميصٌ موشَّحٌ، ورداء معيَّنٌ، مكتوبٌ في وشاح القميص: أغيب عنكَ بوُدٍّ لا يُغيّرُهُ ... نأي المحلّ ولا صَرفٌ من الزمنِ تعتلُّ بالشُّغل عنا ما تُكلّمنا ... الشغل للقلب ليس الشغل للبدنِ وعلى طراز الرداء: أقلّ الناس في الدنيا سُروراً ... محبٌّ قد نأى عنه الحبيبُ قال: ورأيتُ جارية لبعض الهاشميين يُقال لها عَريب، عليها قميصٌ ملحَمٌ، موشَّحٌ بالذهب، مكتوبٌ في وشاحه: وإني لأهواه مسيئاً ومحسناً ... وأقضي على قلبي له بالذي يَقضي فحتى متى رَوْحُ الرضى لا ينالني ... وحتى متى أيام سُخطِكَ لا تَمضي وعلى طراز كُمّه: إذا صدّ من أهوى وأسلمني الغَري ... ففُرقة من أهوى أحرُّ من الجمرِ ورأيتُ على ماجِنَ جارية مكاتم المغنّية قميصاً في وشاحه بالذهب: زَفَراتي ليس تَفنى ... وفؤادي بك مُضنى

أترضاكَ وأُبدي ... لك ... سنا بأبي كم أتمنّى ... وإلى كم أتمنى بعدما أصبح قلبي ... في يد الأحرار رَهنا قال: ورأيتُ في صدر قميص جارية تَباريح الكوفية مكتوباً بالفضة والذهب سطراً وسطراً: يا فتى! قلتُ إذ دعاني هواه ... مستجيباً لصوته لبّيكا ما بكت مُقلتي لفقْدك إلا ... جَزَعاً أن أموت شوقاً إليكا قال: ورأيتُ مرة أخرى عليها دُرّاعَةَ ملْحَمٍ بتَرانين إبرِيسَم ولِبنة سوسَنْجرْد وفي دور اللِّبنة مكتوبٌ: يا رامياً ليس يدري ما الذي فعلا! ... أمسك عليكَ فإنّ السهم قد قتلا أصبتَ أسودَ قلبي إذ رمَيتَ فلا ... شُلّت يمينُك أن صَيّرتني مَثلا وكتبت بَنان جاريةُ الخيزران على تَرانين دُرّاعةٍ لها بذهب: لم تقُلْ قولاً ولكن حلفت ... أنها أحسنُ عينٍ أُطرِفت زعمَت أني قد لاحظتُها ... أيُّ عينٍ لحَظَت فاعترفت أظهرت حُجّة من يعشقها ... واستباحَت غفلةً وانصرفَت وعلى طراز كُمّها: ليس بي صبرٌ ولا بي جَلَدٌ ... قد نفى حُبُّكَ عني جَلَدي وأخبرني بعض أصحابنا قال: أخبرني من رأى في ذيل جارية الحسَن بن قارِن منسوجاً في العَلَم:

أحسنُ ما قد خَلَق الل ... هـ وما لم يَخلفُهْ شكوى فتاةٍ وفتىً ... يعشقها وتعشقُهْ نار الهوى دانيةٌ ... تحرقُها وتَحرقُهْ يا حبّذا الحبّ إذا ... دام ودامت حُرَقُهْ وكتبت راهي جارية الأحدب قبل أن يشتريها إسحاق بن إبراهيم المَوصلي على وشاح قميصها: إذا وجدتُ لهيب الشوق في كَبِدي ... أقبلتُ نحو سِقاء القوم أبتَرِدُ هَبني طفِئتُ ببَرد الماء ظاهره ... فمن لحَرٍّ على الأحشاء يتّقدُ وكتبت جاريةٌ لقبيحة على رِداء لها رشيديّ: أراهم يأمرون بقطع وصلي ... مُريهم في أحبّتهم بذاكِ فإن هُمْ طاوعوك فطاوعيهم ... وإن عاصَوكِ فاعصَيْ من عَصاكِ وكتبت جارية أبي حرب على رداء لها ممسَّك: من ألِفَ الحبَّ بكى ... من شَفّه الشوق شَكا من غاب عنه إلفه ... أو صدّ عنه هلكا يا مالكاً عذّبني ... بجَوره إذ مَلَكا رِفقاً بمملوكِكَ ما ... يحلّ ذا الظُّلم لكا وكتب بعض الظرفاء على طرازٍ مُطْرَفٍ خَزّ: وهبَتْ شمالٌ أخر الليل قَرّةٌ ... ولا ثوب إلا بُردها وردائيا فما زال ثوبي طيّباً من ثيابها ... إلى الحَول حتى أنهج الثوب باليا

ما وجد على الكرازن والعصائب

وكتبت دبسيّة جارية زُرزور على قُباء مُعَصفَر: وما البدر المنير إذا تجلّى ... هُدُواً حين ينزل بالعراقِ بأحسنَ من بُثينةَ يوم قامت ... تهادى في معصْفرةٍ رُقاقِ ما وجد على الكرازن والعصائب ومشادّ الطرر والذوائب وكتبت عَلَلُ على قَلَنْسُوةٍ لها ديباجٍ، وهي جارية محمد بن المأمون: ما يَمَلّ الحبيب طول التجنّي ... لبَلائي به ولا الصدّ عنّي كلّ يومٍ يقول لي: لكَذبتِ، ... يتجنّى ولا يرى ذاك مني ربما جئته لأُسلفه العُذ ... ر لبعض الذنوب قبل التجنّي وكتبت جارية المارِقي على قَلَنْسوةٍ لها بذهب: كتب الشوق في فؤادي كِتاباً ... هو بالشوق والهوى مختومُ رحم الله معشراً فارَقوني ... لا يُطيعون في الهوى من يَلومُ ساق طَرفي إلى فُؤادي بَلائي ... إنّ طَرفي على فُؤادي مَشومُ وكان على قَلَنْسُوة جارية محمد بن سعيد الفارسي مكتوباً: أنا بعد القضاء سمتُ فؤادي ... وأصبتُ الغَداة عيني بعيني لم تزَل بي حوادثُ الدهر حتى ... فرّقت بين من أحِبّ وبَيني وكتبت جارية الحَباب على قَلَنْسوتها: الله يحفظُهُ على شَحط النوى ... ما كان أوصلَه إلى تعذيبهِ

وكتبت جارية ابن السُّلَمي على كَرْزنها: الشمس تطلُعُ للمَغيب ولا أرى ... شَوقي إليكَ على الزمان يَغيبُ وكتبَت بَنان الشاعرة على قَلَنسوةٍ لجاريتها: إنْ كنتُ خُنتُ ولم أُضمر خيانتكم ... فالله يأخذ ممن خان أو ظلما سماحةً من مُحِبٍّ خان صاحبه ... ما خان قطّ محبٌّ يَعرف الكَرما والله لا نظرَتْ عيني إليكَ ولا ... سالت مَساربُها شوقاً إليكَ دما وقال الجاحظ: رأيتُ نشوان جارية زلزل وعليها عِصابةٌ مكتوبٌ عليها: عينٌ مُسهَّدةٌ في مائها غرقَت ... يا ليتها ذهبت لو لم تكُن خُلقَت لم تذهبِ النفسُ إلا عند لحظتها ... ولا بكت بدمٍ إلا لمِا أرِقَت يا مقلةً سوف أبكيها ويا كَبِداً ... بها أحاطَ الهوى والشوق فاحترقَت وكان على كَرزَنها: الحبّ يُعرف في وجوه ذوي الهوى ... باللحظ قبل تَصافُح الأجفان قال: ورأيتُ على قَلَنسوة تَباريح: أهلُ الهوى في الأرض تَلقاهُمُ ... يمشون أحياءً كأمواتِ وكتبت شادنُ جارية خَنَث قيِّمة جواري المأمون على وِقايةٍ تجمع بها ذوائبها: بيضاء تسحب من قيامٍ فَرعَها ... وتغيب فيه وهو جَثْلٌ أسْحَمُ فكأنّها فيه نهارٌ مُشرقٌ ... وكأنه ليلٌ عليها مُظلِمُ

وقال علي بن الجَهم: حضَرتُ مجلس بعض الظرفاء فخرجتْ علينا جارية كأنها تمثال، وعليها عصابة قد أرسلت لها طرفين، على صدرها مكتوبٌ: من يكُن صبّاً وفيّاً ... فزِمامي في يديه خُذ مليكي بعِناني ... لا أُنازعك عليه قال: فوثَبت فأخذتُ بطَرفي العِصابة وقلتُ: أنا والله صبّ، وأوفى خَلْق الله لمحبٍّ! قالت: إنه لا بدّ للفرس من سوطٍ قلتُ: يا غلام! هات السوط. قالت: هيهاتِ! ذاك سَوطُ الدوابّ وسوطُ مثلي شَبيه فضةٍ، وعِلاقته ذهب. وكان على قَلَنسوة زَينَ مغنِّية إسماعيل أُقيم على الآصال منتظراً لها ... وقد أشرفَت من هَول ذاك على نحبي أموتُ وأسْتحيي الهوى أن أذمّه ... وإنْ كنتُ منه في عَناء وفي كَرْبِ وقال الزبير بن بكّار: رأيتُ على قَلَنسوة بعض المغنّيات: أدميتَ باللحظات وجنتها ... فاقْتصّ ناظرها من القلبِ وعلى عصابتها: فإذا نظرتَ إلى محاسنها ... أخرجْتَها عُطُلاً من الذنبِ وقال الماوردي: رأيتُ جارية لبعض ولد المأمون، وعليها قَلَنسوة عليها مكتوبٌ: يا تارك الجسم بلا قَلب ... إنْ كان يَهواكَ فما ذنبي؟ يا مفرَداً بالحُسن أفردتَني ... منك بطول الشوق والكَرْبِ وعلى كَرزَن لها: أنا العبد المقرّ بطول رقٍّ ... وليس عليك من عبدٍ خِلافُ

قال: ورأيتُ على جارية لا هي كَرزَناً مكتوباً عليه: عذّبه بالهجر مولاه ... وزاده شوقاً وأضْناهُ فدمعه يجري على خدّه ... ولم تنمْ للوَجد عيناهُ قد كتب الحُبُّ على قلبه: ... مُتْ كمَداً يرحمُك اللهُ وكتبت جارية لعيسى بن جعفر بن المنصور، وكانت قيّمةً له، على كَرزَنها: ليت النقابَ على القِباح مُحرَّمٌ ... وعلى المِلاح خطيئةٌ لا تُغفرُ وكتبت على وقايةٍ تجمع بها ضَفائرها: جزى الله البَراقع من ثيابٍ ... عن العينين شرّاً ما بقينا يُغطّين المِلاح فلا تَراهم ... ويستُرن القِباح فيستوينا وكتبت عارم جارية جناح على كَرزنها، وكانت تتعشّق بعض ولد الحسن بن وهَب: وإني لأخلو مذ فقدتُكَ دائباً ... فأنقُشُ تمثالاً لوجهك في التُّربِ فأسقيه من دمعي وأبكي تضرُّعاً ... إليه كما يبكي العبيد إلى الربِّ وكتبت ابنةُ الرُّصافية، وكانت تتعشّق ابن الرشيد، على كَرزَنها: قالوا: عليكِ سبيلَ الصبر! قلتُ لهم: ... هيهاتِ! إنّ سبيل الصبر قد ضاقا ما يرجع الطرف عنه حين يُبصره ... حتى يعودَ إليه الطَّرفُ مُشتاقا قال افضل بن الربيع، قال أبي: رأيتُ على عصابة دبسيّة جارية أبي حرب: محاسنُ وجهكَ تمحو الذنوبا ... وتعمَلُ في القلب شيئاً عَجيبا فمِنْ ثمّ تهجُرُني ظالماً ... تجنّى وتُحصي عليّ الذنوبا

ما وجد على الزنانير والتكك والمناديل

وكتبت شَمسة الطُّنبورية على عصابتها، وكانت تُغنّي الرشيد: لا لصبرٍ هجرتُكم علم الل ... هـ ولكن لشدّة الاشتياق رُبّ سرٍّ شاركتُ فيه ضميري ... وطواه اللسان عند التلاقي وكان على قَلَنسوة شمائل جارية الماهانية: ليلي بوجهك مشرقٌ ... وظلامه في الليل ساري فالناسُ في سَدَفِ الظلا ... م ونحن في ضوء النهارِ وكان على كَرزن مُشتاق جارية إسحاق بن علي الهاشمي مكتوباً بالذهب سطران: إن كان قلبي يهوى وصل غيركُمُ ... إذاً فعاقبني الرحمن في بَصري أو لم يكُن بكمُ ما عشتُ ذا كَلَفٍ ... فأنزل الله بي يا سيّدي خَدَري وكان على عصابتها مكتوباً بالذهب: ما كنتُ إلا حُلُماً ... رأته عيني في الوَسَنٍ يا سمَحَ الفعل ويا ... أحسن من كل حسَنْ ما وجد على الزنانير والتكك والمناديل قال عليُّ بن الجَهم: رأيتُ في منطقة واجد الكوفية زُنّاراً منسوجاً مكتوباً فيه: لستُ أدري أطال ليليَ أم لا ... كيف يدري بذاك من يتقلّى؟

لو تفرّغتُ لاستطالة ليلي ... وارعْي النجوم كنتُ مُخِلاّ ورأيتُ جارية في بيعة ماري مريم، في دار الروميّين، بمدينة السلام، كأنها فِلقةُ قمرٍ، خارجةً من الهيكل، في وسطها زُنّارٌ عليه بيتان: زُنّارُها في خصرها يَطرب ... وريحها من طيبها أطيبُ ووجهها أحسن من حَلْيها ... ولونها من لونها أعجبُ وقرأت في زُنّار وقايةٍ لبعض القصريّات: أليس عجيباً أنّ بيتاً يَضمّني ... وإياك لا نخلو ولا نتكلّمُ ورأيتُ جارية أُبُلِّيّة لبعض المخنَّثين، وقد علّقت طبلاً في عُنقها بزُنّارٍ عليه مكتوبٌ: آوَّتاهُ من بدني كلّه ... فتّتَ مني مَفْصِلاً مَفْصِلا وعلى تِكّتها مكتوب: غابوا فأضحى الجسمُ من بعدهم ... لا تُبصر العين له فيّا واخجْلتا منهم ومن قولهم ... ما ضَرّكَ البُعدُ لنا شيّا بأيّ وجهٍ أتلقّاهمُ ... إذا رأوني بعدهم حيّا وكان على تِكّة هاتف جارية العاجي مكتوباً: ولي عاذلٌ قد شفّ بعَذله ... وواشٍ بنَبل الحبّ يرمي مَقاتلي كفى حَزناً والحمد لله أنني ... تقطّع قلبي بين واشٍ وعاذِلِ وكتبت خاضع المُغنّية على زُنّار كانت تشد به طُرّتها: ما أتْيَهَ المعشوق في نفسه ... وأبيّنُ الذُّلّ على العاشقِ

وأخبرني من قرأ على طَرفَي تِكّة لقَينةٍ: ما أُراني حُلّتِ التِّكَ ... ة إلاّ لهَناتِ وإنما خُلّي للتِّ ... كّة إنجاز العِداتِ وأخبرني آخر أنه قرأ على تكّةٍ لبعض المَواجن: إقطع التكّة حتى ... تذهب التكّةُ أصلا ثم قُل للردف أهلاً ... بكَ يا رِدفُ وسَهلا وكتبت سَلْم جارية لَمَم إلى فتىً كانت تحبّه في منديل دَبيقي بالذهب: هاءنذا يُسقطُني للبلى ... عن فُرُشي أنفاس عُوّادي لو يجد السِّلكُ على دِقّةٍ ... خَلْقاً لأضحى بعض حُسّادي فكتب إليها في منديل آخر: لا تسألي كيف حالي بعد فُرقتكُم ... ها فانظري وأجيلي طَرْف ممتحِنِ تري بلىً لم يدع مني سوى شبحٍ ... لو لم أقلْ ها أنا للناس لم أبِنِ وقرأتُ على منديلٍ لبعض الظرفاء وقد أدرج فيه كتاباً: وإني لتَغشاني لذكراكِ فترةٌ ... كما انتفض العُصفور بلّله القَطرُ عجبتُ لسعي الدهر بيني وبينها ... فلمّا انقضى ما بيننا سكَنَ الدهرُ وكتب آخر على منديل: إن بعض العِتاب يدعو إلى العَتْ ... ب ويُودي به الحبيبُ الحبيبا وإذا ما القلوب لم تُضمر الح ... بّ فلن يعطفَ العِتاب القُلوبا وأخبرني من رأى على منديل ممسَّك لبعض الظِّراف: أنا مبعوثٌ إليكِ ... أُنسُ مولاتي لديكِ

صَنَعتني بيديها ... فامسحي بي شَفَتيكِ وكتب أخر على منديل أهداه: أنا منديل محبٍّ لم يزل ... ناشفاً بي من دموع مُقْلتيهِ ثم أهداني إلى محبوبةٍ ... تمسحُ القهوة بي من شَفَتيهِ وقرأتُ على منديلٍ لبعض الظراف: إن يكُن حبلُكِ من حبلي وَهى ... وإلى شَوقي إليكِ المُنتهى لم يُذكّرْنيكِ شوقٌ حادثٌ ... إنما يذكُرُ من كان سَها وكتبت أسماء بنت غَضيض جارية حَمدونة ابنة المَهدي على تِكّتها من الوجهين: جِلدٌ على أعظُمٍ دقاقِ ... مسكَنُ أنفاسه التراقي توقَد أحشاؤه فيُطفي ... حُرقتها هاطلُ المآقي لولا تَسليه بالتبكّي ... إذاً جَنَيناه بانحراقِ يا ربِّ عجِّلْ وفاة روحي ... قبلَ هُجومي على الفِراقِ وكتبت على منديلها: إليكَ أشكو ربِّ ما حلّ بي ... من صدّ هذا العاتب المُذنبِ صدِّ بلا جُرمٍ ولو قال لي ... لا تشربِ الباردَ لم أشربِ وكتب أخر على منديل أهداه: أيا مَن لا أُرجي منه رِفقاً ... ولا من رقّهِ ما عشتُ عِتقا لقد أنفذتُ دمْعَ العينِ حتى ... بَكيتُ دماً لفَقدكَ ليس يَرقا وكتبت عِنان جارية الناطفيّ على منديل وجّهَت به إلى أبي نُواس، وكانت تحبه:

ما وجد على الستور والوسائد

أما يُحسنُ مَن أحس ... نَ أن يغضَبَ أن يرضى أما يَرضى بأنْ صِرتُ ... على الأرض لهُ أرضا ما وجد على الستور والوسائد والبُسط والمرافق والمقاعد قال عليّ بن الجهَم: قرأتُ على سترٍ لبعض أمّهات ولد المأمون: هجرتني كي أُجاريكم بفِعلكمُ ... لا تهجريني فإني لا أُجاريكِ قلبي مُحبٌّ لكم راضٍ بفِعلكُمُ ... أسترزق الله، قلبٌ لا يُجانيكِ أصبحتُ عبداً لأدنى أهلِ داركمُ ... وكنتُ فيما مضى مولى مَواليكِ وكتب بعض ولد المتوكّل على سِتره: يا أيها اللائِمي فيها لأصرفها ... أكثرتَ لو كان يُغني عنكَ إكثارُ إرجِعْ فلستَ مُطاعاً إنْ وَشَيتَ بها ... لا القلب سالٍ ولا في حُبّها عارُ وكتب موسى الهادي بن المهدي على سِتره: يا أيها الزاعم الذي زعما ... أن الهوى ليس يُورثُ السَّقَما لو أن ما بي بكَ الغَداة لَما ... لُمْتَ مُحبّاً إذا شكا ألَما وكتب بعض الظرفاء على مِخدّة له: يا راقدَ الليلِ ممّن شفّه السَّقَم ... وهدّه قَلَقُ الأحزان والألَمُ جُد بالوصال لمن أمسيتَ تملكُهُ ... يا أحسن الناس من قَرنٍ إلى قَدَمِ أخبرني من قرأ على مِخدَّةٍ لبعض الظرفاء: لم أذُقْ يا سُولَ قلبي ... للكَرى مُذْ غِبتَ طَعما ترك الدمع على خدّ ... يَّ لمّا فاض رَسْما

وقرأتُ على وسادةٍ لبعض الكُتّاب: تشكّى المحبّون الصبابة ليتني ... تحمّلتُ ما يَلقَونَ من بينهم وَحْدي فكانت لروحي لذّةُ الحُبّ وحدّها ... فلم يَلْقَها قبلي مُحِبٌّ ولا يَعدي وأخبر بعض الكُتّاب أنه قرأ على بساطٍ لبعض أهل الهوى: أحسنُ من قهوةٍ وعودٍ ... توريدُ خدّيكِ يا وحيدُ نأيتِ عني فذاب جِسمي ... وهدّني الشوقُ والصُّدودُ وطال سُقمي لبُعد حبّي ... وملّني الأهلَ والبَعيدُ وكتب بعض الظرفاء على مُصَلاّه: وقفَ الهوى بي حيثُ أنتِ فليسَ لي ... متأخَّرٌ عنه ولا متقدَّمُ أجدُ الملامة في هواكِ لذيذةً ... حُبّاً لذكركِ فليلُمْني اللُّوَّمُ وأهنتني فأهَنْتُ نفسي عامداً ... ما مَن يَهونُ عليكِ ممّن أُكرِمُ أشبهتِ أعدائي فصِرتُ أُحبّهم ... إذ صار حظّي منكِ حظّي منهُمُ وكتب سعيد بن قَيس على مُصَلاّه: سأمنع عيني أن تَلَذَّ بنظرةٍ ... وأشغلُها بالدمع عن كلّ منظَرِ وأشكرُ قلبي فيكِ حُسنَ بَلائه ... أليس به ألقاكِ عند التذكُّرِ وكتب بعضهم على بساط: كتمتُ حُبّهُمُ صَوناً وتَكرِمَةً ... فما درى غيرُ إضماري به وهُمُ قومٌ بذلتُ لهم صَفوَ الوِداد فما ... جازوا عليه ولا كافَوا ولا رَحِموا هم علّموني البُكا لا ذُقتُ فقدَهمُ ... يا ليتهم علّموني كيف أبتسِمُ

ما وجد على المناص

ما وجد على المناص والحجل والأسِرّة والكِلَل قرأتُ على كَلّةٍ معصفَرَة، لبعض الكُتّاب، بالذهب: من قِصَرِ الليلِ إذا زُرتني ... أبكي وتبكين من الطولِ عَدوُّ عينيكِ وشانيهما ... أصبح مشغولاً بمشغولِ وأخبرني بعض الظرفاء أنه قرأ على منصّةٍ لبعض المُجّان: تقول، وقد جرّدتُها من ثيابها: ... ألستَ تخاف اليوم أهلكَ أو أهلي؟ فقلتُ: كِلانا خائفٌ بمكانه ... فهل هو إلا قتلُكِ اليومِ أو قَتلي وقرأتُ على كِلّة حريرٍ اسمانجوني بالذهب: سهرتُ وعانقتُها ليلةً ... على مثلها يَحسُدُ الحاسدُ كأنا جميعاً وثوبُ الدُّجى ... علينا لمُصِرِنا واحدُ وقرأت على كِلّة لبعض الظرفاء: فِبتنا على رُغم الحَسود وبيننا ... حديثٌ كريحِ المِسك شيبَ به الخمرُ حديثٌ لو أن المَيتَ يُوحى ببعضه ... لأصبح حيّاً بعدما ضمّه القبرُ وقرأت على وجه أريكةٍ لبعض الهاشميين: جعَلتِ محلّةَ البلوى فؤادي ... وسلّطتِ السُّهادَ على رُقادي دعيني لا أبوح بكلّ وَجدي ... أليس النار من طَرفَيْ زِنادي وبِتِّ خلِيّةً وسلبَتِ نومي ... أما استحيا رُقادُكِ من سُهادي

وكتب بعض الظرفاء، على حَجَلةٍ له معصفَرةٍ، بالذهب: دعيني أمُتْ والشملُ لم يتشعّبِ ... ولا تبعدي أفديكِ بالأمّ والأبِ سقى الله ليلاً ضمّنا بهد هَجْعةٍ ... وأدنى فؤاداً من فؤادٍ مُعذَّبِ فبتنا جميعاً لو تُراقُ زُجاجةٌ ... من الراح فيما بيننا لم تَسَرَّبِ وأخبرني بعض الكُتّاب أنه قرأ على حَجَلةٍ مكتوباً: نَشَرَت عليّ غَدائراً من شَعرها ... حَذَرَ الفضيحة والعَدُوّ الموبِقِ فكأنه وكأنني وكأنها ... صُبحانِ باتا تحت ليلٍ مُطبِقِ ودخلتُ على بعض الكُتّاب في يومٍ شديد الحرّ، وهو على دُكّان ساجٍ مكتوبٍ في وجهه باللازَوَرْدِ: حَرُّ حُبٍّ وحَرُّ هَجْرٍ وحَرّ ... أيُّ شيءٍ يكون من ذا أمَرّ وعلى الجانب الآخر: ثلاثة أحبابٍ: فحُبٌّ علاقةٌ، ... وحُبٌّ تِمِلاقٌ، وحُبٌّ هو القتلُ وأخبرني بعض من قرأ حول سرير لبعض الظرفاء: ومجدولةٍ أما مجالُ وِشاحها ... فغُصنٌ وأما رِدفها فكثيبُ لها القمر الساري شَقيقٌ وإنها ... تطلَّعُ أحياناً له فيغيبُ أقول لها والليل مُرخٍ سُدولَهُ ... علينا: بكِ العيشُ الخَسيس يطيبُ فقالت: نعم إنْ لم يكُن لكَ غَيرُنا ... ببغدادَ من أهل القُصور حَبيبُ وكتب بعض الظرفاء على سرير له آبَنوسٍ بعاجٍ: إنّ طيف الخيال أرّق عيني ... ما لعيني وما لطيفِ الخيالِ؟

ما يكتب على المجالس والأبواب

جمع الله بين كلّ مُحبٍّ ... قد جَفاه الحبيبُ بعدَ الوِصالِ وكتب على منصّته بالذهب: ينام المُسعَدون ومن يلومُ ... وتوقظُني وتوقظُها الهُمومُ صحيحٌ بالنهار لِمَن يَراني ... وليلي لا أنامُ ولا أُنيمُ ما يكتب على المجالس والأبواب ووجوه المستنظرات وصدور القِباب قال علي بن الجهم: رأيتُ في صدر قبّةٍ مكتوباً بألوان فُصوصٍ منضَّدةٍ: لا تُطمعِ النفسَ في السُّلوّ إذا ... أحببتَ حتى تُذيبها كَمَدا من لم يَذُق لوعة الصُّدود ولم ... يصبرْ على الذُّلّ والشَّقا أبدا فذاكَ مستظرفُ الفؤاد يرى ... في كلّ يومٍ أحبابه جُدُدا وأخبرني أبو جعفر القارئ قال: أخبرني بعض شيوخنا أنه قرأ في صدر مجلسٍ لأمير المؤمنين المأمون: صِلْ مَن هَويتَ ودَع مقالةَ حاسدِ ... ليس الحسود على الهوى بمُساعِدِ لم يَخلُقِ الرحمن أحسنَ مَنظراً ... من عاشقينِ على فِراشٍ واحِدِ متعانقين عليهما أُزُرُ الهوى ... متوسِّدين بمِعصَمٍ وبساعِدِ يا مَن يلومُ على الهوى أهل الهوى ... هل تستطيعُ صَلاحَ قلبٍ فاسِدِ وقرأتُ على وجه مُستنظَرٍ لبعض الكُتّاب: هَبَتْ شمالٌ فقلتُ: من بلدٍ ... أنتَ به؛ طابَ ذلك البلدُ وقبّل الريح من صَبابته ... هل قبّل الريحَ قبله أحَدُ

وأخبرني أحمد بن الحُسين بن المُنجِّم المقرئ أنه قرأ على مُستنظَرٍ لبعض الكتّاب: لي إلى الريح حاجةٌ لو قضتْها ... كنتُ للريح ما حَييتُ غُلاما حَجَبوها عنِ الرياح لأني ... قلتُ: يا ريحُ بلّغيها السلاما لو رَضوا بالحِجاب هانَ ولكن ... منعوها يوم الرياح الكلاما أخبرني عبد الحميد المَلَطي أنه قرأ على باب مجلسٍ بمَلَطْيَةَ: لا يمنعنّك خفضَ العيش في دَعَةٍ ... نزوعُ نفسٍ إلى أهل وأوطانِ تلقَى بكلّ بلادٍ إن حَلَلتَ بها ... أهلاً بأهلٍ وجيراناً بجيرانِ وفي صدر المجلس أيضاً مكتوبٌ: إذا كنتَ في أرضٍ غريباً فرَجّها ... ولا تكترث فيها نزوعاً إلى الوَطَنْ فما هي إلا بلدةٌ مثلُ بلدةٍ ... وخيرُهما ما كان عوناً على الزَّمَنْ وقرأت على باب دارٍ خَدْشاً في الجصّ بعُودٍ: هلاّ رجمتُم موقفي بفنائكم ... متعرِّضاً لنسيمكم أتنشَّقُ مُتّلدِّداً أبكي لِما قد حلّ بي ... مثلَ الغريق بما يرى يتعلّقُ وأخبرني صديقٌ لي أنه قرأ على باب دار بالحجاز: يا دارُ! إنّ غزالاً فيكِ عذّبني ... لله درُّكِ ما تحوين يا دارُ الدارُ تملِكُني ويحي وصاحبها ... قلبي، مليكان: ربُّ الدار والدارُ يا دارُ لولا غَزالٌ فيكِ عُلّقَني ... ما كان لي فيكِ إقبالٌ وإدبارُ

مكتوبا على النعال والخفاف

وأخبرني من قرأ على باب دارٍ بإصطَخْرَ منقوشاً بحجر: أرى الدارَ من بعد الحبيب ولا أرى ... حبيبي مع الباقين في عَرْصةِ الدارِ فيا عجباً إذ فارقَ الجارُ جاره ... أليس شديداً فُرقةُ الجار للجارِ مكتوباً على النعال والخِفاف ما وجد للمتظرفات والظراف مكتوباً على النعال والخِفاف قال الماوردي: كتبَت جاريةٌ للمارقي على نعلها بالذهب: لم ألقَ ذا شَجَنٍ يبوح بحبه ... إلاّ حسبتُكَ ذلك المحبوبا حذَراً عليكَ وإنني بك واثقٌ ... أنْ لا ينال سوايَ منكَ نصيبا وكان على نعل جارية سعيد الفارسي: لا تأنفنّ من الخُضوع ... لمن تُحبّ ودارِهِ إخضع له فلطالما ... مُلّكتَ حلّ إزارهِ وكتبت ملك جارية ابن عاصمٍ على خُفّ لها رهاوي بذهب: وإني لإشفاقي عليكَ وصَبْوتي ... إليكَ كأني في المنام أراكا تُحدّثني نفسي إذا غِبتَ ساعةً، ... بأنّ لقاء الموتِ دون لِقاكا وكتبت متيَّم المغنّية على نعلها: أقسمَت مقلته لا تنثني ... عن فؤادي أو تراه قِطعا فلقد برّت فهل من مطمعٍ ... أن ترى ما قطّعتْ مجتمِعا وأهدى سعيد بن حُميد نعلاً إلى صديقٍ له وكتبَ عليها: نعلٌ بعثتُ بها لتلبسها ... قَدَمٌ بها تسعى إلى المجدِ لو كان يصلُحُ أن أُشرّكَها ... خدّي جعلتُ شِراكها خدّي

ما يكتب بالحناء

وكتبت جارية علي بن عيسى بن يزْداد كاتب إسحاق بن إبراهيم على خُفّها: تؤلمه الألحاظ لمّا بدا ... محتجِباً عن لحَظات العِبادْ منزله ناءٍ ولكنّه ... يسكُنُ منّي في سَواد الفؤادْ وأهدى بعض الكتّاب نعلاً وكتب على شِراكها: لي فؤادٌ شَفّه الحز ... ن وأضناه الصُّدودُ وهوايَ كلّ يومٍ ... هو يَنمي ويَزيدُ وكتب بعض الظرفاء على خُفّ له محالسي بالذهب: لولا شقاوةُ جدّي ما عرفتُكُمُ ... إن الشقيّ الذي يَشقى بمن عرفا طافَ الهوى بعِباد الله كلّهِمُ ... حتى إذا مرّ بي من بينهم وَقَفا وأخبرني من رأى نعلاً من فضّة أُهديت لبعض الظرفاء عليها مكتوب: بأبي أنت سيّدي ومُنايَ ... جعلَ الله والديّ فِداكا لكَ خدّي من الثرى لكَ نعلاً ... قُدّ للنعل من فؤادي شِراكا وقرأتُ على نعلٍ سِنديٍّ مدهون: جعلتُ خدّيَّ له أرضاً ... فقلتُ: طأ من فوقها وارْضا فقال: لا! قلتُ: بلى سيّدي ... صبراً على الحُبّ وإنْ مضّا ما يكتب بالحناء في الوطأة والوشاح وعلى الأقدام والراح كتبت ذُوَيْت جارية حَمدونة على وطأتها اليمنى: إعلمي يا أحبّ مني إليّا ... أنّ شوقي إليكِ يقضي عليّا

وعلى اليسرى: إنْ قضى الله لي رُجوعاً إليكُم ... لم أعُد للفِراق ما دُمتُ حيّا وكتبت لُبنى جارية عبّاس النديم على راحتها بسُكّ وعنبر في اليمنى: قالوا: تمنَّ وقل! فقلتُ لهم: ... يا ليتها حظّي من الدنيا وعلى اليُسرى: لا أبتغي سُقيا السحاب لها ... في عَبرتي خَلَفٌ من السُّقيا وكتبت جارية السَّعدية على راحتها اليمنى بالحنّاء: رفعَت للوداع كفّاً خَضيباً ... فنقبّلتُها بدمعٍ خَضيبِ وعلى اليسرى: وأشارت إليّ غَمزاً بحُقٍّ ... نعتُه مثل فعلِهِ في القُلوبِ وكتبت جارية ابن الساحر على وطأتها اليمنى: وما أنا عن بقلبي براضٍ لأنه ... أشاطَ دَمي مما أتى مُتطوِّعا وعلى اليسرى: تمنّى رجالٌ ما أحبوا وإنما ... تمنّيتُ أنْ أشكو إليها وتَسمعا قالَ المارديّ: رأيتُ على راحة قائد جاريةٍ لبعض جَواري المأمون اليُمنى بالحنّاء: فَدَيتُكَ قد جُبِلْتُ على هَواكا ... فقلبي ما يُنازعني سِواكا وعلى اليسرى: أُحبّكَ لا ببعضي بل بكُلّي ... وإن لم يبقَ حُبُّكَ من جَراكا

ما يكتب على الجبين والخد

وقرأتُ في كفّي جاريةٍ بالنقش: إذا قيل ما تشكو أشار إلى الحَشا ... فأوّلُ ما تشكو وآخره الهَجرُ فيا ليت قلبي صار صخراً كقَلبه ... ولم يُبله الشوقُ المُبرِّحُ والفِكرُ وأخبرني من رأى جاريةً لبعض آل طاهر قد كتبت في وشاحها وقدميها: عزموا المُقامةَ أم تُراهم أزومعوا ... يا طول وجدي إن هُمُ لم يَربَعوا ومُراعةِ اللُّبَّين تحسبُ أننا ... شمسٌ على غُصُنٍ ويطلُعُ كتبت إليّ على شَقائق خدّها ... سَطراً من العَبَرات: ماذا تصنعُ فأجبتُها بلسان صِدقٍ ناطقٍ: ... ما في الحياة من التفرُّق مَطمَعُ وكتبت الماهانيّة على كفّ جاريتها شَماريخَ بالحنّاء: أبى الحبُّ إلا أن أكون معذَّباً ... ونيرانه في الصدرِ إلا تَلَهُّبا فوا كَبِداً حتى متى أنا واقفٌ ... بباب الهوى ألقى الهَوان وأنْصَبا ما يكتب على الجبين والخد ويُطرف به ذوو الصبابة والوجد قرأتُ على جَبين جاريةٍ لنخّاسٍ بالغالية، وقد أخرجها العَرْض: وشادنٍ أحسنِ خَلقِ الله ... في كفّه سيفُ رسول اللهِ قد كتب الحُسنُ على وجهه ... سطرين بالعنبر باسم اللهِ على يَدَيْ رِضوانَ منسوجةٌ ... صنعةُ حُسنٍ في طراز اللهِ

أنا غريقٌ في بحار الهوى ... شبهُ قتيلٍ في سبيل اللهِ وأخبرني من رأى على جبين جارية نخّاسٍ مكتوباً في سطرين: إذا حُجبت لم يكفكَ البدرُ فَقدَها ... وتكفيك فقْد البدرِ إن حُجب البدرُ وحسبُكَ من خمرٍ تفوتُكَ ريقُها ... ووالله ما من ريقِها حَسبُكَ الخمرُ وقال عليّ بن الجَهم: رأيتُ على خدّ جاريةٍ لفاطمة بنتِ محمد بن عِمران الكاتب مكتوباً بالمِسك: رضيتُ على رُغمي بحبّكِ فاعدلي ... ولا تُسرفي إذْ صار في يدكِ الحُكْمُ متى يَظفر المظلوم منكِ بحقّهِ ... إذا كنت قاضيه وأنتِ له خَصْمُ قال المازني: كان على جبين جارية شَريط مكتوبٌ بالغالية: صَرَمتْني ثمّ لا كلّمتني أبداً ... إن كنتُ خُنتكَ في حالٍ من الحالِ ولا هَمَمْتُ ولا نفْسي تحدّثني ... قلبي بذاك ولا يجري على بالِ وقال الجاحظ: كتب مؤلَّف جارية الصخري على جبينها: ومحسودةٍ بالحُسن كالبدر وجهها ... وألحاظُ عينيها تَجور وتَظلمُ ملكتُ عليها طاعةَ الشوقِ والهوى ... وعلّمتُها ما لم تكُن منه تعلَمُ قال: وقرأتُ على جبين قَينةٍ بالعسكر، مكتوباً بغالية وعنبر: يا قمراً لاحَ في الظلامْ ... عليكَ من مُقلتي السلامْ وكتبت ظَلومُ على جَبينها بالمِسْكِ: العينُ نفقدُ من تهوى وتُبصره ... وناظرُ القلب لا يَخلو من النَّظَرِ وظَلوم هذه كان يحبّها العبّاس بن الأحنف وفيها يقول:

ما يفلج به التفاح والأترج والدستبويات..

إنّ بالكَرخِ منزلاً لغزالٍ ... بين قَصر الأمير والخيزرانِ والهوى قائدي أليه، وشوقي ... ليس بالشوق والهوى لي يدانِ لستُ أنساكِ يا ظَلومُ وعهد ال ... له حتى أُلَفَّ في أكفاني فثِقي بي فأنتِ أعرفُ مني ... بحِفاظي في السرّ والإعلانِ ما يفلج به التفاح والأترج والدستبويات.. ويعدل به تنضيد الورد والياسمين والخِيريّات أخبرني بعض شيوخنا من الكتّاب بالعسكر قال: قرأتُ على طَبَقين أهداهما بعض الفُرس إلى بعض الكتّاب قد نُضّد بأنواعٍ من السُّوسَن والياسَمين والشَّقائقِ والرياحينِ على أحدهما مكتوب: شادنٌ راح نحو سرحة ماءٍ ... مسرعاً وجْنتاه كالتفاحِ وَرَدَ الماءَ ثم راح وقدْ أصْ ... درَهُ الماء في غِلالة راحِ وعلى الآخر: رقّ حتى حَسِيتُه وَرَقَ الور ... د نديّاً يرفّ بين الرياضِ وَرَدَ الماء ثم راح وقد ألْ ... بسَه الماءُ حُمرةً في بَياضِ قال: ورأيتُ بين يدَي بعض الكُتّاب طبَقَ وَردٍ أحمر مكتوبٍ فيه بالأبيض: لم يضحَكِ الوردُ إلاّ حين يُعجيه ... زهْرُ الربيع وصوت الطائر الغَرِدِ بدا فأبدت لنا الدنيا محاسنها ... وراحتِ الراحُ في أثوابها الجُدُدِ

وأخبرني من رأى طبَقَ ريحانٍ مكتوب في دوره بياسمين ونسرين: فما ريحانٍ بمسكٍ وعنبرٍ ... بِنَدٍّ وكافورٍ بدُهنةِ بانِ بأطيبَ ريّا من حبيبي لو أنني ... وجدتُ حبيبي خالياً بمكان وقرأتُ في تَفليج أُترُجّةٍ أُهديَت لبعض الظرفاء: هيَ في العالمِ كالشم ... س أضاءت في البِلادِ وهْيَ في كلّ كمالٍ ... قد علَت فوق العِبادِ وأخبرني من قرأ في تًفليج تفاحة: أنا إلى العاشقِ منسوبهْ ... أُهدى لمحبوبٍ ومَحبوبَهْ وعلى تُفّاحةٍ أخرى مفلجة: خطّت يميني فوق تفاحةٍ: ... أقلقني هَجرُكَ يا قاتلي وحضرتْ هديةٌ لبعض متظرّفات القِيان إلى بعض ظرفاء الكُتّاب وفيها تفاحةٌ في تفليجها مكتوبٌ: ليس تُفّاحةٌ بأطيبَ طِيباً ... من حبيبٍ مُعانقٍ لحبيبِ وأُترُجّةٌ في تَفليجها مكتوبٌ: أهدى هلالٌ لكل يومٍ ... إذا بدا الثغرُ بابتسامْ وطبق خِيريّاتٍ مكتوبٌ في تَعديله: يا طِيبَ رائحةٍ فاحت لبُستانِ ... من بين وَردٍ ونسرينٍ ورَيحانِ وياسَمينٍ ذكيٍّ زادني طَرباً ... حتى تكشّف عني كل أحزان

ما يكتب على القناني والكاسات

ي ما يكتب على القناني والكاسات والأقداح والأرطال والجامات قرأتُ على كأسٍ لبعض الظرفاء: إذا فكّرتُ خاطبني مثالُ ... وإن أغفَيتُ نَبَهني خَيالُ ولي حالٌ إذا ما الكأس طابت ... لشاربها وللنَّدمان حالُ وقرأت على كأسٍ لبعض الكُتّاب: اشربْ على ذِكرهم إذ حيل دونهُمُ ... عَيناك منهم على بالٍ إذا شربوا تدعو المُنى قُربهم والدار نازحةٌ ... حتى يُناجيَهمْ قلبي وما قرُبوا وعلى كأسٍ: إذا لم يَمزُجِ الندمان كأسي ... جعلتُ مِزاجها ماء الجُفونِ وإن ضحكوا بكيْتُ وإن تغنّوا ... أجبتُهُمُ بألوان الحَنينِ وكتب عُبيدٌ الماجن على كأسه: اشربْ هنيئاً لا تخَفْ طائفاً ... قد آمن الطُّوّافَ أهلُ الطَّرَبْ وكتب بعض الكُتّاب على قَدَحٍ له: وما لبسَ العُشّاق ثوباً من الهوى ... ولا أخلقوا إلاّ بقيّة ما أُبلي ولا شربوا كأساً من الحبّ حُلوةً ... ولا مُرّةً إلاّ وشُربُهُمُ فَضلي

وبعثت نشوان الكرّاعة إلى عليّ بن عيسى بن عبد الله الهاشمي برطلٍ عليه مكتوبٌ: يا باعث السُّكر من طرفٍ يُقلّبه ... هاروتُ لا تسقني خمراً بكأسينِ ويا محَرِّكَ عينيه ليقتلني ... إني أخاف عليكَ العين من عيني وأخبرني من قرأ على قِنّينة بين يدي أبي دُلَف العِجْليّ: وقهوةٍ كوكبها يَزهَرُ ... يفوح منها المِسكُ والعنبرُ يسقيكَها من كفّه أحورُ ... كأنها من خدّه تُعصرُ وكتب آخر على طاس: لا تحسبني أن طول الدهر غيّرني ... بلْ زادني كلفاً يا أملحَ الناسِ لم يَجرِ ذِكرُكِ في لهوٍ ولا طَرَبٍ ... إلا مزَجْتُ بدمعي عنده كاسي كم عاذِلٍ قد لحاني فيكِ قلتُ له ... شلّت يمينُك هل بالحب من باسِ وأخبرني يحيى بن محمد المُسلمي أنه قرأ على كأسٍ لقَينة: إشربِ الكأس على صَرف الزمنْ ... قلّ ما دام سرورٌ أو حَزَنْ إنما كان لمثلي سَكَنٌ ... من جميع الخلقِ طُرّاً فظَعنْ وقرأت على قدَح: إشربْ وسقِّ حبيبكَ الراحا ... وبُحْ من الوجد بالذي باحا

وعلى آخر: إشربْ وسقِّ الحبيب يا ساقي ... وسقِّني فضلَ كأسه الباقي وسقّني فضل ما تخلّف في الكأ ... س بعمدٍ بغير إشفاقِ وعلى آخر: فديتُ من لم يزلْ على طَرَبٍ ... يُدير بيني وبينه الكاسا ألثمني خدّه وقال: ألا ... دونكَ ما قد منعتُه الناسا وكتبت بنت المَهدي على قدح بالذهب: إشربْ على وجه الغَزال ... الأغْيد الحَسَن الدلال إشرب عليه وقُلْ له: ... يا غُلّ ألباب الرجالِ وكتب بعض الظرفاء على قنّينة: فقلتُ لها: وقد أبديتُ سُكري: ... ألا رُدّي فؤاد المُستهامِ فقالت: مَنْ؟ فقلت: أنا! فقالت: ... متى ألقيتَ نفسك في الزحام وقرأت على قنّينة مدهونة مكتوب عليها بالذهب: أحسنُ من موقفٍ على طَلَلِ ... كأسُ عُقار تجري على ثَمِلِ يُديرها أهيفٌ به حَوَرٌ ... معتدِل الخَلْق راجحُ الكفَلِ إذا تمشّى بها مُصفَّقةً ... رأيتَ فيها تَلَهُّبَ الشُّعَلِ

ما يكتب على أواني الفضة والذهب

وعلى جامٍ: إشربْ هنيئاً في أتمّ النعيمْ ... طاب لك العيش بطيب النديمْ وعلى آخر: وكؤوسٍ كأنهنّ نُجومٌ ... طالعاتٌ، بروجُها أيدينا طالعاتٌ مع السّقاة علينا ... فإذا ما غَرَبْنَ يَغرُبْنَ فينا ما يكتب على أواني الفضة والذهب ومدهون الصيني المُذهّب قال العباس بن الفضل بن الربيع: حدثني أبي قال: رأيتُ على صينيّةٍ بين يَدَي المأمون مكتوباً فيها: لا شيء أملحُ من أيّام مجلسنا ... إذ نجعلُ الرُّسل فيما بيننا الحَدَقا وإذا جوانحنا تُبدي سرائرنا ... وشكلُنا في الهوى تَلقاه متّفقا ليتَ الوُشاة بنا والعاشقين لنا ... في لُجّةِ البحر ماتوا كلُّهُم غَرَقا أو ليت من ذمّنا أو عابَ مجلسنا ... شُبّت عليه ضِرام النار فاحترقا وأخبرني بعض الكُتّاب أنه قرأ على صينية بين يَدَي الحسن بن وهْب مفصَّلةٍ بالفصوص بألوان شتّى: من كان لا يزعمُني عاشقاً ... أحضرتُهُ أوضحَ بُرهانِ إني على رَطْلين أُسقاهما ... أروحُ في أثواب سَكرانِ وكنتُ لا أسكرُ من تسعةٍ ... يتْبَعُها رَطْلٌ ورَطْلانِ

فصار لي من غَمَرات الهوى ... والسُّكر سُكرانِ عَجيبانِ والشعر للحسن بن وَهْب. وكتب بعض الظرفاء على صينيّة له صينيّ: حُثَّ الندامى بعاجل النُّخَب ... وحُثّ كأسَ الندمان يا بأبي إنْ لم تُدِرْها والكأسُ مُترعةٌ ... حتى تُميتَ الهُموم لمْ تَطِبِ وكتب آخر على صينية له: قد قُلتُ لما صبا بيَ اللعب ... وباكرتْني الشَّمول والطربُ وكتب آخر على قضيب مدهون: أصبحتُ يُشْبِهُني القضيبُ ... وأنتَ يُشْبِهُكَ القضيبُ غُصنان إلاّ أنّ ذا ... بالٍ وذا غُصنٍ رَطيبُ وقرأت على مِذبّةٍ لبعض الكتّاب: تعلّمتُ أنواع الرضى خوفَ سُخطه ... وعلّمه حُبّي له كيف يغضبُ ولي ألفُ وجهٍ قد عرفتُ طريقَهُ ... ولكنْ بلا قلبٍ إلى أين أذهبُ؟ وعلى أخرى: دلّ البكاء على عيني فأرّقها ... ظبيٌ يُطيل البكا من ظلّه فَرَقا لو مسّ غُصناً من الأغصان مُنجرِداً ... لاخْضرّ في كفّه واستشعر الوَرَقا وأخبرني أبو جعفر القارئ قال: أخبرني من قرأ على مِروحةٍ بيتين للقَطامي:

قد يُدرك المُتأنّي بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجِلِ الزَّلَلُ وربّما فات بعضَ القوم أمرهُمُ ... مع التأنّي وكان الحَزْم لو عَجِلوا قال: فحضرني بيتان، فكتبتُ على الجانب الآخر: لا ذا ولا ذاك في الإفراط أحمدُهُ ... وأحمدُ الأمر ما في الفِعلِ يَعتدِلُ إفراطُ ذا في التأنّي فوتُ حاجته وليس يَعدمُ عَثراً دونها العَجَلُ وقرأتُ على مِروحة لبعض الظرفاء: مُحتمِلٌ، حسبك لي، ساعةً ... ذاكَ إذا أجهدكَ الحَرُّ غيرُكَ مني طالبٌ مثل ما ... تطلُبُهُ يا أيها الحُرُّ وكتب بعض الأدباء على مِروحة: إنّ روحَ الحياة في ... حركات المَراوحِ كم بَنانٍ لطيفةٍ ... من ظِباءٍ سَوانحِ حرّكتْها فنفّست ... عن خدودٍ رواشِحِ وقرأت على قوس جَلاهِق مكتوباً بالذهب: بينما الطيرُ في الهوى يتكفّى ... إذ سقيناهُ جُرعةَ الموت صِرفا ونزعْنا من القرين قريناً ... وجعلنا هناك بالإلفِ إلفا وكتبتُ على قوسٍ أهديتُها بعض إخواني: لمّا رأيتُ الطير عالي المُرتقى ... هيّأتُ قوساً يا لها وبُندُقا ثم غَدَونا إذ غَدَونا حَلَقاً ... فلم يَحُمْ حتى هوى ممزَّقا

ما يكتب على العيدان والمضارب..

ما يكتب على العيدان والمضارب.. والسرنايات والطبول والمعازف والدفوف والنايات كتبت قصعة المغنّية على عودها: ما طاب حُبٌّ إنسان يَلذّ به ... حتى يكون به في الناس مُشتهَرا فاخلعْ عِذارك فيما تستلذّ به ... واجسُر فإن أخا اللذات من جَسَرا وكتب مُخارق على عوده: كم ليلةٍ نادمني ذِكرُهُ ... يُسعدني المِثْلَث والزِّيرُ حتى إذا الليل جلا نفسَه ... على الدُّجى وابتسم النورُ أصبحتُ مَستوراً لجيرانه ... والوصْل بالهِجران مَستورُ وكتب بعض المغنّين على عوده: سقوني وقالوا: لا تُغنّ، ولو سَقوا ... جِبال حُنينٍ ما سَقوني لغنّتِ تجنّت عليّ الخَود ذنباً عَلِمتُه ... فيا ويلتي منها ومما تجنّتِ وأهدى بعض الكُتّاب إلى قَينةٍ كان يَهواها عوداً، وكتب عليه: من ذا يبلِّغُ نحلةً عن عبدها ... أني إليكِ وإن بعُدْتُ قريبُ تستنطِقين بحُسن صوتك أعجماً ... يدعو بذاك صَوابه فيُجيبُ فالعودُ يشهد والغناء بأنه ... لولاكِ لم يكُ في الأنام مُصيبُ وقال عليّ بن الجَهم: قرأتُ على مِضرابٍ لقَينةٍ: أُحبّك حبّاً لستُ أبلُغُ وصفه ... ولا عُشر ما أصبحتُ أضمر في صَدْري

وأكتُمُ ما ألقاه منك تشجُّعاً ... لعلّ إله الخَلق يُدنيك من نحري وعلى مِضراب آخر: يا ذا الذي أنكرني طَرْفه ... إذ ذاب جسمي وعَلاني شُحوبْ ما مسّني ضُرٌّ ولكنّني ... جفوتُ نفسي إذ جفاني الطبيبْ وعلى آخر: نِضوُ همومٍ بكى وحقّ له، ... دمعٌ حَداه الضنى فأسبلهُ وطال ليلُ الهوى عليه وما ... أمرَّ ليل الهوى وأطولَهُ وكتبت كرّاعة على طبلٍ لها: يا نَفَساً ليس أمَدُهُ ... ويا فؤاداً أذابه كَمَدُهْ ويا محبّاً جَفاه سيّدهْ ... تقطّعت من جفائه كَبِدُهْ وكتبت أخرى على ناي: فكيف صبري وبئس الصبر لي فرَجُ ... والطرفُ يعشقُ من في طَرفه غُنُجُ وقرأت على مِعزفة: إن كنتَ تهوى وتستطيلُ ... فإنني عبدك الذليلُ أعرضتَ عني وخُنتَ عهدي ... وجُرْتَ في الصّدّ يا مَلولُ كيف احتيالي وليس يأتي ... منكَ كِتابٌ ولا رسولُ وعلى أخرى: ألذُّ عندي من الشراب ... تقبيل أنيابكِ العِذابِ ولثمُ خدٍّ كلَونِ خمرٍ ... قد شفّه كثرة العِتابِ

ما يكتب على الأقلام

وقرأت على دُفّ: يا بَدِعاً في بِدَعٍ ... جارت على من ملكتْ أرثي لصبٍّ نفسُهُ ... مما به قد تلِفتْ وعلى آخر: ما سرّني أن لساني ولا ... أن فؤادي منكِ يوماً خَلا وأنّ لي مُلكَ بني هاشمِ ... يُجنى إليّ أوّلاً أوّلا وقرأت على طُنبور: يا أول الحُسن يا من لا نظير له ... هلّت سحائب عيني نَغمةُ الزيرِ وأيّ مُزنة غربٍ لا تسُحّ دماً ... من عاشقٍ عند نغْمات الطنابيرِ وعلى طُنبور آخر: بكيتُ من طَرَبٍ عند السماع كما ... يَبكي أخو قِصَصٍ من حُسن تذكيرِ وصاحبُ العشق يَبكي عند شَجوته ... إذا تجاوبَ صوتُ اليمّ والزيرِ ما يكتب على الأقلام من مستظرف الكلام كتب بعض الكُتّاب على قلم أهداه: إني لأعجبُ إذ يَزهو به قلمٌ ... أنْ لا يلينَ فيُبدي حوله ورقَا

يا ليتني قلمٌ في بطن راحته ... ألتذّ باطن كفّيه إذا مَشَقا وعلى آخر: إذا دخل الديوان أشرقَ نورُهُ ... ولم يكُ للشمس المُضيئة نورُ فيا ليت أني كنتُ في بطن كفّه ... له قلماً، إنّ المحِبّ شَكورُ وكتب عمر بن إبراهيم البصري على قلم أهداه لبعض غِلمان ديوان الخراج: يا قمر الديوان يا ... ملبِسَ قلبي سَقَما كأنما في كَبِدي ... أنتَ تخُطّ القَلَما يا أحسن الناس معاً ... جِيداً وعيناً وفَما وأخبرني من قرأ على قلمٍ لبعض الكُتّاب بالديوان: إذا دخل الديوانَ حارت عُيونُنا ... وقُلنا كما قالت صَحاباتُ يوسُفْ فيمشُقُ والتشويرُ في حركاته ... فيورثنا من ذاك ما ليس يُوصَفْ وقرأت على قلم: إذا دخل الديوان حارت عيوننا ... وكادت قلوبُ الناظرين تَطيرُ فيا نِعمتا إن لم تُصبْكَ عُيونُهم ... لك الله من تلك العُيون مُجيرُ وعلى آخر: أفدي البَنان وأفدي الخطّ من عَلَمِ ... وقد تطرّف بالحنّاء والعَنَمِ كأنما قابل القِرطاسَ إذ مُشِقَت ... فيه ثلاثةُ أقلامٍ على قَلَمِ

ما يكتب على الدراهم والدنانير

ما يكتب على الدراهم والدنانير التي ضربت للملوك في المقاصير قال علي بن الجَهم: قرأت على دينارٍ في خلافة المتوكّل من ضَرب الدار: وأصفر صاغته الملوكُ تطرُّباً ... بأسمائها فيه المُرُوّةُ والفخرُ بإسم أمين الله زِينت سُطورُهُ ... كما زِينَ بالتفصيل في نَظمه الدُّرُّ هو الملك المأمون من آل هاشمٍ ... بهم إن أغبّ القطرُ يُسنتزل القطرُ له غُرّةٌ فَيناةٌ جعفريةٌ ... بها تضحك الشمس المضيئة والبدرُ قال: ورأيتُ على دينار من ضَرب المتوكّل أيضاً.... درهم ودينار مكتوباً عليه: وأصفرَ من ضَربِ دار المُلوكِ ... يلوحُ على وجهه جَعفرُ وقرأت على دِرهم من ضَرب المنتَصِر: درهمٌ أبيضٌ مليحُ المعاني ... بسطورٍ مُبيَّناتٍ حِسانِ صاغه الصائغ المنمِّقُ بالحُس ... ن ليُهدى صبيحةَ المهرجانِ فيه اسمُ الإمام أكرمه الل ... هـ ووقّاه نائباتِ الزمانِ وقرأت على درهم: أخي درهمي ما دام والناس إخوتي ... فإن غاب عني غاب كلّ صديقِ هذه جملةٌ مما بلغنا، وفيها كفايةٌ لمن اكتفى، وبيان لمن تبيّن واقتفى، وما استوعبنا كل انتهى إلينا، ولو قصدنا إلى تكثيره لما استصعب علينا، وإنما قصَدنا التخفيف لا التأليف، والاقتصار والاختصار، وليس كل ما سمعناه ذكَرناه، ولا كل ما قيل في ذلك سمعناه، وقد أدّينا بعض ما بلَغنا،

ووصفْتا بعض ما استحسنّا، وخَلطنا جدّاً بهزلٍ، واعوجاجاً بقصدٍ، وجعلنا كل ذلك في نظام، وإلى الله نرغب في السلامة والسلام. والحمد لله بجميل التسديد، وهو المتفضِّل بالإعانة والتوفيق، وإياه نستعين، وهو حسبنا ونعم الوكيل، كَمَل الكتاب وتم بقوّة الله ومنّه، والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على خِيرته من خَلْقه محمد وآله وحَسبي الله وعليه أتوكّل.

§1/1